المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: في تفسير قوله تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات - حقيقة التأويل - ط أطلس

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌المبحث الثاني: في تفسير قوله تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات

‌المبحث الثاني: في تفسير قوله تعالى هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات

قال الله تعالى: {هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولوا الألباب}

اختلف الناس في هذه الآية حتى كادت تصير هي نفسها من المتشابه، وقد يسر لي في فهم معناها سبيل واضح إن شاء الله تعالى، فأقول:

قد ثبت أن القرآن كله محكم، لقوله تعالى:{كتاب أحكمت آياته} ؛ وأنه كله متشابه، لقوله تعالى: {الله نزل أحسن

ص: 81

الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم .. }.

وثبت بالآية المصدّر بها أن منه ما هو محكم غير متشابه، ومنه ما هو متشابه غير محكم.

واتفق على أن المراد بالإحكام في قوله تعالى: {أحكمت آياته} عدم الخلل في الحسن والصدق ومطابقة الحكمة، وبالتشابه في قوله تعالى:{كتابا متشابها} أن بعضه يشبه بعضا في الحسن والصدق ومطابقة الحكمة؛ فلا منافاة بين هذا الإحكام وهذا التشابه.

وأما الإحكام والتشابه في الآية المصدّر بها فهي صريحة في تنافيهما، وبذلك يعلم أن لكل منهما معنى غير المعنى المتقدم، فبحثنا عن ذلك فوجدنا المحكم محكما لا يحتمل إلا ذلك المعنى الواحد، وأنه لا خلل فيه، والقرآن كله محكم لا خلل فيه البتة، ولكن يمكن أن يقال: الخلل المنتفي عن القرآن البتة هو الخلل الحقيقي، فأما ما يتوهم خللا وليس في الحقيقة بخلل فهو موجود في القرآن، فيجوز أن يقال: أحكمت آياته في الحقيقة، فمنه آيات محكمات ليس فيها خلل ولا ما يتوهم خللا، وأخر فيها ما يتوهم خللا فهي المتشابهات.

وقبل أن نبتّ الحكم في هذا ننظر في معنى {متشابهات} ،

ص: 82

فنجد المعنى المتبادر أن كل آية منها تشبه الأخرى، وهذا عام في آيات القرآن كلها، كما قال تعالى:{كتابا متشابها} .

فإن قيل: إن هناك وجها تتشابه فيه الآيات التي يكون فيها ما يتوهم خللا مختصة به، وهو توهم الخلل في كل آية منها.

قلت: ولكن هذا لا يكفي لتخصيصها بلفظ: {متشابهات} ، فإن المحكمات أيضا فيها وجه تتشابه فيه، وهو خاص بها، وهو أنه ليس في كل منها خلل، ولا ما يتوهم خللا.

ويمكن أن يقال: كل آية من المتشابهات في نفسها، على أن يكون المعنى: متشابهات معانيها، أي: يتشابه فيها معنيان، أو معان، كما يقال: اشتبه علي الأمر، أي: اشتبه صوابه بخطئه، ويقال: اشتبه علي الأمران، أي لم تميز بينهما.

فإن قلت: ولكنه لا يقال: تشابه علي الأمر!

قلت: لا أستحضر شاهدا لذلك، ولكن "اشتبه" و "تشابه" بمعنى، قال تعالى:{مشتبها وغير متشابه}

وقد قال المولد:

رق الزجاج وراقت الخمر

تشابها فتشاكل الأمر

ص: 83

الشاهد في قوله: "وتشاكل الأمر".

فلنترك هذا ههنا، ولننظر في بقية الآية، لعلنا نجد فيها ما يبين المقصود. قال تعالى:{فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} .

دلت الآية أن المتشابه من شأنه أن يتبعه الزائغون ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.

ومن المعقول أن الآية التي تتشابه معانيها يتبعها الزائغ ابتغاء الفتنة ليحملها على المعنى الذي يوافق هواه، ولكن قوله تعالى:{وابتغاء تأويله} يدل أن ابتغاء تأويل المتشابه زيغ.

فإن قيل: إنما يكون زيغا في حق الزائغين، لأنهم يبتغون الفتنة. قلت: لا أرى هذا شيئا، إذ لو كان كذلك لكان المدار على ابتغاء الفتنة، ولما ظهر معنى لزيادة:{وابتغاء تأويله} ، بل ولا

ص: 84

تخصيص المتشابه، لأن مبتغي الفتنة يبتغيها في كل آية من القرآن، وإن كان ابتغاؤه إياها فيما تشابهت معانيه أكثر.

فإن قيل: فإنما يكون زيغا في حق الزائغين، لأنهم يبتغون الفتنة.

قلت: لا أراه كذلك، لأن من ليس براسخ في العلم قد يخطئ في فهم المحكم أيضا.

وأوضح من هذا كله قوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} ، فقصر علم تأويل المتشابه على الله عز وجل.

فإن قلت: فقد قال: {والراسخون في العلم} ؟

قلت: ليس هذا عطفا البتة، وإنما هو معادل قوله:{فأما الذين في قلوبهم زيغ} ، فكأنه قال: وأما الراسخون في العلم

فالآية كقولك: أما زيد ففي المسجد وعمرو ذهب إلى السوق، اختار هذا المعنى ابن هشام في المغني، وهو المختار؛ لأن "أما"

ص: 85

للتفصيل، وذكر القسمين أو الأقسام بعدها هو الأصل، والحذف خلاف الأصل.

فلما كان قوله: {والراسخون} يحتمل أنه القسم الثاني ويحتمل خلافه، فحمله على أنه القسم الثاني هو الظاهر حتما، ويؤيد ذلك أن القائلين بالعطف قالوا إن قوله {يقولون} خبر مبتدأ محذوف، أي هم يقولون، ولا يخفى أن الأمر إذا دار بين الإضمار وعدمه فالأصل عدمه.

ومنهم من جوز أن يكون حالا، وهو باطل؛ لأن الحال قيد في عامله، فيصير المعنى: وما يعلم تأويله في حال قول الراسخين كذا وكذا إلا الله والراسخون قد يعلم تأويله في غير تلك الحال! ولا وجه لهذا.

وإن قدر أنه حال من ضمير محذوف، والتقدير: يعلمونه حال كونهم يقولون. وهذا تعسف بتكثير الإضمار، ويلزم أن الله والراسخين لا يعلمون تأويله إلا في تلك الحال، وهناك مصارعات

ص: 86

ومقارعات، انظرها في روح المعاني إن أحببت.

وأوضح من هذا كله: أنه صح - كما في المستدرك وغيره - عن ابن عباس - وهو المدعو له بتعلم التأويل - كان يقرأ: {وما يعلم تأويله إلا الله} ويقول الراسخون ..

وحكي مثله عن أبي بن كعب. وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «أقرؤكم أبي» .

ص: 87

وجاء عن ابن مسعود - وهو هو - أنه كان يقرأ: {وإن تأويله إلا عند الله والراسخون في العلم [يقولون]} .

فلو كان المعنى على العطف لقال والراسخين كما لا يخفى.

وقد رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه آثار كثيرة تصرح بأن المتشابه لا يعلمه إلا الله تعالى وحده. انظرها في الدر المنثور.

وسياق الآيات يدل على ذلك، فإن قول الراسخين:{آمنا به كل من عند ربنا} ظاهر في عدم علمهم بتأويله، وإنما علموا أنه حق لأنه من عند ربهم، فكأنهم قالوا: أما ما علمنا تأويله فقد علمنا أنه حق بعلمنا بتأويله.

وقولهم بعد ذلك: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا} ظاهر في أن المتشابه مظنة لأن يكون سبب الزيغ، فتحمله هذه الأشياء على الجهل بحقيقة حاله، وبأن العقل له حد ينتهي إليه، كما أن للبصر حدا ينتهي إليه، وربما حملته على الخوض والكلام والنقض والإلزام

ص: 88

فيما نعلم أنه لا سبيل له إليه، وكم من راسخ يرميه الناس بالكفر والضلال! وكم من زائغ يتخذونه إماما في الدين!

فالحق أن هذه الآيات أفادت علامة الزائغ وآية الراسخ:

فعلامة الزائغ اتباع المتشابه وابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، وإذا خفي علينا ابتغاء الفتنة لم يخف ابتغاء التأويل.

وآية الراسخ الكف عن ذلك والاكتفاء بقوله: {آمنا به كل من عند ربنا} .

وفي الصحيحين وغيرهما من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآيات، ثم قال:«إذا رأيتم الذين يبتغون ما تشابه منه فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم» .

ولو كانوا قد علموا تأويله لكان بالنظر إليهم كالمحكم، وتعليل اتباع الزائغين للمتشابه بقوله:{ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} ظاهر

ص: 89

في أن ابتغاء تأويله زيغ، إذ لو كان الزيغ إنما هو في اتباعه ابتغاء الفتنة لما كان لقوله:{وابتغاء تأويله} معنى.

فإن قيل: سلمنا أن ابتغاء تأويله زيغ ولكن لغير الراسخين.

قلت: الرسوخ في العلم أمر خفي، ليس هو كثرة العلم، فكم من رجل كثير العلم ليس براسخ. قال تعالى {واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين * ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الارض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث} .

وقال عز وجل: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم}

وفي الحديث: «إن أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان» .

وقال الحسن البصري: "العلم علمان: فعلم في القلب، فذلك

ص: 90

العلم النافع، وعلم في اللسان، فذلك حجة الله تعالى على ابن آدم". سنن الدارمي (ج1 ص107).

والأحاديث والآثار في هذه كثيرة.

وقد كان عبد الملك بن مروان وأبو جعفر المنصور العباسي من كبار العلماء وهما طاغيتان. وكذلك الواقدي والشاذكوني ومحمد بن حميد الرازي؛ وهؤلاء رماهم أئمة الحديث بأنهم كانوا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمثالهم كثير. ومن العلماء من هو دون هؤلاء في العلم ولكنه معدود من الراسخين.

فالرسوخ إذن حال قلبية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الغنى:«ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس» ؛ فكذلك تقول: ليس الرسوخ عن كثرة العلم، ولكن الرسوخ رسوخ الإيمان في القلب، ويوشك أن يكون هو اللب كما في قوله تعالى:{وما يتذكر إلا أولو الألباب}

ص: 91

وإنه ليشم روائح الرسوخ من قوله: {آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب * ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب * ربنا إنك جامع الناس ليوم لا ريب فيه إن الله لا يخلف الميعاد} .

فالراسخ دائم الخوف والخشية من ربه عز وجل، مسيء للظن بنفسه. فكم من راسخ لا يرى أنه راسخ، وكم من زائغ يرى أنه من أرسخ الراسخين؟

فالخائف الخاشع المسيء الظن بنفسه جدير بأن لا يستخفه ما عنده من العلم على الخوض فيما ليس له به علم، وعلى البحث فيما لم يكلف البحث فيه، وهو من موارد الخطر ومزالق النظر.

هذا لو كان يمكن العلم به؛ فكيف إذا كان مما لا سبيل إلى العلم به؟ وإنما الزائغ الجريء على ربه، المتكل على عقله، الفرح بما عنده من العلم هو الجدير بأن يتعاطى الخوض في كل شيء، وتحمله ثقته بنفسه وأمنه مكر ربه ودعواه أنه لا يتعانى عن فهم شيء وحرصه على أن يطير ذكره في الناس وكبره عن أن يعترف بالجهل.

ص: 92

فأطلق الحديث ولم يقيده؛ لكنه قد علم إخراج الاتباع على معنى التلاوة والإيمان، وبقي الاتباع على ابتغاء التأويل زيغ، كما أن ابتغاء الفتنة زيغ، ولم يقيده صلى الله عليه وسلم بعدم الرسوخ، فعلم أن كلا من ابتغى تأويله فهو زائغ وليس براسخ، وأكد هذا بما يفهم من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان واثقا بأصحابه الذين خاطبهم أنهم لا يتبعون المتشابه، وإنما حذرهم ممن نشأ بعده، وهم رضي الله عنهم أولى بالرسوخ من غيرهم؛ فعلم أن الراسخ لا يتبع المتشابه أصلا إلا على معنى تلاوته والإيمان به.

فإن قلت: المتشابه في اختيارك هو ما اشتبه معناه بأن يتساوى المعنيان أو الثلاثة في الاحتمال، وهذا هو المجمل؛ فهل يدخل فيه ما اشتبه معناه أو معانيه، ولكنه يمكن ترجيح أحدها بدليل آخر؟

قلت: كلا، ليس هذا بمتشابه، بل هذا مما يعلم تأويله الراسخ وغيره، ومما أمرنا بالتدبر فيه والنظر في تأويله.

فإن قلت: فالمتشابه عندك ما اشتبه معناه، بحيث لا يوجد دليل يبينه؟

قلت: نعم!

ص: 93

فإن قلت: وما فائدة إنزال مثل هذا في القرآن، والقرآن إنما نزل هدًى للعالمين، وأمرنا بتدبره مطلقا؟

قلت: ينبغي أولا أن تعين المتشابه، ثم أجيب عن هذا السؤال إن شاء الله تعالى.

فأقول: مشتبه المعنى على أنواع، كما فصّله في "المفردات":

الأول: المتشابه من جهة اللفظ، وذكر له خمسة أضراب:

الكلمة الغريبة، كالأبّ.

المشتركة، كالقرء.

ما اختصر فيه الكلام، نحو:{وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتمى فانكحوا ما طاب لكم من النساء} .

ما بُسط فيه، نحو {ليس كمثله شيء} .

ما يشتبه في نظم الكلام، مثل:{أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا * قيما} ، فيتوهم السامع أن {قيما}

ص: 94

نعت لـ {عوجا} ، وإنما هو حال من {الكتاب} .

ومنه قوله: {والراسخون في العلم} ، إلا أن المتبادر في هذه الآية هو الصواب كما قدمنا، بخلاف قوله:{عوجا * قيما} .

الثاني: المتشابه من جهة اللفظ والمعنى جميعا، وذكر له خمسة أضرب أيضا:

من جهة الكمية، كالعموم والخصوص، نحو:{فاقتلوا المشركين}

من جهة الكيفية، كالوجوب والتحريم في قوله:{اعملوا ما شئتم} .

من جهة الزمان، كالناسخ والمنسوخ.

من جهة المكان والأمور التي نزلت فيها الآيات، نحو:{وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها} ، وقوله {إنما النسيء زيادة في الكفر} .

قال: فإن من لا يعرف عادتهم في الجاهلية يتعذر عليه معرفة تفسير هذه الآية.

ص: 95

من جهة الشروط التي يصح بها الفعل أو يفسد، كشروط الصلاة والنكاح.

الثالث: ما ذكره بقوله: "والمتشابه من جهة المعنى كأوصاف الله تعالى، وأوصاف يوم القيامة، فإن تلك الصفات لا تتصور لنا، إذ كان لا يحصل في نفوسنا صورة ما لم نحسه أو لم يكن من جنس ما تحسه".

أقول: وأنت - إذا كنت قد تدبرت ما تقدم - تعلم أن النوعين الأولين لا يصح تفسير المتشابه في الآية بها، فإن الأب والقرء وسائر ما ذكر في النوعين الأوليين ليست مما يتبع ابتغاء الفتنة، ولا مما يتبعه الزائغون ابتغاء تأويله، ولا غير ذلك مما تقدم، بل في ذلك ما يخفى على الراسخ ولا يخفى على الزائغ، وفيه ما يخطئ فيه الراسخ ويصيب الزائغ، ولم يزل العامة يسألون عما يشبه ذلك ولم يتهمهم أحد بالزيغ.

والحاصل: أن ذلك يصدق على المتشابه الذي وردت به الآية والأحاديث والآثار، بل ولا يصدق عليه أن معانيه مشتبهة؛ لأن الاشتباه فيه يزول بالتدبر، فالأب مثلا يعرف معناه بسؤال أهل اللغة، والنظر في القرائن، وهكذا؛ وليس في القرآن شيء من ذلك يتوقف

ص: 96

العلماء عن اتباعه والنظر في تأويله، مع أن الجمهور يقولون في الآية بما قلناه، وهو أن المتشابه لا يعلم تأويله إلا الله، وقد تقدم حديث الصحيحين، ونحن نعلم أن الصحابة عملوا بمقتضاه، ونعلم أنهم تكلموا في النوعين الأولين، واختلفوا في بعضها كثيرا، ثم رأوا من بعدهم يتبعون ذلك ويبتغون تأويله فلم ينكروا عليهم ذلك.

فما بقي إلا النوع الثالث، فهو الذي لم يكن يؤوله النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ولا كانوا يبتغون تأويله، ولا يختلفون فيه؛ ولما رأوا من يتبعه من بعدهم ويتكلم في تأويله حذّروهم، وحذِروهم، وحذروا الناس منهم.

فإن قلت: فإنكم تتكلمون في معنى ذلك فتقولون لله عز وجل حياة تليق به، ويد تليق به، وتقولون إن لوجوده وحياته وقدرته وعلمه وحكمته مناسبة ما لهذه الصفات في المخلوق، ولذلك أمكننا تصورها إجمالا!

قلت: الآن حصحص الحق، وارجع إلى معنى كلمة "تأويل" فقد قدمنا أن تأويل اللفظ قد يطلق على المعنى، وقد يطلق على نفس ذلك المعنى، وقد يطلق على الحقيقة المعبر عنها باللفظ.

وقلنا: إن قوله تعالى: {ويل يومئذ للمكذبين} ، فإذا قال قائل:

ص: 97

ويل واد في جهنم، فقد أوله، ويطلق على قوله تأويل، ويطلق على نفس ذلك المعنى أنه تأويل، يقال: ما تأويل {ويل} ؟ فيقال: تأويله واد في جهنم. ويطلق على تلك الحقيقة - وهي عين ذلك الوادي - أنها تأويل. ولم نجد في القرآن مثالا للإطلاقين الأولين، وفيه ثلاثة أمثلة جاءت على الإطلاق الثالث، كما ذكرنا هناك.

إذن؛ فالتأويل في آية المتشابه من الإطلاق الثالث. فقولنا في حياة الله عز وجل "صفة ثابتة له سبحانه لها مناسبة ما بحياة المخلوق"، قولنا ذلك تأويل للفظ على الإطلاق الأول، وهذا المعنى تأويل بالإطلاق الثاني، وتلك الصفة نفسها هي تأويله بالإطلاق الثالث، والتأويل بالإطلاق الثالث هو الذي لا يعلمه إلا الله، وابتغاؤه زيغ، ولم يكن الصحابة والراسخون في العلم يبتغونه، ولما رأوا من يبتغيه حذروه، وحذروا منه.

وقد عرفت أقسام متبعيه مما سبق:

فمن قال: يد كيدي، فقد حكم على الحقيقة المعبر عنها باليد بأنها كيده، وتصورها هذا التصور المحدود.

ومن قال: إنما هي القدرة أو النعمة، فقد حكم عليها هذا

ص: 98

الحكم وزعم أنه قد أدرك حقيقتها.

ومن قال لله عز وجل يد تليق به لا يمكنني تصورها، ولا العلم بكنهها، ولكن لما أخبر الله عز وجل عن نفسه أن له يدا آمنت بأن له يدا تليق به، فهذا هو القائل:{آمنا به كلًّ من عند ربنا} .

وهذا أوان الجواب عن سؤالك بقولك: وما فائدة إنزال مثل هذا في القرآن والقرآن إنما نزل هدى للعالمين وأمرنا بتدبره مطلقا؟

فأقول: أما الصفات التي ندركها إجمالا لمناسبة ما بينها وبين صفاتنا - مع العلم بأنها في حقه عز وجل كاملة كما يليق به، وفي حقنا ناقصة كما يليق بنا، كالقدرة والعلم ونحوها - فلا إشكال في إنزالها في القرآن، إذ يقال: المقصود منه الإيمان بها مع العلم الإجمالي، وهو كاف في ذلك، وقد علمت أن من تلك الصفات ما يتوقف ثبوت الشريعة على العلم بها، ويتبعها صفات أخرى مثلها في إمكان العلم بها إجمالا، وفي العلم بها تثبيت للشريعة وتأكيد للإيمان، ودونها صفات أخرى تذكر في القرآن في صدد تقرير معنى من المعاني لا يتوقف فهمها على العلم بكنهها، ولكن ذكرها معه يفيدها قوة لا تحصل بدونها، كقوله تعالى:{قال يإبليس ما منعك أن تسجد لما خلقت بيديَّ} . فأصل المقصود إظهار زيادة الاعتناء بآدم

ص: 99

عليه السلام وتشريفه على ما سواه، وهذا المعنى معروف من الكلام، لا يتوقف على العلم بكنه اليدين، ولا نقول كما يقول بعضهم: هذا الكلام تمثيل لليد في إظهار العناية والتشريف! وليس هناك يدان، وإنما هو تخيل! كما قالوه في قول الشاعر:"إذا أصبحت خذ الشمال ما لها".

لا والله؛ لانقول ذلك، فإنه من الزيغ، بل نقول: إن لله عز وجل يدين خلق بهما آدم عليه السلام، ولكننا لا نعلم كنههما، وجهلنا بكنههما لا يمنع من فهم معنى الكلام، ولا يلزم منه إن ذكرها أنه لا فائدة له! بل له أعظم الفائدة كما علمت.

ومع هذا فلا نقول إن فائدة ذكر الصفة مقصورة على ما ذكر، بل هناك فائدة أخرى، وهي الابتلاء؛ {ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيمانا ولا يرتاب الذين أوتوا الكتب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلا} .

وأما التدبر فقد أمرنا به مطلقا. ولا يتوقف فائدة التدبر على العلم بكنه اليدين مثلا، إذ لا يتوقف العلم بمعنى الكلام على ذلك. ألا ترى أنك إذا أخبرت الأكمه بأنك ترى ولده مقبلا فإنه يعلم معنى هذا الكلام تحقيقا، وإن كان لا يدري كنه الإبصار.

ص: 100