الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم في هذه الأوقات زاد غلو الأسعار وقلت الأمطار وعظمت أمور السفهة والأشرار، حتى صار رطل الجبن بنصف قرش والبيضة بمصرية وأوقية السيرج بنصف الثلث، ومد الشعير بنصف قرش، ومد الحمّص بنصف قرش، ومد العدس بنصف قرش، وغرارة القمح بخمسة وأربعين قرشا، بعدما كانت بخمسة وعشرين غرشا، وأوقية الطحينة بأربعة مصاري، والدبس كل ثلاثة أرطال بقرش، ورطل العسل بقرش وربع، وكل شيء نهض ثمنه فوق العادة، حتى صار مدّ الملح بنصف قرش.
وفي تلك الأيام هلك مصطفى آغا ابن القباني كيخية الإنكشارية بمرض أعيا الأطباء برؤه، وكان من الذين يدخرون القوت ويتمنون الغلاء لخلق الله، فجعل الله العذاب والعقاب، لقد بلغني عنه أنه لما أرادوا دفنه حفروا له قبراً فوجدوا فيه ثعباناً عظيماً، فحفروا غيره فوجدوا كذلك، حتى حفروا عدّة قبور وهم يجدون الثعبان، قلت: وقد سبق ذلك فيما سلف لبعض الظلمة. وقد وجدوا في تركته من السمسم مئة غرارة، على أن في البلد كلها لم يوجد مدّ سمسم، ووجدوا من القمح شيئاً كثيرا، وقد طلب منه أن يبيع غرارة القمح بخمسة وأربعين قرشاً فلم يقل، وحلف لا يبيعها إلاّ بخمسين، فهلك ولم يبع شيئاً، فبيعت في تركته، ورحم الله عباده بموته لأنه أرحم الراحمين.
سنة 1159
ثم دخلت سنة تسع وخمسين ومئة ألف، وكان أولها يوم الأحد. وقد دخل قاضيها مصطفى أفندي وقدامه أعوانه حاملين البندق والسلاح، حتى وصل إلى المحكمة، وهذا لم يقع لغيره، ثم جلس في المحكمة لا يحرك ساكناً، وفقه الله.
وكان الحاكم في الشام والوالي بها حضرة الوزير الخطير أسعد باشا ابن العظم أيّده الله وأعزّ كلمته. وكان غائباً في الحاج، والمتسلم والكيخية موسى. ولكن الغلاء قائم على قدم وساق مع الكرب والخوف والشقاق.
وفي ثالث صفر دخل الحاج دمشق نهار الخميس صحبه أميره المعظم والوزير المفخم حضرة الحاج أسعد باشا العظم، فهو والحجاج على غاية من الصحة والسلامة. ثم بعد ذلك أرسل يطلب الدالاتية طلباً حثيثاً، فلما رأت الإنكشارية ذلك ضاقت عليهم الأرض، وقالوا كأقوالهم السابقة في قلة أدبهم: الست سعدية تريد أن تغدر بنا، وهذا الأمر لا يخوفنا. ثم زادوا بحمل السلاح ونهب المال وسبي العرض وسب الدين، وغير ذلك من الفظائع. ولما زادوا عتوّاً وفتكاً، ولم يراقبوا حضرة الحق جل جلاله، أرسا الله تعالى من غضبه ريحاً شديدة على الشام ما رؤي مثلها في سالف الأيام، فقلعت الأشجار من أصولها وأرمت غالب الجدران، حتى ظنت الناس أن القيامة قد قامت.
وفي يوم الاثنين ثاني عشرين صفر من هذه السنة المذكورة بينما الناس قبل الظهر في أشغالهم، وإذا بضجة عظيمة وضرب بارود، فقيل ما الخبر، قيل ملكت الدالاتية القلعة، فسكّرت البلد وزاد الفزع في كل أحد، ولما بلغ الخبر للإنكشارية قاموا على قدم وساق. وقالوا أخذت منا القلعة يا شباب، واجتمعوا في باب الجابية بالسلاح الكامل ينتظرون القتال. ولما وصل الخبر لحضرة أسعد باشا فرح واستبشر ونادى: اطلبوا سوق ساروجا وجدّوا في الطلب. وأمرهم أن يتركوا جهة القبلة، وكان ذلك منه حيلة وخدعة. ثم نادى في عسكره نداء شاع في البلد بأن مراد أحمد بن القلطقجي وعبد الله بن حمزة ومن لهم من الأتباع، وكانا من رؤساء وأمراء سوق ساروجة. هذا والجنك يلعب بسوق ساروجة، وكأنه لم يكن حاكم بالشام إلا هم، فأراد الله تدميرهم. ثم أمر حضرة الباشا أن يوجهوا المدافع على سوق ساروجا، فوجهوا ما عليهم وأمر بضربها بالكلل فضربت، فما كان بأقل من حصة يسيرة حتى احترقت الدور وتهدمت البيوت، واحترق بيت القلطقجي وعدم عن آخره، ونهبت العساكر كل ما فيه، ثم سرى النهب في بقية الدور، فنهبوا وقتلوا ومثلوا وبدعوا وذهب الصالح والطالح، حتى صارت محلة سوق ساروجا قاعاً صفصفاً. وأما ابن القلطقجي فإنه فرّ هارباً بعد ما بذل من الشجاعة هو وجماعته الغاية القصوى. ثم أمر حضرة الباشا أن تدار المدافع على جهة الميدان فوجهوها، وكان رأس المفسدين بها مصطفى آغا بن خضري جربجي، حتى سمى نفسه سلطان الشام، وعنده زمرة من الأشقياء يتقوّى بهم، وبها أيضاً أولاد الدرزي أحمد آغا وخليل آغا ولهم بها دولة وصولة فحين بلغ هؤلاء المفسدين بأن حضرة أسعد باشا وجّه عليهم المدافع بالعساكر أوقع الله الرعب في قلوبهم، وركنوا للهرب والفرار، وطلبوا البراري والقفار. وبانهزامهم وهربهم تقطعت قلوب بقية من كان من الشجعان من أهل الميدان، فمنهم من هرب ولحق بساداتهم، ومنهم من قبر في المغاير والقبور، ومنهم من غطس في النهور. ولما وصلت للميدان المدافع لم يجدوا فيها من يدافع فأول ما اشتغلت العساكر بهدم دار ابن خضري، بعد ما نهبوا جميع ما فيها من المتاع وغيره، وكذلك فعلوا بدار ابن حمزة وبغيرها من الدور، حتى نهبوا نحواً من خمس مئة دار، وبعد ذلك اشتغلوا بهدم الدور التي نهبوها.
وأرسل حضرة أسعد باشا، أسعده الله وقوّاه، خبراً إلى مشايخ الحارات بها وأئمتهم بأن يقبضوا على بقية الأشقياء الموجودين، وإن لم يفعلوا يلزمهم بغرامة أموال عظيمة. فصاروا يتتبعون الأشقياء واحداً بعد واحد، ويقولون لحضرة الباشا: هذا الشقي فلان الفلاني، وهذا الآغا الفلاني، وهذا الشربجي الفلاني. وحضرة الباشا يأمر بضرب أعناقهم أمام باب السرايا وترك جسومهم تأكل منها الكلاب مدة طويلة، حتى صاروا عبرة لمن اعتبر. فسكنت بعد ذلك الشام، وصارت كقدح لبن، وصارت الناس في أمن وأمان، وسترت الأعراض. فملك الباشا البلد بنحو أرع مئة من العسكر الدالاتية. وقد أمنت البرية، فكان ذلك بهمته القوية بعد ما كانت تقول كبراء الميدان وأعوانهم: لو جاءنا عشر باشاوات ومنهم السلطان ما حسبنا لهم حساب، ولشرطنا ذنبهم بالطبنجيات. فانظر الآن، فقد صاروا أذل من الذباب وطعماً لأخس الكلاب. وأما أولاد ابن الدرزي فإنهم هربوا والتجأوا إلى عرب ابن كليب هم وأتباعهم، وأما ابن حمزة وأتباعه فإنهم فروا نحو طبريا والتجأوا بالظاهر عمر، وأولاد القلطقجي وأتباعهم فهربوا إلى جبل الدروز، والذي منهم وقع جعلوا جلده رقع، وكان أعظم مصيبة وخذلان لبيت حسن تركمان، قتل منهم خمسة رجال: حمزة بيك ومحمد آغا وحسن آغا وخليل آغا وسايسهم. وكانوا من المفسدين الظالمين المؤذين، مهتكين للحريم، سبابين للدين، عدا حمزة بيك فإنه كان بخلاف ذلك، فقد ذهب غلطاً وهدراً.
وقد زينت البلد، والمدافع تضرب صباحاً ومساءً مدة شهرين، والنوبة مع الألعاب النارية. وكفى الله المؤمنين القتال، وقطع دابر القوم الذين ظلموا. والحمد لله رب العالمين.
قال المؤرخ البديري: وقلت في وصفهم من المواليا:
أين الزلاقة التي كانت شبيه السيف
…
جزمات لا يشلحوها بالشتا والصيف
إن شاف واحد صديقه لا يقله كيف
…
ديك الزلاقة مضت يا حيفها يا حيف
وفي آخر ربيع الثاني أرسل حضرة أسعد باشا العظم عسكراً عظيماً إلى مدينة بعلبك، لقتل واليها الأمير حسين، فلم يجدوا له أثراً، فدخلت الأعوان ونهبوا وسلبوا وفعلوا ما فعلوا، ثم أتوا بثمانية رجال من أعيان بعلبك، ومن جملتهم مفتيها لدمشق الشام، فشنق مفتيها المذكور وضربت أعناق الباقين.
وفي تلك الأيام أرسل حضرة أسعد باشا جملة من العساكر إلى العرب، فجاؤوا برؤوس من العرب وجمال وأغنام وسلب وغير ذلك. وقد أرهب حضرة أسعد باشا المذكور الكبار والصغار، وعظم صيته حتى في البراري والقفار، وصاروا يضيفون لاسمه الحاج، ويقولون: الحاج أسعد باشا.
وفي هذه الأيام جاء من الدولة العلية قبجي ومعه من حضرة السلطان هدية ملوكية لحضرة الحاج أسعد باشا وهي كرك عظيم مفتخر وسيف ملوكي وخلع وتشاريف. وذلك لم يسبق لغيره من الوزراء والحكام، إلا إلى الوزير الأعظم صاحب الختم، إذا كان في سفر حرب وصار على يده فتوح بلدان، فسبحان المعطي المانح.
وكانت الدولة منذ أمد غير بعيد قد رفعت أرط القبوقول من الشام، ولم تر لفّات برمة. فأرسل حضرة أسعد باشا حفظه الله يطلب من الدولة أرطاً، فأرسلوا له أرطة أون طقوز، ودخلت بموكب عظيم، سرت أناساً وأكمدت أناسا.
وأرادت بعض الأشقياء أن تقيم رؤسها، فأخبروا حضرة الباشا بذلك، فأرسل يقول للآغا: كل من أدخله من أولاد الشام من غير جنسك لا يرجع اللوم إلا على نفسك. فانتظم الحال، وقويت دولة القبو قول في دمشق الشام، وبرموا اللفّات، ورجعت دولتهم أحسن مما كانت.
وفي جمادى الأولى من هذه السنة وصل الجراد للشام، وكان حولها سنين مخيم، فنزل على بساتينها، فأكل حتى لم يبق ولم يذر، فأرسل حضرة الباشا رجلين من أهل الخبرة يأتونه بماء السمرمر. ثم إن هذه السنة كانت كثيرة الأمطار والخيرات والفواكه والنبات. ومع ذلك فأهل الشام في شدة عظيمة من الغلاء، ونهض الأسعار في جميع البضائع. وكان حضرة أسعد باشا حفظه الله عمل ديواناً، وأرسل خلف بائعي القمح، وطلب منهم إحضار القمح وهددهم، فحلفوا له بأن ما عندهم شيء ولا يوجد. فقال لهم أنا عندي قمح كثير في حماة، فاطلبوه فأرسلوا يطلبون جميع ما يوجد من القمح خاصة حضرة الباشا وغيره، فجاءهم من حماه أحمال قمح بغير حساب، وباعوه في الشام على السعر الواقع. ومع ذلك فرطل الخبز بخمسة مصاري، وقد طالت هذه الشدّة.
وفي نهار الأحد بعد العصر خامس عشر جمادى الثانية من هذه السنة ضربت مدافع، فسألت الناس عن الخبر، فقيل: إن سعد الدين باشا أخا أسعد باشا جاءته رتبة وزارة، وجاءه طوخ. فهرعت أكابر الشام لأجل تهنئة أخيه أسعد باشا. وكان أسبقهم لتهنئة الباشا فتحي أفندي دفتر دار الشام، فلما رآه الباشا قام ودخل لدهليز الخزنة، فتبعه وجلس عنده، فأخرج أسعد باشا صورة عرض وأراه إياه، فأخذه فتحي أفندي وقرأه، وإذا فيه الأمر بقتله. وقال له حضرة الباشا ما تقول في هذا. فقال سمعاً وطاعة. لكن أنا في جيرتك فخذ من المال ما أردت وأطلقني، فقال له الباشا: ويلك يا خائن، أنا لم أنس ما فعلت في نساء عمي. ثم أمر برفع شاشه وقطع رأسه، فوضع في رقبته حبل، وسحب إلى خارج السرايا وقطع رأسه، وأرسل للدولة. ثم أمر الباشا أن تطاف بجثته في سائر شوارع الشام وطرقها وأزقتها ثلاثة أيام، ففعل به ذلك، وطيف به عرياناً مكشوف البدن وتركوه للكلاب، ثم دفنت جثته في تربة الشيخ رسلان، وأمر الباشا بالإحاطة على داره وعلى ماله والقبض على أعوانه، فألقوا القبض على خزنداره عثمان وعلى ولده فأمر بحبسهما، ثم أتوا بأكبر أعوانه وكان يلقب بالعفصا فقطع رأسه حالاً. وزادوا على أعوانه بالتفتيش، فقتل بعض أعوانه وخدامه، ثم ضبط الوزير تركته وأموال أتباعه جميعاً للدولة العلية، فبلغت شيئاً كثيراً، وتفرق الباقون أيدي سبا، كأن لم يكونوا وانقضت دولة كأنها طيف خيال.
قال المؤرخ البديري: ذلك بما كسبت يداه، فقد كان ظلوماً غشوماً بغيضاً لأهل الشام، يريد لهم الجور والظلم، لا يراعي الكبار ولا الصغار، إلا ناس من الأشرار، وهم من حزب الشيطان، قد اتخذهم عدّة لكل عدوان. وتحقيق أمره وخبر قصة البطش به ألخصها، وأنا الفقير مهذب التاريخ ومحرر هذه الورقات، فأقول: ذكر المرادي في آخر ترجمة فتحي الدفتري المذكور ما ملخصه: كان المترجم يراجع في الأمور حتى من الوزراء والصدور، طالت دولته وعظمت عليه من الله نعمته، واشتهر صيته وعلا قدره ونشر ذكره، لكنه كان يتصدى للاستطالة في أقواله وأفعاله، وأتباعه متشاهرون بالفساد والفسوق وشرب الخمور وهتك الحرمات، وهو أيضاً متجاهر بالمظالم، لا يبالي من دعوة مظلوم، ولا يتجنب الأذى والتعدّي، ونسب إلى شرب الخمر أيضاً وغير ذلك. فلذلك كانت أقرانه وغيرهم يريدون وقوعه في المهالك، ولما توفي الوزير سليمان باشا العظم والي دمشق الشام وأمير الحاج، وجاء من قبل الدولة الأمر بضبط أمواله ومتروكاته، نسب المترجم إلى أمور. وفي خلال ذلك تولى دمشق حاكماً وأميراً للحاج ابن أخيه الوزير أسعد باشا العظم الذي كان حاكماً في حماة، فأكمد للمترجم فعله المنسوب إليه حين وفاة عمه، ولم يره إلاّ ما يسرّه. وكان المترجم منتمياً إلى أوجاق اليرلية. وكان الأوجاق في ذلك الحين قواه قائمة وجيوشه بالفساد متلاطمة، وهم عصبة وجموع يذل لهم أكبر قرم بالمذلة والخضوع، قد أبادوا أهل العرض وانتهكوا الحرمات وأباحوا المحرمات، ولم يزالوا في ازدياد حتى عمَّ فسادهم البلاد والعباد. وكانت رؤساؤهم زمرة ضالّة وفئة متمردة وصاحب الترجمة فتحي أفندي يوليهم مكرماته ويمنحهم إحسانه وإنعاماته، وهم لبابه وفود، قد اتخذوه ركناً وسنداً، وأرباب العقول في دمشق في همّ وكدر وخوف وحذر، كل منهم متحيّر في أمره ومتخوف من هذا الحال وعوقب شرّه. وأمير الحاج وقتئذ والي دمشق أسعد باشا المذكور ناظر لهذه الحال. متحيّر من تلك الأحوال؛ لأن الشقي منهم كان يجيء إلى حبس السرايا ويخرج من أراد من المحبوسين من غير إذن أحد علناً وقهراً. وإذا مرّ الوزير المذكور بهم وهم جالسون لا يلتفتون إليه ولا يقومون له من مجالسهم عند مروره بهم، بل يتكلمون في حقه بما لا يليق بمسمع منه، فيتحمل مكارههم ولا يسعه إلا السكوت. واستمرّ أمرهم على ذلك، إلى أن كتب في حقهم للدولة العلية، فورد الأمر بقتلهم وإبادتهم، فأخفاه الوزير مدّة، ثم بعد ذلك أظهره، وشرع في قتلهم وإبادتهم، وأعطاه الله تعالى النصر، وفرجت عن دمشق الشدائد. ثم بعد أشهر قليلة كتب الوزير المذكور إلى الدولة العلية بخصوص صاحب الترجمة وما هو عليه، وأرسل الأوراق التي في حقه مع علي بيك كول أحمد باشا، وكان ذلك بتدبير خليل أفندي الصديقي وأعيان دمشق. ثم صادف أن صاحب الدولة كان حسن باشا، وكان يبغض المترجم فتحي لكونه لما جاء قريب حسن باشا المذكور وهو أحمد آغا آغات أوجاق الينكجرية طرده، وصار أخيراً وزيراً، فأدخل للسلطان أحواله، وعرفه طبق مكاتبة أسعد باشا. وكان أسعد باشا ضمن للدولة تركته بألف كيس، فجاء الخبر بقتله.
وكان قبل ذلك صار من أهل دمشق عرَض في خصوصه، فلم يفد وكان هو بإسلامبول، فأعطى العرض له، ولما جاء لدمشق صار يخرجه، وينتقم ممن اسمه مكتوب فيه. وكان السبب في ذلك وجود آغت دار السعادة بشير آغا، وكان المترجم منتمياً إليه، وكان للآغا المذكور نظر على المترجم وحماية، فصادف الأمر بالمقدور أن بشير آغا توفي وحان القضاء وآن وقته، فجاء الأمر بقتله، فقتل شر قتلة على الوجه الذي قدمناه، وبالتاريخ الذي ذكرناه.
وقد عمل البديري صاحب الأصل في واقعة فتحي الدفتري المذكور هذه المواليا، فقال:
يا ما فعل فتحي لما صار دفتردار
…
غرّه زمانه وسعده حول داره دار
دولاب عزه رقص يا ناس لما دار
…
لم يعتبر أن هذا الدهر بو غدار
ومع ماله من سيئات كان له حسنات ونفع في بعض الأوقات للأنام. فمن آثاره المدرسة التي في القيمرية، وأوقف جرايات وشوربة لطلبة العلم، وعمّر رصيف درب الصالحية، وعمّر الحمام في ميدان الحصا المسمى باسمه، والقهوة أيضاً. ومن أعظم آثاره تجديده لمنارتي تكية السليمانية التي في المرجة، وذلك بعد سقوطهما أيام الزلزلة، فأعيدتا أحسن مما كانتا، وله غير ذلك. غير أن سيئاته أكثر من حسناته. نسأله تعالى أن يتغمدنا بلطفه وعفوه، ويجيرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، فإنه قريب مجيب آمين.
وفي تلك الأيام جاؤوا بشيخ جيرود، وأخبر أسعد باشا بأنه قتل شخصاً، فسأله الباشا فأجابه، وقال إنه قد قتل أبي فقتلته، فأمر بقتله، فقتل حالاً. وفي يوم الأحد ثالث عشر رجب من السنة المذكورة توفي محمد آغا ابن الديري في داء الدوسنطارية، وقد كان مدركاً لأعمال أسعد باشا وأعمال أبيه إسماعيل باشا وعمه سليمان باشا، وكان وكيلاً للخرج، لكن عليه مدار كل الأعمال، وصاحب الكلمة النافذة عندهم، حتى قيل إنه صاحب كل حركة وقعت بالشام، وإنه مرتكب للفواحش من شرب خمر وغيره مع إيذائه للرعايا. وكان أيام الفتن يمشي قدام الدالاتية يسلب وينهب ويخرب بيوت الإنكشارية، وقد أتى بأحجار بيوتهم وأخشابهم وعمّر بها دارا، فما تمت العمارة حتى هلك مع الهالكين وضبط الباشا ماله ونواله، وذهب مع الذاهبين.
وثاني يوم موته قتل الباشا عثمان آغا خزندار فتحي أفندي الدفتردار كما قدّمنا، وقتل معه أحمد آغا الشربجي خزندار فتحي الثاني، وضبط مالهما.
وبهذا اليوم، وهو يوم الاثنين رابع عشر رجب، جاؤوا بماء السمرمر، وطلعت لملاقاته المشايخ وأهل الطرق بالأعلام والمزاهر وطبول الباز، ودخلوا بموكب عظيم بكت فيه خلق كثير، وعلقوه بمنارة الشيخ الأكبر في الصالحية، وفي منارة تكية المرجة، وفي منارات الجامع الأموي، وأبقوا في السرايا قِرَب من ماء السمرمر، وذكروا أن مرادهم أن يعلِّقوهم في أراضي حوران.
هذا والغلاء قائم على قدم وساق، لم يقع مثله في قديم الزمان، فرطل الخبز وصل إلى سبع مصاري، والوسط بستة، والرديء الدون بخمسة مصاري، ورطل الكعك بخمسة عشر مصرية، ورطل الرز بعشرة مصاري، وأوقية السمن بخمسة مصاري في وقت جلبه وأوقية الطحينة بخمسة مصاري، وأوقية السيرج بخمسة مصاري، وأوقية القريشة بثلاث مصاري، وكذلك الجبن والدبس الرطل بثمانية عشر مصرية، ورطل العسل بقرش ونصف، ومدّ الملح وصل ثمنه للعشرين مصرية، ومد الحمص بثلاث أرباع المصرية، وكذلك العدس. وأغرب من ذلك مع كثرة الفاكهة رطل التين الطري بأربعة مصاري، والكوسا كل ثلاثة بمصرية، والباذنجان الرطل بثمانية مصاري، وكل يقطينة بأربعة مصاري، ورطل اللحم بنصف قرش والبطيخة بنصف ربع ريال، إن كانت صفراء أو خضراء، والخيار الرطل بمصريتين. وقد دام هذا الأمر سبع أو ثمان سنين، لكن في هذا العام قد زاد الحد، والحكام لم يفتشوا على الرعية، وهذا مع قلة البيع والشراء والكساد وكثرة الديون على العباد، وظلم بعضهم البعض، وقد ضاقت على العباد فسيح الأرض والحكم لله.
وفي يوم الأحد الحادي والعشرين من شهر رجب في هذه السنة تسع وخمسين ومئة وألف جمع حضرة أسعد باشا العظم أكابر الشام وأعيانها في المحكمة، ووقف جميع أملاكه على أولاده، ثم على أولاد أولاده على حسب ما اشترط في الوقفية، وفرّق على أولاد عمه ما كان لهم، وقد كان ضبط مال محمد آغا ابن الديري وعمل حسابه على عقله، فظهر لحضرة أسعد الباشا أنه قد تبقى له مع ابن الديري المذكور اثنا عشر كيساً. ثم جاءت الأصناف وأخبرت حضرة الباشا بأن لهم متبقى في ذمة ابن الديري من أيام أبيك إسماعيل باشا وعمك سليمان باشا. وفي أيام دولتك اثنا عشر ألف قرش ولجوا في طلبها. فقال: الحقوه وخذوهم منه، فأنا باقي لي معه اثنا عشر كيس ذهب، فليس لكم فائدة في هذا الطلب، فكل منهم ترك ماله عند الله وذهب.
وفي ليلة الجمعة لخمسة وعشرين من شهر رجب خرج أسعد باشا إلى الدورة من هذه السنة. وفي ليلة الثلاثاء التاسعة والعشرين من شهر رجب من هذه السنة توفي مصطفى أفندي زاده قاضي الشام، وصار ولده نائباً عنه بمكانه.