الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ودامت هذه الفتنة أياماً بين صلح وقيل وقال، حتى صار الديوان عند الأغوات وأكابر الشام، وبُت القرار على إخراج غريب كيت من الشام، وأن يخرج ولي الذي كان سبب الفتنة. فأخرجوهم كذا الأغوات، ومعهم علي أفندي المرادي تطييباً لخاطر أهل البلد، ولم يزالوا خارجين بهم إلى خارج البلد، فرجعت الأغوات والأفندي المرادي وبقي الوجل على حاله، ثم صارت أهل كل حارة تسهر كل ليلة. وبقي الأمر على ذلك إلى أن وصل الخبر إلى الشام بأن الذين خرجوا نهبوا القرايا وقتلوا النفوس، وهتكوا الحريم. فأرسلت الحكومة أوراقاً إلى أهل البر والقرايا أن يقتلوهم أو يطردوهم، فتعصّبوا عليهم وطردوهم، ولكن بعدما قتلوا ونهبوا. ثم رأوا القبجي في طريقهم فشلحوه، وقتلوا بعض جماعته. وبقيت أهل الشام بين خوف وأهوال، إلى أن كان يوم الاثنين سابع والعشرين من ذي الحجة وصل خبر إلى الشام بأن موسى باشا باشة الجردة لما وصل إلى القطرانة خرجت عليه العرب شلحوه ونهبوا الجردة وكل ما فيها، حتى شلحوه لباسه وخاتمه من إصبعه، وأنزلوه من تخته، وركبوا مكانه في التخت، وأخذوا طبوله وأطواخه ومدافعه. وكان كبيرهم يقال له قعدان الفايز. ثم تفرقت الجماعة الذين كانوا في الجردة، فرجعت منهم أناس إلى الشام، ومنهم ناس انقطعوا في حوران، ومنهم ناس هربوا إلى غزة، وناس إلى القدس، وناس إلى معان مع ابن موسى باشا، لأنها قريبة من الموضع الذي نهبت فيه الجردة. وأما الباشا فإنه رجع إلى قرية داعل وأقام بها مدة أيام. فأرسلوا له تختاً ليحملوه به، فوجدوه قد مات، فحملوه وجاؤوا به إلى الشام. وكان دخلوه على البلد في أول الليل، وثاني يوم دفنوه في تربة سيدي خمار رضي الله عنه.
سنة 1171
ثم دخلت سنة إحدى وسبعين ومئة وألف، ونحن على هذا الحال، نسأله تعالى أن يحوِّل حالنا إلى أحسن حال.
وفي هذا الشهر المحرم الحرام توفي العالم العلامة خاتمة المحدثين وبقية السلف الصالحين الشيخ صالح الجنيني المحدث الكبير تحت قبة النسر في الجامع الأموي، وصار له مشهد عظيم، ودفن بباب الصغير، رحمه الله تَعالى.
وفي تلك الأيام خرجت جردة ثانية دون الجردة الأولى. وفي سابع وعشرين محرم دخل جوقدار حسين باشا والي الشام وأمير الحاج، ومعه ثلاث هجانة مردفين، ومعهم أخو ابن مظيان شيخ عرب الحجاز، فتباشرت أهل الشام وزينوا الأسواق بالقناديل. فقامت القبقول وخرجوا وقوّسوا على الرعية، وصارت هزة قوية، وبقيت الفتنة في البلد بين الإنكشارية والقبقول والأشراف، فقتل القبقول من الأشراف نحو ثلاثين رجلاً وقوسوا على جامع الأموي، وقتلوا الشيخ عمر كبب مؤذن الجامع، وكان نازلاً من أذان الظهر، وقتل فيه بعض أولاد، وصار الهرج في أسواق المدينة مدة أيام، ثم دخلت الأغوات والأفندية بينهم بالصلح، فأبوا، فقالوا لهم: ارفعوا القتال واصبروا حتى يأتي حسين باشا من الحاج، ويفصل في هذه الأحكام، فرفعوا القتال.
وبقيت القبقول في القلعة لا تحول ولا تزول، إلى أن كان يوم الاثنين سابع عشر صفر الخير، والناس مزعوجة من تأخير مجيء الحج ولم تدر ما السبب، جاء خبر إلى الشام بأن الحج قد شلحه العرب ونهبوه، والعرب سلبت النساء والرجال أموالهم وحوائجهم. فضجت العالم وتباكت الخلق وأظلمت الشام. وبلغ الناس بأنه جاء إلى المتسلم ست مكاتيب أن يخرج إلى الحاج نجدة فلم يظهرها، فقامت العامة وهجموا على المتسلم بالسرايا ورجموه بالأحجار، فاجتمعت الموالي والأغوات، ونادوا بإخراج دواب من البلد وأن يخرجوا حوائج وثياب مفصلة ومخيطة ونعال وزرابيل، وأن تخرج رجال لملاقاة الحاج. فخرج خلق كثير، وكان خروجهم يوم الجمعة في الحادي والعشرين من صفر الخير، وذلك بعدما كتبوا عرضاً للدولة يعلموهم بهذا الحال، وأرسلوا إلى حمص يطلبون حسن باشا بن الكبرلي لأجل أن يحافظ على الشام.
وفي يوم الخميس خامس وعشرين من صفر الخير أقبلت بعض إنكشارية الشام من جهة الحج، ومعهم حجاج مركّيين كل اثنين ثلاثة على دابة، وهم في آخر درجة العدم، والمنادي معهم معه راية بيضاء ينادي هذه راية الإنكشارية، فضجت الناس بالبكاء والعويل، وحسبنا الله ونعم الوكيل. وأخبروا أن خلفهم خلق كثير من الحجاج، ومعهم النساء والبنات مع الملكة حفايا عرايا. وبعد يومين أقبلت شرابجة الإنكشارية من المزيريب ومعهم المشطجي والقفطجي الجميع مشلحين. وفي ذلك اليوم رجعت الإنكشارية ومن بقي من الملاقية ومعهم الأغوات ومتسلم حسين آغا ألاي بيك، وأخبروا عن أحوال وأهوال التي حصلت للحجاج من النساء والرجال من شر كفار العرب ولا شك، حيث أن هذه الأفعال التي فعلت في الحجاج لا يفعلها عباد النيران: لأنهم أخبروا أنهم يشلحوا الرجل ويفتشوا تحت إبطيه ودبره وفمه وتحت خصيتيه، وإن وجدوا الرجل كبيراُ بطنه أو له قرّ أي قيلة شقوا بطنه وبقروا قرّه أي قيلته، ويدخلون أيديهم في دبر الرجال وفي فروج النساء، وقد كانت المرأة تضع الطين على قبلها ودبرها ستراً لعورتها فيكشفونه. وحاصله صدرت من العرب أمور ما سمعت من قديم الزمان ولا من عبّاد الأوثان والصلبان. ثم ما سلم من التشليح إلا الذين هربوا أمام الحج، وأن الباشا أمر من حوله بنهب خزنته فنهبوها، فناس سلموا وناس قتلوا، ومنهم من تشلح مرارا.
ثم أقام الحجاج أربعة عشر أيام جوعا وعطشا لا ماء ولا زاداً، ومنهم من مات جوعاً وعطشاً وبرداً وحراً، وذلك بعد ما شرب بعضهم بول بعض. وما كفى جور العربان، بل زاد عليهم جور أهل معان، غضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم عذاب النيران.
وفي تاسع ربيع الأول جاء الخبر بأن حسين باشا والي الشام وأمير الحاج هو في مدينة غزة، ويريد من الشام بغال وتفكجية ورجالا، فأبوا أن يرسلوا له شيئاً من ذلك، بل أرسلوا له بأن يأتي إلى منصبه لأن قبجي التقرير عندنا، وافعل ما ترى فيه المصلحة.
وقبل ذلك بأيام كان قد قدِم أحمد بشه بن القلطقجي كبير زرباوات الشام، وكان هارباً له أربعة عشر عاما، فجاء مرة في غيبة أسعد باشا في الحج وفعل ما فعل كما قدمنا، وجاء مرة ثانية في أول حكم حسين باشا المذكور، فأكرمه وأعطاه، وخرج معه إلى المزيريب، ومن هناك غاب، ورجع هذه المرة الثالثة لما وقعت الفتنة في الشام، وعن تلك الأعمال نهاهم فلم تفد شيئاً كما تقدم.
وفي يوم الجمعة ثالث عشر ربيع الأول وصل خبر إلى دمشق الشام أن عمر المحاميد شيخ حوران وجد المحمل والصنجق عند العرب، وقد أرضاهم حتى فكّهما منهم، ووجد المحملجي وابن القبق دار وأربع خمس رجال عليهم المذلة والانكسار.
وفي يوم الثلاثاء سادس عشرين ربيع الأول وصل المحمل ودخل إلى الشام، وهو محمول على جمل، وقد ستروه بثوبه الأخضر التحتاني، ومعه محمد بشه السقباوي وبعض فرسان دروز وبعض عربان، وذكروا أنهم فكوه من العرب بمئة وسبعين قرشاً.
وقد جاء في منتصف ربيع تتر أخبر بوفاة السلطان عثمان، ولم يأت بالخطبة لمن هي، حتى خطبت الشام بلا اسم سلطان جمعتين، إلى أن كان يوم الاثنين غرة ربيع الثاني جاء قبجي بخطبة اسم السلطان مصطفى خان. أيّده الله وأيد دولة بني عثمان مدى الدوران.
ثم صارت الحجاج تأتي زمراً زمراً، ثم جاءت البلطجية ومعهم قاضي المدينة وبعض نساء، وقد عُدت النساء الذين كانوا كذا في تلك السنة فبلغن خمس مئة امرأة، ما بان لهم أثر مع الملكة أخت السلطان.
وفي خامس ربيع الثاني خرجت القبقول من القلعة وقوّسوا على الإنكشارية، وحصلت فتنة قوية، ثم أصلح بينهم القبجي والموالي والأغوات، وبطل الحرب. وفي خامس وعشرين من ربيع الثاني توفي قاضي المدينة الذي جاء مع الحجاج، وصارت تموت الحجاج ناساً بعد ناس، حتى مات كثير ممن كان مع الجردة، لأن الذي جرى على الحاج وعلى الجردة في هذا العام شيء ما سمع، مما تقشعر منه الأبدان. فإنا لله وإنا إليه راجعون. وبقيت دمشق بلا حاكم إلى آخر ربيع الثاني إلى أن تحقق الخبر بعد تردد الناس في أمر حكام الشام بتوجيه ولاية الشام لحضرة الوزير الكبير الحاج عبد الله باشا الشتجي. وكان دخوله مدينة دمشق الشام ضحوة نهار الأحد ثامن وعشرين ربيع الثاني، فخرجت لملاقاته وجوه الشام وأعيانها، ودخل في موكب لم يعهد لغيره، ودخل معه عسكر جرّار، فكان معه أربعين كذا بيرقاً من الدالاتية وخمسين بيرقاً من اللوند وعشرين بيرقاً من الأرنؤوط. ثم إنه ثاني يوم عمل ديواناً ولبّس المفتي والقاضي ونقيب الأشراف والسيد علي أفندي المرادي وأرسل الباشا يطلب جماعة من الإنكشارية فلم يجيبوا، فأرسل ينادي بأن أهل العرض ترحل من بين الإنكشارية، فلم تر إلا نقل أمتعة وإخلاء دور ودكاكين وأول دخول الباشا إلى الشام اجتمعت الإنكشارية فبلغوا نحو عشرين ألفاً وأكثر، وأظهروا الشجاعة وقلة الخوف منه، وقالوا: نحن لا نحسب حسابه، ولو كان عسكره أضعافنا.
ولما كانت ليلة الأربعاء اجتمعت من الإنكشارية جماعة في حارة السويقة، وصاروا يقوّسوا كذا ويفزعوا الناس، إلى أن سكّرت أهل الشام البوابات، ولما ظهر النهار هجموا إلى باب الجابية وقوسوا إلى ناحية باب السرايا. فبلغ أمرهم حضرة الباشا والي الشام، فاغتاظ غيظاً شديداً. وجاءت الموالي وعمل ديواناً، ثم أرسل الباشا يطلب منهم الأشقياء الخارجين عن الطاعة، وصاحب العرض يبقى بحاله. فتغلظت أكباد الإنكشارية وتقوّوا، وظنوا أنهم هم المنصورون. ثم صاح الباشا في جنده وركب في نفسه، وطلب جهة الميدان فلم يقف بين يديه أحد، وهجم هو وعسكره عليهم، فلم يثبت منهم أحد. فلم يزل يضرب هو وعسكره بالسيف إلى أن وصلوا إلى خارج باب الله، فقتلوا منهم خلقاً كثيراً، والذي ما أرادوا قتله أخذوه ووضعوه في الجنزير. ونهبت العساكر الميدان، ولم يتركوا كبيراً أو صغيراً إلا قتيلاً أو أسيراً. ولم يتركوا بيتاً ولا دكاناً ولا امرأة ولا طفلاً إلا استعملوا النهب والسبي وهتك الأعراض من سلب النساء الحليّ وسلب البنات الأبكار، وغير ذلك مما يعمي الأبصار، وتمنوا الموت الدرّار، ولم يروا هذه الفظائع المهولة الكبار، وانتكبت أهل الشام نكبة في ذلك العام ما عهدت من أيام التيمور، ولله عاقبة الأمور.
وثاني يوم الخميس قامت جماعة الباشا إلى النهب، فمنعهم وأمر بجمع المسلوبات من العساكر وغيرهم، وأن يوضعوا في بعض الجوامع. وأمر منادياً ينادي كل من له مالٌ منهوب فليأت وليعلمه ويأخذه، فأخذوا البعض وذهب الأكثر. وأما أتباع الباشا فإنهم صاروا كل من رأوه يقتلوه ويقطعوا رأسه، ويتركوه في الأسواق والأزقة والبيوت وقد ضبطوا الدور التي نهبت، فخرجت نحو أربعة وعشرين ألف دار، ومن الدكاكين أكثر من هذا المقدار، وأعظم من ذلك أن زاوية بيت الشيخ سعد الدين الجباوي التي في الميدان وضعوا بها الأمتعة الثمينة، ثم تفقدوها بعد ذلك فما وجدوا بها شيئاً أبداً، وصارت العساكر تلحق الإنكشارية للقرايا والضيع والبراري، فتقتل وتأسر حتى الأولاد والنساء، وكثر الجور في البلاد، وخافت العباد وكثر الفساد، وجمعوا رؤساء كثيرة من أشراف وعامة، وأرسلوها إلى الدولة.