المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: في بيان جناية التأويل الفاسد على أهله - حقيقة التأويل - ط أطلس

[عبد الرحمن المعلمي اليماني]

الفصل: ‌المبحث الأول: في بيان جناية التأويل الفاسد على أهله

‌المبحث الأول: في بيان جناية التأويل الفاسد على أهله

واعلم أنه يتصل بالأمور الضرورية للإيمان تفصيلات لا يتوقف الإيمان على العلم بها، مثل كيفية الحياة والعلم، وغير ذلك؛ وهناك أمور أخرى لا يتوقف الإيمان على العلم بها أصلا، وإنما وجب الإيمان بها بخبر الصادق المصدوق، وعلى هذين تدور رحى التأويل.

فمن قائل: هي حياة كحياتي، ويد كيدي، ووجه كوجهي .... إلى غير ذلك.

ومن قائل: هذا يستلزم حدوث الرب، ونقصه تعالى عن ذلك، فلا بد من تأويله!

ومن قائل: حياة تليق به عز وجل، ويد تليق به سبحانه، ولا أؤول.

ويحتجّ الأول بأن الله عز وجل قد وصف نفسه بذلك، ووصفه به

ص: 55

رسله، وقد قام البرهان على وجوب حمل النصوص على ظواهرها، إذ لو كان المراد بها غير ظاهرها لكانت كذبا! - على ما حققناه في الفصل الثاني - وذلك محال.

وأجاب الثاني عن هذا بأجوبة:

أحدها: أن اللفظ إنما يبقى على ظاهره ما لم تكن هناك قرينة تصرفه إلى معنى آخر، وتحقيق هذا: أن اللفظ قد يكون له ظاهر في نفسه، ولكنه اقترن به ما صار الظاهر معنى آخر، فقولك:"إن زيدا رجع اليوم" ظاهره أنه رجع هو نفسه.

وقولك: "إن أمس رجع اليوم" لا يظهر منه ذلك، بل يظهر منه أن اليوم مشابه لأمس في كونه صحوا أو غيما أو نحو ذلك؛ وهذا حق في نفسه، ولكن لما سئل المؤولون عن القرينة ذكروا أمورا، منها العقل، فقيل: إن العقل لا يصح أن يكون قرينة إلا إذا كان بديهيا حاصلا للمخاطبين، وفي المعاني العقلية التي تجعلونها هي القرينة [مع] اعترافكم أنه لا يحصل للإنسان إلا بعد ممارسته المعقولات من المنطق والفلسفة وغير ذلك. وهذه النصوص الدالة على أن الله عز وجل في جهة العلو تؤولونها لمخالفتها العقل - زعمتم!

وأنتم تعترفون أن الإيمان بموجود ليس في جهة لا يتهيأ للإنسان

ص: 56

حتى يمارس المعقولات ويوغل فيها، فعند ذلك تأنس نفسه بالتصديق بذلك! ذكر هذا الغزالي في كتبه، وغيره.

وإذا كان الحال هكذا، لأن القرينة التي يعلم المتكلم أن المخاطب لا يدركها لا تخرج الكلام عن الكذب، كما تقدم.

قالوا: هناك قرينة أخرى، وهي قول الله عز وجل:{ليس كمثله شيء} وقوله عز وجل: {ولم يكن له كفوا أحد}

قيل لهم: هاتان الآيتان غير ظاهرتين في المعنى الذي تريدون.

أما الأول: فلو قلت لرجل: عندي شيء ليس كمثله شيء، لما فهم أنه ليس في الكون ما يشبهه من بعض الوجوه شيء، وقريب من هذا يقال في الآية الثانية؛ فكيف يجوز أن يكتفى في هذا المطلب العظيم بقرينة ظاهرها أنها ليست قرينة؟

وفوق هذا: فقد تقرر في الأصول أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، والحاجة في النصوص الاعتقادية هي وقت الخطاب، فلو كان المراد جعل هاتين الآيتين قرينة لوجب قرنهما، أو إحداهما، أو ما يقوم مقامهما بكل آية أو حديث يتعلق بالصفات، وإلا لزم الكذب.

ص: 57

فإن قالوا: إذا سمع الإنسان القرينة الواضحة أولا أغنى ذلك عن إعادتها مع كل آية من آيات الصفات.

قيل لهم: بعد فرض تسليم الوضوح لم يكن العمل على هذا، أي أن لا يتلو النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من آيات الصفات على أحد حتى يتلو عليه الآيتين المذكورتين أو أحداهما، بل قد نزل قبلهما كثير من القرآن، وقد كان الرجل يسلم ثم يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم فيتلو في صلاته من القرآن ما شاء الله، ولا يبدأ بإحدى الآيتين، ولعل كثيرا من الأعراب الذين أسلموا لم يسمعوا الآيتين ولا إحداهما؛ ولم يقل أحد من العلماء إنه يجب على قارئ القرآن أن لا يقرأه بمحضر من العامة إلا بعد أن يذكر لهم الآيتين أو إحداهما، أو ما يقوم مقام ذلك.

فإن قالوا: فإنه يلزم مثل هذا في آيات التحليل العامة التي دلت آيات أخر على تخصيصها، وليست في سياقها، فيمكن أن يكون بعض الأعراب سمع الآية العامة فذهب يستحل كل ما تناولت، مع أن بعضه محرم بآية لم يسمعها؛ ومثل هذا يقال في الأحاديث، وهكذا ما يشبه العموم من كل دليل ظاهره تحليل شيء، وقد بينه دليل آخر.

ص: 58

فالجواب أن الخطأ في التحليل والتحريم سهل، فلا يكون المخطئ كافرا ولا فاسقا؛ بل هو معذور مأجور، كما سيأتي إيضاحه. وليس الخطأ في الكفر كذلك، بل قال جم غفير إن كل مجتهد في الأحكام مصيب، وله غفور.

وقد أوضحنا ذلك في موضع آخر.

حاصله: أن كثيرا من القوانين لا يكون مطابقا للحكمة في كل فرد من الأفراد، وإنما روعي مطابقته في الأعم الأغلب. ومثّلناه بحد الزنا، فرُبَّ شيخ غني ضعيف الشهوة قادر على التزوج فتركه، واحتال لاجتماعٍ بامرأة قبيحة يستطيع التزوج بها ولا يعشقها، فزنى بها، ولما كان غير محصن فحده الجلد؛ وآخر شاب فقير شديد الشهوة لا يقدر على التزوج صادفته امرأة جميلة يعشقها، ولا يستطيع زواجها، فلم يتمالك نفسه حتى وقع عليها، وكان قد تزوج امرأة، وبات معها ليلة واحدة ثم ماتت، ولما كان محصنا فحده الرجم؛ فأنت ترى الثاني أحق من الأول بالتخفيف، ولكن الشارع لم يخفف عنه.

وإنما كان ذلك لأن الجرأة على المعصية أمر يخفى ولا ينضبط، فأناط الشرع الأمر بصفة واضحة منضبطة وهي الإحصان، وعرفه

ص: 59

لأن الغالب في الزاني المحصن أن يكون أرغب عن الزنا من غير المحصن، فإذا زنى مع ذلك كانت جرأته أشد من غير المحصن.

ولكن الحكم العدل تبارك وتعالى يجبر ما يستلزمه القانون العام من خلل في بعض الجزئيات بقدره الذي لا يعجزه علم الحقيقة، ولا تقدير ما يوافق الحكمة.

ولذلك صور قد ذكرت بعضها في غير هذا الموضع، والذي يختص بهذا الموضع هو أن الله عز وجل قد يعلم أن هذا الشيء الذي دلت الآية بعمومها على أنه حلال، وبينت آية أخرى أنه حرام، يعلم سبحانه أن الحكمة لا تقتضي تحريم ذلك الشيء على هذا الشخص، فيسره سبحانه قدر له أن يسمع الآية العامة، ولا يسمع الآية الأخرى، وهو وإن كان مخطئا بالنظر إلى الحكم الشرعي فهو مصيب بالنظر إلى الحكم الذي علم الله عز وجل أنه أنسب به، ولا يأتي مثل هذا في الكفر.

واعلم أن المؤولين يكابرون، والمكابرة لا علاج لها إلا الكي. ولكن جماعة من متبحريهم أنفوا من المكابرة ووقعوا في شر منها؛ لأنهم أصروا على شبهاتهم الفلسفية، ثم قال بعضهم: إن المقصود من الشريعة هو الإصلاح لحال البشر حتى يمتثلوا الأمر ويجتنبوا النهي،

ص: 60

وإنما ضمت من العقائد ما يتوقف ذلك عليه، وأما ما عدا ذلك فإنما جاءت بما يتوافق اعتقاد غالب الناس وإن كان خطأ في نفسه! وإنما فعلت ذلك لئلا تصد الناس عن قبول الشريعة إذا جاءت بما يخالف عقائدهم!

قالوا: فجاءت بأن الله عز وجل مستو على عرشه فوق سماواته، وبأن له وجها، ويدا، وقدما، وغير ذلك، مما هو عندهم من خواص الأجسام!

قالوا: لأن غالب الناس - بل كلهم إلا من تغلغل في المعقولات - لا يصدقون بموجود قائم بذاته، ليس بجسم ولا في جهة!

وعند هؤلاء أن عامة الصحابة والتابعين، وغالب الأمة مخطئون في اعتقادهم، يلزمهم القول بحدوث الحق عز وجل ونقصه تبارك وتعالى، ولكن الشريعة أقرتهم على ذلك؛ فليسوا بكفار، ولا فساق في حكم الشرع.

وأنت ترى أن هؤلاء أدنى من الكافرين إلى العقل في بادئ الرأي، ولكنهم أخبث منهم. فإنهم يقولون: لا ريب أن آيات الصفات وأحاديثها ظاهرة في الباطل، ولم تكن هناك قرينة كافية لصرفها عن ذلك، وعامة الصحابة والتابعين وغالب من بعدهم فهموا

ص: 61

منها المعنى الباطل، وهي نفسها سيقت سياقا يُفهم منه المعنى الباطل، وذلك كذب لا محالة، ولكن الكذب لإصلاح الناس حسن!

فجوز هؤلاء - بل نسبوا - الكذب إلى الله وكتابه ورسوله {كبرت كلمة تخرج من أفواههم} .

ثم يقال لهم: لو سلم أن الكذب قد يكون حسنا، فإنما ذلك من الإنسان العاجز المحتاج؛ ولو لم يستحل أن يقع من الله عز وجل ورسوله شيء من هذا الكذب فقد كان يجب أن لا يكون إلا عند الحاجة، ولا حاجة إلى تلك الآيات والأحاديث، فكان يكفي أن يثبت لله عز وجل ما لا بد منه، ويعرض عما عدا ذلك مما يخطئ الناس فيه من الاعتقاد، فلا يرده عليهم. فأما أن يصرح بما يوافق اعتقادهم الخاطئ، ويؤكده، ويكرره في مواضع لا تحصى، فهذا ما لا يتوهم جوازه؛ لأن الإصلاح المقصود لا يتوقف عليه.

وقد حكم الله عز وجل بكفر من نسب إليه الولد، وقال في ربه بألوهية ابنه! وغير ذلك، قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وبعدها.

وإذا تدبرت ما قدمناه في تشديد الله ورسوله في الكذب ازددت بصيرة في هذا إن شاء الله تعالى.

ص: 62

ووجه آخر، وهو: أنه كان في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من أهل الذكاء والفطنة وسلامة العقل يلازمون النبي صلى الله عليه وسلم حضرا وسفرا، ويصدقونه في كل ما يقول؛ أفما كان ينبغي أن يبوح لهم بالحقيقة، ويأمرهم أن يبوحوا بها لمن وثقوا بذكائه وفطنته، وهكذا يتسلسل هذا الأمر في كبار العلماء في كل قرن؛ فما بالنا نجد كبار العلماء - من الصحابة والتابعين فمن بعدهم - هم أشد الناس بعدا عن هذا الاعتقاد، وعامة من خاض في ذلك هم ممن لم ينشأ على العلم، ولا لازم العلماء، ولا تبحر في الكتاب والسنة، وإنما اعتمد الجعد بن درهم وجهم بن صفوان وأشباههم ممن لا تعرف له عناية بالعلوم الدينية ولا ملازمة لأئمتها؛ فقام الأئمة المشهورون بالعلم وملازمة أهل العلم فبدّعوا هؤلاء وضللواهم وكفّروهم، كما هو معروف.

فإن قال قائل: لعل النبي صلى الله عليه وسلم أوصاهم بالكتمان! قيل له - مع العلم ببطلان قوله -: وهل كان الكتمان فرضا، حتى إذا سمعوا من يذكر الحق ضللوه وكفروه؟

فإن قال: نعم!

قيل: فهل كان ذلك حقا أم باطلا؟

فإن قال: بل حقا!

ص: 63

قيل له: فأنت وأئمتك على هذا مبطلون، ضالون، مضلون، محاربون لله ورسوله!

واعلم أن من هؤلاء من كابر أيضا، ومنهم من رأى أن المكابرة لا تجدي ففر إلى ما هو أخبث وأخبث، فقال: إن الأنبياء أناس فضلاء أخيار أرادوا إصلاح البشر، وصَفَت نفوسهم إلى درجة أنهم صاروا يتوهمون أنهم يسمعون كلام الله تعالى وملائكته، وإنما ذلك تخيلا محضا! غير أن نفوسهم لما كانت طاهرة كانت تتخيل ما يناسب ما يريدونه من الإصلاح بحسب معرفتهم، وكانوا يعتقدون ما أخبروا به، ويرون أنه الحق!

ولما رأى بعض هؤلاء أن ما تواتر من صفات الأنبياء -مما يدل على نهاية العقل والفطنة والمعرفة- يأبى ذلك قال: هم أناس عقلاء اخترعوا لأممهم ما يصلحونهم به في دنياهم!

ورأى غير هؤلاء أن ما تواتر عن الأنبياء مما يبرهن على ملازمتهم للصدق والعبادة وشدة الخوف من الله عز وجل وتقديم طاعته على كل ما عداه، مع ما جاؤا به من الحكمة التي تبهر العقول وتحيرها.

ص: 64

قال قائلهم:

نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وغاية دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثا طول عمرنا

سوى أن جمعنافيه قيل وقالوا

ومنهم من تداركته رحمة الله تبارك وتعالى، فرضي من العناية بالآيات، على أنه لم يرجع سالما من كل عيب، وإلى الله المآب،

ص: 65

وعليه الحساب.

وأما من قال: حياة تليق به، ويد تليق به تعالى، ونحو ذلك، ولا تؤول، فهم فرق:

الفرقة الأولى: من يسلم أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها تقتضي المحال، وأن التأويل سائغ ولكنه خطر. وقال قائلهم: مذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أعلم!

الفرقة الثانية: كالأولى، إلا أنها تقول لا يجوز التأويل أصلا.

الفرقة الثالثة: من يقول: كل ما أثبته الله عز وجل لنفسه وأثبته له رسوله عليه الصلاة والسلام فهو حق وصدق على ظاهره.

أما الفرقتان الأوليان فيلتحقان بالمؤولين، وقد تقدم ما لهم وعليهم.

وأما الفرقة الثالثة فإنها نسبت إلى موافقة من قال حياة كحياتي ويد كيدي، وهي أبعد الناس عن ذلك. وهاك الإيضاح:

ص: 66

غالب الصفات يختلف تصورها تبعا لاختلاف تصور الموصوف بها، فيقال للصبي الغر والأعرابي الجلف: يد إنسان؛ فيتصور شيئا، ثم يقال يد فرس؛ فيتصور شيئا آخر، ثم يقال له: يد طائر؛ فيتصور شيئا ثالثا، وهكذا.

فإذا قيل له: يد الله، فقد يتخيل شيئا ما، فإذا رجع إلى عقله علم أن ذلك التخيل خرص وتخمين، ثم يقول: ما رأيت الله عز وجل، ولا رأيت ما يماثله، فكيف يتهيأ لي تصور يده؟

وهذه حقيقة متفق عليها بين العقلاء، وهي أن الإنسان لا يدرك إلا ما أحس به أو أحس بفرد أو أفراد مماثلة له، ولا يدرك ما أحس به أو أحس بما يماثله إلا ما تناوله الإحساس، ولا يدرك مما أحس بما يماثله إلا ما يعلم أنه قدر مشترك بينهما؛ فلسنا ندرك من صفات الله عز وجل إلا ما يتصف المخلوق بما يشبهه في الجملة، فاستدللنا بآثاره على وجوده؛ لأننا نعرف الوجود في الجملة بوجود الخلق الذين نحس بهم، ونعلم أن الأثر يدل على وجود مؤثر. وهكذا بقية الصفات التي تقدم ذكرها، مع العلم بأن صفات الرب عز وجل واجبة

ص: 67

كاملة مُبرأة، وأن صفات المخلوق فانية ناقصة معيبة؛ ولكن ذلك يمنع وجود اشتراك في الجملة يتهيأ به الإدراك، على أننا إنما ندرك صفات الله عز وجل على وجهٍ إجمالي.

فأما اليد مثلا فإننا لا نجد ذاتا تشبه ذات الرب عز وجل في الصورة -تفصيلا ولا إجمالا- حتى ندرك يده تعالى بالقياس على يد تلك الذات التي نعرفها.

هذا في الإثبات. وأما في النفي فلم ندرك ذاتا تشبه ذاته عز وجل وليس لها يد حتى ندرك بالقياس عليها أنه ليس له سبحانه يد؛ غاية الأمر أننا ندرك أنه سبحانه منزه عن النقص، ولكننا لا ندرك أنه لو كان له يد تليق به لكان ذلك نقصا، ومن زعم أنه يدرك هذا فإنه تخيل يدا كيد المخلوق، فلذلك جزم بأنها نقص.

والإنسان إذا حاول أن يتصور شيئا، إن كان قد أدركه بواسطة الحواس فذاك، وإلا فإن كان قد أدرك ما يشابهه فإنه يتصوره بتلك الصورة، ولكن العقل إذا علم أنها لا تشابهه في كل شيء جرد الصورة المتخيلة من بعض الأوصاف، وإذا كانت الصورة مشابهة لما

ص: 68

يحاول تصوره كغيره قاس القياس بتصور صورة على قدر المشترك بين تلك الصورة التي أدركها مجردة عن الحواس التي تختلف، وربما ضم إليها صفة أو نقص منها صفة إذا قام لديه ما يوجب ذلك.

فإذا سمعت برجل انكليزي لم تره، ولا رأيت صورته، ولا وصف لك، وكلفت ذهنك أن يتصوره، وكنت رأيت جماعة من الإنكليز؛ فإن ذهنك يتخيل صورة على قدر المشترك بين الذين رأيتم حتى يتخيل القياس.

ولو أردت تصور رجل حبشي لا تختلف الصورة التي تخيلتها؛ فإذا وصف لك الرجل أنه أعور، أو أعرج، أو طويل، أو قصير، أضفت هذه الصفة إلى تلك الصورة، ولكن بحسب القدر المشترك بين العور والعرج، والطول والقصر الذين قد أدركتهم. على أنك لو كلفت نفسك تصوره كبيرا جدا كالجبل أو صغيرا جدا كالذرة لأمكنك ذلك.

وإذا تدبرت وجدت الذهن إنما يستمد التصور من القياس على الصور المخزونة في الحفظ، ولكنه يركب ويقسم، وبهذا يمكنه أن يتصور شق رجل، ويتصور رجلا له وجه فرس

وهكذا.

فإذا كلفته أن يتصور ما لم يحس به ولا بما يشبهه؛ فإنه يفرض

ص: 69

عليك صورا يستمدها من خزانته، وقد يركب ويقسم، ويزيد وينقص، وكلما عرض عليك صورة، فقال العقل: ليس هذا أريد، عاد فاستمد من الخزانة صورة أخرى.

فإذا كلف الذهن تصور يد الله عز وجل فأول ما يفرض يد إنسان؛ لأنها أقرب الأيدي حضورا بالذهن لكثرة تكرر إحساسه بها، فإذا لم تقبلها أخذ يزيد في تلك الصورة وينقص، ويستمد الزيادة والنقص من الأجرام التي قد أدركها، فإنه يجعلها نورا على صفة ما قد أدكه من نور الشمس والقمر وغيرها، ويعظمها - لإدراكه صفة العظمة - حتى يجعلها كالجبل أو أعظم منه، وغير ذلك.

والعقل يحكم كل مرة أن تلك الصورة فيها نقص وعيب، وأن الله عز وجل مبرأ من ذلك، فإذا يئس من وجدان صورة تليق برب العزة فهو بين أمرين:

إما أن يعترف بعجزه وقصوره، وأن الموجودات لا تنحصر فيما يمكنه تصوره وتخيله، فهذا يجوّز أن يكون لله عز وجل يد تليق به، فإذا علم أن الصادق المصدوق قد أخبر بذلك آمن به.

وإما أن يغلب عليه الغرور والدعوى، ويزعم أنه ما من موجود إلا ويمكنه تصوره، فهذا ينكر أن تكون لله عز وجل يد، ويزعم أن من

ص: 70

أثبت لله عز وجل يدا يلزمه أن يثبت له يدا من تلك الأيدي التي تخيل صورها العقل.

فلو أن رجلا خلق أكمه وكبر، وعلم الكلام ما عدا الألوان، ولم يخبر بأن الناس يبصرون، ثم قال له رجل بصير ذات يوم: هذا شيء أبيض، فإنه يقول: ما معنى أبيض، أكبير؟ فيقال: لا، فيقول: فصغير؟ فيقال: لا، فيقول: فأملس، فخشن، فجامد، فمائع؟ إلى غير ذلك من المعاني التي قد عرفها وأحس بها.

فإذا قيل له في كل ذلك: لا، لا! قال: فهذا عدم! وإن كان قد أُخبر بالألوان، وتواتر عنده أن الناس يبصرون وأن للأشياء ألوانا، فإنه يصدقهم، ولكنه لا يستطيع تصور ذلك.

فهذا مثل الإنسان إذا أخبر بصفات الرب عز وجل، وكأنه لهذا المعنى زعم بعض المتكلمين أن رؤية المؤمنين لربهم عز وجل في الآخرة إنما تكون بحاسة سادسة يخلقها لهم!

ولبيان خطئه أضرب مثلا ثانيا:

افرض أنه لا يوجد في الدنيا من الألوان إلا السواد والبياض، ثم أخبر إنسان بأن هناك شيئا يُرى، أليس يقول: أسود؟ فإذا قيل: لا! فيقول: أبيض؟ فيقال: لا، فيقول فليس في الوجود شيء يُرى إلا أبيض أو أسود!

ص: 71

فهذا مثل القوم؛ فإنهم لما لم يعرفوا في المرئيات إلا هذه المحسوسات قالوا: لو أمكن رؤية الله عز وجل لكان من جنس هذه المحسوسات!

والمقصود من المثال التفهيم، وإلا فلا يخفى أن الحمرة من جنس الألوان؛ وليس الله عز وجل من جنس الخلق. ولو فرض أن إنسانا لم ير

(عبارة غير واضحة) تنطبع فيه صورته، ثم أخبر بأن الإنسان يمكنه أن يدرك بمعونة حاسة بصره لون حدقته، فيعلم أنها سوداء أو زرقاء أو غير ذلك بدون أن يخرج إحدى عينيه من موضعها، ولا يتغير شكله، أليس يبادر فيقول: هذا محال!

والمقصود من هذه الأمثلة تقريب الذي ذكرناه: من أن الإنسان يجحد ما لا يحس به، ولا بما يشبهه.

ولو قلت لبدوي - لم يسمع بالآلات المخترعة -: إنه يمكننا أن نسمع كلام أهل أمريكا ونحن بحضرموت بدون معجزة ولا سحر ولا كرامة، لقال: هذا كذب! ولو لم يكن قد سمع بالمعجزات والكرامات والسحر ما احتجت أن تقول له: بدون كذا وكذا.

إذا علمت هذا؛ فإنا نقول:

ص: 72

كان الصحابة - ومن بعدهم ممن يتحكك بالبدع - يعلمون حق العلم أنه لا سبيل للعقل إلى تصور يد الله عز وجل ولا سبيل للعقل أن يدرك أنه سبحانه ليس له يد تليق به؛ فلما أخبرهم الله ورسوله بأن لله يدًا آمنوا وصدقوا، فليس في تلك النصوص بحمد الله عز وجل لا كذب ولا إضلال، وليس في عقيدة السلف جهل ولا ضلال، فإن الجهل بما ليس في قدرة الإنسان العلم به لا يعد نقصا، وإنما الجاهل من يجهل ذلك ويجهل أنه جاهل، ويخيب ويطمع فيما ليس فيه مطمع، ويؤول به الأمر إلى ما سمعت وتسمع.

واعلم أن سبب ضلال القوم أمور:

الأول: قلة حظهم من معرفة الكتاب والسنة.

الثاني: تقديسهم للفلاسفة فوق تقديس الأنبياء بدرجات.

الثالث: ما في فطرة الإنسان من دعوى أن عقله يستطيع إدراك كل شيء، فطره على ذلك لئلا يكسل ويتوانى عن المعارف والعلوم، كما فطره على طول الأمل ليبقى في عمارة الدنيا، وعدل ذلك بالعقل ليكبحه عن تجاوز الحد في ذينك الأمرين. وهؤلاء القوم نشأوا على التطلع والتعمق، فاعتضدت الفطرة بالعادة، فأغفلهم ذلك عما يقررونه من أن الإدراك لا يكون إلا بإحساس أو قياس كما سلف، فكلفوا عقولهم أن تدرك ما ليس من شأنها إدراكه، فصارت

ص: 73

تتقيهم بالتخيلات. وقد أُثِرَ عن الشافعي رحمه الله تعالى أنه قال: "إن للعقل حدا ينتهي إليه، كما أن للبصر حدا ينتهي إليه".

أقول: وقد جربنا أن من كُلِّف بصره إدراك ما لا يستطيع إدراكه يخيل إليه أنه يدرك ذلك، فكم مرة تراءى الناس الهلال فتراءيته معهم، فإذا حدقت وأمعنت في النظر يخيل إلي أني قد رأيته، ولكنها خطفة لا تثبت، ثم أيأس من ذلك الموضع فأنظر إلى موضع آخر، فيخيل إلي مثل ذلك؛ فعلمت أن تلك الخطفة هي صورة خيالية هي صورة خيالية لما أتخيله تبرز إلى العيان؛ لقوة التخيل وكد البصر.

فكثيرا ما يعرض للعقل مثل هذا إذا كلف إدراك ما لا يدرك، والفرق أن خطأ البصر ينتبه له العقل، ولا يكاد ينتبه لخطأ نفسه.

لو بغير الماء حلقي شرق

كنت كالغصان بالماء اعتصار

وكثيرا ما يدرك العقل خطأ ما تصوره ولكنه لا ييأس، فلا يزال في أخذ ورد إلى أن يكل ويمل؛ يسمع بذهاب تعبه سدى فيقنع بالشبهة التي وقف عندها، ومثله مثل مسافر يأبى أن ينزل ليستريح

ص: 74

إلا في موضع حسن جميل، وليس أمامه موضع كذلك، فلا يزال كلما أتى على موضع لم يره على الشرط حتى يعقله التعب والاعياء؛ فينزل ويسلي نفسه ويغالطها، يزعم أن ذلك الموضع حسن وجميل.

وأنت إذا كنت قد وقفت على بعض الكتب المطولة في الفلسفة وتدبرتها تحققت هذا المعنى، ولا تكاد تجد شبهة عقلية قد قررها أحدهم على أنها برهان قاطع إلا وجدت غيره قد نقضها، ثم يجيء ثالث فيدفع هذا النقض، فيجيء رابع فيرد ذلك الدفع، وهكذا.

حجج تهافت كالزجاج تخالها

حقا وكل كاسر مكسور

ثم اعلم أن أعظم ما يستندون إليه هو الاستقراء؛ فيستقرئون ما يدخل تحت حواسهم حتى تنتظم لهم مقدمة كلية بالنسبة إلى ما استقرؤوه، ثم يزعمون أنه لا يخرج موجود عن تلك الكلية، وذلك أمر بديهي البطلان؛ فإنهم يقولون: الحيوان كله يحرك فكه الأسفل إلا التمساح، فلو فرضنا أنهم لم يروا التمساح ولا سمعوا به - كأن كان في أمريكا فبل اكتشافها - فهذا الاستقراء يكون في زعمهم

ص: 75

برهانا قاطعا على أنه لا يوجد حيوان يحرك فكه الأعلى! وهم يبالغون بزعمهم في نفي مشابهة الرب عز وجل لشيء من خلقه، ثم يحكمون عليه بما استقرؤوه من خلقه.

ومن أعظم بلايا العقل دعواه أنه لا يتعالى عن إدراكه شيء، فكثيرا ما ينظر فإذا لم يدرك جحد، ولاسيما عقول هؤلاء القوم الذين تسرب إليهم تقديس الفلاسفة وأهل الريب في النبوة على تفاوتهم فبه، ومثل ذلك مثل نفر من الناس فيهم رجل يرى أنه أحدهم نظرا، فيرى آخر منهم فيخبر أصحابه، فيترآه ذلك الرجل فلا يراه، فيبادر بتكذيب القائل "إني أراه" قائلا: لو كان الهلال طالعا لرأيته؛ لأنني أحدّ الجماعة نظرا!

وهذا من أعظم غلط العقل، فتراه ينفي وجود بعض الأشياء وينكر بعض الأحكام ويرد كثيرا من الأخبار، لأنه لم يدركها أو لم يدرك وجه صحتها أو مطابقتها للحكمة. ولولا هذا الخطأ ومثله لم يكد يغلط عاقل ولا يضل، ولا استحل مسلم أن يذم المعقولات، ويحذر من شدة الاعتماد عليها، فإن الدين لا يقوم إلا على العقل كما قدمنا.

ومما يُتقى به خطأ العقل - إذا زعم أن إدراكه قاطع - أن يفرض صاحبه أنه اجتمع بمن هو أكمل منه وأعقل، فأخبره برأيه في تلك

ص: 76

القضية، فقال له الأكمل: أخطأت! فإن أحس في نفسه أثرا لقول الأكمل: "أخطأت" فليعلم أن إدراكه ذلك ليس بقاطع.

وقد بحث معي مسلم في مسألة معروفة، فزعم أن العقل القاطع يدل على نفيها، فقلت له: لو فرضنا أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يزال حيا، وأننا سألناه عن هذه المسألة فقال: هي حق ثابت، فهل تصدقه؟

فقال: وكيف لا أصدقه؟

فقلت له: فأين العقل القاطع؟

فإن قلت: إنهم يجيبون عن مثل هذا بأنه يستحيل أن يقوله النبي صلى الله عليه وسلم.

فقلت: فإنهم يردون النصوص الصريحة من القرآن بنحو ذلك.

فإن قلت: ولكنهم يتأولونها.

قلت: قد تقدم أن حملها على التأويل معناه نسبة الكذب إلى الله ورسوله.

وبعد؛ فالمكابرة لا دواء لها، والمقصود إرشاد من في قلبه خير إلى أن يفرض ما تقدم، ثم ينظر فلعله يتبين له خطؤه في توهم القطع.

فإن قال قائل: إنما استقامت لك الحجة لأنك مثلت بالحياة

ص: 77

واليد، ومن الصفات الأخرى ما لا يظهر استقامة تلك الحجة فيه، ومن ذلك كون الله عز وجل على عرشه فوق السموات، وكونه ينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا، ويجيء يوم القيامة، وغير ذلك.

أقول: الحجة مثبتة في هذه كلها؛ لأن الفلاسفة مقلديهم أثاروا شبها ليست مما فطرت عليه العقول، ولا كان يعرفها العرب الذين تلقوا الشريعة غضة، وقد كنت أحببت أن أوضح ذلك مفصلا، ثم ضربت عن ذلك لمعنى سأذكره فيما بعد إن شاء الله تعالى، فلأكتف بجواب إجمالي:

قد علمت أن الإخبار بكلام له معنى ظاهر وليس عند المخاطب قرينة توجب صرفه عن ظاهره يكون كذبا، ولا تغني تورية المتكلم في نفسه أو ملاحظته قرينة يعلم أن المتكلم لا يشعر بها، كأن يقدم رجل من اليمن إلى الحجاز، فيسأله رجل عن أبيه، فيقول إنه قد مات، ويريد في نفسه أنه نائم، ويزعم أن وجود الأب في اليمن حيا يرزق قرينة!

وعلمت أن الكذب محال أن يقع من الله عز وجل ورسوله، والله عز وجل إنما أنزل الكتب وأرسل الرسل لهداية الناس إلى الصراط

ص: 78

المستقيم لا لإضلالهم.

فإذا أحطت بهذا؛ فكل نص في كتاب الله عز وجل أو في السنة المقطوع بها - يخبر بصفة من صفات الله عز وجل وله معنى ظاهر يعلم أن العرب الذين دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم لا يفهمون غيره - فلا مفر للمسلم من الإيمان به.

ثم اعلم [أن] من الصفات ما لا شبهة لمن أنكره أصلا، كما قد قدمنا في الحياة واليد مفصلا.

ومنها ما لم تكن فيه شبهة ولكن نشأت الشبهة فيه لمن اطلع على كلام الفلاسفة؛ وهذا لا بد للمسلم من الإيمان به وتكذيب الفلاسفة علمًا بأن العقل الإنساني قاصر وأن إدراكه يتفاوت وأنه كثيرا ما يتوهم أنه قد أدرك إدراكا قطعيا وهو مخطئ.

ومن تأمل اختلاف الفلاسفة والمتكلمين من كل أمة، وتخطئة آخرهم لأولهم - مع زعم كل منهم أن عقله أدرك ما قاله إدراكا خاطئا - تبين له هذا. ولو اطلعت على آراء فلاسفة العصر لرأيت من ذلك كثيرا جدا.

ومنها ما تعرض الشبهة فيه لكل أحد؛ وهذا لا بد للمسلم من الإيمان به، وصرف نفسه عن استرسالها في الفكر.

ص: 79