الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(يَا علو لَو شِئْت أبدلت الصدود لنا
…
وصلا ولان لصب قَلْبك القاسي)
(هَل لي سَبِيل إِلَى الطهران من حلب
…
ونشوة بَين ذَاك الْورْد والآسى)
وكقول ابْن الخفاجي
(وَحل عُقُود المزن فِي حجراته
…
نسيم بأدواء الْقُلُوب خَبِير)
(فَمَا ذكرته النَّفس إِلَّا تبادرت
…
مدامع لَا يخفى لَهُنَّ ضمير)
وكقول أبي فراس
(الشَّام لَا بلد الجزيرة لذتي
…
وقويق لَا مَاء الْفُرَات منائي)
(وأبيت مُرْتَهن الْفُؤَاد بمنيح
…
الزَّوْرَاء لَا بالرقة الْبَيْضَاء)
وكقول الْمُهَذّب عِيسَى الْحلَبِي
(يَا حبذا التلعات الْخضر من حلب
…
وحبذا طلل بالسفح من طلل)
(يَا سَاكِني الْبَلَد الْأَقْصَى عَسى نفس
…
من سفح جوشن يطفى لاعج الغلل)
وكقول أبي بكر الصنوبري
(قويق على الصَّفْرَاء ركب مَتنه
…
رباه بِهَذَا شَاهد وحدائقه)
(فَإِن جد جد الصَّيف غادر جِسْمه
…
ضيئلاً وَلَكِن الشتَاء يُوَافقهُ)
وَهَذَا الْبَاب وَاسع جدا فلنقتصر مِنْهُ على هَذَا الْمِقْدَار فَفِيهِ غنية وجوشن اسْم مَوضِع بحلب وقويق بِضَم الْقَاف على فعيل مصغر أنهر صَغِير بِظَاهِر حلب يجْرِي فِي الشتَاء وَالربيع وَيَنْقَطِع فِي الصَّيف وَقد ذكرته الشُّعَرَاء فِي أشعارهم كثيرا وبطياس بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَسُكُون الطَّاء الْمُهْملَة وَفتح الْيَاء الْمُثَنَّاة من تحتهَا وَبعد الْألف سين مُهْملَة وَهِي قَرْيَة كَانَت بِظَاهِر حلب ودثرت وَلم يبْق مِنْهَا الْيَوْم أثر وبانقوسا وبابلي مكانان معروفان بحلب انْتهى ووفاة سرُور كَانَت فِي حُدُود الْعشْرين بعد الْألف بالتقريب كَمَا يرشد إِلَى ذَلِك مدائحه فِي بني سَيْفا وَالله أعلم
سعد الدّين بن مُحَمَّد بن حُسَيْن بن حسن وَتقدم ذكر تَتِمَّة نسبه فِي تَرْجَمَة أَخِيه إِبْرَهِيمُ الشَّيْخ الْجواد المربي الدِّمَشْقِي القبيباتي الجباوي الشَّافِعِي أحد مَشَايِخ الصُّوفِيَّة بِدِمَشْق تولى مشيخة بَيتهمْ بعد أَخِيه مُحَمَّد وتصدى لتلقي الصُّوفِيَّة وَالزُّوَّارِ بزاويتهم الْمَعْرُوفَة بهم بمجلة القبيبات وَكَانَ يُقيم ميعاد الذّكر يَوْم الْجُمُعَة بالجامع الْأمَوِي وعلت كَلمته وعظمت حرمته وَأَنْشَأَ أملاكاً وعقارات كَثِيرَة وَحج فِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف فَتوفي بمنى وَحمل إِلَى مَكَّة وَدفن بالمعلاة عِنْد العرابي وَكَانَت
وَفَاته فِي خَامِس عشر ذِي الْحجَّة من هَذِه السّنة
سعودي بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْغَزِّي العامري الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي مفتي الشَّافِعِيَّة بِدِمَشْق وَابْن مفتيها وَابْن ابْن مفتيها رُؤَسَاء الْعلم بِالشَّام وكبراؤه وشهرة بَيتهمْ لَا تحْتَاج إِلَى بَيَان وَكَانَ سعودي هَذَا فَاضلا وجيهاً رَقِيق الطَّبْع متساوي الْأَطْرَاف أَخذ الْفِقْه والْحَدِيث عَن جده لأمه الشهَاب أَحْمد العيثاوي الْمُقدم ذكره وَعَن وَالِده النَّجْم وسافر فِي خدمته إِلَى الْحَج فِي سنة أَربع عشرَة بعد الْألف وَإِلَى الرّوم فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَلما حج وَالِده فِي سنة سبع وَأَرْبَعين أَقَامَهُ مقَامه فِي خدمَة فَتْوَى الشَّافِعِيَّة فباشرها وَظَهَرت كِفَايَته وحمدت سيرته ثمَّ مَاتَ أَبوهُ فِي سنة سِتِّينَ فاستقل بهَا وَأعْطى عَنهُ الْمدرسَة الشامية البرانية ودرس الحَدِيث تَحت قبَّة النسْر من جَامع بني أُميَّة وابتدأ من مَحل انْتهى إِلَيْهِ درس وَالِده فِي صَحِيح البُخَارِيّ وَكَانَ وقف فِي آخر درس قَرَأَهُ على بَاب الْبكاء على الْمَيِّت وَاسْتمرّ مُدَّة يُفْتِي ويدرس وَله الْقبُول التَّام والتقدم بَين أَبنَاء نَوعه وَكَانَ حسن المطارحة وَالْأَدب وينسب إِلَيْهِ من الشّعْر شَيْء قَلِيل فَمن ذَلِك مَا رَأَيْته مَنْسُوبا إِلَيْهِ فِي بعض المجاميع وَلَا أتحققه وَذَلِكَ قَوْله فِي صَاحب لَهُ
(لي صَاحب فِي نَقله مَا حكى
…
للكذب عَن آبَائِهِ وَارِث)
(فَكل مَا يَنْقُلهُ مثل مَا
…
قَالَ الحريري حكى الْحَارِث)
وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي أواسط ذِي الْقعدَة سنة إِحْدَى وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة آبَائِهِ بتربة الشَّيْخ أرسلان قدس الله تَعَالَى سره الْعَزِيز
سعيد بن عبد الرَّحْمَن بابقي الْحَضْرَمِيّ القيدوني بَلَدا الدوعني جِهَة الشَّيْبَانِيّ نسبا ثمَّ الْمَكِّيّ الشَّافِعِي الإِمَام الرباني والعارف الصمداني كَانَ من العارفين بِاللَّه تَعَالَى الواقفين مَعَ الْكتاب وَالسّنة وَكَانَ يتَكَلَّم عَن طَرِيق الصُّوفِيَّة بِمَا يبهر الْأَلْبَاب وَيحل مشكلات الْمُحَقِّقين على الْوَجْه الصَّوَاب مَعَ كَثْرَة الْعِبَادَة والتلاوة لِلْقُرْآنِ والتوجه إِلَى الله تَعَالَى فِي سره وعلانيته ولد كَمَا أخبر هُوَ بِهِ بعض تلامذته يَوْم الْجُمُعَة عَاشر الْمحرم سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَحفظ الْقُرْآن واشتغل بِالْعلمِ على كثيرين من الحضارمة واليمنيين وساح مُدَّة مديدة فِي الْيمن وَدخل الْهِنْد وجال فِي بِلَاده ثمَّ رَجَعَ إِلَى عدن ورحل مِنْهَا إِلَى الْحَرَمَيْنِ وَأقَام بِمَكَّة وَأخذ بهَا عَن الْأُسْتَاذ
وَأنْشد لَهُ التقى الفارسكوري فِي كِتَابه المدائح قصيدة مدح بهَا شيخ الْإِسْلَام يحيى ابْن زَكَرِيَّا ومطلعها
(أيا عَالما فَضله كَامِل
…
وإحسانه للورى شَامِل)
(وَمن هُوَ للْعلم فِي ذرْوَة
…
يقصر عَن نيلها الْفَاضِل)
(أُعِيذك من أَن يرى فَاضل
…
بدولتكم ذكره خامل)
وَكَانَ قَاضِيا من قُضَاة القصبات بِبِلَاد أناطولي وَولي مناصب عديدة ونسبته ومولده ووفاته لم أطلع عَلَيْهَا مَعَ السُّؤَال إِلَّا أَن هَذِه القصيدة الْأَخِيرَة تدل على أَنه كَانَ مَوْجُودا فِي سنة ثَلَاث عشرَة بعد الْألف فَإِنَّهُ ترجى فِيهَا منصبا من ممدوحه الْمَذْكُور وَهُوَ قَاضِي أناطولي فِي التَّارِيخ الْمَذْكُور
(حرف الْعين الْمُهْملَة)
عَامر بن شرف الدّين الْمَعْرُوف بالشبراوي الشَّافِعِي الْمصْرِيّ الإِمَام الْهمام الْعَالم الْكَبِير الرحلة كَانَ فِي عصره من الْمشَار إِلَيْهِم بِالْفَضْلِ التَّام وَله بَين عُلَمَاء الْأَزْهَر الْموقع الْعَظِيم لَا يزَال مُحْتَرما موقراً جليل الشَّأْن وَهُوَ من جِهَة وَالِده عريق فِي الْفضل وَمن جِهَة والدته أصيل فِي الْولَايَة فَإِن والدته فَاطِمَة بنت خَدِيجَة بنت الشَّيْخ القطب مُحَمَّد الشناوي أَتَت بِهِ وَهُوَ صَغِير إِلَى الْأُسْتَاذ الْكَبِير عبد الْوَهَّاب الشعراني وَقَالَت لَهُ ادْع لَهُ فَدَعَا لَهُ وَغسل لَهُ يَدَيْهِ بِنَفسِهِ نفع الله تَعَالَى بِهِ روى الْفِقْه عَن الشَّمْس الرَّمْلِيّ والنور الزيَادي وَسَالم الشبشيري وَأخذ الحَدِيث عَن أبي النجا سَالم السنهوري وَسمع عَلَيْهِ الْكتب السِّتَّة كملاً وَكَانَ يفتخر بذلك على أقرانه من مَشَايِخ مصر ولازم فِي عُلُوم الْعَرَبيَّة أَبَا بكر الشنواني فِي نَحْو عشْرين سنة وَهُوَ من أجل تلامذته وَأَجَازَهُ شُيُوخه وبرع فِي كثير من الْعُلُوم وَصَارَ أوحد وقته فِي الْفتيا والمرجع فِي القضايا المشكلة وَكَانَ مَشْهُورا بالصلاح واستجابة الدُّعَاء وَكَانَ كثير الْعِبَادَة ملازماً للسيرة النَّبَوِيَّة مواظباً على الدُّرُوس والإفتاء وَكَانَ غَايَة فِي الْحِفْظ والاستحضار والإتقان وروى عَنهُ أَنه قَالَ أحفظ أَرْبَعَة عشر ألفية فِي فنون الْعُلُوم وكف بَصَره آخر عمره وَاسْتمرّ على بَث الْعلم ونشره وَاجْتمعَ بِهِ وَالِدي فِي رحلته إِلَى مصر وترجمه بالشيخ الْكَامِل والعالم الْفَاضِل حائز للعلوم والعرفان وفائز بالقدح الْمُعَلَّى من التَّحْقِيق والإتقان علم الْعلم وَالْهَدْي ومنار الْفضل والتقى بِيَدِهِ عنان الفواضل فيمنح بهَا كل مُحْتَاج وَمَالك أزمة الْفَضَائِل فينشرها
على كل لائذ وراج زبدة الْعلمَاء الراسخين الأخيار وعمدة الجهابذة المتورعين الْأَبْرَار وَكَانَت وَفَاته فِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بتربة المجاورين هَكَذَا رَأَيْته بِخَط بعض الأفاضل ثمَّ رَأَيْت بِخَط صاحبنا الْفَاضِل إِبْرَاهِيم الجنيني أَن وَفَاته كَانَت فِي غرَّة الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ ثمَّ تحرر عِنْدِي من تَارِيخ الشلي ووفيات الْأَخ الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله أَنه توفّي يَوْم الْجُمُعَة ثَانِي الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ فاعتمدت عَلَيْهِ لكَون من تحرر عَنْهُمَا أمس النَّاس بأحوال وفيات عُلَمَاء مصر وَالله أعلم
عَامر بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الرشيد بن أَحْمد بن الْأَمِير الْحُسَيْن بن الْأَمِير عَليّ بن يحيى الْعَالم الْبر بن مُحَمَّد الْعَالم التقي بن يُوسُف الأشل بن الدَّاعِي الإِمَام يُوسُف الْأَكْبَر ابْن الإِمَام الْمَنْصُور يحيى ابْن الإِمَام النَّاصِر أَحْمد وَبَقِيَّة النّسَب مَذْكُورَة فِي تَرْجَمَة الإِمَام إِسْمَاعِيل المتَوَكل صَاحب الْيمن ذكره القَاضِي أَحْمد بن صَالح بن أبي الرِّجَال فِي تَارِيخه مطلع البدور وَمجمع البحور فَقَالَ السَّيِّد الشَّهِيد الْعَالم الفريد الْأَمِير الْكَبِير كَانَ فَاضلا رَئِيسا سرياً عالي الهمة عَارِفًا نَهَضَ مَعَ ابْن أَخِيه الإِمَام الْقَاسِم بن مُحَمَّد فنازل الْمُلُوك وطارح الْكِبَار وفل الشَّوْكَة وَعلا صيته وَكَانَت لَهُ مشَاهد عَظِيمَة مَعَ الْأُمَرَاء أهل كوكبان وجنود الأروام وأفضى أمره إِلَى السَّعَادَة على نهج سلفه الْكِرَام غير أَنه زَاد بالمثلة فَإِنَّهُ سلخ جلده وذر عَلَيْهِ الْملح وَلم يزل كل يَوْم يُؤْخَذ مِنْهُ شَيْء حَتَّى انْتهى وقبره بِخَمْر وَكَانَ مَا وصفناه من الْمثلَة بحمومة من أَعمال خمر وَيُقَال إِن رَأسه بِصَنْعَاء وَقد بنى عَلَيْهِ وَلَده عبد الله قبَّة وَله تَرْجَمَة وَضعهَا شَيخنَا الْعَلامَة أَحْمد بن سعد الدّين وترجمه بعض أحفاده فَذكر شَيْئا من جميل حَاله وَقَالَ مولده سنة خمس وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَنَشَأ على السِّيَادَة وَالطَّهَارَة وَطلب الْعلم وَقَرَأَ على القَاضِي الْعَلامَة عبد الرَّحْمَن بمحرفة هَكَذَا قَالَ عبد الرَّحْمَن وَلم يكن مر بسمعي فَائِدَة فَائِدَة أُخْرَى وَقَرَأَ كتب النَّحْو وَالْأَدب والكشاف على السَّيِّد الْفَاضِل عُثْمَان بن عَليّ ابْن الإِمَام شرف الدّين بشبام قبل دَعْوَة الإِمَام الْقَاسِم وَسكن بأَهْله هُنَاكَ يطْلب الْعلم وَلما دَعَا الإِمَام بِبِلَاد قاره كتب إِلَيْهِ فوصل إِلَى شوذة شظب وَتوجه بجُنُوده فَافْتتحَ من بلَاء الْأُمَرَاء آل شمس الدّين كثيرا وَكَانُوا أعضاد الْوَزير الْحسن والكتخدا سِنَان فَمَا زَالَ كَذَلِك من سنة سِتّ وَألف إِلَى سنة ثَمَان وَألف ثمَّ عَابَ فِيهِ جمَاعَة من أهل قاعة وَكَانَ قد تزوج امْرَأَة هُنَالك وتفرّق
عَنهُ أَصْحَابه وَلم يبْق إِلَّا هُوَ وقصده جمَاعَة من الأتراك فأحاطوا بِهِ ثمَّ أسروه وأدخلوه شبام فطافوا بِهِ فِي كوكبان وشبام وأمير كوكبان يَوْمئِذٍ عَليّ بن شمس الدّين ثمَّ إِن عليا بن شمس الدّين أرسل بِهِ مَعَ جمَاعَة من التّرْك إِلَى حمومة من بني صويم إِلَى الكتخدا سِنَان فَأمر أَن يمثل بِهِ فسلخ جلده قَالَ الإِمَام الْقَاسِم وصبر فَلم يسمع لَهُ أَنِين وَلَا شكوى إِلَّا قِرَاءَة قل هُوَ الله أحد وَكَانَ سلخ جلده يَوْم الْأَحَد الْخَامِس عشر من رَجَب سنة ثَمَان بعد الْألف ثمَّ إِن سِنَان مَلأ جلده تبناً وَأرْسل بِهِ على جمل إِلَى صنعاء إِلَى الْوَزير حسن فشهر جلده على الدهابر على ميمنة بَاب الْيمن مِمَّا يَلِي الشرق وَسَائِر جسده دفن فحمومة ثمَّ نقل إِلَى خمر بِأَمْر الإِمَام الْقَاسِم وقبره مَشْهُور مزور لَهُ التعظيمات وَالنُّذُور ثمَّ احتال بعض النَّاس فِي الْجلد فأسقطه إِلَى تَحت الداير وَدَفنه على خُفْيَة وَعَلِيهِ ضريح وقبة على يسَار الْخَارِج من بَاب الْيمن وَقد ترْجم لَهُ الإِمَام الْقَاسِم تَرْجَمَة بِخَطِّهِ فِي نُسْخَة الْبَحْر الَّتِي للْإِمَام وَترْجم لَهُ السَّيِّد الْعَلامَة صدر الْعلمَاء أَحْمد بن مُحَمَّد الشرفي وَالْقَاضِي الْعَلامَة أَحْمد بن سعد الدّين ورثاه بقصيدة مِنْهَا
(أزائر هَذَا الْقَبْر حييت زَائِرًا
…
ونلت بِهِ سَهْما من الْأجر قامرا)
(وأدّيت حق الْمُصْطَفى ووصيه
…
فهنيت لما زرت فِي الله عَامِرًا)
(سليل الْكِرَام الشم من آل أَحْمد
…
وَمن كَانَ للدّين الحنيفي عَامِرًا)
(وَعم الإِمَام الْقَاسِم بن مُحَمَّد
…
إِمَام الْهدى من قَامَ لله ناصرا)
(وَمن شدّ أزراً مِنْهُ حِين دَعَا إِلَى
…
رضى ربه أكْرم بذلك آزرا)
(فقلده الْمَنْصُور سَيْفا مهنداً
…
وَكَانَ لَهُ فِي وَجه أعداه شاهرا)
(وَكَانَ لَهُ من موقف شهِدت لَهُ
…
أعاديه أَن فاق الْأَوَائِل آخرا)
عَامر بن مُحَمَّد الصباحي نِسْبَة إِلَى بيضًا صباح قَرْيَة مَشْهُورَة فِي مشارف الْيمن تغرب من قرن الْمَنْسُوب إِلَيْهَا أَو بس الْقَرنِي على نَحْو مرحلَتَيْنِ ذكره ابْن أبي الرِّجَال أَيْضا فِي تَارِيخه الْمَذْكُور فَقَالَ القَاضِي الْعَلامَة المذاكر شيخ الْأَئِمَّة ولسان الْفِقْه وإنسان عينه كَانَ وحيد وقته فريد عصره إِلَيْهِ النِّهَايَة فِي تَحْقِيق الفروغ ينْقل عَنهُ النَّاس ويقررون عَنهُ قَوَاعِد الْمَذْهَب رَحل فِي مبادى أمره إِلَى ذمار وَلَقي شيوخها الْمُحَقِّقين وَحصل على قشف فِي الْعَيْش وَشدَّة فِي الْأَمر يرْوى عَنهُ أَنه كَانَ لَا يملك غير فرو من جُلُود الضَّأْن وَكَانَ إِذا احْتَلَمَ غسله للتطهير ثمَّ يلْبسهُ أَخْضَر
لِأَنَّهُ لَا يجد غَيره وَكَانَ مواظباً على الْعلم أَشد الْمُوَاظبَة أَيَّام هَذِه الشدَّة الْمَذْكُورَة وَكَانَ أَبوهُ من أهل الثروة وَالْمَال لكنه حبس وأوذي فِي الله تَعَالَى من قبل الأتراك لموالاته أهل الْبَيْت ثمَّ رَحل القَاضِي إِلَى صنعاء وَأقَام بهَا ودرس ورحل إِلَى شيخ الزيدية إِمَام الْفُرُوع وَالْأُصُول إِبْرَاهِيم بن مَسْعُود الْحِمْيَرِي إِلَى الظهرين وَكَانَ إِذْ ذَاك بَقِيَّة الْعلمَاء وَله بالتذكرة خُصُوصا فرط الْفِقْه فَطلب القَاضِي عَامر أَن يقرئه فِيهَا فَأَجَابَهُ وَلم يستعد لتدريسه لظَنّه أَنه من عَامَّة الطّلبَة فَلَمَّا اجْتمعَا للْقِرَاءَة رأى فِي القَاضِي عَامر حضارة وحافظية وَمَعْرِفَة كَامِلَة فَقَالَ لَهُ يَا وَلَدي لست بصاحبك الْيَوْم فاترك الْقِرَاءَة فَتَركهَا ثمَّ استعد لَهَا فاستخرج ببحثه من جَوَاهِر علم القَاضِي نفائس وذخائر وعلق بِهِ ثمَّ إِنَّه عاوده بالرحلة إِلَيْهِ للزيارة فَأكْرمه الْفَقِيه صارم الدّين وَأمر النَّاس بإكرامه ورحل إِلَيْهِ من صنعاء لمسئلة وَاحِدَة أشكلت عَلَيْهِ غَابَتْ عني مَعَ معرفتي لَهَا لَوْلَا طول الْعَهْد رُوِيَ أَنَّهَا أشكلت عَلَيْهِ فَلم يبت إِلَّا فِي الطَّرِيق قَاصِدا إِلَى حجه ورحل القَاضِي إِلَى صعدة فَقَرَأَ الحَدِيث على شَيْخه الْوَجِيه عبد الْعَزِيز الْبَصْرِيّ الْمَعْرُوف ببهران وَلَقي الإِمَام الْحسن وَصَحبه وَمَا زَالَ حلفا للصالحات مواظباً على الْخيرَات وَلما دَعَا الإِمَام الْقَاسِم الْمَنْصُور بِاللَّه وَهُوَ يَوْمئِذٍ بِصَنْعَاء فَخرج إِلَيْهِ وَصَحبه وَقَرَأَ عَلَيْهِ الإِمَام كتاب الشِّفَاء ثمَّ ولي الْقَضَاء بِولَايَة يعز نظيرها فَإِنَّهُ كَانَ من الْحلم والأناة وَالْوَفَاء بِمحل لَا يلْحق وَكَانَ وحيداً فِي الْعلم وصادقاً فِي كل عَزِيمَة قولية أَو فعلية فزاده الله تَعَالَى الْجَلالَة والمهابة فِي المصدور إِذا برز فِي الْجَامِع خضع النَّاس شاخصين إِلَيْهِ مَعَ كَمَال صورته وَطول قامته وَكَانَ لذَلِك الْجلَال الرحماني لَا يحْتَاج للأعوان بل يبرز للْقَضَاء وَإِذا أَرَادَ حبس أحد من أجلاء الرِّجَال وأعيان الدولة الْتفت إِلَى أقرب النَّاس إِلَيْهِ كَائِنا من كَانَ فَأمره بِالْمَسِيرِ بِهِ إِلَى الْحَبْس فَلَا يَسْتَطِيع أحد الِامْتِنَاع عَن أمره وَهُوَ الَّذِي قوى أعضاد الدولة المؤيدية وَكَانَ الصَّدْر يَوْمئِذٍ غير مدافع وَاسْتقر بِحَضْرَة الإِمَام الْمُؤَيد بِاللَّه مُدَّة ثمَّ نَهَضَ إِلَى جِهَة خولان الْعَالِيَة فاستوطن وَادي عَاشر وابتنى بهَا دَارا عَظِيمَة من أحسن الْمنَازل تولى بناءها وَلَده الْعَلامَة الْأَمِير شرف الدّين الْحسن بن أَمِير الْمُؤمنِينَ أَحْمد بن عَامر فهيأها للضيوف على قدر ههمته وَكَانَ مضيافاً كَرِيمًا وَلما اسْتَقر القَاضِي بعاشر انْتفع بِهِ الْعَامَّة والخاصة ورحل إِلَيْهِ الْفُضَلَاء للْقِرَاءَة كَالْقَاضِي الْمُحَقق مُحَمَّد بن نَاصِر بن دعيش وَكَانَ أحد رُوَاة أخباره قَالَ وَكَانَ لَا يتْرك الْأَشْرَاف على التَّذْكِرَة فِي الْفِقْه كل يَوْم
يطالع فِيهَا وَمن رُوَاة أخباره تِلْمِيذه أَمِير الْمُؤمنِينَ المتَوَكل على الله إِسْمَاعِيل بن الإِمَام الْمَنْصُور بِاللَّه الْقَاسِم بن مُحَمَّد فَإِنَّهُ الَّذِي تولى تهذيبه وَكَانَ مُولَعا بِهِ ويخصصه بمزايا حَتَّى إِنَّه كَانَ لَا يقبل فِي مجْلِس الْقِرَاءَة أُمُور يعتادها الطّلبَة إِلَّا من الامام فَكَانَ يقبلهَا مِنْهُ لِكَثْرَة محبته إِلَيْهِ وتنويره وَكَانَ يتَوَلَّى عظائم الْأُمُور ورحل إِلَى صنعاء لعقد عقده بَين الأروام وَالْإِمَام واستنهض الإِمَام لِحَرْب الأروام وَلما كثرت كتب خولان الْعَالِيَة والحدا وَمن قابلهم من قبائل الزيدية إِلَى القَاضِي عَامر يستنهضونه لاستنهاض الإِمَام لِلْخُرُوجِ على التّرْك وَكَانَ الإِمَام قد فعل لكنه احْتَاجَ إِلَى الكتم حَتَّى من القَاضِي على جلالته فَدخل يَوْمًا إِلَيْهِ وعنف الإِمَام فَأخْبرهُ بِأَن أخوته قد خَرجُوا مِنْهُم من جَاءَ من الْمغرب وَهُوَ الْحُسَيْن وَمِنْهُم من جَاءَ من الْمشرق وَهُوَ الْحسن وَمِنْهُم الْمُتَوَسّط بَينهمَا وَهُوَ أَحْمد قَامَ القَاضِي على وقاره وَكبر سنه فحجل كَمَا فعل جَعْفَر بن أبي طَالب رضي الله عنه وَهُوَ أحد السّنَن المأثورة وَلم يكن بَين وَفَاته وَبَين وَفَاة وَلَده أَحْمد إِلَّا أَيَّام قَليلَة وَمِمَّا يَنْبَغِي أَن ينْقل وَإِن كَانَ بترجمة وَلَده أَحْمد أليق لكنه اقْتضى الْحَال كِتَابَته هُنَا وَهُوَ أَن أَحْمد بن عَامر لما تمّ لَهُ الْحُضُور مَعَ أَبنَاء الإِمَام فِي حروب زبيد اسْتَأْذن الْحسن بن الْقَاسِم فِي زِيَارَة وَالِده فَقَالَ لَهُ ابْن الإِمَام قد عزمنا على الطُّلُوع جَمِيعًا فَتَأَخر لَهُ يويمات فَرَأى القَاضِي أَحْمد فِي الْمَنَام رجلَيْنِ يَقُول أَحدهمَا للْآخر اقبض روحه فَيَقُول الآخر لَا أَقبض روحه فَإِن لَهُ أَبَا شَيخا كَبِيرا قد سَأَلَ الله تَعَالَى أَن يرِيه إِيَّاه فَلَا أَقبض روحه حَتَّى يصل إِلَيْهِ فَلَمَّا اسْتَقر هَذَا فِي ذهنه دخل إِلَى الْحسن وألح عَلَيْهِ فِي الْفَسْخ وَلَعَلَّه أسره بذلك فَأذن لَهُ فطلع حَتَّى وصل إِلَى ذمار وَكَانَ هُنَالك صفي الدّين أَحْمد ابْن الإِمَام فَأكْرمه وعظمه وعول عَلَيْهِ فِي الْإِقَامَة عِنْده أَيَّامًا ليتصحح وَيَزُول عَنهُ وعثاء السّفر وَكثر عَلَيْهِ فِي ذَلِك فَرَأى القَاضِي الرجلَيْن الْأَوَّلين يَقُول أَحدهمَا لصَاحبه اقبض روحه فَإِنَّهُ أَبْطَأَ وتراخى وَلم يبْق لَهُ فِي الْأَجَل سَعَة فَأَجَابَهُ الآخر بِمَا أَجَابَهُ بِهِ أَولا فتيقظ القَاضِي لنَفسِهِ وعزم على الْمُبَادرَة فَلَمَّا وصل إِلَى هِجْرَة مشوكان وَهِي بِالْقربِ من وَادي عَاشر مسكن وَالِده فوصل إِلَيْهِ الْقَبَائِل والشيوخ فَإِنَّهُ كَانَ صدر آمن الصُّدُور فصدوه عَن زِيَارَة وَالِده فَرَأى الرجلَيْن فَقَالَ أَحدهمَا مَا قَالَ أَولا وَذكر أَن القَاضِي ترَاخى فَأَجَابَهُ الآخر أجَاب ثمَّ قَالَ يكون لَهُ مهلة حَتَّى يزور وَالِده وَيبقى خَمْسَة أَيَّام ثمَّ نقبض روحه فَتوجه القَاضِي مبادراً إِلَى حَضْرَة وَالِده فَتَلقاهُ
وَحصل بِهِ الْأنس ثمَّ أوصى وَصِيَّة عَظِيمَة وَهُوَ كَامِل الْحَواس وَلما كَانَ الْيَوْم الْخَامِس أشعر وَالِده وودعه ثمَّ قبض الله تَعَالَى روحه فَتَوَلّى وَالِده أَعماله وَدَفنه بَقِيَّة هُنَاكَ وَقَامَ كالخطيب فِي النَّاس ووعظهم وَذكرهمْ حَتَّى بَكَى الْحَاضِرُونَ وَكَانَ القَاضِي عَامر لَا يتْرك كل يَوْم وَلَيْلَة ثَلَاثَة أَجزَاء من الْقُرْآن على الإستمرار وَيَدْعُو بِدُعَاء الصَّحِيفَة وَيَقُول أَنا أستحي من الدُّعَاء بِهِ لما فِيهِ من التذلل وَذكر الْبكاء والنحول ولسنا كذالك بتصاغر كَمَا جرت عَادَة الْفُضَلَاء وروى عَنهُ أَنه كَانَ لَهُ راتب لَا سم من أَسمَاء الله تَعَالَى الْحسنى فَحَضَرَ عِنْده خَادِم الأسم فَقَالَ مَا تُرِيدُ مني فَقَالَ مَا أُرِيد مِنْك شَيْئا فَقَالَ هَذَا الْعدَد الَّذِي صرت ترتبه من هَذَا الإسم يَسْتَدْعِي حضوري فَإِن كنت لَا تُرِيدُ إِلَّا الذّكر فزد على هَذَا الْعدَد أَو انقص وَكَانَت وَفَاته فِي حادي عشر شهر رَمَضَان سنة سبع وَأَرْبَعين وَألف وقبر فِي الْقبَّة الَّتِي قبر فِيهَا عبد الْقَادِر التهامي وقبر فِيهَا وَلَده أَحْمد بن عَامر من أَعمال عَاشر من جِهَة خولان الْعَالِيَة
الشاه عَبَّاس بن سُلْطَان مُحَمَّد خدابنده ابْن طهماسب بن شاه اسمعيل بن سُلْطَان حيدر بن سُلْطَان شيخ جُنَيْد بن سُلْطَان شيخ صدر الدّين إِبْرَاهِيم بن سُلْطَان خواجه عَليّ بن شيخ صدر الدّين مُوسَى بن سُلْطَان شيخ صفي الدّين أبي إِسْحَق بن شيخ أَمِين الدّين جِبْرِيل بن السَّيِّد صَالح بن السَّيِّد قطب الدّين أَحْمد بن السَّيِّد صَلَاح الدّين رشيد بن السَّيِّد مُحَمَّد الْحَافِظ كَلَام الله بن السَّيِّد عوض الْخَواص بن السَّيِّد فَيْرُوز شاه درين كلاه بن مُحَمَّد شرف شاه بن مُحَمَّد بن أبي حسن بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن جَعْفَر ابْن مُحَمَّد بن إِسْمَعِيل بن مُحَمَّد بن أَحْمد الْعِرَاقِيّ بن مُحَمَّد قَاسم بن أبي الْقسم حَمْزَة بن الإِمَام مُوسَى الكاظم بن الإِمَام جَعْفَر الصَّادِق بن الإِمَام مُحَمَّد الباقر ببن الإِمَام عَليّ زين العابدين بن الإِمَام الْحُسَيْن ابْن الإِمَام عَليّ بن أبي طَالب رضوَان الله تَعَالَى عَلَيْهِم هَذَا نسب سلاطين الْعَجم الَّذين مِنْهُم صَاحب التَّرْجَمَة وَأول من بَالغ فِي التَّشَيُّع وأظهره سُلْطَان حيدر وَكَانَ ذَلِك فِي سنة سِتّ وَتِسْعمِائَة وَقيل فِي تَارِيخه مَذْهَبنَا حق ويروي أَن بعض أهل السّنة سمع هَذَا التَّارِيخ فَقَالَ مَذْهَب نَا حق على النَّفْي فَإِن نَا فِي الْفَارِسِي أَدَاة نفي وَمن ذَلِك الْعَهْد هَاجر كثير من أهل السّنة الَّذين فِي بِلَادهمْ إِلَى كثير من الْبِلَاد وتغلبت سلاطين بِلَادنَا العثامنة على مُلُوكهمْ من عهد السُّلْطَان سليم الأول فَإِنَّهُ ركب على شاه إِسْمَعِيل وَأخذ مِنْهُ بِلَاد أوقهرة وَكَذَلِكَ فعل السُّلْطَان سليم الثَّانِي فَأَنَّهُ جهز عَلَيْهِم جَيْشًا فَأخذُوا مِنْهُم تبريز وشروان وكيلان
وروان وَكَثِيرًا من القصبات والولايات واستمروا مغلوبين إِلَى أَن ظهر شاه عَبَّاس صَاحب التَّرْجَمَة فولى السلطنة بخراسان فِي سنة خمس وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة مَكَان وَالِده فِي حَيَاته وَكَانَ جُلُوسه بقزوين لكَون وَالِده كَانَ أعمى وَقد استولت فِي أَيَّامه أُمَرَاء قزلباش على الدولة واتخذوها حصصاً فسفك فيهم واستقل بِالْأَمر وَكَانَ فِي ابْتِدَاء أمره يدارى طرف آل عُثْمَان وَيُرْسل ابْن أَخِيه حيدر بالهدايا والتحف إِلَى أَن مَاتَ ملك الأوزبك أوزبك خَان وَولده عبد الْمُؤمن فِي سنة عشر بعد الْألف وَكَانَ مُلُوك الأوزبك أخذُوا من خُرَاسَان بلاداً فاستخلصها وَاحِدَة بعد وَاحِدَة ثمَّ قصد جِدَال عُثْمَان لما كَانَ وَقع من الاختلال بِسَبَب الجلالية الَّذين ظَهَرُوا فِي زمن السُّلْطَان أَحْمد وَنقض الْعَهْد الَّذِي بَينه وَبينهمْ وحاصر مملكة تبريز وروان وَاسْتولى عَلَيْهِمَا ثمَّ أَخذ قندهار من بِلَاد الْهِنْد وَاسْتولى على خوارزم وكيلان وسجستان ثَلَاثَة وَأَرْبَعين سنة وَكَانَ سُلْطَانا صَاحب جاش وَقُوَّة مكر غداراً محتالاً فاسترد بعض الْبِلَاد وتقوى فِي الْعَسْكَر وَالْعدة فَأخذ بَغْدَاد من يَد آل عُثْمَان وَقد قدمنَا سَبَب أَخذه لَهَا وَإنَّهُ كَانَ الْفَاعِل لذَلِك بكر كَبِير عسكرها وَإِن الشاه دَخلهَا بمخامرة مِنْهُ وَمن ابْنه مُحَمَّد وَفعل مَا فعل فِيهَا وَفِي أَهلهَا وَكَانَ أَخذه لَهَا فِي ثَالِث شهر ربيع الثَّانِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف واستمرت فِي يَده إِلَى سنة ثَمَان وَأَرْبَعين فَأَخذهَا من يَده السُّلْطَان مُرَاد وَسَنذكر خبر أَخذهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي تَرْجَمَة السُّلْطَان مُرَاد الْمَذْكُور وَمن ذَلِك الْعَهْد لزم شاه عَبَّاس حَدهمْ الْأَصْلِيّ الَّذِي كَانَ فِي زمن الشاه اسماعيل وَلم يتجاوزه لَا هُوَ وَلَا أبناؤه إِلَى يَوْمنَا هَذَا وَطَالَ عمره فِي السلطنة وَبلغ من الْعِزَّة وَالْحُرْمَة نِهَايَة أمانيه وخدمه أجلاء الْعلمَاء فِي مناصبه مِنْهُم الشَّيْخ الاستاذ مُحَمَّد بهاء الدّين بن حُسَيْن الْحَارِثِيّ الْهَمدَانِي الشَّامي فَإِنَّهُ كَانَ مفتيه ومشيد أَرْكَان دولته وباسمه ألف كثيرا من كتبه ورسائله ونوه بِهِ وَقد رَأَيْت فِي بعض كتبه غَرِيبَة حَكَاهَا فِي سِيَاق ذكره قَالَ إِن سُلْطَان زَمَاننَا خلد الله ملكه وأجرى فِي بحار التَّأْبِيد فلكه عرض لَهُ يَوْمًا فِي مصيده خِنْزِير عَظِيم الجثة طَوِيل السن الْخَارِج فَضَربهُ بِالسَّيْفِ ضربه نصفه بهَا نِصْفَيْنِ ثمَّ أَمر بقلع سنه والاتيان بهَا إِلَيْهِ فَوجدَ مَكْتُوبًا عَلَيْهَا لفظ الْجَلالَة بِخَط بَين مُثبت ناتىء مِنْهَا فَحصل لَهُ وَلنَا وَلمن حضر المصيدة من الْعَسْكَر الْمَنْصُور نِهَايَة الْعجب فَإِن ذَلِك من أغرب الغرائب وَلما أرانيها أدام الله نَصره وتأييده قَالَ لي كَيفَ يجْتَمع هَذَا مَعَ نَجَاسَة
الْخِنْزِير فَقلت لَهُ إِن السَّيِّد المرتضى قَائِل بِطَهَارَة مَا لَا تحله الْحَيَاة من نجس الْعين وَوُجُود هَذَا الْخط على هَذَا السن رُبمَا يُؤَيّد كَلَامه طَابَ ثراه فَإِن السن مِمَّا لَا تحله الْحَيَاة انْتهى وَمن المقربين إِلَيْهِ من الحذاق الْحَكِيم شفائي وَكَانَ حكيمه وطبيبه ونديمه الْخَاص وَكَانَ شَاعِرًا مطبوعاً مليح التخيل وَكَانَ عِنْد الشاه فِي المكانة المكينة ثمَّ غضب عَلَيْهِ فحمى ميلًا حديداً وكحله بِهِ فأعماه وأبعده عَن مَجْلِسه وأحواله وأموره غَرِيبَة جدا وَمِمَّا يحْكى عَنهُ فِي بَاب اللطائف والنكات مِمَّا يستظرف وأبدعها مَا كَانَ يَقع لَهُ مَعَ الرَّسُول الْمُرْسل إِلَيْهِ من طرف سلطاننا السُّلْطَان مُرَاد الْمُسَمّى بإنجيلي جاويش وَكَانَ طلق اللِّسَان حَاضر الْجَواب نِهَايَة فِي اللطائف والأعاجيب وَكَانَ الشاه يبتدره بمخترع من الْفِعْل أَو القَوْل ويقصد بذلك الأزراء بِجَانِب سلطاننا فَيُجِيبهُ عَنهُ بِأَحْسَن جَوَاب يدْفع بِهِ ذَلِك الأزراء وَرُبمَا قلت عيانه فأزرى بِطرف الشاه وَكَانَ الشاه يعجب من تيقظه وينتقل مَعَه انتقالات عَجِيبَة خَارِجَة عَن هَذَا الأزراء وَمن جُمْلَتهَا أَنه جلس الشاه يَوْمًا على حرف جبل فِي الصَّحرَاء والجاويش الْمَذْكُور عِنْده فَقَالَ لَهُ الشاه أتحبني فَقَالَ لَهُ نعم فَقَالَ إِن كنت تحبني فارم بِنَفْسِك من هَذَا الْجَبَل إِلَى تَحت فَقَامَ وَمَشى مَسَافَة بعيدَة إِلَى ظهر الْجَبَل ثمَّ رَجَعَ وَهُوَ يرْكض حد الركض حَتَّى انْتهى إِلَى طرف الْجَبَل ثمَّ وقف فَقَالَ لَهُ الشاه مَالك فَقَالَ محبتي لَك انْتَهَت إِلَى هَذَا الْمحل وأراها لَا تتجاوز وَله من هَذَا الْقَبِيل أَشْيَاء أخر وللشاه عَبَّاس فِي سياسة الرّعية وَالرِّعَايَة لجانبهم والذب عَنْهُم وإكرام التُّجَّار الواردين إِلَى بِلَاده من أهل السّنة أَحْوَال مستفيضة شائعة وَبِالْجُمْلَةِ فَلم يَجِيء من سلسلتهم مثله وَكَانَت وَفَاته فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَألف بدار ملكه مَدِينَة أصفهان وَدفن بأردبيل فِي تربة الشَّيْخ صفي الدّين وَكَانَ عمره ينيف عَن السّبْعين
عبد الْأَحَد الشَّيْخ الْبركَة نزل قسطنطينية هُوَ رومي الأَصْل وَلَا أَدْرِي نسبته إِلَى أَي بَلْدَة وَكَانَ خلوتي الطَّرِيقَة وَهُوَ وَالشَّيْخ عبد الْمجِيد السيواسي رَفِيقًا عنان فِي الصّلاح والزهد والمعرفة والإتقان وَكَانَ عبد الْوَاحِد من أَفْرَاد الْعباد مُعْتَقدًا مُعظما مبجلاً وَكَانَ لَهُ مريدون وأذكار وَوعظ ونصيحة وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ من خِيَار الْخِيَار وَكَانَت وَفَاته فِي سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَألف بِمَدِينَة قسطنطينية
عبد الْبَارِي بن مُحَمَّد بن عمر بن عبد الْقَادِر بن أَحْمد بن حسن بن عمر بن
مُحَمَّد بن أَحْمد بن عمر بن أَحْمد بن عمر بن الشَّيْخ عَليّ الأهدل اليمني السَّيِّد الْجَلِيل الْوَلِيّ كَانَ من الكملاء الْمَشْهُورين جواداً مبذول النِّعْمَة وافر السخاء وَله فَضَائِل عديدة وأفعال حميدة وَصيته بِبِلَاد الْيمن شَائِع ذائع بِالْفَضْلِ وَالْكَرم وَكَانَت وَفَاته فِي حادي عشري ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف بقرية المراوعة وَدفن بهَا عِنْد أجداده بن الأهدل وَحصل عَلَيْهِ الأسف الْعَظِيم رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْبَاقِي بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن السمان الدِّمَشْقِي نزيل قسطنطينية صاحبنا الْفَاضِل الأديب الألمعي البارع كَانَ مفرط الذكاء قوي الحافظة وَله الِاطِّلَاع التَّام على أشعار الْعَرَب الخلص وأيامهم وأمثالهم وَكَانَ يحفظ مِنْهَا شَيْئا كثيرا وَقد عاينته مَرَّات وَهُوَ يسْرد من أشعارهم ألف بَيت أَو أَكثر من غير أَن يزِيغ عَن نهجه أَو يشرق بريقه وَكَانَت فكرته جَيِّدَة فِي النَّقْد والغوص على الْمعَانِي وَحسن التَّأْدِيب وَله تصانيف كَثِيرَة لم يكمل مِنْهَا إِلَّا شرح الْأَسْمَاء الْحسنى وَشرح شَوَاهِد الجامي ومختصر التَّهْذِيب فِي الْمنطق وَكَانَ شرع فِي كتاب سَمَّاهُ سرقات الشُّعَرَاء كتب مِنْهُ حِصَّة يسيرَة وَلَو تمّ لجاء كتابا عجيباً وَجمع سَبْعَة مجاميع بِخَطِّهِ تحتوي على كل تَحْقِيق وأدب وَشرع قريب مَوته فِي الْجَمِيع بَين الصَّحِيحَيْنِ البُخَارِيّ وَمُسلم وَمَات وَلم يكمله وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ فِي التآليف وَاقِفًا تَحت قَول المتنبي
(وَلَيْسَ بِأول ذِي همة
…
دَعَتْهُ لما لَيْسَ بالنائل)
وَكَانَ فِي أول أمره قَرَأَ النَّحْو وَالْفِقْه بِدِمَشْق على الْفَقِيه الْمَشْهُور أَحْمد القلعي ثمَّ فَارق دمشق وَهُوَ غض الحداثة مقتبل الشبيبة وَدخل الْقَاهِرَة فِي حُدُود سنة إِحْدَى وَسبعين وَألف واشتغل بهَا على الشَّيْخ عبد الْبَاقِي بن غَانِم الْمَقْدِسِي الْآتِي ذكره وعَلى السَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد الْحَمَوِيّ الْمصْرِيّ وَعَلِيهِ تخرج فِي الْأَدَب وبرع ثمَّ خرج مِنْهَا إِلَى الرّوم وتصرفت بِهِ أَحْوَال كَثِيرَة وأسفار عديدة وَلم يبْق بَلْدَة من أُمَّهَات بِلَاد الرّوم حَتَّى دَخلهَا وَوصل إِلَى جَزِيرَة كريد والوزير الْفَاضِل منازلها فمدحه بقصيدة ومطلعها
(أخف النَّوَى مَا سهلته الرسائل
…
وَأحلى الْهوى مَا كررته العواذل)
يَقُول فِيهَا
(يعيرني قومِي بقومي ومحتدي
…
كَمَا عيب بالعضب الصَّقِيل الحمائل)
(أجل حسدوني حَيْثُ فضلت دونهم
…
وَكم حسدت فِي النَّاس قبلي الأفاضل)
(وَمَا الْفَخر بالأجسام وَالْمَال والعلى
…
وَلَكِن بأنواع الْكَمَال التَّفَاضُل)
(وَمن يَك أعمى الْقلب يلْزم بقوله
…
كَمَا يحذر الْأَعْمَى الْعَصَا إِذْ يُقَاتل)
(وَمَا يصنع الْإِنْسَان يَوْمًا بنوره
…
إِذا عادلت فِيهِ النُّجُوم الجنادل)
(وفيم نضيع الْعُمر فِي غير طائل
…
إِذا مَا اسْتَوَى فِي النَّاس قس وباقل)
(وأصعب مَا حاولت تثقيف أَعْوَج
…
وأثقل شَيْء جَاهِل متعاقل)
(إِذا جَاءَ نقاد الرِّجَال من الوغى
…
تميز عَن أهل الْكَمَال الأراذل)
(عنيت الْوَزير بن الْوَزير الَّذِي بِهِ
…
تذل وتعنوا للشعوب الْقَبَائِل)
ومدح أَخَاهُ الْفَاضِل مصطفى بقصيدة أُخْرَى مطْلعهَا
(بِالنَّفسِ يسمح من أَرَادَ نفيسا
…
وَالْحب أول مَا يكون رسيسا)
وكلا القصيدتين قد ذكرتهما فِي تَرْجَمته فِي كتابي النفحة فَلَا نطيل هُنَا الْكَلَام بهما فَأَنا نذْكر لَهُ هُنَا غَيرهمَا وكل جَدِيد لَهُ لَذَّة وأجيز على هَاتين جَائِزَة سنية وَوصل من الجزيرة الْمَذْكُورَة إِلَى سلانيك ويكى شهر وَالسُّلْطَان مُحَمَّد ثمَّة فَكَانَ خَاتِمَة مطافه أَن بلغ خَبره السُّلْطَان فاتخذه نديماً وفاز مُدَّة بعطاياه الطائلة وَلم يطلّ أمره فِي المنادمة فَأعْطى مدرسة بقسطنطينية وَأبْعد عَن الدولة إِلَيْهَا فَألْقى رَحْله بهَا واتخذها دَار قراره وَمجمع أَسبَابه وأحبه كبراؤها ومالوا إِلَيْهِ خُصُوصا المرحوم الْأُسْتَاذ عزتي قَاضِي الْعَسْكَر فَإِنَّهُ أقبل عَلَيْهِ بكليته وَكَانَ يمده بعطاياه وافرة وَلما دخلت قسطنطينية فِي سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف رَأَيْته وَهُوَ مدرس الفتحية برتبة مَوْصُولَة الصحن فاتحدت مَعهَا اتحاداً لم يتَّفق لي مَعَ أحد غَيره لما كنت أشاهد مِنْهُ من الْمحبَّة والصدق الَّذِي لَا مزِيد عَلَيْهِ وَأَنا مُنْذُ توفّي إِلَى الْآن أذكر صنائعه من الْمَعْرُوف معي فَلَا أعرف نهايتها وأقصر عَن أَدَاء حَقّهَا بيد أَنِّي أَرْجُو الله أَن يجْزِيه عَن حسن محبته لي أحسن جَزَاء وأعظمه وَاتفقَ لي مَعَه محاورات ومخاطبات كَثِيرَة فَمن ذَلِك أَنِّي أنشدته يَوْمًا قولي
(ومقرطق ترف الْأَدِيم تخاله
…
كالغصن قد لعب النسيم بقده)
(ويكاد أَن شرب المدامة أَن يرى
…
مَا مر مِنْهَا تَحت أَحْمَر خَدّه)
فأنشدني مرتجلاً قَوْله
(ومهفهف لَوْلَا جفون عيونه
…
خلنا دم الوجنات من ألحاظه)
(وتكاد تقْرَأ من صفاء خدوده
…
مَا مر خلف الخد من أَلْفَاظه)
وَسَأَلته عَن نُكْتَة تَخْصِيص الْمُؤمن فِي قَوْله عليه السلام اتَّقوا فراسة الْمُؤمن فَإِنَّهُ ينظر بِنور الله فَأجَاب مرتجلاً
(الْجِسْم بَيت وقنديل الْفُؤَاد بِهِ
…
والقبة الرَّأْس فِيهَا المقلة الْجَام)
(فَإِن غَدا فِيهِ نور الْحق متقداً
…
أَضَاء أَرْكَانه والجام نمام)
(فالعارفون بِنور الله إِذْ نظرُوا
…
صحت فراستهم وَالنَّاس أَقسَام)
وَركبت مَعَه الْبَحْر يَوْمًا فِي زورق وتوجهنا إِلَى الْمَكَان الْمَعْرُوف ببشكطاش فَأَنْشَدته بالمناسبة قَول ابْن ملطية
(وزورق أبصرته عائماً
…
وَقد تمطى ظهر دأماء)
(كَأَنَّهُ فِي شكله طَائِر
…
مدّ جناحيه على المَاء)
ثمَّ انجرت المصاحبة إِلَى تعداد أَنْوَاع السفن وأسمائها حَتَّى ذكر الْغُرَاب وَهُوَ الْمركب الطَّوِيل الَّذِي يسير بالمجاديف فَأَنْشد فِيهِ قَول ابْن الساعاتي
(وَلَقَد ركبت الْبَحْر وَهُوَ كحلبة
…
وَالْمَوْت تحسبه جياداً تركض)
(كم من غراب للقطيعة أسود
…
فِيهِ يطير بِهِ جنَاح أَبيض)
ثمَّ ذكر لي أَن بعض النَّاس توهم أَن تَسْمِيَة هَذَا النَّوْع من السفن بالغراب مترجم عَن اسْمه بالتركية لِأَن اسْمهَا عِنْدهم تادرغة فظنها قارغة وَهُوَ بالتركية الْغُرَاب قَالَ وَأقَام المتوهم النكير على المترجم من كَونه وهم لتقارب الْأَلْفَاظ اتِّفَاقًا وَلم يدر أَن مَا قَالَه هُوَ الْوَهم بل وَجه الْمُنَاسبَة فِي التَّسْمِيَة أَنَّهَا شبهت بالغراب لسوادها وَشبه المجاديف بالأجنحة وَهُوَ حسن ثمَّ رَأَيْت هَذَا الْكَلَام لِلشِّهَابِ الخفاجي فِي كِتَابه طراز الْمجَالِس فَرَاجعه إِن شِئْت وَكتب إليّ هَذِه الأبيات مداعباً فِي أَيَّام برد الْعَجُوز
(بفض بكر وَبشر الْعَجُوز
…
يدْفع بعض النَّاس برد الْعَجُوز)
(وَنحن قوم مَا لنا ثروة
…
وَلَا نرى فِي الشَّرْع مَا لَا يجوز)
(قهوتنا قهوة بن زكتْ
…
تعيد أَيَّام الصِّبَا للعجوز)
(وَعِنْدنَا كانون جمر لقد
…
أعَاد فِي كانون قيظا تموز)
(وصحبة طوع يدا للهولا
…
تفرقهم أَن خلطوا بالعنوز)
(فانهض إِلَيْنَا نغتنم صُحْبَة
…
فالزمن الْجَانِي سريع النُّشُوز)
(وَأعرف النَّاس بِهِ عَاقل
…
بلذة قبل التقضي يفوز)
(لَا يرتضي الْعَاقِل عَن فرْصَة
…
من فرص الدَّهْر بملء الْكُنُوز)
(لَو لم يجنّ الدَّهْر مَا علقت
…
عَلَيْهِ فِي رَأس الْهلَال الحروز)
(من غير مَأْمُور وَدم سالما
…
لدفع خطب ولحل الرموز)
فَحَضَرت إِلَيْهِ وَكَانَ بمجلسه أحد أَبنَاء الرّوم مِمَّن يَدعِي الْأَدَب فَأخذ فِي بحث أَيَّام الْعَجُوز وَلم سميت بِهَذَا الِاسْم حَتَّى تحرر لنا وَجه التَّسْمِيَة من كتاب لِابْنِ قَاضِي شُهْبَة سَمَّاهُ تطريف الْمجَالِس بِذكر الْفَوَائِد والنفائس وَمُلَخَّص مَا قَالَ فيهم أَنهم زَعَمُوا أَن عجوزاً دهرية كاهنة من الْعَرَب كَانَت تخبر قَومهَا بِبرد يَقع فِي آخر الشتَاء يسوء أَثَره على الْمَوَاشِي فَلم يكترثوا بقولِهَا وجزوا أغنامهم واثقين بإقبال الرّبيع فَإِذا هم بِبرد شَدِيد أهلك الزَّرْع والضرع فَقيل أَيَّام الْعَجُوز وَبرد الْعَجُوز وَقيل هِيَ عَجُوز كَانَ لَهَا سبع بَنِينَ وسألتهم أَن يزوجوها وألحت فَقَالُوا ابرزي للهواء سبع لَيَال حَتَّى نُزَوِّجك فَفعلت وَالزَّمَان شتاء فَمَاتَتْ فِي السَّابِعَة فنسبت إِلَيْهَا الْأَيَّام وَقيل هِيَ الْأَيَّام السَّبْعَة الَّتِي أهلكت فِيهَا عَاد وَلَكِن تِلْكَ ثَمَانِيَة بِنَصّ الْكتاب وَقيل أَيَّام الْعَجز وَهِي آخر الشتَاء وَالله أعلم وكتبت إِلَيْهِ بعد أَيَّام أَدْعُوهُ إِلَى متنزه فِي يَوْم النوروز وأشير إِلَى مَضْمُون أبياته
(أنقذتنا مواسم النوروز
…
من عَذَاب الشتا وَبرد الْعَجُوز)
(ألبس الأَرْض من غلائله الْخضر
…
فجرت ذيولها فِي الخزوز)
(وَإِذا أشرقت ذكاء حَسبنَا الأَرْض
…
أبدت مَا تحتهَا من كنوز)
(فاتركاني من ضرب زيد لعَمْرو
…
وَبَيَان الْمَقْصُور والمهموز)
(وَقفا بِي على الرياض قَلِيلا
…
لنرى قدرَة الْحَكِيم الْعَزِيز)
(فَكَأَن الْحباب وَالْمَاء فِيهَا
…
فضَّة تَحت لُؤْلُؤ مغروز)
(أَيهَا الْفَاضِل الَّذِي يفصل الْبَحْث
…
وَلَو طَال بالْكلَام الْوَجِيز)
(لَو جهلناه مَا علمنَا يَقِينا
…
محكمات التَّحْرِيم والتجويز)
(أَو رَآهُ الزُّهْرِيّ وَابْن معِين
…
أسْند الْعلم عَنهُ كالمستجيز)
(جد بإنجاز مَا وعدت فَلَيْسَ المطل
…
عِنْد الْكِرَام كالتنجيز)
(فلدينا من يسحر اللب وَالْعقل
…
إِذا مَا شدا من النيريز)
(فاتر الطّرف لَو رَأَتْهُ زليخا
…
نسيت ذكر يُوسُف والعزيز)
(حسدت منزلي عَلَيْهِ بقاع الأَرْض
…
من جلق إِلَى تبريز)
(لَا تكلّف فكري بَيَانا فَلَا
…
يُمكن وصف الْجمال بالأرجوز)
(فتعجل فالوقت كالسيف والعاقل
…
يدْرِي مَا تَحت ذيل الرموز)
وَلما كنت بأدرنة ورد مِنْهُ كتاب لبَعض أخدانه وَأمره بتبليغ السَّلَام إليّ بِاللِّسَانِ وَاعْتذر عَن عدم إرْسَال كتاب مُسْتَقل إِلَيّ فَكتبت إِلَيْهِ قصيدة طَوِيلَة مِنْهَا
(بنفسي من خدره الْمغرب
…
هِلَال عَن الْقلب لَا يغرب)
(وَمَا أَنا فِي حبه ثَابت
…
تباخل بالكتب أَو يكْتب)
(وَمن لَو وزنت بعشاقه
…
رحجتهم والهوى مُتْعب)
(وقيدني الْجُود فِي وده
…
فَمَالِي عَن حبه مَذْهَب)
(أَرْجَى لِقَاء رَجَاء الْحَيَاة
…
والنجم من قربه أقرب)
(وَيَا من تعجب من رقتي
…
حَيَاة قَتِيل النَّوَى أعجب)
(لقد ودعوني فَسَار السرُور
…
وَمَا لذلي بعدهمْ مشرب)
(وَلم أر من بعد أنوارهم
…
نَهَارا وَلَو أقلع الغيهب)
(وَمَا كنت أَحسب صبري يخون
…
ويخدعني برقه الْحَلب)
(وَلَو كنت أملك قلبِي صنعت
…
كَمَا صَنَعُوا والهوى أغلب)
وأنشدني يَوْمًا قصيدة غزلية نظمها لم يعلق مِنْهَا فِي خاطري إِلَّا بَيت المطلع وَهُوَ هَذَا
(غُصْن رنحه سكر الدَّلال
…
ينثني رَيَّان من مَاء الْجمال)
واقترح عَليّ أَن أنظم على وَزنهَا ورويها قصيدة فنظمت هَذِه القصيدة وعرضتها عَلَيْهِ وَهِي قولي
(شاقني غُصْن نقا تَحت هِلَال
…
ينثني نشوان من خمر الدَّلال)
(كل لحظ مِنْهُ نهاب النهى
…
يسحر الْأَلْبَاب بِالسحرِ الْحَلَال)
(ترتع الأحداق من طلعته
…
فِي رياض بَين حسن وجمال)
(خَدّه كالورد غشاه الحيا
…
عرقا كالدر يزرى بالغوالي)
(من عذيري من خَلِيل غادر
…
الْجِسْم من سلوته رق الْخلال)
(يعد الْوَصْل وبقضيني الجفا
…
ويمنيني ويرضى بالمحال)
(حمل الْقلب من الأعباء مَا
…
لَو أقلت صدعت صم الْجبَال)
(يَا بقومي قامة مِنْهُ وَيَا
…
خجلة الأغصان مِنْهَا والعوالي)
(ومحيا يفتك النساك حسنا
…
ويستعبد ربات الحجال)
(ولحاظ دونهَا فتك الظبا
…
تنهب الْأَعْمَار من غَيره قتال)
(وقسى تصدع اللب إِذا
…
فوّقت انفذ من زرق النصال)
(ولمى يفتر عَنهُ مبسم
…
من عقيق فَوق درّ كاللآلى)
(ترق الْجِسْم يكَاد القدّ ينقدّ
…
أَن رنحه سكر الدَّلال)
(وشجاني صادح فِي فنن
…
كلما أشكوله الشوق شكالي)
(يَا لَك الله كِلَانَا وَاحِد
…
يشتكي بعد حبيب وطلال)
(كلنا يبكي على غُصْن لَهُ
…
نازح الأحباب منبت الحبال)
(يَا خليليّ وسلطان الْهوى
…
يَقْتَضِي حكم الموَالِي فِي الموَالِي)
(لَا تلوماني على جهد البلا
…
فالهوى ضرب من الدَّاء العضال)
(يبْعَث الْعَاقِل للحسين القضا
…
ويغص الْمَرْء بِالْمَاءِ الزلَال)
(أَي خليّ الْقلب عني أنني
…
لست بالمختار فِي هَذَا النكال)
(لَو يكن فِي الْحبّ رأى لم تَجِد
…
أَسد الغابة فِي أسر الغزال)
(خل إرشادي وذق طعم الْهوى
…
أنني قد بِعْت رشدي بالضلال)
(لَا تلم من ذل فِي نيل المنى
…
أَن عز الْحبّ فِي ذل السُّؤَال)
(كم أداري مهجة ذَابَتْ أسى
…
بَين أطماع ووعد ومطال)
(تلفت روحي وَمَا من عجب
…
تلف الْأَرْوَاح من دون الْوِصَال)
(مَا الَّذِي ضرّ جميل الْوَجْه لَو
…
كَانَ أفديه جميلاً فِي الفعال)
(آثر الْجور على الْعدْل وَلم
…
يدر أَن الْجور من شَرّ الْخِصَال)
(يَا أحباي وَفِي آثَاركُم
…
فرج الْقلب وَحل من عقال)
(عللوا روحي بأرواح الصِّبَا
…
وابعثوا أخباركم لي فِي الشمَال)
(واسعفوا المضني بتنجيز المنى
…
أَن تتجيز المنى خير النوال)
(وَإِذا لم تنعموا لي باللقا
…
فاحسنوا إِلَى إِذْ أذنتم بالخيال)
(لَيْت شعري والهوى كم فِيهِ من
…
عجب والصب مُغْرِي بالجدال)
(أقصير اللَّيْل يدْرِي حالتي
…
فِي ليَالِي هجره السود الطوَال)
(يشتكي من قصر اللَّيْل إِذا
…
مَا اشْتَكَى الخالون من طول الليال)
وَأهْدى أَلِي مرّة شاشا فَكتبت إِلَيْهِ
(روحي فدَاء لَا غرّ سما
…
بسودد كالشامخ الراسي)
(ذُو خلق يَحْكِي شذا رَوْضَة
…
قد أحدقت بالورد والآسى)
(فالربيع الطلق وشى الربى
…
بردا وَمَا السلسل فِي الكماس)
(ألطف من نسمَة أخلاقه
…
عرفتها من طيب أنفاس)
(نزلت فِي دوحته معدما
…
فَلم يدع برئي وإيناسي)
(يَا سيدا أنطقني فَضله
…
بشكره من بعد إخراسي)
(أَرَاك رَأس النَّاس لامرية
…
لذاك تهدى حلَّة الراس)
وجمعني وإياه مجْلِس لأحد الْكِبَار فلعب بالشطرنج وَكَانَ إِذا لعب ظهر مِنْهُ بعض الطيش وَالدَّعْوَى وَكَانَ بِالْمَجْلِسِ بعض الْعلمَاء فأبدى التَّعَجُّب من أطواره فَأَنْشد بديهاً
(لَئِن أمسيت أدنى الْقَوْم سنا
…
فعد فضائلي لَا يُسْتَطَاع)
(كشطرنج ترى الْأَلْبَاب فِيهِ
…
حيارى وَهُوَ رقعته ذِرَاع)
قلت وَكَانَ مُفردا فِي لعب الشطرنج وَله فِيهِ محنة زَائِدَة وتفرغ أَيَّامًا لحساب حَبَّة الْقَمْح الَّتِي اقترحها وَاضع الشطرنج وَهُوَ صصه بن داهر الْهِنْدِيّ على الْملك الَّذِي وَضعه باسمه وَهُوَ شهرام وَأَرَادَ أَن يسْتَخْرج الْعدَد وصنع جد وَلَا عَظِيما وَأَظنهُ استخرجه وَأَنا قد رَأَيْت بعض الْحساب اعتنى بذلك وَضَبطه ضبطاً قَوِيا وَجعله فِي مصراع من بَيت وَهُوَ قَوْله
(إِن رمت تَضْعِيف شطرنج فجملته
…
هَا واه طعجز مدز ودوحا)
وَجُمْلَة ذَلِك ثَمَانِيَة عشر ألف ألف ألف ألف ألف ألف سِتّ مَرَّات وَأَرْبَعمِائَة وَسِتَّة وَأَرْبَعُونَ ألف ألف ألف ألف ألف خمس مَرَّات وَسَبْعمائة وَأَرْبَعُونَ ألف ألف ألف ألف أَربع مَرَّات وَثَلَاثَة وَسَبْعُونَ ألف ألف ألف ثَلَاث مَرَّات وَسَبْعمائة وَتِسْعَة آلَاف ألف ألف مرَّتَيْنِ وَخَمْسمِائة وَاحِد وَخَمْسُونَ ألف وسِتمِائَة وَخَمْسَة عشر وأقلع آخر عَن صبوته فَترك مَحْض أشعاره فِي الْغَزل وقص قوادمها وخوافيها بأشعار فِي الزّهْد وَالْحكم وأبلغ مَا أَنْشدني فِي ذَلِك المعرض هَذِه القصيدة الغراء عَارض بهَا معلقَة امرىء الْقَيْس وقصيدته تلِيق أَن تعلق تَمِيمَة فِي جيد الزَّمَان لما اشْتَمَلت عَلَيْهِ من الْأَمْثَال وَالْحكم والسلاسة وَقد أوردتها برمتها حرصاً على كَثْرَة فائدتها وتعرضت لبَعض إبضاحاتها وَهِي
(توكل على الرَّحْمَن حق التَّوَكُّل
…
فَلَيْسَ لما فِي علمه من مبدل)
(لعمر مَا يدْرِي المنجم مَا غَدا
…
يكون وَعلم الْحَال عِنْد المحول)
(وَأَنا فَلَا تعجب لفي غَفلَة بِمَا
…
يُرَاد بِنَا فِي عَاجل أَو مُؤَجل)
(نسير وَلَا نَدْرِي كركب سفينة
…
وَعمر الْفَتى كالفيء جم التنقل)
(ويرشقنا قَوس الخطوب بأسهم
…
على أسْهم كالطل يتبعهُ الْوَلِيّ)
(وَنحن نَبَات والزما حصادنا
…
أَلَيْسَ بوافي كل شهر بمنجل)
تَشْبِيه الْهلَال بالمنجل مُسْتَعْمل فِي أشعار الْعَرَب كثيرا وَمن أحسن مَا مر لي فِيهِ قَول الشهَاب
(رَأَيْت هِلَال الشَّهْر منجل حاصد
…
لَا عمارنا وَهِي الهشيم المحطم)
(وَمَا سلخت تِلْكَ الشُّهُور وَإِنَّمَا
…
دياجي الْأَمَانِي الْجلد والشفق الدَّم)
(وآمالنا تزداد فِي كل سَاعَة
…
وَمن أضيع الْأَشْيَاء عمر المؤمل)
(إِلَى الله نشكو مَا بِنَا من جَهَالَة
…
وَمن تتعبده المطامع يجهل)
(وَمن لم يكن فِي أمره ذَا بَصِيرَة
…
يكن هدفاً للنائبات وَيقتل)
(وهم الورى كل على قدر عقله
…
وَمَا فَازَ باللذات غير الْمُغَفَّل)
(وَلَا عجب أَن فاوت الْحَظ بَيْننَا
…
فَمن رامح نجم السَّمَاء وأعزل)
(ألم تَرَ أَن الطير يرتع شَرها
…
وَيحبس فِي أقفاصه كل بلبل)
(وَإِنِّي من الْقَوْم الْكِرَام أولى الوفا
…
إِذا بخلت مزن السما لم تبخل)
(وَإِن نَدع عِنْد الجدب نسمح بجهدنا
…
وَإِن نَدع يَوْم الْبَأْس لم نتعلل)
(ونرحل بعد النَّاس من كل منزل
…
ونصدر قبل النَّاس من كل منهل)
(ويمنعنا فرط الْحيَاء عَن الْخَنَا
…
وَإِن كَانَ فينارقة المتغزل)
(ووهابة الأحزان نهابة النهى
…
منعمة الْأَطْرَاف عذب الْمقبل)
(رقيقَة خصر لَا ترق لمغرم
…
قسية قلب لَا تلين لمبتلى)
(يرى وَجهه فِي وَجههَا من يضمها
…
كمرآة هندي براحة صيقل)
(تخادع أَرْبَاب النهى عَن عُقُولهمْ
…
وتسحر لب الناسك المتبتل)
(إِذا التفتت نَحْو الخلى بطرفها
…
سرى حبها كَالْخمرِ فِي كل مفصل)
(تحوم رماح الْخط حول خبائها
…
كَمَا حاطت الْأَهْدَاب مقلة اكحل)
(فكم فِي حماها من سليم مسهد
…
وحول خباها من صريع مجندل)
(صرفت الْهوى عَنْهُن لَا خشيَة الردى
…
وَذُو الرَّأْي مهما يَأْمر الْقلب يفعل)
(وَربع وقفت العيس فِيهِ فَلم أجد
…
بأرجائه غير الْغُرَاب المكبل)
(عهِدت بِهِ الْبيض الدمى فَوَجَدته
…
من الْأَهْل كالجيد الْأَغَر الْمُعَطل)
(وَبَات سميري فِيهِ ضار غضنفر
…
لَهُ منظر وعر وناب كمعول)
(وعينان كلما وتين توقدا
…
ظلاماً فَلم نحتج إِلَى ضوء مشتعل)
(وسَاق شَدِيد الْبَطْش عبل مفتل
…
كحبل الْجَوَارِي الْمُنْشَآت المجدل)
(كَأَن عِظَام الْوَحْش حول عرينه
…
بقايا بِنَاء ألقيت حول هيكل)
(أَتَانِي فَلم يبصر فؤاداً مروّعاً
…
فَقَامَ مقَام السَّائِل المتطفل)
(فَقلت لَهُ عذرا أُسَامَة إِنَّنِي
…
أرى جمل زادي قادحاً فِي التَّوَكُّل)
(أقِم فَلَعَلَّ الله يرزقنا مَعًا
…
فَإِن لنا رزقا على المتَوَكل)
(فعنّ لَهُ سرب كأنّ نعاجه
…
غوان تهادى فِي الحلى حول جدول)
(فثار فَلَمَّا أبصرته تلاحقت
…
كَمَا انْسَلَّ در من نظام مفصل)
(فناديته صبرا وللضيف حُرْمَة
…
فَلَا تتكلف هم قوت ومأكل)
(وَقمت إِلَيْهَا طَالبا فَوق ضامر
…
كَمَا انقض صقر أجدل فَوق أجدل)
(وفوّقت سَهْما مصمياً نَحْو بَعْضهَا
…
وَمن وعد الضَّيْف الْقرى فليعجل)
(وقاسمته زادي وَبَات مقابلي
…
كَمَا قَابل المقرور نَارا ليصطلي)
(وأوسعني شكرا وَمَا كَانَ ناطقاً
…
وَلَكِن لِسَان الْحَال أصدق مقول)
(وسرت وسرا الصُّبْح فِي خاطر الدجى
…
وَنجم السما يرنو بمقلة أَحول)
(وَإِنِّي مُقيم للصديق على الوفا
…
سريع إِذا سَاءَ الْجوَار ترحلي)
(وَلَيْسَ ارتحالي عَن ملالٍ وَإِنَّمَا
…
رَأَيْت مَكَان الذل أَسْوَأ منزل)
(وَمن كَانَ ذَا صَبر على الْجور والجفا
…
فَإِنِّي مجدّ فِي خلاف السمندل)
(أَلا فِي سَبِيل الله ود صرفته
…
لمن خَان ميثاقي وأشمت عذلي)
(جَزَاء سنمار جزاني على الْهوى
…
وَكَانَ يمنيني وَفَاء السموأل)
سنمار رجل رومي بنى الخورنق الَّذِي بِظهْر الْكُوفَة للنعمان بن امرىء الْقَيْس فَلَمَّا فرغ مِنْهُ أَلْقَاهُ من أَعْلَاهُ فخرّ مَيتا وَإِنَّمَا فعل ذَلِك لِئَلَّا يبْنى مثله لغيره فَضربت الْعَرَب بِهِ الْمثل لمن يجزى بِالْإِحْسَانِ الْإِسَاءَة قَالَ الشَّاعِر
(جزتنا بَنو سعد بِحسن فعالنا
…
جَزَاء سنمار وَمَا كَانَ ذَا ذَنْب)
وَيُقَال هُوَ الَّذِي بنى أطماً لأحيحة بن الجلاح فَلَمَّا فرغ مِنْهُ قَالَ لَهُ أحيحة لقد أحكمته فَقَالَ إِنِّي لأعرف فِيهِ حجرا لَو نزع لتقوّض من آخِره فَسَأَلَهُ عَن الْحجر فَأرَاهُ
مَوْضِعه فَدفعهُ أحيحة من الأطم فَخر مَيتا والسموأل بِفَتْح السِّين وَالْمِيم وَسُكُون الْوَاو وَبعدهَا همزَة ثمَّ لَام ابْن حَيَّان بن عاديا الْيَهُودِيّ كَانَ من وفائه أَن امْرأ الْقَيْس لما أَرَادَ الْخُرُوج إِلَى قَيْصر استودع السموأل دروعاً وأحيحة بن الجلاح أَيْضا دروعاً فَلَمَّا مَاتَ امْرُؤ الْقَيْس غزاه ملك من مُلُوك الشَّام فتحرز مِنْهُ السموأل فَأخذ الْملك ابْنا لَهُ وَكَانَ خَارِجا من الْحصن فصاح الْملك بالسموأل فَأَشْرَف فَقَالَ هَذَا ابْنك فِي يَدي وَقد علمت أَن امْرأ الْقَيْس ابْن عمي وَمن عشيرتي وَأَنا أَحَق بميراثه فَإِن دفعت إليّ الدروع وَإِلَّا ذبحت ابْنك فَقَالَ أجلني فَأَجله فَجمع أهل بَيته ونساءه فشاورهم فَكل أَشَارَ عَلَيْهِ أَن يدْفع الدروع ويستنقذ ابْنه فَلَمَّا أصبح أشرف عَلَيْهِ فَقَالَ لَيْسَ إِلَى دفع الدروع سَبِيل فَاصْنَعْ مَا أَنْت صانع فذبح الْملك ابْنه وَهُوَ مشرف ينظر إِلَيْهِ ثمَّ انْصَرف الْملك بالخيبة
(فَمن مبلغ الإخوان عني رِسَالَة
…
عليّ يُدِير القَوْل من خير مُرْسل)
(مقَالَة من يجزى على الْفِعْل مثله
…
وَلَا يظلم المجزيّ حَبَّة خَرْدَل)
(مقَالَة من تخشى بوادره وَمن
…
تساوى لَدَيْهِ طعم شهد وحنظل)
(مقَالَة من لَا يختشي ذمّ جارح
…
وَلَا يرتجي فِي النصح حمد المعوّل)
(دعوا الْبَغي أَن الْبَغي يصرع أَهله
…
ويوقع فِي دَاء من الْخطب معضل)
(وَلَا تجحدوا حق المحق فَإِنَّهُ
…
سيبدو ظُهُور النَّار من فَوق يذبل)
(وَلَا تظهروا شَيْئا وَفِي النَّفس غيرَة
…
بِوَجْه ضحوك فَوق قلب كمرجل)
(وَهل يختفي عَن حافظين وَشَاهد
…
رَقِيب عَلَيْكُم بالقلوب مُوكل)
(وَمن كَانَ ذَا رَأْي سديد وفطنة
…
رأى مَا نأى عَنهُ بِأَدْنَى تأصل)
(أسرّة وَجه الْمَرْء عِنْد كَلَامه
…
تفصل من أسراره كل مُجمل)
(وأسرع شَيْء يضمحل وجوده
…
تصنع كَذَّاب وصولة مُبْطل)
(وَلَا تنقضوا الْمِيثَاق فَالله سَائل
…
عَن الْعَهْد فِي يَوْم الْجَزَاء الْمُؤَجل)
(وَلَا تحقروا كيد الضَّعِيف فَرُبمَا
…
يساعده الدَّهْر الْكثير التحوّل)
(وَكم خادمٍ أضحى لمَوْلَاهُ سيداً
…
وأسدى إِلَيْهِ مِنْهُ المتفضل)
(أحبتنا رفقا علينا ورقة
…
فزينة لب الْمَرْء حسن الترسل)
(تحملت مِنْكُم مَا يذوب بِهِ الصَّفَا
…
وَقد يهْلك الْإِنْسَان فرط التَّحَمُّل)
(أَفِي كل يَوْم أختشي سبق جَاهِل
…
كجلمود صَخْر حطه السَّيْل من عل)
(إِذا قدموهم ثمَّ أَقبلت أخروا
…
وَيبْطل نهر الله جدول معقل)
نهر معقل بِالْبَصْرَةِ وَهُوَ معقل بِالْبَصْرَةِ وَهُوَ معقل بن يسَار الْمُزنِيّ الصَّحَابِيّ وينسب إِلَيْهِ التَّمْر المعقلي وَفِي الْمثل إِذا جَاءَ نهر الله بَطل نهر معقل وَالْمرَاد بنهر الله مَا يَقع عِنْد الْمَدّ فَإِنَّهُ يطم على الْأَنْهَار كلهَا
(وَمن قاسني بالحاسدين فَضِيلَة
…
كمن قَاس فِي السَّبق المجلى بفسكل)
الفسكل هُوَ من خيل السباق الْعشْرَة وَهُوَ الَّذِي فِي آخر الحلبة آخر الْخَيل وَيُقَال لَهُ القاسور والسكيت أَيْضا هَذَا مَا عَلَيْهِ الْجَوْهَرِي قَالَ ابْن الْحَنْبَلِيّ فِي تَارِيخه بعد كَلَام ذكره وَلم أجد للقاسور ذكرا فِيمَا أنْشدهُ الصَّفَدِي فِي تَارِيخه لِابْنِ مَالك النَّحْوِيّ جَامعا لأسماء خيل السباق الْعشْرَة فِي قَوْله
(خيل السباق مجل يقتفيه مصل
…
والمسلى وتال قبل مرتاح)
(وعاطف وخطّي والمؤمل واللطيم
…
والفسكل السّكيت يَا صَاح)
وَكَأَنَّهُ تَركه لِأَنَّهُ والفسكل والسكيت وَاحِد كَمَا عَلَيْهِ الْجَوْهَرِي
(سأرتكب الْخطب الْعَظِيم مخاطراً
…
وأخلع عَن عطفي برد التجمل)
(وأبذلها إِمَّا على النَّفس أَولهَا
…
وَمن يطْلب الغايات للنَّفس يبْذل)
(فَإِن عِشْت أدْركْت الْأَمَانِي وَإِن أمت
…
فَتلك سَبِيل لست فِيهَا بأوّل)
(وأنبئت أَن ابْن اللئيمة سبني
…
وَلَيْسَ على عهد الدمى من معوّل)
(وَقَالَ لمن أَحْوَاله وَهُوَ صَادِق
…
أَلسنا صُدُور النَّاس فِي كل محفل)
(ورثت العلى عَن كابرٍ بعد كَابر
…
وسوّدت بالمجد الرفيع المؤثل)
(نعم مَا بنوا من مجدهم قد هدمته
…
وأصبحت فيهم وَاو عَمْرو المذيل)
(لَئِن نلْت مَا أملته من حُكُومَة
…
لتنشر فِيهَا شرع حَاكم جبل)
جبل بِفَتْح الْجِيم وَضم الْبَاء الْمُشَدّدَة بلد بشاطىء دجلة وقاضي جبل يضْرب بِهِ الْمثل فِي الْجَهْل فَيُقَال أَجْهَل من قَاضِي جبل يُقَال أَنه قضى لخصم جَاءَهُ وَحده ثمَّ نقض حكمه لما جَاءَ الْخصم الآخر وَفِيه يَقُول مُحَمَّد بن عبد الْملك الزيات
(قضى لمخاصم يَوْمًا فَلَمَّا
…
أَتَاهُ خَصمه نقض الْقَضَاء)
(دنا مِنْك العدوّ وغبت عَنهُ
…
فَقَالَ بِحكمِهِ مَا كَانَ شَاءَ)
وَمن ظريف مَا يحْكى عَنهُ أَن الْمَأْمُون لما خرج إِلَى فَم الصُّلْح للابتناء ببوران إِذا جمَاعَة على الشط وَفِيهِمْ رجل يُنَادي بِأَعْلَى صَوته يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ نعم القَاضِي قَاضِي
جبل جزاه الله عَنَّا أفضل مَا جزى بِهِ أحدا من الْقُضَاة فَهُوَ الْعَفِيف النَّظِيف الناصح الحبيب الْمَأْمُون الْعَيْب وَكَانَ القَاضِي يحيى بن أَكْثَم يعرف قَاضِي جبل وَهُوَ الَّذِي ولاه وَأَشَارَ بِهِ فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ إِن هَذَا الَّذِي يُنَادي ويثني على القَاضِي هُوَ القَاضِي نَفسه فاستضحك الْمَأْمُون واستظرفه وَأقرهُ على الْقَضَاء وَقد كَانَ أهل جبل وَقَعُوا عَلَيْهِ وَذكروا أَنه سَفِيه حَدِيد يعَض رُؤُوس الْخُصُوم
(سيندم قوم حاربوني وَإِنَّهُم
…
ستطرقهم من جَانِبي أم قسطل)
أم قسطل الداهية
(وَإِن لساني مبضع أَي مبضع
…
وَفِي كل عُضْو مِنْهُم عرق أكحل)
(وَأقسم لَوْلَا خشيَة الله والحيا
…
نسخت بِهِ ذكرى جرير وجرول)
(بأسهم لفظ كالصواعق أرْسلت
…
وأنصل معنى كالقضاء الْمنزل)
(وقافية تزداد حسنا وَجدّة
…
وَتبقى بَقَاء الْوَحْي فِي صم جندل)
(قلائد مَا مرت بفكر مرقش
…
وَلَا خطرت يَوْمًا ببال المهلهل)
(فَكُن حذرا فالحزم ينفع أَهله
…
وَإِن كنت مِمَّن يجهل الْأَمر فاسأل)
وَقد أطلنا تَرْجَمته حَسْبَمَا اقْتَضَاهُ الْحَال وَحَاصِله أَنه كَانَ فريد زَمَانه ووحيد أَوَانه وَمَا أَدْرِي بِأَيّ عبارَة أصف محاسنه وأذكر صنائعه وَكَانَ قبل مَوته بأيام نَهَضَ حَظه نهضة عَجِيبَة وَذَلِكَ لإقبال الْوَزير الْأَعْظَم مصطفى باشا الْمَقْتُول عَلَيْهِ وأدرّ عَلَيْهِ إدرارات كَثِيرَة وشفع لَهُ عِنْد الْمُفْتِي فولاه إِحْدَى الْمدَارِس الثمان ثمَّ بعد أشهر ولاه مدرسة زَالَ باشا الَّتِي بِأَيُّوب وَفَرح فَرحا شَدِيدا وَاتفقَ لي أَنِّي كنت عِنْده فَجَاءَهُ للتهنئة الْمولى رفقي الْمدرس بمدرسة إِبْرَاهِيم باشا بِمَدِينَة الغلطة فهناه ثمَّ ذكر لَهُ أَن هَذِه الْمدرسَة مَشْهُورَة بِالْيمن وَمن جملَة يمنها أَنه لم يَقع لأحد من مدرسيها أَنه مَاتَ وَهِي عَلَيْهَا فعجبت من هَذَا وَوَقع فِي وهمي أَن يكون مبدأ لمَوْت بعض مدرسيها وانفصل الْمجْلس ثمَّ فِي ثَانِي يَوْم رَأَيْت قرطاساً فِي وسط دواته فتأملت فِيهَا فرأيته قد شرع فِي عمل قصيدة وَكتب قوافيها وَلم يكْتب مِنْهَا إِلَّا المطلع وَهُوَ هَذَا
(ألم تَرَ أَن الْهم قد زَالَ بزالا
…
وَأحسن آمالنا وَلنَا ومآلا)
فاستحكمت الطَّيرَة فِي وهمي من لَفْظَة زَالَ وفارقته عَشِيَّة النَّهَار وَهُوَ فِي لب الصِّحَّة فَفِي الصَّباح جَاءَنِي خَادِم لَهُ يدعوني إِلَيْهِ وَذكر لي الْخَادِم بِأَنَّهُ طعن بِاللَّيْلِ فأسرعت إِلَيْهِ فَلَمَّا دخلت عَلَيْهِ رَأَيْته قد انْعَقَد لِسَانه وأشرف على الْمَوْت وَبَقِي
إِلَى اللَّيْلَة الْقَابِلَة فَقضى نحبه وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْأَرْبَعَاء لليلتين بَقِيَتَا من شَوَّال سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف وَكَانَ عمره أَرْبعا وَثَلَاثِينَ سنة فَإِن مولده على مَا أَخْبرنِي بِهِ فِي سنة خمس وَخمسين وَألف وَدفن خَارج بَاب أدرنة على يمنة الطَّرِيق الْآخِذ إِلَى مَدِينَة أَيُّوب وَقلت أرثيه بِهَذِهِ الأبيات
(كل حَيّ على البسيطة فَانِي
…
غير وَجه الْمُهَيْمِن الرَّحْمَن)
(وشراب الْمنون فِي النَّاس يسرى
…
سريان الْأَرْوَاح فِي الْأَبدَان)
(عَم حكم الفناء فِي الْخلق حَتَّى
…
سَوف يرقى الردى إِلَى كيوان)
(وفناء الأقران شَاهد عدل
…
وَدَلِيل على فَنًّا الأقران)
(لَو نجا من يَد الردى ذُو فخار
…
خلد الْعدْل صَاحب الإيوان)
(إِن فِي الْمَوْت عِبْرَة للبيب
…
لم تعقه علائق الجثمان)
(وَالسَّفِيه السَّفِيه من صرف الْعُمر
…
بِشرب الطلا وَقرب الغواني)
(وَالَّذِي يَشْتَرِي جَهَنَّم باللذات
…
أولى التُّجَّار بالخسران)
(فاغتنم فرْصَة الْحَيَاة فَمَا التسويف
…
إِلَّا مَطِيَّة الحرمان)
(كل نفس تجزى بِمَا قدّمته
…
وَجَزَاء الْإِحْسَان بِالْإِحْسَانِ)
(كَيفَ نرجو من الزَّمَان بَقَاء
…
والمنايا تحول دون الْأَمَانِي)
(والورى وَالثَّرَى حباب وَمَاء
…
ينطفي وَاحِد ويطفو الثَّانِي)
(أَيْن روح الزَّمَان من كنت فِي حِين
…
وإياه كحلتي حلوان)
(كَانَ فِينَا كالورد فِي وجنات الغيد
…
وَالسحر فِي عُيُون الحسان)
(عَاجل الدَّهْر نير الْفضل بالكسف
…
وَبدر الْكَمَال بِالنُّقْصَانِ)
(رَجَعَ الْجَوْهَر النفيس إِلَى الأَصْل
…
وأضحى مقره فِي الْجنان)
(لَيْت شعري وَلَيْسَ يجدي أَمن عمدٍ
…
رمته الخطوب أم نِسْيَان)
(كَيفَ دكيت أَيهَا الحتف رضوى
…
ونقلت الهضاب من ثهلان)
(جَادَتْ السحب قَبره من فَقِيه
…
كَانَ فِي الْفِقْه وَارِث النُّعْمَان)
(وَحَكِيم يكَاد ينْطق عَن
…
وَحي نَبِي أَو عَن نبا لُقْمَان)
(وأديب يغار من نثره الدّرّ
…
وَمن نظمه عُقُود الجمان)
(وجوادٍ كَانَ فِي كَفه عَيْني
…
محب أَو ملتقى عمان)
(كَانَ نفعا وَلم يزل وأحق النَّاس
…
بِالْحَمْد دَائِم الْإِحْسَان)
(هوّن الدَّهْر بعده كل خطب
…
فترانا من حربه فِي أَمَان)
(يَا صديقي تَرَكتنِي لخطوب
…
يَنْقَضِي قبلهَا زمَان الزَّمَان)
(لست أرْضى عَلَيْك حكم لبيد
…
مذهبي فِي الْوَفَاء حكم ابْن هاني)
(عيل صبري وَإِنَّمَا أتأسى
…
بِعُمُوم الْمُصَاب فِي الْأَعْيَان)
(أسعد الصاحبين من مَاتَ من قبل
…
وَأبقى الصّديق للأحزان)
(إِنَّمَا هَذِه مراحل تطوى
…
والبرايا تساق كالركبان)
(كنت أخْشَى الورى لِرَبِّك خوفًا
…
وَلمن خَافَ ربه جنتان)
(وَلَك السَّبق فِي جَمِيع الْمَعَالِي
…
فتمتع بِالروحِ وَالريحَان)
عبد الْبَاقِي بن الشَّيْخ الْوَلِيّ الزين المزجاجي التحيتي بِالتَّصْغِيرِ نِسْبَة إِلَى التحيتة خَارج زبيد الزبيدِيّ الشَّيْخ القطب الْفَرد الْجَامِع الْغَوْث الإلهي الصُّوفِي الْعَارِف بِاللَّه وَالدَّال عَلَيْهِ الإِمَام الْمجمع على تحَققه بالحقائق الغيبية ولد بالتحيتة وَبهَا نَشأ وَأخذ عَن شُيُوخ كثيرين بِالْيمن وَأخذ طَرِيق النقشبندية عَن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى تَاج الدّين الْهِنْدِيّ وَبِه تخرج وَصَارَ خَلِيفَته من بعده فِي طَرِيق النقشبندية وَأخذ عَنهُ خلق لَا يُحصونَ مِنْهُم الشَّيْخ أَحْمد الْبَنَّا الدمياطي رَحل إِلَيْهِ ولازمه مُدَّة مديدة وَبِه تخرج وَلم يزل ينفع النَّاس حَتَّى نَقله الله تَعَالَى إِلَى دَار كرامته وَكَانَت وَفَاته فِي شهر ربيع الآخر سنة أَربع وَسبعين وَألف بِبَلَدِهِ التحيتة وَبهَا دفن وَآل المزجاجي قوم صَالِحُونَ لَهُم شهرة وسيادة بِالْيمن والمزجاجي بِكَسْر ثمَّ معجمات نِسْبَة إِلَى المزجاجية مَوضِع يصنع فِيهِ المزجاج بِالْقربِ من زبيد
عبد الْبَاقِي بن عبد الْبَاقِي بن عبد الْقَادِر بن عبد الْبَاقِي بن إِبْرَاهِيم بن عمر بن مُحَمَّد الْحَنْبَلِيّ البعلي الْأَزْهَرِي الدِّمَشْقِي المحدّث الْمقري الأثري الشهير بِابْن الْبَدْر ثمَّ بِابْن فَقِيه فصة وَهِي بفاء مَكْسُورَة ومهملة قَرْيَة ببعلبك من جِهَة دمشق نَحْو فَرسَخ وَكَانَ أحد أجداده يتَوَجَّه ويخطب فِيهَا فَلذَلِك اشْتهر بهَا وأجداده كلهم حنابلة وَقد ولد هُوَ ببعلبك وَقَرَأَ أَولا على وَالِده الْقُرْآن الْعَظِيم ثمَّ ارتحل إِلَى دمشق وَأخذ بهَا الْفِقْه عَن القَاضِي مَحْمُود بن عبد الحميد الْحَنْبَلِيّ خَليفَة الحكم الْعَزِيز بِدِمَشْق حفيد الشَّيْخ مُوسَى الحجاوي صَاحب الْإِقْنَاع وَعَن الشَّيْخ الْعَالم المحدّث أَحْمد بن أبي الوفا المفلحي المقدّم ذكره وَأخذ طَرِيق الصُّوفِيَّة عَن ابْن عَمه الشَّيْخ نور الدّين البعلي خَليفَة الشَّيْخ مُحَمَّد العلمي الْقُدسِي ولقنه الذّكر وَأَجَازَهُ الشَّيْخ العلمي
الْمَذْكُور فِي الْقُدس بالبداءة فِي الأوراد والأذكار والمحيا ورحل إِلَى مصر فِي سنة تسع وَعشْرين وَألف وَأخذ الْفِقْه عَن الشَّيْخ مَنْصُور وَالشَّيْخ مرعي البهوتيين وَالشَّيْخ عبد الْقَادِر الدنوشري وَالشَّيْخ يُوسُف الفتوحي سبط ابْن النجار وَأخذ القراآت عَن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن اليمني والْحَدِيث عَن الْبُرْهَان اللَّقَّانِيّ وَأبي الْعَبَّاس الْمقري والفرائض عَن الشَّيْخ مُحَمَّد الشمريسي وَالشَّيْخ زين العابدين أبي دري الْمَالِكِي وَالشَّيْخ عبد الْجواد الجنبلاطي وَالْعرُوض عَن الشَّيْخ مُحَمَّد الْحَمَوِيّ وَحِصَّة من الْمنطق والعربية عَن الشَّيْخ مُحَمَّد البابلي وَحضر دروسه ثمَّ عَاد إِلَى دمشق وَقَرَأَ على الْعَلامَة عمر القارىء فِي النَّحْو والمعاني والْحَدِيث وَالْأُصُول وَحج فِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف وَأَجَازَهُ عُلَمَاء مَكَّة كالشيخ مُحَمَّد بن عَلان الصديقي وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن المرشدي الْحَنَفِيّ مفتي مَكَّة وَأخذ عَن أهل الْمَدِينَة كالشيخ عبد الرَّحْمَن الخياري وَكَذَلِكَ عَن عُلَمَاء بَيت الْمُقَدّس وَأَعْلَى سَنَد لَهُ فِي الحَدِيث مرويات الْحَافِظ ابْن حجر الْعَسْقَلَانِي فِي جَمِيع كتب الحَدِيث عَن الشَّيْخ حجازي الْوَاعِظ عَن ابْن أركماس من أهل غيط الْعدة بِمصْر عَن الْحَافِظ ابْن حجر وَحضر دروس الحَدِيث بالجامع الْأمَوِي عِنْد الشَّمْس الميداني والنجم الْغَزِّي ودروس التَّفْسِير عِنْد الْعِمَادِيّ الْمُفْتِي وتصدر للإقراء بالجامع الْمَذْكُور فِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف بكرَة النَّهَار وَبَين العشاءين فَقَرَأَ الْجَامِع الصَّغِير فِي الحَدِيث مرَّتَيْنِ وَتَفْسِير الجلالين مرَّتَيْنِ وَقَرَأَ صَحِيح البُخَارِيّ بِتَمَامِهِ وَمُسلم والشفا والمواهب وَالتَّرْغِيب والترهيب والتذكرة للقرطبي وَشرح البرءة والمنفرجة والشمايل والإحياء جَمِيع ذَلِك فِيهِ نظر ولازم ذَلِك مُلَازمَة كُلية بمحراب الْحَنَابِلَة أَولا ثمَّ بمحراب الشَّافِعِيَّة وَلم ينْفَصل عَن ذَلِك شتاء وَلَا صيفاً وَلَا لَيْلَة عيد حَتَّى أَنه لما زوج ولديه حضر تِلْكَ اللَّيْلَة وَكَانَ فِيهِ نفع عَظِيم وَأخذ عَنهُ خلق كثير أَجلهم الْأُسْتَاذ الْكَبِير وَاحِد الدُّنْيَا فِي المعارف إِبْرَاهِيم الكوراني نزيل الْمَدِينَة وَالسَّيِّد الْعَالم مُحَمَّد بن عبد الرَّسُول البرزنجي وَمِنْهُم وَلَده الْعَالم الْعلم الدّين الْخَيْر أَبُو الْمَوَاهِب مفتي الْحَنَابِلَة الْآن أبقى الله وجوده ونفع بِهِ وَشَيخنَا المرحوم عبد الْحَيّ العكري الْآتِي ذكره وَغَيرهم وَله مؤلفات مِنْهَا شرح على البُخَارِيّ لم يكمله ودرس بِالْمَدْرَسَةِ العادلية الصُّغْرَى وَصَارَ خَطِيبًا بِجَامِع منجك الَّذِي يعرف بِمَسْجِد الأقصاب خَارج دمشق وَكَانَ شيخ الْقُرَّاء بِدِمَشْق ونظم الشّعْر إِلَّا أَن شعره شعر الْعلمَاء وَلَقَد رَأَيْت من شعره الْكثير فَلم أر فِيهِ
مَا يصلح للإيراد وَبِالْجُمْلَةِ فَفِي ذكر مَا اشْتَمَل عَلَيْهِ من الْعُلُوم والأوصاف الفائقة مَا يُغني عَن الشّعْر وأشباهه وَكَانَت وِلَادَته لَيْلَة السبت ثامن شهر ربيع الثَّانِي سنة خمس بعد الْألف وَتُوفِّي لَيْلَة الثُّلَاثَاء سَابِع عشري ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَسبعين وَألف وَدفن بتربة الغربا من مَقْبرَة الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْبَاقِي بن عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن خَلِيل بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن مُوسَى بن غَانِم بن عَليّ بن حسن بن إِبْرَاهِيم بن عبد الْعَزِيز بن سعيد بن سعد ابْن عبَادَة سيد الْخَزْرَج الْمَقْدِسِي الأَصْل الْمصْرِيّ إِمَام الأشرفية بِمصْر هَكَذَا رَأَيْت نسب جده إِمَام الْمُحَقِّقين الْآتِي ذكره فِي غَالب الْيَقِين أَن فِيهِ نقصا كَانَ صَاحب هَذِه التَّرْجَمَة من مشاهير الأفاضل لَهُ انهماك على تَحْصِيل الْعُلُوم وَتَقْيِيد الْفَوَائِد الغريبة وَكَانَ يحفظ مِنْهَا كثيرا وَحصل بِخَطِّهِ كتبا كَثِيرَة جدا فِي فنون وَكَانَ ملازماً لِلْعِبَادَةِ والاستفادة مترفعاً عَن الدُّنْيَا وَأَهْلهَا لَا يتَرَدَّد إِلَى أحد إِلَّا فِي خير وَكَانَ نير الْوَجْه جمالِيًّا سمح النَّفس حسن الصِّفَات شرِيف الطباع مَشْهُورا بِقِيَام اللَّيْل وإحياء اللَّيَالِي الفاضلة قَرَأَ فِي الْفِقْه على الشَّمْس مُحَمَّد المحبي وَمُحَمّد الشلبي والشهاب أَحْمد الشَّوْبَرِيّ وَحسن الشُّرُنْبُلَالِيّ الحنفيين وَغَيرهم وَأخذ بَقِيَّة الْعُلُوم عَن كثيرين مِنْهُم الشَّمْس الشَّوْبَرِيّ وَيس الْحِمصِي والنور الشبراملسي وسلطان المزاحي وَمُحَمّد البابلي وَعبد الْجواد الخوانكي وسري الدّين الدروري وَأخذ عَنهُ جمَاعَة كَثِيرُونَ مِنْهُم صاحبنا المرحوم عبد الْبَاقِي بن أَحْمد السمان وصاحبنا الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله وَكَانَ صاحبنا الأول يثني عَلَيْهِ ثَنَاء بليغاً ويفضله على جَمِيع من عاصره من عُلَمَاء الْحَنَفِيَّة وَحكى لي أَنه كَانَ مَعَ مَا اجْتمع فِيهِ من المهابة شَدِيد الْبسط كثير الدعابة والغزل وَطرح التسمت مليح الحَدِيث لَا يمل وَإِن طَال وَله تآليف كَثِيرَة من أجلهَا شَرحه على الْكَنْز فِي الْفِقْه سَمَّاهُ الرَّمْز وَالسُّيُوف الصقال فِي رَقَبَة من يُنكر كرامات الْأَوْلِيَاء بعد الِانْتِقَال وَله تذكرة فِي أَربع مجلدات جمع فِيهَا فأوعى وقفت عَلَيْهَا شكرا لله سَعْيه وَقد سَمَّاهَا رَوْضَة الْآدَاب وفيهَا يَقُول ابْن السمان الْمَذْكُور مادحاً لَهَا ولمؤلفها
(مَا عروس بَدَت بِغَيْر حجاب
…
وكؤوس جلت صدا الْأَلْبَاب)
(ورحيق مزاجه سلسبيل
…
روّقته السقاة فِي الأكواب)
(وربيب إِذا رَأَتْ وَجهه الشَّمْس
…
تَوَارَتْ من وَقتهَا بالحجاب)
(ذُو لحاظ ترمي سِهَام المنيات
…
بهَا من كنائن الْأَهْدَاب)
(تَحت فرع كَأَنَّهُ ظلمَة الْبعد
…
وَفرق كالوصل والاقتراب)
(فَإِذا مَا شدا بِصَوْت رخيم
…
ذكر الناسكين عهد التصابي)
(كثمار من الْفَوَائِد فِي أَغْصَان
…
علم بروضة الْآدَاب)
(أبدعتها أَيدي إِمَام الْهدى وَالْعصر
…
بَحر الندا مُبين الصعاب)
(عَالم الْوَقْت منبع الشَّرْع وَالدّين
…
يفضل النهى وَفصل الْخطاب)
(من بألفاظه لقد شرف الْمِنْبَر
…
وازداد رونق الْمِحْرَاب)
(هُوَ كالبحر كل صَاد تروى
…
من نداه وَغَيره كالسراب)
(دَامَ فَردا فِي الْفضل جَامع علم
…
مَا صبا مغرم لعهد الشَّبَاب)
وَأَخْبرنِي أَنه كَانَ هُوَ وإياه فِي مجْلِس حافل فَدخل عَلَيْهِم رجل وَأنْشد قصيدة فِي مديح الْمَقْدِسِي منحطة الرُّتْبَة وَاعْتذر فِيهَا عَن قصوره قَالَ فأنشدت بديها هَذِه الأبيات على الْوَزْن والقافية
(قصرت فِي مدح الإِمَام الْمَقْدِسِي
…
وحوادث الْأَيَّام عذر الْمُفلس)
(عَلامَة الْأَعْلَام والغصن الَّذِي
…
بِالْفَضْلِ يعرف فِيهِ طيب المغرس)
(سَعْدا لكَمَال وَسيد الْعلمَاء من
…
بِوُجُودِهِ نعفو عَن الزَّمن المسي)
(حبر إِذا اجْتمع الصُّدُور بِمَجْلِس
…
يَوْم التفاخر فَهُوَ صدر الْمجْلس)
(شدّت بأوتار النُّجُوم خيامه
…
مَضْرُوبَة فَوق الْأَثِير الأطلس)
(أفكاره تجلو الخطوب عَن الورى
…
وضياؤه يجلو ظلام الحندس)
(قد مثل الله الْعُلُوم لَهُ كَمَا
…
لنَبيه تَمْثِيل بَيت الْمُقَدّس)
(فَإِذا مدحت أولي الْفَضَائِل والنهى
…
فالبس من الْآدَاب أَفْخَر ملبس)
(فالمدح بالشعر الضَّعِيف لمثله
…
كالهجو تكرههُ كرام الْأَنْفس)
وَحكى لي الْأَخ الشَّيْخ مصطفى أَنه حضر دروسه فِي الْجَامِع الصَّغِير للسيوطي بالأشرفية قَالَ وَاتفقَ أَنِّي دخلت عَلَيْهِ يَوْم عيد فِي بَيته أُعِيدهُ وأعوده وَهُوَ مَرِيض مرض الْمَوْت وَكَانَ لَهُ ولد صَغِير فَلَمَّا خرجت من عِنْده أَعْطيته شَيْئا من الدَّرَاهِم فَرجع إِلَى وَالِده فَأخْبرهُ فناداني وَقَالَ لي فِي الْجنَّة بَاب يدْخل مِنْهُ مفرحو الْأَطْفَال أَرْجُو الله تَعَالَى أَن تكون مِنْهُم قَالَ وَرَأَيْت بِخَطِّهِ من شعره قَوْله
(صادني خشف ربيب
…
فاتن بالْحسنِ يسمو)
(ظن عذالي سلوى
…
إِن بعض الظَّن إِثْم)
وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَمَان وَسبعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْبَاقِي بن يُوسُف بن أَحْمد شهَاب الدّين بن مُحَمَّد بن علوان الزّرْقَانِيّ الْمَالِكِي الْعَلامَة الإِمَام الْحجَّة شرف الْعلمَاء ومرجع الْمَالِكِيَّة وَكَانَ عَالما نبيلاً فَقِيها متبحراً لطيف الْعبارَة ولد بِمصْر فِي سنة عشْرين وَألف وَبهَا نَشأ وَلزِمَ النُّور الأَجْهُورِيّ سِنِين عديدة وَشهد لَهُ بِالْفَضْلِ وَأخذ عُلُوم الْعَرَبيَّة عَن الْعَلامَة يس الْحِمصِي والنور الشبراملسي وَحضر الشَّمْس البابلي فِي دروسه الحَدِيث وَأَجَازَهُ جلّ شُيُوخه وتصدر للإقراء بِجَامِع الْأَزْهَر وَألف مؤلفات كَثِيرَة مِنْهَا شرح على مُخْتَصر خَلِيل تشد إِلَيْهِ الرّحال وَشرح على العزية وَغير ذَلِك وَكَانَ رَقِيق الطَّبْع حسن الْخلق جميل المحاورة لطيف التأدية للْكَلَام وَكَانَت وَفَاته ضحى يَوْم الْخَمِيس رَابِع عشري شهر رَمَضَان سنة تسع وَتِسْعين وَألف بِمصْر وَدفن بتربة المجورين
عبد الْبَاقِي شَاعِر الرّوم وحسانها الأديب الشَّاعِر الْفَائِق الشهير بباقي كَانَ أوحد أهل عصره فِي الْفضل وَالْأَدب وَله الشُّهْرَة الطنانة فِي الشّعْر البليغ وَأهل الرّوم يطلقون عَلَيْهِ سُلْطَان الشُّعَرَاء فِيمَا بَينهم وَذكر مبدأه أَنه كَانَ يتعانى حِرْفَة السُّرُوج ثمَّ تَركهَا وتشبث بأذيال الْعُلُوم واشتغل على كثير من عُلَمَاء وقته وَوصل آخرا إِلَى شيخ الْإِسْلَام أبي السُّعُود الْعِمَادِيّ فواظب على درسه وفاز مِنْهُ بالملازمة الْعُرْفِيَّة وَمَا زَالَ صيته يسمو بِحسن الشّعْر حَتَّى وصل إِلَى مسامع السُّلْطَان سُلَيْمَان فَالْتَفت إِلَيْهِ وصيره مدرساً وَلم يزل يترقى فِي الْمدَارِس إِلَى أَن وصل إِلَى إِحْدَى الْمدَارِس السليمانية ثمَّ عزل عَنْهَا بِلَا مُوجب وأدركته حِرْفَة الْأَدَب ثمَّ بعد مُدَّة ولي الْمدرسَة السليمية بدار السلطنة وَولي مِنْهَا قَضَاء مَكَّة المشرفة ثمَّ نقل إِلَى قَضَاء الْمَدِينَة المنورة وعزل عَنْهَا فَأَقَامَ معزولاً عدَّة سِنِين ثمَّ استقضى بدار السلطنة ونال بعد ذَلِك قَضَاء العسكرين مرّة بعد مرّة وَقد ذكره الْمولى عبد الْكَرِيم بن سِنَان فِي تراجمه فَقَالَ فِي وَصفه كَانَ ذَا بَيَان عذب ولسان عضب حل عقد الفصاحة بِمَا قَيده وبيض وَجه البلاغة بِمَا سوده نفث فِي عقول الْبَحْر بسحره وطار إِلَى الأقطار هزار شعره لَهُ منظوم أرق من الدمع ومنثور يقتطف ببنان السّمع
(بِكُل لفظ كَأَنَّهُ نفس
…
غير مُمل لطول ترديد)
حلى جيد الزَّمَان بفرائد قلائده وَمَا الدَّهْر إِلَّا من رُوَاة قصائده سَارَتْ بأشعاره
الصِّبَا وَالْقَبُول وصادفت من النَّاس مواقع الْقبُول كَأَنَّهَا نفس الريحان وأزهاره تمزجه صبا الأصائل من أنفاس نواره فَكَأَن مداد دواته من غاليه إِذْ أَصبَحت أسعار أشعاره غَالِيَة أَلْفَاظ كَمَا نورت الْأَشْجَار وَمَعَان كَمَا تنفست الأسحار إِذا ألبس قلمه ثوب المداد عرى من الفصاحة قس إياد وَلَو حاراه الْكُمَيْت فِي حلبة البلاغة لَكَانَ قصاراه التَّقْصِير وَلَو ناظره ابْن برد لقيل لَهُ هَل يَسْتَوِي الْأَعْمَى والبصير فيا لَهُ من شعر سَار مسير الْأَمْثَال وَبلغ مَا بلغ الصِّبَا وَالشمَال يكَاد يخرج من حدّ الشّعْر إِلَى حد السحر شفت ظروف حُرُوف مبانيه فَنمت على سلافة لطافة مَعَانِيه كَمَا نمّ الزّجاج على الرَّحِيق والنسيم على شذا الرَّوْض الأنيق وَكَانَ ذَا نفس أَبِيه وهمة وحميه يُجَاهر فِي سبّ أَعْيَان زَمَانه من أضرابه وأقرانه بل كَانَ لَا يسلم من عضب لِسَانه أحد وَلَا يدْرك لَهُ غَايَة وَلَا حد فَرُبمَا أصبح كَذَلِك وَهُوَ بِإِحْرَام الحرمان مُشْتَمل أشبعتهم سباً وفازوا بِالْإِبِلِ وَكَانَت صحبته أحلى من قبْلَة الحبيب وغفلة الرَّقِيب انْتهى قلت وَبِالْجُمْلَةِ هُوَ نادرة الزَّمَان وَوَاحِد الرّوم فِي الشّعْر وَمَعَ كَثْرَة شعره بالتركية والفارسية لم أظفر لَهُ من شعره الْعَرَبِيّ إِلَّا بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ التوأمين وهما قَوْله
(لم يبْق منا غير آثارنا
…
وتنمحي من بعد أَخْلَاق)
(وكلنَا مرجعنا للفنا
…
وَإِنَّمَا الله هُوَ الْبَاقِي)
ثمَّ وقفت لَهُ على هَذَا الْبَيْت الْفَذ قَالَه فِي هجاء ابْن بُسْتَان الرُّومِي وَهُوَ قَوْله
(وَإِذا أَشرت إِلَى كذوب مفتر
…
فَإلَى ابْن بُسْتَان بِكَذَّابٍ أشر)
وَكَانَ يجْرِي لَهُ مَعَ أدباء عصره مطارحات ومنادمات يتداولها إِلَى الْآن أدباء الرّوم فِي مجَالِسهمْ وَيَتَحَدَّثُونَ عَنهُ بنكات كَانَت تصدر عَنهُ من ألطف مَا يكون وَمن أحْسنهَا موقعاً مَا اشْتهر عَنهُ أَنه كَانَ نظم قِطْعَة من الشّعْر فِي غُلَام مَشْهُور بالجمال فَلَمَّا سمع الْغُلَام الْقطعَة أعجبه مَا فِيهَا من التخيل وَأقسم أَنه يقبل رجله إِذا رَآهُ فاتفق أَنه صادفه فِي بعض أسواق قسطنطينية وَبَاقِي رَاكب وجماعته فِي خدمته فَدخل الْغُلَام وَأَرَادَ يقبل رجله فَمَنعه من ذَلِك وَقَالَ مَا حملك على هَذَا أَلَك حَاجَة فَقَالَ لَا وَأخْبرهُ بِالْيَمِينِ الَّذِي حلفه فَقَالَ لَهُ أَنا نظمت الشّعْر بفمي وَلم أنظمه برجلي فَخَجِلَ الْغُلَام وَانْصَرف وَوجدت فِي ديوَان أبي بكر الْعمريّ ذكر هَذِه الْوَاقِعَة وَقد نظمها فِي أَبْيَات ثَلَاثَة وَهِي
(قَالَ لما وَصفته ببديع الْحسن
…
ظَبْي يجل عَن وصف مثلي)
(مكن العَبْد أَن يقبل رجلا
…
لَك كَيْمَا يُجِيز فضلا بِفضل)
(قلت أنصف فدتك روحي فَإِنِّي
…
بفمي قد نظمته لَا برجلي)
وَقَرِيب من هَذَا قَول الصاحب ابْن عباد
(وشادن جماله
…
تقصر عَنهُ صِفَتي)
(أَهْوى لتقبيل يَدي
…
فَقلت لَا بل شفتي)
وَلِصَاحِب التَّرْجَمَة من هَذَا النَّوْع لطائف كَثِيرَة والعنوان يدل على مَا فِي الصَّحِيفَة وَكَانَت وَفَاته نَهَار الْجُمُعَة الثَّالِث وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان سنة ثَمَان بعد الْألف
عبد الْبَاقِي الْمَعْرُوف بالإسحاقي المنوفي الأديب الشَّاعِر الْفَائِق كَانَ قَاضِيا فَاضلا عَالما مؤرخاً كثير النّظم للشعر صَحِيح الفكرة وَله تَارِيخ لطيف ورسائل كَثِيرَة قَرَأَ بِبَلَدِهِ على شُيُوخ كثيرين وَكَانَ يتردّد إِلَى مصر وَأخذ بهَا عَن أكَابِر علمائها وَمن شعره الغض الْبَهِي قَوْله
(تمشت لنا تخجل الكوكبا
…
فناديتها مرْحَبًا مرْحَبًا)
(غزالة أنس لَهَا طلعة
…
إِذا خالها الصب حَقًا صبا)
(أدارت بحضرتنا قهوة
…
وطافت بكأس الطلا مذهبا)
(رنت ورمتني بألحاظها
…
وَقد أذكرتني عهد الصِّبَا)
(فَلَو أنّ نظرتها كالظبا
…
لهان وَلَكِن كحدّ الظبا)
(وغنت لنا فطربنا لَهَا
…
فيا حسن ذَاك الَّذِي أطربا)
(غزالية آنست صبها
…
وَأَنت محبتها زينبا)
(فهمنا فهمنا غراماً بهَا
…
وَعَن حالتي حبها أعربا)
(وصبّرت قلباً غَدا هائماً
…
وَقد كَاد فِي الْحبّ أَن يذهبا)
(فَفِيهَا مديحي عذب يرى
…
وَفِي غَيرهَا الْمَدْح لن يعذبا)
(سأجعل فِي وصفهَا نبذة
…
وأركب فِي حبها أشهبا)
(مدحت فقصر قلبِي المديح
…
وَكَانَ مرادي أستوعبا)
(وَإِنِّي فِي وَصلهَا سَيِّدي
…
تراني بَين الورى أشعبا)
(فبالله يَا نسمَة البان أَن
…
حففت على حَيّ ذَاك الرِّبَا)
(وجزت رياضاً بهَا غادتي
…
فهات لنا عَن حلاها نبا)
(أيا عاذلي فِي هَواهَا اتئد
…
حَدِيثك عِنْدِي مثل الهبا)
(سقى الله روضاً بِهِ سادتي
…
من الوبل غيثاً بِهِ صيّبا)
(لِأَنِّي بَاقٍ على عَهدهم
…
أرى حبهم مذهبا مذهبا)
وَمن مطرياته هَذِه الخمرية وَهِي قَوْله
(أمل لي كأساً تَمامًا
…
واسقني جَاما فجاما)
(وَاجعَل الدرة كأساً
…
وَخذ التبر مداما)
(تمم الكاس فَإِن الكاس
…
مَا كَانَ تَمامًا)
(واتخذها سلما للهو
…
يسمو أَن يساما)
(وتوهم أَنَّهَا الْحل
…
وَإِن كَانَت حَرَامًا)
(ثمَّ أزهى مَوضِع فِي الرَّوْض
…
فاختره مقَاما)
(وَإِذا مَا شِئْت أَن تسكر
…
فاستدع النداما)
(وَليكن خمرك عاديا
…
وساقيك غُلَاما)
(يمْلَأ الكاسات والألحان
…
برأَ وسقاما)
(يمْلَأ الْقلب سُرُورًا
…
وانبساطاً وغراما)
(عابثاً بالغصن أعطافاً
…
وبالزهر ابتساما)
(ومحلى بالطلا جيدا
…
وبالعارض لاما)
(وَترى مِنْهُ القوام الْغُصْن
…
والغصن القواما)
(وَترى الأغصان إجلالاً لَهُ
…
هيباً قيَاما)
(وَترى الشَّمْس وَبدر التم
…
نَارا ثمَّ راما)
(فَهُوَ الْمَطْلُوب للمجلس رَأْسا
…
وَأما مَا)
(اسْقِنِي بالكوب والكاس
…
فُرَادَى وتؤاما)
(ثمَّ بالطاس إِلَى أَن
…
تتراءى الْهَام هاما)
(ثمَّ بالجرّّة فالجرّة
…
حَتَّى أترامى)
(اسْقِنِي حِينَئِذٍ بالزق
…
حَتَّى لَا كلَاما)
(ثمَّ بالدن فَتلك الْغَايَة
…
القصوى تَمامًا)
(ثمَّ خُذ عني مَا شِئْت
…
وَلَا تخش أثاما)
(والتقط مني الجمان
…
الْفَرد نثراً ونظاما)
(وَإِذا لم يكن الطافح
…
بالكاس هماما)
(فاغد واعذر وَإِذا رام
…
خطابا قل سَلاما)
ويستحسن مِنْهُ قَوْله
(أذكرت أيتها الْحَمَامَة غيدا
…
ومعاهداً سلفت لنا وعهودا)
(وصدحت فَوق أراكة فتصدّعت
…
قلباً وَحين صعدت ذَا الأملودا)
(أذكرت أشجاناً لنا ومعاهداً
…
وَصفا تقضّى طارفاً وتليدا)
(هَذَا على أَن الغرام إِذا زكى
…
ظلّ الشجى يتَوَقَّع التغريدا)
(لله أَيَّام نعمت بهَا وَقد
…
عقد الْغَمَام على الغصون نهودا)
(حَيْثُ الشجى طوراً يخمش كاعباً
…
وَمن الجوى طوراً بجمش رودا)
(حَيْثُ الشمَال يُحَرك العذبات إِذْ
…
يخطو ويخطر والرياض وبيدا)
(حَيْثُ المثاني والمثالث هَذِه
…
ترنو وَذي بشجى تحرّك عودا)
(هَذَا وَمَعَ أَنا وَلَو طفحت كؤوس
…
الراح واشتعل المدام وقودا)
(مَا حركت منا المدام سوى الرؤوس
…
كَذَا الشمَال تحرّك الأملودا)
(أتؤوب هاتيك اللويلات الَّتِي
…
فِيهَا نظمت لآلئاً وعقودا)
(ولرب خل حَاز أَنْوَاع الذكا
…
وَلذَا غَدا فِي المكرمات فريدا)
(سامرته وجنوت من أَلْفَاظه
…
مَا يخجل الصَّهْبَاء والعنقودا)
(وجلا عليّ عرائساً من فكره
…
حسنت طلاً ومعاطفاً وقدودا)
(وأفادني وأفدته والخل يحمد
…
أَن يفاد معانياً ويفيدا)
(فالعقل نَام والعفاف بِحَالهِ
…
ومجيد فكرتنا استمرّ مجيدا)
(يَا عبد فابق على اصطباحك واغتباقك
…
واصحبن الْعَهْد والمعهودا)
وَقد ذكرته فِي كتابي النفحة وَذكرت لَهُ من غزلياته قدرا زَائِدا على هَذَا وَالْحق أَن شعره مَا عَلَيْهِ غُبَار وَكَانَت وَفَاته فِي نَيف وَسِتِّينَ وَألف ببلدة منوف
عبد الْبر بن عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن زين الفيومي الْعَوْفِيّ الْحَنَفِيّ أحد أدباء الزَّمَان المتفوقين وفضلائه البارعين كَانَ كثير الْفضل جم الْفَائِدَة شَاعِرًا مطبوعاً مقتدراً على الشّعْر قريب المأخذ سهل اللَّفْظ حسن الإبداع للمعاني مخالطاً لكبار الْعلمَاء والأدباء معدوداً من جُمْلَتهمْ أَخذ الْعلم بِمصْر عَن الشَّيْخ أَحْمد الوارثي الصديقي وَالْأَدب عَن الشَّيْخ مُحَمَّد الْحَمَوِيّ والقراآت عَن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن اليمني
وَفَارق موطنه فحج أَولا وَأخذ بِمَكَّة عَن ابْن عَلان الصديقي وَكتب لَهُ إجَازَة مؤرخة بأواخر ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَألف ثمَّ دخل دمشق وحلب فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَأخذ بحلب عَن النَّجْم الحلفاوي الْأنْصَارِيّ وَلَزِمَه للْقِرَاءَة عَلَيْهِ فِي شرح الدُّرَر فِي الْفِقْه مَعَ حَاشِيَة الوافي وَشرح ابْن ملك على الْمنَار مَعَ حَوَاشِيه الثَّلَاث عزمي زَاده وقرا كَمَال والرضي بن الْحَنْبَلِيّ الْحلَبِي وَشرح الجامي مَعَ حَاشِيَته لعبد الغفور ومختصر الْمعَانِي مَعَ حَاشِيَته للخطائي ثمَّ خرج إِلَى الرّوم فورد مورد الْعَلامَة أبي السُّعُود الشعراني وَقَرَأَ عِنْده جَامع الْأُصُول للربيع اليمني وَهُوَ فِي تَحْرِير الْأَحَادِيث وَشرح الهمزية لِابْنِ حجر بِتَمَامِهِ وَنصف سيرة الْخَمِيس أَو قَرِيبا مِنْهُ وجانباً من فتاوي قَاضِي خَان وَبَعض فَرَائض السِّرَاجِيَّة وَكَثِيرًا من مبَاحث التَّفْسِير وَأَجَازَهُ وَلزِمَ الشهَاب الخفاجي فَقَرَأَ عَلَيْهِ بعض شرح الْمِفْتَاح للتفتازاني وَبَعض شرح نَفسه على الشفا وَكتب لَهُ خطه على هَامِش الْكِتَابَيْنِ وَلما ولي قَضَاء مصر استصحبه مَعَه إِلَى صلَة رَحمَه واستنابه بَين بَابي الْفَتْح والنصر وصيره معيداً لدرسه فِي حَاشِيَته على تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ وَفِي شرح صَحِيح مُسلم للنووي وَأخذ بالروم عَن الْمولى يُوسُف بن أبي الْفَتْح الدِّمَشْقِي إِمَام السُّلْطَان وَولي من المناصب إِفْتَاء الشَّافِعِيَّة بالقدس مَعَ الْمدرسَة الصلاحية وَدخل دمشق وَأقَام بهَا فِي حجرَة بِجَامِع المرادية نَحْو سنتَيْن وَلم يقدر على الدُّخُول إِلَى الْقُدس خوفًا من الشَّيْخ عمر بن أبي اللطف مفتي الشَّافِعِيَّة قبله ثمَّ لما مَاتَ الشَّيْخ عمر ترحل إِلَيْهَا وَمكث بهَا أَيَّامًا وَلما لم ينل حَظه من أَهلهَا ترك الْفَتْوَى والتدريس وَرَأى الْمصلحَة فِي الرُّجُوع إِلَى الرّوم فانتقل إِلَيْهَا وَأقَام بهَا مُدَّة ثمَّ انتظم فِي سلك الموَالِي فولي بعض مناصب وَمَات وَهُوَ مَعْزُول عَن ساقز وَله تآليف كَثِيرَة حَسَنَة الْوَضع أشهرها كِتَابه منتزه الْعُيُون والألباب فِي بعض الْمُتَأَخِّرين من أهل الْآدَاب جعله على طَريقَة الريحانة إِلَّا أَنه رتبه على حُرُوف المعجم وَجمع فِيهِ بَين شعراء الريحانة وشعراء المدائح الَّذِي أَلفه التقي الفارسكوري وَزَاد من عِنْده بعض متقدميه وَبَعض عصريين وَهُوَ مَجْمُوع لطيف وَفِيه يَقُول الأديب يُوسُف البديعي
(كتاب ذِي الْفضل عبد الْبر منتزه الْعُيُون
…
أحسن تأليف وَمُنْتَخب)
(حوى محَاسِن أَقوام كَلَامهم
…
فِي النّظم والنثر يلفى زبدة الْأَدَب)
(رأى البديعي مَا فِيهِ فحقق أَن
…
مَا مثل رونقه فِي سَائِر الْكتب)
وَله حَاشِيَة على شرح الْهمزَة لِابْنِ حجر صَغِيرَة الحجم وَكتاب بُلُوغ الأرب والسول بالتشرف بِذكر نسب الرَّسُول وَكتاب اللطائف المنيفة فِي فضل الْحَرَمَيْنِ وَمَا حولهما من الْأَمَاكِن الشَّرِيفَة وَكتاب حسن الصَّنِيع فِي علم البديع وَله بديعية على حرف النُّون وَشَرحهَا ومطلعها
(لما تذكرت سفح الْخيف والبان
…
أهلّ دمعي وروّى رَوْضَة البان)
وَقد عَارض فِيهِ بديعية شَيْخه الْحَمَوِيّ ومطلع قصيدته
(هجري على ولي وصل بأحياني
…
أماتني الهجر جَاءَ الْوَصْل أحياني)
وَله رِسَالَة فِي التوشيع سَمَّاهَا إرشاد الْمُطِيع ورسالة سَمَّاهَا مشكاة الاستنارة فِي معنى حَدِيث الاستخارة ورسالة فِي الْقَلَم وَأُخْرَى فِي السَّيْف وَله شعر كثير غالبه مسبوك فِي قالب الإجادة وَعَلِيهِ رونق الانسجام والبلاغة فَمن ذَلِك قَوْله
(تبدّى مليك الْحسن فِي مجْلِس الْبسط
…
بقدٍّ كغصن البان أَو ألف الْخط)
(وَأبْدى على شَرط الْمحبَّة حجَّة
…
مسلمة أَحْكَامهَا قطّ مَا تخطي)
(وَمن شَرطه فِي الخدّ قبْلَة عاشق
…
فَكَانَ مداد الْحسن فِي ذَلِك الشَّرْط)
اختلسه من قَول ابْن حجَّة فِي قصيدته الَّتِي قَالَهَا فِي مدح حماه
(وَقد جَاءَ شَرط الْبَين أَنِّي أغيب عَن
…
حماها لقد أدْمى فُؤَادِي بِالشّرطِ)
وَمن تشبيهاته
(رَأَيْت يَوْمًا عجبا
…
فيا لَهُ من عجب)
(النُّور مبيضّاً على
…
محمر لون القضب)
(كخيمة من فضَّة
…
على عَمُود ذهب)
وَمن ذَلِك قَوْله
(انْظُر إِلَى الزهر النَّضِير العسجدي
…
يَدْعُو إِلَى لَهو كوجه الأغيد)
(فالورد فِي الروضات محمرّ على
…
أغصانه الْخضر الحسان الميد)
(ملاءة من ذهب منشورة
…
من تحتهَا قَوَائِم الزبرجد)
وَله فِي الدولاب
(إِنَّمَا الدولاب فِي دوره
…
يهيم من شوق وأشجان)
(ينوح حزنا وَيرى باكياً
…
بأعين تهمى على البان)
وَقَرِيب مِنْهُ قَول أَحْمد بن عبد السَّلَام الْمصْرِيّ
(وروضة دولابها دائر
…
موله من فرط أشجانه)
(فكله من وجده أعين
…
تبْكي على فرقة أغصانه)
وَالْأَصْل فِيهِ قَول ابْن تَمِيم
(ودولاب روض كَانَ من قبل أغصنا
…
تميس فَلَمَّا غيرتها يَد الدَّهْر)
(تذكر عهدا بالرياض فكله
…
عُيُون على أَيَّام عهد الصِّبَا تجْرِي)
ولعَبْد الْبر فِي دولاب الْعِيد الَّذِي يَدُور بالأولاد
(إِنَّمَا الْولدَان فِي عيدهم
…
من فَوق دولاب بهم دَارا)
(قد أدركوا الْعِشْق وأحواله
…
فالعقل قد دَارا وَمَا دَارا)
وَله فِيهِ أَيْضا
(دولاب عيد دَار بالمنحنى
…
لطلعة قامتها ناضرة)
(يروي لنا عَن فلك دائر
…
وَالشَّمْس مَا زَالَت بِهِ دَائِرَة)
قَالَ وَلما وَردت بروسة وَرَأَيْت الْحمام الخلقي الَّذِي يُقَال لَهُ قبلجة وَهُوَ مَاء حَار يخرج من تَحت جبل عَال قلت
(وَمَاء لَهُ طبع الْحَرَارَة خلقَة
…
من الْجَبَل الصلد الْعَظِيم لقد سلك)
(إِلَى كل حَوْض مستدير موسع
…
ترَاهُ مدَار المَاء ملعبه السّمك)
(تَدور بِهِ الْولدَان طالعة وَقد
…
تغيب كشأن النيرين من الْفلك)
وَقلت فِيهِ أَيْضا وَهُوَ معنى حسن
(وحوض كَبِير مستدير وماؤه
…
حرارته بالطبع للبرد دافعه)
(أحاطت بِهِ الأقمار من كل جَانب
…
وَمن أفقه شمس المحاسن طالعه)
وَمن لطائف شعره قَوْله فِي الْغَزل
(لي حبيب قد سالماه
…
عذباً وطرفاه سالماه)
(فيا خليلاي عذر صب
…
جواداً وَإِلَّا فسالماه)
(فالطرف هام من التَّجَافِي
…
طول اللَّيَالِي قد سَالَ ماه)
(وَسَاكن الْقلب مذرآه
…
يهيم بالوجد سَالَ مَا هُوَ)
الأول سَاءَ بِالْهَمْزَةِ مَقْصُور للشعر ولمى أَي الرِّيق فَاعل وإساءته مَنعه لوارده وَالثَّانِي مَاض وَالْألف للتثنية وَالثَّالِث أَمر لاثْنَيْنِ وَالرَّابِع من الإسالة وَالْمَاء قصر للضَّرُورَة وَالْخَامِس من السُّؤَال سهلت الْهمزَة ضَرُورَة وَمَا سُؤال على سَبِيل تجاهل الْعَارِف وَقد حذا فِي هَذَا حَذْو أَحْمد النَّسَفِيّ الْمَعْرُوف بقعود وَزَاد عَلَيْهِ بالتصريع وأبيات النَّسَفِيّ هِيَ هَذِه
(يَا صاحبيّ اتركا معنى
…
أَو فاعذلاه وعارضاه)
(فَمَا تطيقان رشد غاو
…
بِمَا يلاقي وعارضاه)
(سبى حشاه وَالْعقل مِنْهُ
…
عينا غزال وعارضاه)
(يَا جمع من صير التصابي
…
فِي الْحسن عاراً بالعارضا هَوَاهُ)
وَمن شعر الفيومي قَوْله فِي الْغَزل
(حبيب لَهُ جسمي وقلبي رَاغِب
…
ولي مِنْهُ هجر وَهُوَ للوصل رَاهِب)
(لَهُ من غرامي فِي فُؤَادِي أعين
…
ولي من جفاه والتباعد حَاجِب)
(نزيل الحشا لم يرع مثوى بِهِ نشا
…
وَكَيف انتشى والوجد للصب ناصب)
(وَلم طبعه لم يكْسب الْخَفْض بُرْهَة
…
من الجفن والولهان للكسر كاسب)
(لَهُ فِي عيوني من رقيبي حارس
…
وَمن خاطري خل وفيّ وَصَاحب)
وَله من فصل فِي
(غُضُون شكاية من الزَّمن
…
قد كَانَ الْفضل فِي المراقي)
من نصل عُيُون الدَّهْر هُوَ الراقي والترقي فِي الْأَدَب بِهِ التوقي من النصب والوصب وكل هَذَا ذهب وانحصر الدَّوَاء فِي الْفضة وَالذَّهَب فالمفلحون فِي خبايا النُّقُود قعُود والمفلسون فِي زَوَايَا الخمول رقود فدع فضل الْعلم والحسب وَاسع أَن يكون لَك من المَال خير نشب فقد كَانَ الْأَدَب وَدِيعَة واسترد وَصَارَ الدِّرْهَم مرهماً ولبرء سَاعَة استعد وَمن هَذَا الْقَبِيل قَول زين الدّين بن الْجَزرِي من مقامة لَهُ قد كَانَ شراب الْأُصُول يداوي العليل والآن لَيْسَ فِي غير الديناء شِفَاء للغليل ألم تسمع أَن الدَّرَاهِم لجروح الْعَدَم مراهم وَقد استردّت الْأَيَّام ودائع المكارم والكرام يحسن فِي هَذَا الْمقَام قَول ابْن أبي الْفَتْح الإِمَام السلطاني
(أهل الْعُلُوم ذَهَبُوا
…
وَلَيْسَ إِلَّا الذَّاهِب)
ولعَبْد الْبر وَهُوَ معنى مليح
(فكري وعقلي عنْدكُمْ وبكم
…
قد صرت فِي شغل وَفِي سكر)
(فاعجب لمن كتبت أنامله
…
خطا بِلَا عقل وَلَا فكر)
وَله
(قَالَ لي شخص رَأَيْت العجبا
…
صدر الْجُهَّال فَوق الأدبا)
(قلت شَأْن الدَّهْر لَا يهوى فَتى
…
فَاضلا حَاز الْهدى والأدبا)
(كَيفَ حَال الصب مَعَ حجاجهم
…
حَيْثُ أرْضى عجمهم والعربا)
وَهَذَا الْمَعْنى مطروق من أشهره قَول عبد الرَّحِيم العباسي
(أرى الدَّهْر يمنح جَهَالَة
…
فأعظم قدرا بِهِ الْجَاهِل)
(وَانْظُر حظي بِهِ نَاقِصا
…
أيحسبني أنني فَاضل)
وَمن شعره قَوْله فِي جناس التَّصْحِيف
(لعقرب صُدْغه حَال عَجِيب
…
أديرت فِي حراسة مسك خَاله)
(وَلَكِن أهملته للدغ قلب
…
تقلب فِي لظى فاعجب لحاله)
ألطف مِنْهُ قَول ابْن الحنائي الرُّومِي
(أرى من صدغك المعوج دَالا
…
وَلَكِن نقطت من مسك خَالك)
(فَأصْبح داله بالنقط ذالاً
…
فها أَنا هَالك من أجل ذَلِك)
وَمن شعره قَوْله فِي الحكم
(إِذا مَا رَأَيْت لَهُم شدَّة
…
لبست لدهري ثوب النمر)
(وَإِن هم من اللطف فِي حلَّة
…
لبست لِبَاس اللَّطِيف السمر)
(فراع الزَّمَان وأحواله
…
وَحَال اللَّطِيف وَحَال الأشر)
وَقَوله فِي مِثَال النَّعْل الشريف
(لمثل نعل الْمُصْطَفى شرف
…
وفوائد زَادَت على العدّ)
(فكأنّما هُوَ دارتا قمر
…
يهدي الْأَنَام وَلَو على بعد)
(قبلتها وَجعلت صورتهَا
…
فَوق الجبين عَلامَة السعد)
(لَو كَانَ يحسن أَن أشركها
…
جلدي جعلت شراكها خدي)
وَالْبَيْت الْأَخير مضمن من بَيْتَيْنِ لأبي الْعَتَاهِيَة وَقد أهْدى إِلَى الْفضل بن الرّبيع نعلا وكتبهما مَعهَا وهما
(نعل بعثت بهَا لتلبسها
…
قدم بهَا تسْعَى إِلَى الْمجد)
لَو كَانَ يحسن إِلَى آخر الْبَيْت وَله مضمناً فِي النَّصِيحَة وَحسن الصُّحْبَة
(صديقك إِن أخْفى عيوباً لنَفسِهِ
…
وَأظْهر عَيْبا فِيك وَهُوَ يُصَرح)
(فَخذ غَيره واترك مناهج وده
…
فَكل إِنَاء بِالَّذِي فِيهِ ينضح)
أَصله مَا فِي تَارِيخ ابْن خلكان قَالَ الشَّيْخ نصر الله بن مجلى وَكَانَ من ثِقَات أهل السّنة رَأَيْت فِي الْمَنَام عَليّ بن أبي طَالب فَقلت لَهُ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ تفتحون مَكَّة فتقولون من دخل دَار أبي سُفْيَان فَهُوَ آمن ثمَّ يتم على ولدك الْحُسَيْن يَوْم الطف مَا تمّ فَقَالَ لي أما سَمِعت أَبْيَات ابْن الصيفي فِي هَذَا فَقلت لَا فَقَالَ اسمعها مِنْهُ ثمَّ استيقظت فبادرت إِلَى دَار حيص بيص فَخرج إِلَيّ فَذكرت لَهُ الرُّؤْيَا فشهق وأجهش بالبكاء
وَحلف بِاللَّه إِن كَانَت خرجت من فمي أَو خطي إِلَى أحد وَإِن كنت نظمتها إِلَّا فِي لَيْلَتي هَذِه ثمَّ أَنْشدني
(ملكنا فَكَانَ الْعَفو منا سجية
…
فَلَمَّا ملكتم سَالَ بِالدَّمِ أبطح)
(وحللتم قتل الْأُسَارَى وطالما
…
غدونا عَن الأسرى نعف ونصفح)
(وحسبكم هَذَا التَّفَاوُت بَيْننَا
…
وكل إِنَاء بِالَّذِي فِيهِ ينضح)
ولعَبْد الْبر وَهُوَ معنى بديع
(قد قيل أَن المَال عقل الْفَتى
…
بِهِ لَهُ التصريف فِي النَّقْل)
(فَقلت لَا تعجب فكم فِي الورى
…
من عَاقل أضحى بِلَا عقل)
وَله من مَقْصُورَة عَارض بهَا مَقْصُورَة ابْن دُرَيْد الْمَشْهُورَة ومطلع مقصورته
(أيا مهاة قد رعت بالمنحنى
…
حشاشة الرَّاعِي بِأَكْنَافِ اللوى)
(هَل وَقْفَة وَلَو قَلِيل بَعْدَمَا
…
جرت على الصب تباريح الجوى)
(فَتى كئيب والهوى أَحْكَامه
…
عجسة إِن كَانَ سخطًا أَو رضى)
(محاه حب الغيد محواً فانبرى
…
وَلَا يرى إِلَّا المنايا فِي المنى)
وَله فِي بعض المحتجبين
(أتيت بَاب كَبِير عِنْد نائبة
…
وجدته مغلقاً قلت الْفَتى فطن)
(فَقَالَ لي صَاحِبي الرَّأْي قلت لَهُ
…
رأى ابْن عَبدُوس رَأْي كَامِل حسن)
وَلابْن الْخِصَال مثله
(جئْنَاك للْحَاجة الممطول صَاحبهَا
…
) وَأَنت تنعم والإخوان فِي بوس
…
(وَقد وقفنا طَويلا عِنْد بَابَكُمْ
…
ثمَّ انصرفنا على رَأْي ابْن عَبدُوس)
ولمحمد بن بدر الدّين القوصوني مثله من فصل الرَّأْي الصَّوَاب فِي التواري بالحجاب
(رأى ابْن عَبدُوس
…
وَمَا سواهُ رأى منحوس)
(بل عَذَاب وبوس
…
)
وَرَأى ابْن عَبدُوس قَوْله
(لنا قَاض لَهُ خلق
…
أقل ذميمة النزق)
(إِذا جئناه يحجبنا
…
فنلعنه ونفترق)
وَله فِي الخضوع
(يَا من لَهُ مهجتي رق ولي شرف
…
بأنني عَبده جهري وإسراري)
(عتقت قلبِي من زيغ وَمن زلل
…
وَعتق ذِي سفه فِيمَا بَقِي ساري)
(مننت باللطف فِي الأولى وَلَا عجب
…
أَن تعْتق الْجِسْم فِي الْأُخْرَى من النَّار)
مِنْهُ قَول الْبَدْر الْقَرَافِيّ
(مِنْك الْبدَاءَة بِالْإِحْسَانِ حَاصِلَة
…
ملكتني الرّقّ فضلا مِنْك لي ساري)
(ألهمتني بعده عتقا لتكرمني
…
فاختم بِخَير بِهِ عتقي من النَّار)
وللحافظ ابْن حجر
(يَا رب أَعْضَاء السُّجُود عتقتها
…
من فضلك الوافي وَأَنت الواقي)
(وَالْعِتْق يسري فِي الْفَتى يَا ذَا الْغنى
…
فَامْنُنْ على الفاني بِعِتْق الْبَاقِي)
وَالْأَصْل فِيهِ قَول ذِي الرمة قَالَ الشريشي هُوَ آخر شعر قَالَه
(يَا رب قد أسرفت نَفسِي وَقد علمت
…
علما يَقِينا لقد أحصيت آثاري)
(يَا مخرج الرّوح من نَفسِي إِذا احتضرت
…
وفارج الكرب زحزحني عَن النَّار)
وَله قصيدة ميمية عَارض بهَا ميمية شَيخا الْإِسْلَام أبي السُّعُود الْعِمَادِيّ الَّتِي مطْلعهَا
(أبعد سليمى مطلب ومرام
…
وَغير هَواهَا لوعة وغرام)
ومطلع قصيدته هُوَ هَذَا
(أهيل النقا هَل بالديار مقَام
…
وَهل حَيّ سلمى مسكن ومقام)
وَهِي طَوِيلَة تنوف على ثَمَانِينَ بَيْتا وَقد تَضَمَّنت حكما كَثِيرَة وَلَوْلَا طولهَا لذكرتها كلهَا وَقد ختم كِتَابه المنتزه بهَا وَلم يذكر بعْدهَا إِلَّا تَارِيخ ابْتِدَاء إنشائه لهَذَا الْكتاب وَهُوَ يَوْم الْخَمِيس سادس عشر صفر سنة خمس وَخمسين وتاريخ الْفَرَاغ من تبييضه كُله وَهُوَ يَوْم الْأَحَد حادي عشري الْمحرم سنة سِتِّينَ وَألف وَكَانَت وَفَاته فِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَألف بقسطنطينية والفيومي نِسْبَة إِلَى الفيوم وَهِي بَلْدَة مَشْهُورَة فِي إقليم مصر وَأَبوهُ عبد الْقَادِر سَيَأْتِي قَرِيبا إِن شَاءَ الله تَعَالَى
عبد الْبر الأَجْهُورِيّ الشَّافِعِي الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة الْفَقِيه الْحجَّة الفهامة ذُو التصانيف العديدة والفوائد الجزيلة قَرَأَ الْفِقْه على الإِمَام النُّور الزيَادي وَمهر فِيهِ حَتَّى صَار فَقِيه عصره والمشار إِلَيْهِ فِي مصره وَأخذ بَقِيَّة الْعُلُوم عَن شُيُوخ كثيرين من شُيُوخ جَامع الْأَزْهَر وَألف كتبا كَثِيرَة مِنْهَا حَاشِيَة على شرح الْمِنْهَاج للمحلى وحاشية على شرح الْمنْهَج وحاشية على شرح التَّحْرِير وحاشية على شرح الْغَايَة لِابْنِ قَاسم وَغير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته بِمصْر فِي سنة والأجهوري بِضَم الْهمزَة نِسْبَة لأجهور الْكُبْرَى بساحل الْبَحْر من عمل القليوبية
عبد الْجَامِع بن أبي بكر بارجاء الْحَضْرَمِيّ الزَّاهِد ذكره الشلي فِي تَارِيخه وَقَالَ
فِي وَصفه كَانَ فِي غَايَة التقشف والورع والزهد وميلاده بسيوون وَنَشَأ بهَا ولازم خَاله عبد الرَّحْمَن بأرجاء وَأخذ عَنهُ ورباه أحسن تربية ورحل إِلَى تريم وَأخذ عَن ساداتها وَلَقي بهَا الأكابر مِنْهُم وَالسَّيِّد زين العابدين وَأحمد بن عبد الله وَالسَّيِّد سقاف العبدروسيين وَالسَّيِّد أَبُو بكر بن شهَاب الدّين وَأَخُوهُ الْهَادِي وشهاب الدّين أَحْمد بن حُسَيْن بلفقيه وَغَيرهم وَأخذ عَن السَّيِّد حُسَيْن بن الشَّيْخ أبي بكر ابْن سَالم بعينات وَحصل لَهُ مزِيد عناية وَعَن أَخِيه الْحسن وارتحل إِلَى مَكَّة وَأقَام بهَا ولازم السَّيِّد أَحْمد بن الْهَادِي فِي دروسه وَالسَّيِّد مُحَمَّد با علوي وَألبسهُ الْخِرْقَة ولقنه الذّكر جمَاعَة وَحصل لَهُ مِنْهُم مدد عَظِيم وَلزِمَ الشَّيْخ عبد الْعَزِيز الزمزمي فِي درسه الفقهي وَالشَّيْخ مُحَمَّد الطَّائِفِي ودروس الشَّمْس البابلي وَأخذ عَن الوافدين إِلَى مَكَّة من أهل مصر واليمن وَكَانَ ملازماً لِلْعِبَادَةِ وزار الْقَبْر الشريف مرَارًا وَأخذ بِالْمَدِينَةِ عَن الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الخياري وَصَحب السَّيِّد زين باحسن ولازم صُحْبَة السَّيِّد عيدروس ابْن حُسَيْن الْبَار مُدَّة مديدة وَكَانَ السَّيِّد عيدروس قَائِما بِمَا يَحْتَاجهُ من كسْوَة وَنَفَقَة وَغير ذَلِك ولازمه فِي زياراته كلهَا وَأخذ عَن الشَّيْخ عبد الله الجبرتي وَلم يتَزَوَّج أبدا وَكَانَ مُعْتَقدًا جدا لَا سِيمَا عِنْد أهل الطَّائِف وَأهل الْهِنْد لَهُم فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم وَكَانَت وَفَاته فِي سادس ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَألف بِمَكَّة وَدفن بمقبرة الشبيكة تَحت الظلة وَحضر جنَازَته عَالم كثير تركت الدُّرُوس ذَلِك الْيَوْم وَلم يخلف شَيْئا من الدُّنْيَا سوى ثِيَابه الَّتِي كَانَ يلبسهَا وفراشه رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْجَلِيل بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بالشامي الدِّمَشْقِي المولد والمنشأ الْحَنَفِيّ كَانَ من أهل الْفضل والمعرفة وَالْأَدب مطبوع الْخلال لطيف الذَّات جميل الشكل حسن الصَّوْت وَفِيه حلم وأناة وَله مطارحة نفيسة وذكاء دأب فِي التَّحْصِيل من طَلِيعَة عمره حَتَّى برع واشتهر فَضله بَين فضلاء وقته وَكَانَ اشْتِغَاله فِي الْفُنُون على الْعِمَادِيّ الْمُفْتِي وعَلى الإِمَام يُوسُف بن أبي الْفَتْح ورمضان بن عبد الْحق العكاري وَعبد اللَّطِيف بن حسن الجالقي الْمَعْرُوف بالقزديري وَمُحَمّد الحزرمي الْبَصِير وَفرغ لَهُ وَالِده عَن إِمَامَة الْجَامِع الْأمَوِي وخطابة الْجَامِع السلطاني السليمي بصالحية دمشق وباشرهما وَهُوَ خَالِي العذار واستكثر عَلَيْهِ ذَلِك وَفِي ذَلِك يَقُول عمر بن الصَّغِير مؤرخاً
(عبد الْجَلِيل ذُو الْكَمَال والعلى
…
الْعَالم الأوحد وَالْبَحْر الْعباب)
(أولاه مَوْلَاهُ الْكَرِيم رُتْبَة
…
أنضت بأعداه إِلَى حسر الثِّيَاب)
(مَعَ الْعُلُوم الباهرات أَرخُوا
…
زَاد الْجَلِيل عَبده فصل الْخطاب)
وَكَانَ ذَلِك فِي سنة أَرْبَعِينَ بعد الْألف وتصدر للتدريس والإفادة وَلَزِمَه جمَاعَة من طلبة وقته وانتفعوا بِهِ فِي بعض الْفُنُون وَلما جَاءَ السُّلْطَان مُرَاد لحلب بنية السّفر إِلَى بَغْدَاد سَافر عبد الْجَلِيل من دمشق إِلَى حلب لأجل الاجتاع بشيخه الفتحي وَكَانَ فِي خدمَة السُّلْطَان وترجى مِنْهُ بعض أَمَان لَهُ فخاب ظَنّه فِيهِ وَرجع من حلب فاحترمته الْمنية فِي منزلَة القطيفة قبل أَي يدْخل إِلَى دمشق وَأدْخل إِلَيْهَا مَيتا وَكَانَ ذَلِك فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة الشَّيْخ أرسلان قدس الله سره الْعَزِيز وَكَانَ عمره خمْسا وَعشْرين سنة فَإِن وِلَادَته فِي سنة أَربع وَعشْرين وَألف وَخلف ولدا رضيعاً اسْمه مُحَمَّد ووجهت لَهُ الْإِمَامَة بالجامع الْأمَوِي ثمَّ بعد مُدَّة استقرغ وَصِيّه عَنْهَا للشَّيْخ زين الدّين بن مُحَمَّد النابلسي خطيب السليمانية بِدِمَشْق وَأخذ الْوَصِيّ مِنْهُ مبلغا من الدَّرَاهِم فِي مُقَابلَة الْفَرَاغ لأجل الْقَاصِر قلت وَهَذَا الْقَاصِر الْآن فِي الْأَحْيَاء وَهُوَ من الْفُضَلَاء البارعين كثر الله تَعَالَى من أَمْثَاله
عبد الْجَلِيل بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن تَقِيّ الدّين أبي بكر الْمَعْرُوف بِابْن عبد الْهَادِي الْعمريّ الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي الصُّوفِي الْفَاضِل المتفوق الذيق كَانَ من نبلاء وقته ولطائفه مستعذف الْخَلِيفَة حُلْو المفاكهة وَله فِي أَنْوَاع الْفُنُون خبْرَة تَامَّة وقريحة متوقدة أَخذ العقاد والتصوف عَن وَالِده الاستاذ بركَة الشَّام وَقَرَأَ فنون الْأَدَب والمنطق على شَيخنَا عَلامَة الزَّمَان إِبْرَاهِيم الفتال وَشَيخنَا الْمُحَقق ابْن عَمه عبد الْقَادِر بن بهاء الدّين الْعمريّ وَأخذ الْعُلُوم الرياضية عَن الشَّيْخ رَجَب بن حُسَيْن الْمُقدم ذكره والْحَدِيث عَن الشَّيْخ الْكَبِير مُحَمَّد بن سُلَيْمَان المغربي ورحل إِلَى الْقَاهِرَة وَأخذ بهَا عَن النُّور الشبراملسي وتصدر للإقراء بِجَامِع الْأمَوِي مُدَّة وانتفع بِهِ جمَاعَة وَألف تآليف فائقة مِنْهَا شرح الجزرية سَمَّاهُ الدرة السّنيَّة وَشرح رِسَالَة الشَّيْخ أرسلان فِي التصوف وَله الرّبع الْجَامِع فِي الْفلك فِي أَعمال اللَّيْل وَالنَّهَار ورسالة سَمَّاهَا الدّرّ اللامع فِي الْعَمَل بِالربعِ الْجَامِع ورسالة فِي الرّبع المقنطر ورسالة فِي الهندسة ورسالة فِي الرمل سَمَّاهَا الْمُمْتَنع السهل فِي علم الرمل وَمن كَلِمَاته فِي الْحَقِيقَة لَا تزَال فِي ربقة الْأَمَانِي مَا دَامَت فِي ساحة المباني الْبَقَاء مرْآة التحلي والفناء منهل التخلي وَالْجمع منصة التحلي الرّكُوب للْغَيْر قطيعة
فِي السّير الزّهْد فِي الظَّاهِر رَغْبَة فِي الْمظَاهر اتقان الْحَواس وَظِيفَة الإفلاس ورؤية الايناس مَظَنَّة الوسواس حَرَكَة الشوق عَصا السُّوق وَله شعر مستحلى مِنْهُ قَوْله وَفِيه اقتباس واكتفاء وتورية
(يَا لقومي من غزال
…
خنس الأعطاف ألمى)
(إِذْ تَلا سُورَة حسن
…
وَجهه وَالْحسن عَمَّا)
(سَأَلُوا عَن مُحكم الْأَوْصَاف فِيهِ قَالَ عَمَّا
…
)
وَقَوله فِي العذار
(نسج الْفضل عَلَيْهِ
…
حلَّة تنمو وقارا)
(فِي المجياحين حلت
…
رقم الْحسن عذارا)
وَقَوله فِي الْخَال
(خَال الحبيب بدا فِي الخد مبتهجا
…
وَالْقلب من شغف للخال قد جنحا)
(قد عَمه الْحسن يَا من خَاله حسن
…
وَالْعم فِي خدمَة للخال مَا برحا)
وَقَوله
(يَا رب إِن فؤاد الصب فِي قلق
…
وَالْخَال من ذَا المفدى زَاده قلقا)
(يَبْدُو على الْجيد فِي صفحات منظره
…
كحب مسك عَلَاء الْحسن فاتفقا)
وَقَوله
(يَا خَاله لما بدا
…
فِي عرش خد واستوى)
(أوحى لصدغ آيَة
…
تَدْعُو كرا مَا للهوى)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وِلَادَته فِي يَوْم السبت السَّابِع وَالْعِشْرين من شهر ربيع الأول سنة خمس وَخمسين وَألف وَتُوفِّي يَوْم السبت الثَّانِي عشر من الْمحرم سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف بِالْمَدِينَةِ المنورة وَدفن بِالبَقِيعِ
عبد الْجواد بن شُعَيْب بن أَحْمد بن عباد بن شُعَيْب القنائي الأَصْل الخوانكي المولد والمنشأ ثمَّ الْمصْرِيّ الشَّافِعِي الْأنْصَارِيّ القضائي الوفائي من عُلَمَاء مصر وأدبائها صوفي المشرب إِذا حدث أعجب وأبدع وَأغْرب وَكَانَ كثير الْحِفْظ للأشعار ونوادر الْأَخْبَار ذَا نظر فِي الْعلم دَقِيق وَزِيَادَة حذق وَتَحْقِيق وتقوى ظَاهره وَمظَاهر باهره أَخذ عَن النُّور الزيَادي وَمن فِي طبقته وَعنهُ أَخذ جمَاعَة وَله مؤلفات كَثِيرَة مِنْهَا رِسَالَة بديعة فِي الاستعارات سَمَّاهَا القهوة المدارة فِي تَقْسِيم الِاسْتِعَارَة ونظم الورقات والنسيم العاطر فِي تَقْسِيم الخاطر والعظة الوفية فِي يقظة الصُّوفِيَّة وكشف الريب عَن مَاء الْغَيْب شرح الأبيات الثَّلَاثَة وَهِي
(تَوَضَّأ بِمَاء الْغَيْب إِن كنت ذَا سر
…
والا تيَمّم بالصعيد وبالصخر)
(وَقدم إِمَامًا كنت أَنْت إِمَامه
…
وصل صَلَاة الْعَصْر فِي أول الْفجْر)
(فهذي صَلَاة العارفين برَبهمْ
…
فَإِن كنت مِنْهُم فامزج الْبر بالبحر)
وَمن شعره قَوْله فِي ضَابِط همز الْوَصْل وهمز الْقطع
(زد همزَة الْوَصْل لماض كاغندى
…
وَالْأَمر والمصدر مِنْهُ وَإِذا)
(أمرت من نَحْو اخش واغز وارم
…
وَفِي ابنم وَابْن وَفِي است وَاسم)
(واثنين واثنتين وَايْم وامرىء
…
وَامْرَأَة وهمز أل كالنبأ)
(وهمز كرام وَنَحْو اقْطَعْ
…
وَفعل ذِي تكلم كادعي)
(وَصفَة قد شبهت وَفِي ندا
…
جلالة حَرَّره مُعْتَمدًا)
(عبد الْجواد بن شُعَيْب فَادع لَهُ
…
كي يلهم الْجَواب عِنْد المسئلة)
وَله ضَابِط مَا يجوز فِيهِ عود الضَّمِير على مُتَأَخّر لفظا ورتبة
(فِي سنة أخر ضميراً لفظا
…
ورتبة واحرص عَلَيْهَا حفظا)
(الْأَمر والشان وَرب وَالْبدل
…
نعم وَبئسَ مَعَ تنَازع الْعَمَل)
وَله ضَابِط مَا يعلق بِهِ الْعَامِل
(يعلق فعل الْقلب مَا ثمَّ لَا وان
…
لنفي وَلَام الِابْتِدَاء مَعَ الْقسم)
(كَذَلِك الِاسْتِفْهَام بالحرف دَائِما
…
أَو الِاسْم فاعرف أَيهَا الْمُفْرد الْعلم)
وَمن غزلياته قَوْله
(مَا اصْطفى قلبِي إِلَّا مصطفى
…
هُوَ حسبي من حبيب وَكفى)
(أسعد الله تَعَالَى طالعاً
…
حل فِيهِ وَأرَاهُ الشرفا)
(مَا عَلَيْهِ لَو سقاني رِيقه
…
إِنَّه الشهد وَفِي الشهد شفا)
(إِن وفى الدَّهْر بِهِ فِي لَيْلَة
…
فَهُوَ عِنْدِي دَائِما أهل الوفا)
وَمن مدائحه قَوْله
(حسبي الَّذِي لم يخب من احتسبه
…
من الْمَعَالِي إِلَيْهِ منتسبه)
(أكْرم من أكْرم العفاة وَمن
…
أسدى إِلَى مرتجيه مطلبه)
(أكمل من تجتني فَوَائده
…
أَفْئِدَة الوافدين والطلبه)
(أسمح من يمنح الجزيل وَمَا
…
يطْلب شكرا جَزَاء مَا وهبه)
(يبصر من خلف ستر هيكله
…
كناظر والزجاج مَا حجبه)
(ينقش فِي لوح سره صوراً
…
عَن غَيره فِي الْوُجُود محتجبه)
(فيصدر الْأَمر عَن حَقِيقَته
…
متسق الْحسن بادياً حببه)
قدم مَكَّة حَاجا وجاور بهَا سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف وَأخذ عَنهُ بهَا كثير من فضلائها وَرجع إِلَى بَلَده وَاسْتمرّ بهَا إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف
عبد الْجواد بن مُحَمَّد بن أَحْمد المنوفي الْمَكِّيّ الشَّافِعِي الأديب اللوذعي كَانَ فَاضلا أديباً حسن المذاكرة أَخذ بِمَكَّة عَن علمائها وَولي بهَا مدرسة ورزق بعض مَعْلُوم من الرّوم فتعصب عَلَيْهِ جمَاعَة ومنعوه من ذَلِك فَرَحل إِلَى مصر وَأقَام بهَا وَكَانَ أَبوهُ حَيا وَكَانَ لَهُ فِي مبدأ أمره ثروة وغناء فتضايق وَلم يقر لَهُ بِمصْر قَرَار دون أَن سَافر إِلَى الرّوم فصحبه وَلَده هَذَا ثمَّ رجعا فَمَاتَ وَالِده بِالشَّام فتكدّر حَاله ثمَّ لحق بِالْحرم الْمَكِّيّ فتقدّم عِنْد الشريف وَبلغ رُتْبَة عالية وَقد ذكره السَّيِّد عَليّ بن مَعْصُوم فِي السلافة فَقَالَ فِي وَصفه جواد علم لَا يكبو وحسام فضل لَا ينبو سبق فِي ميدان الْفضل أقرانه واجتلى من سعد جده ومجده قرانه وَولى الْقَضَاء مرّة بعد أُخْرَى فكسى بمنصبه شرفاً وفخراً ثمَّ تقلد منصب الْفَتْوَى فبرز فِيهَا إِلَى الْغَايَة القصوى مَعَ تحليه بِالْإِمَامَةِ والخطابة والهمة الَّتِي مَلأ بهَا من الثَّنَاء وطابه وَكَانَت لَهُ عِنْد شرِيف مَكَّة الْمنزلَة الْعليا والمكانة الَّتِي لَا تنافسه فِيهَا الدُّنْيَا إِلَى أَن دَعَاهُ ربه فَقضى نحبه قَالَ وَقد وقفت لَهُ على رِسَالَة فِي شرح الْبَيْتَيْنِ الْمَشْهُورين وهما
(من قصر اللَّيْل إِذا زرتني
…
أَشْكُو وتشكين من الطول)
(عدوّ شانيك وشانيهما
…
أصبح مَشْغُولًا بمشغول)
أبدع فِيهَا وَأغْرب ثمَّ أورد لَهُ من شعره قَوْله
(أتزعم أَنَّك الخدن المفدّى
…
وَأَنت مصادق أعداي حَقًا)
(إليّ إليّ فَاجْعَلْنِي صديقا
…
وصادق من أصادقه محقا)
(وجانب من أعاديه إِذا مَا
…
أردْت تكون لي خدناً وَتبقى)
وَهُوَ ينظر إِلَى قَول الآخر
(إِذا صافي صديقك من تعادي
…
فقد عاداك وانفصل الْكَلَام)
وَبَينه وَبَين أهل عصره من المكيين وَغَيرهم مطارحات ومراسلات كَثِيرَة وَله فِي الْأَشْرَاف الحسنيين مُلُوك مَكَّة مدائح خطيرة أَعرَضت عَنْهَا لطولها انْتهى وَذكر عبد الْبر الفيومي فِي المنتزه أَن لَهُ تآليف مِنْهَا شرح على الأجرومية وتحريراته
ومنشآته كَثِيرَة وَله شعر فائق مِنْهُ قَوْله من قصيدة مدح بهَا الْأَمِير مُحَمَّد بن فروخ أَمِير الْحَاج الشَّامي فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف يتشكى من جور الزَّمَان ويلتجي إِلَيْهِ مِمَّا نابه ومطلعها
(لأيّ كَمَال مِنْك مَالك أذكر
…
وأيّ جميل من جميلك أشكر)
(جمعت كمالاً فِي سواك مفرّقاً
…
وَأَنت بِهِ فَرد وجمعك أَكثر)
وَمِنْهَا وَهُوَ مَحل الشَّاهِد
(فيا أَيهَا الشهم الهزبر الَّذِي إِذا
…
دَعَاهُ امْرُؤ أغناه إِذْ هُوَ مفقر)
(إليّ فَمَا لي غير سوحك منجد
…
أمس بوجهي بَابه وأغفر)
(وَقد ضَاقَتْ الدُّنْيَا عليّ بأسرها
…
وضقت بهَا ذرعاً وقفري مقفر)
(وَأَنت لنا غيث إِذا شح ماطر
…
وماسح يرْوى الممطرين ويمطر)
(وَأَنت الَّذِي قد عَم وكف أكفه
…
بِوَزْن نضار لَا بمزن يدرّر)
(وسائله نيلاً وسائله تراى
…
مَقَاصِد عَمَّن رامها لَيْسَ تقصر)
(إليّ وَفرج مَا انطوى فِي جوانحي
…
من الْهم حَتَّى بعد لَا أتأمر)
(فكم لَك فِي يَوْم الوغى من مفارج
…
وَمن فرج فرجتها حِين تنصر)
(وَكم لَك فِي الْحجَّاج آي جميلَة
…
يقصر عَنْهَا فِي منى الْفضل قَيْصر)
(وَكم لَك فِينَا أهل مَكَّة من يَد
…
وَمن حَسَنَات فَضلهَا لَيْسَ يحصر)
(وماذا عَسى أحصى صفاتك والورى
…
بأجمعهم عَن وصف فضلك تقصر)
وَكَانَ بَينه وَبَين عبد الْبر الْمَذْكُور مَوَدَّة وصداقة صُحْبَة زمن إِقَامَته بِمصْر وَقد أثنى عَلَيْهِ كثيرا قَالَ وَقد سَأَلَني عَن معنى بَيْتَيْنِ للنواجي وهما
(جثثت القوافي فِي طَرِيق رضائه
…
بتأسيس نظم مَا نحاه خَلِيل)
(فأطنب ردف فِي الْخُرُوج بوصله
…
وأوجز خصر فِي الْوَفَاء دخيل)
وضمنها قصيدة لَهُ طَوِيلَة يسْأَل فِيهَا عَن مَعْنَاهُمَا مطْلعهَا
(شُرُوح متون الْمَدْح فِيك تطول
…
فَكيف مقالي وَالْمقَام طَوِيل)
(وَكَيف اقتفائي فِي الثَّنَاء عروضكم
…
وقفر القوافي فِي مَا إِلَيْهِ وُصُول)
(وَكَيف اقتطافي زهر روض مديحكم
…
وجسم انتحالي فِي القريض نحيل)
قَالَ فأجبته بقصيدة تَتَضَمَّن مَعْنَاهُمَا مطْلعهَا
(ترفق دليلي فالطريق طَوِيل
…
وحادي ركاب الظاعنين مطيل)
(عَسى يقتفي من قد تخلف إثرهم
…
وَيهْدِي بهم من للرشاد يمِيل)
(فطبع الموَالِي يكرمون نَزِيلهُمْ
…
ويولونه الْإِحْسَان وَهُوَ نزيل)
(وَأَنِّي وَإِن كَانَ الطَّرِيق مجندلاً
…
فلي بِاتِّبَاع السَّابِقين وُصُول)
وَذَلِكَ ضمن رِسَالَة مَشْهُورَة سميتها الذكاء المسكي فِي جَوَاب الْفَاضِل الْمَكِّيّ قَالَ وَأرْسلت لَهُ مَكْتُوبًا وَأَنا بالروم إِلَى مَكَّة مَعَ بعض الْحجَّاج عنونته ببيتين وهما
(لم أنس عهدي بكم وَالطير ساجعة
…
وَالرَّوْض زاه وَربع الْحَيّ مأنوس)
(وَإِن بعدتم فَإِن الْقلب عنْدكُمْ
…
والجسم بالروم دون الْعود مأيوس)
وَكَانَت وَفَاته خَامِس شَوَّال سنة ثَمَان وَسِتِّينَ وَألف بِالطَّائِف وَدفن بِقرب تربة ابْن عَبَّاس
عبد الْجواد بن نور الدّين الْبُرُلُّسِيّ الْمصْرِيّ خطيب جَامع الْأَزْهَر الإِمَام الْجَلِيل الَّذِي فَضله أعظم من أَن يذكر وَأشهر من أَن يشهر أَخذ عَن وَالِده وَبِه تخرج وبرع وتفنن فِي عُلُوم كَثِيرَة وانتفع بِهِ جمع وَكَانَ لَهُ وجاهة ونباهة ونظم الشّعْر الْفَائِق واشتغل بُرْهَة بعلوم الرَّقَائِق وَكَانَ خَطِيبًا مصقعاً وَمن لطيف شعره قَوْله من رِسَالَة
(أودى إِلَى أعتاب عزتك الْعليا
…
سَلاما سعى بالودّ نحوكم سعيا)
(وأنهى إِلَى ذَاك الْوَجِيه مدائحاً
…
وأدعية فِي أَزْهَر الْعلم والمحيا)
(وَأبْدى لَهُ وجدي وفرط تشوّقي
…
رعى الله عهدا قد تقضى بِهِ رعيا)
(وأنشدكم بِاللَّه عطفا على فَتى
…
لبعدكم لم يلف صبرا وَلَا عيا)
(فَأَنت وجيه الدّين غَايَة مقصدي
…
لبعدك باشرت المتاعب والإعيا)
(بقيت لنفع النَّاس فِي خير موطن
…
تعطر أرجاء الأباطح بالفتيا)
وَمن مدائحه قَوْله مهنئاً بعض قُضَاة مصر بإبلال من مرض
(يَا سيداً بفضله
…
يرقى لهامات القمم)
(لَا زلت فِي عافيةٍ
…
والضدّ فِي كل وغم)
(فِي صِحَة دائمةٍ
…
يَا ذَا الْكَمَال والهمم)
(برؤك يَا كنز الْهدى
…
بِهِ السرُور قد ألم)
(تَارِيخه مَعَ عجل
…
بَرِئت من كل سقم)
وَله غير ذَلِك وَكَانَت وَفَاته خَامِس عشري شهر رَمَضَان سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف بِمصْر والبرلسي بِضَم الْمُوَحدَة وَالرَّاء وَاللَّام مَعَ تشديدها نِسْبَة إِلَى البرلس ثغر عَظِيم
من سواحل مصر
عبد الْجواد الْمصْرِيّ الشَّافِعِي الصَّالح المجذوب نزيل دمشق ذكره النَّجْم الْغَزِّي فِي ذيله وَقَالَ فِي تَرْجَمته كَانَ يعلم الْأَطْفَال بالبقاع وَغَيره من أَعمال دمشق ثمَّ قطن دمشق وَقَرَأَ بهَا وَحفظ بعض الْمسَائِل ثمَّ غلب عَلَيْهِ الوسواس حَتَّى وصل إِلَى أُمُور عَجِيبَة وَكَانَ يغلب عَلَيْهِ الجذب وَكَانَ يكره التَّسْمِيَة بِعَبْد الْجواد وَيَقُول مَا أسمى نَفسِي إِلَّا مُحَمَّد الْمُؤَيد الْمَنْصُور وَيعْتَذر عَن ذَلِك بِأَن الْعَامَّة تشدد الْوَاو فَتكون تَسْمِيَته سَببا لتغيير اسْم الله تَعَالَى وكف بَصَره فِي آخر الْأَمر وَكَانَ السَّبَب فِي ذَلِك كشف رَأسه عِنْد الْوضُوء وَكَثْرَة صب المَاء عَلَيْهِ ثمَّ مَاتَ بعلة الاسْتِسْقَاء فِي أَوَاخِر الْمحرم سنة سبع عشرَة بعد الْألف
عبد الحفيظ بن عبد الله المهلا الهدوي الشرفي قَالَ حفيده الْحُسَيْن حرسه الله من الْغَيْن فِي وَصفه كَانَ إِمَامًا فِي عُلُوم الِاجْتِهَاد لَهُ فَضَائِل أذعنت لَهَا أَرْبَاب التَّحْقِيق فِي كل الْبِلَاد وَكَانَ يملي من التَّحْقِيق فِي جَمِيع الْعُلُوم مَا تَنْشَرِح لَهُ صُدُور الأمجاد ويحفظ فِي جَمِيع الْعُلُوم مؤلفات عديدة مَعَ شروحها بِحَيْثُ كَانَ لَا يمر فِي طَرِيق أَو غَيرهَا إِلَّا وَهُوَ يملي عَليّ من صَحبه من فوائدها وينبه على مباحثها سهل الْإِمْلَاء عَظِيم الِاطِّلَاع لطيف الشَّمَائِل وَكَانَ لَا يمر فِي علم التَّفْسِير وَالْفِقْه والْحَدِيث والنحو وَالصرْف والمعاني وَالْبَيَان وَالْعرُوض وَسَائِر الْعُلُوم راو إِلَّا وأملى أَحْوَاله وأخباره ونظمه ونثره وَسيرَته ووفاته وَمَا يتَعَلَّق بذلك من جرح وتعديل وَضبط وَحفظ وَلَا بِبَيْت شعر إِلَّا وأملى مَا بعده وَمَا قبله وقائله وأخباره وَسبب نظمه وَكَانَ من الملكة فِي الْأَصْلَيْنِ بِأَعْلَى الْمَرَاتِب وَمن سَائِر الْعُلُوم بِالْمحل الَّذِي لَا يخفى على أحد أَخذ عَن وَالِده وَسمع عَلَيْهِ كتبا كَثِيرَة من كتب الْفُرُوع مِنْهَا الأزهار للْإِمَام الْمهْدي وَشَرحه لِابْنِ مِفْتَاح والتذكرة للفقيه حسن وَالْكَوَاكِب عَلَيْهَا وَالْأَحْكَام للهادي إِلَى الْحق يحيى بن الْحُسَيْن وَشرح القَاضِي زيد إِلَّا الرّبع الْأَخير وَالْبَيَان لِابْنِ مظفر والتبيان لَهُ والبستان وَالْبَحْر الزخار للْإِمَام الْمهْدي وَشَرحه للْإِمَام عز الدّين وَابْن مرسم والأثمار للْإِمَام شرف الدّين وَشرح ابْن بهران عَلَيْهِ وَتَخْرِيج أَحَادِيث الْبَحْر لَهُ وَغير ذَلِك من كتب الْفِقْه وَسمع كثيرا من أصُول الْفِقْه المعيار وَشَرحه الْمِنْهَاج للْإِمَام الْمهْدي والفصول وحواشيه ومختصر الْمُنْتَهى لِابْنِ الْحَاجِب وَشَرحه للعضد مَعَ حَاشِيَة التَّفْتَازَانِيّ عَلَيْهِ والرفو للنيسابوري والكافل لِابْنِ بهران وَمن
كتب النَّحْو الكافية لِابْنِ الْحَاجِب وَشَرحهَا للرضي وَابْن تياح والرصاص وحاشية السَّيِّد الْمُفْتِي عَلَيْهَا والخبيصي والطاهرية وشروحها والفصل وشروحها المتداولة وَمن التصريف الشافية وَشَرحهَا للرضي وركن الدّين وَمن الْمعَانِي التَّلْخِيص وشروحه المطول والمختصر ومفتاح السكاكي وَشَرحه للسَّيِّد وَمن كتب اللُّغَة كِفَايَة المتحفظ وضياء الحلوم والقاموس الْمُحِيط وديوان الْأَدَب ونظام الْغَرِيب والمقامات للحريري وَشَرحهَا للمسعودي وَغَيرهَا من كتب الْفَرَائِض الْمِفْتَاح للضنفري والشاطري عَلَيْهَا وَشرح الخالدي إِلَّا الضَّرْب آخِره والوسيط للْقَاضِي أَحْمد بن نسر وَشرح الْأَعْرَج على الْمِفْتَاح وَمن كتب التَّفْسِير الْكَشَّاف والثمرات للفقيه يُوسُف وَتَجْرِيد الْكَشَّاف والاتقان للسيوطي وَشرح الْخَمْسمِائَةِ للتحري وتهذيب الْحَاكِم وَالْبَغوِيّ والبيضاوي وَمن كتب الْمنطق ايساغوجي وَشَرحه للكاتي والشمسية وَشَرحهَا للقطب والتهذيب للسعد وَشَرحه للشيرازي واليزدي وَمن كتب الْعرُوض الْمُخْتَصر الشافي لِابْنِ بهران وَغَيره وَمن كتب الطَّرِيقَة تصفية الامام يحيى والإرشاد للعبسي وكنز الرشاد للْإِمَام عز الدّين وَكتاب الْبركَة للحبيشي وَغَيرهَا وَفِي أصُول الدّين المعيار للنجري والمنهاج للقرشي وَشَرحه للْإِمَام عز الدّين وَشرح الْأُصُول الْخمس للسَّيِّد مانكديم وَشرح قَوَاعِد النَّسَفِيّ للتفتازاني وَسمع عَلَيْهِ سيرة ابْن هِشَام وبهجة العامري وَشَرحهَا لمُحَمد بن أبي بكر الأشخر وتاريخ ابْن خلكان وتاريخ الرّبيع والبائية وَشَرحهَا للرصيف وَمن كتب الحَدِيث أصُول الْأَحْكَام للْإِمَام أَحْمد بن سُلَيْمَان وشفاء الْأَمِير الْحُسَيْن وتتمته للسَّيِّد صَلَاح بن الْحَلَال وَالْبُخَارِيّ وَمُسلم وَتَجْرِيد الْأُصُول لهبة الله الْبَارِزِيّ وَغَيرهَا وَأَجَازَ لَهُ سَائِر مسموعاته على كثرتها وأماما سَمعه على غَيره فكثير فَسمع الأساس على مُؤَلفه الإِمَام الْقَاسِم بن مُحَمَّد بن عَليّ بداره بحصن شهاره وَأَجَازَهُ بِهِ وبمرورياته وَسمع طرفا من عُلُوم أهل الْبَيْت على الإِمَام مُحَمَّد الْمُؤَيد بن الإِمَام الْقَاسِم وَسمع غَايَة السول على مُؤَلفه السَّيِّد الْحُسَيْن بن الْقَاسِم مَعَ إملاء مَا تيَسّر من شَرحه مَعَ المعاونة بِالنّظرِ فِي المباحث وَسمع المطول والمختصر للسعد على السَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد بن صَلَاح وعَلى القَاضِي الْعَلامَة الْحسن بن سعيد الفيرري وَسمع ايساغوجي وَشَرحه على السَّيِّد النَّاصِر بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن بنت النَّاصِر بِصَنْعَاء وَأخذ الْعرُوض عَن الْفَقِيه الأديب مُحَمَّد بن عبد الْوَهَّاب الْعَرُوضِي وَسمع الْقُرْآن لنافع وراوييه على الْفَقِيه
الْمقري الْمهْدي الْبَصِير بِصَنْعَاء وعَلى الْفَقِيه صَلَاح الْوَاسِع كَذَلِك فِي مَسْجِد دَاوُد بِصَنْعَاء وعَلى الْفَقِيه مُحَمَّد بن صَالح الأصابي الْمَكِّيّ وَسمع بزييد صَحِيح البُخَارِيّ وَمُسلم وَالْجَامِع الصَّغِير وذيله للسيوطي وتمييز الطّيب من الْخَبيث فِي علم الحَدِيث للديبع والتيسير الْجَامِع للأمهات السِّت البُخَارِيّ وَمُسلم والموطأ وَسنَن أبي دَاوُد وجامع التِّرْمِذِيّ وَسنَن النَّسَائِيّ على الإِمَام الْعَلامَة الْمُحدث مُحَمَّد بن الصّديق الْخَاص السراج الخنفي سنة تسع وَأَرْبَعين وَبَعضه فِي سنة خمسين وَأَجَازَهُ بمرورياته بِإِجَازَة كتبهَا لَهُ سنة خمسين وَألف وَسمع أَيْضا صَحِيح البُخَارِيّ على الْفَقِيه الْعَلامَة عَليّ بن أَحْمد الحشيبري وَسمع على الْفَقِيه الْعَلامَة أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن مطير جمع الْجَوَامِع للسبكي وصحيح البُخَارِيّ وَتَفْسِير الْبَغَوِيّ فِي بَيت الْفَقِيه الزيدية وَفِي مَدِينَة زبيد وَسمع صَحِيح البُخَارِيّ أَيْضا على الْفَقِيه الْعَلامَة عبد الْوَهَّاب بن الصّديق الْخَاص الزبيدِيّ وَسمع الْجَامِع الصَّغِير وصحيح مُسلم على الْفَقِيه الْعَلامَة مُحَمَّد بن عمر حشيبر الْحَافِظ الْمُحدث فِي بَيت الْفَقِيه الزيدية وَكَانَ يحضر فِي قِرَاءَة هَذِه الْكتب مَا يتَعَلَّق بهَا من المصنفات فِي عُلُوم الحَدِيث وَرِجَاله وَتَفْسِير غَرِيبَة وَأَجَازَهُ مشايخه المذكورون بِسَائِر مسموعاتهم ومجازاتهم وَذكر لَهُ عدَّة أَسَانِيد أَعرَضت عَنْهَا لطولها وَبِمَا ذكر تعرف جلالة قدره وَطول بَاعه فِي جَمِيع الْعُلُوم وَله أجوبة على مسَائِل كَثِيرَة وَردت عَلَيْهِ من عُلَمَاء ذَلِك الزَّمَان ورسائل بليغة وخطب رائقة وأشعار فائقة وَلما أنْشد بعض من حضر مجْلِس سَمَاعه فِي الحَدِيث بزبيد المحروسة على شَيْخه مُحَمَّد الْخَاص الحني بَيْتِي ابْن حزم الظَّاهِرِيّ وهما
(إِن كنت كَاذِبَة الَّتِي حَدَّثتنِي
…
فَعَلَيْك إِثْم أبي حنيفَة أوزفر)
(الواثبين على الْقيَاس تمردا
…
والراغبين عَن التَّمَسُّك بالأثر)
أَخذ الشَّيْخ فِي ذمّ ابْن حزم لَا جلهما فَقَالَ صَاحب التَّرْجَمَة بديهة
(مَا كَانَ يحسن يَا ابْن حزم ذمّ من
…
حَاز الْعُلُوم وفَاق فضلا واشتهر)
(فَأَبُو حنيفَة فَضله متواتر
…
وَنَظِيره فِي الْفضل صَاحبه زفر)
(أَن لم تكن قد تبت من هَذَا فَفِي
…
ظَنِّي بأنك لَا تبَاعد عَن سفر)
(لَيْسَ الْقيَاس مَعَ وجود أَدِلَّة
…
للْحكم من نَص الْكتاب أَو الْخَبَر)
(لكنّ مَعَ عدم تقاس أَدِلَّة
…
وبذاك قدوصي معَاذ إِذْ أَمر)
فأعجب الْحَاضِرُونَ بذلك وكتبوه عَنهُ فِي الْحَال وَحضر مجْلِس التدريس فِي بعض
الْأَيَّام وَهُوَ فِي قَمِيص أَزْرَق اللَّوْن وَوَجهه يتلألأ كَالْقَمَرِ فَأَنْشد وَلَده النَّاصِر فِي الْحَال
(أَبَد ربداً فِي لون زرقاء أَخْضَر
…
تضوّع من طيبين مسك وَعَنْبَر)
(قد انتعل الْجَوْز مجداً ورفعة
…
كَمَا أَنه للجود وَالْحَمْد مُشْتَرِي)
(بني عرشة فَوق السماك علومه
…
سرى هديها فِي كل واع ومبصر)
(ويملي لنا من كل فنّ دقائقاً
…
يضن بهَا عَن أَن تبَاع بجوهر)
(فَللَّه من قَامُوس علم وبحره
…
مُحِيط بأنباء صِحَاح لجوهري)
(وَعلم حَدِيث والأصولين أَنَّهَا
…
لمن بعض مَا يملي ويقري وأيسر)
(حقيق بِمَا قد قَالَه خير نَاظر
…
خَبِير بأرباب المكارم أشهر)
(فَمَا خلقت إِلَّا لطرس أكفه
…
وأقدامه إِلَّا لسرج ومنبر)
وَله من الْفَضَائِل والفواضل وَالتَّحْقِيق فِي الْعُلُوم ولطائف النّظم والنثر مَا لَا يَأْتِي عَلَيْهِ الْحصْر وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْخَمِيس سلح شهر ربيع الأول سنة سبع وَسبعين وَألف وَحضر للصَّلَاة عَلَيْهِ عَالم كثير من جَمِيع الْجِهَات وقبره بالإشغاف من عمل الشجعة مَشْهُور ورثاء عُلَمَاء الْعَصْر بمراث بليغة كَثِيرَة مِنْهَا قَول السَّيِّد جمال الدّين مُحَمَّد بن صَلَاح بن الْهَادِي الوشلي قصيدة مِنْهَا
(الله أكبر كل خطب هَين
…
الْأَعْلَى عبد الحفيظ فيكبر)
(حبر الْأَنَام وَحجَّة الْإِسْلَام أَن
…
أَمر عرى وَالْعَاقِب المتبصر)
(أعْطى الْجِهَاد حُقُوقه وسمت بِهِ
…
للِاجْتِهَاد عوارف لَا تنكر)
وَمِنْهُم الْعَلامَة عَليّ بن مُحَمَّد بن سَلامَة عَالم صنعاء رثاه بقصيدة مطْلعهَا
(مادت جبال بالتهائم والشرف
…
وذوت غصون للفضائل والشرف)
(وتضعضعت أَرْكَان مجد شامخ
…
للفضل فِي الْعلم الشريف لمن عرف)
ورثاء السَّيِّد يحيى بن أَحْمد الشَّرّ فِي نظما ونثرا من ذَلِك قَوْله أول قصيدة
(قَضَاء لَا يرد وَلَا يعاب
…
وَحكم من مدبره صَوَاب)
ورثاه القَاضِي حفظ الله بن مُحَمَّد بن سُهَيْل
(هَل قد دحي الْبَحْر الْمُحِيط نضوبه
…
أم ذِي الْجبَال الراسيات تسير)
(أوآن مِنْهَا كسفا أم دكت
…
الأرضون أَن هذي السما تتفظر)
(أم مَاتَ ذُو الْفضل الشهير وَمن لَهُ
…
بَين الْخَلَائق مفخر لَا يُنكر)
(عبد الحفيظ الْعَالم الْعَلامَة النّدب
…
الذكي الْعَارِف المتجر)
(ذُو الِاجْتِهَاد وَذُو الْجِهَاد فمنهما
…
يحمى العثار بِهِ ويحمى العثير)
ورثاه حفيده القَاضِي حُسَيْن بن النَّاصِر بمراث طَوِيلَة مِنْهَا قصيدة أَولهَا
(الأَرْض ترجف والسحائب تمطر
…
لوفاة بحرٍ بالفضائل يزخر)
مِنْهَا
(عضد لأرباب الْأُصُول وَغَايَة
…
مِنْهَا الشموس بَدَت لنا والأقمر)
(وبفكره الصافي تحصل للورى
…
علم بِهِ تَصْدِيقه يتصوّر)
(وغدت قضاياها موجهة بِمَا
…
يدرى بغامض أمرهَا من يبصر)
وَمِنْهَا
(فالمجد مَرْفُوع بِذَاكَ ومرسل
…
وَكَأَنَّهُ يَا حبذا مَا يهمر)
(لم يَنْقَطِع عَن فَضله ذُو فطنة
…
فَيُقَال مَتْرُوك هُنَاكَ ومنكر)
(لم يبْق للموضوع فِي أَيَّامه
…
أصل يشاد وَلَا طَرِيق يظْهر)
عبد الْحق بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد الْحِمصِي الأَصْل الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي الملقب زين الدّين الْحِجَازِي الْفَاضِل الأديب الْمَشْهُور ذكره كثير من المنشئين وَأَصْحَاب التواريخ والمجاميع وأثنوا عَلَيْهِ وَكَانَ معمور الْأَطْرَاف كَامِل الأدوات أديباً مُتَمَكنًا من فنون كَثِيرَة جيد الفكرة لطيف المعاشرة وَكَانَ اشْتِغَاله على وَالِده وغلبت عَلَيْهِ الْعُلُوم الْعَقْلِيَّة مَعَ إحاطة تَامَّة بِالْعَرَبِيَّةِ وَالْأُصُول وَصَحب الشَّيْخ مُحَمَّد بن عمر بن فواز الْآتِي ذكره وَكَانَ يَسْتَفِيد مِنْهُ فِي صُورَة المذاكرة وَأكْثر انتفاعه بِهِ وَله مَعَه مطارحات مَقْبُولَة مِنْهَا مَا كتبه الْحِجَازِي إِلَيْهِ وَقد انْقَطع عَنهُ مجافياً
(يَا غَائِبا والذنب ذَنْبك
…
متعتباً الله حَسبك)
(لَا تبعدن فَإِنَّمَا
…
أملي من الْأَيَّام قربك)
(فلأصبرن وأرضين
…
بِمَا قَضَاهُ الله رَبك)
وَكَانَ خرج فِي شبيبته إِلَى حلب مغاضباً لوالده فَبعث إِلَيْهِ من رده وَرجع بِهِ واستمرت الشحناء بَينهمَا مُدَّة حياتهما وَكَانَ يجفو أَبَاهُ ويهجره وَهُوَ يُقَابله بالمحبة وَلم يزل على مجافاته حَتَّى سَافر إِلَى الرّوم فِي سنة أَربع بعد الْألف وَأخذ عَن أَبِيه الْمدرسَة التقوية وَدَار الحَدِيث الأشرفية وبقيتا عَلَيْهِ إِلَى أَن مَاتَ ودرس ببقعة فِي الْجَامِع الْأمَوِي وَكَانَ لَهُ حجرَة بالجامع القلعي فِي سوق جقمق وَكَانَت الطّلبَة يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهِ بهَا وَيَأْخُذُونَ عَنهُ وَكَانَ كثير الْفَائِدَة طَوِيل الباع فِي النّظم والنثر وَله شعر كُله نَفِيس حسن التخيل متين التَّرْكِيب فَمن ذَلِك قَوْله من قصيدة مطْلعهَا
(بَين جنبيّ للتفرق نَار
…
وبخديّ للبكا أَنهَار)
(وبقلبي لواعج من شجون
…
هيجتها الأطلال والْآثَار)
(أَربع كنّ للأوانس مرعى
…
فَهِيَ الْآن للكوانس دَار)
(نهبتها أَيدي الروامس نهباً
…
مِثْلَمَا تنهب الْعُقُول الْعقار)
(جللتها ثوب العفاء السَّوَارِي
…
ومحتها الرِّيَاح والأمطار)
(طلل حلّه الأوابد لما
…
نعبت فِيهِ للنوى أطيار)
(كنت والدور بالدمى آهلات
…
جزعاً كَيفَ أَنْت وَهِي قفار)
(أدلجوا للسرى وَسَارُوا سرَاعًا
…
وخلت أَربع لَهُم وديار)
(أوحشوا ربعهم فليت العوادي
…
ساعدتهم وليتهم مَا سَارُوا)
(وتراموا بِكُل خرق مخوف
…
صيخد لَا يرى بهَا سفار)
(هُوَ جلّ تتْرك العباهل صرعى
…
وَبهَا للردى يخاض غمار)
(وَكَأن الْأَعْلَام إِذْ تتراآى
…
شامخات الذرى غُبَار مثار)
(والفيافي كأنهن طروس
…
وكأنّ الركائب الأسطار)
(ورياح الجداء فِيهِنَّ تزجى
…
سفن عبس لَهَا السراب بحار)
(وكأنّ الأحداج أكمام طلع
…
وَلها الْبيض والدمى أزهار)
(قاصرات عين أوانس غيد
…
عَن هواهن لَيْسَ لي أقصار)
(بِفُرُوع كأنهن الدياجي
…
ووجوه كَأَنَّهَا الأقمار)
(وَلكم راعني لئيم بلؤم
…
هُوَ مِنْهُ سفاهة واغترار)
(كَيفَ أسلو عَن منهل طَابَ ريا
…
لي مِنْهُ الْإِيرَاد والإصدار)
(وخيال ألم الركب ساه
…
وكؤوس الْكرَى عَلَيْهِم تدار)
(قلت لما طوى القفار ووافى
…
وأضاءت لزوره الأقطار)
(بدر أفق أنار أم لمع برق
…
يتلالى أم كَوْكَب أم نَار)
(أم سليمى إِذْ جنني اللَّيْل زارت
…
فغدا وَهُوَ من سناها نَهَار)
(ساورتني الأحزان واقتسمتني
…
فِي هَواهَا الهموم والأكدار)
(مثل مَا اجتازت الْحَوَادِث جَاءَت
…
وسطت فيّ لَا كَمَا أخْتَار)
(وكذاك الْأَيَّام تسطو بِذِي الْفضل
…
وللدهر غفوة واعتذار)
(هَل مجير من حادثات اللَّيَالِي
…
لَيْسَ شخص على الخطوب يجار)
(مصلت صارمي عناد وبغي
…
زمن لَيْسَ مِنْهُ يدْرك ثار)
(ألبستني لَهُ سوابغ بَأْس
…
عَزمَات لم يثنها أضجار)
وَهِي طَوِيلَة وَمَا أوردناه مِنْهَا كَاف فِي الدّلَالَة على حسن انسجامها ومتانة لَفظهَا وَله من قصيدة أُخْرَى مطْلعهَا
(أعرت خدود الغيد من مهجتي جمرا
…
وعلقن فِي الأجياد من مدمعي درا)
(ومعرك حَرْب فِي فُؤَادِي أثاره
…
من الشوق جَيش لَا يُحِيط بِهِ خَبرا)
(على هدف الأحشاء وَقع سهامه
…
يفوّقها للقلب فتاكة عذرا)
(وَقَالُوا تصبر قلت شَيْء جهلته
…
وَكَيف يُطيق الصَّبْر من يجهل الصبرا)
(خليليّ عوجا بَارك الله فيكما
…
وحثا المطايا واقصدا الرند والسدرا)
(فلي فِيهِ خود بالصدود تسربلت
…
وَقد تخذت سمر الرماح لَهَا خدرا)
(ربيبة ألوت بعزم تجلدي
…
وأذكت على الأحشاء من نأيها جمرا)
(أَبى الْقلب إِلَّا أَن يكون بهَا مغرى
…
ومذ أيقنت سوق العدا أخذت حذرا)
(وَكم حذرتني فِي هَواهَا عواذلي
…
وَلَا أَحسب التحذير إِلَّا بهَا أغرا)
(أَلا أَيهَا الْقلب الَّذِي لج فِي الْهوى
…
إلام الوفا والغيد أزمعت الغدرا)
(وهذي دواعي الشيب تَدْعُو إِلَى الْهدى
…
وَقد زجرتني عَن دواعي الصِّبَا زجرا)
(وَقد شَاب كَبِدِي قبل رَأْسِي ولمتي
…
فحتام قلبِي لَا يفِيق بهم سكرا)
(وَمَا كَانَ شيبي من تطاول أزمني
…
ولكنني لاقيت من دهري النكرا)
أَخذ هَذَا من قَول بَعضهم
(وَمَا شَاب رَأْسِي من سِنِين تَتَابَعَت
…
عليّ وَلَكِن شيبتني الوقائع)
وَمن جيد شعره قَوْله
(وَحقّ الْهوى إِن الْهوى فِيك لم يزل
…
لنا قسما لَا حنث فِيهِ عَظِيما)
(لقد هجت بالألطاف لي مِنْك لوعة
…
وجدّدت وجدا فِي الْفُؤَاد قَدِيما)
(ومزقت صبرا كنت قدماً تخذته
…
ظهيراً بِهِ ألْقى الْهوى ورحيما)
(فَأَصْبَحت فِيك الْآن لَا أملك الجوى
…
وَلَا أرتضي إِلَّا هَوَاك نديما)
وَكَانَ بَينه وَبَين مُحَمَّد الصَّالِحِي الملقب أَمِين الدّين الْآتِي ذكره مَوَدَّة أكيدة واجتماع كثير ثمَّ انْقَطع أَمِين الدّين عَنهُ فسير إِلَيْهِ يعتبه لانقطاعه عَنهُ قَوْله
(طَالَتْ الأشواق وازداد العنا
…
وَتَمَادَى الْبَين فِيمَا بَيْننَا)
(فامنحوا الْقرب محباً مخلصاً
…
فَلَعَلَّ الْقرب يشفي مَا سنا)
(لَيْسَ فِي هَذَا عَلَيْكُم كلفة
…
إِنَّمَا نطلب شَيْئا هُنَا)
فَكتب إِلَيْهِ من نظمه
(أَنا فِي الْقرب وَفِي الْبعد أَنا
…
لَيْسَ فِي الْحَالين لي عَنْكُم غنا)
(أفضل الْأَشْيَاء عِنْدِي حبكم
…
وَهُوَ فِي وسط فُؤَادِي مكنا)
(لَكِن الْأَيَّام أشكوها لكم
…
جورها قد أورث الْجِسْم الضنا)
فَرَاجعه الْحِجَازِي بقوله
(قد عناني من جفاكم مَا عَنَّا
…
إِذْ جعلتم هجركم لي ديدنا)
(لَا أُطِيق الصَّبْر عَنْكُم سَاعَة
…
أَنْتُم دون الورى عِنْدِي المنى)
(لَا وَلَا يشفى غليلي قَوْلكُم
…
أَنا فِي الْقرب وَفِي الْبعد أَنا)
وَجمعه مجْلِس صُحْبَة أخدان لَهُ فِي بلهنية شبابه فَقَالَ هَذِه الأبيات يمدحهم بهَا
(فديت معاشرا كالزهر أربت
…
وُجُوههم على زهر النُّجُوم)
(أحاسن من أكارم صيرتهم
…
يَد الْإِحْسَان كالدر النظيم)
(جلونا من محياهم حميا
…
تجلى ظلمَة اللَّيْل البهيم)
(جَوَاهِر زينت سلك الْمَعَالِي
…
وأعلت راية الْحبّ الْكَرِيم)
(رياض بنفسج وَهنا نفوس
…
وكشف كرائب ودجا هموم)
(وألطاف إِذا شملت شجيا
…
جلت عَن قلبه كرب الهموم)
(بهم نفس العلى وَالْمجد طابت
…
وقرت بالهنا عين الْعُلُوم)
(واصبح عقد جيد الْفضل يزهو
…
بدر نظمته يَد الفهوم)
(يعير الْحسن أجياد الغواني
…
وَيهْدِي السحر للطرف السقيم)
(ألذ من الصِّبَا لَا خي التصابي
…
وألطف من مطارحة النسيم)
وَكتب لبَعض أحبابه فِي صدر رِسَالَة
(أحبتنا مَاذَا نُؤَدِّي رِسَالَة
…
وَهل تحصر الأوراق بعض بتاريحي)
(ولكنني أهدي إِلَيْكُم تَحِيَّة
…
مَعَ البارق النجدي لَا نسمَة الرّيح)
(فَتلك سراها بالهوينا تعللا
…
ولطا لِأَنِّي مُرْسل مَعهَا روحي)
(وَذَلِكَ يهدي لي السَّلَام بلمحة
…
فَفرج عَن قلب من الْبَين مَجْرُوح)
وَكَانَ الْحسن البوريني سَافر إِلَى ترابلس الشَّام فِي أَوَاخِر سنة ثَمَان بعد الْألف فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى دمشق حضر علماؤها للسلام عَلَيْهِ وَتَأَخر صَاحب التَّرْجَمَة لمَرض كَانَ
عرض لَهُ فَكتب إِلَيْهِ هذَيْن الْبَيْتَيْنِ
(أعدتم إِلَيْنَا بهمة أدبية
…
بهَا افتر ثغر الْفضل وَالْعود أَحْمد)
(وأحييتم وَادي دمشق بعودة
…
أضاعبها فِيهِ مصلى وَمَسْجِد)
وَمن غرائب حكيمياته قَوْله
(نقل الطباع عَن الْإِنْسَان مُمْتَنع
…
صَعب إِذا رامه من لَيْسَ من أربه)
(يُرِيد شَيْئا وتأباه طبائعه
…
والطبع أملك للْإنْسَان من أدبه)
وَقَوله
(أَلا رب من تحنو عَلَيْهِ وَلَو ترى
…
طويته سَاءَ تَكُ تِلْكَ الضمائر)
(فَلَا تأمن خلا وَلَا تغترر بِهِ
…
إِذا لم تطب مِنْهُ لديك المخابر)
وَقَوله
(يزين الْبَذْل كل أخي كَمَال
…
ويزري الْبُخْل بِالرجلِ البجال)
(وَلَو عقل الْبَخِيل الْبُخْل يَوْمًا
…
لما علقت أنامله بِمَال)
وَذكره الشهَاب الخفاجي فِي كِتَابه وَقَالَ فِي تَرْجَمته رَأَيْت لَهُ جَوَابا عَن سُؤال رفع إِلَيْهِ فِي الْفرق بَين هذَيْن الْبَيْتَيْنِ وَأيهمَا أبدع وأبلغ وهما قَول ابْن نباتة السَّعْدِيّ فِي قصيدته الَّتِي أَولهَا
(رَضِينَا وَمَا ترْضى السيوف القواضب
…
نجاذبها عَن هامكم وتجاذب)
(خلقنَا بأطراف القنافي ظُهُورهمْ
…
عيُونا لَهَا وَقع السيوف حواجب)
وَقَول أبي إِسْحَاق الْغَزِّي
(خلقنَا لَهُم فِي كل عين وحاجب
…
بسمر القنا وَالْبيض عينا وحاجباً)
فَادّعى أَن بَيت الْغَزِّي أبدع لما فِيهِ من الصَّنَائِع كالطباق بَين السمر وَالْبيض ورد الْعَجز على الصَّدْر واللف والنشر ومراعاة النظير وَادّعى أَنه يجوز أَن يُرَاد بِالْعينِ فِيهِ الرئيس وبالحاجب من تبعه وحجابه وَالْمعْنَى رماحنا وسيوفنا نَالَتْ الْحَاجِب والمحجوب والرئيس والمرؤوس وَهُوَ مُشْتَمل على التورية والإستعارة أَيْضا وَهَذَا مِمَّا خلا عَنهُ الْبَيْت الأول مَعَ مَا فِيهِ من الإفتخار بِقِتَال أعدائهم الثابتين لَا المنهزمين فَإِنَّهُ لَا يفتخر بِمثلِهِ وَلذَا يعاب الْبَيْت الأول وَإِن ذكر صَاحب إِيضَاح الْمعَانِي أَنه أبلغ لإشتماله على زِيَادَة معنى وَهُوَ الْإِشَارَة إِلَى انهزامه وَأطَال وأسهب وَبعد وَقرب وَالْحق مَا ذهب إِلَيْهِ صَاحب الْإِيضَاح خطيب الْمعَانِي فَإِن بَيت النباتي أحلى لما فِيهِ من التَّشْبِيه البديع لجعل أثر الطعنة المستدير عَنَّا وشطبة السَّيْف فَوْقهَا حاجبا والإغراب بِجعْل الظّهْر مَحل الْعين والحاجب وَأما
انهزامهم فَلَا يدل على عدم شحاعتهم حَتَّى يخل بالفخر فَإِن الشجاع ينهزم مِمَّن هُوَ أَشْجَع مِنْهُ وَلذَا قيل الْفِرَار مِمَّا لَا يُطَاق من سنَن الْأَنْبِيَاء كَمَا فر مُوسَى حِين هم بِهِ القبط وَأما ماذكره من معنى الْعين والحاجب فسخيف وتخيل ضَعِيف على أَن جعل الْعين والحاجب بِمَعْنى الرئيس والمرؤوس فَمن الْعَجَائِب وَمَا ذكره من النَّقْد عَلَيْهِ نَقله ابْن الشّحْنَة فِي أَمَالِيهِ عَن الشريف المرتضى وَقَالَ إِنَّه عيب عَلَيْهِ قَوْله فِي ظُهُورهمْ وَقَالَ لَو قَالَ فِي صُدُورهمْ كَانَ أمدح لِأَن الطعْن وَالضَّرْب فِي الصَّدْر أدل على الْإِقْدَام والشجاعة للطاعن والضارب والمطعون والمضروب لِأَن الرجل إِذا وصف قرينه بالإقدام مَعَ ظُهُوره عَلَيْهِ كَانَ أمدح من وَصفه بالانهزام فَلِذَا قَالَ أَبُو تَمام
(حرَام على أرماحنا طعن مُدبر
…
وتندق فِي أعلا الصُّدُور صدورها)
وَقد عرفت جَوَابه مِمَّا تقدم فَتذكر انْتهى وأخبار عبد الْحق وآثاره كَثِيرَة وَفِي الَّذِي أوردناه لَهُ كِفَايَة وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وأقعد بالفالج نَحْو سنتَيْن ثمَّ توفّي نَهَار الاحد خَامِس عشر شهر رَمَضَان وَقت الْغَدَاة من سنة عشْرين وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير عِنْد قبر أَبِيه وَوضع على قَبره تَابُوت من دون قبر أَبِيه وَبَينه وَبَين وَالِده فِي الْوَفَاة أحد وَعِشْرُونَ يَوْمًا وَقَالَ وَلَده القَاضِي إِسْمَاعِيل الْمُقدم ذكره يرثيه بِهَذِهِ الأبيات وفيهَا تاريح وَفَاته
(طرف تقرح من دم متدفق
…
وحشا تجرح من جوى وَتحرق)
(وأسى تجمع لم يكن بمجمع
…
لشتات شَمل لم يكن بمفرق)
(خطب لقد صدع الجفا مِنْهُ وَمن
…
بَين أُتِي من غير وعد مطبق)
(ذهب الَّذِي كَانَت سحائب فَضله
…
تهمى بروض بالعلوم معبق)
(مولى مكارمه إِذا مَا جمعت
…
فاقت على سح السَّحَاب المغدق)
(وَإِذا غَدا ليل المباحث مظلما
…
كَالشَّمْسِ صيره بفهم مخرق)
(وَإِذا تعقد مُشكل لَك حلّه
…
بيَدي إِمَام فِي الْعُلُوم مُحَقّق)
(قد حَاز فضلا فِي ميادين العلى
…
وَالْعلم حَتَّى إِنَّه لم يسْبق)
(جاد الزَّمَان بِهِ فَعَاد بجوده
…
بخلا وَكَانَ كبارق متألق)
(هَيْهَات أَن يَأْتِي الزَّمَان بعالم
…
يحكيه فِي حسن الصِّفَات مدقق)
(مَا حيلتي والدهر لم يَك مسعفي
…
وَقضى عَليّ بلوعة وتفرق)
(يَا لَيْت يَوْمًا كَانَ فِيهِ ذَهَابه
…
لَا كَانَ بل لَيْت النَّوَى لم يخلق)
(بل لَيْت بدر الْأُفق لم يَك طالعاً
…
وَكَذَا الغزالة ليتها لم تشرق)
(كُنَّا نصول بِهِ على كبد العدا
…
وَيكون ذخر للشدائد لَو بقى)
(لكنه حم القضا وتقطعت
…
أَيدي الرجا مناببين موبق)
(فيحق للعيني تبْكي بعده
…
بِدَم غزير لَا بدمع مُطلق)
(ويحق للقلب السَّلِيم بِأَنَّهُ
…
يفنى عَلَيْهِ من الْفِرَاق المقلق)
(ويحق للدهر الخؤون بكاؤه
…
ويحق للشبان شيب المفرق)
(قد كَانَ غصناً بالتهاني مورقا
…
فذوي وَفَاتَ كَأَنَّهُ لم يورق)
(أَعماله كالمسك قَامَ عبيرها
…
ختمت برضوان الاله المعيق)
(لما تفوي بالرضى أرخته
…
قد مَاتَ قطب عَالم فِي جلق)
عبد الْحق بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن أَحْمد بن عمر بن إِسْمَاعِيل بن أَحْمد الْفَرد فِي زَمَانه الشَّيْخ محيى الدّين بن سيف بن علم الدّين سُلَيْمَان بن عبد الرَّزَّاق بن قيس شَاكر بن سُوَيْد بن عفيف الدّين بن سعيد بن عَليّ الهائم بن مَنْصُور الموله بن تَاج الدّين ثَوْبَان بن الْأَمِير الْكَبِير إِسْحَاق بن السُّلْطَان إِبْرَاهِيم بن الأدهم الأدهمي الْحَنْبَلِيّ الصُّوفِي القادري الْمَعْرُوف بالمرزباني كَانَ من مشاهير صوفية الشَّام لَهُ الْوَقار والهيبة وَعِنْده المام بمعارف كَثِيرَة وَكَانَ مَعَ ذَلِك أديبا يارعاً حسن المحاضرة وَله اطلَاع كثير على الْأَشْعَار والنوادر وَرَأَيْت بِخَطِّهِ مجموعاً فِيهِ كل معنى نَادِر وحكاية مستلذة وَكَانَ رَحل إِلَى الرّوم فِي سنة ثَمَان وَعشْرين وَألف ونال بعض جِهَات فِي الشَّام ثمَّ قدم إِلَى دمشق وَأقَام بداره بالصالحية وَكَانَ مخالطاً للأدباء وَله كرم وإيثار لَا يزَال مَجْلِسه غاصاً بِأَهْل الْأَدَب والمعرفة وَكَانَ يجْرِي بَينه وَبينهمْ محاورات وَكَانَ ينظم الشّعْر وشعره مستحسن فَمن مَشْهُور مَاله قَوْله وَكتب بِهِ إِلَى فتح الله بن النّحاس الْحلَبِي الشَّاعِر الْمَشْهُور يستدعيه إِلَى مَحَله
(أَن اغلق الْأَعْدَاء أَبْوَابهم
…
عني وَلم يصغوا إِلَى نصحي)
(وزرتني يَوْمًا وَلَو سَاعَة
…
فِي الدَّهْر تبغي بَينهم نحجي)
(علمت أَن الْحق من لطفه
…
قد خصني بالنصر وَالْفَتْح)
(لَا زلت فِي عز مدى الدَّهْر مَا
…
غردت الأطيار فِي الصُّبْح)
فَرَاجعه بقوله
(مولَايَ يَا من خصّه ربه
…
بَين الورى بالنصر وَالْفَتْح)
(فِي الظّهْر وَالْعصر إِلَى بَابَكُمْ
…
أسعى وَفِي الْمغرب وَالصُّبْح)
(وَكَيف لَا أسعى إِلَى بَاب من
…
فِي وَجهه دَاع إِلَى النجح)
(لَا زلت من قدح العدا سالما
…
وَلَا خلا زندك من قدح)
وقرأت بِخَطِّهِ هَذِه الأبيات نَسَبهَا لنَفسِهِ وَهِي
(وَلَقَد ذكرتك حِين قابلت العدا
…
وَالسيف يحصدها مُهِمّ كالمنجل)
(وَالرمْح مياس كقدك طَاعن
…
قلب الشجاع وكل قرن مقبل)
(والجو صَاف من العجاج كَأَنَّهُ
…
ليل وَذَاكَ اللَّيْل لَيْسَ بمنجل)
(والأسد عابسة كَأَن قد راعها
…
يَوْم الوغى وَالْأَمر لَيْسَ بمشكل)
(فترى الشجاع كَأَن رنة سَيْفه
…
أشهى إِلَيْهِ من صفير البلبل)
(وَكَأَنَّهُ فِي رَوْضَة قد فوقت
…
بشقائق وشذاه عرف قرنفل)
(وَترى الجبان كَأَنَّهُ من خَوفه
…
يلوى عنان جَوَاده بتهرول)
(فهناك ناديت الْأَحِبَّة ليتهم
…
نظرُوا بِعَين برحم وتعقل)
(هَل كَانَ لي فِي الْقلب غير هواهم
…
بَاقٍ على طول المدى المسترسل)
(لَا وَالَّذِي خلق الْخَلَائق كلهم
…
وَقضى بطول تسهدي وتململي)
(مَا خُنْت يَوْمًا عَهدهم بتغافل
…
عَنْهُم وَلَا بمقال زور العذل)
وَهَذَا الأسلوب قد أَكثر فِيهِ الشُّعَرَاء قَدِيما وحديثاً وَمن جيده قَول ابْن مطروح
(وَلَقَد ذكرتك والصوارم لمع
…
من حولنا والسمهرية سَطَعَ)
(وعَلى مكافحة الْعَدو فَفِي الحشا
…
شوق إِلَيْك تضيق عَنهُ الأضلع)
(وَمن الصِّبَا وهلم جراشيمتي
…
حفظ الوداد فَكيف عَنهُ أرجع)
وَقَول ابْن رَشِيق
(وَلَقَد ذكرتك فِي السَّفِينَة والردى
…
متوقع بتلاطم الأمواج)
(والجو يهطل والرياح عواصف
…
وَاللَّيْل مسود الذوائب داج)
(وعَلى السواحل اللاعادي عَسْكَر
…
يتوقعون لغارة وَهياج)
(وعلت لأَصْحَاب السَّفِينَة ضجة
…
وَأَنا وذكرك فِي ألذ تناجي)
وَقَول أبي السنا مَحْمُود
(وَلَقَد ذكرتك وَالسُّيُوف لوامع
…
وَالْمَوْت يرقت تَحت حصن المرقب)
(والحصن من شفق الدروع تخاله
…
حسناء ترفل فِي رِدَاء مَذْهَب)
(سامي السماك فَمن تطاول نَحوه
…
للسمع مستمعاً رَمَاه بكوكب)
(وَالْمَوْت يلْعَب بالنفوس وخاطري
…
يلهو بِطيب ذكرك المستعذب)
وَقَول الصفي الْحلِيّ
(وَلَقَد ذكرتك والعجاج كَأَنَّهُ
…
مطل الغنيّ وَسُوء عَيْش الْمُعسر)
(والشرس بَين مجدل فِي جندل
…
مناوبين معفر فِي مغفر)
(فَظَنَنْت أَنِّي فِي صباح مُسْفِر
…
بضياء وَجهك أَو سَمَاء مقمر)
(وتعطرت أَرض الكفاح كَأَنَّمَا
…
فتقت لنا أَرض الجلاد بعنبر)
والفاتح لهَذَا الْبَاب عنترة الْعَبْسِي فِي قَوْله
(وَلَقَد ذكرتك والرماح نواهل
…
مني وبيض الْهِنْد تقطر من دمي)
(فوددت تَقْبِيل السيوف لِأَنَّهَا
…
لمعت كبارق ثغرك المتبسم)
ولعَبْد الْحق أَشْيَاء أخر غير مَا أثْبته لَهُ وَفِي الَّذِي ذكر مقنع وقرأت بِخَطِّهِ أَن وِلَادَته كَانَت أول سَاعَة من نَهَار الْخَمِيس ثامن ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي لَيْلَة الثُّلَاثَاء رَابِع عشر جُمَادَى الأولى سنة سبعين وَألف وَصلى عَلَيْهِ بالجامع المظفري وَدفن بروضة السفح ونسبته إِلَى سُلْطَان الْأَوْلِيَاء إِبْرَاهِيم بن أدهم مستفيضة مَشْهُورَة وَقد وقفت على كتابات لعلماء دمشق على هَذِه النِّسْبَة كَثِيرَة والمرزباني نِسْبَة إِلَى أحد أجدادهم وَهُوَ الشَّيْخ محيي الدّين المرزباني سمي بذلك لانقياد السبَاع وإطاعتها لَهُ وَأَصله الْمَرْزُبَان وَهُوَ بِالْفَارِسِيَّةِ السُّلْطَان
الملا عبد الْحَكِيم بن شمس الدّين الْهِنْدِيّ السلكوتي عَلامَة الْهِنْد وَإِمَام الْعُلُوم وترجمان المظنون فِيهَا والمعلوم كَانَ من كبار الْعلمَاء وخيارهم مُسْتَقِيم العقيدة صَحِيح الطَّرِيقَة صادعاً بِالْحَقِّ مجاهراً بِهِ الْأُمَرَاء الْأَعْيَان وَكَانَ رَئِيس الْعلمَاء عِنْد سُلْطَان الْهِنْد خرم شاه جهان لَا يصدر إِلَّا عَن رَأْيه وَلم يبلغ أحد من عُلَمَاء الْهِنْد فِي وقته مَا بلغ من الشَّأْن والرفعة وَلَا انْتهى وَاحِد مِنْهُم إِلَى مَا انْتهى إِلَيْهِ جمع الْفَضَائِل عَن يَد وَحَازَ الْعُلُوم وَانْفَرَدَ وأفنى كهولته وشيخوخته فِي الانهماك على الْعُلُوم وَحل دقائقها وَمضى من جليها وغامضها على حقائقها وَألف مؤلفات عديدة مِنْهَا حَاشِيَة على تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ على بعض سُورَة الْبَقَرَة رَأَيْتهَا وطالعت فِيهَا أبحاثاً دقيقة وَله حَاشِيَة على مطول السعد ومختصره وحاشية على شرح
العقائد النسفية للسعد وحاشية على شرح تصريف الْعُزَّى للسعد أَيْضا وَله غير ذَلِك وفضله أشهر من أَن يُزَاد فِي وَصفه وَكَانَت وَفَاته فِي نَيف وَسِتِّينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْحَلِيم بن برهَان الدّين بن مُحَمَّد البهنسي الدِّمَشْقِي الْمَعْرُوف بِابْن شقلبها الْفَقِيه الْحَنَفِيّ الْمَذْهَب أنبل آل بَيته فِي عصرنا كَانَ من الْفُضَلَاء المتضلعين من فنون شَتَّى لَكِن غلب اشتهاره بالفقه نَشأ بِدِمَشْق وَقَرَأَ بهَا على مَشَايِخ كثيرين وَتقدم أَن وَالِده كَانَ ذَا ثروة عَظِيمَة وَجمع كتبا كَثِيرَة فتمتع عبد الْحَلِيم بهَا وَلما مَاتَ أَبوهُ وضع يَده على مخلفاته وأتلفها فِي مُدَّة قَليلَة على أهواء مُتَفَرِّقَة يرجع أَكْثَرهَا إِلَى حب الرياسة وَمَا نَالَ من ذَلِك إِلَّا الخسران وَقلت ذَات يَده فانزوى مُدَّة فِي بَيته لَا يدرى عَنهُ إِلَّا بمحض الْوُجُود ثمَّ ظهر بعض الظُّهُور أَيَّام كَانَ الْعلَا الحصكفي مفتي الشَّام وَأخذ يُفْتِي فِي بعض وقائع فَمَنعه قَاضِي الْقُضَاة بِدِمَشْق عَن الْفَتْوَى لما يتفرغ على ذَلِك من كَثْرَة اللَّغط وَمُخَالفَة أَمر السُّلْطَان فِي أَن الْمُفْتِي الْحَنَفِيّ لَا يكون إِلَّا وَاحِدًا فَلم يلبث أَن رَحل إِلَى مصر وَكَانَ قاضيها عامئذٍ الْمولى مصطفى ختن المنقاري الْمُفْتِي فتقرّب إِلَيْهِ وَصَارَ من جملَة نوابه ثمَّ لما عزل صَحبه إِلَى الرّوم وَأقَام بهَا مُدَّة وَقد اجْتمعت بِهِ فِيهَا كثيرا وَكَانَ شرع فِي نظم مُغنِي اللبيب لِابْنِ هِشَام فنظم مِنْهُ مِقْدَارًا وافراً وَكتب على ألفية ابْن مَالك شرحاً وَمَات وَلم يكمله فَبَقيَ فِي مسوّداته وَكَانَ على مَا شاهدته من أطواره أحد عجائب الْمَخْلُوقَات لَا يسْتَقرّ فِي أَمر المشرب على حَال وَكَانَ ينظم الشّعْر إِلَّا أَن شعره فِي غَايَة القلاقة والتعقيد وَلم أر لَهُ مَا يحسن إِيرَاده وَكَانَ ولاه مخدومه الْمَذْكُور نِيَابَة قَضَائِهِ كليبولى فَتوجه إِلَيْهَا وَمَات بهَا وَكَانَت وَفَاته فِي حُدُود سنة تسعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْحَلِيم بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بأخي زادة القسطنطيني المولد والمنشأ والوفاة أحد أَفْرَاد الدولة العثمانية وسراة علمائها كَانَ نَسِيج وَحده فِي ثقوب الذِّهْن وَصِحَّة الْإِدْرَاك والتضلع من الْفُنُون نَشأ بكنف وَالِده مشاراً إِلَيْهِ فِي التبريز بميدان الْفضل وركوب السوابق فِي حلبة المعلومات وَكَانَ أَبوهُ متقاعداً عَن قَضَاء عَسْكَر أناطولي وجده لأمه شيخ الْإِسْلَام سعدي الْمحشِي قَالَ ابْن نَوْعي فِي تَرْجَمته أَخذ بأدرنة وابوه قَاض بهَا فِي سنة ثَمَان وَسبعين وَتِسْعمِائَة عَن حسام الدّين بن قره جلبي مدرس طاشلق وَعَن عبد الرؤوف الشهير بعرب زَاده مدرس أوج شرفلي ثمَّ أَخذ
عَن صَالح الملا مدرس السُّلْطَان بايزيد وخواجكي زَاده أَفَنْدِي مدرس السُّلْطَان سليم بقسطنطينية ثمَّ وصل إِلَى خدمَة فُضَيْل الجمالي وَلَزِمَه ثمَّ وصل إِلَى خدمَة شيخ الْإِسْلَام أبي السُّعُود الْعِمَادِيّ ولازم مِنْهُ فِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ ثمَّ درس فِي رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ بمدرسة إِبْرَاهِيم باشا الْجَدِيد ابْتِدَاء وَلم يزل ينْتَقل من مدرسة إِلَى مدرسة حَتَّى وصل إِلَى مدرسة الوالدة باسكدار فِي ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَولي مِنْهَا قَضَاء بروسة فِي رَمَضَان سنة ألف وَنقل مِنْهَا إِلَى أدرنة فِي رَجَب سنة إِحْدَى وَألف وعزل مِنْهَا فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث ثمَّ ولي قَضَاء قسطنطينية فِي منتصف رَجَب سنة أَربع وَنقل مِنْهَا إِلَى صدارة أناطولي فِي ذِي الْحجَّة سنة خمس وعزل مِنْهَا فِي صفر سنة سبع وتقاعد بوظيفة أَمْثَاله ثمَّ أُعِيد إِلَيْهَا فِي شهر ربيع الآخر سنة ثَمَان وتقاعد عَنْهَا فِي شهر رَمَضَان سنة تسع ثمَّ صَار قَاضِي عَسْكَر روم إيلي فِي صفر سنة عشر وَألف وتقاعد فِي ذِي الْحجَّة وَله تآليف كَثِيرَة رائقة مِنْهَا شرح على الْهِدَايَة وتعليقات على شُرُوح الْمِفْتَاح وجامع الفصوليين والدرر وَالْغرر والأشباه والنظائر وَله رِسَالَة تفسيرية فِي امتحان كَانَ صدر وَأما مَاله من الْآثَار غير ذَلِك فَمَا لَا يعدّ وَلَا يُحْصى وعَلى الْخُصُوص فِيمَا يتَعَلَّق بالصكوك والحجج والتمسكات وَله تَرْجَمَة شَوَاهِد النُّبُوَّة تركي وَله شعر مَرْغُوب بالتركية ومخلصه على دأبهم حليمى انْتهى وَذكره النَّجْم الْغَزِّي فِي ذيله وَأثْنى عَلَيْهِ ثَنَاء بليغاً وَقَالَ وحَدثني شَيخنَا القَاضِي محب الدّين الْحَنَفِيّ على رَأس الْألف قَالَ اتّفق أهل الرّوم قاطبة على أَن استانبول لَيْسَ من نَشأ فِيهَا الْآن من أَوْلَاد الْعلمَاء وَغَيرهم أفضل من رجلَيْنِ شابين أَحدهمَا عبد الْحَلِيم هَذَا وَالثَّانِي أسعد بن الْمولى سعد الدّين ثمَّ اخْتلفُوا فِي أَيهمَا أفضل قَالَ وَبَلغنِي أَن عبد الْحَلِيم كَانَ أفقه وأسعد كَانَ أعلم بالمعقولات وَبِالْجُمْلَةِ فَإِن فضل عبد الْحَلِيم مُسلم عِنْد أهل الرّوم وَلَيْسَ فيهم من يُنكره وَذكره الطالوي فِي كِتَابه السانحات فِي مَوَاضِع مِنْهَا وَبَالغ فِي وَصفه وَأورد قصائد قَالَهَا فِي مدحه ثمَّ ذكر مَجْلِسا ضمه هُوَ وإياه فِي نَادِيه قَالَ فَأقبل عليّ بمؤانسته وقرّبني مِنْهُ فِي مُجَالَسَته وَلم يزل ينثر على سَمْعِي لآليء من فقره ويجلو عليّ من أبكار فكره مَا يحار اللبيب فِي وَصفه ويغار الأديب من نسقه ورصفه فَمن جملَة مَا شنّف بِهِ سَمْعِي وَجَعَلته سمير ضمير جمعي مَا قرظ بِهِ كتاب بعض الْكتاب من حسن سجع تغار مِنْهُ ألحان السواجع ويودّ البادي لَو كَانَ فِيهَا المراجع إِلَى زواهر فقر تخجل در الأسلاك
وتزرى بدرى الأفلاك لَو رَآهَا صَاحب الْيَتِيمَة اتخذها لكتابة تَمِيمَة أَو الْعِمَاد الْكَاتِب تسلى عَن خريدة الكاعب وَهُوَ نظرت فِي هَذَا الْكتاب المنطوي على بَدَائِع صنائع الْكتاب المحتوي على لطائف الإيجاز والإطناب الْخَالِي عَن شوائب معايب الْإِخْلَال والإسهاب المسبوك فِي قالب بديع تميل إِلَيْهِ الْقُلُوب المنسوج على أحسن منوال وأبهى أسلوب فَوَجَدته بحراً زاخراً متلاطم الأمواج ودراً زاهراً سلب الشَّمْس عَن رُتْبَة الابتهاج فيا لَهُ من كَاتب طوى منشور الخطباء بإيجازه وكوى صُدُور البلغاء بمحاسن حَقِيقَته ومجازه حقيق لِأَن تسير بِذكرِهِ الركْبَان وخليق لِأَن يُرْسل هَدِيَّة إِلَى فصحاء فطحان إِذْ وقف فرسَان البلاغة عَن الجري فِي مضماره وَاتفقَ شجعان البراعة على أَنه لَا يصطلى بناره تضمن دُرَر عِبَارَات مَا اسْتوْدعت أصداف الآذان إِلَى الْآن أَمْثَال تِلْكَ اللآل فِي الْأَزْمِنَة الخوال وَمَا طلع فِي أفق سَواد الْعين مذ أمدت بِالنورِ وَمثل ذَلِك هِلَال واختوى جَوْهَر أَلْفَاظ أخلب للقلوب من غمزات الألحاظ وأسحر للعقول من فترات مراض الأجفان مَعَ معَان هِيَ أحسن من أَيَّام محسن معَان وأبهج من نيل أَمَان فِي ظلّ صِحَة وأمان ولعمري أَن هَذَا الْكتاب أضحى لما فِيهِ من الْفَضَائِل مصداق قَول الْقَائِل
(وخريدة برزت لنا من خدرها
…
كالبدر يَبْدُو من رَقِيق غمام)
(عرضت على كل الْأَنَام جمَالهَا
…
كي تستميل قُلُوبهم بِتمَام)
(تسبي من الْعَرَب الْعُقُول بأسرها
…
وَتَطير لب الرّوم والأعجام)
فَللَّه در الأديب الأريب المتعاطي لهَذَا الْجمع وَالتَّرْتِيب الْآتِي بِهَذَا الْإِنْشَاء والاختراع الَّذِي لَا يُمكن الْخُرُوج من عُهْدَة مدحه وإطرائه بِاللِّسَانِ واليراع بلغه الله تَعَالَى وطره وجزاه الْحسنى وَزِيَادَة بِمَا سطره حَيْثُ أذرج فِيهِ لطائف تنجلي لخطابها كالعروس وأدمج نفائس تتبادر إِلَيْهَا الْأَرْوَاح والنفوس وضع فِيهِ مآرب تَغْدُو إِلَى الرّوح وَأَشَارَ إِلَى نكات سَرِيَّة كالورد الطري تفوح فَأتي بِمَا لم تستطعه الْأَوَائِل وَعجز عَن الْإِتْيَان بِهِ سحبان وَائِل انْتهى ونظم الطالوي فِيهِ قصيدة طَوِيلَة قريب ذَلِك وَأَشَارَ بهَا إِلَى حسن هَذِه الْقطعَة بقوله
(لله مَا فقر فِي الطرس تحسبها
…
وسط الْبيَاض سَواد الْعين وَالْبَصَر)
(أَو كالرياض كستها السحب سَارِيَة
…
مطارف الوشي أَو موشية الحبر)
(مثل الْكَوَاكِب لَيْلًا قد طلعن على
…
نهر المجرة وكالروض ذِي الزهر)
(تود لَو حلت الجوزاء من شغف
…
فِيهَا النطاق وَلَو أمست على خطر)
(كَأَن در يَوَاقِيت الحسبان بِهِ
…
قد رصعت فِي الْحَوَاشِي مَوضِع الْفقر)
وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي الْيَوْم الرَّابِع وَالْعِشْرين من الْمحرم سنة ثَلَاث عشرَة بعد الْألف وَدفن فِي تربتهم قبالة دَارهم الْمَعْرُوفَة بقسطنطينية قرب مدرسة الوالدة
عبد الْحَلِيم الْبَاغِي الْمَعْرُوف باليازجي أحد الطغاة الَّذين خَرجُوا على السلطنة فِي زمن السُّلْطَان مُحَمَّد الثَّالِث وَقد تقدم طرف من خبْرَة فِي تَرْجَمَة حسن باشا ابْن الْوَزير مُحَمَّد باشا وَكَانَ فِي مبدأ أمره من الطَّائِفَة السكبانية وَكَانَ نَازل الرُّتْبَة حَتَّى صحب الْأَمِير درويش الرُّومِي حَاكم صفد فقربه وَأَدْنَاهُ وصيره رَأس جماعته وَلما عزل الْأَمِير درويش عَن حُكُومَة صفد ولي مَكَانَهُ الْأَمِير عَليّ الجركسي فَذهب ليتسلم الْولَايَة فَقَالَ عبد الْحَلِيم للأمير درويش لَا تسلم الْولَايَة للأمير عَليّ وَأَنا أمْنَعهُ عَنْك بِالْحَرْبِ والمقاتلة فَمَال إِلَى كَلَامه وَلم يسلم وَلما شاع أباؤه عَن التَّسْلِيم أرسل إِلَيْهِ نَائِب الشَّام خسرو باشا كتخذاه مَعَ طَائِفَة من عَسْكَر الشَّام إِلَى ولَايَة صفد لِيخْرجُوا الْأَمِير درويش عَنْهَا ويسلموها للأمير عَليّ فَلَمَّا وصلوا إِلَى نواحي صفد خرج إِلَيْهِم الْأَمِير درويش وَفِي صحبته عبد الْحَلِيم وَمن مَعَهم فقابلوهم وقاتلوهم ومنعوهم من الدُّخُول إِلَى صفد ودام الْقِتَال بَينهم أَيَّامًا إِلَى أَن تجرد عَسْكَر الشَّام لِلْقِتَالِ وبرزوا لِلطَّعْنِ وَالضَّرْب وَنزل عبد الْحَلِيم مَعَ جماعته إِلَى السهل فَقطعُوا سرداق الْأَمِير عَليّ ونهبوا مَا فِيهِ ثمَّ أَدْرَكته الحمية فقاتل السكبان حَتَّى قتل مِنْهُم عشرَة أَنْفَار وَكسر نُفُوسهم وَدخل عَلَيْهِم اللَّيْل ثمَّ بعد ذَلِك لم يزَالُوا فِي قتال ومحاربة إِلَى أَن أَشَارَ الْعُقَلَاء على الْأَمِير درويش بِالْخرُوجِ مَعَ من كَانَ عِنْده من الْعَسْكَر ويكف عَن المبارزة فَخرج من الْمَدِينَة وَخرج مَعَه عبد الْحَلِيم مَعَ أَصْحَابه وَسَارُوا على طَرِيق صيدا من جِهَة الشقيف فَوَرَدُوا على الْأَمِير فَخر الدّين بن معن فزودهم وسيرهم فَسَار الْأَمِير درويش إِلَى الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة وَذَهَبت وَرَاءه المحاضر والشكايات من أهل بِلَاد صفد فَعرض الْوَزير أمره على السُّلْطَان فَأمر بصلبه فصلب بثيابه وَكَانَ عبد الْحَلِيم وَأَصْحَاب درويش سَارُوا على سَاحل الْبَحْر إِلَى ترابلس الشَّام ثمَّ إِلَى جَانب حلب ثمَّ دخلُوا
مَدِينَة كلز بِإِشَارَة من أميرها الْأَمِير حُسَيْن بن جانبولاذ ثمَّ شرعوا فِي الْفساد فَتنبه لَهُم نَائِب حلب وَأرْسل إِلَيْهِم جَيْشًا لمحاربتهم فتقابلوا على بَاب كلز وَكَانَت النُّصْرَة لعسكر حلب وَقتلُوا من أَصْحَاب عبد الْحَلِيم مقتلة عَظِيمَة وَخرج عبد الْحَلِيم بِمن بَقِي مَعَه من أَصْحَابه مكسورين وَسَار إِلَى حصن سميساط فقاتله صَاحب الْحصن وتواقعا ثمَّ خرج مِنْهَا إِلَى مَدِينَة الرها واحتال على أَن جَاءَتْهُ أَحْكَام سلطانية بِأَن يكون محافظاً بهَا وَفِي أثْنَاء ذَلِك خرج عَن ربقة الطَّاعَة حُسَيْن باشا الَّذِي كَانَ أَمِير الْأُمَرَاء بِولَايَة الْحَبَشَة وَوصل إِلَى مَدِينَة أركله من بِلَاد قرمان فثار إِلَيْهِ أَهلهَا ليردوه فسطا عَلَيْهِم ونما خَبره إِلَى السُّلْطَان فَأرْسل إِلَيْهِ عسكراً عَظِيما فخاف من هولهم وفر قَاصِدا أَن يخرج إِلَى بِلَاد الْعَرَب فَمَنعه العبور جسر جيحان فعطف على جِهَة الشرق حَتَّى وصل إِلَى الرها فَالتقى بِعَبْد الْحَلِيم وأوهمه أَنه ناصره وَلم تمض أَيَّام قَليلَة إِلَّا وَمُحَمّد باشا ابْن المرحوم سِنَان باشا قصد الْبَلَد الْمَذْكُور بجماهير من العساكر تسد الفضاء وَمن جُمْلَتهَا عَسْكَر الشَّام فنازلوا الرها ودام محاصرتهم لَهَا وَالْحَرب بَين الْفَرِيقَيْنِ وَاقع إِلَى أَن لَاحَ لعبد الْحَلِيم أَنه مَأْخُوذ لِأَنَّهُ مَحْصُور فشرع فِي طلب الْأمان من الْوَزير على شَرط أَن يسلم إِلَيْهِم حُسَيْن باشا وَيكون هُوَ ناجياً مِنْهُم وَكَانَ حُسَيْن شجاعاً بطلاً باسلاً لكنه كَانَ عاطلاً من الخديعة فَوَقع فِي شَرط عبد الْحَلِيم فَأنْزل عبد الْحَلِيم أَخَاهُ حسنا بالأمان بعد أَن استرهن عِنْده جمَاعَة من الْعَسْكَر السلطاني وترددت الرسائل بَينهم وحسين يظنّ أَن أَصْحَابه مَعَه وهم عَلَيْهِ فانعقد الْمقَال وَأخرج حُسَيْن من مَوْضِعه وَلما تحقق المكيدة قَالَ لعبد الْحَلِيم مُخَاطبا هَكَذَا تكون عهود الشجعان وتسلمه عَسْكَر الشَّام وَأَعْطوهُ للوزير وَبَات الْوَزير تِلْكَ اللَّيْلَة وَهُوَ يؤلمه بالْكلَام الموجع وَهُوَ يعْتَذر بأعذار غير مَقْبُولَة ثمَّ أرْسلهُ الْوَزير إِلَى بَاب السُّلْطَان فَلَمَّا وصل أحضر إِلَى الدِّيوَان فَنَادَى بشعار الشَّرْع فَأَجَابُوهُ إِلَى مَا أَرَادَ وحققوا عَلَيْهِ الْفساد والطغيان فَحكم القَاضِي بقتْله وصلب فِي وقته وَكَانَ بعد تَسْلِيم عبد الْحَلِيم لحسين ارتحل عَسْكَر الشَّام سَرِيعا لهجوم الشتَاء وَلم يمْكث الْوَزير بعدهمْ إِلَّا أَيَّامًا قَليلَة ورحل إِلَى جَانب حلب وَاسْتمرّ عبد الْحَلِيم مُدَّة الشتَاء مُقيما فِي الرها وثار فِي الرّبيع إِلَى عينتاب فَغَضب السُّلْطَان لبَقَائه فِي الْحَيَاة وَأرْسل لقتاله عسكراً وَجعل الْمُقدم على العساكر كلهَا حسن باشا ابْن الْوَزير مُحَمَّد باشا وَأرْسل من جَانب بَابه العالي أَيْضا
الْوَزير إِبْرَاهِيم باشا الَّذِي كَانَ نَائِبا بحلب مقدما على عشرَة آلَاف عسكري من جَانب عَسْكَر بَاب السُّلْطَان وَعين نَائِب الشَّام مُحَمَّد باشا الْأَصْفَهَانِي وَفِي خدمته عَسَاكِر الشَّام فَمشى السِّرّ دَار الْكَبِير من جَانب بَغْدَاد إِلَى أَن وصل إِلَى مَدِينَة آمد وَجمع العساكر هُنَاكَ ورحل بِمن مَعَه من العساكر إِلَى أَن وصلوا إِلَى مرحلة الْبُسْتَان فنزلوا بهَا وَبَاتُوا تِلْكَ اللَّيْلَة وَكَانَ نزولهم فِي مُقَابلَة جبل فِيهِ مَكَان أهل الْكَهْف على أصح الْأَقْوَال فَبَيْنَمَا هم على الصَّباح إِذا بعسكر عبد الْحَلِيم قد أقبل من جَانب الشرق وتصادم الْفَرِيقَانِ سَاعَة وَإِذا بعسكر عبد الْحَلِيم قد عبر على عَسْكَر السُّلْطَان فَالْتَقوا بِهِ وصدموه صدمة أزالته عَن منزله فولى هَارِبا فتبعوه وَوَضَعُوا السَّيْف فِي أَصْحَابه فَقتلُوا مِنْهُم فِي ذَلِك الْيَوْم مَا يزِيد على أَرْبَعَة آلَاف رجل وهرب عبد الْحَلِيم واستمرّ هَارِبا إِلَى أَن دخل إِلَى ساميسون على سَاحل الْبَحْر وَدخل الشتَاء فشتى حسن باشا فِي مَدِينَة توقات وَمَات عبد الْحَلِيم فِي أثْنَاء ذَلِك وَكَانَت وَفَاته فِي الْيَوْم السَّادِس وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان سنة عشر بعد الْألف وافترقت أَصْحَابه فرْقَتَيْن وَاحِدَة طلبت الْأمان من السردار الْمَذْكُور وَأُخْرَى ذهبت مَعَ أخي عبد الْحَلِيم حسن إِلَى رستم العَاصِي الْمُقِيم بملطية وَبَقِيَّة خبر حسن مَذْكُورَة فِي تَرْجَمَة حسن باشا الْمَذْكُور فِي حرف الْحَاء فَارْجِع إِلَيْهِ ثمَّة وَالله سبحانه وتعالى أعلم والسكبانية طَائِفَة مَعْرُوفَة ونسبتهم إِلَى سكبان فَارسي مركب من سك وَهُوَ الْكَلْب وَبَان وَهُوَ الحامي فَمَعْنَاه حامي الْكَلْب وأصل موضوعهم لقود الْكلاب أَمَام الكبراء والأمراء حِين يَسِيرُونَ إِلَى الصَّيْد وسميساط بِضَم السِّين الْمُهْملَة وَفتح الْمِيم وَسُكُون الْمُثَنَّاة من تَحت وسين ثَانِيَة مُهْملَة وَألف وطاء مُهْملَة مشالة فِي الآخر بَلْدَة بالفرات بِالْقربِ من حصن مَنْصُور واركله بِفَتْح الْهمزَة وَالرَّاء وَسُكُون الْكَاف الفارسية وَفتح اللَّام ثمَّ هَاء قَصَبَة من أَعمال قرمان على طَرِيق قسطنطينية حَسَنَة التربة لَطِيفَة الْهَوَاء وَهِي وقف على الْحَرَمَيْنِ الشريفين وفيهَا من الْأَعَاجِيب فِي مَحل قريب مِنْهَا فوار مَاء يخرج مِنْهُ المَاء سيالاً فَإِذا وصل إِلَى الأَرْض جمد وَصَارَ كالرخام الْأَبْيَض لَا يتكسر إِلَّا بالحديد دون غَيره وَلَا ينماع وَإِن حمى على النَّار وللحجر الْمَذْكُور صلابة زَائِدَة وساميسون بَلْدَة مَشْهُورَة فِي بِلَاد التّرْك بِالْقربِ من طرابزون والعامة تَقول صاميصون بالصَّاد
عبد الْحَلِيم المتخلص بحليمي أحد شعراء الرّوم وشهرته بمعجم زَاده كَانَ من حفدة
الْمولى السَّيِّد مُحَمَّد بن مَعْلُول وَكَانَ مشاركاً فِي فنون عديدة ورد إِلَى الشَّام وَهُوَ فِي خدمَة مخدومه ابْن مَعْلُول الْمَذْكُور ثمَّ رَجَعَ إِلَى الرّوم وَمكث سِنِين ثمَّ دخل دمشق قبل الْألف وَسكن بهَا فِي الْمدرسَة البلخية جوَار الْمدرسَة الصادرية وَعين لَهُ من الجوالي مَا يَكْفِيهِ وَولي تدريس الجقمقية بعد الشَّيْخ شرف الدّين رَئِيس الْأَطِبَّاء بِدِمَشْق وَكَانَ يتَرَدَّد إِلَى قُضَاة الْقُضَاة والأكابر فيكرمونه لعلو سنه واتصاله بالمتقدمين من أكَابِر الْعلمَاء بالروم وَكَانَ لَهُ مطارحة جَيِّدَة ويحفظ وقائع كَثِيرَة وَمَا زَالَ بِدِمَشْق إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته نَهَار السبت عَاشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف عَن نَحْو مائَة سنة وَدفن بمقبرة الفراديس
عبد الحميد ابْن أَحْمد بن يحيى بن عَمْرو بن الْمعَافي اليمني ذكره ابْن أبي الرِّجَال فِي تَارِيخه فَقَالَ كَانَ من عُيُون الزَّمَان وأفراد الْوَقْت بليغا منطيقا ناظما ناثرا من بَيت معمور بِالْفَضْلِ والكمال من بني عبد المدان كَمَا صرح بِهِ النسابون وَصرح بِهِ ابْن عقبَة وَذكر هَذَا الْعَلامَة فِي منظومة لَهُ وَفِيهِمْ الْعلم والرياسة واستمرت لَهُ الْإِمَارَة وعلو الْكَلِمَة مَعَ الْأَئِمَّة فَكَانُوا عُلَمَاء أُمَرَاء تنفذ أحكامهم بجهتهم وَلم يزَالُوا كَذَلِك حَتَّى تولى مِنْهُم الْأَمِير عبد الله بن الْمعَافي للأروام وَزَاد فِي عتوة وَبَالغ فِيمَا لَا يَلِيق بمنصبه فَكَانَ أَمِير الْأُمَرَاء مَعَ التّرْك ولى أَكثر ذَلِك الأقليم إِلَى نواحي الأهنوم ووادعة وعذرين وَغير ذَلِك فمالت بِهِ شهواته حَتَّى غَازِي الإِمَام الْمَنْصُور بِاللَّه الْقَاسِم بن مُحَمَّد فَكَانَ مَا كَانَ وختام ذَلِك قَتله بغارب أيكة وَلما جاؤا بِرَأْسِهِ إِلَى الإِمَام قَالَ لَو جئْتُمْ بِهِ أَسِيرًا ولوح إِلَى أَنه كَانَ يُرِيد مكافأته على سَابِقَة لَهُ مَعَ الإِمَام وَهِي أَنه وصل بعض الطغاة وَبِيَدِهِ خطى فهزه من خلف الإِمَام وهم بطعنه من خَلفه غدروا والأمير عبد الله مُقَابل لَهُ فَأمْسك على لحيته يُشِير إِلَى أَن الْغدر غير لَائِق وَكَيف يقْتله وَهُوَ فِي أَمن من قبله فَكف عَنهُ وَبَعض خَاصَّة الإِمَام المحبين لَهُ يُشَاهد ذَلِك فَذكره للْإِمَام فَأَرَادَ مكافأته على ذَلِك ثمَّ أَن الْأَمِير ذكر للْإِمَام أَن الأتراك قد أحاطوا بالبلاد وَأَشَارَ بالتقدم على تِلْكَ الْبِلَاد الَّتِي قد أحاطوا بهَا وَبعث مَعَه من الرِّجَال من يركن إِلَيْهِ حَتَّى انْفَصل عَن بِلَاد السودة ثمَّ كَانَ من أمره مَا كَانَ وختام ذَلِك قَتله بغارب أيكة فِي الْحَرْب الْمَشْهُور هُنَالك فتضاءل منصب الْقُضَاة الْمَذْكُورين على جلالتهم وَفِيهِمْ بَقِيَّة صَالِحَة وَأَحْيَا مآثرهم صَاحب التَّرْجَمَة فَإِنَّهُ كَانَ أحد الْعلمَاء سِيمَا فِي الْعَرَبيَّة شرح الملحة وَكتب حَوَاشِي وأجوبة مفيدة النَّحْو وَشرح الْهِدَايَة فِي
الْمولى السَّيِّد مُحَمَّد بن مَعْلُول وَكَانَ مشاركا فِي فنون عديدة ورد إِلَى الشَّام وَهُوَ فِي خدمَة مخدومة ابْن مَعْلُول الْمَذْكُور ثمَّ رَجَعَ إِلَى الرّوم وَمكث سِنِين ثمَّ دخل دمشق قبل الْألف وَسكن بهَا فِي الْمدرسَة البلخية جوَار الْمدرسَة الصادرية وَعين لَهُ من الجوالي مَا يَكْفِيهِ وَولي تدريس الجقمقية بعد الشَّيْخ شرف الدّين رَئِيس الْأَطِبَّاء بِدِمَشْق وَكَانَ يتَرَدَّد إِلَى قُضَاة الْقُضَاة والأكابر فيكرمونه لعلو سنه واتصاله بالمتقدمين من أكَابِر الْعلمَاء بالروم وَكَانَ لَهُ مطارحة جَيِّدَة ويحفظ وقائع كَثِيرَة وَمَا زَالَ بِدِمَشْق إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته نَهَار السبت عَاشر جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف عَن نَحْو مائَة سنة وَدفن بمقبرة الفراديس
عبد الحميد ابْن أَحْمد بن يحيى بن عَمْرو بن الْمعَافي اليمني ذكره ابْن أبي الرِّجَال فِي تَارِيخه فَقَالَ كَانَ فِي عُيُون الزَّمَان وإفراد الْوَقْت بليغاً منطيقاً ناظماً ناثراً من بَيت معمور بِالْفَضْلِ والكمال من بني عبد المدان كَمَا صرح بِهِ النسابون وَصرح بِهِ ابْن عقبَة وَذكر هَذَا الْعَلامَة فِي منظومة لَهُ وَفِيهِمْ الْعلم والرياسة واستمرت لَهُ الْإِمَارَة وعلو الْكَلِمَة مَعَ الْأَئِمَّة فَكَانُوا عُلَمَاء أُمَرَاء تنفذ أحكامهم بجهتهم وَلم يزَالُوا كَذَلِك حَتَّى تولى مِنْهُم الْأَمِير عبد الله بن الْمعَافي للأروام وَزَاد فِي عتوه وَبَالغ فِيمَا لَا يَلِيق بمنصبه فَكَانَ أَمِير الْأُمَرَاء مَعَ التّرْك ولي أَكثر ذَلِك الإقليم إِلَى نواحي الأهنوم ووادعة وعذرين وَغير ذَلِك فمالت بِهِ شهواته حَتَّى غازى الإِمَام الْمَنْصُور بِاللَّه الْقَاسِم بن مُحَمَّد فَكَانَ مَا كَانَ وختام ذَلِك قَتله بغارب أيكة وَلما جاؤوا بِرَأْسِهِ إِلَى الإِمَام قَالَ لَو جئْتُمْ بِهِ أَسِيرًا ولوح إِلَى أَنه كَانَ يُرِيد مكافأته على سَابِقَة لَهُ مَعَ الإِمَام وَهِي أَنه وصل بعض الطغاة وَبِيَدِهِ خطى فهزه من خلف الإِمَام وهم بطعنه من خَلفه غدرا والأمير عبد الله مُقَابل لَهُ فَأمْسك على لحيته يُشِير إِلَى أَن الْغدر غير لَائِق وَكَيف يقْتله وَهُوَ فِي أَمن من قبله فَكف عَنهُ وَبَعض خَاصَّة الامام المحبين لَهُ يُشَاهد ذَلِك فَذكره للْإِمَام فَأَرَادَ مكافأته على ذَلِك ثمَّ إِن الْأَمِير ذكر للْإِمَام أَن الأتراك قد أحاطوا بالبلاد وَأَشَارَ بالتقدم عَن تِلْكَ الْبِلَاد الَّتِي قد أحاطوا بهَا وَبعث مَعَه من الرِّجَال من يركن إِلَيْهِ حَتَّى انْفَصل عَن بِلَاد السودة ثمَّ كَانَ من أمره مَا كَانَ وختام ذَلِك قَتله بغارب أيكة فِي الْحَرْب الْمَشْهُور هُنَالك فتضاءل منصب الْقُضَاة الْمَذْكُورين على جلالتهم وَفِيهِمْ بَقِيَّة صَالِحَة وَأَحْيَا مآثرهم صَاحب التَّرْجَمَة فَإِنَّهُ كَانَ أَخذ الْعلمَاء سِيمَا فِي الْعَرَبيَّة شرح الملحة وَكتب حَوَاشِي وأجوبة مفيدة فِي النَّحْو وَشرح الْهِدَايَة فِي
الْفِقْه وَلَا أعرف هَل تيَسّر لَهُ الْإِتْمَام أَولا وَشرح الازهار بشرح اعتنى فِيهِ بموافقة إِعْرَاب الأزهار فَإِن شرح ابْن مِفْتَاح قد لَا يتناسب فِيهِ إِعْرَاب الْمَتْن مَعَ الشَّرْح إِلَى بتحويل للمتن من رفع إِلَى نصب وَنَحْو ذَلِك وَله شعر حسن وَخط جيد وَكَانَ يتأنى فِي الْكِتَابَة فيجيد فِي الْإِنْشَاء كثيرا وَله تخميس قصيدة الصفي الْحلِيّ فيروزدج الصُّبْح أم ياقوتة الشَّفق وَمن شعره فِي راية للْإِمَام الْمُؤَيد بِاللَّه ابْن الْقَاسِم
(أيا راية أَصبَحت فِي الْحسن آيَة
…
وفَاق على الْأَعْلَام حسنك عَن يَد)
(قرنت بنصر الله حِين صنعت للْإِمَام
…
أَمِير الْمُؤمنِينَ الْمُؤَيد)
(أَمَام حلى جيد الْكَمَال بجوده
…
مُحَمَّد بن الْقَاسِم بن مُحَمَّد)
وَمِمَّا اتّفق لَهُ أَنه لما مَاتَ السَّيِّد الْعَلامَة إِبْرَاهِيم ابْن الإِمَام المتَوَكل على الله إِسْمَاعِيل وَكَانَ من حَسَنَات الْأَيَّام حفظه قد ألم بِكُل غَرِيبَة من عُلُوم القراآت والنحو وأشعار الْحِكْمَة والأدعية وَبِالْجُمْلَةِ فَكَانَ من أوعية الْعلم مَعَ كَونه أكمه وَكَانَ من أصلح النَّاس على صغر سنه وَكَانَ من جملَة من اتَّصل بِهِ الْفَقِيه الْعَلامَة صَلَاح الذنوبي وغذاه بالفوائد فَإِنَّهُ كَانَ وحيداً فَلَمَّا مَاتَ عظم الْخطب فَكتبت أَنا إِلَى الإِمَام أَبْيَات الإِمَام شرف الدّين الَّتِي أَولهَا
(حمدت الله رَبِّي يأبنيا
…
على علم نعيت بِهِ اليا)
(نغصت حشاشتي وَالروح لما
…
نفضت تُرَاب قبرك من يديا)
(وَلما أَن ختمت الذّكر غيباً
…
قدمت بِهِ على الْبَارِي صَبيا)
(وَكُنَّا فِي زفاف الْخَتْم نسعى
…
وَقَالَ الرب زفته اليا)
(لإحدى عشرَة مَعَ نصف عَام
…
وطِئت بهمة هام الثريا)
(وَكنت قد امْتَلَأت من الْمَعَالِي
…
وَلم تتْرك من الْإِحْسَان شيا)
وَمِنْهَا
(يَقُول الصَّبْر للزفرات مهلا
…
وَقَالَ اللاعج الأسفيّ هيا)
(وَلما لم أجد لي عَنهُ بدا
…
صبرت تكلفاً بعد اللتيا)
(ومالتيا بتصغير لَهَا من
…
رزية هَالك أَحْرَى لتيا)
(وَمهما رام قلبِي الصَّبْر كَيْمَا
…
أناب كواه عِنْد الوجد كيا)
(فَكيف يلام ذِي حزن على من
…
بميز فِي الصِّبَا رشدا وغيا)
(وَكم يَوْم مَلَأت بِمَا أرى من
…
مخايل فِيك صَالِحَة يديا)
(فَلَا زَالَت ركاب الشُّكْر تطوى
…
الْقَضَاء لله ذِي الملكوت طيا)
(وأولها يحط لَدَيْهِ وقرا
…
وَآخِرهَا تحمل من لديا)
ثمَّ لم أشعر إِلَّا بِكِتَاب إِلَى الإِمَام من عبد الحميد المترجم بالأبيات فعجبت من توارد الخاطر على التمثل ثمَّ ذكرت قَضيته لهَذِهِ الأبيات وَهِي أَنه لما مَاتَ ابْن الإِمَام شرف الدّين الْمُسَمّى بِعَبْد القيوم وَكَانَ من سَادَات العترة وَلم يبلغ عمره إِلَّا إِحْدَى عشرَة سنة وَنصفا وَقد كَانَ يجاري الْعلمَاء وقبره فِي الْقبَّة قبلى الحراف من أَعمال صنعاء مَشْهُور مزور وَمِمَّا يرْوى أَنه حضر فِي مَسْجِد الحسحوش بالحراف وَالْعُلَمَاء يَخُوضُونَ فِي مسئلة الْبَهَائِم إِذا تمّ سؤالها وحسابها أَيْن تصير فَذكرُوا المقالات وَلم يذكرُوا أشهرها وأحسنها وَهُوَ أَن الله تَعَالَى يخلق لَهُنَّ رحبة فِي الْجنَّة فَلَمَّا كثر الْخَوْض قَالَ السَّيِّد عبد القيوم وَمَا يشكل عَلَيْكُم من أمرهن لَعَلَّ الله يخلق لَهُنَّ رحبة يتنعمن فِيهَا فأعجب الْحَاضِرُونَ بذلك وكتبوه عَنهُ وَلما مَاتَ عبد القيوم الْمَذْكُور أنْشد وَالِده هَذِه القصيدة وأكثرها من شعر الْأَمِير صَلَاح الدّين الأربلي وفيهَا بَيت مَشْهُور مُتَقَدم على الْأَمِير صَلَاح الدّين وَهُوَ
(حمدت الله رَبِّي يَا بنيا
…
)
فَإِن أَصله
(حمدت الله رَبِّي يَا عليا
…
)
مِمَّا قَالَه بعض النَّاس فِي أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَهَذِه الْألف فِي قَوْله يَا عليا ألف الندبة فَلَمَّا أخرج الْأَمِير القصيدة أخرج السَّيِّد الْعَلامَة عبد الله بن الْقَاسِم الْعلوِي القصيدة أَيْضا فاتفقت خواطرهما وَذَلِكَ من الْعَجَائِب انْتهى كَلَامه وَلم يذكر وَفَاة عبد الحميد بل ذكر أَنه مدفون بالسودة عِنْد بَابهَا القبلي لَكِن سِيَاق كَلَامه يَقْتَضِي أَن وَفَاته تَأَخَّرت إِلَى مَا بعد الْخمسين وَألف
عبد الحميد بن عبد الله بن إِبْرَاهِيم السندي الفاروقي الْحَنَفِيّ نزيل مَكَّة المكرمة الشَّيْخ الْجَلِيل الحميد الْخِصَال الْجَمِيل الفعال كَانَ صَاحب معارف وفنون أَصله من أَرض السَّنَد الإقليم الشهير وَنَشَأ فِيهِ على فضل عَظِيم ورحل إِلَى الْحَرَمَيْنِ وَصَحب كثيرا من الْعلمَاء الأفاضل وَأخذ عَن جمع مِنْهُم الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن أَبُو الْفضل زين الدّين تلميذ الْحَافِظ ابْن حجر الْعَسْقَلَانِي وَمِنْهُم أَخُوهُ وَكَانَ وافر الصّلاح وَحصل لَهُ بِمَكَّة جاه وَاسع وصيت شاسع وَكَانَ صوفي الْأَخْلَاق كثير الْخَوْف خشن الْعَيْش حسن الْعشْرَة وَلم يزل بِمَكَّة إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته سنة تسع بعد الْألف وعمره نَحْو تسعين سنة وَدفن بالمعلاة بِجنب قبر أَخِيه وَمُدَّة إِقَامَته بِمَكَّة تسع سِنِين
عبد الْحَيّ بن أبي بكر الْمَعْرُوف بطرز الريحان البعلي الأَصْل الدِّمَشْقِي المولد الْحَنَفِيّ الأديب الشَّاعِر الْجيد الطَّرِيقَة كَانَ فِي عصرنا هَذَا الْأَخير من أرق من عَرفْنَاهُ طبعا وألطفهم شعرًا وَله قريحة سيالة وفكرة نقادة وَكَانَ عشاقا ولوعا بالجمال يتفانى صبَابَة وعشقا وتأخذه حيرة الغرام فيسكر وجدا وشغفا وَكَانَ سهل الْأَلْفَاظ فِي شعر رَشِيق التأدية قَرَأَ على أَبِيهِم وعَلى قريبهم الشَّيْخ مُحَمَّد السليمي وَأخذ عَن عبد الباقي الْحَنْبَلِيّ وَأحمد القلعي وتأدب بِأبي بكر الْقطَّان الْمَشْهُور بغصين البان وَكتب الْكثير بِخَطِّهِ وَكَانَ حسن الْخط صَحِيح الضَّبْط وَكَانَ يحفظ بعض مقامات الحريري وَبهَا تقوى على ضبط اللُّغَة وَكَانَ بعرف اللُّغَة معرفَة جَيِّدَة وَحفظ من الْأَشْعَار شَيْئا كثيرا وتجرد مُدَّة على هَيئته وَدخل فِي هَيْئَة الدراويش السواح فَطَافَ الْبِلَاد وَدخل الرّوم ومصر وحلب وَاسْتقر بِدِمَشْق آخرا وَتزَوج بهَا ثمَّ انْعَزل فِي خلْوَة بِالْمَدْرَسَةِ العزيزية وَقد عاشرته مُدَّة فرأيته من أكمل النَّاس يمشي فِي الْعشْرَة على قدم وَاحِدَة يتودد وَيحسن المجاملة وَكَانَ مَعَ خلاعته وتولعه بالحب عف الأزار دين مثابرا على الطَّاعَة وَله تهجدات وأوراد وخشية من الله تَعَالَى وَحج آخر عمره فَرجع متنسكا تَارِكًا للدنيا متقشفا وَبِالْجُمْلَةِ فقد كَانَ رَحمَه الله تَعَالَى من خلص الأقوام وَقد جمع لنَفسِهِ ديوانا رَأَيْته بِخَطِّهِ وانتقيت مِنْهُ أطايبه فَمن ذَلِك قصيدته الَّتِي عَارض بهَا قصيدة أبي فراس الحمداني الَّتِي أَولهَا
(يَا حسرة مَا أكاد أحملها
…
آخرهَا مزعج وأولها)
ومستهل قصيدته هَذَا
(نفس أمانيها تعللها
…
تعلها تَارَة وتنهلها)
(ولوعة فِي الضلوع أصعب مَا
…
يذيب صلد الحجار أسهلها)
(غَدَاة بانوا فَلَا وَرَبك مَا
…
ظننتني فِي الركاب أثقلها)
(رفقا بهَا حادي المطى فَفِي
…
خلب فُؤَادِي تدوس أرجلها)
(وَفِي سَبِيل الغرام لي كبد
…
تبيت أَيدي النَّوَى تململها)
(تعلة للمنون قائدة
…
آخرهَا كَاذِب وأولها)
(أساور النَّجْم أبتغى قصرا
…
لليلتي والجوى يطولها)
(وليت ساجي اللحا طير حم من
…
يبيت من أجلهَا يدملها)
(الله فِي ذمَّة أضعت وَفِي
…
حشاشة من لَهَا معلمها)
(أما وجفنيك والفتور وَمَا
…
أورث جسمي ضني مذبلها)
(وأسهم قد أراشاها حور
…
تقصد حب الْقُلُوب أنصلها)
(لمهجتي فِي هَوَاك تكبر أَن
…
يصدّها مَا يَقُول عذلها)
(الْأُم تقضي وَفِي الحشا حرق
…
لَا تَسْتَطِيع الْجبَال تحملهَا)
(صبَابَة إِن أردْت أجملها
…
لديك ذل الْهوى يفصلها)
(أَو جسم تالله مذ أَرَاك فقد
…
أعجز عَن كلمة أحصلها)
(ومنطقي فِيك عَن فَصَاحَته
…
يعود سحبان وَهُوَ باقلها)
(وَهَذِه حَالَة الكئيب وَلَو
…
حجدتها مَا أَظن تجهلها)
(تَرَكتنِي واستعضت عني من
…
أخف أَلْفَاظه أثاقلها)
(أعدمني الله فِي الْهوى فِئَة
…
ثناك عَن وصلتي تقوّلها)
(هم أشربوا طبعك القساوة هَل
…
نرَاك يَوْمًا للْعَطْف تبدلها)
(أما عرفت العفاف من دنف
…
مدَاخِل السوء لَيْسَ يدخلهَا)
(يأنف بالطبع كل فَاحِشَة
…
مَذَاهِب الشَّرْع لَيْسَ تقبلهَا)
(غذي لبان الْهوى على صغر
…
فَهُوَ لاهل الشجون موثلها)
(أَن رَاح يَحْكِي صبَابَة خضعت
…
لَهُ القوافي ودان مشكلها)
(يعلم النوح كل ساجعة
…
فَهُوَ صدا دوحها وبلبلها)
(وَيْح قُلُوب المتيمين إِذا
…
تصرمت فِي الْهوى حبائلها)
(أفديك يَا قاتلي بِلَا سَبَب
…
قتلة مضناك من يحللها)
(أَصبَحت شيخ الغرام فِيك وَمَا
…
رِوَايَة أدمعي تسلسلها)
(وفيك حُلْو الشَّبَاب مرّ وَلم
…
أفز بأمنية أؤملها)
(تِلْكَ لعمر الْهوى رضاك فان
…
غز فيا خيبة أنازلها)
(تالله لَو شاهدت عيونك مَا
…
أَلْقَاهُ سحت وجاد وابلها)
(عساك تحنو لمن مطامعه
…
عَلَيْك دون الورى معوّلها)
(وَكم لَيَال سهرتهن ولي
…
رامحها سامر وأعزلها)
(ومفرشي وسط كل مسبعَة
…
قتيادها والوساد فنقلها)
(وَلَيْسَ الأهواك يؤنسني
…
بِصُورَة مِنْك لي يمثلها)
(أما كفى يَا ظلوم مَا فعلت
…
غزَاة جفنيك بِي وغزلها)
(وَلست أشكوك بل يلذ لمن
…
تولهت نَفسه تذللها)
(فَأَنت عِنْدِي وَلَو هدرت دمي
…
خير وُلَاة الورى وأعدلها)
(وَإِن تَوَارَتْ شموس حسنك عَن
…
نواظري فالفؤاد عاقلها)
(وَإِن تناءت ركائبي وَدنت
…
رسائلي فالرياح تنقلها)
(فَاسْلَمْ وَلَا تكترث بحرفة ذِي
…
نفس أمانيها تعللها)
وَمن رائق نظمه قصيدته الدالية الْمَشْهُورَة الَّتِي مطْلعهَا
(لحظات لَا تحامي القودا
…
قد تناهبن الحشا والكبدا)
(بلحاظ تستلذ فتكها
…
لَا عدمنا لحظك المجردا)
(دُونك الصبرا حطمي جُنُوده
…
واجعلي شَمل السلو بددا)
(وامنعي وردا وَورد اللحيا
…
والحياة من جنى أَو وردا)
(يَا مهز الْغُصْن من عطفيه مل
…
واعتدل لم تلق من قَالَ اعْتدي)
(يَا منَاط القرطمن نغنغه
…
قد تركت الظبي يجْرِي فِي الكدا)
(كَيفَ للظبي بفرع فَاحم
…
زَان بالتصفيف جيدا أجيدا)
(مذ غَدا الْمِحْرَاب من حَاجِبه
…
قبْلَة خرّت جفوني سجدا)
(هَكَذَا الْحبّ يعز شَأْنه
…
صبغة الله تَعَالَى موجدا)
(مالكي بالْحسنِ وَالْحسن احتكم
…
حق أَن تضحى لمثلي سيدا)
(إِن من كنت لَهُ مولى فقد
…
عَاشَ يَا مولَايَ عَيْش السعدا)
(صبح الله بِكُل الْخَيْر من
…
كَانَ مرآك لعينيه ابتدا)
(أَنْت روحي فَإِذا مَا غبت عَن
…
ناظري فَارق روحي الجسدا)
وَله من قصيدته الْمَشْهُورَة الَّتِي مدح بهَا الْأُسْتَاذ مُحَمَّد الْبكْرِيّ بِالْقَاهِرَةِ ومطلعها
(بعثت لَهُ الذكرى شجن
…
فصبا وحنّ إِلَى الوطن)
(دنف إِذا ابتسم الخليّ غشاه
…
تعبيس الْحزن)
(قلق الركائب مَا اسْتَقر
…
بِهِ السرى إِلَّا ظعن)
(والبين أصعب مَا يرَاهُ
…
أَخُو الشدائد والمحن)
(من مبلغ تِلْكَ المرابع
…
والمراتع والدمن)
(أشواقي اللَّاتِي زحمن
…
الرّوح فِي مثوى الْبدن)
(فِي ذمَّة الله الَّذين هم
…
فروضي وَالسّنَن)
(بِي مِنْهُم الرشأ الغضيض الطّرف
…
نهاب الوسن)
(متناسق الْأَعْضَاء أَيَّامًا
…
لحظت بِهِ فتن)
(ملح تعلم عاشقيه
…
بِهِ التغزل والفنن)
(فَكَأَنَّهَا من روض مدح
…
بني أبي بكر فنن)
(الضاربين على الفخار
…
سرادقاً من كل فن)
(السَّادة الْبيض المآثر
…
فِي العلى غرر الزَّمن)
(ومقلدي أَعْنَاق هَذَا الدَّهْر
…
أطواق المنن)
(بوراثة نبوية
…
مهلا أَتَتْهُ على سنَن)
(حَتَّى اسْتَقل بهَا الإِمَام
…
ابْن الإِمَام المؤتمن)
(قطب الْعُلُوم مُحَمَّد
…
ذُو الْخلق والخلق الْحسن)
مِنْهَا
(يَا سَيِّدي وَلَئِن قبلت
…
تعبدي فلأفخرن)
(عطفا على قلبِي الْكَبِير
…
بنظرة فلأجبرن)
(إِنِّي أنخت مطيتي
…
بمصيف مجدك فاقبلن)
(مولَايَ دَعْوَة موثق
…
بيد القطيعة مُرْتَهن)
(متصبر وَالصَّبْر أولى
…
مَا تداوى الممتحن)
(لَكِن يعاير بالجراح
…
مفرّط ألْقى الْمِجَن)
(ومديح علياكم بني الصّديق
…
جنَّة ذِي الشجن)
(وبحبكم تشفى الْقُلُوب
…
وتنجلي ظلم الشحن)
(هَذَا هُوَ الْفَخر الْعلي
…
وَمَا سواهُ فممتهن)
(من جَاءَ يفخر عنْدكُمْ
…
قُولُوا لَهُ أَنْت ابْن من)
وَمن غزلياته قَوْله
(مل فَإِنِّي لميلك المستميل
…
متلق على مراح الْقبُول)
(وَعَجِيب ميل الغصوب إِلَى نَحْو
…
مهب الْهوى بِغَيْر مميل)
(لَكِن الْميل بانجذاب هوى النَّفس
…
أبيّ الزَّوَال والتحويل)
(حبذا مَيْلَة خلست بهَا الْقلب
…
اختلاس الشُّمُول حر الْعُقُول)
(معطف عاطف وجيد مجاد
…
والتفات يسبى بِطرف كحيل)
(وطلا وَاضح وَلَفظ خلوب
…
ينفث السحر فِي خلال الْمَقُول)
(وبروحي إِذا تغضبت والمبسم
…
يفترّ عَن رضى فِي نُكُول)
(لعب فِي تأدبّ وتجنّ
…
ضمن عطف ومنعة فِي حُصُول)
(هَكَذَا هَكَذَا تبَارك من
…
أودع فِي ذَا الْجمال كل جميل)
قَالَ وَمن الْوَاقِعَات فِي بعض الروعات
(بروحي الَّذِي أَشْقَى الْعُيُون ارتقابه
…
وَأخرج عَن حد التعادل أحوالي)
(تمثله الأشواق لي فَإِذا أرى
…
مليحاً على بعد تظناه بلبالي)
(فأقصده قصد العطاش توهمت
…
سراباً فَلَمَّا حَان إِذْ هِيَ بالآل)
(فصرت بِحَال لَو أرَاهُ حَقِيقَة
…
نكرت على عَيْني وكذبت آمالي)
وَقَالَ مجيباً لمن عَابَ عَلَيْهِ كتمان الْحبّ وآثر الشُّهْرَة وَقَالَ بِأَن كتم الْحبّ من الْجُبْن
(لَيْسَ جبنا أَنِّي أموّه فِي الْحبّ
…
وأخفي وأستشين البيانا)
(غير أَنِّي أجل مَالك رقي
…
إنّ مثلي يشدو بِهِ إعلانا)
(فَإِذا مَا فخرت أَفْخَر بِالصبرِ
…
وألفى لسره صوّانا)
(وَإِذا مَا شَكَوْت فلتك شكواي
…
إِلَيْهِ عساه أَن يتدانا)
(فشجاع الْهوى الصبور على جرح
…
مباريه صَارِمًا وسنانا)
(لَا الَّذِي إِن تشكه بادرة الطّرف
…
ترَاهُ يقرع الأسنانا)
(أَنا من قسم الْفُؤَاد فَأعْطى
…
مِنْهُ كلاكما يَلِيق مَكَانا)
(ومراح الغزال فِيهِ مصان
…
عَن سواهُ وَحقه أَن يصانا)
وَقَالَ
(مَا الَّذِي أوجب صدّك
…
وَلما أخلفت وَعدك)
(ألشغل دنيويّ
…
أم عَذَابي كَانَ قصدك)
(أم دلال أم تجنّ
…
أم قرين السوء صدّك)
(وعَلى أَيَّة حَال
…
أسعد الغفران جدّك)
(بِالَّذِي ولاك رقي
…
سَيِّدي لَا تنس عَبدك)
(أَنا فِي قرب وَبعد
…
حَافظ تالله عَهْدك)
(وفؤادي حَيْثُمَا كنت
…
وَايْم الله عنْدك)
(لطفك الْمَعْهُود خلاني
…
أَسِيرًا لَك وَحدك)
(هَل من الْإِنْصَاف إقصاد
…
الَّذِي ينظم قصدك)
(حاش ألطافك من أَن
…
تمنع الظمآن وردك)
(أَنا من شاد كَمَا شَاءَ
…
التقى والصون ودّك)
(كم خلونا والمروءات
…
وشت بردى وبردك)
(وعفاف الذيل قد طوّق
…
جيد الصب زندك)
(هَكَذَا نَحن فَظن الْخَيْر
…
يَا سَائل جهدك)
(أَنا من يتبع غيّ الْحبّ
…
فَاتبع أَنْت رشدك)
وَقَالَ مودعاً بعض إخوانه
(حياك عهد الحبيب عهد
…
أَوْطَفُ جفن السَّحَاب ورد)
(بعْدك مَا جف من جفوني
…
دمع وَلم يجفهن سهد)
(كَأَنَّمَا كَانَ لليالي
…
دُيُون بَين وحان وعد)
(يَا لَيْت مذ فرضت بعاداً
…
سنت وداعاً غَدَاة شدوا)
(أستودع الله من جفاني
…
ضَرُورَة وَهُوَ لي بودّ)
(سَار بقلبي حماه رَبِّي
…
وَلم يقل كَيفَ بعد تَغْدُو)
(حداه أَنِّي أنتحي فلاح
…
وقاده للنجاح رشد)
(وَمَا عَلَيْهِ بِذَاكَ عتب
…
إِرَادَة الله لَا تردّ)
وَقَالَ أَيْضا
(خلياني ولوعتي ونحيبي
…
لَيْسَ الإصاب بدمع صبيب)
(وابكياني فإنّ من جرح اللحظ
…
قَتِيل وَمَاله من طَبِيب)
(أَي صب سمعتما علقته
…
أعين الغيد فَهُوَ غير سليب)
(يَأْبَى معرضًا أُلُوف نفار
…
ذَا اخْتِلَاق تعنتاً للذنوب)
(فعله كُله حبائل فتك
…
قد أعدّت لصيد كل الْقُلُوب)
(تتحرى مقَاتل الصب عَيناهُ
…
برشق النبال فِي التصويب)
(ذُو وقار أهابه أَن أحييه
…
إِذا مَا بدا بِلَفْظ حَبِيبِي)
(فَهُوَ لم أدر جَاهِل خبر حَالي
…
أم يريني تجاهلاً كمريب)
(أبدا دأبه ودأبي هَذَا
…
وكلانا فِي الْحَال غير مُصِيب)
(ليته لَو أقرّ قلبِي على الْحبّ
…
بِلَا رِيبَة وَوجه قطوب)
(وَإِذا شَاءَ بعد ذَاك تجنى
…
لَذَّة الْحبّ غُصَّة التعذيب)
(مَا يُبَالِي من اسْتهلّ عَلَيْهِ
…
من سَمَاء الغرام غيث اللغوب)
(جاب كل الْبِلَاد يحْسب أَن الْحَظ
…
شَيْء يعْطى لكل غَرِيب)
وَقَالَ
(أَطَالَت وَقَالَت من تصبر يظفر
…
فديتك لَكِن مدّة الْعُمر تقصر)
(فَفِي كل قطر غربَة وتشتت
…
وَفِي كل عصر حرقة وتحسر)
(يخيل لي فِي كل قفراء إِنَّمَا
…
بهَا الْآل أشراك الهوان فأنفر)
(أَهجر مِنْهَا حَيْثُ تستعر الْحَصَى
…
وتصخب حرباء الهجير وتزفر)
(وَحَتَّى إِذا شمس الْأَصِيل تقنعت
…
حداداً على فقد النَّهَار أشمر)
(فأختبط الظلماء أَحسب أَنَّهَا
…
مَسَافَة خطّ بالخطا تتقصر)
(وَلَو أنّ لي مِنْك الْتِفَات مودّة
…
لما كنت أطوي فِي الْبِلَاد وأنشر)
وَقَالَ مضمناً بَيت المنجكى فِي ثقيل
(عجبت من طالع الْمُحب وَمن
…
سرعَة أكذاب يأسه الأملا)
(أَن زَارَهُ من يحب عَن غلط
…
أناه كابوس يقظة عجلاً)
(كَأَنَّهُ طَارق الْمنون فَلَا
…
حِيلَة فِي دَفعه إِذا نزلا)
(أَو الْغَرِيم الْملح فِي زمن الْعسر
…
أَو الدَّاء صَادف الأجلا)
(نثيل روح يزور فِي زمن
…
لَو زار فِيهِ الحبيب مَا قبلا)
(يَقُول أيه وَقد وجمت وَمن
…
ينْطق أَو من يُطيق مُحْتملا)
(يسْأَل مَا تَشْتَكِي فَقلت لَهُ
…
دَاء عراني فَقَالَ لَا وصلا)
(فَقلت آمين يَا مُجيب أزل
…
مَا نشتكيه فَإِن يدم قتلا)
(يَا لَيْت لَو أَنه اسْتُجِيبَ لنا
…
دَعوتنَا تِلْكَ وَالْمَكَان خلا)
(لم يحل بل ضَاعَ وقتنا هدرا
…
وملّ منا الحبيب وارتحلا)
وَكَانَ يهوى غُلَاما فاتفق أَنه مر عَلَيْهِ والغلام يلْعَب بالنرد فِي أحد بيُوت القهوة فَلم يكترث بِهِ وتشاغل باللعب فنظم فِيهِ هَذِه الأبيات وَهِي من محاسنه
(أنكرتني ذَات السوار الصموت
…
عجبا مَا لعرفتي من ثُبُوت)
(لَا بل العانبات يعددن من أمسك
…
من وصلهن حَيا كمبت)
(ومريد من الغزاني وَفَاء
…
منْدَل بشعرة العنكبوت)
(لَا رعى الله مهجة علقتهن
…
وَلَا أسعفت بِفضل القوب)
(حقرت هِنْد ذِمَّتِي واستعاضت
…
عَن صدوح الرياض بالعفريت)
(لست أنسى يومي بمجتمع اللَّهْو
…
وفكري يجيد فِيهَا نعوتي)
(اذبدت فِي غلالة النِّيَّة وَالْعجب
…
وَبرد الْجلَال والجبروت)
(تتهادى فِي السرب حَتَّى إِذا مَا
…
وصلت حوزتي أرتني موتِي)
(بتغاض مَعَ الْتِفَات إِلَى الدون
…
ومقت وَلست بالممقوت)
(ويحها لم تحيني بَين جمعي
…
لَو تحسي قُلْنَا لَهَا حييت)
(وتلاهت بالنرد فِي ذَلِك الْمجْلس
…
خوف اتهامها بِالسُّكُوتِ)
(ثمَّ ولت وخلقتني أعض الْكَفّ
…
مُسْتَدْرك القضا بعد فَوت)
(هِنْد قلي من التجني فلسنا
…
من يرضيه فَضله مِمَّن فتيت)
(لست لأثنين أَو ثَلَاث فنأسى
…
أَن تخصى بَعْضًا وبعضا تفوتي)
(أَنْت وقف على الْعباد وَمن يطْمع
…
فِي الْوَقْف وَاجِب التكيت)
(أتظنين أَن لي بك شغلاً
…
لي قلبِي إِن شِئْت ذَا أَو أبيتي)
(إِنَّنِي عفت بَيت حسنك مأهولاً
…
فَإِنِّي وَمَا بِهِ غير بَيت)
(لَيْسَ عِنْدِي بعد احتقارك قدري
…
لَك كفؤ غير الطَّلَاق البتوت)
(لَا أسوفا على جمالك أَن بدل
…
قبحاً وَمر طعم الشتيت)
(غير إِنِّي أسفت أَن ضَاعَ شعري
…
فِيك مكن مَا باختباري حبيتي)
(إِذْ بلائي بمبتلاك دَعَا الْفِكر
…
لِأَن شاد فِيك بعض بيُوت)
(آه من صُحْبَة الْعباد وواها
…
لزمان يمرّ فِي تشتيت)
(صدق الْقَائِل السَّلامَة فِي الصمت كَذَا الْخَيْر فِي لُزُوم الْبيُوت
…
)
(طالما مَا قد جررت ذيل التصابي
…
وتناسيت عضة التفويت)
(لَا يظنّ عَاقل بِي ميلًا
…
لمليح من آنس أَو مقوت)
(رفضت نفيسي الْهوى خيفة الذل
…
وَأَن تبتلي برق فليب)
(وهجرت المدام مِمَّا يُؤَدِّي لأفتضاح
…
القؤول والسكيت)
(واختلاط بِغَيْر مرضِي عقل
…
وانطراح مَعَ كل ذِي تنكيت)
(فَإِذا مَا ذكرت أَيَّام الْهوى
…
قلت أَيَّام ذلتي لَا سقيت)
(لَذَّة الْحرفِي اكْتِسَاب الْمَعَالِي
…
لَا افتراش الدمى وحسو الْكُمَيْت
…
وَأَخْبرنِي فِي أَنه رأى مَا ذكره ابْن خلكان فِي تَرْجَمَة ابْن الْعَتَاهِيَة أَنه لما ترك قَول الشّعْر حَبسه الْمهْدي فِي حبس الجرائم فَلَمَّا دخله رأى كهلا حسن الْبرة وَالْوَجْه عَلَيْهِ سِيمَا الْخَيْر فقصده وَجلسَ من غير سَلام عَلَيْهِ لما هُوَ فِيهِ من الْجزع والحيرة والفكر
فَمَكثَ كَذَلِك فَإِذا الرجل ينشد
(تعودت مس الضّر حَتَّى ألفته
…
وأسلمي حسن العزاء إِلَى الصَّبْر)
(وصيرني يأسي من النَّاس واثقا
…
بِحسن صَنِيع الله من حَيْثُ لَا أَدْرِي)
فَاسْتحْسن أَبُو الْعَتَاهِيَة الْبَيْتَيْنِ وتبرك بهما قَالَ وثاب عَقْلِي إِلَيّ فَقلت لَهُ تفضل بإعادتهما فَقَالَ مَا أَسْوَأ أدبك دخلت فَلم تسلم ثمَّ لما سَمِعت مني بَيْتَيْنِ من الشّعْر الَّذِي لم يَجْعَل الله فِيك خيرا وَلَا أدبا وَلَا معاشا غَيره طفقت تستنشدني مبتديا كَأَن بَيْننَا أنسا وسالف مَوَدَّة توجب بسط الْقَبْض فَقلت اعذرني فَقَالَ وفيم أَنْت تركت الشّعْر الَّذِي هُوَ جاهك عِنْدهم وسببك إِلَيْهِم وَلَا بُد أَن تَقوله فَتطلق وَأَنا يدعى بِي فأطلب بِعِيسَى بن زيد بن رَسُول الله
فَإِن دللت عَلَيْهِ لقِيت الله تَعَالَى بدمه وَكَانَ رَسُول الله
خصمي فِيهِ وَإِلَّا قتلت فَأَنا أولى بِالْحيرَةِ مِنْك وَهَا أَنْت ترى صبري واحتسابي ثمَّ أعَاد لي الْبَيْتَيْنِ حَتَّى حفظهما ثمَّ دعى بِي وَبِه فَقلت لَهُ من أَنْت فَقَالَ أَنا حَاضر صَاحب عِيسَى بن زيد فأدخلنا على الْمهْدي فَقَالَ للرجل أَيْن عِيسَى فَقَالَ وَمَا يدريني تطلبته فهرب مِنْك فِي الْبِلَاد وحبستني فَمن أَيْن أَقف على خَبره قَالَ لَهُ مَتى كَانَ متواريا وَأَيْنَ آخر عَهْدك بِهِ وَعند من ليقته قَالَ مَا لَقيته مُنْذُ توارى وَلَا عرفت لَهُ خَبرا قَالَ وَالله للتدلن عَلَيْهِ أَولا أضربن عُنُقك السَّاعَة فَقَالَ اصْنَع مَا بدا لَك فوَاللَّه لَا أدلك على ابْن رَسُول الله وَألقى الله وَرَسُوله بدمه وَلَو كَانَ بَين ثوبي وجلدي مَا كشفت لَك عَنهُ قَالَ اضربوا عُنُقه فَأمر بِهِ فَضربت عُنُقه ثمَّ دَعَا بِي وَقَالَ أَتَقول الشّعْر أَو ألحقك بِهِ قلت بل أَقُول قَالَ أَطْلقُوهُ فأطلقت وَقد روى أَبُو عَليّ التنوخي فِي الْبَيْتَيْنِ زِيَادَة بَيت ثَالِث وَهُوَ
(إِذا أَنا لم أقنع من الدَّهْر بِالَّذِي
…
تكرهت مِنْهُ طَال عتبي على الدَّهْر)
انْتهى قَالَ المترجم فاستحسنت هَذِه الأبيات وذيلت عَلَيْهَا بِقَوْلِي
(وَفِي صرفه شغل عَن العتب صَارف
…
كشغل غريق الْبَحْر عَن دُرَر الْبَحْر)
(وَمَا الدَّهْر وَالْأَيَّام وَالْوَقْت والورى
…
سوى الْفَاعِل الْمُخْتَار رجل عَن الْحصْر)
(وَعَن حِكْمَة تجْرِي مقادير عَالم
…
لموقع نفع العَبْد من موقع الضّر)
(وَأَنت إِذا حققت إِن كنت عَارِفًا
…
شغلت مَكَان العتب بِالْحَمْد وَالشُّكْر)
(فعتبك للأيام غير مصادف
…
محلا إِذْ الْأَيَّام أَنْت وَلَا تَدْرِي)
(فَكُن ذَا سكُوت فِي مجاري الْقَضَاء أَو
…
تأسف فَإِن الْكل فِي قَبْضَة الْأَمر)
(وَمَا الطيش مغن عَنْك فِي حل عقلة الوثاق
…
سوى التَّشْدِيد فِي عقدَة الْأسر)
وَمن نَوَادِر أسماره ومحاسن أخباره أَنه كَانَ فِي غُضُون الصِّبَا يهوى حبيبا كَأَنَّمَا تكون من رقة الصِّبَا وَكَانَ يَذُوق من تقلباته مَا يحر فِيهِ الْوَهم ويعجز عَن حمل بعضه الطود الأشم على أَن مَا قاساه من البلايا والمحن لم يكن بمستحقها وَلَكِن يرى حسنا مَا لَيْسَ بالْحسنِ فَجَلَسَ يَوْمًا الإقراء تلميذ لَهُ وَكَانَ مِمَّن تسْجد لطلعته الأقمار ويلعب بالعقول لعب الْعقار بالأفكار فَحَدَّثته نَفسه بِأَن يتَخَلَّص من ذَلِك الشّرك وينقل الرّوح من أٍ سر ذَلِك المارد إِلَى هَذَا الْملك فَعرض لَهُ طائف من عَالم الخيال وهبت عَلَيْهِ نفحة من برزخ الْمِثَال فَرَأى شكل حَبِيبه الَّذِي شب بِهِ ضرام الجوى ينظر إِلَيْهِ شررا وَهُوَ مار فِي الْهوى وَهُوَ يومي إِلَيْهِ كالمعاتب ويلومه بِلِسَان الْحَال كَمَا يلام الْقَادِر الْكَاذِب فَحصل لَهُ من الْحيَاء والحجاب مَا أوقعه فِي أعظم مصاب وَعطف على الْقلب اللجوج وَقد أطرق إطراق المحجوج فَبَيْنَمَا هُوَ لَا يُدِير لحظا وَلَا يحير لفظا إِذا بِرَجُل أعظم مَا يكون مد يَده إِلَى فُؤَاده واختطفه بِسُرْعَة عزمه وَقُوَّة سداده وألقاه إِلَى ذَلِك الْمِثَال فَأَخذه وَولي من حَيْثُ جَاءَ فِي عَالم الخيال فَاسْتَيْقَظَ وَقد أضلّ قلبه وضيع صبره وليه وَعقد التَّوْبَة عَمَّا جنى فِي شرع الْهوى من الذُّنُوب وَفِي كل عين مِنْهُ أحفان وَيَعْقُوب وَمن أناشده لنَفسِهِ مَا تلقيته عَنهُ من فِيهِ فِي أحد مجالسي مَعَه قَوْله
(سقتك الغر يَا عهد الشبيبة
…
ترنح مِنْك أغصانا عسيبة)
(وَإِلَّا فالنواقع من جفوني
…
وَإِن تَكُ لأرواء وَلَا عذوبة)
(فكم لي فِي ظلالك من مقيل
…
حسون بِهِ الْهوى كأسا وكوبه)
(بِكُل ندى جسم كنت أظمى
…
النواظر عَنهُ خشيَة أَن تذيبه)
(كَانَ بِكُل عُضْو مِنْهُ بَدْرًا
…
منيرا أَو مدبجة خصيبة)
(وكل مرنح الأعطاف يخطو
…
فيكتسب الصِّبَا مِنْهُ هبوبه)
(إِذا مَا رام يعبث بِي دلالا
…
يقطب والرضى يمحو قطوبه)
(فَمن لَك بالسلامة أَن تثني
…
وهز قناة عطفيه الرطيبة)
(وأبلج مستدير الشكل أبدت
…
بِهِ الأصداغ أشكالا عَجِيبَة)
(تريك بسيمياء الْحسن روضا
…
حذارا مِنْهُ أَن تصلى لهيبة)
(وفاحم طرة شكرا لأيدي
…
الرعونة كم لَهَا أمست لعوبه)
(تبدّدها كذوب الْمسك طوراً
…
على غُصْن تجسد من رطوبه)
(وطوراً يظْهر الشربوش مِنْهَا
…
كأطراف البنان غَدَتْ خضيبه)
(وآونة يرى مِنْهَا زباناً
…
يموج وَكم بِهِ كبد لسيبه)
(فَأَنِّي يطْرق السلوان قلباً
…
حمته جيوش خضراء الكتيبة)
(وَلَا كنواعس أرشقن قلبِي
…
صوائب غادرته أَخا مصيبه)
(شهرن ظبا وقلن أَلا صيود
…
فَكَانَت مهجتي أولى مجيبه)
(لحالها الله أيّ عَنَّا تلقت
…
تقمص مِنْهُ جثماني شحوبه)
(وَلم أك ألحها إِلَّا أضطراراً
…
فَلم تَكُ بِالَّذِي فعلت معيبه)
(هِيَ الأحداق مَا مستك إِلَّا
…
وفزت من الشَّهَادَة بالمثوبه)
(جرى قلم الْقَضَاء لنا بِهَذَا
…
وَلَا يعدو امْرُؤ أبدا نصِيبه)
وَمِمَّا نقلته من خطه قَوْله
(تولى زماني بالتلاعب وانقضى
…
وحبل شَبَابِي بالمشيب تنقضا)
(أراقب لمحا من سُهَيْل مطالبي
…
وأرصد برقاً من أمانيّ أَو مضا)
(يخيل لي أنّ الدجا وَجه باخل
…
وكف الثريا للسؤال تعرّضا)
(فآنف من نيل الْغنى بمذلة
…
وألوي عنان الْقَصْد عَنهُ مفوّضاً)
(وأعيا طلابي من زماني صاحباً
…
يكون لحالي بِالْوَفَاءِ منهضاً)
(فأيقنت أنّ الْخلّ أفقد ثَالِث
…
مَعَ الغول والعنقاء فِي قَول من مُضِيّ)
(وَقد صَحَّ عِنْدِي إِنَّمَا الْخلّ خلة
…
أروم لَهَا سد الكفاف مَعَ الرِّضَا)
(إِذا قطع الْإِنْسَان أطماع نَفسه
…
من النَّاس كَانَ الْيَأْس أهنى معوّضاً)
(هُنَاكَ يكون الْمَرْء بِاللَّه مُقبلا
…
على شَأْنه مَا أَن يكل لَهُ مضا)
(فذالك الَّذِي بِالْعقلِ صَحَّ اتصافه
…
وَمن لَا فَلَا وَالله بَالغ مَا قضى)
ونقلت أَيْضا من خطه قَوْله
(لَا تتْرك الْجد فِي جمع الْكَمَال لِأَن
…
بارت تِجَارَة سوق الْفضل فِي الزَّمن)
(لَا بدّ أَن ترغم الْجُهَّال حَاجتهم
…
إِلَى كمالك أَن يرضوك فِي الثّمن)
(وحسبك الله إِن لم تلق مُشْتَريا
…
عَن الغبي بعرف الْعرف أَنْت غَنِي)
وَمن مقطوعاته قَوْله
(إِذا كَانَ فقر الْمَرْء يزري كَمَاله
…
فتنفر مِنْهُ الأصدقاء بِلَا عذر)
(فيا ضَيْعَة الْحسنى وَيَا خيبة الرجا
…
وَيَا موت زرانّ الْحَيَاة على خسر)
وَقَوله
(رَأَيْت التواني أنكح الْعَجز بنته
…
وسَاق إِلَيْهَا حِين زفت لَهُ مهْرا)
(فراشا وطياً ثمَّ قَالَ لَهَا اتكي
…
فَلَا بدّ للزوجين أَن يلدا فقرا)
وَهَذَانِ البيتان قديمان وَإِن أثبتهما فِي ديوانه وَمن مقاطيعه قَوْله
(عني إِلَيْكُم بني هَذَا الزَّمَان فقد
…
عَاهَدت قلبِي أَن لَا رام ودّكم)
(أَبَا حكم بَيت ودّ كَانَ تصدية
…
صَلَاتكُمْ عِنْده فَالْآن صدّكم)
وَقَوله
(إياك يَا ابْن أبي عني نصيحة من
…
يَد التجارب قَامَت عَنهُ بالأود)
(إياك صُحْبَة غير الْجِنْس مَا بشر
…
يقوى لِأَن يجمع الضدّين فِي جَسَد)
وَقَوله
(نَفسِي لتؤثر أَن تفنى بمحنتهم
…
لِأَنَّهَا لسوى الأحباب لم تكن)
(الْمَرْء يُرْجَى لضرّ أَو لمَنْفَعَة
…
وَمَا خلقت لغير الْحبّ والشجن)
وَقَوله
(الأهم الأهم إِن كَانَ لَا بدّ
…
فَإِن الزَّمَان فِينَا قصير)
(لَا تضع فرْصَة الحيا فَمَا للعمر
…
حَيْثُ انْتهى مداه معير)
وَاتفقَ لي مَعَه يَوْم من أطيب الْأَيَّام فِي رَوْضَة غشيت بنسيج يَد الْغَمَام لبست خضر المطارف وتزينت بأنواع الزخارف وصحبتنا من السَّادة الأفاضل زمرة قد تألفت طباعهم بالفرح والمسرة فأخذني من النشاط مَا بَعَثَنِي على مدحهم بِأَبْيَات فَقلت وَأَنا معترف فِي وَصفهم بِضيق المجال فِي الْعبارَات والأبيات هِيَ هَذِه
(فديت خلا بِصدق عشرته
…
هذب نَفسِي إِذْ جَاءَ يرشدها)
(عرّفني مَا جهلته زَمنا
…
من شُبُهَات لِلْخلقِ توجدها)
(حَتَّى إِذا مَا أنْكرت فعلهم
…
وتوبتي تمّ فِيهِ موعدها)
(فاوضني فِي هواي مختبراً
…
وَكله حِكْمَة يزوّدها)
(فَقَالَ أَي الذوات تعشقها
…
قلت كريم الأمجاد سَيِّدهَا)
(فَقَالَ أَي الأوتار تؤثره
…
قلت صرير اليراع أَجودهَا)
(فَقلت كَيفَ الرياض قلت لَهُ
…
عِنْد طباع الْكِرَام أجحدها)
(فَقَالَ وَالطّيب قلت عرف ثَنَا
…
خلائق لَا أَزَال أحمدها)
(فَقَالَ وَالنَّقْل كَيفَ قلت وَهل
…
ذَاك سوى الْأَشْعَار ننشدها)
(فَقَالَ أَي الندمان أَنْت لَهُ
…
تبذل نفسا تضيق حسدها)
(فَقلت لي سادة بهم عذبت
…
مناهلي حَيْثُ طَابَ موردها)
(فَكل وَقت يمرّ لي بهم
…
أشرف كل الْأَوْقَات أسعدها)
(داموا ودامت لنا فضائلهم
…
نَأْخُذ عَنْهَا وَلَيْسَ نفقدها)
وَقد أطلنا حسب الْمُقْتَضى وَلَوْلَا خوف الْخُرُوج عَن الِاعْتِدَال لذكرت من أشعار المترجم شَيْئا كثيرا وَلَكِن فِي هَذَا الْقدر كِفَايَة وَكَانَت وَفَاته فِي أَوَائِل ذِي الْحجَّة سنة تسع وَتِسْعين وَألف عَن خمس وَسِتِّينَ سنة وَدفن بمقبرة الفراديس والسليمى نِسْبَة لبني سليم من الْعَرَب العاربة وشهرته بطرز الريحان لموشح قَالَه فِي أَيَّام صبوته مطلعه
(طرز الريحان حلَّة الْورْد
…
)
فاشتهر بِهِ
عبد الْحَيّ بن أَحْمد بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن الْعِمَاد أَبُو الْفَلاح العكري الصَّالِحِي الْحَنْبَلِيّ شَيخنَا الْعَالم الْهمام المُصَنّف الأديب المفنن الطرفة الإخباري العجيب الشَّأْن فِي التَّحَوُّل فِي المذاكرة ومداخلة الْأَعْيَان والتمتع بالخزائن العلمية وَتَقْيِيد الشوارد من كل فن وَكَانَ من آدب النَّاس وأعرفهم بالفنون المتكاثرة وأغزرهم إحاطة بالآثار وأجودهم مساجلة وأقدرهم على الْكِتَابَة والتحرير وَله من التصانيف شَرحه على متن الْمُنْتَهى فِي فقه الْحَنَابِلَة حَرَّره تحريراً أنيقاً وَله التَّارِيخ الَّذِي صنفه وَسَماهُ شذرات الذَّهَب فِي أَخْبَار من ذهب وَله غير ذَلِك من رسائل وتحريرات وَكَانَ أَخذ عَن الْأَعْلَام الْأَشْيَاخ بِدِمَشْق من أَجلهم الْأُسْتَاذ الشَّيْخ أَيُّوب وَالشَّيْخ عبد الْبَاقِي الْحَنْبَلِيّ وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن بدر الدّين البلباني الصَّالِحِي وأجازوه ثمَّ رَحل إِلَى الْقَاهِرَة وَأقَام بهَا مُدَّة طَوِيلَة للأخذ عَن علمائها وَأخذ بهَا عَن الشَّيْخ سُلْطَان المزاحي والنور الشبراملسي وَالشَّمْس البابلي والشهاب القليوبي وَغَيرهم ثمَّ رَجَعَ إِلَى دمشق وَلزِمَ الإفادة والتدريس وانتفع بِهِ كثير من أهل الْعَصْر وَكَانَ لَا يمل وَلَا يفتر عَن المذاكرة والاشتغال وَكتب الْكثير بِخَطِّهِ وَكَانَ خطه حسنا بَين الضَّبْط حُلْو الأسلوب وَكَانَ مَعَ كَثْرَة امتزاجه بالأدب وأربابه مائل الطَّبْع إِلَى نظم الشّعْر إِلَّا أَنه لم يتَّفق لَهُ نظم شَيْء فِيمَا عَلمته مِنْهُ ثمَّ أَخْبرنِي بعض الإخوان أَنه ذكر لَهُ أَنه رأى فِي الْمَنَام كَأَنَّهُ ينشد هذَيْن الْبَيْتَيْنِ قَالَ وأظن أَنَّهُمَا لَهُ وهما
(كنت فِي لجة الْمعاصِي غريقاً
…
لم تصلني يَد تروم خلاصي)
(أنقذتني يَد الْعِنَايَة مِنْهَا
…
بعد ظَنِّي أَن لات حِين مناص)
ثمَّ وقفت لَهُ على أَبْيَات بناها على لغز فِي طَرِيق وَهِي
(مَا اسْم رباعي الْحُرُوف تخاله
…
لمناط أَمر المنزلين سَبِيلا)
(وتراه متضحاً جلياً ظَاهرا
…
ولطالما حاولت فِيهِ دَلِيلا)
(وَله صِفَات تبَاين وتناقض
…
فَيرى قَصِيرا تَارَة وطويلا)
(ومقوّماً ومعوّجاً ومسهلا
…
ومصعداً ومحزناً وسهولا)
(وَالْخَيْر وَالشَّر الْقَبِيح كِلَاهُمَا
…
لَا تلق عَنهُ فيهمَا تحويلا)
(سعدت بِهِ أهل التصوّف إِذْ بِهِ امتازوا
…
فَلَا يبغوا بِهِ تبديلا)
(تصحيفه وصف لطيف إِن بِهِ
…
جملت أوصافاً تنَال قبولا)
(وَإِذا تصحف بعد حذف الرّبع مِنْهُ
…
تَجدهُ حرفا فابغه تَأْوِيلا)
(أَو ظرفا أَو فعلا لشخص قد غَدا
…
فِي وَجهه بَاب الرجا مقفولا)
(وبقلبه وَزِيَادَة فِي قلبه
…
لبَيَان قدر النَّقْص صَار كَفِيلا)
(وبحذف ثالثه وقلب حُرُوفه
…
كم راقت الحسنا بِهِ تجميلا)
(فَأَبِنْ معماه بقيت مُعظما
…
تزداد بَين أولى الحجى تكميلا)
وَكنت فِي عنفوان عمري تلمذت لَهُ وَأخذت عَنهُ وَكنت أرى لَقيته فَائِدَة اكتسبها وَجُمْلَة فَخر لَا أتعداها فَلَزِمته حَتَّى قَرَأت عَلَيْهِ الصّرْف والحساب وَكَانَ يتحفني بفوائد جليلة ويلقيها عَليّ وحباني الدَّهْر مُدَّة بمجالسته فَلم يزل يتَرَدَّد إِلَيّ تردد الآسي إِلَى الْمَرِيض حَتَّى قدر الله تَعَالَى لي الرحلة عَن وطني إِلَى ديار الرّوم وطالت مُدَّة غيبتي وَأَنا أشوق إِلَيْهِ من كل شيق حَتَّى ورد عَليّ خبر مَوته وَأَنا بهَا فتجددت لوعتي أسفا على ماضي عهوده وحزناً على فقد فضائله وآدابه وَكَانَ قد حج فَمَاتَ بِمَكَّة وَكَانَت وَفَاته سادس عشر ذِي الْحجَّة سنة تسع وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بالمعلاة وَكَانَ عمره ثَمَانِي وَخمسين سنة فَإِنِّي قَرَأت بِخَط بعض الْأَصْحَاب أَن وِلَادَته كَانَت نَهَار الْأَرْبَعَاء ثامن رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف
عبد الْحَيّ بن عبد الْبَاقِي بن مُحَمَّد محب الدّين بن أبي بكر تَقِيّ الدّين بن دَاوُد المحبي الْحَنَفِيّ الدِّمَشْقِي ابْن عَم أبي الْفَاضِل الْكَامِل كَانَ من لطف الطَّبْع وسلامة النَّاحِيَة على جَانب عَظِيم وَكَانَ مَقْبُول الْعشْرَة حسن الْخلق والخلق سخياً متودداً نَشأ فِي دولة أَبِيه الباهرة وَكَانَ أَبوهُ ذَا ثروة عَظِيمَة فَإِنَّهُ حصلا أَمْوَالًا وافرة وتملك أملاكاً جليلة
ورزق وَلدين عبد الْحَيّ هَذَا ومحمداً وَسَيَأْتِي ذكره وَهُوَ أَخُو جدي لِأَبِيهِ وَأم عبد الْحَيّ أُخْته لأمه وَهِي بنت الشَّيْخ الإِمَام عبد الصَّمد بن إِبْرَاهِيم بن عبد الصَّمد العكاري الْمُتَوفَّى سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وجده عبد الصَّمد مفتي الْحَنَفِيَّة بِدِمَشْق وَرَئِيس علمائها كَانَ وَكَانَ اسْمهَا بعديعة الزَّمَان وَكَانَت من الْعلم والمعرفة ونظم الشّعْر فِي مَحل سَام اشتغلت الْكثير على جدي القَاضِي محب الدّين وَأخذت عَنهُ الْفِقْه والعربية وَقَرَأَ عَلَيْهَا ابْنهَا عبد الْحَيّ هَذَا وَأَخُوهُ ثمَّ لزم عبد الْحَيّ الِاشْتِغَال فَقَرَأَ على عُلَمَاء عصره مِنْهُم الْعِمَاد الْمُفْتِي وَالشَّيْخ عبد اللَّطِيف الجالقي ونبل ثمَّ مَاتَ أَبوهُ فِي سنة سبع وَعشْرين وَألف فِيمَا أَحسب ونفدت أَمْوَاله فِي مُدَّة يسيرَة فضمه وأخاه جدي محب الله إِلَيْهِ وأمدهما بإمداداته الدارة وميزهما على أقرانهما فبلغا رفْعَة وشأناً عَظِيما واستبد عبد الْحَيّ بتولية نيابات المحاكم بِدِمَشْق فولى الميدان والعونية ودرس بمدرسة دَار الحَدِيث الأشرفية بِدِمَشْق ثمَّ ورد إِلَى دمشق قَاض للْحَاج فاتحد بِهِ وألفه وفوض إِلَيْهِ أَمر نيابته فِي الطَّرِيق فصحبه فَمَاتَ فِي الطَّرِيق بِمَنْزِلَة عسفان وَكَانَ ذَلِك فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف
عبد الْحَيّ بن فيض الله بن أَحْمد الْمَعْرُوف بِابْن الْقَاف القسطنطيني المولد والمنشأ المتخلص بفائضي شَاعِر الرّوم وظريفها كَانَ فريد دهره أدباً وفضلاً وكرماً ومجداً وبلاغة وبراعة ولطافة وظرافة وديوان شعره مَشْهُور سَائِر بَين الْحسن والجودة والجزالة والعذوبة وَمَعَهُ رواء الطَّبْع وشيمة الظّرْف وَهُوَ من بَيت بالروم لَهُم الصدارة والتقدم وَأَبوهُ فيض الله سَيَأْتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَنَشَأ هُوَ ودأب فِي التَّحْصِيل حَتَّى برع وسما قدره من حِين شبيبته وَكَانَ كبار الْعلمَاء والأدباء يميزونه ويأنسون بِهِ وَكَانَ بَينه بَين نفعي الشَّاعِر الْمَشْهُور وقائع وحروب كَثِيرَة وهجاه نفعي بأهاج مفرطة فِي المذمة مَذْكُورَة فِي كِتَابه سِهَام الْقَضَاء وَقد درس بمدارس مُتعَدِّدَة وَولي قَضَاء سلانيك فِي سنة سِتّ وَعشْرين وَألف وَوَافَقَ تَارِيخ تَوليته لَهُ نَفسه قَضَاء عبد الْحَيّ وعزل عَنْهَا فَأَقَامَ معزولاً إِلَى أَن مَاتَ وَلم ينل غَيرهَا وَكَانَت وَفَاته فِي حُدُود سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف بقسطنطينية
عبد الْحَيّ بن مَحْمُود الْحلَبِي الأَصْل الْحِمصِي المولد الدمشق الدَّار الْحَنَفِيّ الصُّوفِي كَانَ من أجلاء الْفُضَلَاء طَوِيل الباع فِي المعارف وانتفع بِهِ خلق بِالْقِرَاءَةِ عَلَيْهِ ذكره النَّجْم الْغَزِّي وَقَالَ فِي تَرْجَمته كَانَ فِي مبدأ أمره من فُقَرَاء الشَّيْخ أبي الْوَفَاء بن الشَّيْخ
عَنَّا خيرا وشكر سعيكم ثمَّ صرف الْقَوْم قَالَ وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْأَحَد سادس شهر رَمَضَان سنة عشر بعد الْألف وَدفن بمقبرة الفراديس وَرَأَيْت بِخَط مُحَمَّد المرزناتي الصَّالِحِي أَن وَفَاته كَانَت لَيْلَة الْخَمِيس بَين الأذانين بعد أَن تسحر ثَالِث عشر شهر رَمَضَان من السّنة الْمَذْكُورَة
عبد الْحَيّ بن يُوسُف الْكرْدِي نزيل دمشق أحد أَعْيَان الْعلمَاء كَانَ لَهُ بَاعَ طائل فِي المعقولات اتَّصل أَولا بِخِدْمَة أَو يس باشا وَلما ولى مصر كَانَ مَعَه وَجعله قَاضِي الحضرة وَحصل بهَا مَالا كثيرا ثمَّ رَجَعَ إِلَى دمشق فَلَزِمَ بَيته لَا يخرج لجمعة وَلَا جمَاعَة إِلَّا نَادرا وَكَانَ فِي الأَصْل شافعياً ثمَّ صَار حنفياً وَولي تدريس الْمدرس المعينية وَكَانَ لَهُ مُرَتّب فِي جوالي بَيت المَال وَكَانَ يتَرَدَّد إِلَى الْقُضَاة والولاة وَصَحب أَحْمد باشا الْحَافِظ لما كَانَ فحافظ الديار الشامية وعلت كَلمته عِنْده وَلم يعْهَد مِنْهُ ضَرَر لأحد من النَّاس وَلما مَاتَ الْحسن البوريني وَجه إِلَيْهِ قَاضِي دمشق عَنهُ الْمدرسَة الشامية البرانية فَبَقيت فِي يَده أشهراً ثمَّ وجهت من طرف السلطنة إِلَى الشهَاب العيثاوي بَقِي عبد الْحَيّ على عزلته وانزوائه إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة خمس وَعشْرين وَألف
عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن الْعلم ابْن إِبْرَاهِيم بن عمر بن عبد الله وطب بن مُحَمَّد النَّضر بن عبد الله بن مُحَمَّد بن الشَّيْخ عبد الله باعلوي الْمَعْرُوف كسلفة بالمعلم أوحد الزَّمَان وباقعة الدَّهْر إِمَام العارفين وقدوة الصُّوفِيَّة ولد بِمَدِينَة قسم وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن واشتغل بالعلوم والمعارف وَأكْثر الْأَخْذ عَن عُلَمَاء عصره وَصَحب أكَابِر العارفين وانتفع وَأخذ بِبَلَدِهِ عَن الإِمَام الْعَارِف الأديب خسن بن إِبْرَاهِيم باشعيب وَعَن أَوْلَاد الشَّيْخ أبي بكر بن سَالم وَدخل مَدِينَة تريم وَأخذ عَن الشَّيْخ عبد الله بن شيخ العيدروس وَولده تَاج العارفين عَليّ زين العابدين وحفيده عبد الرَّحْمَن السقاف بن مُحَمَّد وَالْقَاضِي عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين وَأَوْلَاده الْمَشْهُورين وَرجل إِلَى الواديين الْمَشْهُورين وَادي دوعن ووادي عمد وَأخذ بهما عَن أجلاء أكَابِر مِنْهُم الشَّيْخ الْعَارِف أَحْمد بن عبد الْقَادِر الشهير بباعشن وَجَمَاعَة من العموديين ثمَّ رَحل إِلَى الْحَرَمَيْنِ وَأخذ عَن السَّيِّد عمر بن عبد الرَّحِيم وَالشَّيْخ أَحْمد بن عَلان وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الخياري والصفي القشاشي وَالشَّيْخ أَحْمد الشناوي وَغَيرهم وتفنن فِي فنون كَثِيرَة لَكِن غلب عَلَيْهِ علم التصوف والحقائق
وازدهت بِهِ بَلَده وَاتَّفَقُوا على تَقْدِيمه وإمامته وَكَانَ أول أمره يعلم الْقُرْآن وَلما رَحل قَامَ أَخُوهُ مقَامه وَلما عَاد نصب نَفسه لتدريس الْعُلُوم وَكَانَ لَهُ غوص على دقائق السلوك وَله فِي لبس خرقَة التصوف طرق متبوعة وأجيز بالإرشاد والإلباس والتربية وَبلغ الْغَايَة القصوى وعد من الفحول وَوصل بِصُحْبَتِهِ كَثِيرُونَ إِلَى الْمَرَاتِب الْعلية فظهرت لَهُم مِنْهُ آيَات عالية قَالَ الشلي وصحبته مُدَّة مديدة وَحَضَرت لَهُ مجَالِس وَكَانَ يخبو على حنو الْوَالِد وأتحفنى بفوائد كَثِيرَة وَله فِي التصوف رسائل مفيدة وَأَشْيَاء لَطِيفَة وَكَانَ لَهُ حسن خلق وسمت كثيرا لوقار لم تسمع مِنْهُ كلمة مجون متواضعا متقشفا محبوبا عِنْد النَّاس مُعْتَقدًا عِنْدهم مَقْبُول القَوْل لديهم زاهدا فِيمَا بِأَيْدِيهِم مغتنما لوقته مشتغلا بِنَفسِهِ وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع وَخمسين وَألف بقرية قسم وَدفن بتربتها الْمَشْهُورَة بالمصف وقبره مَشْهُور يزار
عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم الْكرْدِي الصهري الشَّافِعِي نزيل ديار بكر الْعَلامَة الْمُحَقق أَخذ عَن ملاجلبي الْجَزرِي الْكرْدِي وَبِه تخرج وَمن مؤلفاته رِسَالَة فِي سُورَة يس وحاشية على حَاشِيَة عِصَام على الْجُزْء الْأَخير من الْقُرْآن وَله مَا ينيف على أَرْبَعِينَ رِسَالَة وَله رباعي فَارسي ذكر فِيهِ ابْتِدَاء تَحْصِيله للعلوم وَهُوَ قَوْله
(شدّ هزار وبيست بنج از هجرت خير الْأَنَام
…
كشت ازان بس بنده مر استاد صرفي راغلام)
(شهر ثَانِي از شهور جَار وَجل بعد ازهزار
…
دروى آمد شكر لله صدر تدر يسم مقَام)
وَكَانَت تَأتيه النَّاس من الْعَجم وَمَا وَرَاء النَّهر للأخذ عَنهُ وَكَانَت وَفَاته فِي سنة أَربع أَو خمس وَسِتِّينَ وَألف بِمَدِينَة ديار بكر والصهري بِضَم الصَّاد وَسُكُون الْهَاء نِسْبَة إِلَى صهران
عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم الْمَعْرُوف بِابْن المزور الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ نزيل قسطنطينية وخاطب جَامع السُّلْطَان أَحْمد بهَا وَكَانَ إِمَامه أَيْضا وَكَانَ من خِيَار الْعلمَاء مشاركاً فِي عُلُوم شَتَّى وَكَانَ صَالحا حسن السمت لَهُ تواضع ومسكنة وَكَانَ عَالما بالقراآت وانتفع بِهِ خلق كثير من أهالي الرّوم وَذكره شَيخنَا الخياري فِي رحلته وَأثْنى عَلَيْهِ قَالَ وَحج مرَارًا وجاور بِالْمَدِينَةِ أشهراً وَاتفقَ لَهُ أَمر لم يتَّفق لغيره من أهل الأقطار وَذَلِكَ أَنه لما وصل الْمَدِينَة الشَّرِيفَة كَانَ شيخ الْحرم إِذْ ذَاك بهَا من قبل السُّلْطَان المرحوم
عبد الْكَرِيم أغا وَكَانَ تلميذاً لعبد الرَّحْمَن فَطلب لَهُ من خطباء ذَلِك الْمقَام الْمُبَاشرَة فِي نوبَته نِيَابَة عَنهُ طلبا للتشرف فوافقه على ذَلِك فباشر خطْبَة بذلك الْمِنْبَر الشريف وَكَانَ كثير الافتخار بذلك على سَائِر خطباء الْأَمْصَار وَوَجهه أَنه لم يعْهَد مُبَاشرَة الْخطْبَة بالمنبر الشريف لمن لَيْسَ لَهُ نوبَة من خطبائه وَكَانَ وَهُوَ بالروم اخترع أَدَاء مولداً بَين وضع التّرْك وَالْعرب وَقد عمر كثيرا حَتَّى قَارب الْمِائَة وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سِتّ وَثَمَانِينَ وَألف بقسطنطينية
عبد الرَّحْمَن بن أبي الْفضل بن بَرَكَات الْموصِلِي الميداني الشَّافِعِي كَانَ شيخ زَاوِيَة الموصليين بمحلة ميدان الْحَصَى وَلما اسْتَخْلَفَهُ وَالِده فِي حَيَاته ذكر أَنهم كَانَ لَهُم حَلقَة يَوْم الْجُمُعَة فِي الْجَامِع الْأمَوِي قد تركت من زمَان قديم فَأذن لوَلَده الْمَذْكُور فَعمِلت لَهُم حَلقَة غربي بَاب السنجق دَاخل الْجَامِع فِي حُدُود الْألف وَكَانَ عبد الرَّحْمَن أسن إخْوَته وَكَانَ صافي المشرب لين العريكة وَكَانَت وَفَاته أول وَقت الظّهْر ليَوْم الِاثْنَيْنِ ثَانِي شهر ربيع الثَّانِي سنة سبع عشرَة بعد الْألف وَدفن لصيق وَالِده فِي تربتهم الملاصقة لمَسْجِد النارنج وَمَسْجِد الْمصلى وَجلسَ مَكَانَهُ بعده أَخُوهُ الشَّيْخ بدر الدّين فِي يَوْم الثُّلَاثَاء سادس عشر شهر ربيع الثَّانِي بِإِجَازَة عَمه الشَّيْخ الصَّالح تَقِيّ الدّين
السَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد الْبيض بن عبد الرَّحْمَن بن حُسَيْن بن عَليّ بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْأُسْتَاذ الْأَعْظَم الْفَقِيه الْمُقدم الملقب وجيه السَّيِّد الْهمام الْعلي الْقدر والهمة أحد أَشْرَاف بني علوي الْمَشْهُورين ولد ببندر الشحر وَحفظ الْقُرْآن واشتغل بتحصيل الْعلم حَتَّى حصل طرفا صَالحا مِنْهُ ثمَّ رَحل إِلَى تريم وَأخذ بهَا عَن جمَاعَة من العارفين ثمَّ قصد عينات لزيارة الشَّيْخ الْكَبِير أبي بكر بن سَالم فلازمه مُلَازمَة تَامَّة حَتَّى تخرج بِهِ وَألبسهُ خرقَة التصوف وَحكمه واعتنى بِعلم التصوف والْحَدِيث وَالْأَدب وَله نظم حسن ومدح شَيْخه الشَّيْخ أَبَا بكر الْمَذْكُور وَغَيره بقصائد كَثِيرَة ونظمه متداول وَكَانَ ظَاهر الْفضل باهر الْعقل مَعَ الذكاء العجيب والفهم الْغَرِيب والمكارم الْعلية والأخلاق اللطيفة واقتنى كتبا كَثِيرَة وَكَانَت وَفَاته لست خلون من جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَألف وَدفن بمقبرة بندر الشحر وقبره مَعْرُوف يزار
السَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد الإدريسي المكناسي الحسني المغربي نزيل مَكَّة السَّيِّد الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى قطب زَمَانه كَانَ من كبار الْأَوْلِيَاء لَهُ الْكَشْف الصَّرِيح وَالْأَحْوَال الباهرة وَهُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ الأديب مُحَمَّد بن الدرا
الدِّمَشْقِي فِي أَيَّام مجاورته بِمَكَّة المشرفة
(فِي ظلّ حمى السَّيِّد عبد الرَّحْمَن
…
خيم لتفوز بالرضى والغفران)
(واحفظ نجواك عِنْده والإعلان
…
كي تَنْشَق عرف عَرَفَات الْإِحْسَان)
ولد بمكناسة الزَّيْتُون من أَرض الْمغرب الْأَقْصَى فِي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَألف ورحل فِي ابْتِدَائه من الْمغرب فَدخل مصر وَالشَّام وبلاد الرّوم وَاجْتمعَ بالسلطان مُرَاد وَوَقع لَهُ كرامات خارقة وَحج سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَألف وجاور بِمَكَّة ثمَّ رَحل إِلَى الْيمن لزيارة من بهَا من الْأَوْلِيَاء فَاجْتمع بكثيرين من أكَابِر الْمَشَايِخ مِنْهُم السَّيِّد عبد الرَّحْمَن ابْن عقيل صَاحب المخا ثمَّ رَجَعَ إِلَى مَكَّة وتديرها وَصَارَ مرجعاً لأَهْلهَا والواردين إِلَيْهَا وَكَانَ فِي الْكَرم غَايَة لَا تدْرك وَكَانَ يعْمل الولائم الْعَظِيمَة للخاص وَالْعَام وَكَانَت النذور تَأتيه من الْمغرب والهند وَالشَّام ومصر ويصرفها للْفُقَرَاء وَكَانَ مَقْبُول الْكَلِمَة عِنْد جَمِيع النَّاس وَإِذا جَاءَهُ الْمَدِين الْمُفلس ليشفع لَهُ عِنْد دائنه فبمجرد أَنه يكلمهُ فِي ذَلِك يمتثل أمره بِطيب نفس وَرُبمَا أَبرَأَهُ من دينه وَإِذا جَار أحد من السَّادة على عبد أَو أمة وَدخل عَلَيْهِ اشْتَرَاهُ مِنْهُ بأغلى ثمن وَأعْتقهُ حَتَّى أعتق أرقاء كثيرا ووقف عَلَيْهِم دوراً وَكَانَ حسن الْعشْرَة إِذا اجْتمع بِهِ أحد لم يرد مُفَارقَته وَكَانَ كثير الشفاعات وَكَانَ يحب الْعلمَاء ويكرمهم وَيحسن للْفُقَرَاء ويتفقدهم بِالنَّفَقَةِ وَالْكِسْوَة الْعَظِيمَة وَكَانَ يَدْعُو الله تَعَالَى بِحَالهِ ومقاله وَكَانَ لَا يلبس إِلَّا ثوبا وَاحِدًا صيفاً وشتاءً وقلنسوة وعَلى رَأسه يلبس سروالاً وَكَانَ يحث من يجْتَمع بِهِ على مُلَازمَة مَا يُنَاسِبه من صنوف الْخَيْر من تِلَاوَة قُرْآن وَصَلَاة على النَّبِي
وَكَثْرَة اسْتِغْفَار وأوراد حسان ويحض من رَأْي فِيهِ عَلامَة خير على اعْتِقَاد الصُّوفِيَّة والتصديق بكلامهم وعلومهم وأحوالهم وخصوصاً الشَّيْخ الْأَكْبَر فَإِنَّهُ كَانَ يعظمه كثيرا وَيَأْمُر بتعظيمه حكى لي الْأَخ الْفَاضِل الْكَامِل الشَّيْخ مصطفى بن فتح الله قَالَ دخلت عَلَيْهِ فِي بَيته بِمَكَّة مَعَ الشَّيْخ الْعَارِف حُسَيْن بن مُحَمَّد با فضل وَكنت لم أَدخل عَلَيْهِ قبل ذَلِك وَكَانَ لَا يخْطر ببالي ذكر الصُّوفِيَّة وَلَا أَحْوَالهم فحين اجتماعي بِهِ قَالَ لي مَا تَقول فِي الصُّوفِيَّة فَسكت لعدم معرفتي بِشَيْء من ذَلِك فَذكر الإِمَام الْغَزالِيّ وَمَا وَقع للْقَاضِي عِيَاض بِسَبَب إِنْكَاره عَلَيْهِ وَحَرقه كتاب الْأَحْيَاء فِي قصَّة طَوِيلَة عَجِيبَة ثمَّ ذكر الشَّيْخ الْأَكْبَر محيي الدّين بن عَرَبِيّ وأحواله ومؤلفاته وَأطَال فِي وَصفه وَأَنه الْخَتْم الإلهي وَأَمرَنِي أمرا جَازِمًا باعتقاد الصُّوفِيَّة
ومطالعة كتبهمْ وَالتَّسْلِيم لَهُم والتصديق بعلومهم وأحوالهم قَالَ فَكَأَنَّمَا طبع الله كَلَامه فِي قلبِي فَمن ذَلِك الْوَقْت وَللَّه الْحَمد ملئت اعتقادا ومحبة فيهم وَإِن لم أكن على سُنَنهمْ وَأَرْجُو من الله سُبْحَانَهُ أَن يحشرني مَعَهم وَفِي حزبهم ولقنني رضي الله عنه الذّكر لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله وألبسني الْخِرْقَة الشَّرِيفَة وَكَانَ يَدْعُو لي كثيرا وَكَانَ لَهُ الكرامات الْعَظِيمَة مِنْهَا مَا حَكَاهُ السَّيِّد الْجَلِيل عمر بن سَالم شَيْخَانِ يَا علوي أَنه سَافر مَعَه إِلَى الْيمن وَكَانَ مَعَهُمَا الشَّيْخ الْفَاضِل عبد الله بن مُحَمَّد الطَّاهِر العباسي الْمَكِّيّ فهاج عَلَيْهِم الْبَحْر وكادوا يشرفون على الْهَلَاك فَقَالُوا لَهُ يَا سَيِّدي انْظُر إِلَى مَا نَحن فِيهِ من الْحَال ادْع الله لنا أَن يفرج عَنَّا فَقَالَ للبحر اسكن بِإِذن الله فسكن من حِينه ووقف الرّيح فَقَالَ للريس سر على بركَة الله تَعَالَى فَقَالَ يَا سَيِّدي كَيفَ أسافر بِلَا ريح فَقَالَ لَهُ سر يَأْتِي الله بِالرِّيحِ فَسَار فأتتهم ريح طيبَة وصلوا فِيهَا إِلَى مقصودهم وَزَالَ عَنْهُم مَا كَانُوا يجدونه من الْخَوْف ببركته وَمِنْهَا أَيْضا مَا أخبر بِهِ السَّيِّد الْمَذْكُور أَنه لما ذهب نفع الله تَعَالَى بِهِ إِلَى زِيَارَة سَيِّدي الشَّيْخ أَحْمد بن علوان بِمَدِينَة يغْرس أَتَى الشَّيْخ خادمه فِي الْمَنَام قبل وُصُول السَّيِّد بليلة وَقَالَ لَهُ فِي غَد يصبح عَلَيْك رجل صفته كَذَا وَكَذَا فأفعل لَهُ ضِيَافَة عَظِيمَة وَبَالغ فِي تَعْظِيمه وَأكْرم نزله ومثواه فَإِنَّهُ من أكَابِر أهل الله فامتثل الْخَادِم أَمر الشَّيْخ وَفعل مَا أمره بِهِ وانتظره فِي الْوَقْت الَّذِي ذكره لَهُ فَلم يجده فَذهب خَارج الْبَلَد لَعَلَّه يجده فَلم ير لَهُ أثرا وَلَا خَبرا فَرجع وَقد أيس من وُصُوله وَدخل مقَام الشَّيْخ فَوَجَدَهُ فِيهِ بِصفتِهِ وَكَانَت الْأَبْوَاب مصكوكة ففتحت لَهُ ومفاتيحها بيد الْخَادِم فَعرفهُ وَقبل يَدَيْهِ وَذكر لَهُ مَا أمره بِهِ الشَّيْخ وَذهب بِهِ إِلَى مَكَان الضِّيَافَة وَبَالغ فِي إكرامه وَمِنْهَا مَا حَكَاهُ السَّيِّد الْمَذْكُور أَنه كَانَ ببندر المخا وَكَانَ رجلَانِ من أَصْحَابه متوجهين إِلَى الْهِنْد فَأتيَا إِلَيْهِ يودعانه ويطلبان مِنْهُ الدُّعَاء فَقَالَ لأَحَدهمَا يحصل لَك مشقة كَبِيرَة فِي الْبَحْر وَلَكِن عَاقبَتهَا سليمَة فَكَانَ كَمَا قَالَ وَقَالَ للْآخر إِذا رَأَيْتنِي فِي الْهِنْد فَلَا تكلمني فَلَمَّا وصل إِلَى الْهِنْد وَتوجه إِلَى دهلي جهان آباد سَرِير السُّلْطَان فَجَلَسَ يَوْمًا على بَاب دَاره فَإِذا أَبَا السَّيِّد مقبل وَعَلِيهِ سلهامة سَوْدَاء فَعرفهُ وَقَالَ لبَعض أَصْحَابه هَذَا السَّيِّد عبد الرَّحْمَن وركض ليقبل يَدَيْهِ فشزره بِعَيْنيهِ فَتذكر كَلَامه فَرجع وأغشى عَلَيْهِ وَحصل لَهُ حَال عَظِيم فَلَمَّا أَفَاق لم يره نفع الله بِهِ وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ خَاتِمَة الْأَوْلِيَاء فِي عصره وَقد تقدم ذكر وِلَادَته وَأما وَفَاته فقد كَانَت نَهَار الْأَرْبَعَاء سَابِع عشر ذِي الْقعدَة سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن
بزاوية السَّيِّد سَالم شَيْخَانِ اشْتَرَاهَا من أَوْلَاده وَأوصى أَن يدْفن فِيهَا رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الرَّحْمَن بن إِسْمَاعِيل الخلي اليمني الْأنْصَارِيّ الشَّافِعِي القحطاني وجيه الدّين وَأحد الْقُضَاة الْعدْل بِالْيمن الميمون ولد بِبَلَدِهِ الجديدة فِي سنة ثَمَان عشرَة بعد الْألف وَبهَا نَشأ وَأخذ عَن أكَابِر الشُّيُوخ بِالْيمن وأجيز بالإفتاء والتدريس وَهُوَ ابْن ثَمَانِي عشرَة سنة وَولي الْقَضَاء الْأَكْبَر بِبَلَدِهِ وَسَار فِيهِ أحسن سيرة ونفذت كَلمته وَأَحْكَامه حَتَّى أَن أَئِمَّة الدّين لَا تنقض حكمه إِذا قضى فِي مسئلة وَلَو كَانَت مُخَالفَة لما هم عَلَيْهِ وَبَالغ النَّاس فِي الثَّنَاء عَلَيْهِ بالتقوى وَالدّين وَزِيَادَة الْعلم والتمكين حَتَّى قَالَ بَعضهم لَيْسَ فِي تهَامَة الْيمن الْآن مثله وَله من شعر الْعلمَاء مَا يقبل فَمن ذَلِك مَا كتبه إِلَى ابْن عَمه الْفَاضِل أَحْمد الخلي فِي صدر رِسَالَة
(سَلام على الْوَلَد الْفَاضِل
…
سليل الْكِرَام الْوَلِيّ الْكَامِل)
(وَمن حبه صَار فِي مهجتي
…
مُقيما بهَا لَيْسَ بالراحل)
(على الْعلم الْفَرد عالي الذرى
…
وَمن مجده لَيْسَ بالزائل)
(هُوَ الْعلم الْمَاجِد المرتضى
…
حَلِيف التقى ذُو الْمقَام الْعلي)
(على أَحْمد خير مولى لقد
…
تسامى بِفضل وفخر جلى)
(فَتى أَحْمد خير أفرانه
…
هُوَ ابْن مُحَمَّد أَبوهُ على)
(فَتى عمر الْخَيْر خليهم
…
وَمن فَضله قطّ لم يجهل)
(أَمَام تسلسل من سادة
…
حووا الْعلم فِي الزَّمن الأوّل)
(وأنصار دين إِلَه الورى
…
وَمن يجهل الْقدر فليسأل)
(وشهرتهم تغنى عَن وَصفهم
…
وَذَا غير خَافَ على الْفَاضِل)
(وَذَا أَحْمد نجلهم قد غَدا
…
كشمس الضُّحَى فاعتمد مقولي)
(وَبعد وصلني الْكتاب الَّذِي
…
لَهُ يشْرَح الصَّدْر للمجتلي)
(قَرَأت لَهُ بعد تقبيله
…
وَوضع على الرَّأْس والكاهل)
(تضمن لفظا عَزِيزًا غَدا
…
كدر يجيد لذات الْحلِيّ)
(وحسناً لَهَا رُتْبَة فِي الملا
…
بقدّ قويم وَوجه جلى)
(هِيَ السؤل يَا سَيِّدي والمنى
…
أدام صفاه إِلَى الموئل)
(وَإِعْرَابه عَن صفا حالكم
…
بِهِ حصل الْقَصْد للآمل)
(وَلَا زلتم فِي الصَّفَا والوفا
…
بِحَق رَسُول الاله الْوَلِيّ)
(وشوقي لكم قد غَدا زَائِدا
…
ووجدي بكم سَيِّدي مذهلي)
(سَأَلت إلهي اللقا عَاجلا
…
بكم قبل سيري للمنزل)
(بِحَق الرَّسُول النَّبِي الْمُجْتَبى
…
مُحَمَّد خير الورى الْأَفْضَل)
(وبالآل والصحب أهل التقى
…
نُجُوم الْهدى السَّادة الكمل)
فَرَاجعه بقوله
(أما آن للموعد الماطل
…
يجود بوصل على السَّائِل)
(جرى مَا كفى بل كفى مَا جرى
…
من المدمع الفائض السَّائِل)
(بروحي من علمتني الْهوى
…
محَاسِن وَجه لَهُ كَامِل)
(وَقد كنت من قبله فَارغًا
…
فَأَصْبَحت فِي شغل شاغل)
(إِلَى الله أَشْكُو غرامي بِهِ
…
ووجدي الَّذِي لَيْسَ بالزائل)
(وتقريح جفن طما مَاؤُهُ
…
فأغنى عَن الْعَارِض الهاطل)
(وشرخ الشَّبَاب الَّذِي لم يزل
…
يمر ويمضي بِلَا طائل)
(وَطول اشتغالي بِمَا لم يفد
…
وَكَثْرَة ممشاي فِي الْبَاطِل)
(فيا نفس لَا تطلبي عَاجلا
…
يَزُول قَرِيبا عَن الآجل)
(وخل الدنا وخيالاتها
…
فَلَيْسَتْ تخيل على عَاقل)
(أَلَيْسَ قصارى مُقيم بهَا
…
رحيل فَمَا الشّغل بالراحل)
(فهيىء لقد طَال نومك فِي البطالة
…
من حظك الخامل)
(فَإِن البطالة قتالة
…
وَمَا نَام فِيهَا سوى جَاهِل)
(فقومي بجد وجدي السرى
…
فَمن جد يلْحق بالواصل)
(وَلَا تتراخي إِلَى قَابل
…
فكم قد مضى لَك من قَابل)
(عَسى نفحة من جناب الْوَجِيه
…
خلنا الْعَالم الْعَامِل)
(نفك عَن العَبْد أغلاله
…
وَتكشف عَن قلبه الغافل)
(وتغسل أدرانه قبل أَن
…
يَمُوت ويعرض للغاسل)
(فيا غيث بريعم الورى
…
وبحر عُلُوم بِلَا سَاحل)
(أَتَانِي كتابك من بعد أَن
…
تَمَادى المطال على الآمل)
(وكدت أقطع حَبل الرجا
…
وأرضى وأقنع بالحاصل)
(فَلَمَّا فضضت ختام الْكتاب
…
سكرت بريحانه الذابل)
(ونزهت طرفِي فِي حسنه
…
وأدهشت من سحره البابلي)
(وأيقنت بِالْفَتْح من سَاعَتِي
…
وَقلت قد انْفَتح الْبَاب لي)
(فشكراً لما خولتني يداك
…
فَمَا ذَاك مِنْك ابتدا نائل)
(فكم مِنْك لاحت عُقُود الثنا
…
قَدِيما على جيدي العاطل)
(وألبستني من فنون المديح
…
بروداً بهَا الزهو قد طَابَ لي)
(وحملتني ممناً جمة
…
وحقك قد أثقلت كاهلي)
(فَلَا زلت يَا نجم بَادِي السنا
…
تلوح لنا لست بالآفل)
وللمترجم غير مَا أوردته لَهُ من الْآثَار وَقد اكتفيت عَنْهَا بِهَذِهِ الْقطعَة المثبتة لشرف الْقَائِل وَكَانَت وَفَاته فِي عَاشر الْمحرم سنة خمس وَتِسْعين وَألف والخلى بِفَتْح الْخَاء الْمُعْجَمَة وَاللَّام الْمُشَدّدَة نِسْبَة إِلَى الْخلّ الْمَعْرُوف نسب إِلَيْهِ لكرامة صدرت من بعض أسلافه بقلب المَاء خلا وَكثير من النَّاس بِكَسْر الْخَاء ويهم فِي ذَلِك وَمَا ذكرته فِي سَبَب النِّسْبَة هُوَ المتلقى عَنْهُم فَلَا عدُول عَنهُ إِلَى أَن تكون النِّسْبَة إِلَى الْخلّ مَوضِع بَين مَكَّة وَالْمَدينَة قرب مرحح وَلَا إِلَى الْخلّ منزل فِي طَرِيق وَاسِط إِلَى مَكَّة قرب لينَة وَلَا إِلَى خلة بِزِيَادَة الْهَاء قَرْيَة بِالْيمن قرب عدن وَبَنُو الخلى قوم صَالِحُونَ يتوارثون الْعلم وموطنهم من الْيمن بَيت مرجل فِيهِ جمَاعَة مِنْهُم ومسكن صَاحب التَّرْجَمَة الحديدة وَهِي بساحل الْبَحْر بِالْقربِ من بَيت الْفَقِيه أَحْمد بن عجيل
عبد الرَّحْمَن بن أويس الْكرْدِي الأَصْل الشَّافِعِي الْمَذْهَب نزيل دمشق الْفَاضِل الْوَرع الْخَيْر قدم إِلَى دمشق وَصَارَ معلما لأَوْلَاد الْوَزير حسن باشا بن سِنَان باشا واستوطن دمشق وَسكن بِالْمَدْرَسَةِ الناصرية وَلما مَاتَ الْحسن البوريني كَانَ مدرساً بهَا فوجهت إِلَيْهِ وَبقيت فِي يَده ثمَّ أخذت عَنهُ وَبعد ذَلِك شطرت بَينه وَبَين شهَاب الدّين الْعِمَادِيّ الْمُقدم ذكره وَحج صَاحب التَّرْجَمَة وسافر إِلَى مصر مرَارًا وَحفظ فِي آخر عمره الْقُرْآن ولازم على تِلَاوَته واشتهر بِالْعلمِ وَالصَّلَاح وَلم يزل بِدِمَشْق إِلَى أَن مَاتَ فِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس
عبد الرَّحْمَن بن حسان الدّين الْمَعْرُوف بحسام زَاده الرُّومِي مفتي الدولة العثمانية وَوَاحِد الدَّهْر الَّذِي باهت بفضله الْأَيَّام وتاهت بمعارفه الْأَزْمَان وَكَانَ عَالما متجراً
كثير الْإِحَاطَة بمواد التَّفْسِير والعربية جم الْفَائِدَة ممدحاً كَبِير الشَّأْن وكل من رَأَيْته من الْفُضَلَاء يغلو فِي تَقْدِيمه وَحفظ محاسنه وَيَقُول إِنَّه لم تخرج الرّوم مثله فِي الْجمع بَين أفانين المعلومات العجيبة والألفاظ المزخرفة وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ أشهر الْمُتَأَخِّرين من عُلَمَاء الرّوم فِي ديار الْعَرَب وأكبرهم شَأْنًا وَسبب شهرته الزَّائِدَة طول تردده إِلَى هَذِه الْبِلَاد وَكَثْرَة مدح شعرائها لَهُ والمغالاة فِي وَصفه وشيوع خَبره بِالْكَرمِ والعطايا الجزيلة وَكَانَ حسن الْخط إِلَى الْغَايَة وَالنَّاس يضْربُونَ بجودة خطه الْمثل لمتانته وَحسن أسلوبه وَكَانَ حسن النادرة كثير اللطائف وَمن لطائفه أَنه سُئِلَ عَن الحَدِيث الصَّدَقَة تدفع الْبلَاء مالمراد بالبلاء فَأجَاب بِمَا قيل فِيهِ ثمَّ قَالَ وَيحْتَمل أَن يكون الْبلَاء هُوَ السَّائِل نَفسه فالصدقة تَدْفَعهُ بِمَعْنى تدفع ثقله وَقد نَشأ على التَّحْصِيل حَتَّى فاق ولازم من الْمولى مُحَمَّد بن سعد الدّين ثمَّ درس بمدارس قسطنطينية وسافر مَعَ أَبِيه من الْبَحْر على طَرِيق مصر إِلَى الْقُدس فِي سنة ثَمَان عشرَة وَألف وَأخذ بهَا الحَدِيث عَن الشَّيْخ مُحَمَّد بن أَحْمد الدجاني وتلقن كلمة التَّوْحِيد فِي ضريح سيدنَا دَاوُد عليه السلام ثمَّ عزل وَالِده عَن الْقُدس وَعوض عَنْهَا بِالْمَدِينَةِ المنورة ثمَّ عَاد فِي خدمَة وَالِده إِلَى وَطنه فولى تفتيش الْأَوْقَاف وباشره أحسن مُبَاشرَة فاشتهر بالعفة حَتَّى نما خَبره إِلَى السُّلْطَان مُرَاد فاتصل بجانبه وَبَلغنِي أَن الْعلَّة فِي تقربه إِلَيْهِ إتقانه للرمي بِالسِّهَامِ وَمِنْه تعلمه السُّلْطَان الْمَذْكُور وأتقنه وَلم يزل مشمولاً بعنايته وَهُوَ يترقى فِي الْمدَارِس إِلَى أَن وصل إِلَى الْمدرسَة السليمانية وَولي مِنْهَا قَضَاء حلب فَقدم إِلَيْهَا وَسيرَته بهَا مَذْكُورَة مَشْهُورَة ولأدبائها فِيهِ مدائح كَثِيرَة وَكَانَ الأديب يُوسُف البديعي الدِّمَشْقِي نزيل حلب إِذْ ذَاك من خواصه وندماء مَجْلِسه وباسمه ألف كِتَابيه ذكرى حبيب وَالصُّبْح المنبي عَن حيثية المتنبي وترجمة بترجمة مُسْتَقلَّة وَذكر أَنه كَانَ بَينه وَبَين النَّجْم الحلفاوي مودّة أكيدة وَلم يتَّفق لَهُ نظم شَيْء من الشّعْر إِلَّا هذَيْن الْبَيْتَيْنِ قالهما فِي حق النَّجْم الْمَذْكُور وهما
(عَلَيْك بِنَجْم الدّين فالزمه إِنَّه
…
سيهدي إِلَى جنس الْعُلُوم بِلَا فصل)
(بِنور اسْمه السَّامِي هدى كل عَارِف
…
أَلا إِنَّه شمس المعارف وَالْفضل)
قَالَ وَلما أنشدهما قلت بديهة مُخَاطبا شَيخنَا الحلفاوي بِقَوْلِي
(كَفاك افتخاراً أَيهَا النَّجْم إِن ذَا المآثر
…
بدر الْمجد شمس ضحى الْعدْل)
(حَلِيف العلى نجل الحسام الْمُهَذّب الَّذِي
…
عزمه مَا زَالَ أمضى من النصل)
(وَمن أشرقت شهباؤنا بِعُلُومِهِ
…
وزحزح عَنْهَا ظلمَة الظُّلم وَالْجهل)
(حباك ببيتي سودد بل بدرّتي
…
فحار على أهل المآثر وَالْفضل)
ثمَّ نقل من قَضَاء حلب إِلَى قَضَاء الشَّام وقدمها فِي منتصف شعْبَان سنة إِحْدَى وَخمسين وَألف وَله فِيهَا مآثر مَا زَالَت تتداولها الشفاه وتتناقلها الروَاة وَلما وردهَا صَحبه البديعي الْمَذْكُور فصيره نَائِبا بالمحكمة العونية وَكَانَ فِي خدمته أَيْضا الأديب الْفَائِق الْمَشْهُور مصطفى بن عُثْمَان الْمَعْرُوف بالبابي وَهُوَ الْقَائِل فِيهِ من قصيدة مستهلها
(هُوَ الشوق حَتَّى يَسْتَوِي الْقرب والبعد
…
وَصدق الوفا حَتَّى كانّ القلى ودّ)
يَقُول من جُمْلَتهَا فِي مدحه
(همام تناجينا مخايل عزمه
…
بأنّ إِلَيْهِ يرجع الْحل وَالْعقد)
(وأنّ على أعتابه تقصر العلى
…
وأنّ إِلَى آرائه يَنْتَهِي الْجد)
(هَمت راحتاه للعدا وعفاته
…
فَمن هَذِه سم وَمن هَذِه شهد)
(من الْقَوْم قد صانوا حمى حوزة العلى
…
طريفاً وصانتهم معاليهم التلد)
(هُنَالك ألْقى رَحْله الْبَأْس والندى
…
وَألقى عَصا التسيار واستوطن الْمجد)
(حديقة فضل لَا يصوّح نبتها
…
ونهر عَطاء مَا لسائله رد)
(ورقة أَخْلَاق يسير بهَا الصِّبَا
…
وبأس لَهُ ترى فرائسها الْأسد)
(قطفنا جنى جدواه جينا وَلم يزل
…
علينا لَهُ ظلّ من السّير ممتد)
(وَغَابَ وَعِنْدِي من أياديه شَاهد
…
وواعجبا من أَيْن لي بعْدهَا عِنْد)
(وآب فلاد ورد البشاشة ناضب
…
لَدَيْهِ وَلَا بَاب المكارم منسد)
(فيا أوبة ذَابَتْ لَهَا كبد النَّوَى
…
لأَنْت برغم الْبعد فِي كَبِدِي برد)
(وَفَاء بِلَا وعد من الدَّهْر حَيْثُ لم
…
يكن قبل قسطنطينة باللقا وعد)
(أروض اللقا وَالله يبقيك أخضراً
…
أبن لي هَل آس نباتك أم ورد)
(هَنِيئًا بالقسطنطينة الرّوم قد قَضَت
…
لبانتها واسترجع المنضل الغمد)
(أرانيه فِيهِ الله والدهر لائذ
…
بأعتابه مَا الْوَفْد يزحمه الْوَفْد)
وَهِي قصيدة لَطِيفَة المسلك وَسَتَأْتِي تَتِمَّة غزلها فِي تَرْجَمَة البابي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَانَت أَيَّام ابْن الحسام بالشأم شامة فِي وَجه الدَّهْر هِيَ مواسم الْأَدَاء وأعياد
الْفُضَلَاء وَمَا اتّفق فِي زَمَنه من نفاق سوق الْأَدَب ورواق سعر الشّعْر لم يتَّفق فِي زمن غَيره من الْقُضَاة وَكَانَ أدباء ذَلِك الْحِين كالشاهيني والأمير المنجكي لَا ينفكون عَن مَجْلِسه إِلَّا نَادرا وَيَقَع بَينهم محاورات ومطارحات وَلَهُم فِيهِ مدائح لَو أفردت بالتدوين لجاءت فِي مجلدة فَمن ذَلِك مَا قَالَه الشاهيني فِيهِ
(يَا سيدا فَوق مَا قَالُوا وَمَا كتبُوا
…
وَفَوق مَا وصفوا دهراً وَمَا نسبوا)
(وَيَا وحيداً رأى الشَّام الشريف بِهِ
…
أَضْعَاف مَا قد رَأَتْ من عدله حلب)
(وَيَا مجيداً وَصفنَا بعض سؤدده
…
وفاتنا مِنْهُ مِقْدَار الَّذِي يجب)
(وَيَا كَرِيمًا رَأينَا من بدائعه
…
مَا قصرت دونه الْأَخْبَار والكتب)
(سعيت نَحْوك شوقاً طَالبا أدباً
…
يَا من لَدَيْهِ يصاب الْعلم وَالْأَدب)
(فصدّني عَنْك حظى والحجاب بِهِ
…
وَلَيْسَ نور ذكاء تمنع الْحجب)
(فَعَاد عَنْك بِطرف مطرق رمد
…
وَقد تذكر بَيْتا صوغه عجب)
(لَيْسَ الْحجاب بمقص عَنْك لي أملاً
…
إنّ السَّمَاء ترجى حِين تحتجب)
(وَاعْلَم بِأَنِّي محب لَا لشائبة
…
وَلَيْسَ من رِيبَة تخشى فتجتنب)
(وإنني بك رَاض فِي معاملتي
…
لأَنْت يَا سَيِّدي قَاض ومحتسب)
(واسلم فإنّ دُعَاء بتّ أرْسلهُ
…
إِلَيْك حَقًا نَظِير الْغَيْث ينسكب)
وللأمير المنجكي فِيهِ من جملَة مدائح مَذْكُورَة فِي ديوانه
(آلى الزَّمَان عَلَيْهِ أَن يواليكا
…
يثني عَلَيْك وَلَا يَأْتِي بشانيكا)
(فَإِن سَطَا فبأحكام تنفذها
…
وَإِن سخا فبفضل من مساعيكا)
(لِيهن ذَا الْعِيد حَظّ مِنْك حِين غَدَتْ
…
علاهُ ثمَّ حلاه من أياديكا)
(مُجملا بأياد مِنْك فائقة
…
معطراً بغوال من غواليكا)
(وافى يهنى بك الدُّنْيَا وَنحن بِهِ
…
يَا بهجة الدّين وَالدُّنْيَا نهنيكا)
(من ذَا يضاهيك فِيمَا حزت من شرف
…
وَمن يدانيك فِي حكم ويحكيكا)
(فالشمس مهما ترقت فَهِيَ قَاصِرَة
…
عَن بعض أيسر شَيْء من مراقيكا)
(والبدر طود تسامى فَهُوَ محتقر
…
إِذا بَدَت وهذي من دراريكا)
(وكل مجد فَمن علياك مكتسب
…
وكل فَخر نرَاهُ من حواشيكا)
(وَمَا حكى السّلف الْمَاضِي وحدّثنا
…
من السجايا بِهِ إِحْدَى الَّتِي فيكا)
(تعنوا لَرَفَعَتْك الزهاد مذعنة
…
ويحسد الْفلك الْأَعْلَى مغانيكا)
(يَا ابْن الحسام الَّذِي للدّين نصرته
…
أَنْت المفدى فَكل النَّاس تفديكا)
(أعيادنا كلهَا يَوْم نرَاك بِهِ
…
وَلَيْلَة الْقدر وَقت من لياليكا)
وَله أَيْضا فِي يَوْم نوروز
(النَّاس كلهم شِرَاء عطائه
…
والعيد والنوروز من آلائه)
(يختال ذَا بالحلي من عليائه
…
شرفا وَذَا بالوشي من نعمائه)
(قرت بِهِ عين الغزالة واعتدت
…
مكحولة فِي أفقها بضيائه)
(مَا أنبت الأدواح بعد ذيولها
…
إِلَّا سُقُوط الطل من أنوائه)
(سلسالها ونسيمها من لطفه
…
وعبيرها من بعض طيب ثنائه)
(مولى أقل هباته الدُّنْيَا فَقل
…
مَا شِئْت فِي معروفه وسخائه)
(عدل لَهُ مَا زَالَ يورق عوده
…
حَتَّى استظل النَّاس فِي أفيائه)
(غيث أغاث بِهِ الْمُهَيْمِن خلقه
…
متفضلا وَقضى لَهُم بِقَضَائِهِ)
(نجل لذِي الأفضال من كفائه
…
وحسام دين الله من أَسْمَائِهِ)
(السعد من خُدَّامه والعز من
…
أَتْبَاعه وَالْمجد من ندمائه)
(تسْعَى المواسم كلهَا الرحابة
…
إِذْ لَا بهاء لَهَا بِغَيْر بهائه)
وَله أَيْضا فِيهِ هَذِه الْقطعَة
(فَضَح الشَّمْس بالضياء بهاؤه
…
بدر عدل أفق السداد سماؤه)
(من لَهُ المكرمات والجود وَالْفضل
…
صِفَات تسمو بهَا أسماؤه)
(الْوَلِيّ الْوَلِيّ من غادر الدَّهْر
…
رياضا تغيثها أنداؤه)
(استمالت قُلُوبنَا واسترقت
…
لذراه رقابنا آلاؤه)
(لوسها عَن ثَنَا علاهُ لِسَان
…
لرأي مج حمله أعضاؤه)
(من يرَاهُ وَلَو بلمحة طرف
…
فسعيد صباحه ومساؤه)
وَأهْدى إِلَيْهِ المنجكي طرفا وَكتب مَعَه هَذِه الأبيات
(يَا من إِذا وهب الدُّنْيَا فيحسبها
…
بخلا وحاشا علاهُ فَهُوَ مفضال)
(أهديك طرفا وَمن نعماك كم أخذت
…
مثلي وَمثل الَّذِي أهديت سُؤال)
(لَكِن عَبدك يخْشَى أَن يُقَال لَهُ
…
لَا خيل عنْدك تهديها وَلَا مَال)
(قبولك الْمِنَّة الْعُظْمَى عَليّ ولي
…
بهَا من الدَّهْر إكرام وإجلال)
ثمَّ عزل عَن قَضَاء دمشق وأنشده النَّجْم الْغَزِّي ارتجالا يَوْم وُصُول خبر عَزله قَوْله
(عزلك يَا ابْن الحسام مَا تمّ
…
وَمن يجي بعد كم فَمَا تمّ)
وسافر إِلَى الرّوم وَأقَام بهَا مدّة معزولا ثمَّ صَار قَاضِي دَار السلطنة وَكَانَ ذَلِك فِي حَيَاة وَالِده وَكَانَ وَالِده معزولا عَن قَضَائهَا فساواه فِي الرُّتْبَة وَهَذَا من أغرب مَا وَقع بَين موَالِي الرّوم وَقد اتّفق لَهُ أَيْضا أَنه لما انْتقل وَالِده بالوفاة فِي صفر سنة أَربع وَخمسين وَألف وَجه إِلَيْهِ مَا بِيَدِهِ من وَظِيفَة وَقَضَاء تأبيدا ثمَّ بعد مُدَّة صَار قَاضِيا بعسكر أناطولي وَذَلِكَ فِي سنة تسع وَخمسين فَقَالَ ابْن عَم وَالِدي الأديب مُحَمَّد بن عبد الْبَاقِي المحبي القَاضِي فِي تَارِيخ تَوليته وَكَانَ أذذاك بقسطنطينة
(لما تولى الْعَالم ابْن الحسام
…
قَاضِي العساكر أوحد الْأَعْلَام)
(صدر الموَالِي الحبر والكثز الَّذِي
…
كَأبي حنيفَة مَا هد الْأَحْكَام)
(فَهُوَ الَّذِي افتخر الزَّمَان بعد لَهُ
…
وبحكمه بالروم غب الشَّام)
(فلذاك عَام السعد قَالَ مؤرخاً
…
بشرى الورى بالعادل ابْن حسام)
ثمَّ صَار قَاضِيا بِولَايَة الرّوم فِي ثَانِي شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف وَلما وَقعت فتْنَة الْوَزير الْأَعْظَم ابشير عزل الْمُفْتِي أَبُو سعيد بن أسعد فصيرا بن الحسام صَاحب التَّرْجَمَة مفتيا مَكَانَهُ وَذَلِكَ فِي رَجَب سنة خمس وَسِتِّينَ ثمَّ عزل فِي عَاشر جُمَادَى الأولى سنة سِتّ وَسِتِّينَ وَأعْطى قَضَاء الْقُدس وَصَارَ مفتيا مَكَانَهُ الْمولى مصطفى الْمَعْرُوف بممك زَاده نصف لَيْلَة وَفِي ثَانِي يَوْم قَامَ الْعَسْكَر فِي الصَّباح وعزلوه وأرسلوه إِلَى حلب وَمَات بهَا ورحل ابْن الحسام من الرّوم فورد دمشق وَأقَام بهَا مُدَّة وَبدل عَن قَضَاء الْقُدس بِقَضَاء طرابلس الشَّام وَأرْسل إِلَيْهَا نَائِبا وَاسْتقر هُوَ بِدِمَشْق وَفِي أَيَّام استقراره هَذَا أَشَارَ إِلَى وَالِدي رَحمَه الله تَعَالَى بِجمع ديوَان الْأَمِير المنجكي فَجمع أَكثر شعره وعنونه باسم ابْن الحسام وَهُوَ المتداول الْآن فِي أَيدي النَّاس وَكَانَ لصَاحب التَّرْجَمَة ولد اسْمه أسعد بَقِي فِي الرّوم وَكَانَ من مدرسي إِحْدَى الْمدَارِس الثمان فورد عَلَيْهِ خبر مَوته وَهُوَ بِدِمَشْق فَحزن لمَوْته حزنا عَظِيما وَكَانَ وَلَده هَذَا من الْفُضَلَاء الْمَشْهُورين والأدباء الْمَذْكُورين وَحكى لي وَالِدي روح الله تَعَالَى روحه قَالَ بَلغنِي أَنه لما مَاتَ رثاه الْفَاضِل مصطفى البابي بقصيدة فائية قَالَ وأنشدتها فَلم يعلق فِي فكري مِنْهَا شَيْء فَبعد إِتْمَامهَا بأيام رَآهُ البابي فِي الْمَنَام فَقَالَ لَهُ مَا فعل الله بك فَأَجَابَهُ بِهَذَا الْبَيْت وَهُوَ من بَحر القصيدة ورويها
(لقد لطف الْمولى بِنَا فأراحنا
…
وأغلب ظَنِّي أَنه بك يلطف)
ثمَّ بعد ذَلِك عزل المترجم عَن قَضَاء طرابلس وَأمر بالتوجه إِلَى مصر وَأعْطى قَضَاء الجيزة فَرَحل من دمشق إل مصر وَأقَام بهَا مُدَّة حَيَاته مُعظما مبجلا وَكَانَ كبراء مصر وعلماؤها يهرعون إِلَيْهِ ويعظمون حَضرته التَّعْظِيم البليغ ويقبلون شَفَاعَته وَكَانَ يدرس فِي بَيته التَّفْسِير فيحضره الْفُضَلَاء المشهورون من فضلاء مصر وَكَانَ كثير الاعتناء بالكشاف دَائِم المطالعة فِيهِ ويحفظ أَكثر أبحاثه عَن ظهر قلب وَبِالْجُمْلَةِ ففضائله وأحواله مِمَّا يطرز بهَا كم الْمجد وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَلَاث بعد الْألف وَتُوفِّي بِمصْر فِي أواسط جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَألف
عبد الرَّحْمَن بن حسن بن شيخ بن حسن بن شيخ بن عَليّ بن شيخ بن عَليّ بن مُحَمَّد مولى الدويلة الشَّيْخ الْجَلِيل الْكَبِير أحد عُلَمَاء الْيمن وكبرائها ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ الْقُرْآن واشتغل بِطَلَب الْعلم واجتهد فِي التصوف وَأخذ عَن عُلَمَاء كثيرين وَصَحب جمَاعَة وواظب على مصاحبة أهل الْخَيْر وَالصَّلَاح وَلزِمَ الطَّرِيقَة الحميدة ورحل إِلَى الْيمن وَأخذ بهَا عَن جمَاعَة وَأقَام فِي بندر المخا وَحصل لَهُ بِهِ قبُول تَامّ وانتشر ذكره وَاسْتمرّ هُنَاكَ إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع عشرَة بعد الْألف
عبد الرَّحْمَن بن زين العابدين بن مُحَمَّد بن أبي الْحسن الْبكْرِيّ الصديقي سبط آل الْحسن القاهري الاستاذ الشهير السَّامِي الْقدر الجم الْفَضَائِل كَانَ من كبار الْعلمَاء وأرباب الْأَحْوَال وَهُوَ الْأَوْسَط من أَوْلَاد الاستاذ الْأَعْظَم زين العابدين وهم أَحْمد وَقد تقدم ذكره وَعبد الرَّحْمَن هَذَا والاستاذ مُحَمَّد وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَقد رَأَيْت لعبد الرَّحْمَن هَذَا تَرْجَمَة بِخَط الْأَخ الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله قَالَ فِيهَا هُوَ شيخ الْمَشَايِخ السَّادة الجلة الْعِظَام وَرَئِيس رُؤَسَاء القادة الفخام يم الْفضل الَّذِي يُفِيد وَيفِيض وجم الْفضل الَّذِي لَا ينضب وَلَا يغيض الْمُحَقق الَّذِي لَا يراع لَهُ يراع والمدقق الَّذِي راق فَضله وراع المفنن فِي جَمِيع الْفُنُون والمفتخر بِهِ الْآبَاء والبنون قَرَأَ على أَخِيه أَحْمد وَبِه تخرج وبرع وتفوق وَأخذ عَن الْعَلامَة جودة الضَّرِير الْمَالِكِي عُلُوم الْعَرَبيَّة وَقَامَ بعد أَخِيه الْمَذْكُور مقَامه فِي التدريس فنشر للفضل حللاً مطرزة الأكمام وماط عَن مباسم أزهار الْعُلُوم لثام الاختتام وَكَانَ ينظم الشّعْر وَمن شعره قَوْله
(بِاللَّه أَي فَتى مثلي بكم فتنا
…
يبكي فيبكى حَماما فِي الدجى شجنا)
(أنفاسه كلهيب الْبَرْق وامضة
…
وَقَلبه برعود الشوق ماسكنا)
(كَأَنَّمَا جفْنه سحب الشتَاء إِذا
…
كانونها بهمير الدمع قد هتنا)
(قد صَار من شغف فِيكُم من أَسف
…
حَلِيف وجد وأشجان بكم وضنى)
(وَأَن يُنَادي مُنَاد كل نَاحيَة
…
من عذب الْحبّ والهجران قلت أَنا)
(وَالله مَا ملت عَنْكُم بعدكم أبدا
…
وَلَا مللت سهاداً أحرم الوسنا)
(وإنني عَابِد الرَّحْمَن منتسب
…
إِلَى صديق نَبِي أوضح السننا)
(أبي هُوَ القطب زين العابدين وَمن
…
فِي سبل أهل الْمَعَالِي اقتفى السننا)
وَكَانَت وَفَاته بِمصْر يَوْم الْخَمِيس خَامِس شهر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف من غير مرض وَدفن يَوْم الْجمع بالقرافة الْكُبْرَى بتربة أسلافه
عبد الرَّحْمَن بن شحاذة الْمَعْرُوف باليمني الشَّافِعِي شيخ الْقُرَّاء وَإِمَام المجودين فِي زَمَانه وفقيه عصره وشهرته تغنى عَن الْأَطْنَاب فِي وَصفه ولد بِمصْر وَبهَا نَشأ وَقَرَأَ بالروايات السَّبع على وَالِده من أول الْقُرْآن إِلَى قَوْله تَعَالَى فَكيف إِذا جِئْنَا من كل أمة بِشَهِيد إِلَى آخر الْآيَة ثمَّ توفّي وَالِده فاستأنف الْقِرَاءَة جمعا للسبعة ثمَّ للعشرة على تلميذ وَالِده الشهَاب أَحْمد بن عبد الْحق السنباطي وَحضر دروس الشَّمْس الرَّمْلِيّ فِي الْفِقْه مُدَّة ولازم بعده النُّور والزيادي وَبِه تخرج وَأخذ عُلُوم الْأَدَب عَن كثيرين حَتَّى بلغ الْغَايَة فِي الْعُلُوم وانتهت إِلَيْهِ رياسة علم القراآت وَكَانَ شَيخا مهاباً عَظِيم الْهَيْئَة حسن الْوَجْه والحلية جليل الْمِقْدَار عِنْد عَامَّة النَّاس وخاصتهم وَكَانَ يقْرَأ فِي كل سنة كتابا من كتب الْفِقْه الْمُعْتَبرَة وَكَانَ النُّور الشبراملسي من ملازمي دروسه الْفِقْهِيَّة وَغَيرهَا وَكَانَ لَا يفتر عَن الثَّنَاء عَلَيْهِ فِي مجالسه وَكَانَ هُوَ شَدِيد الْمحبَّة للشبراملسي وَاتفقَ للشبراملسي أَنه حضر بعض معاصريه فِي شرح التَّلْخِيص للسعد فَبَلغهُ ذَلِك فَقَالَ لَهُ لما أَتَى إِلَى الدَّرْس بَلغنِي أَنَّك تحضر فلَانا وَإنَّك وَالله أفضل مِنْهُ وَحلف عَلَيْهِ بِالطَّلَاق الثَّلَاث أَن لَا يحضر دروسه فِيمَا بعد فامتثل أمره وَكَانَ يتعاطى التِّجَارَة وَله أَمْوَال كَثِيرَة زَائِدَة الْوَصْف وَكَانَ كثير الْبر لطلبة الْعلم والفقراء وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ من أهل الْخَيْر وَالدّين وأكابر أَوْلِيَاء الله تَعَالَى العارفين وَمِمَّنْ قَرَأَ عَلَيْهِ بالروايات الشبراملسي الْمَذْكُور وَالشَّيْخ عبد السَّلَام بن إِبْرَاهِيم اللَّقَّانِيّ وَالشَّيْخ عبد الْبَاقِي الْحَنْبَلِيّ الدِّمَشْقِي وَمُحَمّد البقري وشاهين الأرمناوي وغالب قراء جِهَات الْحجاز وَالشَّام ومصر أخذُوا عَنهُ هَذَا الْعلم وانتفعوا بِهِ وَعم نفعهم ببركته وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة خمس وَسبعين وَتِسْعمِائَة
وَتُوفِّي فَجَاءَهُ لَيْلَة الِاثْنَيْنِ خَامِس عشرى شَوَّال سنة خمسين وَألف
عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن الشَّيْخ عَليّ بن أبي بكر بن السقاف الْحَضْرَمِيّ مفتي الشَّافِعِيَّة بديار حَضرمَوْت الشَّيْخ الْعَالم الْعلم قَاضِي الْقُضَاة ذكره الشلي وَأثْنى عَلَيْهِ وَقَالَ ولد بِمَدِينَة تريم فِي سنة خمس وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة وَحفظ الْقُرْآن والإرشاد والقطر والملحة وَغَيرهَا واشتغل بالتحصيل وَأخذ الْعُلُوم الشهيرة عَن مَشَايِخ كثيرين من أَجلهم الْمُحدث مُحَمَّد بن عَليّ خرد وَالْقَاضِي مُحَمَّد بن حسن بن الشَّيْخ عَليّ وَالشَّيْخ حُسَيْن بن عبد الله بَافضل وارتحل إِلَى الْحَرَمَيْنِ وَأخذ بهما عَن جمَاعَة من المجاورين وبرع فِي التَّفْسِير والْحَدِيث وَالْفِقْه والعربية وَأَجَازَهُ جمَاعَة من مشايخه بالإفتاء والتدريس وَلبس الْخِرْقَة من مشايخه الْمَذْكُورين وَحكمه غير وَاحِد وأذنوا لَهُ فِي الإلباس والتحكيم وَجلسَ للدروس وَأَقْبل عَلَيْهِ الطلاب وانتفع بِهِ خلق كثير وَتخرج بِهِ جمَاعَة مِنْهُم أَوْلَاده والشلّي الْكَبِير وَالِد المؤرخ وَعبد الله بن عمر بن سَالم بَافضل وَمُحَمّد الْخَطِيب القطب ثمَّ ولي الْقَضَاء بتريم فسلك أحسن السلوك وَلم يشْغلهُ الْقَضَاء عَن التدريس والإفتاء وَكَانَ حسن الْعبارَة وَله فَتَاوَى مفيدة قَالَ الشلّي وَهُوَ شيخ مَشَايِخنَا الَّذين عَادَتْ علينا بَرَكَات أنفاسهم واستضأنا من ضِيَاء نبراسهم وَكَانَ مَحْفُوظ الْأَوْقَات مواظباً على قيام اللَّيْل وَالذكر والتلاوة وَجمع من الْكتب النفيسة مَا لم يجمعه أحد من أهل عصره ووقفها على طلبة الْعلم الشريف بِمَدِينَة تريم وَقَالَ الشلي فِي تَارِيخه الْمُرَتّب على السنين تَرْجمهُ تِلْمِيذه شيخ عبد الله فِي السلسلة قَالَ وَكَانَ ذَا سخاء ومروءة وَعلم وفتوة ثمَّ قرب بانتقاله حصلت لَهُ جذبة من جذبات الْحق اندهش بهَا عقله وَأخذ عَن نَفسه فَكَانَ يقوم إِلَى الصَّلَاة بطرِيق الْعَادة وَهُوَ مَأْخُوذ عَن نَفسه وَرُبمَا صلى إِلَى غير الْقبْلَة وَذَلِكَ لما استولى عَلَيْهِ من سُلْطَان الْحَقِيقَة فتلاشت عنديته وَنُودِيَ بِفنَاء الفناء من عَالم الْبَقَاء وَرفعت عَنهُ الْجِهَات لما تحقق بِحَقِيقَة الإبصار وأشرق فِيهِ نور حَضْرَة الْبَهَاء وَشَاهد سره الْمُعظم إِلَّا على حكم سر قَوْله تَعَالَى فأينما توَلّوا فثم وَجه الله وَصَارَت لَهُ جَمِيع الْجِهَات مصلى وَمكث كَذَلِك أشهراً إِلَى أَن مَاتَ قَالَ الشلي وَكَانَت وَفَاته نَهَار الْإِثْنَيْنِ رَابِع عشر شهر رَمَضَان سنة أَربع عشرَة وَألف بِمَدِينَة تريم وَدفن بمقبرة زنيل وَحضر الصَّلَاة عَلَيْهِ جم غفير وَصلى عَلَيْهِ إِمَامًا بِالنَّاسِ الشَّيْخ عبد الله بن شيخ العيدروس
بِوَصِيَّة مِنْهُ بقوله السَّيِّد عبد الله أولى بِي حَيا وَمَيتًا
عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن دَاوُد بن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن عبد الله ابْن عَليّ بن سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن عبد الله بن دعيش بن عيثان بن مُحَمَّد الشّعبِيّ ثمَّ الْخَولَانِيّ ثمَّ الْحرَازِي ذكره ابْن أبي الرِّجَال فِي تَارِيخه وَقَالَ فِي حَقه الْعَلامَة المحدّث الْمُجْتَهد العابد السائح المتأله شيخ الشُّيُوخ وَإِمَام الرسوخ صَاحب الْعِبَادَة والزهادة والسياحة وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَكَانَ لَا يلْحق فِي علم الْكَلَام إِمَامًا فِي الْعَرَبيَّة مُفَسرًا لِلْقُرْآنِ صنف تَفْسِيرا وَكتبه فِي مصحف جمع فِيهِ صناعات الْمَصَاحِف وصيره إِمَامًا يقْتَدى بِهِ واستقصى على مَا فِي الْمُصحف العثماني وَجمع فِيهِ مَا لَا يُوجد بِغَيْرِهِ واصطنع الكاغد بِيَدِهِ ليَكُون طَاهِرا بِالْإِجْمَاع والحبر وخدمه خدمَة فائقة وَهُوَ مرجع قد كتب عَلَيْهِ بعض الْعلمَاء مُصحفا وَأمر الإِمَام بِكِتَابَة مصحف أَيْضا يجمع مَا فِيهِ وَلم أتيقن تَمام ذَلِك وَصَارَ هَذَا الْمُصحف بيد السَّيِّد صفيّ الدّين أَحْمد بن الإِمَام الْقَاسِم استهداه من ابْنة الْعَلامَة الْمَذْكُور فَإِنَّهَا عاشت مدّة مواظبة على الْعِبَادَة وَكَانَ صَاحب التَّرْجَمَة يسيح فِي الْبِلَاد ويمضي فِي مَوَاقِف الْعلمَاء والهجر ويصحح النّسخ ويحشى عَلَيْهَا إِذا مر بخزانة كتب فِي بعض الهجر أَقَامَ حَتَّى يمر عَلَيْهَا ويصحح مَا فِيهَا مَعَ اطِّلَاعه فَكل كتاب قد مر عَلَيْهِ فَهُوَ إِمَام غير مُحْتَاج إِلَى أستاذ وَكَانَ يلبس الخشن وَيحمل مَعَه آلَة النجارة وَيصْلح بهَا أَبْوَاب الْمَسَاجِد وَنَحْوهَا وَلَعَلَّه يسترزق مِنْهَا وَكَانَ فِي الحَدِيث إِمَامًا جَلِيلًا وَكَانَ شَيخنَا الْوَجِيه عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بثنى عَلَيْهِ إِلَّا أَنه زعم أَنه حفظ الْمُتُون حفظا عَظِيما وَلم يطلع على شُرُوح الحَدِيث وَله كتب نافعة من مشهورها رِسَالَة فِي نظر الْأَجْنَبِيَّة وتضعيف الرِّوَايَة عَن الْفُقَهَاء الشَّافِعِيَّة وَالْحَنَفِيَّة بِجَوَاز ذَلِك وَاسْتظْهر بالأدلة وبأقوال الْفَرِيقَيْنِ وَأحسن مَا شَاءَ وَلَا جرم أَن تِلْكَ الرِّوَايَة غلط مِنْهُم وَقد حرّر الإِمَام الْمُؤَيد بِاللَّه مُحَمَّد بن الْقَاسِم سؤالاً إِلَى شيخ الشَّافِعِيَّة مُحَمَّد بن الْخَالِص بن عنقاء فَأَجَابَهُ بِجَوَاب بسيط حَاصله مَا ذَكرْنَاهُ وَإِن لم أطلع عَلَيْهِ لكنه أفادنيه شَيْخي شمس الدّين وَصَاحب التَّرْجَمَة شيخ الإِمَام الْقَاسِم وَشَيخ الْعَلامَة عبد الْهَادِي الحسوسة وَكَانَت وَفَاته فِي ثَالِث عشر شَوَّال سنة ثَلَاث بعد الْألف وقبره بحدبة الرَّوْض وَهُوَ يلتبس برجلَيْن من الحيمة أَحدهمَا القَاضِي الْعَلامَة عبد الرَّحْمَن بن عبد الله الْآتِي ذكره والعلامة الْكَبِير عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد شيخ الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول وَكَانَ حَافِظًا وَإِن لم يكن لَهُ قُوَّة وَإِدْرَاك
فِي النَّقْد والاستنباط وَتعلق بكتب الأشاعرة وَحفظ مِنْهَا كثيرا قَرَأنَا عَلَيْهِ فَهُوَ أحد شُيُوخنَا فِي الْمُنْتَهى والعضد إِلَى الْمَقَاصِد وَفِي كتاب شرح الكافية لنجم الْأَئِمَّة إِلَى التوابع وَالْمُغني إِلَى اللَّام والألفية لِلْحَافِظِ الْعِرَاقِيّ والألفية للسيوطي وَكَانَ وَالِده مُحَمَّد فِيمَا حَكَاهُ سيدنَا سعد الدّين وَالِد القَاضِي أَحْمد من صالحي الْعلمَاء وَمن أهل الْمَوَدَّة لعترة رَسُول الله
قَرَأَ عَلَيْهِ سيدنَا سعد الدّين فِي الْفَرَائِض
عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن عَتيق الْحَضْرَمِيّ الأَصْل الْمَكِّيّ المولد والمنشأ وَزِير الشريف حسن بن أبي نمى صَاحب مَكَّة تزوج وَالِده بنت الشَّيْخ مُحَمَّد جَار الله بن أَمِين الظهيري فَجَاءَت مِنْهُ بِصَاحِب التَّرْجَمَة وأخيه أبي بكر فخدم الشريف حسن ابْن أبي نمى سنة ثَلَاث بعد الْألف وأفهمه النصح فِي الْخدمَة وسحره إِلَى أَن تمكن مِنْهُ غَايَة التَّمَكُّن وَبَقِي حَاله كَمَا قَالَ الشَّاعِر
(أَمرك مَرْدُود إِلَى أمره
…
وَأمره لَيْسَ لَهُ رد)
فتسلط على جَمِيع المملكة وَتصرف فِيهَا كَيفَ شَاءَ وَبَقِي كل من يَمُوت من أهل الْبَلَد أَو من الْحجَّاج يستأصل مَاله بِحَيْثُ لَا يتْرك لوَارِثه شَيْئا فَإِذا تكلم الْوَارِث ظهر لَهُ حجَّة أَن مُوَرِثه كَانَ قد اقْترض مِنْهُ فِي الزَّمن الْفُلَانِيّ كَذَا كَذَا ألف دِينَار وَيَقُول هَذَا الَّذِي أَخَذته دون حَقي وَبَقِي لي كَذَا وَكَذَا وَطَرِيق كِتَابَته لهَذِهِ الْحجَّة وأمثالها أَن كتبة المحكمة تَحت أمره وقهره فيأمرهم بِكِتَابَة الْحجَّة فيكتبونها وَعِنْده أَكثر من مائَة مهر للقضاة والنواب السَّابِقين فيمهرها وَيَأْمُر عبد الرَّحْمَن المحالبي أَن يكْتب إِمْضَاء القَاضِي الَّذِي قد مهر الْحجَّة بمهره وَيكْتب خَاله الشَّيْخ على ابْن جَار الله وَعبد الْقَادِر بن مُحَمَّد بن جَار الله شَهَادَتهمَا وَيكْتب الشَّيْخ عَليّ أَيْضا عَلَيْهَا مَا نَصه تَأَمَّلت هَذِه الْحجَّة فَوَجَدتهَا مسددة وَشهد بذلك مُحَمَّد بن عبد الْمُعْطِي الظهيري وَابْن عَمه صَلَاح الدّين بن أبي السعادات الظميري وَأحمد بن عبد الله الْحَنْبَلِيّ الظهيري وَغَيرهم ثمَّ إِنَّه يظْهر الْحجَّة ويقرؤها بَين النَّاس وجميعهم يعرف أَنَّهَا زور وَلَا أصل لَهَا وَلَا يقدرُونَ أَن يتكلموا بِكَلِمَة وَاحِدَة خوفًا من شَره وَقُوَّة قهره وَاسْتولى بِهَذَا الأسلوب على مَا أَرَادَ كَمَا أَرَادَ وَإِذا شكى إِلَى الشريف حسن يَقُول هَذِه حجَّة شَرْعِيَّة وشهودها مثل هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَة الإجلاء فنفرت قُلُوب النَّاس من ابْن عَتيق وضجوا وضجروا وكل من أمكنه السّفر سَافر وَمَا تَأَخّر إِلَّا الْعَاجِز وَكَانَ
الشريف أَبُو طَالب بن حسن كلما سمع شَيْئا من هَذِه الْأُمُور تألم غَايَة التألم فأوّل مَا اسْتَقل بالشرافة أرسل من الْمَبْعُوث قبل وُصُوله إِلَى مَكَّة رسله بمسك ابْن عَتيق فمسك يَوْم الْجُمُعَة بعد الْعَصْر وَاسْتمرّ فِي الْحَبْس يَوْم السبت والأحد فَلَمَّا وصل الشريف أَبُو طَالب إِلَى مَكَّة وَتَوَلَّى أَمر وَالِده الشريف حسن وَدَفنه استدعى ابْن عَتيق وَسَأَلَهُ عَن أَحْوَاله فَقَالَ قد فعلت جَمِيع ذَلِك ثمَّ ردّه إِلَى الْحَبْس فَفِي لَيْلَة الْإِثْنَيْنِ أَخذ ابْن عَتيق جنبية العَبْد الوصيف المرسم عَلَيْهِ وَهُوَ نَائِم فَاسْتَيْقَظَ العَبْد وخلصها مِنْهُ فَأخْبر سَيّده الشريف أَبَا طَالب بذلك فَأعْطَاهُ جنبية وَقَالَ لَهُ خُذ هَذِه وَقل لَهُ لَا تسرق الجنبية بِاللَّيْلِ وأسرع بإرسالها إِلَى جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير فَأخْبرهُ الوصيف بِمَا قَالَه الشريف فَأَخذهَا مِنْهُ وَأدْخل مِنْهَا فِي بَطْنه نَحْو أصْبع ثمَّ أخرجهَا ثمَّ أَعَادَهَا وَأدْخل مِنْهَا ضعف الأول ثمَّ أدخلها جَمِيعًا ثمَّ أخرجهَا وَقَالَ وامالي وَاسْتمرّ ذَلِك الْيَوْم إِلَى ظهر يَوْم الثُّلَاثَاء ثَانِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة عشر وَألف فَمَاتَ وَكَانَ يتبجح وَيَقُول الشَّرْع مَا نريده وأبطل فِي أَيَّامه عدَّة من الْمسَائِل الشَّرْعِيَّة كالوصايا وَالْعِتْق وَالتَّدْبِير وَبَاعَ أُمَّهَات الْأَوْلَاد بأولادهن وَرمى بِهِ فِي درب جدة فِي حُفْرَة صَغِيرَة بِلَا غسل وَلَا صَلَاة وَلَا كفن ورمت عَلَيْهِ الْعَامَّة الْحِجَارَة وعملت الْفُضَلَاء فِيهِ تواريخ فَمِنْهَا قَول بَعضهم
(أَشْقَى النُّفُوس الباغية
…
ابْن عَتيق الطاغية)
(نَار الْجَحِيم استعوذت
…
مِنْهُ وَقَالَت مَا ليه)
(لما أَتَى تَارِيخه
…
أجب لظى والهاوية)
ذكر ذَلِك عبد الْكَرِيم بن محب الدّين القطبي فِي تَارِيخه الَّذِي ذكر فِيهِ بعض وقائع مَكَّة
عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أَحْمد بن مُحَمَّد كريشه بن عبد الرَّحْمَن بن إِبْرَاهِيم بن عبد الرَّحْمَن السقاف اشْتهر جده الْأَعْلَى بكريشة أحد الْعلمَاء الأجلاء الزَّاهِد العابد الْوَرع ولد بِمَكَّة فِي سنة أَربع عشرَة وَألف وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن واشتغل على خَاله عمر بن عبد الرَّحِيم وتأدب بِهِ وَصَحبه من صغره ولازمه فِي دروسه واقتدى بِهِ فِي أَحْوَاله وَكَانَ يُحِبهُ ويثني عَلَيْهِ وَأَجَازَهُ بمروياته وَأذن لَهُ فِي الْإِفْتَاء والتدريس وَأَرَادَ أَن ينزل لَهُ عَن وَظِيفَة التدريس فَأبى وَقَالَ أَنا رجل مَشْغُول بِالتِّجَارَة وانتفع بِهِ جمَاعَة من أَصْحَابه وَكَانَ لَهُ نفع عَام وَنظر دَقِيق حَرِيصًا على سلوك مسالك أهل السّنة
وَالْجَمَاعَة مواظباً على الْخَيْر مَعَ أدب باهر وَمَات وَهُوَ فِي حد الاكتهال وَكَانَت وَفَاته فِي سنة أَربع وَخمسين وَألف وعمره يَوْمئِذٍ أَرْبَعُونَ سنة وَدفن بالمعلاة بمقبرة بني علوي وقبره مَعْرُوف يزار
عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن صَلَاح بن سُلَيْمَان بن مُحَمَّد بن دَاوُد بن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد ابْن عَليّ القَاضِي الْعَلامَة الْمُفِيد كَانَ فَقِيها عَارِفًا ولي الْقَضَاء بِجِهَة الحيمة من الْيمن للْإِمَام الْمُؤَيد وأخيه الإِمَام المتَوَكل وَكَانَ نبيلاً فَاضلا حسن التِّلَاوَة لِلْقُرْآنِ الْعَظِيم مُؤديا لَهُ تأدية حَسَنَة ويلتقي نسبه وَنسب عبد الرَّحْمَن بن عبد الله شيخ الإِمَام الْقَاسِم فِي دَاوُد بن إِبْرَاهِيم الْمَذْكُور وجدّهما سُلَيْمَان الْمَذْكُور يجمع نسبهم وَنسب فُقَهَاء حصيان وفقهاء العيانة ومشايخ سماة بني النجار وفقهاء الرَّجْم هَكَذَا قَالَه المترجم قَالَ بعض اليمينيين وبنوا النوار فِيمَا أَحسب ينسبون أنفسهم إِلَى غير هَذَا النّسَب وَالله أعلم وَكَانَت وَفَاته فِي نَيف وَسِتِّينَ وَألف وَاخْتَلَطَ فِي آخر عمره
عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن أَحْمد بن عَليّ بن هرون بن حسن بن عَليّ بن الشَّيْخ مُحَمَّد حمل اللَّيْل الإِمَام الْعَالم الفصيح الزَّاهِد النَّاصِر للشريعة الْمُجَاهِد ذكره الشلي وَوَصفه وَصفا بليغاً من جنس هَذَا الْوَصْف ثمَّ قَالَ ولد بتريم وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن ثمَّ اشْتغل بتحصيل الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وفنون الْأَدَب فتفقه على القَاضِي أَحْمد بن حُسَيْن وَالشَّيْخ أَحْمد بن عمر عيديد وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن علوي بافقيه وَأخذ عَن الشَّيْخ عبد الله بن شيخ العيدروس وَولده زين العابدين وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف العيدروس وَأخذ عَن السَّيِّد الْجَلِيل مُحَمَّد الْهَادِي بن شهَاب وأخيه الشَّيْخ أبي بكر ابْن شهَاب وَغَيرهم وَحفظ عدّة متون وعرضها على مشايخه ثمَّ دخل الْهِنْد وَاجْتمعَ بِجَمَاعَة من علمائها وأحبه بعض أمرائها الْكِبَار ثمَّ حج وَعَاد إِلَى تريم وَأخذ عَمَّن بهَا ودرس وَأخذ عَنهُ جمع طَرِيق الْقَوْم ثمَّ عَاد إِلَى الْهِنْد ودرس بهَا وَأخذ عَنهُ جمع كثير ودرس فِي الحَدِيث قَالَ الشلي وَاجْتمعت بِهِ هُنَاكَ ولازمته مُدَّة يسيرَة واستفدت مِنْهُ فَوَائِد غزيرة وَكَانَ مُقيما عِنْد بعض الوزراء ونال مِنْهُ كثيرا من الْأَمْتِعَة ثمَّ ورد إِلَى وَطنه وَأقَام بهَا مُجْتَهدا فِي الطَّاعَة وَطلب للْقَضَاء فَأبى فعاودوه حَتَّى قبله وَمَشى على طَرِيق الْقُضَاة قبله فحمدت أَفعاله وَلم يشْغلهُ الْقَضَاء عَن الإفادة وَالِاجْتِهَاد فِي الْعِبَادَة وَتُوفِّي فِي سنة سبعين وَألف وَقد أناف على السِّتين وَدفن بمقبرة زنبل
عبد الرَّحْمَن بن عبد الْوَهَّاب بن أَحْمد بن عَليّ بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن زوقا بن مُوسَى بن أَحْمد السُّلْطَان بِمَدِينَة تونس فِي عصر الشَّيْخ أبي مَدين بن السُّلْطَان سعيد بن السُّلْطَان فاشين ابْن السُّلْطَان يحيى ابْن السُّلْطَان زوقا الشعراوي وَيُقَال الشعراني أَيْضا الْمصْرِيّ الْأُسْتَاذ الْعَام الصَّالح ابْن الإِمَام الْكَبِير العابد الزَّاهِد صَاحب التآليف الْكَثِيرَة السائرة وَيَنْتَهِي نسبهم إِلَى الإِمَام مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَكَانَ عبد الرَّحْمَن هَذَا لطيف الذَّات حسن الْخلال وَلما مَاتَ وَالِده فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَتِسْعمِائَة قَامَ بعده بزاويته الْمَعْرُوفَة بَين السورين فَقَامَ عَلَيْهِ أَوْلَاد عَمه ومقدمهم الشَّيْخ عبد اللَّطِيف وسلك سَبِيل عَمه وَالِد صَاحب التَّرْجَمَة فِي الْكَرم والبذل والإيثار حَتَّى بملبوسه فضلا عَن طَعَامه وَكَانَ عبد الرَّحْمَن يرْمى بالإمساك فَمَال فُقَرَاء الزاوية عَلَيْهِ مَعَ عبد اللَّطِيف فترافعوا للحكام غير مرّة وَكَاد أَمرهم يتم فَلم يلبث عبد اللَّطِيف أَن مَاتَ وَاسْتقر الْأَمر لصَاحب التَّرْجَمَة فَصَارَ مُعظما عِنْد الْحُكَّام وانتظم أَمر الزاوية لكنه أقبل على جمع المَال ثمَّ ترك الْمدرسَة وتحوّل بعياله فسكن على بركَة الْفِيل وَصَارَ لَا يَأْتِي إِلَى الزاوية إِلَّا يَوْم الْجُمُعَة غَالِبا فتلاشت أحوالها جدا حَتَّى صَار مجْلِس لَيْلَة الْجُمُعَة يجلس فِيهِ نَحْو اثْنَيْنِ أَو ثَلَاثَة أول اللَّيْل ثمَّ يغلب عَلَيْهِم النّوم وَكَانَ فِي زمن وَالِده يصعد المؤذنون من نَحْو نصف اللَّيْل فَيحصل من إيقاظ النيام والاشتغال بِالذكر والتهجد وَالْقِيَام والأنس التَّام مَا يثلج الصُّدُور ويحث على فعل الحبور وَبِالْجُمْلَةِ فبيتهم مبارك لَا يزَال مُتَّصِل المدد وَفِيه الْخَيْر وَالْبركَة وَكَانَت وَفَاة صَاحب التَّرْجَمَة فِي أَوَاخِر سنة إِحْدَى عشرَة بعد الْألف وَدفن بزاوية وَالِده بِبَاب الشعرية والشعراوي تقدّم الْكَلَام عَلَيْهَا فِي تَرْجَمَة قريبَة أبي السُّعُود بن عبد الرَّحِيم الشعراني القَاضِي
عبد الرَّحْمَن بن عقيل بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن عقيل بن أَحْمد بن الشَّيْخ عَليّ اليمني شيخ مَشَايِخ الطَّرِيقَة المربي الْكَامِل مُلْحق الأصاغر بالأكابر قَالَ الشلي فِي تَرْجَمته ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ الْقُرْآن وَطلب الْعلم خُصُوصا التصوف وَأكْثر من قِرَاءَة الْأَحْيَاء والعوارف وَصَحب أكَابِر العارفين وَلبس الْخِرْقَة فَمن مشايخه بتريم السَّيِّد عبد الله بن شيخ العيدروس وَولده زين العابدين وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين والفقيه الإِمَام السَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن عقيل وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل بَافضل ثمَّ فَارق ديار حَضرمَوْت ورحل إِلَى الْيمن وَأخذ عَن الْعَارِف بِاللَّه الْوَلِيّ عبد الله بن
عَليّ وَالسَّيِّد حَاتِم المهدلي وَحج حجَّة الْإِسْلَام وَاجْتمعَ فِي الْحَرَمَيْنِ بِجَمَاعَة ثمَّ دخل بِلَاد الْهِنْد وَأخذ بهَا عَن غير وَاحِد وَقَامَ بخدمته بعض الوزراء ثمَّ عَاد إِلَى الْيمن وَدخل بندر عدن وساح وَأخذ عَن جمَاعَة ثمَّ دخل بندر المخا وَاسْتقر بِهِ وَاجْتمعَ بالشيخ صندل المجذوب وانتفع بِصُحْبَتِهِ وشاع ذكره ثمَّة واجتهد فِي الْعِبَادَة وَنشر الْعلم وَكَانَ آيَة فِي الْفَهم وَالْحِفْظ وَغلب عَلَيْهِ التصوف وَله فِيهِ كَلَام مَقْبُول قَالَ الشلي وَفِي ثَمَان وَخمسين وَألف قدمت عَلَيْهِ وَأخذت عَنهُ وَكَانَ من الطَّائِفَة الَّذين يخفون أَكثر محاسنهم ويبالغون فِي نفي رُؤْيَة المخلوقين وَكَانَ لَهُ غيرَة على الدّين مصمماً فِي الْحق صادعاً بِالشَّرْعِ وَكَانَ لَهُ جاه عَظِيم تَأتيه النذور من كل مَكَان وَاجْتمعَ عِنْده مَال جسيم وَكَانَ لَا يدرى مِمَّن تِلْكَ الأنذار بل كَانَت ترمى فِي نَاحيَة من دَاره وَرُبمَا أكل الصُّوف العث والأرضة وَلم يزل مراقباً لله فِي سره ونجواه إِلَى أَن انْقَضتْ مُدَّة حَيَاته فَتوفي ببندر المخا ثَانِي عشر شهر ربيع الأول سنة تسع وَخمسين وَألف وَدفن بِجنب قبر السَّيِّد مُحَمَّد بن بَرَكَات كريشة وقبره مَعْرُوف يزار
عبد الرَّحْمَن بن علوي بن أَحْمد بن علوي بن مُحَمَّد مولى عيديد يعرف كسلفه ببافقيه الْمُحدث الصُّوفِي الْفَقِيه الإِمَام قَالَ الشلي كَانَ مُقيما بِمَدِينَة حَضرمَوْت ومولده تريم وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن وَأكْثر الْمِنْهَاج واعتنى بالفقه وَأكْثر انتفاعه بالشيخ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَالْقَاضِي عبد الرَّحْمَن بن شهَاب وَأخذ التصوف عَنْهُمَا وَعَن السَّيِّد سَالم بن أبي بكر الْكَاف وَالسَّيِّد الْفَقِيه مُحَمَّد بن الْفَقِيه عَليّ بن عبد الرَّحْمَن وَغَيرهم واجتهد فِي الْفُرُوع الْفِقْهِيَّة وشارك فِي الْأَصْلَيْنِ وَلبس الْخِرْقَة من جمَاعَة وَأَجَازَهُ غير وَاحِد بالإفتاء والتدريس وَكَانَ منعزلاً عَن النَّاس زاهداً فِي الدُّنْيَا مواظباً على الْجَمَاعَة وأنواع الْخَيْر وانتفع بِهِ كثير وَنشر الْعلم بعد اندراسه وَلَزِمتهُ الطّلبَة وَكَانَ متين المناظرة حسن الْعبارَة لطيف الْإِشَارَة قوي الحافظة إِذا قَالَ فِي المسئلة لَا أحفظ فِيهَا شَيْئا لَا تكَاد تُوجد فِي كتب الْأَصْحَاب وَكَانَ لَا يتوسع فِي الْعبارَة بل يقْتَصر على مسئلة الْكتاب وَمن تكلم عَلَيْهَا وَكَانَ مبارك التدريس يحْكى عَن جمَاعَة مِمَّن قرؤوا عَلَيْهِ أَنهم قَالُوا مَا وجدنَا عِنْد اُحْدُ مِمَّن قَرَأنَا عَلَيْهِ مَا وجدنَا عِنْده وغالب عُلَمَاء الْعَصْر أخذُوا عَنهُ قَالَ الشلي وَهُوَ شَيْخي الَّذِي أخذت عَنهُ فِي الْبِدَايَة واشتغلت عَلَيْهِ فِي عُلُوم الدِّرَايَة وَالرِّوَايَة وقرأت عَلَيْهِ كتبا كَثِيرَة وَسمعت مِنْهُ بِقِرَاءَة غَيْرِي الْكثير مِنْهَا التَّفْسِير الْكَبِير وإحياء عُلُوم الدّين بِقِرَاءَة شَيخنَا عمر الهندوان وَكَانَ
لَا يَقُول بالمحاباة فيزيف كَلَام الْغَيْر إِذا لم يرضه وَلَو كَانَ أَبَاهُ وَإِذا خَاضَ فِي عُلُوم الصُّوفِيَّة أَنْكَرُوا وَكَانَ شَدِيد الْإِنْكَار على النَّاس فِيمَا يُخَالف الشَّرْع لَا سِيمَا مَا أجمع على حظره أَو ترجح الْإِنْكَار فِي نظره لَا يقنع فِي أَمر الْحق بِغَيْر إِظْهَاره مطبوعاً على الالتذاذ بِهِ متحملاً للأذى من النَّاس بِسَبَبِهِ يدافع ذَلِك بِيَدِهِ وَلسَانه بِحَسب وَسعه وَإِذا لم يسْتَطع الدّفع تأثر بِهِ شَدِيدا وَرُبمَا أَصَابَته الْحمى وَقد ورد فِي الحَدِيث أَنه
قَالَ يَأْتِي على النَّاس زمَان يذوب قلب الْمُؤمن كَمَا يذوب الْملح قيل يَا رَسُول الله مِم ذَلِك قَالَ مِمَّا يرى من الْمُنكر لَا يَسْتَطِيع تَغْيِيره وَكَانَ لصدقه وَحسن نِيَّته تهابه أَرْبَاب الْفسق ويهربون مِنْهُ وَرُبمَا إِذا أحس بِهِ الصّبيان تركُوا اللّعب هَيْبَة مِنْهُ وَكَانَ فِي جَمِيع أَحْوَاله ملازماً للأدب زاهداً فِي الدُّنْيَا وَعرض عَلَيْهِ قَضَاء بَلْدَة تريم فَلم يقبل وَكَانَ ملازماً للتلاوة وَالِاعْتِكَاف وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ من محَاسِن عصره وتحائف دهره وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة زنبل من جنَّات بشار رحمه الله
عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله الحديلي بن مُحَمَّد بن حسن الطَّوِيل بن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْفَقِيه أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن علوي بن مُحَمَّد صَاحب مرباط عرف كسلفه بباحسن الحديلي صَاحب القاره أحد فضلاء الْيمن الْمَشْهُورين قَالَ الشلي ولد بِمَدِينَة تريم وتفقه بهَا وَأخذ التصوف عَن جمَاعَة وغلبت عَلَيْهِ فنون الْأَدَب فَكَانَ لَا يشار بهَا إِلَّا إِلَيْهِ وَكَانَ جيد البديهة حُلْو النادرة سريع الْجَواب وَهُوَ فِي ذَلِك من الْعَجَائِب وَكَانَ يسْأَل عَن الْمسَائِل المعمية فَيكْتب الْجَواب بِاللَّفْظِ الفصيح والسجع اللَّطِيف قَالَ وَكنت وقفت على بعض أجوبته فِي الصغر وَلم أظفر الْآن بِشَيْء مِنْهَا وَلَا أحفظ الْآن من تِلْكَ الْأَجْوِبَة إِلَّا قَوْله لجَعْفَر الصَّادِق لما قَالَ نصف اسْمِي فِي ثَلَاثَة أَرْبَاعه رَجَعَ وَله رسائل فائقة وأشعار مستعذبة وانتفع بِهِ كثير وَكَانَ لَهُ اعتناء بنظم الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الشَّيْخ عمر بن عبد بامخرمة فَجمع مِنْهُ مجلدات وَكَانَ يُوضح مشكلاته وَيبين مَا دق مِنْهُ وَكَانَ هُوَ وَإِمَام الْعُلُوم السَّيِّد عبد الله بن مُحَمَّد بروم فِي ذَلِك الزَّمَان فرسي رهان فَكَانَا عَيْني ذَلِك الْعَصْر وَأقَام بالقرية الْمُسَمَّاة بالقاره وصدقاته دارّة على الْفُقَرَاء وَكَانَ كثير الْإِحْسَان جم النوال وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن بقرية القارة رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن مُوسَى بن خضر الخياري الشَّافِعِي نزيل الْمَدِينَة المنورة وخطيبها ومحدثها الإِمَام الْكَبِير الْجَلِيل الشَّأْن الْمَشْهُور فِي الْآفَاق أَخذ بِمصْر عَن الجلة من الْمَشَايِخ وشيوخه كَثِيرُونَ مِنْهُم النُّور الزيَادي وَهُوَ أَجلهم وَمِنْهُم أَبُو بكر الشنواني وَأحمد الغنيمي وَالشَّيْخ مُحَمَّد الخفاجي وَمن فِي طبقتهم من عُلَمَاء ذَلِك الْعَصْر وأجازوه وشهدوا لَهُ بِالْفَضْلِ وتصدر للإقراء بِجَامِع الْأَزْهَر ولازمه جمع من أكَابِر الشُّيُوخ وَأخذُوا عَنهُ الْعلم مِنْهُم النُّور الشبراملسي وَكَانَ يثني عَلَيْهِ كثيرا ويطرز درسه بِذكرِهِ وَيُشِير إِلَى جلالة قدره وَكَانَ هُوَ وَالشَّيْخ عَليّ الْحلَبِي صَاحب السِّيرَة كفرسي رهان وفارسي ميدان وَكَانَا إِذا مرا فِي الْأَزْهَر يُقَال أقبل السعد وَالسَّيِّد ثمَّ هَاجر إِلَى الْمَدِينَة المنورة وسكنها بِإِذن من النَّبِي
حكى ذَلِك الشهَاب البشبيشي وَكَانَ وُصُوله إِلَيْهَا فِي أواسط الْمحرم سنة تسع وَعشْرين وَألف وانتفع بِهِ أَهلهَا للأخذ عَنهُ والتلقي مِنْهُ وَكَانَ لَهُ يَد طولى فِي جَمِيع الْفُنُون مَعَ السكينَة وَالْوَقار وَيُقَال إِنَّه كَانَ يرى رَسُول الله
عيَانًا وَاتفقَ لَهُ أَن ختم كتابا فِي الحَدِيث وَشرع فِي الدُّعَاء ثمَّ وقف منتصباً رَافعا يَدَيْهِ كالمؤمّن على الدُّعَاء فَقَامَ أهل الدَّرْس من طلبة وَغَيرهم ثمَّ طَال وُقُوفه بِحَيْثُ أَن بَعضهم تَعب من الْوُقُوف وَذهب وَبَقِي الواقفون متعجبون مِنْهُ وَهُوَ مطرق وَكَأَنَّهُ فِي غير شُعُور فَبعد خَتمه الدُّعَاء قَالَ لَهُ بعض أخصائه من تلامذته مَا هَذَا الْوُقُوف يَا سَيِّدي فَإِنَّهُ لم يعْهَد لَك مثله فَقَالَ وَالله مَا وقفت إِلَّا وَقد رَأَيْت رَسُول الله
وَاقِفًا يَدْعُو لنا فاستمريت منتظراً حَتَّى فرغ من دُعَائِهِ وَهَذِه من كراماته وَذكره الخفاجي فِي كِتَابه الخبايا فَقَالَ فِي وَصفه دوحة الزَّمَان بسام طليق وَعوده بُسْتَان وريق فَاضل جمع الْفضل فَهُوَ مُنْتَهى الجموع وكامل كَمَاله كثمار الْجنَّة غير مَقْطُوع وَلَا مَمْنُوع شَقِيق روحي وصديقها وَرَيْحَان مسرتي وشقيقها
(وَنَفس بأعقاب الْأُمُور بَصِيرَة
…
لَهَا من طباع الْغَيْب حاد وقائد)
يلوح من بشره نور الْفَلاح وَمن سكينته وقار الصّلاح كأنّ الله جمع لَهُ المناقب فَاخْتَارَ مِنْهَا وانتقى وَرَأى أَن أحْسنهَا وَأَكْرمهَا التقى لَهُ فِي الْفُنُون يَد بَيْضَاء وَفِي الْأَدَب سجية سَمْحَة خضراء وَلما علم أَن الله أوصى بالجار رَحل لطيبة الطّيبَة وَسكن فِي جوَار النَّبِي الْمُخْتَار فَدخل رَوْضَة من رياض الْجنَّة فِي جناته وَإِذا أنعم الله بِنِعْمَة على عَبده فِي حَيَاته لَا يسلبها إِلَّا بعد مماته فَكتبت لَهُ متشوقاً للقائه
وملتمساً لصالح دُعَائِهِ
(يَا نسيماً من نَحْو طيبَة ساري
…
مهدياً عطر رندها والعرار)
(من رَبًّا نشره بعنبر شحر
…
فِي حَشا جونة الْفَتى الْعَطَّار)
(خُذ فُؤَادِي فَذَاك مجمر شوق
…
وغرامي بمضمر الوجد دَاري)
(موقد فِيهِ عنبر من مديحي
…
لحبيب الْمُهَيْمِن الْمُخْتَار)
(لمقام بِمُقْتَضَاهُ بليغ
…
لَا يُوفى بلاغة الْأَسْرَار)
(وَلمن فِي ذراه من كل جَار
…
حَاز خفضاً لعيشه بالجوار)
(فهم خزرجي وأوسي وَإِن لم
…
يسعف الدَّهْر بالمنى أَنْصَارِي)
(سِيمَا صنوى الشَّقِيق وروحي
…
وَهُوَ عبد الرَّحْمَن حامي الذمار)
(قد تملى بروضة حَاز فِيهَا
…
مثمر السعد مظهر الْأَنْوَار)
(بَاعَ دنيا دنت بِأُخْرَى تسامت
…
فغدا فِي بَيْعه بِالْخِيَارِ)
(فعساه يمنّ لي بِدُعَاء
…
مستجاب فِي ليله وَالنَّهَار)
(ليحوز الشهَاب أعظم سؤل
…
وأمان من مطلع الْأَنْوَار)
(وَصَلَاة الْإِلَه فِي كل حِين
…
لَك تهدى يَا سيد الْأَبْرَار)
فَأَجَابَهُ بقوله
(بعد اهدا أَسْنَى السَّلَام الساري
…
من رَبًّا طيبه مقَام الْخِيَار)
(فائقاً طيبه شذا كل مسك
…
فاتقاً نوره دجى الأسحار)
(لحبيب فِي الله خل وفيّ
…
طيب الأَصْل ذِي الثَّنَاء الساري)
(أَحْمد الْفِعْل والشهاب المرجى
…
كاشف المشكلات كنز الفخار)
(دَامَ فِي نعْمَة وَعز ولطف
…
من إِلَه الورى الْكَرِيم الْبَارِي)
(محيياً سنة الألى سَبَقُوهُ
…
بِاتِّبَاع الألى وَحسن الْوَقار)
(وَصَلَاة مَعَ السَّلَام دواماً
…
للنبيّ الممجد الْمُخْتَار)
(ولآل وَصَحبه مَا اضمحلت
…
ظلم الظُّلم لاجتلا الْأَنْوَار)
وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ من خِيَار الْخِيَار وَكَانَت وَفَاته فِي الْيَوْم الثَّانِي وَالْعِشْرين من شهر ربيع الثَّانِي سنة سِتّ وَخمسين وَألف وَدفن ببقيع الْغَرْقَد وَقَالَ وَلَده شَيخنَا الإِمَام الْعَالم إِبْرَاهِيم فِي تَارِيخ مَوته
(إِذا مَا قيل لي فِي أيّ عَام
…
وَفَاة الحبر والدك الخيارى)
(أَقُول وَقد تدرعت اصطباراً
…
نؤرخه أحلّ بِخَير دَار)
عبد الرَّحْمَن بن عِيسَى بن مرشد أَبُو الوجاهة الْعمريّ الْمَعْرُوف بالمرشدي الْحَنَفِيّ مفتي الْحرم الْمَكِّيّ وعالم قطر الْحجاز وأوحد أَهله فِي الْفضل والمعرفة وَالْأَدب وَهُوَ من بَيت الْعلم وَالْفضل والديانة ذكر السخاوي فِي الضَّوْء اللامع والتقي التَّمِيمِي فِي طَبَقَات الْحَنَفِيَّة جمَاعَة من آل بَيته وَكَانَ هُوَ من كبار الْعلمَاء الأجلاء انْعَقَدت عَلَيْهِ صدارة الْحجاز نَشأ بِمَكَّة وَحفظ الْقُرْآن وَصلى بِهِ التَّرَاوِيح إِمَامًا فِي الْمَسْجِد الْحَرَام وَحفظ الألفية وَالْأَرْبَعِينَ للنووي وكنز الدقائق إِلَّا الْقَلِيل مِنْهُ والجزرية وَغَيرهَا وَشرع فِي الِاشْتِغَال من سنة تسع وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة فلازم الشَّيْخ عبد الرَّحِيم بن حسان وَأخذ عَن الشَّيْخ عَليّ بن جَار الله بن ظهيرة والمنلا عبد الله الْكرْدِي وَالسَّيِّد غضنفر وَالشَّيْخ عبد السَّلَام وَزِير السلار وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن عَليّ الركروك الجزائري وروى الحَدِيث عَن الشَّمْس الرَّمْلِيّ وَعَن الشَّيْخ المعمر المنلا حميد السندي وَالشَّيْخ أَحْمد الشربيني وَالشَّمْس النحراوي وَأخذ القراآت عَن الملا عَليّ الْقَارِي الْهَرَوِيّ وَولي تدريس مدرسة المرحوم مُحَمَّد باشا فِي حُدُود سنة تسع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة فدرس بهَا صَحِيح البُخَارِيّ وأملى عَلَيْهِ شرحاً بلغ فِيهِ إِلَى بَاب رفع الْعلم وَظُهُور الْجَهْل فعزل عَنْهَا ووليها مدرسها الأول ونظم منظومة فِي علم التصريف عدّتها خَمْسمِائَة بَيت من بَحر الرجز سَمَّاهَا ترصيف التصريف وَشَرحهَا شرحاً نفيساً سَمَّاهُ فتح اللَّطِيف وَشرح كتاب الْكَافِي فِي علمي الْعرُوض والقوافي سَمَّاهُ الوافي فِي شرح الْكَافِي وَألف رِسَالَة بديعة سَمَّاهَا براعة الاستهلال فِيمَا يتَعَلَّق بالشهر والهلال ونظم رِسَالَة مُتَعَلقَة بمنازل الْقَمَر موسومة بمناهل السمر وَشَرحهَا شرحاً لطيفاً وَألف رِسَالَة تتَعَلَّق بتفسير آيَة الْكُرْسِيّ معنونة بِالْفَتْح الْقُدسِي وَكتب قِطْعَة على الخزرجية فِي علم الْعرُوض وَولي التدريس بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام فِي سنة خمس وَألف وَشرع فِي كِتَابَة شرح الْكَنْز فِي سنة ثَمَان وَسُئِلَ عَن عبارَة وَقعت فِي تَفْسِير آخر سُورَة الْمَائِدَة من تَفْسِير الجلالين فَكتب عَلَيْهَا رِسَالَة موسومة بتعميم الْفَائِدَة بتتميم سُورَة الْمَائِدَة وتعاطى الْفَتْوَى على مَذْهَب أبي حنيفَة عَام وَفَاة شَيْخه القَاضِي عَليّ بن جَار الله وَهُوَ سنة اثْنَتَيْ عشرَة وَألف وباشر ذَلِك وَشَيْخه فِي قيد الْحَيَاة استفتى فِي مسئلة فِي الْوَقْف فَأفْتى فِيهَا بِمَا هُوَ الْمُخْتَار للْفَتْوَى فِيهِ وَهُوَ قَول أبي يُوسُف من أَن الْوَقْف يتم بِمُجَرَّد التَّلَفُّظ بِهِ كَغَيْرِهِ من الْعُقُود من
غير حَاجَة إِلَى حكم حَاكم أَو تَسْلِيم إِلَى متول وبدخول أَوْلَاد الْبَنَات فِي الْوَقْف على الذُّرِّيَّة فخالفه فِي ذَلِك بعض الْقُضَاة فألف رِسَالَة فِي ذَلِك سَمَّاهَا وقف الْهمام الْمنصف عِنْد قَول الإِمَام أبي يُوسُف وأرسلها إِلَى مصر فأيده علماؤها وَكَتَبُوا على جَوَابه وصوبوه وخطؤوا قَول الْمُخَالف لَهُ فِي ذَلِك وَكَانَ ذَلِك فِي سنة ثَمَان عشرَة وَألف وَشرح عُقُود الجمان فِي الْمعَانِي للأسيوطي شرحاً حافلاً مزج فِيهِ عبارَة النّظم فِي الشَّرْح فاق على شرح مؤلفها بِكَثِير وَجرى فِي مجْلِس قَاضِي مَكَّة ذكر المسئلة الَّتِي ذكرهَا قَاضِي خَان فِي فَتَاوِيهِ وَهِي مَا لَو قَالَ قَائِل إِن كَانَ الله يعذب الْمُشْركين فامرأتي طَالِق قَالُوا إِنَّهَا لَا تطلق فألف فِيهَا رِسَالَة سَمَّاهَا الْجَواب المكين عَن مسئلة إِن كَانَ يعذب الْمُشْركين وَولي إِمَامَة الْمَسْجِد الْحَرَام وخطابته والإفتاء السلطاني فِي سنة عشْرين وَألف فباشر جَمِيع ذَلِك وَكَانَت مُبَاشَرَته للْإِمَامَة فِي يَوْم الْإِثْنَيْنِ سادس الْمحرم من السّنة الْمَذْكُورَة وَوَافَقَ ذَلِك الْيَوْم النوروز السلطاني وَكَانَ أوّل فرض صَلَاة بمقام الْحَنَفِيَّة ظهر الْيَوْم الْمَذْكُور اقْتِدَاء برَسُول الله
حَيْثُ كَانَ أول صَلَاة صلاهَا بعد الافتراض هِيَ الظّهْر وباشر الخطابة فِي السَّابِع عشر من الشَّهْر الْمَذْكُور وَمَشى الْأَعْيَان بَين يَدَيْهِ ذَهَابًا وإياباً وأفاض عَلَيْهِ سُلْطَان مَكَّة حِينَئِذٍ وَهُوَ الشريف إِدْرِيس تَشْرِيفًا سلطانياً بعد فَرَاغه من الْخطْبَة وَالصَّلَاة ووردت إِلَيْهِ فِي آخر سنة ثَلَاث وَعشْرين وَألف الخلعة السُّلْطَانِيَّة المحمولة لمفتي مَكَّة فِي كل عَام صُحْبَة أَمِير الركب الْمصْرِيّ فلبسها من الْمحل الْمُعْتَاد الَّذِي يلبس مِنْهُ شرِيف مَكَّة وَكَانَ ذَلِك بعد انقطاعها نَحوا من خمس سِنِين بِمُوجب حكم سلطاني ورد إِلَى صَاحب مصر يتَضَمَّن الْأَمر بتجهيزها على الأسلوب السَّابِق وإفاضتها عَلَيْهِ وَكَانَ ذَلِك يَوْم الْأَرْبَعَاء السَّابِع من ذِي الْحجَّة من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ تولى تدريس الْمدرسَة السليمانية الْحَنَفِيَّة الَّتِي أَنْشَأَهَا المرحوم السُّلْطَان سُلَيْمَان جوَار الْمَسْجِد الْحَرَام برسم عُلَمَاء الْمذَاهب الْأَرْبَعَة وَكَانَت هَذِه الْمدرسَة أسست برسم الْحَنَفِيَّة وَكَانَ أوّل من وَليهَا مِنْهُم ودرس بهَا مفتي مَكَّة القطب الْمَكِّيّ النهرواني الْحَنَفِيّ ثمَّ وَليهَا بعد وَفَاته خير الدّين الرُّومِي الْحَنَفِيّ ثمَّ قررها بعده شرِيف مَكَّة الشريف حسن للقضاي عَليّ بن جَار الله الْحَنَفِيّ ثمَّ ورد فِيهَا مصلح الدّين الرُّومِي الْحَنَفِيّ ثمَّ بعد وَفَاته فِي أَوَاخِر سنة ثَلَاث عشرَة وَألف تقرّر فِيهَا القَاضِي يحيى بن أبي السعادات ابْن ظهيرة خطيب مَكَّة وغفل عَن كَونهَا مَشْرُوطَة للحنفية فَعِنْدَ وَفَاته فِي خَامِس
رَجَب سنة سبع وَعشْرين وَألف أَعَادَهَا الله لأصلها فقرّرها شرِيف مَكَّة الشريف إِدْرِيس لصَاحب التَّرْجَمَة وَذَلِكَ فِي سَابِع عشر رَجَب من السّنة الْمَذْكُورَة وباشر الدَّرْس فِيهَا سادس شعْبَان مِنْهَا وافتتح الدَّرْس فِي تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ من قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا كتب عَلَيْكُم الصّيام كَمَا كتب على الَّذين من قبلكُمْ} وَحضر مَجْلِسه فِيهَا يَوْمئِذٍ جَمِيع الْعلمَاء والأعيان وَكَانَ يَوْمًا مشهوداً وَورد إِلَيْهِ فِي غرَّة ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَألف تَفْوِيض النّظر فِي قَضَاء مَكَّة وأعمالها من لدن قاضيها يَوْمئِذٍ الْمولى رضوَان بن عُثْمَان الْمُنْفَصِل عَن قَضَاء مصر لتخلفه عَن الْوُصُول إِلَى مَكَّة ففوض إِلَى صَاحب التَّرْجَمَة النّظر فِي ذَلِك فباشره وَأقَام أَخَاهُ القَاضِي أَحْمد نَائِبا بِمَكَّة ووقف بالحجيج تِلْكَ السّنة وَوَافَقَ يَوْم عَرَفَة يَوْم الْجُمُعَة وَكَانَ هُوَ خطيب التَّرويَة أَيْضا فِي تِلْكَ السّنة وخطيب الْجُمُعَة فِي شهر ذِي الْحجَّة وَكَانَ اتّفق لَهُ نَظِير ذَلِك فِي سنة عشْرين وَألف حِين تولى قَضَاء مَكَّة الْمولى صَالح بن الْمولى سعد الدّين إِلَّا أَنه لم يتَّفق لَهُ فِي ذَلِك الْعَام الْوُقُوف بالحجاج لانفصاله عَن النّظر فِي الْقَضَاء بالمولى أَحْمد الإياشي وَمِمَّا اتّفق لَهُ فِي هَذِه الْولَايَة الثَّانِيَة أَنه ورد من ابْن سُلْطَان الْهِنْد خرم شاه بن سليم شاه بن جلال الدّين الْأَكْبَر صَدَقَة إِلَى فُقَرَاء مَكَّة وَالْمَدينَة فأنيط توزيعها بنظره فوزعها بَين الْأَعْيَان والفقراء ذُكُورا وإناثاً واستوعبهم استيعاباً شَامِلًا وخطب بِمَسْجِد نمرة بِعَرَفَة وَالْحَاصِل أَنه لَقِي من سمو الشَّأْن وعلو الرُّتْبَة مَا لم يلقه أحد من معاصريه بالحجاز وَقد ذكره جمَاعَة من المؤرخين والمنشئين فَمِمَّنْ ذكره الْحسن البوريني وَأثْنى عَلَيْهِ ثَنَاء عَظِيما قَالَ وَاجْتمعت بِهِ فِي مَكَّة واختبرته فَرَأَيْت عربيته متينة وحركته فِي فهم الْعبارَات جَيِّدَة وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ الْآن عين مَكَّة وعالمها وَإِلَيْهِ يرجع عاميها وحاكمها انْتهى وَرَأَيْت فِي بعض المجاميع مَنْقُولًا من خطّ أبي الْعَبَّاس المقرى قَالَ ذكر الشَّيْخ أَبُو الْمَوَاهِب الْبكْرِيّ أَنه تمثل للشَّيْخ عبد الرَّحْمَن المرشدي الْمَذْكُور بِهَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ فِي أثْنَاء مكالمة وهما
(عرضنَا أَنْفُسنَا عزت علينا
…
عَلَيْكُم فاستخف بهَا الهوان)
(وَلَو أَنا حفظناها لعزت
…
وَلَكِن كل معروض يهان)
قَالَ فَأَجَابَنِي
(نفوسكم وحقكم لدينا
…
نفيسات تعز وَلَا تهان)
(وَتلك جَوَاهِر فلأجل هَذَا
…
غَدَتْ معروضة بقيت تصان)
وَقد وقفت لَهُ على قصيدة عَجِيبَة فِي بَابهَا مدح بهَا الشريف حسن وَابْنه أَبَا طَالب مهنئاً لَهما بظفر الثَّانِي مِنْهُمَا بِأَهْل شمر وَهُوَ جبل بِنَجْد وَهِي
(نقع العجاج لَدَى هياج العثير
…
أذكى لدينا من دُخان العنبر)
(وصليل تَجْرِيد الحسام ووقعه
…
فِي الْهَام أشدى نَغمَة من جؤذر)
(وسنا الأسنة لامعاً فِي قسطل
…
أَسْنَى وأسمى من محيا مُسْفِر)
(وتسربل فِي سابغات مزرد
…
أبهى علينا من قبَاء عبقري)
(وتتوج بقوانس مصقولة
…
أزهى علينا من سدوس أَخْضَر)
(وكذاك صهوة سابح ومطهم
…
أشهى إِلَيْنَا من أريكة أحور)
(ولقا الكمى مدرعاً فِي مغفر
…
كلقا الغرير بمقنع وبمخمر)
(ألفت أسنتنا الْوُرُود بمنهل
…
علقت بِهِ علق النجيع الْأَحْمَر)
(وسيوفنا هجرت جوَار غمودها
…
شوقاً لهامة كل أصيد أصعر)
(فتخالها لما تجرد عِنْدَمَا
…
هام القتام بوارقاً بكنهور)
(وصهيل جرد الْخَيل خيل كَأَنَّهُ
…
رعد يزمجر فِي الجدى المتعنجر)
(وَدم العدى متقاطراً متدفقاً
…
كالوبل كالسيل الجراف الْجور)
(ورؤوسهم تجْرِي بِهِ كجنادل
…
قذفت بِهِ موج السُّيُول الهمر)
(غشيتهم فِي الْعَام منا فرقة
…
تركت فريقهم كسبسب مقفر)
(أودتهم قتلا وأجلتهم إِلَى
…
أَن حطم الْهِنْدِيّ ظهر الْمُدبر)
(تركت صحاراهم مَوَائِد ضمنت
…
أشلاء كل مسود وغضنفر)
(ودعت ضيوف الْوَحْش تقريها بِمَا
…
أفنى المهند والوشيج السمهري)
(فأجابها من كل غيل زمرة
…
تحدو منار عملس أَو قسور)
(وأظلها ظلل نشاص سحابها المركوم
…
أَجْنِحَة البزاة الأنسر)
(فبراثن الآساد تضنب فِي الكلى
…
ومخالب العقبان تنشب فِي المرى)
(شكرت صَنِيع المشرفية والقنا
…
إِذْ لم تضفها الهبر غير مهبر)
(فغدت قُبُورهم بطُون الْوَحْش مِنْهَا
…
يبعثون إِذا دعوا للمحشر)
(وخلت دِيَارهمْ وَأقوى ربعهم
…
وسرى السرى مشمراً عَن شمر)
(أنفت من استقصاء قتل شريدهم
…
كَيْمَا يخبر قَائِلا من مخبري)
(فثنت أَعِنَّة خَيْلنَا أجيادها
…
عَن قتل كل مزند وخزور)
(حَتَّى إِذا حَان القطاف ليانع
…
من أرؤس تركت وَلما تؤبر)
(عصفت بهَا ريب الْمنون فألقحت
…
وتحركت بزعازع من صَرْصَر)
(فدعَتْ سراة كماتنا لقطافها
…
بأنامل الْقصب الْأَصَم الأسمر)
(فتجهزت لحصادها فِي فيلق
…
لَو يسبحون بزاخر لم يزخر)
(مَلأ تتوق إِلَى الكفاح نُفُوسهم
…
توقانها اللقا الرداح المعصر)
(يغشون أبطال الْوَطِيس بواسما
…
كالليث أَن يلق الفريسة يكثر)
(وتخالهم فَوق الْجِيَاد لوابسا
…
سداً يموج من الْحَرِير الْأَخْضَر)
(فَإِذا هم ازدحموا بجزع وانثنوا
…
أورى زناد دروعهم نَارا ترى)
(جَيش طلائعه الأوابد إِن تصخ
…
لَو جيبه من قيد شهر تنفر)
(يقتاده الْملك المشيخ كَأَنَّهُ
…
بَين العوالي ضيغم فِي مزأر)
(ملك تدرع بالبسالة فاغتنى
…
يَوْم الوغى عَن سابغ وسنور)
(ملك تتوج بالمهابة فَاكْتفى
…
عِنْد الطعان لقرنه ععن مغفر)
(ملك تذكرنا مواقع حَده
…
فِي الْهَام وقْعَة جده فِي خَيْبَر)
(ملك إِذا مَا جال يَوْم كريهة
…
لم تلق غير مجدل ومعفر)
(ملك يُجهز من جحافل رَأْيه
…
قبل الوقيعة جحفلاً لم ينظر)
(ملك تُسنم ذرْوَة الْمجد الَّتِي
…
من دونهَا المريخ بل وَالْمُشْتَرِي)
(ملك نداه الْبَحْر إِلَّا أَنه
…
عذب أَهَذا الْبَحْر نهر الْكَوْثَر)
(ملك إِذا مَا جاد حدث مُسْندًا
…
عَن جوده جود الْغَمَام الممطر)
(الْأَشْرَف الشهم الَّذِي خضعت لَهُ
…
شم الأنوف وكل حججاج سرى)
(الْأَفْضَل السَّنَد الَّذِي أَوْصَافه
…
أنست سما الوضاح وَابْن الْمُنْذر)
(الأكرم المفضال من إحسانه
…
أربى على كسْرَى الْمُلُوك وَقَيْصَر)
(ذُو الهمة الْعليا الَّذِي قد نَالَ مَا
…
عَنهُ تقصر همة الاسكندر)
(شرفاً تَقَاعَسَتْ الْكَوَاكِب دونه
…
لَو لم تمد بنوره لم تزهر)
(هبها بمنطقة البروج مقرها
…
أمنا هز هَذَا بنوة حيدر)
(كلا فَكيف بِمن حواها جَامعا
…
نسبا سما بابوة المدثر)
(أعظم بهَا من نِسْبَة نبوية
…
علوِيَّة تنمي لأصل أطهر)
(قد شَرقَتْ بَدَأَ بأشرف مُرْسل
…
وَنِهَايَة بالسيد الْحسن السّري)
(فَخر الْخَلَائق درة التَّاج الَّذِي
…
بسواه هام ذَوي العلى لم يفخر)
(بشر وَلَكِن فِي صِفَات ملائك
…
جليت لنا أخلاقه فاستبصر)
(لم تلقه يومي وغى وعطا سوى
…
طلق الْمحيا فِي حلى المستبشر)
(يلقى العفاة وَقد تلألأ وَجهه
…
بسنا السرُور وَذَاكَ أَنْضَرُ منظر)
(يعْفُو عَن الذَّنب الْعَظِيم مجازياً
…
جازيه بِالْحُسْنَى كَأَن لم يؤزر)
(يَا سيد السادات دُونك مِدْحَة
…
نفحت بعرف من ثناك معطر)
(قد فصلت بلآلىء الْمَدْح الَّتِي
…
يقف ابْن أَوْس دونهَا والبحتري)
(وافتك ترفل فِي برود بلاغة
…
وبراعة ببرود صنعا تزدري)
(صاغت حلاها فكرة قد صانها
…
شمم الإباء عَن امتداح مقصر)
(مَا شَأْنهَا نظم القريض تكسبا
…
لَوْلَا مقامك ذُو العلى لم تشعر)
(فوردت منهلها الروى فَلم أجد
…
أجداً فنلت صفاء غير مكدر)
(فنهلت مِنْهُ وعلني بنميره
…
وطفقت وارده وَلما أصدر)
(وطفقت فِيهِ غائصا للآلي
…
فِي غير نظم مديحكم لم تنثر)
(لَا تدعني الْعليا رَضِيع لبانها
…
إِن كنت فِي تِلْكَ الْمقَالة مفترى)
(خُذْهَا عقيلة كسر خدر فصاحة
…
سفرت نقاباً عَن محيا مُسْفِر)
(جمعت بلاغة منطق الْإِعْرَاب مَعَ
…
حسن الْبَيَان ورقة المستحضر)
(لوسامها قس لما سَمِعت بِهِ
…
بعكاظ يَوْمًا خطْبَة فِي مِنْبَر)
(شرفت على من عارضته بمدح من
…
أضحى القريض بِهِ كعقد جوهري)
(فاستجلها وافت تهنى بِالَّذِي
…
نفحت بشائره بمسك أذفر)
(نصر تهز بنوده ريح الصِّبَا
…
خَفَقت على هام الأشم الخرمر)
(هُوَ نجلك الْمَنْصُور دَامَ مؤيداً
…
بك أَيْنَمَا يلق الغريمة يظفر)
(لَا زلتما فِي ظلّ مَالك باذخ
…
وجنود ملككم مُلُوك الأعصر)
(مستمسكين بهدى جدكم الَّذِي
…
بِالرُّعْبِ ينصر من مَسَافَة أشهر)
(أهْدى الآله صلَاته وَسَلَامه
…
لجنابه فِي طي نشر العهر)
(ولآله وصحابه وَالتَّابِعِينَ
…
لَهُم بِإِحْسَان ليَوْم الْمَحْشَر)
(مَا استنشق الْأَبْطَال فِي يَوْم الوغى
…
نقع العجاج لَدَى هياج العثير)
قلت تبَارك الله على هَذِه الطبيعة المطيعة وَمن مثل هَذِه القصيدة يعرف متانة
الشّعْر وَقُوَّة الطَّبْع على النّظم وَله منشآت كَثِيرَة أغلبها مَجْمُوع فِي سفر وَلأَهل مَكَّة على إنشائه تهافت وَبِالْجُمْلَةِ فَكل آثاره مستحسنة وَذكره السَّيِّد عَليّ فِي السلافة فَقَالَ فِي وَصفه عَلامَة الْقطر الْحِجَازِي ومفتيه وَمولى مَعْرُوف المعارف ومؤتيه وبحر الْعلم الَّذِي لَا يدْرك ساحله وبره الَّذِي لَا تطوى مراحله أشرقت فِي سَمَاء الْفضل ذكاء ذكائه وخرس بِهِ نَاطِق الْجَهْل بعد تصديته ومكائه فَأصْبح وَهُوَ للْعلم وَالْجهل مُثبت وماحق وَسبق إِلَى غايات الْفضل وَمَا للْوَجْه لَاحق حَتَّى طَار صيته فِي الْآفَاق وانعقد على فَضله الْوِفَاق وانتهت إِلَيْهِ رياسة الْعلم بِالْبَلَدِ الْأمين فتصدر وَهُوَ منتجع الوافدين والآمين مِنْهُ تقتبس أنوار أَنْوَاع الْفُنُون وَعنهُ تُؤْخَذ أَحْكَام الْمَفْرُوض والمسنون تشد الرّحال إِلَى لِقَائِه ويستنشق أرج الْفضل من تلقائه وتصانيفه فِي أَقسَام الْعلم صنوف وتآليفه فِي مسامع الدَّهْر أقراط وشنوف أَن نثر فَمَا أزاهر الرياض غب المزن الهاطل أَو نظم فَمَا جَوَاهِر الْعُقُود تحلت بِهِ الغيد العواطل وَهَا أَنا أقص عَلَيْك من خَبره مَا يزدهيك وشى حبره وأتلو عَلَيْك من تَفْصِيل حَاله مَا يروقك خصبه وتأسف على إمحاله ثمَّ أثبت من منظومه بعد منثوره مَا يطرب الأسماع بِحسن مأثوره وَلم يزل ممتطياً صهوة الْعِزّ المكين راقياً ذرْوَة طود الجاه الركين لَا يُقَاس بِهِ قرين وَلَا تطَأ آساد الشرى لَهُ عرين إِلَى أَن تولى الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب مَكَّة المشرفة ورفل فِي حلل ولايتها المفوفة وَكَانَ فِي نَفسه من الشَّيْخ الْمشَار إِلَيْهِ ضغن حل بصميم مهجته وَمَا طعن فَأمر أَولا بِنَهْب دَاره وخفض مَحَله ومقداره ثمَّ قبض عَلَيْهِ قبض الْمُعْتَمد على ابْن عمار وجزاه الدَّهْر على يَدَيْهِ جَزَاء سنمار إِلَّا أَن الْمُعْتَمد أغص ابْن عمار بالحسام الْأَبْيَض وَهَذَا طوقه هلالاً بزغ من أنامل عبد أسود فجرعه كأس الْمَوْت الْأَحْمَر وَكَانَ قد أبقاه فِي حَبسه إِلَى لَيْلَة عَرَفَة ثمَّ خشى أَن يسْعَى فِي خلاصه من أكَابِر الرّوم من عرفه فَوجه إِلَيْهِ بزنجي أشوه خلق الله خلقا وَتقدم إِلَيْهِ بقتْله فِي تِلْكَ اللَّيْلَة خنقاً فامتثل أمره فِيهِ وجلله من برد الْهَلَاك بضافيه فأقفرت لمَوْته الْمدَارِس وأصبحت ربوع الْفضل وَهِي دوارس وَذَلِكَ فِي عَام سبع وَثَلَاثِينَ وَألف وَمن الِاتِّفَاق أَن الشريف الْمَذْكُور قتل هَذِه القتلة بِعَينهَا حِين تقاضت مِنْهُ اللَّيَالِي مَا أسلفت من دينهَا وَفِي الْأَثر كَمَا تدين تدان وَهَذَا حَال الدَّهْر مَعَ كل قاص ودان انْتهى قلت وَقد قدمت خبر مَقْتَله فِي تَرْجَمَة الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب
فِي حرف الْهمزَة فَارْجِع إِلَيْهِ هُنَاكَ وَكَانَت ولادَة المرشدي بِمَكَّة لَيْلَة الْجُمُعَة خَامِس جُمَادَى الأولى سنة خمس وَسبعين وَتِسْعمِائَة ولقب شرف الدّين وَقتل لَيْلَة الْجُمُعَة لأحدى عشرَة خلون من ذِي الْحجَّة سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَألف وَفِي الْمَشْهُور أَن سَبَب قَتله تَوليته ديوَان الْإِنْشَاء فِي ولَايَة الشريف محسن بن الْحُسَيْن بن الْحسن سنة أَربع وَثَلَاثِينَ وَألف فَلَمَّا توفّي الشريف محسن وَولي مَكَانَهُ الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب قبض على المرشدي فِي أَوَاخِر شهر رَمَضَان من سنة سبع وَثَلَاثِينَ وسجنه وَنهب دَاره وَكتبه وَطَلَبه يَوْمًا إِلَى مَجْلِسه وَهُوَ غاص بأَهْله وعاتبه أَشد عتاب فَأَجَابَهُ بِأَحْسَن جَوَاب ثمَّ أَعَادَهُ إِلَى السجْن وَقَالَ للحاضرين وَالله إِنِّي أعلم وأعتقد أَنه من أفضل عُلَمَاء زَمَانه وَأتقى أهل عصره وَاسْتمرّ فِي السجْن إِلَى يَوْم النَّحْر فَأمر بخنقه وَغسل وَصلى عَلَيْهِ وَدفن بالشبيكة بِالْقربِ من ضريح سيدنَا الْمسَاوِي وقبره بهَا مَعْرُوف يزار وَوجدت فِي رِسَالَة بِخَط الْعَالم عبد الرَّحْمَن الْعِمَادِيّ مفتي الشَّام كتب بهَا إِلَى أبي الْعَبَّاس الْمقري يذكر فِيهَا قتلة المرشدي ويعزيه من جُمْلَتهَا وَأما مُصِيبَة من كَانَ وليي وَسمي ومنجدي الشَّهِيد السعيد الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن المرشدي فَإِنَّهَا وَإِن أَصَابَت منا ومنكم الْأَخَوَيْنِ فقد عَمت الْحَرَمَيْنِ بل طمت الثقلَيْن وَلَقَد عد مصابه فِي الْإِسْلَام ثلمة وفقد مِنْهُ فِي حرم الله من كَانَ يدعى للملمة وَلم يبْق بعده من يدعى إِذا يحاس الحيس وَيسْتَحق أَن ينشد فِي حَقه وَإِن لم يقس بِهِ قيس
(
…
وَمَا كَانَ قيس هلكه هلك وَاحِد
…
)
وَلَكِن بُنيان قوم تهدما وَهَؤُلَاء الْأَرْبَعَة كل مِنْهُم تسمى عبد الرَّحْمَن وهم عبد الرَّحْمَن اليمني بِمصْر وَعبد الرَّحْمَن الخياري بِالْمَدِينَةِ وَعبد الرَّحْمَن المرشدي بِمَكَّة وَقد تقدمُوا ثَلَاثَتهمْ على هَذَا التَّرْتِيب وَعبد الرَّحْمَن الْعِمَادِيّ بِالشَّام وَسَيَأْتِي قَرِيبا إِن شَاءَ الله تَعَالَى أربعتهم عمد الدّين وَقد جمعهم عصر وَاحِد فتشرف بهم وَأَنا أَحْمد الله تَعَالَى على تشرف كتابي بذكرهم
عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد الْحميدِي الْمصْرِيّ شيخ أهل الوراقة بِمصْر الأديب الشَّاعِر الْفَائِق ذكره الشهَاب الخفاجي فِي كِتَابيه وَقَالَ فِي وَصفه كَانَ أديباً تفتحت بصبا اللطف أنوار شمائله ورقت على دوح أدبه خطباء بلابله إِذا صدحت بلابل مَعَانِيه وتبرجت حدائق معاليه جلبن الْهوى من حَيْثُ أدرى وَلَا أَدْرِي نظم فِي جيد الدَّهْر جمانه وَسلم إِلَى يَد الشّرف عنانه خاطراً فِي رِدَاء مجد ذِي حواش وبطانه
ناشراً فرائد بَيَان ينثرها اللِّسَان فتودع حقاق الآذان وَله فِي الطِّبّ يَد مسيحية تحيى ميت الْأَمْرَاض وتبدل جَوَاهِر الْجَوَاهِر بالأعراض
(مبارك الطلغة ميمونها
…
لَكِن على الحفار والغاسل)
وديوان شعره شَائِع وذائع إِلَّا أَنِّي استودعته النسْيَان وَلَا بُد أَن ترد الودائع وَلما نظم البديعية مُعَارضا لِابْنِ حجَّة وَشَرحهَا نظرت فِيهَا فِي أَوَان الصِّبَا فَرَأَيْت مِنْهَا مَوَاضِع لَا تَخْلُو من الخطا فنبهته لذَلِك فَأطَال لِسَانه لانحرافه وَزعم أَنه هجاني بِبَعْض أَوْصَافه فَكتبت إِلَيْهِ متهكماً مَا صورته مولَايَ أسرفت فِي الامتنان وأسأت لنا قبل الْإِحْسَان وعاقبت من غير جِنَايَة سَابِقَة وَحرمت من لَيْسَ لَهُ فِيك آمال رائقة فَكَانَت حَالي مَعَك كَمَا قيل إِنَّه هبت ريح شَدِيدَة فصاح النَّاس الْقِيَامَة الْقِيَامَة فَقَالَ بعض المجان مَا هَذِه الْقِيَامَة على الرِّيق أَيْن الدَّجَّال وَالْمهْدِي وأشراطها فِي ذَلِك أَقُول
(أسرفت فِي الصد فخف خَالِقًا
…
لَا يرتضي أسراف مَخْلُوق)
(يَا هاجراً من لم يذقْ وَصله
…
جرعته الصَّبْر على الرِّيق)
انْتهى وَكَانَت وَفَاة الْحميدِي سَابِع عشر الْمحرم سنة خمس بعد الْألف
عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عَليّ أبي الْحسن الْبكْرِيّ الصديقي القاهري أحد أَوْلَاد الْأُسْتَاذ مُحَمَّد الْبكْرِيّ كَانَ من أَرْبَاب الْأَحْوَال لَهُ الْكَشْف الصَّرِيح والإنابة وَكَانَ للنَّاس فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم ذكره النَّجْم الْغَزِّي فِي الذيل وَأثْنى عَلَيْهِ ثمَّ قَالَ وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة المشرفة فِي حادي أَو ثَانِي عشرى ذِي الْحجَّة سنة سبع بعد الْألف وصلينا عَلَيْهِ فِي الْحرم الْمَكِّيّ فِي وَجه الْكَعْبَة المنورة قَالَ وَأَخْبرنِي صاحبنا الْعَلامَة ولي الله سَيِّدي مُحَمَّد التكروري أَنه أَشَارَ إِلَيْهِ بِقرب الْأَجَل وَإنَّهُ لَا يخرج من مَكَّة وَمَات بعد أَن كَانَ تِلْكَ اللَّيْلَة بِالطّوافِ فَشكى من قلبه ثمَّ حمل إِلَى منزلهم عِنْد بَاب إِبْرَاهِيم فَمَاتَ رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عقيل بن أَحْمد بن الشَّيْخ عَليّ الْحَضْرَمِيّ الْمَعْرُوف بالسقاف أحد أَرْكَان الطَّرِيقَة السَّيِّد المفضال كَانَ حسن الصِّفَات عالي الهمة ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ الْقُرْآن وَغَيره من الْمنون واشتغل بالعلوم وَصَحب أكَابِر العارفين واعتنى بِعلم التصوف والكتب الغزالية وجد فِيهَا حَتَّى طَال بَاعه وَأخذ
عَن الإِمَام الْعَالم السَّيِّد أبي بكر سَالم وَمن مشايخه السَّيِّد مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن وَالْإِمَام السَّيِّد مُحَمَّد بن عقيل وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل وَأذن لَهُ غير وَاحِد فِي التدريس وَلبس الْخِرْقَة من كثيرين وأدنوا لَهُ فِي الالباس والتحكيم وَأخذ عَنهُ جمَاعَة من الْفُضَلَاء وتخرجوا عَلَيْهِ مِنْهُم وَلَده السَّيِّد عقيل وَالشَّيْخ أَبُو بكر الشلي وَالِد الْجمال المؤرخ وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف العيدروس وَأخذ عَنهُ السَّيِّد أَبُو بكر بن عَليّ معلم وَهُوَ أَخذ عَنهُ أَيْضا وَكَانَ آيَة فِي الْفَهم عَاملا بِعِلْمِهِ كثيرا السخاء وَكَانَت لَهُ هَيْبَة فِي الْقُلُوب وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وتسمائة وَتُوفِّي سنة إِحْدَى عشرَة وَألف وَدفن بجنان بشار
عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد المنعوت زين الدّين بن شمس الدّين الْخَطِيب الشربيني الْفَقِيه الشَّافِعِي الْمصْرِيّ الإِمَام الْعُمْدَة ابْن الإِمَام الْعُمْدَة كَانَ من أهل الْعلم والبراعة فِي فنون كَثِيرَة حسن الْأَخْلَاق كثير التَّوَاضُع أَخذ عَن وَالِده وَغَيره وَكَانَ كثيرا مَا يحجّ ويجاور بِمَكَّة وَاجْتمعَ بِهِ النَّجْم الْغَزِّي بِالْمَدِينَةِ فِي أواسط الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ بعد الْألف قَالَ فَسَأَلته كم حججتم فَقَالَ أَرْبعا وَعشْرين مرّة فَقلت لَهُ أَنْتُم يَا مَوْلَانَا معاشر عُلَمَاء مصر يحجّ الْوَاحِد مِنْكُم مَرَّات وَأما أهل الشَّام فَلَا يكَاد الْوَاحِد مِنْهُم يحجّ إِلَّا مرّة فَأنْتم أَرغب فِي الْخَيْر منا فَقَالَ لي يَا مَوْلَانَا الْوَاحِد منا يسْتَأْجر بَعِيرًا بِعشْرَة ذَهَبا وَيحمل تَحْتَهُ القريقشات ويحج وَأَنْتُم إِذا حج أحدكُم يتَكَلَّف كلفة زَائِدَة تَكْفِي عدَّة منا وطريقكم أَشد من طريقنا وَالْأَجْر يكون على قدر النصب وَالنَّفقَة كَمَا فِي الحَدِيث فحجة الْوَاحِد مِنْكُم تعدل حجات الْوَاحِد منا وَهَذَا دَلِيل على إنصافه وَحسن نظره قَالَ وَوصل خبر مَوته إِلَى دمشق فِي أَوَائِل جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع عشرَة بعد الْألف وَحَجَجْت فِي تِلْكَ السّنة وحررت وَفَاته عَن بعض فضلاء مَكَّة أَنَّهَا كَانَت فِي صفر سنة أَربع عشرَة الْمَذْكُورَة
عبد الرَّحْمَن أَبُو الْعِزّ بن مُحَمَّد القصري الفاسي كَانَ إِمَامًا عُمْدَة فِي الْعلم وَالْعَمَل الظَّاهِر وَالْبَاطِن قَرَأَ على أَخِيه أبي المحاسن يُوسُف الفاسي وَعلي الْفَقِيه الْمُفْتِي الْخَطِيب أبي زَكَرِيَّا يحيى بن مُحَمَّد السراج وَالْقَاضِي الْفَقِيه الْخَطِيب بن مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الْحميدِي وَالْإِمَام المفنن الْأُسْتَاذ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ المنجور وَالْإِمَام الْأُسْتَاذ النَّحْوِيّ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن قَاسم الْعَزْرَمِي وَالْإِمَام الْمُحَقق النظار أبي عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم الْقَيْسِي الْقصار وَالْإِمَام الْمقري المنجور أبي مُحَمَّد الْحسن
ابْن مُحَمَّد الدراوي وَعنهُ خلق لَا يُحصونَ مِنْهُم وَارثه الأول المكمل أَبُو النصائح مُحَمَّد ابْن مُحَمَّد بن عبد الله معن ووارثه الثَّانِي وَابْن ابْن أَخِيه الْعَلامَة عبد الْقَادِر الفاسي وَقد أفرد تَرْجَمته وترجمة شُيُوخه الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن عبد الْقَادِر الفاسي فِي مُجَلد حافل وَله مؤلفات مِنْهَا حَاشِيَة على البُخَارِيّ وحاشية على شرح الصُّغْرَى للسنوسي وكراماته كَثِيرَة شهيرة وَكَانَ بعض النَّاس فِي عصره يلازم تَنْبِيه الْأَنَام كثيرا فَذكر ذَلِك لَهُ فَقَالَ انْظُرُوا هَل أنتج لَهُ شَيْء من كَثْرَة صلَاته على النَّبِي
وَإِلَّا فاعلموا أَن بَاطِنه مشوب فَدلَّ كَلَامه على أَن الطَّاعَات وَلَا سِيمَا الصَّلَاة على الْوَسِيلَة الْعُظْمَى
الَّذِي هُوَ أصل كل خير إِذا صادفت محلا طَاهِرا أشرقت فِيهِ أنوارها ولاحت عَلَيْهِ أسرارها وَإِنَّمَا يَدْفَعهَا عدم القابلية كَالثَّوْبِ الكدر لَا يشتعل وَكَانَ نفع الله تَعَالَى بِهِ يَقُول إِنَّمَا يصحب النَّاس الْمَشَايِخ ليعرفوهم أَنهم عبيد الله فيرضوا بِمَا يصدر لَا ليدافعوا مَا يصدر مِنْهُم وَكَانَت وِلَادَته فِي الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء سَابِع عشر شهر ربيع الأول من شهور سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله ابْن مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن السقاف السَّيِّد الإِمَام الْحَافِظ المجدث الْجَامِع بَين الرِّوَايَة والدراية قَالَ الشلي فِي تَرْجَمته ولد بِمَدِينَة تريم وَحفظ الْقُرْآن وَأخذ الْعُلُوم عَن الكمل من الْعلمَاء وَصَحب الْأَئِمَّة ولازم الشَّيْخ أَبَا بكر بن عبد الرَّحْمَن بن شهَاب وَأخذ عَنهُ التَّفْسِير والْحَدِيث والأصلين والتصوف والعربية واشتهر وتفوق وَكَانَ فِي الْفَهم آيَة باهرة وَفِي الْحِفْظ نِهَايَة وَجلسَ للتدريس فِي الْفُنُون وَكَانَ شَدِيد الانقباض عَن النَّاس حَافِظًا لِلِسَانِهِ وقف نَفسه على الْعُلُوم مَعَ عقل وأدب وخفة روح وَتخرج بِهِ جمَاعَة من الطلاب وَظَهَرت بركاته قَالَ الشلي وَهُوَ من أعظم مشايخي الَّذين أخذت عَنْهُم وانتفعت بهم لازمت حَضرته واغتنمت بركته واقتبست من فَوَائده واستمتعت بفرائده فَقَرَأت عَلَيْهِ الْبِدَايَة والتبيان قِرَاءَة تَحْقِيق وَبَيَان وَسمعت الْأَحْيَاء بِقِرَاءَة غَيْرِي وانتفع بِهِ جَمِيع من الْخَلَائق وصاروا بِهِ من أهل الْحَقَائِق وَكَانَ من سَادَات الصُّوفِيَّة الزهاد ورؤس الْأَوْلِيَاء الْعباد حَرِيصًا على فعل الْخَيْر لَا يَخُوض فِيمَا لَا يعنيه وَكَانَ عَارِفًا بمذاهب الْعلمَاء نير الْقلب صافي السريرة فاق أقرانه وَلم ير الرؤان فِي زَمَانه مثله
وَكَانَ قَلِيل الْكَلَام جدا من غير إعياء وَلَا خلل وَكَانَ لَهُ خطّ حسن مَرْغُوب فِيهِ وَكَانَ أضبط يكْتب بكلتا يَدَيْهِ وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ من الكمل فِي زَمَانه وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة زنبل من جنان بشار
السَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن شرف الدّين الحجافي اليمني الْعَالم البارع كَانَ عَلامَة يضْرب بِهِ الْمثل فِي الذكاء وَكَانَ يشبه بجده من قبل الْأُمَّهَات السَّيِّد عبد الرَّحْمَن وَكَانَ محققاً فِي الْأُصُول والمنطق واشتغل فِي التَّفْسِير فِي آخر أمره وَله شرح على غَايَة السول للسَّيِّد الْحُسَيْن بن الْقَاسِم أَجَاد فِيهِ كل الإجادة وَكَانَ مُتَوَلِّيًا لأعمال حفاش ثمَّ اسْتَقر بِصَنْعَاء وَكَانَ لَا يطْمع فِي شَيْء من زِينَة الدُّنْيَا وَلَا هم لَهُ بِغَيْر الْعلم توفّي بالحشيشة من مخارف صنعاء فِي نَيف وَخمسين بعد الْألف رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد عماد الدّين بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عماد الدّين الْعِمَادِيّ الحني الدِّمَشْقِي أحد أَفْرَاد الدَّهْر وأعيان الْعلم وأعلام الْفضل وَهُوَ الْمُفْتِي بِالشَّام بعد أَن كَانَ أَبوهُ بهَا حينا مرجع النَّاس للْفَتْوَى حَتَّى استغرق علمه وَاسْتحق مكانته وَكَانَ فِي عصره مِمَّن يباهي بالتردد إِلَيْهِ والاكتساب من معلوماته وحوى من الصِّفَات الْحَسَنَة والأخلاق الرائقة مَا انْفَرد بِهِ دون مُنَازع واختص بِهِ من غير مشارك وَكَانَ كثير الْفضل جم الْفَائِدَة وَله محاضرة تستفز الحلوم وفطنه تسحر الْعُقُول وَألف حَاشِيَة على بعض تَفْسِير الْكَشَّاف بقيت فِي مسوداته وَله المنسك الْمَشْهُور الَّذِي سَمَّاهُ بالمستطاع من الزَّاد وَكتاب الْهَدِيَّة فِي عبادات الْفِقْه وَالرَّوْضَة الريا فِيمَن دفن بداريا وَله رسائل كَثِيرَة فِي سَائِر الْفُنُون ومنشآت وأشعار أَكْثَرهَا لطيف المسلك حسن الْموقع وَنَشَأ فِي مطلع عمره يَتِيما فَإِن وَالِده مَاتَ وَله من الْعُمر سبع سِنِين وَكَانَ كثيرا مَا ينشد فِي ذَلِك كنت ابْن سبع حِين مَاتَ أبي واجتهد فِي التَّحْصِيل أَولا على الْحسن البوريني وعَلى ابْن خَالَته الشَّيْخ مُحَمَّد بن محب الدّين الْحَنَفِيّ ثمَّ لزم جدي القَاضِي محب الدّين وَأخذ عَنهُ مُعظم الْفُنُون وَأخذ عَن الشَّمْس ابْن المنقار والمنلا مُحَمَّد بن عبد الْملك الْبَغْدَادِيّ وبرع البراعة التَّامَّة وتفوق وَحج فِي سنة أَربع عشرَة بعد الْألف وَأخذ بِالْمَدِينَةِ عَن السَّيِّد صبغة الله بن روح الله الْمُقدم ذكره طَرِيق النقشبندية وَكَانَ الْجد القَاضِي الْمَذْكُور فِي تِلْكَ السّنة قَاضِيا بالركب وَجرى للعمادي أَنه لما أَرَادَ الدُّخُول إِلَى الْبَيْت المشرف وَقع فانصدعت رجله من شدَّة الزحام وعالجها فبرأت وَلَكِن بَقِي أثر الانصداع فَكَانَ يعرج شَيْئا مَا
مِنْهَا وَمن المعجب مَا كتبه الْجد فِي شَأْنه هَذَا إِلَى تِلْمِيذه الأديب الذيق الألمعي أبي الطّيب الْغَزِّي الْمُقدم ذكره وَكَانَ أرسل إِلَيْهِ كتابا مَعَ نجاب الشَّام وَكتب إِلَيْهِ فِي حَاشِيَته مَا نَصه وَأما أخوكم الْعَلامَة ولدنَا الْعِمَادِيّ فَإِنَّهُ فِي الصِّحَّة والسلامة وَالنعْمَة والكرامة وَهُوَ يسلم عَلَيْكُم ويعرض وافر شوقه إِلَيْكُم فانتقد أَبُو الطّيب من تَعْبِيره بِلَفْظ الْعَلامَة المستفيض إِطْلَاقه على الزَّمَخْشَرِيّ مَا جنح إِلَيْهِ وَحكم عَلَيْهِ بِقُوَّة حدسه وَبعد مَا رَجَعَ إِلَى دمشق تخلص للإقراء والإفادة وَولي تدريس الْمدرسَة الشبلية فِي سنة سبع عشرَة وَألف ثمَّ ولي بعْدهَا الْمدرسَة السليمية فِي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَلما ورد دمشق الْمولى أسعد بن سعد الدّين قَاصِدا الْحَج راجت لَدَيْهِ فضائله وَظَهَرت لَهُ مزيته فَأقبل عَلَيْهِ بكليته وَلما عَاد إِلَى الرّوم وَولي الْإِفْتَاء صيره ملازماً على قاعدتهم وَكَانَ قبل ذَلِك بِمدَّة أَخذ عَنهُ الْمولى أَحْمد بن زين الدّين المنطقي الْمُقدم ذكره الْمدرسَة السليمية فَصنعَ الْعِمَادِيّ قصيدة فِي مدح الْمولى أسعد الْمَذْكُور يتطلب فِيهَا إِعَادَة الْمدرسَة إِلَيْهِ ويتظلم من الدَّهْر ومطلعها
(بك أسعد الرّوم ابْن سعد الدّين
…
يسمو عماد الْعلم ثمَّ الدّين)
وَمن جُمْلَتهَا وَهُوَ مَحل الْغَرَض
(لَك أشتكي مولَايَ أفظع وصمة
…
كَادَت لشدَّة قهرها تصميني)
(يَا ضَيْعَة الإعمار فِي طلب العلى
…
بِالْعلمِ وَالنّسب الَّذِي بالشين)
(أَمن الْمُرُوءَة وَهِي أسمى رُتْبَة
…
أَنى أعادل بِابْن زين الدّين)
(لَا بل يرجح ثمَّ يغصب منصبي
…
وأعود مِنْهُ بصفقة المغبون)
(لَو كنت مَعَ كفو قرنت لهان لي
…
لكنه بئس القرين قريني)
(أَو كَانَ ثمَّ تعادل لهضمته
…
فَانْظُر إِلَى دهري بِمن يبلوني)
فقرر عَلَيْهِ الْمدرسَة وَله فِيهِ قصيدة بديعة يشْكر صَنِيعه فِيهَا مطْلعهَا
(إِلَّا هَكَذَا فليسعد العَبْد سيد
…
فَلَا زلت فِي سعد ومولاي أسعد)
وَهِي طَوِيلَة ثمَّ ولي بعد ذَلِك الْمدرسَة السليمانية والإفتاء بِالشَّام فِي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَألف وَتوجه إِلَى الْحَج وَهُوَ مفت فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَكبر صيته بعد ذَلِك واشتهر وَسلم لَهُ عُلَمَاء عصره وَمِمَّا يرْوى أَنه رفع مِنْهُ لشيخ الْإِسْلَام يحيى بن زَكَرِيَّا فَتْوَى وَعَلَيْهَا جَوَابه فَكتب ابْن زَكَرِيَّا عَلَيْهَا إِلَى جَانِبه الْجَواب كَمَا بِهِ أخونا الْعَلامَة أجَاب وَهَذِه غَايَة فِي المدحة وعلو الرُّتْبَة وَقد مدحه أَكثر الشُّعَرَاء عصره من الأدباء
بالقصائد السائرة وخلدوا مدائحه فِي صفحات آثَارهم وَبِالْجُمْلَةِ فأخباره وفضائله مَلَأت كل محفل ووقفت لَهُ على تحريرات أدبية كَثِيرَة وَمن ألطفها جَوَابه عَن سُؤال رَفعه إِلَيْهِ بعض الأدباء فِي الأغاليط الَّتِي ذكرهَا صَاحب الْقَامُوس عِنْدَمَا ذكر الْبَيْتَيْنِ الْمَشْهُورين وهما
(لَا در در إناس خَابَ سَعْيهمْ
…
يستمطرون لَدَى الْأَزْمَان بالعشر)
(أجاعل أَنْت بيقورا مسلعة
…
ذَرِيعَة لَك بَين الله والمطر)
فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْبَيْت الثَّانِي تِسْعَة أغلاط فَأجَاب بِمَا نَصه أَقُول قد لَاحَ لي فِي هَذِه الْأَلْفَاظ تِسْعَة وُجُوه خطرت بالبال وَالله أعلم بِحَقِيقَة الْحَال الأول ادخال الْهمزَة على غير مَحل الْإِنْكَار وَهُوَ جَاعل وَالْوَاجِب إدخالها على السّلْعَة لِأَنَّهَا مَحل الْإِنْكَار الثَّانِي تَقْدِيم الْمسند الَّذِي هُوَ خلاف الأَصْل فَلَا يرتكب إِلَّا لسَبَب فَكَانَ الْوَاجِب تَقْدِيم المسلعة وَإِدْخَال الْهمزَة عَلَيْهَا بِأَن يُقَال أمسلعة أَنْت تجْعَل ذَرِيعَة الثَّالِث أَن تَرْتِيب هَذَا الْبَيْت على مَا قبله يَقْتَضِي أَنه قصد الِالْتِفَات من الْغَيْبَة إِلَى الْخطاب قطعا وَأَنه بعد أَن حكى عَنْهُم حالتهم الشنيعة الْتفت إِلَى خطابهم بالإنكار ومواجهتهم بالتوبيخ حَتَّى كَأَنَّهُمْ حاضرون يَسْتَمِعُون وَحِينَئِذٍ فَفِيهِ أَنه أَخطَأ فِي إِيرَاد أحد اللَّفْظَيْنِ بِالْجمعِ وَالْآخر بِالْإِفْرَادِ وَلَا شكّ أَن شَرط الِالْتِفَات الِاتِّحَاد الرَّابِع أَن الجاعلين هم الْعَرَب فِي الْجَاهِلِيَّة الَّذين حكى عَنْهُم فِي الْبَيْت الأول فَلَا وَجه لتخصيص الْوَاحِد مِنْهُم بالإنكار عَلَيْهِ دون الْبَقِيَّة لَا يُقَال هَذَا الْوَجْه دَاخل فِي الَّذِي قبله لأَنا نقُول هَذَا وَارِد بِقطع النّظر عَن كَون الْكَلَام التفاتاً أَو غير الْتِفَات من حَيْثُ أَنه نسب أمرا إِلَى جمَاعَة ثمَّ خصص وَاحِدًا بالإنكار من غير الْتِفَات إِلَى الِالْتِفَات أصلا الْخَامِس تنكير الْمسند إِذْ لَا وَجه لَهُ مَعَ تقدّم الْعَهْد حَيْثُ علم أَن مُرَاده بالجاعل هم الأناس المذكورون فِي الْبَيْت الأول فَكيف يُنكر الْمَعْهُود فَكَانَ حق الْكَلَام أَن يُقَال أمسلعة أَنْتُم الجاعلون السَّادِس البيقور اسْم جمع كَمَا فِي الْقَامُوس وَاسم الْجمع وَإِن كَانَ يذكر وَيُؤَنث لَكِن قَالَ الرضي فِي بحث الْعدَد مَا محصله أَن اسْم الْجمع وَإِن كَانَ مُخْتَصًّا بِجمع الْمُذكر كالرهط والنفر وَالْقَوْم فَإِنَّهَا بِمَعْنى الرِّجَال فيعطي حكم الْمُذكر فِي التَّذْكِير فَيُقَال تِسْعَة رَهْط وَلَا يُقَال تسع رَهْط كَمَا تَقول تِسْعَة رجال وَلَا تَقول تسع رجال وَإِن كَانَ مُخْتَصًّا بالمؤنث فَيعْطى حكم جمع الْإِنَاث نَحْو ثَلَاث من الْمَخَاض لِأَنَّهَا بِمَعْنى حوامل النوق وَإِن احتملها كالخيل
وَالْإِبِل وَالْغنم لِأَنَّهَا تقع على الذُّكُور وَالْإِنَاث فَإِن نصت على أحد المحتملين فَإِن الِاعْتِبَار بذلك النَّص انْتهى فقد صرح بِأَنَّهَا إِن اسْتعْملت مرَادا بهَا الذُّكُور تُعْطى حكم الذُّكُور وَقد نَص صَاحب الْقَامُوس وَغَيره على أَنهم كَانُوا يعلقون السّلع على الثيران كَمَا تقدم فَبِهَذَا الِاعْتِبَار لَا يسوغ وصف البقور بالمسلعة السَّابِع إِيرَاد المسلعة صفة جَارِيَة على مَوْصُوف مَذْكُور وَالَّذِي يظْهر من عبارَة صَاحب الصِّحَاح أَنَّهَا اسْم للبقر الَّتِي يعلق عَلَيْهَا السّلع للاستمطار لَا صفة مَحْضَة حَيْثُ قَالَ وَمِنْه المسلعة إِلَى آخِره وَلم يقل وَمِنْه الْبَقر المسلعة وَقَالَ السُّيُوطِيّ فِي شرح شَوَاهِد الْمُغنِي نقلا عَن أَئِمَّة اللُّغَة أَن المسلعة ثيران وَحش علق فِيهَا السّلع وَحِينَئِذٍ فَلَا تجْرِي على مَوْصُوف كَمَا أَن لفظ الركب اسْم لركبان الْإِبِل مُشْتَقّ من الرّكُوب وَلم يسْتَعْمل جَارِيا على مَوْصُوف فَلَا يُقَال جَاءَ رجال ركب بل جَاءَ ركب الثَّامِن أَن الْمَنْصُوص عَلَيْهِ فِي كتب اللُّغَة أَن الذريعة بِمَعْنى الْوَسِيلَة لَا غير وَأَن الْوَسِيلَة مستعملة فِي التَّعْدِيَة بإلى فاستعمال الذريعة هُنَا بِدُونِ إِلَى مَعَ لَفْظَة بَين مُخَالف لوضعها واستعمالها الْمَنْصُوص عَلَيْهِ وَأما اللَّام فِي لَك فَإِنَّهَا للاختصاص فَلَا دخل لَهَا فِي التَّعْدِيَة كَمَا يُقَال اجْعَل هَذَا الْكتاب تحفة لَك التَّاسِع قَوْله بَين الله والمطر لَا معنى لَهُ وَالصَّوَاب بَيْنك وَبَين الله لأجل الْمَطَر وَذَلِكَ لأَنهم كَانُوا يشعلون النيرَان فِي السّلع وَالْعشر الْمُعَلقَة على الثيران ليرحمها الله تَعَالَى وَينزل الْمَطَر لإطفاء النَّار عَنْهَا كَمَا تقدم وَالله أعلم أَقُول لَا يخفى أَن مَا استخرجه لَا يُسمى أغلبة أغاليط فأجل فكرك فِيمَا هُنَالك تصب المحز والسلع بِفتْحَتَيْنِ وَالْعشر بضمة ففتحة ضَرْبَان من الشّجر كَانَت الْعَرَب إِذا أَرَادوا الاسْتِسْقَاء فِي سنة الجدب عقدوها فِي أَذْنَاب الْبَقر وَبَين عراقيبها وأطلقوا فِيهَا النَّار وصعدوا بهَا الْجبَال وَرفعُوا أَصْوَاتهم بِالدُّعَاءِ وَهَذِه النَّار أحد نيران الْعَرَب وَهِي أَرْبَعَة عشر نَار الْمزْدَلِفَة توقد حَتَّى يَرَاهَا من دفع من عَرَفَة وأوّل من أوقدها قصي بن كلاب وَهَذِه ونار التَّحَالُف لَا يعقدون الْحلف إِلَّا عَلَيْهَا يطرحون فِيهَا الْملك والكبريت فَإِذا استشاطت قَالُوا هَذِه النَّار قد تهددتك ونار الْغدر كَانُوا إِذا غدر الرجل بجاره أوقدوا لَهُ نَارا بمنى أَيَّام الْحَج ثمَّ صاحوا هَذِه غدرة فلَان فيفتضح الغادر دنيا وَأُخْرَى فينصب لَهُ لِوَاء يَوْم الْمَحْشَر وينادى عَلَيْهِ على رُؤُوس الأشهاد هَذِه غدرة فلَان بن فلَان ثمَّ يلقى فِي النَّار ونار السَّلامَة توقد للقادم من سَفَره سالما غانماً ونار الزائر وَالْمُسَافر وَذَلِكَ أَنهم
إِذا لم يُحِبُّوا الزائر وَلَا الْمُسَافِر أَن يرجعا أوقدوا خَلفه نَارا وَقَالُوا أبعده الله وأسحقه ونار الْحَرْب وَتسَمى نَار الأهبة يوقدونها على يفاع إعلاماً لمن بعد مِنْهُم ونار الصَّيْد يوقدونها للظباء لتعشى أَبْصَارهم ونار الْأسد يوقدونها إِذا خافوه لِأَنَّهُ إِذا رَآهَا حدّق إِلَيْهَا وتأملها ونار السَّلِيم توقد للملدوغ إِذا سهر والمجروح إِذا نزف وَمن الْكَلْب الْكَلْب يوقدونها حَتَّى لَا يَنَامُوا ونار الْفِدَاء كَانَت مُلُوكهمْ إِذا سبوا قَبيلَة وَطلب مِنْهَا الْفِدَاء كَرهُوا أَن يعرضُوا النِّسَاء نَهَارا لِئَلَّا يفتضحن ونار الوسم الَّتِي يسمون بهَا الْإِبِل لتعرف إبل الْمُلُوك فَترد المَاء أَولا ونار الْقرى وَهِي أعظم النيرَان ونار الحرمز وَهِي النَّار الَّتِي أطفأها الله لخَالِد بن سِنَان الْعَبْسِي احتفروا لَهُ بِئْرا ثمَّ أَدخل فِيهَا وَالنَّاس يرونه ثمَّ اقتحمها وَخرج مِنْهَا انْتهى عوداً إِلَى مَا نَحن بصدده وللعمادي من لطائف الْأَشْعَار مَا رقّ وراق فَمن ذَلِك قَوْله فِي الْغَزل
(أكفكف دمع الْعين خوفًا وأكتم
…
عَن النَّاس والمخفي فِي الْقلب أعظم)
(وهبني كتمت الدمع عَنْهُم تجلداً
…
على حر نَار فِي الحشا تتضرم)
(أيخفى نحول الْجِسْم عَن عين نَاظر
…
وَهل ذلة النَّفس العزيزة تكْتم)
(لقد شهد العدلان فِيمَا كتمته
…
وهيهات أَن يخفى الْمُحب المتيم)
(كلفت ببدر مَا تجلى بِوَجْهِهِ
…
لبدر الدجى إِلَّا انجلى وَهُوَ مظلم)
(وَيسْتر فِي أوراقه الْغُصْن خجله
…
إِذا مَا بدا مِنْهُ قوام مقوّم)
(وَكم من وشَاة نازعوا فِي جماله
…
فَلَمَّا تبدّى يخجل الشَّمْس سلمُوا)
(إِذا لَام يَوْمًا عاذلي فِيهِ أنني
…
أَصمّ وَسمع اللوم عِنْدِي محرّم)
(وَقد كنت أَهْوى الْحسن فِي كل صُورَة
…
فقنعني هَذَا الحبيب المعمم)
قَوْله فقنعني من القناعة وَفِيه إِيهَام الْمُقَابلَة بَين الْمقنع وَهُوَ المستور وَيخْتَص بِالنسَاء والمعمم وَيُقَال على الذكران من الحسان وَمن التعبيرات قَوْلهم فلَان على طَريقَة ابْن أَكْثَم من الْإِعْرَاض عَن الحبيب الْمقنع والميل إِلَى المعمم وَيحسن فِي هَذَا الْمحل قَول أبي الْعَلَاء المعري
(أفق إِنَّمَا الْبَدْر الْمقنع رَأسه
…
ضلال وبغي مثل بدر الْمقنع)
وَوَقع فِي شعر ابْن سناء الْملك
(رويداً فَمَا بدر الْمقنع طالعاً
…
بأفتك من ألحاظي بَدْرِي المعمم)
وَكِلَاهُمَا إِشَارَة إِلَى بدر وأظهره رجل سحار فِي بِلَاد الشرق واسْمه عَطاء الْخُرَاسَانِي
وَجعله دَلِيلا على ربوبيته وَإِنَّمَا قيل لَهُ الْمقنع لِأَنَّهُ كَانَ يقنع رَأسه لِأَنَّهُ كَانَ قَبِيح الْوَجْه جدّاً وَكَانَ من خَبره أَنه كَانَ أوّل أمره قصاراً من أهل مرو وَكَانَ يعرف شَيْئا من السحر والنيرنجيات فادّعى الربوبية من طَرِيق المناسخة وَقَالَ لأشياعه أَن الله تَعَالَى تحوّل إِلَى صُورَة آدم فَلذَلِك قَالَ للْمَلَائكَة اسجدوا لَهُ فسجدوا إِلَّا إِبْلِيس فَاسْتحقَّ بذلك السخط ثمَّ تحول من صُورَة آدم إِلَى صُورَة نوح وَهَكَذَا إِلَى صور الْأَنْبِيَاء والحكماء حَتَّى حصل فِي صُورَة أبي مُسلم الْخُرَاسَانِي ثمَّ زعم أَنه انْتقل إِلَيْهِ فَقبل قوم دَعْوَاهُ وعبدوه وقاتلوا دونه مَعَ مَا عاينوا من عَظِيم ادعائه وقبح صورته لِأَنَّهُ كَانَ مُشَوه الْخلق أَعور لَكِن إِنَّمَا غلب على عُقُولهمْ بالتمويهات الَّتِي أظهرها لَهُم بِالسحرِ والنيرنجيات وَكَانَ فِي جملَة مَا أظهر لَهُم صُورَة بدر يطلع فيراه النَّاس من مَسَافَة شَهْرَيْن من مَوْضِعه ثمَّ يغيب فَعظم اعْتِقَادهم فِيهِ وَلما اشْتهر أمره ثار عَلَيْهِ النَّاس وقصدوه فِي قلعته الَّتِي كَانَ قد اعْتصمَ بهَا وحصروه فَلَمَّا أَيقَن بِالْهَلَاكِ جمع نِسَاءَهُ وسقاهن سما فمتن مِنْهُ ثمَّ تنَاول شربة من ذَلِك السم فَمَاتَ وَدخل الْمُسلمُونَ فَقتلُوا من فِيهَا من أشياعه وَذَلِكَ فِي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَمِائَة انْتهى وللعمادي
(صب تحكم فِي حشاه وَجَسَده
…
إِن جَار متلفه عَلَيْهِ فعبده)
(يَا من جَفا جفني لذيذ مَنَامه
…
لما تصدّى لي جفاه وصدّه)
(أستعذب التعذيب فِيك وكل مَا
…
ترضاه لي وَلَو أَن روحي ضدّه)
(أَحْبَبْت تسهيدي فرحت أحبه
…
وَأَرَدْت إتلافي فلست أردّه)
(وجفوتني فجفوت نَفسِي رَاضِيا
…
لَا يَنْبَغِي من لَا تودّ أودّه)
وَهَذِه الأبيات أجراها على أسلوب أَبْيَات أبي الشيص الْمَشْهُورَة وَهِي
(وقف الْهوى بِي حَيْثُ أَنْت فَلَيْسَ لي
…
مُتَأَخّر عَنهُ وَلَا متقدّم)
(أجد الْمَلَامَة فِي هَوَاك لذيذة
…
حبا لذكرك فليلمني اللوّم)
(أشبهت أعدائي فصرت أحبهم
…
إِذا كَانَ حظي مِنْك حظي مِنْهُم)
(وأهنتني فأهنت نَفسِي صاغراً
…
مَا من يهون عَلَيْك مِمَّن يكرم)
وَمن مقطوعاته قَوْله مضمناً قَول أبي تَمام
(واوات أصداغه للْعَطْف بالأرب
…
وَسيف ألحاظه ينبي عَن العطب)
(وَالنَّفس بَينهمَا حارت فَقلت لَهَا
…
السَّيْف أصدق إنباء من الْكتب)
وَمن لطائفه قَوْله فِي مدح آل الْبَيْت وَبَيت الصّديق
(صَحَّ عِنْدِي فِي بَيت آل حَبِيبِي
…
ثمَّ آل الصدّيق قَول حبيب)
(كل شعب حلوا بِهِ حَيْثُ كَانُوا
…
فَهُوَ شعبي وَشعب كل أديب)
(أنّ قلبِي لَهُم لكالكبد الحرّا
…
وقلبي لغَيرهم كالقلوب)
والبيتان الأخيران لأبي تَمام فِي مدح سُلَيْمَان وأخيه الْحسن ابْني وهب لَكِن تصرف فيهمَا بعض تصرف وَالَّذِي حمله على تضمينهما مَا قَالَه ابْن خلكان عَن بعض الأفاضل أَنه لما سمع هذَيْن الْبَيْتَيْنِ قَالَ لَو كَانَا فِي آل رَسُول الله
كَانَ أليق فَمَا يسْتَحق ذَلِك القَوْل إِلَّا هم وَله فِي الْغَزل وَهُوَ حسن
(أضحى هلالاً مذ تعذر بدرنا
…
ثمَّ التحى فمحا الْهلَال محاق)
(عهدي بلام الخد خطا فانثنت
…
وَلها بجملة وَجهه استغراق)
وَله
(لَا تعذلوني فِي غرامي بِهِ
…
وَفِي سقامي من تجافيه)
(فإنني من مُنْذُ أبصرته
…
علمت أَنِّي ميت فِيهِ)
وَكتب إِلَيْهِ الأديب مُحَمَّد بن محيي الدّين الْحَادِي الصَّيْدَاوِيُّ قصيدة من نظمه أَرَادَ مُرَاجعَته بهَا فوصلته وَهُوَ مَرِيض فَكتب إِلَيْهِ
(قد أَتَانِي مِنْك القريض وفكري
…
من مدى السقم فِي الطَّوِيل العريض)
(وَأَرَدْت الْجَواب بالنظم فِي الْحَال
…
فحال الجريض دون القريض)
الجريض الغصة من الجرض وَهُوَ الرِّيق يغص بِهِ والقريض الشّعْر وَحَال الجريض مثل قَالَه شوشن الْكلابِي حِين مَنعه أَبوهُ من الشّعْر فَمَرض حزنا حَتَّى أشرف على الْهَلَاك فَأذن لَهُ أَبوهُ فِي قَول الشّعْر فَقَالَ هَذَا القَوْل وَكتب إِلَى البوريني وَكَانَ أَعَارَهُ مجموعاً
(مولَايَ مجموعاي عنْدك دَائِما
…
فاحفظهما وَلَك الْبَقَاء السرمد)
(فاقر الَّذِي لَا يَسْتَطِيع تجلداً
…
بتعطف واقرا الَّذِي يتجلد)
فَكتب إِلَيْهِ
(الْقلب مني لَا مزِيد عَلَيْهِ فِي
…
أبوابكم ملقى وربي يشْهد)
(مجموعكم مولَايَ عِنْدِي لم يزل
…
وسط الْفُؤَاد بِعَين قلبِي يشْهد)
وَله غير ذَلِك وَذكره البوريني فِي تَارِيخه وَلم يوفه حَقه وَذكره وَالِدي فَأطَال فِي تَرْجَمته وأطاب كَيفَ وَهُوَ أحد مشايخه الَّذين افتخر بهم وتميز بالانتماء إِلَيْهِم وَقد تمثل فِي حَقه بقول بعض الأدباء
(أَصبَحت من بَيت الْعِمَاد بجلق
…
أروي رِوَايَات الثنا الْمَشْهُور)
…
فلقاه فِيهَا نَافِع وحماه فِيهَا عَاصِم (ونوا لَهُ ابْن كثير
…
)
هَذَانِ من المؤرخين وَأما أَرْبَاب الإنشاد فقد ذكره مِنْهُم الخفاجي فِي كِتَابيه وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا وَمَا أحسن مَا تمثل فِي حَقه بقول الشهَاب المنصوري
(أَرَأَيْتُم فِي النَّاس ذَات لطيف
…
تشرح الصَّدْر مثل ذَات الْعِمَاد)
(حسبها من لطافة أَنَّهَا لم
…
يخلق الله مثلهَا فِي الْبِلَاد)
وَذكره عبد الْبر الفيومي فِي المنتزه والبديعي فِي ذكرى حبيب وَعبارَته فِي حَقه هَذِه مفتي الديار الشامية وَصَاحب الإفادة بِالْمَدْرَسَةِ السليمانية سيداً استعبد الْمجد وَالنَّاس من ذَلِك أَحْرَار وَظَهَرت فِي الْخَافِقين فضائله كَمَا ظهر النَّهَار جبلت رَاحَته على الإنعام كَمَا جبل اللِّسَان على الْكَلَام وَقد أنْفق عمره على اجتلاء فرائد التَّفْسِير إِلَى أَن لحق بجوار ربه اللَّطِيف الْخَبِير وَقد أورث مجده أبناءه الَّذين إِذا دجت الخطوب فأراعم كَالنُّجُومِ العوائم
(ثَلَاثَة أَرْكَان وَمَا انهد سودد
…
إِذا اثبتت فِيهِ ثَلَاث دعائم)
ثمَّ أورد بعض أشعار ومنشآت لَهُ من جُمْلَتهَا أبياته الْمَشْهُورَة الَّتِي مستهلها
(سأطمس آثَار هواي أثارها
…
وأنفض من ذيل الْفُؤَاد غبارها)
(لقد آن صحوي من سلاف صبَابَة
…
فقد طالما خامرت جهلا خمارها)
(هجرت الْهوى والزهو حَتَّى اشتياقه
…
وَطيب لَيَال اللَّهْو حَتَّى ادّكارها)
(وعفيت سبل الْهزْل بالجدّ مقلعاً
…
وعفت مسرّات جنيت ثمارها)
(أثام كفيت الْيَوْم بِالتّرْكِ شرّها
…
لعَلي غَدا فِي الْحَشْر أكفى شِرَارهَا)
(قطفت أزاهير الصبابة فِي الصِّبَا
…
وَقد صَار عاراً أَن أَشمّ عرارها)
(فَلَو صائدات الْقلب أقبلن كالمها
…
وقبلن رَأْسِي مَا قبلت مزارها)
(وَقد كنت أودعت الحجا فاستردّه
…
إِلَى النَّفس شيب قد أعَاد وقارها)
(وَكَانَ شَبَابِي شب نَار صبابتي
…
فمذ لَاحَ نور الشيب أخمد نارها)
(ترى شيبتي مَا عذرها لشبيتي
…
وَقد سبقت قبل الْكَمَال عذارها)
(تَبَسم ثغر الشّعْر فِيهَا تَعَجبا
…
لَهَا إِذْ رأى ليل السبال نَهَارهَا)
(فَمَا زار وكر الشّعْر فِيهَا غرابة
…
وَلَا دَار حَتَّى استوطن الباز دارها)
(عَسى الْآن عَمَّا قد عثرت إنابة
…
يقيل بهَا للنَّفس رَبِّي عثارها)
(عَسى رَحْمَة أَو نظرة أَو عناية
…
يتم سعودي فِي صعودي منارها)
(عَسى نفحة من نور نور معارف
…
تهب فتختار الْفُؤَاد قَرَارهَا)
(ويشرح صَدْرِي نور علم مقدس
…
يريني أسرار الْعُلُوم جهارها)
(وأمنح ألطافاً من الْأنس أَبْتَغِي
…
خفاها ويأبى الوجد إِلَّا اشتهارها)
(ويكشف عَن عَيْني البصيرة حجبها
…
بأنوار عرفان تزيح استتارها)
(فَيظْهر لي سر الْحَقِيقَة مشرقاً
…
على ظلم الْكَوْن الَّتِي قد أنارها)
(فأحظى بحالات من الْقرب أَبْتَغِي
…
بدنيا وَأُخْرَى فَضلهَا وفخارها)
(ولطف إلهي قطب دَائِرَة المنى
…
فَإِن عَلَيْهِ فِي الْعَطاء مدارها)
وَلما طعن فِي السنّ ورقى درج السّبْعين نظم هَذِه الأبيات وَهِي متداولة فِي أَيدي النَّاس وَهِي
(قد شَاب فودي حِين ثاب فُؤَادِي
…
فَكَأَنَّمَا كَانَا على ميعاد)
(حسن الْخَوَاتِم أرتجي من محسن
…
قد منّ لي قدماً بِحسن ميادي)
(وعمادي التَّوْحِيد فَهُوَ وسيلتي
…
فِي نيل مَا أرجوه عِنْد معادي)
(أَن قيل أيّ سفينة تجْرِي بِلَا
…
مَاء وَلَيْسَ لأَهْلهَا من زَاد)
(قل رَحْمَة الرَّحْمَن من أَنا عَبده
…
تسع الْعباد فَمن هُوَ ابْن عماد)
وأشعاره كَثِيرَة جدا وشهرتها كَافِيَة عَن الإطناب بذكرها وَكَانَت وِلَادَته لَيْلَة الثُّلَاثَاء رَابِع عشر ربيع الآخر سنة ثَمَان وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي لَيْلَة الْأَحَد سَابِع عشر جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَخمسين وَألف وَدفن إِلَى جَانب وَالِده بمقبرة بَاب الصَّغِير وَأَخْبرنِي بعض من أَثِق بِهِ أَنه لَيْلَة وَفَاته كَانَ ماراً على دَاره فَرَأى يقظة كوكبا من السَّمَاء كَبِيرا انقض من الْأُفق وَهوى إِلَى سطح دَار الْعِمَادِيّ فَلم يمض إِلَّا والصياح قد قَامَ وشاع مَوته ورؤيت لَهُ منامات صَالِحَة بعد مَوته وَاتفقَ لَهُ أَنه وقف فِي آخر درس من دروسه التفسيرية فِي الْمدرسَة السليمانية على قَوْله تَعَالَى {كتب على نَفسه الرَّحْمَة} وَكَانَ اتّفق لَهُ وَهُوَ يقْرَأ على الشَّمْس بن المنقار فِي تَفْسِير الْكَشَّاف أَنه وقف على قَوْله تَعَالَى {إِن رحمت الله قريب من الْمُحْسِنِينَ} ورثاه جمَاعَة من كبراء شعراء عصره مِنْهُم أَحْمد بن شاهين ومطلع مرثيته
(خلت الديار فَلَا أنيس داني
…
وتضعضعت بتضعضع الْأَركان)
(ووهى عماد علومها وحلومها
…
وَهوى بِنَا أَرْكَانهَا لهوان)
(
…
)
(
…
)
(وغدت دمشق وليدة مسنامة
…
للمفلسين بأبخس الْأَثْمَان)
(وتبدّلت مِنْهَا المحاسن فاغتدت
…
ثَكْلَى تعط الجيب للأردان)
(أثرت حَقًا يَا زمَان بجلق
…
وسلبتها إِحْسَان ذِي إِحْسَان)
(ومحوت أنس سرورها فتبدّلت
…
جَهرا بظلمة وَحْشَة الأحزان)
(يَا موحشاً أهل الْحَيَاة بفقده
…
آنست فِي الْمَوْتَى حمى رضوَان)
(يَا رَاقِدًا ثقل الرقاد بجفنه
…
أنعم عليّ بيقظة الْوَسْنَان)
(يَا مفتياً طَال السُّؤَال لقبره
…
وَجَوَابه مُتَعَذر الْإِمْكَان)
(هلا أجبْت سؤالنا ولطالما
…
كنت الْمُجيب لنا عَن الْقُرْآن)
(أَواه والهفاً لأعظم طَارق
…
وافى فأدهشنا من الْحدثَان)
(فلك هوى مَا كَانَ أحراه بِأَن
…
يبْقى وتهوى قبتا كيوان)
(شمس بِنور الْعلم ضاءت بُرْهَة
…
فكست نُجُوم الأَرْض باللمعان)
مِنْهَا
(كَيفَ اسْتَوَى الْبَحْر الخضم بحفرة
…
أم كَيفَ حل الْكَنْز فِي هميان)
(يَا عبد رَحْمَن السَّمَوَات العلى
…
أبشر برحمة رَبك الرَّحْمَن)
وَهِي طَوِيلَة وَفِيمَا أوردناه مِنْهَا غنية
عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله بن شيخ بن عبد الله العيدروس الشهير بسقاف الإِمَام الْجَلِيل قطب الْمُحَقِّقين قَالَ الشلي فِي تَرْجَمته ولد سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة بِمَدِينَة تريم وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن على الشَّيْخ الأديب الْمعلم عمر بن عبد الله الْخَطِيب وجوّده وَأخذ علم القراآت الْعشْر إفراداً وجمعاً على الْمقري الْكَبِير الشَّيْخ مُحَمَّد بن حكم باقشير وَأخذ عَن القَاضِي عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين وجدّه شيخ الْإِسْلَام عبد الله بن شيخ العيدروس وَعَمه إِمَام العارفين عَليّ زين العابدين وَمُحَمّد بن إِسْمَاعِيل با فضل وَغَيرهم واعتنى بِفُرُوع الْفِقْه وأصوله وبرع فِي مَفْهُومه ومنقوله وَحفظ الْإِرْشَاد ولاحظته الْعِنَايَة بالإسعاد والإمداد وبرع فِي الْعُلُوم شرعيها وعقليها وعربيها وخاض فِي بحار عُلُوم الصُّوفِيَّة قيل كَانَ يعلم علما متقناً أَرْبَعَة عشر فَنًّا وَأذن لَهُ غير وَاحِد من مشايخه فِي التدريس فدرس وَتخرج بِهِ كَثِيرُونَ وَلما توفّي عَمه إِمَام العارفين الشَّيْخ عَليّ زين العابدين قَامَ بمنصبهم أتمّ قيام وسلك مَسْلَك آبَائِهِ الْكِرَام ثمَّ جلس مجْلِس عَمه للتدريس الْعَام وَاسْتقر فِي ذرْوَة المنصب حَيْثُ يمتطى السنام وَكَانَ يجلس كل يَوْم من أول النَّهَار إِلَى آخر الضُّحَى
الْأَعْلَى وَالنَّاس يَغْدُونَ عَلَيْهِ ويردون من فَضله الغل والنهل وَحضر هَذَا الدَّرْس عُلَمَاء أَعْلَام ومشايخ إِسْلَام قَالَ الشلي وحضرته مَرَّات ودعا لي بدعوات وَكَانَت عباداته أَكْثَرهَا قلبية وَكَانَ ملازماً لقِيَام الثُّلُث الْأَخير من اللَّيْل هُوَ وَالْإِمَام الشَّيْخ مُحَمَّد باعيشة يقرآن الْقُرْآن كل ختمة لشيخ من الْقُرَّاء السَّبْعَة وَيسْتَعْمل السّنة فِي مدخله ومخرجه بل فِي جَمِيع أُمُوره وَألبسهُ الله رِدَاء جميلاً وكل من رَآهُ انْتفع بِرُؤْيَتِهِ قبل كَلَام يتَكَلَّم بِهِ وَإِذا تكلم كَانَ الْبَهَاء والنور على أَلْفَاظه قَالَ بعض عُلَمَاء وقته لقد طفت كثيرا من الْبِلَاد وَرَأَيْت الْأَئِمَّة والزهاد فَمَا رَأَيْت أكمل مِنْهُ نعتاً وَلَا أحسن وَصفا وَبِالْجُمْلَةِ فأقواله مفيدة وأفعاله حميدة وَإِذا كَانَ أَعْيَان زَمَانه قصيدة فَهُوَ بَيتهَا وَإِن انتظموا عقدا كَانَ هُوَ واسطته وَمَعَ تبحره فِي الْعُلُوم العديدة لم يسمع أَنه ألف رِسَالَة وَلَا نظم شعرًا وَلَا قصيدة وَلم يزل يترقى فِي المقامات وَالْأَحْوَال حَتَّى نَالَ غَايَة الآمال وَدعَاهُ دَاعِي الِانْتِقَال وَكَانَ انْتِقَاله فِي سنة ثَلَاث وَخمسين وَألف وفيهَا مَاتَ جمَاعَة من أهل الْأَحْوَال فَلِذَا أرخها بَعضهم بقوله غَابَ الْوُجُود وَدفن بقبة جده وقبره مَشْهُور عِنْد النَّاس وَمن استجار بِهِ أَمن من كل باس رَحمَه الله تَعَالَى
السَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد كَمَال الدّين بن مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الْحُسَيْنِي الدِّمَشْقِي الْمَعْرُوف بِابْن النَّقِيب وَقد تقدم تَتِمَّة نسبه فِي تَرْجَمَة عَمه السَّيِّد حُسَيْن وَكَانَ السَّيِّد الْمَذْكُور نادرة وقته فِي الْفضل وَالْأَدب والذكاء وجودة القريحة وَحسن التخيل وَكَانَ مطلعاً على اللُّغَة وَالشعر وأنواعه الِاطِّلَاع التَّام وفضله أشهر من أَن ينوّه بِهِ أَو ينيبه عَلَيْهِ تخرج بوالده وَغَيره من فضلاء الْعَصْر حَتَّى برع وأتقن فنوناً ثمَّ تعانى الْإِنْشَاء ونظم الشّعْر فِي طَلِيعَة عمره فَأحْسن فيهمَا كل الْإِحْسَان وَضرب فيهمَا بالقدح الْمُعَلَّى وَكَانَ يتخيل التخيلات الْبَعِيدَة البديعة فِي التشابيه العجيبة والنكات المتقنة والمعميات العويصة وَكَلَامه كَمَا ترَاهُ يجمع بَين الجزالة وَحسن التَّرْكِيب فِي لطائف الصَّنْعَة وتملك رق الإتقان والإبداع ويعرب عَمَّا وَرَاءه من أدب كثير وَحفظ غزير وقريحة غير قريحة وطبع غير طبع وَقد وقفت لَهُ على أَشْيَاء يحْسد الأول الْأَخير عَلَيْهَا فَمن ذَلِك رقْعَة بِخَطِّهِ كتبهَا إِلَى صاحبنا المرحوم زين الدّين بن أَحْمد البصراوي يستدعيه وَيطْلب مِنْهُ رَيْحَانَة الشهَاب يَقُول فِيهَا
(يَا أديباً يُبْدِي من الْأَدَب الغض
…
رياضاً موشية الديباج)
(قد نمتها سحب الحيا وسقاها الطل
…
قبل الصَّباح وعذب المزاج)
(إنّ فصل الرّبيع وافى بورد
…
مُنْذُ أضحت نفوسنا فِي ابتهاج)
(ولغض الريحان مَعَ يَانِع الْورْد
…
ازدواج فِي قُوَّة الامتزاج)
(فتفتضل مَعَ الرَّسُول إِذا شِئْت
…
بريحانة الشهَاب الخفاجي)
هَذَا وَالْمَقْصُود مِنْهَا تَعْلِيق مَا يَقع عَلَيْهِ الِاخْتِيَار مِمَّا يصلح لحاجتي من بَدَائِع الْأَشْعَار والكف عَن التَّطْوِيل بِمَا لَيْسَ من هَذَا الْقَبِيل وَقد اتّفق لي بالصالحية من يوميات ربيعية من بَاب تجريب الخاطر وَهِي
(بكر الرَّوْض بالنسيم الواني
…
وتجلى الرّبيع فِي ألوان)
(وأملت حمائم الدوح ألحاناً
…
أمالت معاطف الأغصان)
(وبدا الْورْد فِي خدود دوَام
…
للعذارى من القطوف الدواني)
(وانجلى الصُّبْح عَن مواليد مزن
…
أودعتها ضمائر الأفنان)
(مَا ألذ الرّبيع فِي زمن الْورْد
…
وَأحلى الشَّبَاب فِي العنفوان)
وَقلت فِي أَيَّام الرّبيع
(حبانا لذيذ الْعَيْش آذار واغتدت
…
أزاهره تهدي لنا الطّيب والعرفا)
(ووافت بواكير الرّبيع بجدة
…
تزف عروس الرَّوْض من خدرها زفا)
(وهب النسيم اللدن من جَانب الربى
…
يلين لَهَا عطفا ويسألها عطفا)
(إِذا ضمهَا عرف الكمائم ضمخت
…
صباه وسامته معاطفها اللطفا)
(محبان فِي وسط الرياض تألفا
…
أجنت لَهُ سرّ الغرام بِمَا أخْفى)
(وجمشها حَتَّى زها شمس نورها
…
فعبس وَجه النَّهر واختطف الشنفا)
وأحدث الخاطر معمى فِي اسْم مُحَمَّد وَهُوَ
(رب ظَبْي مقرطق قد تبدّى
…
خلت بَدْرًا من فَوْقه قد تلالا)
(لَاحَ فِي الثغر جَوْهَر من ثناياه
…
فأبدى فِي الخدّ خالا بِلَالًا)
وَقلت بعده فِي هانىء
(حِين بَان الخليط وازداد وجدي
…
قلت والدمع فِي الخدود يسيل)
(يَا رَسُولي إِلَيْهِ روحي خُذْهَا
…
منجداً إثره بهَا يَا رَسُول)
وَقلت بعده فِي سُلَيْمَان
(لقد سقاني الحبيب كأساً
…
لم أرو مِنْهَا ورمت أُخْرَى)
(فَقَالَ خُذ مَا بَقِي بكاسي
…
سؤراً وَأحسن بِذَاكَ سؤرا)
(فَعِنْدَ مَا جادلي بِمَا فِي
…
أَوَاخِر الكاس مت سكرا)
هَذَا مَا قرأته بِخَطِّهِ وَمن معمياته العويصة قَوْله فِي سليم وعَلى مَعَ اخْتِلَاف الْأَعْمَال
(وَرْقَاء قلبِي قد أضحت مرفرفة
…
على قوامك يَا من طرفه عجمي)
(وَأَنَّهَا هَبَطت مِنْهُ على غُصْن
…
فغض طرفك وارسله إِلَى الْقدَم)
أرادها من أَنَّهَا بِعَمَل التَّحْلِيل وَهِي بِسِتَّة وبالعجمية شش فَإِذا هَبَطت صَارَت سينا والغصن الْألف وَهِي يَك وَلها اللَّام بِالْعدَدِ الحسابي من أبجد وغض مرادفه كف وَهِي بِمِائَة فَإِذا هَبَطت لَهَا الْيَاء وَالْمِيم من الْغَايَة وَأما طَريقَة اسْتِخْرَاج على فَإِنَّهُ أَرَادَ قلت وَقد أَكثر فِي أشعاره من المعميات وَكَانَ شَدِيد الاعتناء بِهَذَا النَّوْع جدا وَهَذَا من الْأَنْوَاع اللطيفة المسلك وَقد أدرجه بعض الْمُتَأَخِّرين فِي فنون البديع وعدّه من المحسنات وَاعْترض بِأَن مُلَاحظَة المحسن إِنَّمَا هِيَ بعد رِعَايَة الفصاحة البلاغة والبلاغة مَشْرُوطَة بِعَدَمِ التعقيد لفظا وَمعنى وَكِلَاهُمَا وجود فِي المعمى فَهُوَ خَارج عَنهُ وَقد يُجَاب بِأَن محققي هَذَا الْفَنّ شرطُوا لصِحَّته وجود الْمَعْنى الشعري فِيهِ وَإِذا لم يكن مَوْجُودا فَلَيْسَ بمعتد بِهِ فَعَلَيهِ يكون دَاخِلا فِي المحسنات قطعا وَإِن كَانَ بعض مُتَقَدِّمي علمائه لم يشْتَرط ذَلِك لصِحَّته وَهُوَ مِمَّا لَا اعْتِدَاد بِهِ وَمن غَرِيب مَا وَقع لي مَعَ بعض أدباء الرّوم وَقد ذكر المعمى فَقَالَ أَبنَاء الْعَرَب لَا يعْرفُونَ المعمى فأوردت لَهُ أَشْيَاء مِنْهُ بِالْعَرَبِيَّةِ فاعترف بِأَن الْمُتَأَخِّرين مَشوا على نهج الْأَعَاجِم والأروام فِيهِ لِكَثْرَة اختلاطهم بهم وَأما المتقدمون فَلَا يعرفونه فأخرجت لَهُ دفتراً من جمعياتي نقلت فِيهِ عَن ابْن قُتَيْبَة اللّغَوِيّ قَالَ إِن هَذِه الْأَنْوَاع الثَّلَاثَة وَهِي الأحاجي واللغز والمعميات من خَصَائِص الْعَرَب وكل من نظم فِيهَا من أَبنَاء فَارس وَأَبْنَاء الرّوم إِنَّمَا أَخذ ذَلِك عَنْهُم وتطفل على موائدهم وَانْظُر إِلَى تَسْمِيَة هَذِه الْأُمُور الثَّلَاثَة هَل هِيَ عَرَبِيَّة أَو فارسية فالمعمى من التعمية وَهِي التغطية والأحجية من الحجا وَهُوَ الْعقل كَأَنَّهُ يختبر فِيهَا الْعقل واللغز الْإخْفَاء انْتهى مَا قَالَه وَلَكِن مَعَ هَذَا فَالْحق أَحَق أَن يتبع أَن تطفل الْفرس وَالروم وعَلى الْعَرَب فِي هَذِه الْأُمُور وَإِن كَانَ وَاقعا لكِنهمْ لجودة أفكارهم تصرّفوا فِيهِ تصرّف الْملاك فاستحقوا أَن يوصفوا بالتفرد بِهِ وَلَقَد وقفت فِي الرّوم على رِسَالَة للسَّيِّد شرِيف
فِي المعمى ذكر فِيهَا أَنه صنع بَيْتا وَاحِدًا يخرج مِنْهُ ألف اسْم بطرِيق التعمية مَعَ الْتِزَام تعدّد الْإِيهَام فِي كل اسْم وَهَذِه الْأَنْوَاع وَإِن انْفَرد كل وَاحِد مِنْهَا بأسلوب يَخُصُّهُ إِلَّا أَنَّهَا ترجع إِلَى أصل وَاحِد هُوَ إبراز الْكَلَام على خلاف مُقْتَضى الْعبارَة فالأحجية أَن يُؤْتى بِلَفْظ مركب وَيطْلب مَعْنَاهُ من تَحْلِيل لفظ مُفْرد كَقَوْلِك هدهداي ارْجع ارْجع وَأما المعمى فَهُوَ قَول يسْتَخْرج مِنْهُ كلمة فَأكْثر بطرِيق الرَّمْز والإيماء بِحَيْثُ يقبله الذَّوْق السَّلِيم واللغز مثله إِلَّا أَنه يَجِيء على طَريقَة السُّؤَال وَالْفرق بَينه وَبَين المعمى أَن الْكَلَام إِذا دلّ على ذَات شَيْء من الْأَشْيَاء بِذكر صِفَات لَهُ تميزه عَمَّا عداهُ كَانَ ذَلِك لغزاً وَإِذا دلّ على اسْم خَاص بملاحظة كَونه لفظا بِدلَالَة مرموزه سمى ذَلِك معمى فَالْكَلَام الدَّال على بعض الْأَسْمَاء يكون معمى من حَيْثُ أَن مَدْلُوله ذَات من الذوات لَا بملاحظة أوصافها فعلى هَذَا يكون قَول الْقَائِل فِي اسْم كَون
(يَا أَيهَا الْعَطَّار أعرب لنا
…
عَن اسْم شَيْء قل فِي سومك)
(تنظره بِالْعينِ فِي يقظة
…
كَمَا ترى بِالْقَلْبِ فِي نومك)
صَالحا لِأَن يكون فِي اصطلاحهم معمى بِاعْتِبَار دلَالَته على اسْم بطرِيق الرَّمْز وَمثل ذَلِك كثير فِي أشعار الْعَرَب فَلَا حَاجَة إِلَى تَكْثِير الْأَمْثِلَة وَاعْلَم أَن أَرْبَاب المعمى لم يشترطوا فِي اسْتِخْرَاج الْكَلِمَة بطرِيق التعمية حُصُولهَا بحركاتها وسكناتها بل يَكْفِي حُصُول حُرُوف الْكَلِمَة من غير مُلَاحظَة هيئتها الْخَاصَّة فَإِن وَقع التَّعَرُّض للحركات والسكنات أَيْضا كَانَ ذَلِك من المحسنات ويسمون هَذَا عملا تذييلياً وَقد خرجنَا عَن الصدد الَّذِي نَحن فِيهِ فلعلك لَا تسأم وقرأت بِخَط بعض الأدباء نَاقِلا عَن خطّ السَّيِّد صَاحب التَّرْجَمَة قَالَ أنْشد الْعَلامَة نَسِيج وحدة المرحوم الشَّيْخ أَحْمد الْمقري المغربي فِي كِتَابه أزهار الرياض فِي أَخْبَار عِيَاض فِي جملَة مَا أوردهُ من شعر ابْن زمرك الأندلسي من كتاب ذكر أَنه من تآليف بعض سلاطين تلمسان بني الْأَحْمَر وَهُوَ حفيد ابْن الْأَحْمَر المخلوع سُلْطَان الأندلس الَّذِي كتب إِلَيْهِ ابْن زمرك بعد ابْن الْخَطِيب قَالَ وَهُوَ سفر ضخم سَمَّاهُ بالبقية والمدرك من شعر ابْن زمرك لَيْسَ فِيهِ إِلَّا نظمه فَقَط فَقَالَ وَمن وَصفه فِي زهر القرنفل الصعب الاجتناء بجبل الْفَتْح وَقد وَقع لَهُ مَوْلَانَا المستعين بِاللَّه بذلك فارتجل قطعا مِنْهَا
(أَتَوْنِي بنوّار يروق نضاره
…
كخدّ الَّذِي أَهْوى وَطيب تنفسه)
(وجاؤوا بِهِ من شَاهِق متمنع
…
تمنع ذَاك الظبي فِي ظلّ مكنسه)
(رعى الله مِنْهُ عَاشِقًا متقنعاً
…
بزهر حكى فِي الْحسن خدّ مؤنسه)
(وَإِن هَب خفاق النسيم بنفحه
…
حكت عرفه طيبا يَفِي بتأنسه)
قَالَ وَكنت من أَعمال الْفِكر فِي عدَّة تماثيل أصفه بهَا تكون من هَذَا الزهر على حَالَة تحْشر لَهَا النَّفس بتحريك نَازع الاقتدار وَتصرف عَنْهَا الخاطر كبارًا لِأَن أكون فاتح هَذَا الْبَاب من غير وَطْأَة ثَابِتَة فِي اسْمه ومنتهاه حَتَّى رَأَيْت فِي ذكر معزاه مَا ترى فَقلت فِيهِ عدّة مقاطيع مِنْهَا
(وجنّى من القرنفل يُبْدِي
…
لَك عرفا من نشره بابتسام)
(فَوق سوق كَأَنَّهَا من أَبَارِيق
…
الحميا مساكب للمدام)
(وسدت فَوْقهَا السقاة خدوداً
…
داميات مِنْهَا مَكَان الْفِدَام)
وَمِنْهَا
(قُم بِنَا يَا نديم فالطير غرّد
…
لمدام كؤوسه تتوقد)
(فلدينا قرنفل قد نماه
…
جبل الْفَتْح نشره قد تصعد)
(بَين سوق عوج الرّقاب لطاف
…
شَعرَات من لينها تتجعد)
وَمِنْهَا
(أهْدى لنا الرَّوْض من قرنفله
…
عبير مسك لَدَيْهِ مغتوت)
(كَأَنَّمَا سوقه وَمَا حملت
…
من حسن زهر بالطيب منعوت)
(صوالج من زبرجد خرطت
…
لَهَا الغوادي كرات ياقوت)
وَمِنْهَا
(أرى زهر القرنفل قد جلته
…
قدود ترجحن بِهِ قيام)
(أخال لَو أَنَّهَا أَعْنَاق طير
…
نهضن بِهِ لَقلت هِيَ النعام)
(توقد زهرَة جمرا لدينا
…
وَتلك لَهَا من الْجَمْر التقام)
وَمِنْهَا فِي الْأَبْيَض مِنْهُ من أَبْيَات
(مَا ترى ناصع القرنفل وافى
…
بتحايا الشميم بَين الزهور)
(قضب من زبرجد حاملات
…
قطعا فَككت من الكافور)
هَذَا مَا وجدته مَنْقُولًا عَنهُ وَرَأَيْت فِي شعر من تقدمه تَشْبِيه الْمُسْتَعْمل فَمن اسْتَعْملهُ من المدركين أَبُو مُفْلِح البيلوني الْحلَبِي فِي مَقْصُورَة لَهُ مُقَدّمَة التَّارِيخ حَيْثُ قَالَ
(قرنفل الرَّوْض شفَاه ضمهَا
…
لعسا لكَي يلثم ناشقادنا)
وَاسْتعْمل قبله الْكَمَال مُحَمَّد بن أبي اللطف الْمَقْدِسِي الْمُتَوفَّى سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف فِي قَوْله
(حكى القرنفل محمراً على قضب
…
خضر لَهَا صَار بالتفضيل منعوتا)
(كفا على معصم نقش بِهِ خضر
…
غَدا لَهُ كَافِر العذال مبهوتا)
(أبدته خود وَقد ضمت أناملها
…
كأساً تشعر لطفاً صِيغ ياقوتا)
وَالَّذِي حَاز فِي تشبيهه قصب السَّبق فِيمَا أعلم الشهَاب أَحْمد بن خلوف الأندلسي أحد الْمَشَاهِير المجيدين حَيْثُ قَالَ من قصيدة
(وللقرنفل راحات مخضبة
…
على معاصم خضر فتْنَة الرَّائِي)
(كأنجم من عقيق فِي ذرى فلك
…
من الزّجاج أرت أشطان لألاء)
وَكَانَ السَّيِّد صَاحب التَّرْجَمَة لما أنشأ هَذِه المقاطيع الَّتِي تقدّمت اشْتهر أمرهَا فحذا حذوها فِي بَابهَا جمَاعَة من أدباء الشَّام ونظموا فِيهِ تشابيه متنوعة فَمنهمْ الْأَمِير المنجكي حَيْثُ قَالَ
(قرنفلنا العطري لونا كَأَنَّهُ
…
رُؤُوس العذارى ضمخت بعبير)
(مداهن ياقوت بأعلا زبرجد
…
لقد أحكمت صنعا بِأَمْر قدير)
وَمِنْهُم شَيخنَا الْمولى أَحْمد المهمنداري مفتي الشَّام أبقى الله وجوده حلية للفضائل والآداب حَيْثُ قَالَ
(قرنفل فِي الرياض هَيئته
…
تحكي وَقد مدّ للسحاب يدا)
(فوّارة من زبرجد فتقت
…
ففار مِنْهَا العقيق وانحمدا)
وَقَالَ أَيْضا
(هَذَا القرنفل قد بدا
…
فِي لَونه القانيّ يحمد)
(فَكَانَ مرآه الأنيق لَدَى
…
الرياض إِذا تنهد)
(قطع العقيق تناثرت
…
فتخطفته يَد الزبرجد)
وَمِنْهُم شَيخنَا الْأُسْتَاذ الباهر الطَّرِيقَة عبد الْغَنِيّ بن إِسْمَاعِيل النابلسي فِي قَوْله
(كَأَن قرنفلاً فِي الرَّوْض يسبى
…
شذا رياه منتشق الأنوف)
(سواعد من زبرجد قائمات
…
بِلَا بدن مخضبة الكفوف)
وَقَالَ أَيْضا
(قُم يَا نديمي لداعي اللَّهْو منشرحاً
…
فقد ترنمت الورقاء فِي الْوَرق)
(وَانْظُر إِلَى حسن باقات القرنفل مَا
…
بَين الربى نفحت كالمندل العبق)
(أطفا النسيم لهيباً من مشاعلها
…
فِي ظلة الرَّوْض حَتَّى جمرهنّ بقى)
وَقَالَ
(بَين الحدائق أعطاف القرنفل فِي
…
زهو برِيح الصِّبَا الزاكي وتمييل)
(مثل العرائس فِي خضر الملابس قد
…
لاشت على وَجههَا حمر المناديل)
وَقَالَ فِي القرنفل الْأَبْيَض
(هيا بِنَا فالطير صَاح مغرّدا
…
مَا إِن يُقَاس لَدَى الورى بمغرّد)
(وَالرَّوْض مدّمن القرنفل للندى
…
كاسات در فِي زنود زبرجد)
وَقَالَ فِي القرنفل المشرب بخمرة
(وزهر قرنفل فِي الرَّوْض يحْكى
…
قُصُور دم على صفحات مَاء)
(رأى وجنات من أَهْوى فأغضى
…
فَبَان بِوَجْهِهِ أثر الْحيَاء)
وَقد تطفلت على هَؤُلَاءِ السَّادة بِهَذَا الْمَقْطُوع فَقلت
(وافى القرنفل معجباً
…
فِينَا بمنظره الأنيق)
(يُبْدِي زنود زبرجد
…
حملت تروساً من عقيق)
وَهَذَا مَا وصل إليّ من التشابيه الَّتِي قيلت فِي القرنفل وَإِن ظَفرت بِشَيْء زَائِد يصلح للإلحاق ألحقته فِي الْهَامِش بِمَشِيئَة الله تَعَالَى وإذنه وقرأت بِخَط السَّيِّد أَنه كَانَ أَصَابَهُ رمد فنظم فِيهِ قَوْله
(مذ رأى عَيْني وَقد رمدت
…
لون خدّيه من الْأَلَم)
(رام يبكيها ورقّ لَهَا
…
فاتقته من دم بِدَم)
قلت لقد أبدع فِي النَّقْل من قَول الْمَأْمُون لما طلب الدُّخُول على بوران بنت الْحسن ابْن سهل فدافعوه لعذر بهَا فَلم ينْدَفع فَلَمَّا زفت إِلَيْهِ وجدهَا حَائِضًا فَتَركهَا فَلَمَّا قعد للنَّاس من الْغَد دخل عَلَيْهِ أَحْمد بن يُوسُف الْكَاتِب وَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ هُنَاكَ الله بِمَا أخذت من الْأَمر بِالْيمن وَالْبركَة وَشدَّة الْحَرَكَة وَالظفر بالمعركة فَأَنْشد الْمَأْمُون
(فَارس مَاض بحربته
…
صَادِق بالطعن فِي الظُّلم)
(رام أَن يدمي فريسته
…
فاتقته من دم بِدَم)
وَهُوَ من لطيف الْكِنَايَات وَنَقله ألطف وَاتفقَ لصَاحب التَّرْجَمَة أَنه رأى نَفسه فِي عَالم الخيال هُوَ وَبَعض أدباء دمشق فِي روض فاقترح عَلَيْهِ نظم بَيْتَيْنِ من الْغَزل فنظم هذَيْن الْبَيْتَيْنِ وانتبه وَهُوَ ينشدهما وهما
(جَاءَ الحبيب بطيبه
…
ونأى الرَّقِيب بِكُل واشي)
(الْمَتْن لَا تهوى سواهُ
…
ودع معاناة الْحَوَاشِي)
وأوقفني شقيقه فِي الْفضل وَالْأَدب سيد السادات بِالشَّام السَّيِّد عبد الْكَرِيم النَّقِيب حرس الله وجوده من الْغَيْر وَجعل سيرته أحسن السّير على قِطْعَة نظمها يذكر فِيهَا الندماء وأرباب الْغناء من الْمَشَاهِير فَذَكرتهَا مُشِيرا لتعريف من
ذكره فِي أثْنَاء النّظم على طَرِيق الِاخْتِصَار وَأَنا جازم إِن شَاءَ الله تَعَالَى بعد توفيتي هَذَا الْكتاب على أَن أشرحها شرحاً مفصلا لما فِيهَا من الْفَائِدَة فَإِنَّهَا وَحدهَا عبارَة عَن طَبَقَات هَؤُلَاءِ وَالْحَاجة عِنْد اللطفاء ماسة إِلَى معرفتهم والاطلاع عَلَيْهِم والقطعة هِيَ هَذِه
(كلما جدّد الشجى ادكاره
…
ازعج الشوق قلبه واستطاره)
(لَيْت شعري أَيْن اسْتَقل عَن اللَّهْو
…
بنوه وَكَيف أخلوا مزاره)
(بَعْدَمَا راوحتهم صفوة الْعَيْش
…
ونالوا وفْق الْهوى أوطاره)
(وجروا فِي مطارد الْأنس طلقاً
…
واجتلوا من زمانهم أبكاره)
(بَين كاس وروضة وغدير
…
وَسَمَاع وَلَذَّة وغضاره)
(أَيْن حلوا فعشب ومقيل
…
أَو أناخوا فوردة وبهاره)
(من مليك زفت بِحَضْرَتِهِ الكاس
…
قيان يعزفن خلف الستاره)
(ووزير يرقد بَات يسترق اللَّذَّات
…
وَهنا وَاللَّيْل مرخ إزَاره)
(وأمير ممنطق بنداماه
…
وكاس الطلا لديهم مَدَاره)
(كم فَتى من بني أُميَّة أَمْسَى
…
وخيول الْهوى بِهِ مستطاره)
(كيزيد وشأنه مَعَ أبي قيس
…
وَمَا قد عراه فِي عماره)
أَبُو قيس قرد يزِيد كَانَ ينادمه فَكَانَ إِذا رَآهُ قَالَ شيخ من بني إِسْرَائِيل أَصَابَته خَطِيئَة فمسخه الله تَعَالَى فَصَارَ قرداً وَله مَعَه أَخْبَار وَله يَقُول
(نديمي أَبُو قيس أخف مُؤنَة
…
وأحلم مَا غَابَ حلم المنادم)
وَعمارَة أُخْت الْغَرِيض وَكَانَت من أحسن النَّاس وَجها وغناء أخذت الْغناء عَن أَخِيهَا وَعَن ابْن سُرَيج وَابْن مُحرز وليزيد فِيهَا خبر طَوِيل وفيهَا يَقُول بعض فتيَان الْمَدِينَة
(لَو تمنيت مَا اشْتهيت لكَانَتْ
…
غَايَة النَّفس فِي الْهوى عماره)
(بِأبي وَجههَا الْجَمِيل الَّذِي يزْدَاد
…
حسنا وبهجةً ونضاره)
(ونداماه كَابْن جعدة والأخطل
…
إِذْ عاقراه صفوا عقاره)
ابْن جعدة هُوَ قدامَة بن جعدة بن هُبَيْرَة الخزرجي من ندمائه والأخطل هُوَ الشَّاعِر الْمَشْهُور النَّصْرَانِي
(وَقضى لَيْلَة مَعَ ابْن زِيَاد
…
وقتيب بن مُسلم ونهاره)
ابْن زِيَاد هُوَ مُسلم بن زِيَاد وَكَانَ نديماً ليزِيد وقتيب بن مُسلم هُوَ قُتَيْبَة الْبَاهِلِيّ وَكَانَ نديماً لَهُ وَكَانَ أَبوهُ مُسلم كَبِير الْقدر عِنْد يزِيد
(وكمروان وَابْنه حِين واسى
…
بلذاذات عيسه سماره)
مَرْوَان هُوَ مَرْوَان بن الحكم وَكَانَ غليظاً وَابْنه هُوَ عبد الْملك بن مَرْوَان
(نادمته أَبنَاء يالية اللائي
…
قضى فِي ربوعهم أسحاره)
أَبنَاء يالية هم أَبنَاء يالية بن هرم بن رَوَاحَة وَكَانَ يغشى مَنَازِلهمْ لَيْلًا وينادمهم وَفِيهِمْ يَقُول من شعر
(يَا خَبرا دَار بني ياليه
…
إِنِّي أرى ليلتهم لاهيه)
(وكمثل الْوَلِيد ذِي القصف إِذْ كَانَ
…
يغب اصطباحه وابتكاره)
(ولديه الْغَرِيض وَابْن سُرَيج
…
أظهرا كل صَنْعَة مختاره)
(من غناء ألذ من نشوة الكاس
…
وأشهى من صبوة مستثاره)
الْغَرِيض أحد المغنين اسْمه عبد الْملك وكنيته أَبُو زيد وَقيل أَبُو مَرْوَان ذكر صَاحب الأغاني أَنه كَانَ يضْرب بِالْيَدِ وينقر بالدف ويوقع بالقضيب أَخذ الْغناء فِي أول أمره عَن ابْن سُرَيج وَهُوَ أَبُو يحيى عبد الله بن سُرَيج أحد المغنين ذكر صَاحب الأغاني أَنه كَانَ أحسن النَّاس غناء وَكَانَ يُغني مرتجلاً ويوقع بالقضيب
(وَسليمَان ذِي العتوّ لنَحْو الذلفاء
…
يُبْدِي حنينه وافتراره)
سُلَيْمَان بن عبد الْملك والدلفاء جَارِيَة كَانَت لِأَخِيهِ شراؤها عَلَيْهِ ألف ألف دِرْهَم ثمَّ صَارَت إِلَى سُلَيْمَان وَهِي الَّتِي يَقُول فِيهَا الشَّاعِر
(إِنَّمَا الذلفاء ياقوتة
…
أخرجت من كيس دهقان)
(وَيزِيد بن خَالِد وَأَبُو يزِيد
…
يجيدان فِي الندام سراره)
(إِذْ بمغني سِنَان كَانَ يغالي
…
ويجلي بشدوه أكداره)
يزِيد هُوَ ابْن خَالِد التَّيْمِيّ وَكَانَ سُلَيْمَان يَخُصُّهُ وينادمه سرا قبل أَن يُبَاشر الشَّرَاب وَأَبُو زيد هُوَ أَبُو زيد الْأَسدي وَكَانَ خَاصّا بِهِ يجالسه وينادمه وَسنَان مغن لَهُ كَانَ يأنس بِهِ ويسكن إِلَيْهِ وَيكثر الْخلْوَة مَعَه ويستمتع بحَديثه وغنائه
(وَابْن عبد الْعَزِيز إِذْ راوح الكاس
…
ووالاه فِي زمَان الإماره)
(وَيزِيد المعمود إِذْ خامرته
…
نشوة الراح ليله ونهاره)
(وسبت لبه حبابة واستهوته
…
حَتَّى أَبَاحَ فِيهَا اشتهاره)
حبابة جَارِيَة كَانَت لِابْنِ سينا تسمى الْعَالِيَة أخذت عَن ابْن سُرَيج وَكَانَت مَدَنِيَّة
(واستمالت بِهِ سَلامَة حَتَّى
…
أقلق الوجد فكره وأثاره)
سَلامَة جَارِيَة شريت ليزِيد من الْمَدِينَة بِعشْرَة آلَاف دِينَار وَكَانَت حَسَنَة الْوَجْه والغناء
(إِذْ يناجيه لحن معبد
…
بالشجو كَمَا شَاءَ معملا أَو تَارَة)
(وَلكم ألف الْغناء لَدَيْهِ
…
ضرب عواده على زماره)
معبد هُوَ معبد بن وهب أحد المغنين الْمَشْهُورين وَخَبره فِي الأغاني
(وَهِشَام إِذا استبد اخْتِيَارا
…
بالرساطون واستلذ اختباره)
(من شراب ظلت أفاوية
…
الْعطر بِهِ ذَات نفحة سيارة)
الرساطون شراب كَانَ يصنع لَهُ يَعْنِي لهشام تسميه أهل الشَّام الرساطون يطْبخ بأفاويه كَثِيرَة فَيَجِيء طيب الرَّائِحَة قَوِيا صلبا وَفِي جَامع التَّقْرِير الرساطون شراب يتَّخذ من الْخمر وَالْعَسَل أَعْجَمِيَّة لِأَن فعالون من أبنية كَلَامهم
(والوليد المليك إِذْ وَاصل
…
الكاسات وَاللَّهْو جهده واقتداره)
(واغتدى فِي تهتك ومجون
…
كَانَ يجني قطوفه وثماره)
(ومناه ذكري سليمى لوجد
…
ظلّ يذكي لهيبه واستعاره)
(إِذا يُغْنِيه مَالك بن أبي السَّمْح
…
وَعمر والوافي فينفي وقاره)
سليمى هِيَ سليمى بنت سعيد بن خَالِد أُخْت أم عبد الْملك الَّتِي كَانَت تَحْتَهُ وَله فِيهَا خبر طَوِيل وَملك هُوَ مَالك بن أبي السَّمْح الطَّائِي قَالَ صَاحب العقد أَخذ الْغناء عَن معبد وَكَانَ لَا يضْرب بِعُود إِنَّمَا يُغني مرتجلا
(وَلكم خفف ابْن عَائِشَة اللّحن
…
لَهُ فاستخفه واستطاره)
ابْن عَائِشَة هُوَ مُحَمَّد بن عَائِشَة ويكنى أَبَا جَعْفَر أَخذ عَن معبد وَمَالك وابتداؤه بِالْغنَاءِ كَانَ يضْرب بِهِ الْمثل
(وَابْن ميادة بن ابرد
…
وَالقَاسِم كَانَا يحثحثان عقاره)
(بندام ألذ من زورة الْحبّ
…
وأبهى من رَوْضَة فِي قراره)
ابْن ميادة اسْمه الرماح ابْن أبرد من بني غطفان كَانَ ينادمه ويحدثه حَدِيث الْإِعْرَاب وَالقَاسِم هُوَ الْقَاسِم الطَّوِيل الْعَبَّادِيّ وَكَانَ أقرب ندمائه إِلَيْهِ وأخصهم بِهِ
(وبذيح أَتَى بِأَمْر عُجاب
…
إِذْ تولى على القرود والإمارة)
بذيح هُوَ مولى عبد الله بن جَعْفَر ملهيه
(وَيزِيد المليك إِذْ كَانَ يهوى
…
صَوت حدو الحداة فِي كل تَارَة)
(وتغنى الركْبَان إِذْ كَانَ منشاه الْبَوَادِي
…
حَتَّى اعترته الحضارة)
(وكمر وَإِن الفتوة إِذْ كَانَ
…
يوالي فِي عبطة أَسْفَاره)
مَرْوَان ذِي الفتوة كَانَ منشأه بالبادية فِي كلب ففصح لِسَانه
(فَيرى اللَّهْو وَالسَّمَاع مناه
…
وَيرى الْحَرْب قطبه ومداره)
(وكآل الْعَبَّاس إِذْ كَانَ عبد الله
…
يقْضِي طوع المنى أوطاره)
(كم غذا لَيْلَة الثُّلَاثَاء والسبت
…
يوالي الغبوق بالقرقارة)
(وَابْن صَفْوَان فِي الندامى يعاطيه
…
كؤوس الحَدِيث خلف الستارة)
(ولديهم أَبُو دلامة طورا
…
يصطفيه ويجتلي أشعاره)
ابْن صَفْوَان هُوَ خَالِد بن صَفْوَان كَانَ من أقرب النَّاس منزلَة عِنْد أبي الْعَبَّاس ينادمه ويسامره لطول لِسَانه وبلاغته وَكَثْرَة رِوَايَته وَأَبُو دلامة اسْمه زيد بن الْحَارِث وَكَانَ مولى لبني أَسد ظريفا فصيحا كثير النَّوَادِر باحثا خليعا مدمنا للشراب راوية للْأَخْبَار والأشعار
(وتحيي منصورهم من ورا النّسك
…
رَاحا وَإِلَى عَلَيْهَا استتاره)
(حل مِنْهُ ابْن جَعْفَر فِي نداماه
…
محلا إِذْ كَانَ يبلو اعتشاره)
(فيراه فيهم ظريفا أديبا
…
لسنا حاذقا لطيف الْإِشَارَة)
ابْن جَعْفَر هُوَ مُحَمَّد بن جَعْفَر بن عبد الله بن الْعَبَّاس وَكَانَ يأنس بِهِ ويلتذ بِهِ وبمحادثته ويأنس بِهِ خَالِيا وَكَانَ كَمَا ذكر
(ثمَّ كَانَ الْمهْدي يجلس للأنس
…
فيصفي لشربه أَو طاره)
(وفليح بن العورا يشد ولديه
…
فينسى حنينه وادكاره)
(ولديه ترب الْغناء أَبُو إِسْحَاق
…
يشدو بصنع ومهاره)
قَالَ إِسْحَاق كَانَ الْمهْدي فِي أول أمره يساتر بِالشرابِ حَتَّى قدم عَلَيْهِ فليح ابْن العوراء الْمُغنِي فَكَانَ يُغْنِيه فِيمَا مدح بِهِ من الشّعْر وَأَبُو إِسْحَاق هُوَ إِبْرَاهِيم الْموصِلِي الْمَشْهُور بِالْغنَاءِ
(ثمَّ كَانَ الْهَادِي إِذا حاول الشّرْب
…
وغنى ابْن جَامع نختاره)
(يتَوَلَّى الندام عِيسَى بن دَاب
…
عِنْده والطلا لَدَيْهِ مَدَاره)
(وكذاك ابْن مُصعب والعزيزي
…
أَنا خايدا إنيان اخْتِيَاره)
ابْن جَامع من المغنين الْمَشْهُورين وَكَانَ أحلاهم نَغمَة وَعِيسَى بن دأب كَانَ أديباً وأحلاهم ألفاظا وَابْن مُصعب هُوَ عبد الله بن مُصعب الزبيدِيّ يخْتَص بمنادمة الْهَادِي
(وتحمى الرشيد فِي دير مرّان
…
على كل تلعة وقراره)
(من مدام حكت رهابنة الدَّيْر
…
بهَا فِي بهارة جلناره)
(وعَلى ضرب زلزل كَانَ برصوما
…
لَدَيْهِ مواصلا مزماره)
قَالَ أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ دير مران هُوَ بِنَاحِيَة من دمشق على ثلة من قرى ومزارع وغدران ورياض وزلزل كَانَ يضْرب فَقَط واسْمه مَنْصُور وَكَانَ فِي الطَّبَقَة الأولى وبرصوما كَانَ زامر فِي الطَّبَقَة الثَّانِيَة فطرب مِنْهُ الرشيد يَوْمًا فرفعه إِلَى الطَّبَقَة الأولى
(ثمَّ كَانَ الْأَمِير يمرح فِي اللَّذَّات
…
مَا شَاءَ ساحباً أوزاره)
(وترامى بحب كوثر حَتَّى
…
سكن الْحبّ قلبه واستخاره)
(ولديه مُخَارق فِي المعنين
…
وبذل الْكَبِيرَة المهتارة)
(وَالْحُسَيْن الخليع كَانَ يعاطيه
…
مداماً كالعقد تنوي انتشاره)
(ثمَّ يجلو أَبُو نواس على السّمع
…
كؤساً من الْهوى مستعاره)
كوثر خادمه وَكَانَ يهواه حَتَّى قَالَ فِيهِ من شعر
(كوثر ديني ودنياي وسقمي وطبيبي
…
)
ومخارق كَانَ مَمْلُوكا لأمرأة من أهل الْكُوفَة فَاشْتَرَاهُ مِنْهَا إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم فَأَخذه الرشيد مِنْهُ وبذل الْكَبِيرَة جَارِيَة كَانَت لجَعْفَر بن مُوسَى الْهَادِي وَالْحُسَيْن الخليع صريع الغواني وَأَبُو نواس الْحسن بن هَانِئ الشَّاعِر الْمَشْهُور
(وأدار الْمَأْمُون للراح كاساً
…
شعشع الْبَيْت نورها واستناره)
(حَيْثُ علوِيَّة الْمُغنِي وَإِسْحَاق
…
يزفان فِي الدجى أقماره)
(حَيْثُ يحيى بن أَكْثَم يتَوَلَّى
…
بَسطه وَابْن طَاهِر أسماره)
(وعريب مَعَ القيان تفنيه
…
بِصَوْت تخيرت أشعاره)
علوِيَّة من المغنين للرشيد وَهُوَ من الطَّبَقَة الثَّانِيَة وَإِسْحَاق اشْتهر بِهِ وحظى عِنْده وعريب جَارِيَة عبد الله بن إِسْمَاعِيل صَاحب المراكب كَانَت أحسن النَّاس وَجها وأظرفهم طبعا وَأَحْسَنهمْ غناء
(وَابْن هرون كَانَ يألف إِبْرَاهِيم
…
شوقاً ويستلذ اعتشاره)
إِبْرَاهِيم هُوَ ابْن الْمهْدي الْخَلِيفَة الْمَذْكُور
(واغتدى الواثق الْمُقدم فِي الشّعْر
…
على الكاس معملاً أدواره)
(إِذْ تولى بأَمْره مهج الْخَادِم
…
عِنْد اصطحابه وابتكاره)
(واغتدى أَحْمد النديم على
…
شَرط بني اللَّهْو وناشر أخباره)
(وانثنى الْفَتْح ينتحي من
…
أَحَادِيث الْهوى ممتعاته وقصاره)
(فتنته فريدة وعَلى قدر
…
الْهوى يخلع الْمُحب وقاره)
مهج خادمه الَّذِي كَانَ يأنس بِهِ ويهواه وَله فِيهِ أشعار كَثِيرَة حَسَنَة وَالْفَتْح هُوَ الْفَتْح ابْن خاقَان وفريدة هِيَ جَارِيَة كَانَ أهدا هاله عَمْرو بن بانة فحظيت عِنْده وَكَانَت من الموصوفات بالجمال الْفَائِق والغناء الرَّائِق
(وَأَبُو الْفضل كَانَ يَغْدُو إِلَّا الراح
…
مبيداً الْجنَّة ونضاره)
(حَيْثُ كَانَ الكشحي يَأْخُذ عرض
…
القَوْل فِيمَا أحبه وَاخْتَارَهُ)
(وزنام بالدف يعزف طوراً
…
وبنان بِالْعودِ يضْرب تَارَة)
(ويغني عَمْرو بن بانة والطبل
…
عَلَيْهِ سلمَان يُبْدِي اقتداره)
الكشحي أَبُو بَحر كَانَ من أطيب النَّاس وَأَكْثَرهم نَوَادِر وَكَانَ المتَوَكل لإيكاد يصبر عَنهُ وَلَا يكون لَهُ مجْلِس إِلَّا بِهِ وَعَمْرو بن بانة من المغنين وسلمان طبال ماهر
(وَأَبُو جَعْفَر أزاح اغتناما
…
مَعَ يزِيد المهلبي استشاره)
يزِيد بن مُحَمَّد المهلبي مدحه ونادمه حَتَّى اشْتهر بِهِ
(وَغدا المستعين يحرق للندمان
…
بالمن نده وصواره)
(ثمَّ هام المعتز بِابْن بغاء
…
عِنْدَمَا شام وَجهه وعذاره)
ابْن بغاء هُوَ يُونُس غُلَامه وَكَانَ يفرط فِي الشغف بِهِ وَهُوَ مَذْكُور فِي شعر البحتري
(وانثنى ابْن الْقصار طوراً
…
يفنيه بطنبوره فيوقد ناره)
ابْن الْقصار طنبوري كَانَ من المهرة فِي زَمَانه
(وبدا الْمُهْتَدي فَكَانَ اصطناع
…
الْعرف والجود سمته وشعاره)
(وأناخ ابْن جَعْفَر فِي مدَار العزف
…
والقصف نافياً أكداره)
(ومناه فِي الشد وَشد وعريب
…
كَمَا اعتاده الْهوى واستثاره)
عريب هِيَ عريب المأمونية وَكَانَ معجبا بغنائها
(واحتسى درة الكروم أَبُو الْعَبَّاس
…
والدن يستدر قطاره)
أَبُو الْعَبَّاس هُوَ أَبُو الْعَبَّاس الْمُعْتَمد
(نادمته أَبنَاء حمدون واستهواه
…
بدر حِين اجتلى ابداره)
بدر هُوَ بدر الجلنار غُلَامه
(ورذاذ موقع بغناء
…
لَيْسَ يَخْلُو من صَنْعَة مختاره)
(واغتذى المكتفي يمرح والصولي
…
يروي محاضراً أشعاره)
(وَأَبُو الْفضل كَانَ يرتع من روق
…
صباه فِي جدة ونضاره)
(حرق الندّ والكبا الرطب والعنبر
…
مُتَمَتِّعا بِهِ وأثاره)
(وَأقَام الراضي يفرق مَا بَين
…
الندامى فِي كل وَقت نثاره)
(رب كاس لَهُ بَقِيَّة نشوان
…
وَفِي حجرَة الرخام أداره)
(ونعيم وَالَاهُ فِي حجرَة الأترج
…
وَالْمَاء قد أثار بخاره)
(لَيْت شعري أَيْن اسْتَقل بَنو برمك
…
من بعد مَا توَلّوا الوزاره)
(حِين كَانَت أيامهم غرر الْعَيْش
…
وَكَانَت أكفهم مدراره)
(والوزير المهلبي وَمَا نول
…
وَابْن العميد ترب الصداره)
(وَكَذَا الصاحب بن عباد حَيَّاهُ
…
وَحيا نظامه ونثاره)
(بل وَأَيْنَ السراة من آل حمدَان
…
وَمَا قد تخولوا فِي الإماره)
(أَيْن من بَات رَافعا لبني اللَّهْو
…
الملمين بالتحايا عماره)
(أَيْن من رَاح والمجاسد تزدان
…
عَلَيْهِ بأعين النظاره)
(طوّقته المخانق البرمكيات
…
فَكَانَت بَين الظراف شعاره)
(وتردّت من الْعَوَاتِق بالمنديل
…
مذ رَاح عاقداً زناره)
(وعَلى رَأسه أكاليل آس
…
كللت أدمع الندى أقطاره)
(وعَلى الْإِذْن مِنْهُ رَيْحَانَة من
…
أذريون كمن يروم سراره)
(أَيْن من كَانَ جَانب الزهر مناساً
…
لَدَيْهِ والعيش يندى غضاره)
(ينتحي منتحى المروآت طلقا
…
فِي لذاذاته ويبدي افتراره)
(وَترى عِنْده مزملة المَاء
…
وخيش النسيم يَعْلُو جِدَاره)
(وسحاب البخور يهطل مِنْهُ
…
مَاء ورد يزجي النسيم قطاره)
(أَيْن من كَانَ فِي فضاء من الغوطة
…
يجلى من قبلنَا أبصاره)
(أَيْن من بَات نَاعِمًا فِي مغاني
…
شعب بوّان ناشقاً أزهاره)
(أَيْن من أطلق النواظر فِي صغد
…
سَمَرْقَنْد واجتلى أنواره)
(أَيْن من حل بالأبلة قدماً
…
وجلى فِي رياضها أفكاره)
(أَيْن من بَات بالسماوة فِي منَاف
…
روض يبثه أسراره)
(بنسيم يحل فِي غلس الأسحار
…
عَن جيب نوره أزراره)
(حَيْثُ تندى مباسم الزهر فِيهِ
…
وتحيى أنفاسه زوّاره)
(فسقت عهد من مضى أدمع المزن
…
وجادت بصوبها آثاره)
(مَا سرت نسمَة الصَّباح بروض
…
كحلاهم فهيجت أطياره)
وَهَذَا آخرهَا وَله آثَار كَثِيرَة غَيرهَا أوردت لَهُ كثيرا مِنْهَا فِي كتابي النفحة وَكَانَت وِلَادَته فِي ثامن عشري شهر ربيع سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَتُوفِّي مطعوناً نَهَار الِاثْنَيْنِ ثامن شهر ربيع الثَّانِي سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس
عبد الرَّحْمَن بن يحيى بن مُحَمَّد الملاح الْحَنَفِيّ الْمصْرِيّ النَّاظِم الناثر الْكَاتِب الشَّاعِر أوحد أهل زَمَانه والمتميز بِالْفَضْلِ على أقرانه كَانَ أديباً فَاضلا شَاعِرًا مجيداً زاحم بمنكبه صُدُور الأماجد ونظم مَعَ بلغاء عصره ذَوي المحامد لَهُ نظم أرق من النسيم ونثر أحلى من التسنيم وَكَانَ لَهُ حظوة تَامَّة عِنْد الْأُسْتَاذ الشَّيْخ زين العابدين بن مُحَمَّد الْبكْرِيّ ثمَّ لَازم بعده أَخَاهُ أَبَا الْمَوَاهِب ثمَّ لَازم الشَّيْخ أَحْمد بن زين العابدين وَكَانَ كَاتب يَد الْجَمِيع إِلَى أَن اخترمته الْمنية وَمن شعره قَوْله من قصيدة
(مَا لحاوي الْجمال فِي الْحسن ثَانِي
…
وفؤادي مَا مَال عَنهُ لثاني)
(ذِي جمال بطلعة كهلال
…
حَار فِي حسنه البديع لساني)
(رشأ راشق فُؤَادِي بقدٍّ
…
إِن تثنى يَا خجلة الأغصان)
(نَاسخ حقق الْمحبَّة عِنْدِي
…
بعذار وسالف ريحاني)
(مَاس غصناً رنا غزالاً وظبياً
…
لَاحَ بَدْرًا علا على غُصْن بَان)
(بخدود لبهجة الْورْد تروى
…
ونهود رَوَت عَن الرمات)
(يَا بديع الْجمال يَا نور عَيْني
…
أَنْت وَالله فاضح الغزلان)
(لَا تعذب قلبِي بصدّ وَبَين
…
وبعاد يَا سَاحر الأجفان)
(لَا تُطِع يَا مليح كل عذول
…
عذله والملام قد أذياني)
(وَاتَّقِ الله فِي حشاشة قلبِي
…
لَا تذقها حرارة الهجران)
(يَا كحيل الْعُيُون يَكْفِي بعاد
…
بتثني قوامك الفتّان)
(أَنْت قصدي من الملاح وحسبي
…
لَك دَاعِي الغرام قد ألواني)
(لَا تذقني صدّاً وبعداً وسهدا
…
وَتغَير يَا منيتي ألواني)
(يَا عذولي على غرام مليح
…
كَامِل الظّرْف من حسان الْجنان)
(هَل حَبِيبِي شمس والإهلال
…
أم من الْحور أم من الْولدَان)
(هُوَ لَا شكّ مُفْرد الْحسن حَقًا
…
وَأرَاهُ قد فرّ من رضوَان)
(قسما يَا مليح مَالك ثَانِي
…
لَا وَلَا مثل فضل عُثْمَان ثَانِي)
وَكَانَت وَفَاته فِي يَوْم الثُّلَاثَاء ثامن عشر شعْبَان سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف بِمصْر وَصلى عَلَيْهِ بِجَامِع الْأَزْهَر فِي مشْهد عَظِيم لم ير مثله حَضَره أكَابِر الْعلمَاء رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الرَّحْمَن بن يُوسُف بن عَليّ الملقب زين الدّين بن القَاضِي جمال الدّين بن الشَّيْخ نور الدّين البهوتي الْحَنْبَلِيّ الْمصْرِيّ خَاتِمَة المعمرين الْبركَة الْعُمْدَة ولد بِمصْر وَبهَا نَشأ وَقَرَأَ الْكتب السِّتَّة وَغَيرهَا من كتب الحَدِيث وروى المسلسل بالأولية عَن الْجمال يُوسُف بن القَاضِي زَكَرِيَّا وعلوم الحَدِيث عَن الشَّمْس الشَّامي صَاحب السِّيرَة تلميذ السُّيُوطِيّ وَمن مشايخه فِي فقه مذْهبه وَالِده وجده والتقى الفتوحي الْحَنْبَلِيّ صَاحب مُنْتَهى الارادات وَأَخُوهُ عبد الرَّحْمَن ابْنا شيخ الْإِسْلَام الشهَاب أَحْمد بن النجار الفتوحي وَالشَّيْخ شهَاب الدّين البهوتي الْحَنْبَلِيّ وَغَيرهم وَفِي فقه الإِمَام مَالك الشَّيْخ زين الجيزي وَالشَّيْخ مُحَمَّد الفيشي وَالشَّيْخ أَبُو الْفَتْح الدَّمِيرِيّ شَارِح الْمُخْتَصر وَالشَّيْخ مُحَمَّد الْخطاب المالكيون وَفِي فقه أبي حنيفَة الشَّيْخ شمس الدّين البرهمتوشي وَأَبُو الْفَيْض السّلمِيّ وَأمين الدّين بن عبد العال وعَلى بن غَانِم الْمَقْدِسِي الحنفيون وَفِي فقه الشَّافِعِي الشَّمْس الْخَطِيب الشربيني وَالشَّمْس العلقمي شَارِح الْجَامِع الصَّغِير وَالشَّيْخ ولي الدّين الضَّرِير شَارِح التَّنْبِيه فِي أَربع مجلدات وَعنهُ أَخذ جمع مِنْهُم مَنْصُور بن يُونُس البهوتي وَعبد الْبَاقِي الْحَنْبَلِيّ الدِّمَشْقِي وَكَانَ فِي سنة أَرْبَعِينَ وَألف مَوْجُودا فِي الْأَحْيَاء
عبد الرَّحْمَن الْمحلي الشَّافِعِي نزيل دميا الشَّيْخ الْمُحَقق التَّحْرِير مُحَرر الْعبارَات الفهامة الدَّقِيق النّظر الْقوي التَّرْجِيح والفكرة كَانَ غَايَة فِي لطافة الْأَخْلَاق وَحسن الْعشْرَة والمحاورة
(يكَاد من رقة الْأَلْفَاظ يحملهُ
…
روح النسيم وبرق السّمع يخطفه)
(قدر حَتَّى إِذا الوحل من أدب
…
فِي طرف ذِي رمد مَا كَانَ يطرفه)
مولده الْمحلة الْكُبْرَى وَهِي قَصَبَة الغربية من مصر وَقدم الْقَاهِرَة واشتغل بِالْعلمِ وجد فِيهِ وَأخذ عَن الزين عبد الرَّحْمَن اليمني ومحيى الدّين بن شيخ الْإِسْلَام زَكَرِيَّاء والنور على الْحلَبِي وَالشَّمْس مُحَمَّد الشَّوْبَرِيّ وَصَحب النُّور الشبراملسي وَاقْتصر عَلَيْهِ من بَين شُيُوخه ولازمه وَصَارَ الشبراملسي لَا يصدر إِلَّا عَن رَأْيه وَمن غَرِيب مَا اتّفق لَهُ مَعَه أَن الشبراملسي كَانَ يحضر دروس الشَّمْس الشَّوْبَرِيّ لكَونه أسن مِنْهُ وَكَانَ الشَّمْس الْمَذْكُور يعْتَقد زِيَادَة فضل الشبراملسي وَيكثر المطالعة لأَجله ويمعن النّظر فِي تَحْرِير الْمسَائِل الْفِقْهِيَّة وَكَانَ مَعَ مزِيد جلالته إِذا توقف فِي أثْنَاء مطالعته فِي شَيْء وَلم يظْهر الْجَواب عَنهُ يكْتب عَلَيْهِ ويعرضه على الشبراملسي فَيُجِيبهُ عَنهُ وَكَانَ الشبراملسي من دقة النّظر بمَكَان فَلَمَّا رأى الْمحلى ذَلِك منع الشبراملسي من حُضُور درس الشَّوْبَرِيّ وَحلف عَلَيْهِ بِاللَّه سُبْحَانَهُ أَنه لَا يحضرهُ فحاول أَن يخلصه من الْيَمين فَلم يقدر وَلم تطب نَفسه أَن يتكدر مِنْهُ خاطره لما تقدم من شدَّة انقياده إِلَيْهِ فَترك حُضُور الدَّرْس وَبلغ ذَلِك الشَّوْبَرِيّ فتألم غَايَة التألم وَظهر مِنْهُ التَّغَيُّر الشَّديد على الْمحلى ودعا عَلَيْهِ بدعوات مِنْهَا أَن الله سُبْحَانَهُ يقطعهُ عَن جَامع الْأَزْهَر كَمَا قطع الشبراملسي عَن حُضُور درسه فَاسْتَجَاب الله سُبْحَانَهُ دعاءه وَهَاجَر من الْجَامِع الْأَزْهَر بِغَيْر سَبَب وَلم يطب لَهُ الْمكْث فِي مصر وَتوجه إِلَى دمياط وَأقَام بهَا وَلم يرْزق فِيهَا حظاً فِي دروسه مَعَ أَنه أفضل من فِيهَا من علمائها وَله مؤلفات ورسائل كَثِيرَة مِنْهَا حَاشِيَة على تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ وَكَانَت وَفَاته بدمياط فِي شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَتِسْعين وَألف كَذَا رَأَيْته بِخَط الْأَخ الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله
عبد الرَّحِيم بن أبي بكر بن حسان الْمَكِّيّ الْحَنَفِيّ الإِمَام الْعَالم الْفَقِيه المفنن كَانَ محمدثاً فَقِيها نَحْو يَا مشاركاً فِي عُلُوم كَثِيرَة ورعًا تقياً مثابراً على الِاشْتِغَال بِالْعلمِ محباً لأَهله طَاهِر النَّفس سريع التَّأْثِير فِي طبائع التلامذة قريب الإنتاج لَهُم بِحَيْثُ أَن علمه يلقح الطّلع كَمَا يلقح الطّلع وَكَانَ نفع الله تَعَالَى بِهِ لَا يحضر المحافل وَلَا يفنى وَعِنْده انجماع عَن النَّاس وَعدم معرفَة بِأُمُور الدُّنْيَا بمعزل عَن طلب الرياسة وَالدُّخُول فِي المناصب مُقبلا على الِاشْتِغَال بِالْعلمِ ونفع النَّاس ولد بِمَكَّة وَبهَا نَشأ وَحفظ الْقُرْآن وَأخذ عَن شُيُوخ الْحَرَمَيْنِ مِنْهُم سِيبَوَيْهٍ زَمَانه عبد الله الفاكهي والعلامة أَحْمد بن حجر الهيثمي وَالشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن فَهد وَغَيرهم وَعنهُ الإِمَام عبد الْقَادِر الطَّبَرِيّ وَعبد الرَّحْمَن المرشدي وَغَيرهمَا وَمن فَوَائده أَنه سُئِلَ عَن إِعْرَاب قَوْله تَعَالَى
وَلَا يَحسبن الَّذين يَبْخلُونَ بِمَا آتَاهُم الله من فَضله إِن مَا مَوْصُول اسْمِي وَمَا بعده صلَة وَلَا عَائِد يربطها بالموصول لَا لفظا وَهُوَ ظَاهر وَلَا تَقْديرا لِأَن ذَلِك الْعَائِد إِمَّا أَن يقدر ضميراً مُتَّصِلا أَو مُنْفَصِلا وَلَا سَبِيل إِلَى الأول لمرجوحية اتِّصَال ضميري النصب إِذا اتحدا رُتْبَة وَاخْتلفَا لفظا كَقَوْلِه إِنَّا لَهما قفوا كرم وَالِد وَلَا إِلَى الثَّانِي لِأَن الْعَائِد الْمَنْصُوب لَا يحذف إِذا كَانَ ضميراً مُنْفَصِلا فَأجَاب بقوله الْعَائِد إِلَى مَا الموصولة ضمير مَحْذُوف يقدر مُنْفَصِلا مُؤَخرا عَن عَامله أَي بِالَّذِي آتَاهُم الله إِيَّاه وَقَول السَّائِل لِأَن الْعَائِد الْمَنْصُوب لَا يحذف إِذا كَانَ ضميراً مُنْفَصِلا لَيْسَ على إِطْلَاقه انْتهى وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة فِي ذِي الْحجَّة سنة أَربع عشرَة بعد الْألف رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الرَّحِيم بن إسكندر أحد الموَالِي الرومية كَانَ عَالما حسن الْأَخْلَاق ورد الشَّام قَدِيما مَعَ بعض قضاتها وَأخذ بهَا عَن الْبَدْر الْغَزِّي وَحضر دروسه ثمَّ ولي قَضَاء الشَّام فِي سنة تسع بعد الْألف وَقدم إِلَيْهَا وَكَانَ دينا عفيفاً جميل السِّيرَة وَفِيه تعطف ومحبة للْعُلَمَاء والصلحاء وَلم يقم بِدِمَشْق إِلَّا شهرا وَاحِدًا ثمَّ انْفَصل عَنْهَا وسافر فِي شهر ربيع الأول وَتُوفِّي فِي شهر ربيع الثَّانِي وَهُوَ ذَاهِب فِي الطَّرِيق بِمَدِينَة أركله رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الرَّحِيم بن تَاج الدّين بن أَحْمد بن محَاسِن الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ تقدّم أَبوهُ فِي حرف التَّاء وَعبد الرَّحِيم هَذَا ولد بِدِمَشْق وَنَشَأ بهَا ودأب فِي التَّحْصِيل حَتَّى تفوّق فِي عنفوان عمره وَكَانَ فَاضلا أديباً ذكياً قوي الحافظة يحتوي على فنون وَكَانَ فِي الْحسن إِلَيْهِ النِّهَايَة ورحل بِهِ أَبوهُ إِلَى الْقَاهِرَة فَأخذ بهَا الْفِقْه عَن الشَّيْخ عبد الْقَادِر الطوري مفتي الْحَنَفِيَّة وَالشَّيْخ مُحَمَّد المحبي الْحَنَفِيّ حكى لي أَخُوهُ الشَّيْخ الإِمَام إِسْمَاعِيل الْخَطِيب بِجَامِع دمشق قَالَ كَانَ إِذا جَاءَ إِلَى حَلقَة المحبي يَأْمُرهُ أَن يجلس خَلفه ويدير ظَهره إِلَى ظَهره وَيَقُول المحبي إِنَّمَا أفعل ذَلِك صِيَانة لوجهه عَن أَن يرَاهُ أحد قلت وَمثل هَذَا يرْوى عَن الإِمَام أبي حنيفَة مَعَ الإِمَام مُحَمَّد وَحكى لي أَيْضا أَنه كَانَ يحفظ كتبا عدّة من جُمْلَتهَا تَارِيخ ابْن خلكان وامتحن فِيهِ مَرَّات فَظهر أَنه متقن حفظه وَكَانَ يكْتب الْخط الْحسن وَيَرْمِي بِالسِّهَامِ رمياً جيدا ويعوم وَله معرفَة باللغة الفارسية وَبلغ مَا بلغ من هَذِه الغايات وَسنة لم يبلغ الْعشْرين وَحكى لي أَخُوهُ الْمَذْكُور قَالَ كَانَ إِذا فرغ من دروسه جَاءَ إِلَى الْمنزل وَأخذ يلْعَب لعب الصّبيان الْمَعْرُوف
فَكَانَ عَمه أَبُو الصَّفَا يَقُول لَهُ أيجمل بك هَذَا وَأَنت فِي هَذِه المثابة من الِاشْتِغَال فَكَانَ يَقُول أَنا قصدي أَن أوفي الصباوة حَقّهَا قلت وَمثل هَذَا يحْكى عَن الرئيس أبي عَليّ بن سيناء وَرَأَيْت بِخَط عبد الرَّحِيم المترجم مجموعاً مُشْتَمِلًا على قصائد ومقطعات من بواكير طبعه فاخترت مِنْهَا اللَّائِق بكتابي هَذَا فَمن ذَلِك قَوْله فِي الْغَزل
(ملت العذال من عذلي وَمَا
…
ملّ جفناك من الفتك بقلبي)
(لَو رآك النَّاس بِالْعينِ الَّتِي
…
أَنا رائيك بهَا مَا ازْدَادَ كربي)
(واستراح الْقلب من عذلهم
…
إِن طول العذل دَاء للمحب)
(بل وَلَو كَانَ بهم مثل الَّذِي
…
بفؤادي لم يمت شخص بنحب)
وَقَوله
(لي فؤاد على المودّة بَاقِي
…
لم يزغ عَن تذكر الْمِيثَاق)
(غير أَن البعاد جَار عَلَيْهِ
…
فبراه وَلم يدع مِنْهُ بَاقِي)
(وجفون جَفتْ لذيذ كراها
…
واستفاضت بمدمع غيداق)
(كلما طَال عهدها طَال مِنْهَا
…
مدمع يرتقي وَلَيْسَ براقي)
(إِن درّاً أودعتموه بأذني
…
درّ مذ بنتم من الآماق)
معنى الْبَيْت الْأَخير مطروق وَمِمَّا استحسنته من شعره قَوْله
(تطاولت الْخمر اختباراً لعقلنا
…
فَقَالَت لنا إِنِّي كجفنية أكسر)
(فبادرها الْإِنْكَار منا لقولها
…
على أننا بِالْحَقِّ وَالله ننكر)
(فرقت لنعفو واستحت فلأجل ذَا
…
نرى وَجههَا يبود لنا وَهُوَ أَحْمَر)
وعَلى ذكر استحياء الْخمر تذكرت لَطِيفَة وَهِي أَن بعض الظرفاء كَانَ يسْتَعْمل الشَّرَاب سرا وَكَانَ عَلَيْهِ حجر من وَالِده فَمَا زَالَ وَالِده يتبعهُ إِلَى أَن لقِيه يَوْمًا وَمَعَهُ قنينة خمر فَقَالَ لَهُ مَا هَذَا قَالَ لبن قَالَ وَيحك اللَّبن أَبيض وَهَذَا أَحْمَر قَالَ صدقت لما رآك خجل واستحى واحمرّ وقبح الله من لَا يستحي فَخَجِلَ وَانْصَرف وخلاه وَمن مقاطيعه قَوْله
(أَسِير وقلبي عنْدكُمْ لست عَالما
…
بِمَا فِيهِ هاتيك اللواحظ تصنع)
(وَمَا زلت مشتاقاً لطيف خيالكم
…
وَأَنِّي من الدُّنْيَا بذلك أقنع)
وَقَوله على أسلوب أَبْيَات الحريري يَا خَاطب الدُّنْيَا الدنيه وَفِيه التَّصْرِيح
(يَا من نأى متجبراً يَا جاني
…
صيرتني متحيراً فِي شاني)
(هلا وَقد أبعدتني وقليتني
…
أرْسلت طيفك فِي الْكرَى يلقاني)
(أمْطرت مني عِبْرَة هِيَ عِبْرَة
…
فضحت هوى متستراً بجناني)
وَمِمَّا يستجاد لَهُ قَوْله
(قَالَ العذول دع الَّذِي فِي حبه
…
عَيْنَاك قد سمحت بدمع هامع)
(فأجبته إِن كنت لست بناظر
…
هَذَا الغزال فلست مِنْك بسامع)
ونقلت من خطه قَالَ رَأَيْت فِي آخر الكلستان للشَّيْخ سعدي مَا مَعْنَاهُ سُئِلَ بَعضهم عَن الْيَد الْيُمْنَى مَا بالها مَعَ فَضلهَا الجزيل وكراماتها الْمَعْلُومَة لم يوضع فِيهَا الْخَاتم وَوضع فِي الشمَال قَالَ فنظمت هَذَا الْمَعْنى فِي بَيْتَيْنِ
(إِن الْفَتى الْعَالم مَعَ علمه
…
ترَاهُ محروماً من الْعَالم)
(مثل الْيَد الْيُمْنَى لفضل بهَا
…
قد منعت من زِينَة الْخَاتم)
ثمَّ ناقضته بِقَوْلِي
(تالله مَا ذَاك مخل بهَا
…
بل شرفت من وَاحِد رَاحِم)
(وَإِنَّمَا الْفضل لَهَا زِينَة
…
بِهِ اغتنت عَن زِينَة الْخَاتم)
قلت والتختم باليسرى إِنَّمَا حدث فِي وقْعَة صفّين حِين خطب عَمْرو بن الْعَاصِ فَقَالَ أَلا أَنِّي خلعت الْخلَافَة من عَليّ كخلع خَاتمِي هَذَا من يَمِيني وجعلتها فِي مُعَاوِيَة كَمَا جعلت هَذَا فِي يساري فَبَقيت سنة عَمْرو بَين الْعَامَّة إِلَى يَوْمنَا هَذَا وَأما النَّبِي
وَكَذَا الْخُلَفَاء الراشدون بعده فَكَانُوا يتختمون بِالْيَمِينِ وَقد ذكر فقهاؤنا مِنْهُم الْبر جندي فِي الرَّهْن منكشف الْبَزْدَوِيّ أَنه يتختم باليسرى وَقيل باليمني إِلَّا أَنه شعار الروافض فَيجب التَّحَرُّز عَنهُ قَالَ شَيخنَا الْعلَا الحصفكي فِي شرح الْمُلْتَقى وَلَا شُعُور لنا بِهَذَا الشعار فِي هَذِه الْأَمْصَار فنتبع أَمر الْمُخْتَار يَعْنِي فِي الحَدِيث أَفعَلهَا فِي يَمِينك إِذْ ثَبت الْخِيَار كَمَا جزم بِهِ بعض الأخيار وَالَّذِي رَأَيْته فِي الكلستان أَن أول من وضع الْخَاتم فِي الْيَد جمشيد الْملك فَقيل لَهُ لم وَضعته فِي الشمَال وَلم تضعه فِي الْيَمين فَقَالَ أما الْيَمين فزينتها كَونهَا يَمِينا فَقيل لأي شَيْء وَضعته فِي الْخِنْصر فَقَالَ جبرا لَهَا لِأَن مَا عَداهَا كبرهاز ينقلها وَقيل لبَعْضهِم لماذا حرمت الْيَمين من الْخَاتم فَقَالَ أهل الْفضل محرومون وَمَا أحسن قَول الشَّيْخ أبي عَامر الْفضل التَّمِيمِي الْجِرْجَانِيّ
(تختم فِي الْيَسَار فلست تلقى
…
طراز الْكمّ إِلَّا فِي الْيَسَار)
(وَمَا نَقَصُوا الْيَمين بِهِ وَلَكِن
…
لِبَاس الزين أولى بالصغار)
(لذاك ترى إِلَّا بأهم عاطلات
…
وَهن على الأكف من الْكِبَار)
وَقد عرفت الحَدِيث فَكل هَذَا غَفلَة عَنهُ وَكَانَت ولادَة عبد الرَّحِيم هَذَا بِدِمَشْق فِي سنة عشر بعد الْألف وَتُوفِّي بِالْقَاهِرَةِ مطعونا فِي سنة سبع وَعشْرين وَألف
رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الرَّحِيم بن عبد المحسن بن عبد الرَّحْمَن بن عَليّ الشعراني الْمصْرِيّ نزيل قسطنطينية وَهُوَ وَالِد قَاضِي الْقُضَاة أبي السُّعُود الْمُقدم ذكره وَكَانَ من أجلاء عُلَمَاء عصره ولد بِمصْر وَقَرَأَ وَحصل بهَا وَأجل أشياخه قَرِيبه القطب الرباني الشَّيْخ عبد الْوَهَّاب الشعراني صَاحب العهود وَغَيرهَا وَصَحب الْأُسْتَاذ مُحَمَّد الْبكْرِيّ وَكَانَ كثير الْمُلَازمَة لَهُ شَدِيد الإتصال بِهِ وَكَانَ يَقع لَهُ مَعَه أَحْوَال ومكاشفات حدث بِكَثِير مِنْهَا ثمَّ رَحل إِلَى الرّوم وتوطنها وَولي قَضَاء الْحَرَمَيْنِ ثمَّ تقاعد بمدرسة السُّلْطَان أَحْمد وَكَانَ يحفظ الْقُرْآن وَله حافظة قَوِيَّة فِي أَنْوَاع الْفُنُون وَله تآليف مِنْهَا رسَالَته الَّتِي سَمَّاهَا أيقاظ الْوَسْنَان من سنته فِي بَيَان آل الْمَوْصُول وصلته نَحْو ثَلَاثَة كراريس وَله شعر قَلِيل مِنْهُ قَوْله
(يَا سيد الرُّسُل وَمن جوده
…
لكل خلق الله مسترسل)
(أَنْت الَّذِي خصك رَبِّي بِمَا
…
لم يحصر المزبر وَالْمقول)
(وإنني عَبدك من جرمه
…
لفكر ذِي اللب الذكي يذهل)
(قد جِئْت أبغي تَوْبَة ينمحي
…
عني بهَا الْوزر الَّذِي يثقل)
(والستر فِي ديني وَأَهلي وَمن
…
يحويه ببيتي أَو بِهِ ينزل)
(فَأَنت بَاب الله أَي امْرِئ
…
أَتَاهُ من غَيْرك لَا يدْخل)
وَقد ضمن الْبَيْت الْأَخير من قصيدة الْأُسْتَاذ الْبكْرِيّ الْمَذْكُور الَّتِي أَولهَا
(مَا أرسل الرَّحْمَن أَو يُرْسل
…
من رَحْمَة تصعد أَو تنزل)
وَرَأَيْت بِخَط السَّيِّد مُحَمَّد بن عَليّ الْقُدسِي الدِّمَشْقِي قَالَ أَنْشدني الْعَلامَة عبد الرَّحِيم الشعراني هَذِه الأبيات وَلست أَدْرِي أَهِي لَهُ أم لغيره وَهِي
(كَاتب فِي السَّابِق كسْرَى قَيْصر
…
بِمَا استقام ملككم وَالظفر)
(فَقَالَ قد دَامَ لنا الْوَلَاء
…
بِخَمْسَة طَابَ بهَا الهناء)
(إِن استشرنا فذوي الْعُقُول
…
وَإِن تولى فذوي الْأُصُول)
(وَلَيْسَ فِي وعد وَلَا وَعِيد
…
تخَالف القَوْل على التَّأْبِيد)
(وَإِن نعاقب فعلى قدر السَّبَب
…
من الذُّنُوب لَا على قدر الْغَضَب)
(وَلَا نقدم الشَّبَاب مُطلقًا
…
على الشُّيُوخ فِي وَلَاء أطلقا)
وَكَانَت وَفَاته فِي الثُّلُث الأول من اللَّيْل بعد فَرَاغه من صَلَاة الْعشَاء بعد أَن قَرَأَ
سُورَة الْملك فِي لَيْلَة الْأَحَد حادي عشرى رَجَب سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف بقسطنطينية الرّوم
عبد الرَّحِيم بن مُحَمَّد مفتي الدولة العثمانية الْمُحَقق الشهير أحد أَعْيَان عُلَمَاء الزَّمَان الَّذين ابتهجت بهم الْأَوْقَات وتزينت بحلى مآثرهم الْأَيَّام رَحل فِي مبدأ أمره من بَلَده ادنه إِلَى بِلَاد الأراد وَقَرَأَ بهَا الْعُلُوم الْحكمِيَّة والرياضية والطبيعية والإلهية على الْمولى أَحْمد المنجلي وَالْمولى حُسَيْن الخلخالي وَالْمولى مُحَمَّد أَمِين بن صدر الدّين الشرواني وفَاق فِي الْمعرفَة والاتقان ثمَّ اعتني بتتميم الْمَادَّة حَتَّى اجْتمع فِيهِ من الْفُنُون مَا لم يجْتَمع فِيمَا سواهُ مِمَّن عاصره وَكَانَ فِي جَمِيع أجواله مثابراً على التَّحْصِيل لَا يمل وَلَا يفتر وَحكى لي بعض من لَقيته من عُلَمَاء الرّوم قَالَ كَانَ كثيرا مَا ينْقل أمرا عجيباً وَقع لَهُ فِي إبان طلبه ويعجب مِنْهُ وَذَلِكَ أَن أحد أساتذته كَانَ امتحنه بِعِبَارَة وَأَظنهُ قَالَ إِنَّهَا فِي التَّفْسِير وَقَالَ لي اذْهَبْ هَذِه اللَّيْلَة إِلَى حجرتك ودقق النّظر فِي هَذَا الْمحل وَفِي غَد أَتكَلّم مَعَك فِيهِ قَالَ فَذَهَبت إِلَى حُجْرَتي وَكَانَ رجل من سكان الْمدرسَة الَّتِي كَانَ مسكني فِيهَا يتَرَدَّد إِلَيّ ويخدمني فَوضعت الكاغد قدامي وَجَلَست أنظر فِيهِ وَكَانَ ذَلِك الرجل يأتيني بالمأكل وَالْمشْرَب فأستعمل مِنْهُ وحررت على ذَلِك الْمحل رِسَالَة من أنفس مَا يكون ثمَّ جَاءَنِي الرجل وَقَالَ لي حَسبك من هَذَا النّظر فَسَأَلته عَن الْوَقْت فَقَالَ لي الْيَوْم كَذَا وَأَنت لَك الْآن عشرَة أَيَّام على هَذِه الْحَالة قَالَ فَقُمْت وَأَنا متعجب فِي ذَلِك وفكرت فِيمَا قَالَه فرأيته حَقًا وَمثل هَذَا لَا يستبعد عَن مثله وَبعد مَا برع رَحل إِلَى الرّوم وَحكى وَالِدي رَحمَه الله تَعَالَى فِي تَرْجَمته قَالَ لما وردهَا لم يجد بهَا من يعرفهُ فاضطرب ثمَّ ذهب إِلَى جَامع السُّلْطَان مُحَمَّد فَرَأى رجلا من سكان الْمدَارِس الثمان فَأنى بِهِ ثمَّ دَعَاهُ الرجل إِلَى حجرته وَبَات عِنْده تِلْكَ اللَّيْلَة وانجر مَعَه فِي أثْنَاء المكالمة إِلَى ذكر مَا وَقع لَهُ من الوحشة وشكى إِلَيْهِ رقة حَاله فسلاه ثمَّ قَالَ لَهُ إِنِّي كنت الْيَوْم عِنْد الْمولى عبد الْعَزِيز بن الْمولى سعد الدّين فَذكر أَن وَلَده مُحَمَّد البهائي قد تهَيَّأ للمذاكرة واستعد للْقِرَاءَة وَطلب مني استاذاً فلعلك تكون ذَلِك فانجلى عَن صَاحب التَّرْجَمَة مَا كَانَ يجده من الْغم وَلما أصبحا توجه الرجل إِلَى الْمولى الْمَذْكُور وأصحب صَاحب التَّرْجَمَة مَعَه وَعرف بِحَالهِ ونوه فصيره الْمولى عبد الْعَزِيز معلما لوَلَده الْمَذْكُور فاهتم بتعليمه الْفُنُون حَتَّى نبل وساد ثمَّ بعد مُدَّة لَازم على قاعدتهم من الْمولى الْمشَار إِلَيْهِ وَحج فِي خدمته سنة
خمس وَعشْرين وَألف ودرس بعد ذَلِك بمدارس الطَّرِيق وَأخذ عَنهُ الجم الْغَفِير مِنْهُم الْمُحَقق الْكَبِير الْمولى مصطفى البولوي والعلامة المتقن يحيى المنقاري المفتيان ونما بِهِ حَظه فوصل إِلَى الْمدرسَة السليمانية وَولي مِنْهَا قَضَاء ينكى شهر ثمَّ تقاعد بعد ذَلِك عَن الْقَضَاء وَاخْتَارَ التدريس فوجهت إِلَيْهِ مدرسة السُّلْطَان أَحْمد برتبة قَضَاء قسطنطينية ثمَّ ولي قضاءها اسْتِقْلَالا وَنقل مِنْهَا إِلَى قَضَاء الْعَسْكَر باباطولي فِي سنة خمس وَألف وَلما عزل عَنْهَا أَمر بالتوجه إِلَى بَلَده ادنه بِالْأَمر السلطاني ثمَّ عَاد مِنْهَا بِطَلَب من جَانب السلطنة وَولي قَضَاء الْعَسْكَر بروم ايلي فِي شَوَّال سنة خمس وَخمسين ثمَّ صَار مفتي الدولة فِي سنة سبع وَخمسين وتمكنت قَوَاعِد جاهه فِي الْفتيا واستقل بِأَمْر الدولة حَتَّى كَانَ بِرَأْيهِ قتل السُّلْطَان إِبْرَاهِيم وَقد قَامَ بذلك الْأَمر أتم الْقيام وَأفْتى بقتْله بِنَاء على أَنه انتهك بعض الحرمات وانجر أمره فِي ذَلِك إِلَى غصب بعض نسَاء ذَوَات أَزوَاج ونقم عَلَيْهِ أُمُور غير ذَلِك كلهَا خَارِجَة عَن جادة الشَّرِيعَة فخلعه صَاحب التَّرْجَمَة من السلطنة وَأفْتى بقتْله فَقتل كَمَا ذَكرْنَاهُ فِي تَرْجَمته وعلت حُرْمَة المترجم بعد ذَلِك وهابه الْخلق ثمَّ عزل عَن الْفتيا وَأمر بالتوجه إِلَى الْحَج فَسَار من الْبَحْر إِلَى مصر وَذَلِكَ فِي سنة تسع وَخمسين ثمَّ بعد مَا حج عَاد من الطَّرِيق الشَّامي وَنزل بِالْمَدْرَسَةِ السليمانية وَوجه إِلَيْهِ قَضَاء الْقُدس فَتوجه إِلَيْهَا وأزال مِنْهَا بعض أُمُوره مُنكرَة ثمَّ وَجه إِلَيْهِ قَضَاء بلغراد وإفتاؤها فسافر إِلَيْهَا وَأقَام بهَا إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي حُدُود سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف رحمه الله
عبد الرؤف بن تَاج العارفين بن عَليّ بن زين العابدين الملقب زين الدّين الحدادي ثمَّ الْمَنَاوِيّ القاهري الشَّافِعِي وَقد تقدم ذكر تَتِمَّة نسبه فِي تَرْجَمَة ابْنة زين العابدين الإِمَام الْكَبِير الْحجَّة الثبت الْقدْوَة صَاحب التصانيف السائرة وَأجل أهل عصره من غير ارتياب وَكَانَ إِمَامًا فَاضلا زاهداً عابداً قَانِتًا لله خَاشِعًا لَهُ كثير النَّفْع وَكَانَ متقرباً بِحسن الْعَمَل مثابراً على التَّسْبِيح والإذكار صَابِرًا صَادِقا وَكَانَ يقْتَصر يَوْمه وَلَيْلَته على أَكلَة وَاحِدَة من الطَّعَام وَقد جمع من الْعُلُوم والمعارف على اخْتِلَاف أَنْوَاعهَا وتباين أقسامها مَا لم يجْتَمع فِي أحد مِمَّن عاصره نَشأ فِي حجر وَالِده وَحفظ الْقُرْآن قبل بُلُوغه ثمَّ حفظ الْبَهْجَة وَغَيرهَا من متون الشَّافِعِيَّة وألفية ابْن مَالك وألفية سيرة الْعِرَاقِيّ وألفية الحَدِيث لَهُ أَيْضا وَعرض ذَلِك على مَشَايِخ عصره
فِي حَيَاة وَالِده ثمَّ أقبل على الِاشْتِغَال فَقَرَأَ على وَالِده عُلُوم الْعَرَبيَّة وتفقه بالشمس الرَّمْلِيّ وَأخذ التَّفْسِير والْحَدِيث وَالْأَدب عَن النُّور عَليّ بن غَانِم الْمَقْدِسِي وَحضر دروس الاستاذ مُحَمَّد الْبكْرِيّ فِي التَّفْسِير والتصوف وَأخذ الحَدِيث عَن النَّجْم الغيطي وَالشَّيْخ قَاسم وَالشَّيْخ حمدَان الْفَقِيه وَالشَّيْخ الطبلاوي لَكِن كَانَ أَكثر اخْتِصَاصه بالشمس الرَّمْلِيّ وَبِه برع وَأخذ التصوف عَن جَمِيع وتلقن الذّكر من قطب زَمَانه الشَّيْخ عبد الْوَهَّاب الشعراوي ثمَّ أَخذ طَرِيق الخلوتية عَن الشَّيْخ مُحَمَّد المناخلي أخى عبد الله وأخلاه مرَارًا ثمَّ عَن الشَّيْخ محرم الرُّومِي حِين قدم مصر بِقصد الْحَج وَطَرِيق البيرامية عَن الشَّيْخ حُسَيْن الرُّومِي المنتشوى وَطَرِيق الشاذلية عَن الشَّيْخ مَنْصُور الغيطي وَطَرِيق النقشبندية عَن السَّيِّد الحسيب النسيب مَسْعُود الطاشكندي وَغَيرهم من مَشَايِخ عصره وتقلد النِّيَابَة الشَّافِعِيَّة بِبَعْض الْمجَالِس فسلك فِيهَا الطَّرِيقَة الحميدة وَكَانَ لَا يتَنَاوَل مِنْهَا شَيْئا ثمَّ رفع نَفسه عَنْهَا وَانْقطع عَن مُخَالطَة النَّاس وانعزل فِي منزله وَأَقْبل على التَّأْلِيف فصنف فِي غَالب الْعُلُوم ثمَّ ولي تدريس الْمدرسَة الصالحية فحسده أهل عصره وَكَانُوا لَا يعْرفُونَ مزية عمله لانزوائه عَنْهُم وَلما حضر الدَّرْس فِيهَا ورد عَلَيْهِ من كل مَذْهَب فضلاؤه منتقدين عَلَيْهِ وَشرع فِي إقراء مُخْتَصر الْمُزنِيّ وَنصب الجدل فِي الْمذَاهب وَأتي فِي تَقْرِيره بِمَا لم يسمع من غَيره فأذعنوا لفضله وَصَارَ إجلاء الْعلمَاء يبادرون لحضوره وَأخذ عَنهُ مِنْهُم خلق كثير مِنْهُم الشَّيْخ سُلَيْمَان البابلي وَالسَّيِّد إِبْرَاهِيم الطاشكندي وَالشَّيْخ عَليّ الأَجْهُورِيّ وَالْوَلِيّ المعتقد أَحْمد الْكَلْبِيّ وَولده الشَّيْخ مُحَمَّد وَغَيرهم وَكَانَ مَعَ ذَلِك لم يخل من طَاعن وحاسد حَتَّى دس عَلَيْهِ السم فتوالي عَلَيْهِ بِسَبَب ذَلِك نقص فِي أَطْرَافه وبدنه من كَثْرَة التَّدَاوِي وَلما عجز صَار وَلَده تَاج الدّين مُحَمَّد يستملي مِنْهُ التآليف ويسطرها وتآليفه كَثِيرَة مِنْهَا تَفْسِيره على سُورَة الْفَاتِحَة وَبَعض سُورَة الْبَقَرَة وَشرح على شرح العقائد للسعد التَّفْتَازَانِيّ سَمَّاهُ غَايَة الْأَمَانِي لم يكمل وَشرح على نظم العقائد لِابْنِ أبي شرِيف وَشرح على الْفَنّ الأول من كتاب النقاية للجلال السُّيُوطِيّ وَكتاب سَمَّاهُ أَعْلَام الْأَعْلَام بأصول فني الْمنطق وَالْكَلَام وَشرح على متن النخبة كَبِير سَمَّاهُ نتيجة الْفِكر وَآخر صَغِير وَشرح على شرح النخبة سَمَّاهُ اليواقيت والدرر وَشرح عَليّ الْجَامِع الصَّغِير ثمَّ اخْتَصَرَهُ فِي أقل من ثلث حجمه وَسَماهُ التَّيْسِير وَشرح قِطْعَة من زَوَائِد الْجَامِع الصَّغِير وَسَماهُ مِفْتَاح السَّعَادَة
بشرح الزياد وَله كتاب جمع فِيهِ ثَلَاثِينَ ألف حَدِيث وَبَين مَا فِيهِ من الزِّيَادَة على الْجَامِع الْكَبِير وعقب كل حَدِيث بِبَيَان رتبته وَسَماهُ الْجَامِع الْأَزْهَر من حَدِيث النَّبِي الأنور وَكتاب آخر فِي الْأَحَادِيث الْقصار عقب كل حَدِيث بِبَيَان رتبته سَمَّاهُ الْمَجْمُوع الْفَائِق من حَدِيث خَاتِمَة رسل الْخَلَائق وَكتاب انتقاه من لِسَان الْمِيزَان وَبَين فِيهِ الْمَوْضُوع وَالْمُنكر والمتروك والضعيف ورتبه كالجامع الصَّغِير وَكتاب فِي الْأَحَادِيث الْقصار جمع فِيهِ عشرَة آلَاف حَدِيث فِي عشر كراريس كل كراسة ألف حَدِيث كل حَدِيث فِي نصف سطر يقْرَأ طرداً وعكساً سَمَّاهُ كنز الْحَقَائِق فِي حَدِيث خير الْخَلَائق وَشرح على نبذة شيخ الْإِسْلَام الْبكْرِيّ فِي فضل لَيْلَة النّصْف من شعْبَان وَكتاب فِي فضل لَيْلَة الْقدر سَمَّاهُ أسفار الْبَدْر عَن لَيْلَة الْقدر وَشرح على الْأَرْبَعين النووية ورتب كتاب الشهَاب الْقُضَاعِي وَشَرحه وَسَماهُ إمعان الطلاب بشرح تَرْتِيب الشهَاب وَله كتاب فِي الْأَحَادِيث القدسية وَشرح الْكتاب الْمَذْكُور وَشرح الْبَاب الأول من الشفا وَشرح الشمايل لِلتِّرْمِذِي شرحين أَحدهمَا مزج وَالْآخر قولات لكنه لم يكمل وَشرح ألفية السِّيرَة لجده الْعِرَاقِيّ شرحين أَحدهمَا قولات وَالْآخر مزج سَمَّاهُ الفتوحات السبحانية فِي شرح نظم الدُّرَر السّنيَّة فِي السِّيرَة الزكية وَشرح الخصائص الصُّغْرَى للجلال السُّيُوطِيّ شرحين صَغِير سَمَّاهُ فتح الرؤف الْمُجيب بشرح خَصَائِص الحبيب وَشرح كَبِير سَمَّاهُ توضيح فتح الرؤف الْمُجيب وَاخْتصرَ شمائل التِّرْمِذِيّ وَزَاد عَلَيْهِ أَكثر من النّصْف وَسَماهُ الرَّوْض الباسم فِي شمايل الْمُصْطَفى أبي الْقَاسِم وَخرج أَحَادِيث القَاضِي الْبَيْضَاوِيّ وَكتاب الْأَدْعِيَة المأثورة بالأحاديث المأثورة وَكتاب آخر سَمَّاهُ بالمطالب الْعلية فِي الْأَدْعِيَة الزهية وَكتاب فِي اصْطِلَاح الحَدِيث سَمَّاهُ بغية الطالبين لمعْرِفَة اصْطِلَاح الْمُحدثين وَشرح على وَرَقَات إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَآخر على وَرَقَات شيخ الْإِسْلَام ابْن أبي شرِيف وَاخْتصرَ التَّمْهِيد للأسنوي لكنه لم يكمله وَله كتاب فِي الْأَوْقَاف سَمَّاهُ تيسير الْوُقُوف على غوامض احكام الْوُقُوف وَهُوَ كتاب لم يسْبق إِلَى مثله وَشرح زبد ابْن أرسلان الَّتِي نظم فِيهَا أَرْبَعَة عُلُوم أصُول الدّين وأصول الْفِقْه وَالْفِقْه والتصوف وَسَماهُ فتح الرؤف الصَّمد بشرح صفوة الزّبد وَشرح التَّحْرِير لشيخ الْإِسْلَام زَكَرِيَّا سَمَّاهُ إِحْسَان التَّقْرِير بشرح التَّحْرِير ثمَّ شرح نظمه للعمريطي بالتماس بعض الْأَوْلِيَاء وَسَماهُ فتح الرؤف
الْخَبِير بشرح كتاب التَّيْسِير نظم التَّحْرِير وصل فِيهِ إِلَى كتاب الْفَرَائِض وكمله ابْنه تَاج الدّين مُحَمَّد وَشرح على عماد الرضي فِي آدَاب الْقَضَاء سَمَّاهُ فتح الرؤف الْقَادِر لعَبْدِهِ هَذَا الْعَاجِز الْقَاصِر وَشرح على الْعباب سَمَّاهُ اتحاف الطلاب بشرح كتاب الْعباب انْتهى فِيهِ إِلَى كتاب النِّكَاح وحاشية عَلَيْهِ لكنه لم يكملها وَشرح على الْمنْهَج انْتهى فِيهِ إِلَى الضَّمَان وحاشية على شرح الْمنْهَج لم تكمل وَكتاب فِي أَحْكَام الْمَسَاجِد سَمَّاهُ تَهْذِيب التسهيل وَكتاب فِي مَنَاسِك الْحَج على الْمذَاهب الْأَرْبَعَة سَمَّاهُ اتحاف الناسك بِأَحْكَام الْمَنَاسِك وَشرح على الْبَهْجَة الوردية سَمَّاهُ الْفَتْح السماوي بشرح بهجة الطَّحَاوِيّ ثمَّ اخْتَصَرَهُ فِي نَحْو ثلث حجمه وَكِلَاهُمَا لم يكمل وَكتاب فِي أَحْكَام الْحمام الشَّرْعِيَّة والطبية سَمَّاهُ النزهة الزهية فِي أَحْكَام الْحمام الشَّرْعِيَّة والطبية وَشرح على هَدِيَّة الناصح للشَّيْخ أَحْمد الزَّاهِد لكنه لم يكمل وَشرح على تَصْحِيح الْمِنْهَاج سَمَّاهُ الدّرّ المصون فِي تَصْحِيح القَاضِي ابْن عجلون لكنه لم يكمل وَشرح على مُخْتَصر الْمُزنِيّ لم يكمل وَاخْتصرَ الْعباب وَسَماهُ جمع الْجَوَامِع وَلم يكمل وَكتاب فِي الألغاز والحيل سَمَّاهُ بُلُوغ الأمل بِمَعْرِِفَة الألغاز والحيل وَكتاب فِي الْفَرَائِض وَشرح على الشمعة المضية فِي علم الْعَرَبيَّة للسيوطي سَمَّاهُ المحاضر الوضية فِي الشمعة المضية وَكتاب جمع فِيهِ عشرَة عُلُوم أصُول الدّين وأصول الْفِقْه والفرائض والنحو والتشريح والطب والهيئة وَأَحْكَام النُّجُوم والتصوف وَكتاب فِي فضل الْعلم وَأَهله وَكتاب اختصر فِيهِ الْجُزْء الأول من الْمُبَاح فِي علم الْمِنْهَاج للجلدكي وَشرح على الْقَامُوس انْتهى فِيهِ إِلَى حرف الذَّال وَاخْتصرَ الأساس ورتبه كالقاموس وَسَماهُ أَحْكَام الأساس وَكتاب الْأَمْثَال وَكتاب سَمَّاهُ عماد البلاغة وَكتاب فِي أَسمَاء الْبلدَانِ وَكتاب فِي التعاريف سَمَّاهُ التَّوْقِيف على مهمات التعاريف وَكتاب فِي أَسمَاء الْحَيَوَان سَمَّاهُ قُرَّة عين الْإِنْسَان بِذكر أَسمَاء الْحَيَوَان وَكتاب فِي أَحْكَام الْحَيَوَان سَمَّاهُ الْإِحْسَان بِبَيَان أَحْكَام الْحَيَوَان وَكتاب فِي الْأَشْجَار سَمَّاهُ غَايَة الْإِرْشَاد إِلَى معرفَة أَحْكَام الْحَيَوَان والنبات والجماد وَكتاب فِي التَّفْصِيل بَين الْملك وَالْإِنْسَان وَكتاب الْأَنْبِيَاء سَمَّاهُ فردوس الْجنان فِي مَنَاقِب الْأَنْبِيَاء الْمَذْكُورين فِي الْقُرْآن وَكتاب الطَّبَقَات الْكُبْرَى سَمَّاهُ الْكَوَاكِب الدرية فِي تراجم السَّادة الصُّوفِيَّة وَكتاب الصفوة بمناقب بَيت آل النُّبُوَّة وأفرد السيدة فَاطِمَة بترجمة وَالْإِمَام الشَّافِعِي بترجمة وَكَذَا
الشَّيْخ عَليّ الْخَواص شيخ الشَّيْخ عبد الْوَهَّاب الشعراني وَله شرح على منَازِل السائرين وَحكم ابْن عَطاء الله وترتيب الحكم للشَّيْخ على التقى سَمَّاهُ فتح الحكم بشرح تَرْتِيب الحكم لكنه لم يكمل وَشرح على رِسَالَة ابْن سينا فِي التصوف سَمَّاهُ إرْسَال أهل التَّعْرِيف وَشرح قصيدة العينية وَله شرح على المواقف التقوية لم يكمل وَشرح على رِسَالَة الشَّيْخ ابْن علوان فِي التصوف وَكتاب منحة الطالبين لمعْرِفَة أسرار الطواعين وَكتاب فِي التشريح وَالروح وَمَا بِهِ من صَلَاح الْإِنْسَان وفساده وَكتاب فِي دَلَائِل خلق الْإِنْسَان وَشرح على ألفية ابْن الوردي فِي المنامات وَشرح على منظومة ابْن الْعِمَاد فِي آدَاب الْأكل سَمَّاهُ فتح الرؤف الْجواد وَهُوَ أول كتاب شَرحه فِي الْآدَاب وَكتاب فِي آدَاب الْمُلُوك سَمَّاهُ الْجَوَاهِر المضية فِي بَيَان الْآدَاب السُّلْطَانِيَّة وَكتاب فِي الطِّبّ سَمَّاهُ بغية الْمُحْتَاج إِلَى معرفَة أصُول الطِّبّ والعلاج وَكتاب سَمَّاهُ الدّرّ المنضود فِي ذمّ الْبُخْل ومدح الْجُود وَكتاب فِي تَارِيخ الْخُلَفَاء وَتَذْكِرَة فِيهَا رسائل عَظِيمَة النَّفْع يَنْبَغِي أَن يفرد كل مِنْهَا بالتأليف وَله مؤلفات أخر غير هَذِه وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ أعظم عُلَمَاء هَذَا التَّارِيخ آثارا ومؤلفاته غالبها متداولة كَثِيرَة النَّفْع وَلِلنَّاسِ عَلَيْهَا تهافت زَائِد ويتغالون فِي أثمانها وأشهرها شرحاه على الْجَامِع الصَّغِير وَشرح السِّيرَة الْمَنْظُومَة للعراقي وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي صَبِيحَة يَوْم الْخَمِيس الثَّالِث وَالْعِشْرين من صفر سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَألف وَصلى عَلَيْهِ بِجَامِع الْأَزْهَر يَوْم الْجُمُعَة وَدفن بِجَانِب زاويته الَّتِي أَنْشَأَهَا بِخَط الْمقسم الْمُبَارك فِيمَا بَين زاويتي سَيِّدي الشَّيْخ أَحْمد الزَّاهِد وَالشَّيْخ مَدين الأشموني وَقيل فِي تَارِيخ مَوته مَاتَ شَافِعِيّ الزَّمَان رَحمَه الله تَعَالَى
عبد السَّلَام بن إِبْرَاهِيم بن إِبْرَاهِيم اللَّقَّانِيّ الْمصْرِيّ الْمَالِكِي الْحَافِظ المتقن الفهامة شيخ الْمَالِكِيَّة فِي وقته بِالْقَاهِرَةِ كَانَ فِي مبدأ أمره على مَا حكى من أهل الْأَهْوَاء المارقين وَلم يتَّفق أَنه رؤى بِمصْر فِي مَكَان إِلَّا فِي درس وَالِده الْبُرْهَان وَكَانَ إِذا انْتهى الدَّرْس ينفقد فَلَا يُوجد ويمضي لما كَانَ عَلَيْهِ حَتَّى مَاتَ أَبوهُ فتصدر فِي مَكَانَهُ بِجَامِع الْأَزْهَر للتدريس وَنزع عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ فِي أَيَّام شبابه وَظهر مِنْهُ مَا لَا يخمن فِيهِ من الْعلم وَالتَّحْقِيق وَلَزِمَه غَالب الْجَمَاعَة الَّذين كَانُوا يحْضرُون درس وَالِده وانتفع بِهِ خلق كثير وَكَانَ إِمَامًا كَبِيرا مُحدثا باهرا أصوليا إِلَيْهِ النِّهَايَة وَله تآليف حَسَنَة الْوَضع مِنْهَا شرح الْمَنْظُومَة الجزائرية فِي العقائد وَله ثَلَاثَة
شُرُوح على عقيدة وَالِده الْجَوْهَرَة وَكَانَ ذَا شهامة ونفسانية كثير الْخط على عُلَمَاء عصره وَكَانَت لَهُ شدَّة وهيبة لَا سِيمَا فِي دروسه فَكَانَ لَا يقدر أحد من الْحَاضِرين أَن يسْأَله أَو يرد عَلَيْهِ هَيْبَة لَهُ وَكَانَ كبار الْمَشَايِخ من أهل وقته يحترمون ساحته وينقادون لرأيه وَسمعت بعض الْأَشْيَاخ المصريين يَقُول أَنه لَو كَانَ على وتيرة وَالِده من الأكباب على الإفادة لفاته بمراحل على أَنه كَانَ فِي طبقته فضلا ومهابة وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي نَهَار الْجُمُعَة خَامِس عشرى شَوَّال سنة ثَمَان وَسبعين وَألف وَحكى شَيخنَا الإِمَام الْعَلامَة يحيى الشاوي المغربي روح الله تَعَالَى روحه أَنه رَآهُ بعد مَوته فِي الْمَنَام فأنشده
(حَدثنِي ذَا الْمُصْطَفى
…
من لَفظه ألف حَدِيث)
(وقصده بحفظها
…
سيري إِلَيْهِ بالحثيث)
عبد السَّلَام بن عبد النَّبِي المرعشي المولد نزيل دمشق وَأحد أَعْيَان الْجند بِالشَّام كَانَ وَالِده فِي الأَصْل من البوابين بالأبواب السُّلْطَانِيَّة قدم إِلَى دمشق وَصَارَ بهَا رَئِيس المحاضر وتديرها وَلما مَاتَ خلف أَوْلَادًا كَثِيرَة وَكَانَ عبد السَّلَام أكبرهم فانحاز إِلَى خدمَة الْأَمِير فروخ أَمِير الْحَاج الشَّامي وَصَارَ كَاتبا عِنْده وَاسْتمرّ فِي خدمته إِلَى أَن توفّي الْأَمِير الْمَذْكُور بِمَكَّة فأقيم مكانة أَمِيرا وَقدم بالركب إِلَى دمشق ثمَّ قطنها وَصَارَ من الْجند واقتنى دَارا بدرب الْوَزير وَكَانَ فِي بعض الْأَحَايِين يتَرَدَّد إِلَى نابلس لعلاقة كَانَت لَهُ بهَا ثمَّ سَافر إِلَى مصر فِي خدمَة حاكمها دالي حُسَيْن باشا وتقرب إِلَيْهِ فَأَحبهُ وَأَدْنَاهُ وَلما عزل أَصْحَبهُ مَعَه إِلَى الرّوم وسافر مَعَه إِلَى روان وبغداد وَعَاد إِلَى دمشق مُتَوَلِّيًا على أوقاف السُّلْطَان سليم وَصَارَ بعد ذَلِك باش جاويش وَتوجه بِهَذِهِ الْخدمَة إِلَى الْحَج عدَّة سِنِين ثمَّ صَار كتخدا الْجند وتنقل فِي مناصبهم كثيرا حَتَّى اسْتَقر آخرا يياباشيا وَكَبرت دولته وَعلا صيته وانعقد على صدارته الْإِجْمَاع وَلم يكن أحد تعين تعينه فَإِنَّهُ انحصرت فِيهِ أُمُور الشَّام بأجمعها وَتصرف تَصرفا فاعجيبا عَاما بِحَيْثُ لم يُخَالف فِي رَأْي يقترحه وَأنْشد فِيهِ بعض الأدباء هذَيْن الْبَيْتَيْنِ مغيرا لَهما عَن أَصلهمَا وهما
(يَا سائلي عَن جلق
…
وَمن بهَا من الْأَنَام)
(هاك الْجَواب عَاجلا
…
عبد السَّلَام وَالسَّلَام)
والبيتان أَصلهمَا للشَّيْخ أَحْمد الْمقري قالهما فِي بني الفصين كبراء غَزَّة وَسَيَأْتِي
خبرهما فِي تَرْجَمَة الرئيس مُحَمَّد بن الفصين وَكَانَ عبد السَّلَام لما وجهت نِيَابَة الشَّام لمرتضى باشا الكرحي ثَانِيًا فِي سنة سبع وَسِتِّينَ وَألف وَتصرف بهَا متسلمه اضْطربَ لذَلِك اضطرابا شَدِيدا لما كَانَ وَقع لَهُ مَعَه من المعاداة فِي تَوليته الأولى فَأخذ يدبر أَشْيَاء لمدافعته ثمَّ أَدَّاهُ اجْتِهَاده إِلَى أَن جمع جمعا عَظِيما بالجامع الْأمَوِي وأحضر أَكثر أهل الْبَلدة وَذكر لَهُم ظلمه وَأَشَارَ عَلَيْهِم بِأَن لَا يرضوه حَاكما عَلَيْهِم وَكَانَ نَائِب الشَّام السَّابِق الْمَعْرُوف بالسلاحدار لم يخرج بعد من دمشق وَكَانَ مُقيما بالميدان الْأَخْضَر فَذهب الْقَوْم إِلَيْهِ وأبرموا عَلَيْهِ بِأَن يبْقى نَائِبا وَكَتَبُوا فِي هَذَا الشَّأْن عرُوضا ومحاضر وأرسلوها إِلَى الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة وَخرج متسلم مرتضى باشا هَارِبا وَلما وصل إِلَيْهِ وَهُوَ فِي الطَّرِيق أرسل إِلَى الْبَاب السلطاني يعلمهُمْ بِمَا وَقع فقرر فِي نِيَابَة الشَّام بِخَط شرِيف فَلم يمكنوه وأظهروا الممانعة وجمعوا جمعا عَظِيما من أوباش الشَّام وعزموا على محاربته وطلعوا إِلَى قَرْيَة دَوْمًا وهم فِي جَيش عَرَمْرَم وَكَانَ مرتضى باشا وصل إِلَى القطيفة فَلَمَّا بلغه خبرهم ولى رَاجعا وَسَار إِلَى أَن وصل إِلَى أدنة وَعَاد الْجمع فِي صَبِيحَة توجههم إِلَى دمشق ثمَّ بعد مُدَّة وجهت نِيَابَة الشَّام إِلَى أَحْمد باشا ابْن الطيار وَأعْطى مرتضى باشا كَفَالَة ديار بكر مَكَانَهُ وَتعين ابْن الطيار إِلَى السّفر السلطاني وَأمر الْعَسْكَر الشَّامي بِالسَّفرِ مَعَه وَكَانَ عبد السَّلَام أحد من تعين للسَّفر فَأرْسل بَدَلا عَنهُ وَلم يُسَافر بِنَفسِهِ خوفًا من إِيقَاع المكيدة بِهِ وانحاز ابْن الطيار إِلَى حسن باشا الْخَارِج على الدولة الْمُقدم ذكره فعزل عَن نِيَابَة الشَّام وَولي مَكَانَهُ عبد الْقَادِر باشا وَقدم إِلَى دمشق وَكَانَ عبد السَّلَام وأحزابه فِي قلق عَظِيم من طرف السلطنة لما فَعَلُوهُ فأرسلوا من جانبهم جمَاعَة لاستعطاف خاطر الدولة عَلَيْهِم وَكَانَ الْأَمر تشدد عَلَيْهِم كثيرا فبرز أَمر السُّلْطَان بقتل عبد السَّلَام ورفيقه عبد الْبَاقِي بن إِسْمَاعِيل كَاتب الْجند وَجَمَاعَة كَثِيرَة من أحزابهما وَورد الْأَمر إِلَى عبد الْقَادِر باشا فَقَتلهُمْ وَضبط جَمِيع أملاكهم وَأَمْوَالهمْ وَكَانَ الَّذِي ضبط شَيْئا كثيرا وخمدت نَار الْفِتْنَة بِقَتْلِهِم وَكَانَ مقتلهم فِي صَبِيحَة السَّابِع وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان سنة تسع وَسِتِّينَ وَألف وَدفن عبد السَّلَام وَعبد الْبَاقِي بمقبرة بَاب الصَّغِير وألحقوا بعد مُدَّة أَيَّام بِجَمَاعَة أُخْرَى قتلوا وَالله أعلم
عبد الصَّمد بن عبد الله با كثير اليمني خَاتِمَة مفلقي الشُّعَرَاء بِالْيمن ونابغة الْعَصْر وباقعة الزَّمن يَنْتَهِي نسبه إِلَى كِنْدَة وَهُوَ نسب تقف الفصاحة قَدِيما وحديثا
عِنْده وَكَانَ كَاتب الْإِنْشَاء للسُّلْطَان عمر بن بدر ملك الشحر وشاعره الَّذِي تنفث فِي مدائحه سحر الْبَيَان وَبَيَان السحر وَله ترسل وإنشاء تصرف فِي إعجازهما كَيفَ شَاءَ وديوان شعره مَشْهُور تتلو محاسنه ألسن الْأَيَّام والشهور وَلم يزل كَاتبا للسطان الْمَذْكُور فِي عَهده ثمَّ لوَلَده عبد الله بن عمر من بعده حَتَّى انْقَضى أَجله وعمره وَهوى من أفق الْحَيَاة قمره فَمن شعره قَوْله من قصيدة
(رعيا لأيام تقضت بالحمى
…
فرنا بهَا ووشاتنا غفلاء)
(جاد الزَّمَان بهَا وأسعفنا بِمن
…
نهوى وَلم تشعر بِنَا الرقباء)
(وَمنا دمى يدر على غُصْن على
…
حقف لَهُ قلبِي العميد خباء)
(عذب الْمقبل عاطر الأنفاس درياق
…
النُّفُوس شفاهه اللعساء)
(متبسم عَن أشنب شنب لَهُ
…
مهما تَبَسم فِي الدجى لألاء)
(مَا مسك دارين بأطيب نكهة
…
مِنْهُ وَقد ضَاعَت لَهُ رِيَاء)
(عبر النسيم يجر فضل رِدَائه
…
فحبته من كافورها الأنداء)
(فتعطرت من طيب فائح نشره
…
أَرْوَاحنَا وسرت لَهُ السَّرَّاء)
(فسقى الْإِلَه مراتع الغزلان من
…
وَادي النقا وهمت بهَا الأنواء)
(وتهللت برياضها سحب الحيا
…
وسرت عَلَيْهَا دِيمَة وطفاء)
(حَتَّى يَرَاهَا الطّرف ابهج رَوْضَة
…
فيروقها الأصباح والأمساء)
(وَالطير عاكفة بِكُل حديقة
…
فَكَأَنَّهَا بلحونها قراء)
(وَالرَّوْض مبتهج الحيا فَكَأَنَّمَا
…
وَأرَاهُ من غمر الندى داماء)
وَقَوله من أُخْرَى
(هذي المرابع والكثيب إِلَّا وعس
…
وظبا الْخيام الآنسات الكنس)
(قف بِي عَلَيْهَا سَاعَة فَلَعَلَّ أَن
…
يَبْدُو لي الخشف الأغن إِلَّا لعس)
(فلطالما عفت الْكرَى عَن ناظري
…
شوقا إِلَيْهِ ومدمعي يتحبس)
(ينهل سَحا مثل منهمر الحيا
…
فَوق المحاجر مُطلقًا لَا يحبس)
(وأغن ناعس طرفه سلب الْكرَى
…
عَنى فطرفي ساهر لَا يَنْعس)
(أشتاقه مَا لَاحَ صبح مُسْفِر
…
فِي أفقه أَو جن ليل حندس)
مِنْهَا
(يَا عاذلي دَعْنِي وشأني أَن لي
…
قلبا بِغَيْر الْحبّ لَا يسْتَأْنس)
(لَك قدرَة أَن لَا تلوم وَلَيْسَ لي
…
صَبر بِهِ دون الورى أتلبس)
(كَيفَ السلو عَن الْأَحِبَّة بَعْدَمَا
…
دارت عَليّ من الصبابة أكؤس)
(نقل الصِّبَا نشر الحبيب وحبذا
…
نشربه ريح الصِّبَا تتنفس)
(آها وَلَا يجدي التأوه والأسى
…
فالصبر أجمل والتحمل أَكيس)
وَقَوله أَيْضا
(جاد الْغَمَام مراتع الغزلان
…
ومرابع الرشا الأغن الغاني)
(وسرى عَلَيْهَا كل أسحم هاطل
…
غدق يسح بوابل هتان)
(يحيى ربوعا طالما لعبت بهَا الغيد
…
الحسان نواعس الأجفان)
(من كل فاتنة اللحاظ إِذا رنت
…
سلبت بِسحر اللحظ كل جنان)
(فَكَأَنَّهَا الأقمار تطلع فِي دجى
…
ليل من المسترسل الغثيان)
(وكأنما تِلْكَ القدود إِذا انْثَنَتْ
…
قضب تمايل فِي ربى الكثبان)
(وبمهجتي خشف أغن مهفهف
…
أصمي فُؤَادِي إذر نافر ماني)
(ظَبْي من الْأَعْرَاب فِي وجناته
…
قوت الْقُلُوب وسلوة الأحزان)
(بِاللَّه مَا طالعت طلعة وَجهه
…
إِلَّا ورحت براحة النشوان)
(مَاء الشبيبة فَوق ورد خدوده
…
يجْرِي على متلهب النيرَان)
(ذَابَتْ عَلَيْهِ حشاشتي وجدابه
…
وصبابة وجفا الْكرَى أجفان)
(لم أنس أَيَّام التواصل واللقا
…
والشمل مُجْتَمع بوادي البان)
(ومنادمي من قد هويت وبيننا الصّرْف
…
الْكُمَيْت تدار فِي الأدنان)
(شمس مطالعها سعود كؤسها
…
بَين الندامى فِي بروج تهاني)
(فِي رَوْضَة مفروشة أرجاؤها
…
بالورد والمنثور وَالريحَان)
(يتراقص الندماء من طرب بهَا
…
بتراجع النغمات والعيدان)
(لم لَا يواصلنا السرُور وَنحن فِي
…
الفردوس بَين الْحور والولدان)
وَقَوله من قصيدة أُخْرَى مطْلعهَا
(أشتاق من سَاكِني ذَاك الْحمى خيما
…
لأَجلهَا زَاد شوقي فِي الحشا ونما)
(ولاعج الشوق والتبريح من كمد
…
أجْرى من الْعين مَعًا يخجل الديما)
(مَا جن ليلِي إِلَّا بت من كلف
…
أرعى النُّجُوم بِطرف يستهل دَمًا)
(لَوْلَا هوى شادن فِي الْقلب مرتعه
…
مَا اشْتقت وَادي النقا واليان والعلما)
(نَفسِي الْفِدَاء لظبي وَجهه قمر
…
وبرجه فِي سما قلبِي العميد سما)
(يصمي فُؤَادِي بنبل من لواحظه
…
عَن قَوس حَاجِبه مهما رنا وَرمى)
(فِي ثغره الدّرّ منظوماً فيا لَك من
…
ثغر شنيب يُرِيك الدّرّ منتظماً)
(جلّ الَّذِي صاغه بَدْرًا على غُصْن
…
على كثيب بأبداه لنا صنما)
(لم يكسه الْحسن ثوبا من مطارفه
…
إِلَّا كسا جَسَدِي من عشقه سقماً)
وَقَوله من أُخْرَى مستهلها
(عاذل فِي الغرام مهلا فقلبي
…
حَملته الأحباب مَا لَا يُطيق)
(كَيفَ يصغي إِلَى اللوائم صب
…
فِي حشاه من الْفِرَاق حريق)
(سلبته اللواحظ البابليات
…
وأردى بِهِ القوام الرشيق)
(وسباه أغن أحوى رداح
…
ينشد الْعِشْق حسنه المعشوق)
(قد كَفاهُ عَن المهند لحظ
…
وَعَن الرمْح قدة الممشوق)
(روض خديه جنَّة لَاحَ فِيهَا
…
جلنار وسوسن وشقيق)
(وَله مبسم يضيء سناه
…
عَن شنيب حَكَاهُ درنسيق)
وَكَانَت وَفَاته بالشحر فِي سنة خمس وَعشْرين وَألف وَقد عمر طَويلا
عبد الصَّمد بن مُحَمَّد بن عمر بن مُحَمَّد وَتقدم تَمام نسبه فِي تَرْجَمَة ابْن عَمه أَحْمد بن صَالح العلمي الْقُدسِي ابْن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى مُحَمَّد العلمي الْأُسْتَاذ الشهير كَانَ مَعَ وَالِده بِدِمَشْق لما كَانَ قاطنا بهَا واستخلفه أَبوهُ بعد الْألف وَكَانَ يجلس فِي حلقه الذّكر وَحده أَو مَعَ أَبِيه وَهُوَ غض الحداثة بارع الْحسن وَعَلِيهِ وقار الْأَشْيَاخ وَلما حج وَالِده فِي سنة إِحْدَى عشرَة بعد الْألف حج مَعَه وجاور أَبوهُ وَرجع هُوَ ثمَّ رَجَعَ أَبوهُ فِي السّنة الثَّانِيَة وَلم يلبثا بِدِمَشْق بل رحلا إِلَى بَيت الْمُقَدّس وتوطنا بهَا وَتُوفِّي عبد الصَّمد فِي حَيَاة وَالِده وَكَانَت وَفَاته فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْعَزِيز بن حسام الدّين الْمَعْرُوف بقره حَلَبِيّ زَاده الرُّومِي أحد مفتي التخت العثماني وَهُوَ من بَيت كَبِير فِي الرّوم أسلافه كلهم صُدُور أجلاء وَكَانَ هُوَ من كبار الْعلمَاء حسن الأرومة طيب الْعرق عذب الشمايل عالي الْقدر كثير التنعم والترفه وَكَانَ مثريا جدا وَله خيرات ومبرات كَثِيرَة خُصُوصا بِمَدِينَة بروسه وَكَانَ معتنيا بالتآليف وَله من الْآثَار المرغوية كتاب الألغاز فِي فقه الْحَنَفِيَّة وَألف تَارِيخا مُخْتَصرا وَآخر مطبولا فِي الدولة العثمانية كِلَاهُمَا بالتركية يحتويان على ضروب من حسن الْإِنْشَاء والترصيع وجعلهما برسم خزانَة السُّلْطَان مُرَاد وَكَانَ ينظم الشّعْر التركي وَله إنْشَاء مشتعذب وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ من مشاهير عُلَمَاء الرّوم نَشأ فِي
كنف أَبِيه ولازم من شيخ الْإِسْلَام صنع الله بن جَعْفَر الْمُفْتِي ثمَّ درس إِلَى أَن وصل إِلَى الْمدرسَة السليمانية وَولي مِنْهَا قَضَاء ينكى شهر فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف ثمَّ ولي قَضَاء مَكَّة المشرفة فِي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَقدم إِلَى دمشق وَبَعْدَمَا عزل وردهَا قَافِلًا وَأقَام بهَا مُدَّة وَتوجه إِلَى الْقُدس لزيارة معاهدها فاعترضه قطاع الطَّرِيق قريب الْمنية وَأخذُوا لَهُ بعض أَسبَاب فَعَاد إِلَى دمشق وَلم يحصل على الزِّيَارَة وَكَانَت مُدَّة إِقَامَته بِدِمَشْق مختلطا بأدبائها مُقبلا عَلَيْهِم وَله لديهم منائج وَلَهُم فِيهِ مدائح فَمنهمْ الشاهيني فَإِنَّهُ مدحه بقصيدة حَسَنَة فِي أسلوبها ومستهلها
(اقتضبنا المديح وَهُوَ عَزِيز
…
حَيْثُ معنى النسيب لَيْسَ يجوز)
(ونظمنا من الْكَلَام عقودا
…
در مَعْنَاهُ فِي النهى مكنوز)
(ونسجنا من القريض برودا
…
طرزها لَا يزينه التطريز)
(ورغبنا عَن كل مدح مشوب
…
بنسيب فمدحنا إبريز)
(واجتبينا من بَين كل الموَالِي
…
أوحدا يملك العلى ويحوز)
(عَالما كل مَا يحوز لَدَيْهِ
…
هُوَ شرع وَغَيره لَا يجوز)
(حَاز ضدين فِي الْكَلَام فَمَعْنَى
…
مسهب وَاسع وَلَفظ وجيز)
(قد أذلّ الصعاب من كل معنى
…
فلذاك اسْمه الْكَرِيم الْعَزِيز)
(لم يعزز بثالث فِي نداه
…
بعزيز لحاتم تعزيز)
(لَيْلَة الْقدر لَيْلَة فِي حماه
…
قد تقضت ويومه نوروز)
(هجر الْمَنْع فِي الْكَلَام فمهما
…
رام نطقا فَمَنعه تَنْجِيز)
(كل أوصافك الحسان العوالي
…
عوذ تحفظ العلى وحروز)
(أَي نفس غَدَتْ من الْخَيْر صفرا
…
تِلْكَ نفس بطوعكم لَا تفوز)
(فإليك الَّتِي تحاول كُفؤًا
…
وَلها عَن حمى سواك نشوز)
(كل معنى يجْرِي بأبلغ وَجه
…
فَهُوَ عقد لمدحكم محروز)
(قد نماها من ابْن شاهين باز
…
عَلمته صيد القوافي بؤز)
وَمِنْهُم مُحَمَّد بن يُوسُف الكريمي فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ قصيدة جَيِّدَة أَو ردتها برمتها اللطافة نسيجها وسلاسة تغزلها ومطلعها
(من لقلب مَا بَين سمر وبيض
…
من قوام لدن وطرف مَرِيض)
(من لمن صادم الْهوى من نصير
…
فإليه إِذا سَطَا تفويضي)
(زارني فِي الدجى فَكَانَ كبدر
…
التم قد لَاحَ فِي اللَّيَالِي الْبيض)
(شادن لَو يُقَابل الشَّمْس والبدر
…
لكانا فِي رُتْبَة المستفيض)
(سلب الْعقل والفؤاد وخلاني
…
لهجرانه الطَّوِيل العريض)
(فنهاري نَهَار منتظر فِيهِ وليلى
…
لَا ذقت ليل الْمَرِيض)
(عاقني عَن شكايتي مَا أُلَاقِي
…
عَن سوى مدحك امْتنَاع القريض)
(سنَن النسيب كُنَّا نرَاهَا
…
سَقَطت لاشتغالنا بالفروض)
(هُوَ مولى سما السماكين فضلا
…
وعداه من الثرى فِي حضيض)
(وانجلت عِنْد فَضله مشكلات
…
للمعاني فمالها من غموض)
(قَوْله فِي الْعُلُوم يرْوى صَحِيحا
…
وسواه بِصِيغَة التمريض)
(جمعت ذَاته المكارم حَتَّى
…
مَالهَا غير كَفه من مفيض)
(وَاسْتحق الْعليا فَإِن أصف الْغَيْر
…
بعليا يكن بِهِ تعريضي)
(قعدت حاسدوه عَن شأ وعلياه
…
قصورا فمالها من نهوض)
(وابتني فِي ذرى العلى غرف الْمجد
…
وماذا الْبناء بالمنقوض)
(جاد طبعا فَعنده اللوم فِي الْجُود
…
كحث عَلَيْهِ أَو تحريض)
(رام لَو شاطر العميد لذيذ النّوم
…
لَو كَانَ مُمكن التَّبْعِيض)
(مَا عَزِيز بِمصْر عنْدك يلفي
…
بعزيز بل إِنَّه كالنقيض)
(فالعزيز الَّذِي يعز بِهِ الْغَيْر
…
كمولاي مِنْهُ عزقر يضي)
(غرر فاقت الثريا نظاما
…
فَهِيَ تزري بِكُل روض أريض)
(وقواف كَأَنَّهَا الشهب لاحت
…
فِي سما الْمَدْح من بروج الْعرُوض)
(هِيَ لي بنت لَيْلَة وَهِي ترضي
…
من قبُول بمهرها الْمَقْبُوض)
(مَالهَا غير أَن تبقى رَجَاء
…
هَل لصافي الْحَيَاة من تعويض)
(خاطري أَو جز المديح ولولاك
…
لما جَاءَ برقه بالوميض)
(لَك عِنْدِي مدى الزَّمَان ثَنَاء
…
وثناء عددته من فروضي)
ثمَّ سَافر إِلَى الرّوم وَأقَام بهَا مُدَّة ثمَّ ولي قَضَاء قسطنطينية فِي سنة ثَلَاث وَأَرْبَعين وَكَانَ السُّلْطَان مُرَاد سَافر فِي أَيَّام قَضَاءَهُ إِلَى أدرنة فأشيع عَنهُ فِي قَضَائِهِ بعض أُمُور ونما خَبَرهَا إِلَى السُّلْطَان فَعَزله ونفاه إِلَى جزير قبرس وَبَقِي بهَا مُدَّة منطرحا وَذكر وَالِدي رَحمَه الله تَعَالَى أَنه وقف لَهُ على قصيدة بالتركية يتظلم فِيهَا الْوُلَاة الْأَمر
من الزَّمَان وَيطْلب عوده إِلَى موطنه وضمنها الْمثل الْمَشْهُور وَهُوَ قَوْلهم ارحموا عَزِيز قوم ذل فشفع فِيهِ أحد أَرْكَان الدولة فأعبدو بعد مُدَّة صَار لَهُ رُتْبَة قَضَاء العسكرين وَلما وَقع مقتل السُّلْطَان إِبْرَاهِيم أظهر نَفسه فِي ذَلِك الغضون وسعى فَصَارَ قَاضِي الْعَسْكَر بروم إيلي وَأعْطى رُتْبَة الْفَتْوَى وَلم يسمع أَنَّهَا صَارَت لَا حد قبله ثمَّ صَار مفتيا فِي عَاشر جُمَادَى الأولى سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَبَقِي مفتيا أَرْبَعَة أشهر ثمَّ عزل فِي ثَانِي عشر شهر رَمَضَان وَنفي إِلَى بروسه وَأعْطِي قَضَاء جَزِيرَة ساقز فَأَقَامَ ببروسه إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبعين وَألف تَقْرِيبًا
عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن يحيى بهران التَّمِيمِي الْبَصْرِيّ ثمَّ الصعدي ذكره ابْن أبي الرِّجَال فِي تَارِيخه وَقَالَ فِي حَقه القَاضِي الْعَلامَة كَانَ متضلعا من كل الْعُلُوم قَالَ شَيخنَا الْعَلامَة أَحْمد بن يحيى حَابِس أَنه كَانَ يعرف جَمِيع عُلُوم الإجتهاد علم إتقان لكنه لَا يستنبط الْأَحْكَام وَهُوَ شيخ الشيوح فِي الحَدِيث وَالتَّفْسِير وَمن كراماته أَنه كَانَ فِي آخر عمره لَا يستضيء إِلَّا الْعلم حكى تِلْمِيذه السَّيِّد دَاوُد بن الْهَادِي أَنه كَانَ يقْرَأ عَلَيْهِ فِي الزّبد بصعد فَكَانَ يَوْمئِذٍ ينظر فِي حَوَاشِي فِي الْكتاب لَا يميزها إِلَّا حاد الْبَصَر وَأدْركَ ذَلِك ثمَّ خرجا فَأصَاب جملا يحمل لَحْمًا أَو حطبا فَقَالَ لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ لَهُ مقسمًا مَا ميزته وَله فِي الْفِقْه قدم رامخة وَهُوَ الَّذِي أجْرى القوانين فِي آبار صعدة فِي المساقي وَقدر الأحباب الْمَعْرُوفَة من المَاء وَجعل المغارم تَابِعَة للعروض أَيْضا وَذَلِكَ أَنه عرف جَمِيع الصَّنَائِع تَحْقِيقا وذرع المَاء على الطين ثمَّ أَنه كتب شَيْئا من الْحجَج فمدحه ابْن عمر الضمدي بقوله
(لله دَرك يَا عبد الْعَزِيز لقد
…
وضعت هَذَا الدوا فِي مَوضِع الوجع)
بعد أَن كَانَ ابْن عمر مَنعه من المناظرة وَمِمَّا يروي عَنهُ أَنه تشارع إِلَيْهِ بعض العتاة أهل السطوة فَلَمَّا أَرَادَ الحكم على ذَلِك الطاغي أَشَارَ إِلَيْهِ أَنه سيعيد إِلَيْهِ عنبه إِذا حكم قَالَ القَاضِي أخروا الحكم ثمَّ طلب بعض النَّاس وَبَاعَ مِنْهُ الْعِنَب جَمِيعه وَطلب الْخصم وَحكم عَلَيْهِ وَقَالَ لَهُ الْعِنَب قد بعناه من فلَان لَا تغلظ وَكَانَت وَفَاته يَوْم الْأَرْبَعَاء ثامن رَجَب سنة عشرَة وَألف بِمَدِينَة صعدة
عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد سعد الدّين بن حسن جَان التبريزي الأَصْل القسطنطيني أحد صُدُور الرّوم وعلمائها وَهُوَ وَالِد مُحَمَّد البهائي الْمُفْتِي الْمَشْهُور الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى كَانَ من كبار رُؤَسَاء الْعلمَاء لَهُ الصدارة والتقدم والشهامة التَّامَّة ولي قَضَاء
قسطنطينية فِي شهر ربيع الأول سنة ثَلَاث عشرَة بعد الْألف ثمَّ ولي قَضَاء الْعَسْكَر باناطولي فِي سنة خمس عشرَة ثمَّ قَضَاء الرّوم مرَّتَيْنِ وعزل عَن الْأَخِيرَة فِي شهر رَمَضَان سنة ثَلَاث وَعشْرين وَكَانَ فِي صدر الدولة العثمانية كل من دعى أَمِير الْأُمَرَاء يتَقَدَّم فِي الْجُلُوس على قَضَاء العساكر إِلَى أَن ولي الْمولى أَحْمد بن مَحْمُود الشهير بقاضي زَاده وَالْمولى مُحَمَّد بن شيخ مُحَمَّد بن الياس الشهير بجوى زَاده قَضَاء العسكرين فَكَانَا سَببا فِي تَقْدِيم قُضَاة العساكر على أُمَرَاء الْأُمَرَاء فِي الْجُلُوس فَوْقهم مَا عدا أَمِير الْأُمَرَاء بروم أيلي وأناطولي إِلَى أَن ولي صَاحب التَّرْجَمَة قَضَاء روم أيلي فاتفق أَن أَمِير الْأُمَرَاء بروم أيلي كَانَ من أسافل النَّاس يُسمى ماريول حُسَيْن باشا فاستنكف صَاحب التَّرْجَمَة من الْجُلُوس دونه فَعرض ذَلِك إِلَى السُّلْطَان أَحْمد فَخرج خطّ شرِيف بِتَقْدِيم قُضَاة العساكر على مُطلق أُمَرَاء الْأُمَرَاء وَكَانَ ذَلِك فِي سنة سبع عشرَة وَألف وَحج صَاحب التَّرْجَمَة فِي سنة خمس وَعشْرين ثمَّ رَجَعَ وَلم يتَوَلَّى بعد ذَلِك منصبا إِلَى أَن توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سبع وَعشْرين وَألف
عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد أَبُو فَارس المغربي الْمَعْرُوف بالفشتالي كَاتب الْملك الْمَنْصُور مولَايَ أَحْمد صَاحب الْمغرب الَّذِي يَقُول فِيهِ أَن الفشتالي نفتخر بِهِ على الْمُلُوك ونباري بِهِ لِسَان الدّين بن الْخَطِيب كَمَا ذكره أَبُو الْعَبَّاس الْمقري فِي كِتَابه نفح الطّيب وناهيك بِمثل هَذَا القَوْل من مثل هَذَا الْملك وَهُوَ شَاهد بِكَمَال فضل الْمَقُول فِيهِ وَأَنه فِي نفس الْأَمر كَمَا قيل فِيهِ وَقد ذكره الخفاجي فَقَالَ فِي وَصفه أديب عذب الْبَيَان ماضي شبا اللِّسَان إِلَى أَن قَالَ جر عَلَيْهِ الدَّهْر ذيول إقباله وفوقه فِي الدولة الأحمدية على أقرانه وَأَمْثَاله فَمَا ارتشفه فَم السّمع من مورده العذب الْبَيَان وتشنف من لآلئه الَّتِي أصدافها الْقُلُوب والآذان قَوْله
(حِين أزمعت عِنْد خوف البعاد
…
وَعَدتنِي من الْفِرَاق العوادي)
(قَالَ صحبي وَقد أطلت التفاتي
…
أَي شَيْء تركت قلت فُؤَادِي)
وَذكر لَهُ عبد الْبر الفيومي فِي المنتزه هَذِه الأبيات وَقَالَ كتب بهَا الأستاذنا نَا الْمقري
(يَا نسمَة عطست بهَا أنف الصِّبَا
…
فتضمخت بعبيرها فنن الرِّبَا)
(هبي على عرصات أَحْمد واشرخي
…
شوقي إِلَى رُؤْيَاهُ شرحاً مطنباً)
(وصفي لَهُ بالمنحنى من أضلعي
…
قلباً على جمر الغضا متقلباً)
(بَان الْأَحِبَّة عَنهُ حب قد توى
…
عَنهُ وَآخر قد نأى وتغيباً)
(فعساك تسعد يَا زمَان بقربهم
…
فَأَقُول أَهلا باللقاء ومرحبا)
ثمَّ قَالَ متعرضا للخفاجي فِي اعتراضه على المطلع أَن اسْتِعَارَة العطاس للنسيم لييست بحسنة مَقْبُولَة وَالْمَعْرُوف عطس الصُّبْح وَالْفَجْر إِلَى آخر مَا قَالَه حَيْثُ أُرِيد التَّشْبِيه صَحَّ التشميت فَإِن الْمعَانِي مُتَسَاوِيَة بَين الْأَنَام لَا خُصُوصِيَّة لَهَا بعصر دون عصر كَمَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ وَقَول المرزوقي فِي شرح الفصيح وعطس الصُّبْح انفجر على التَّشْبِيه كَقَوْل أبي إِسْحَق الْغَزِّي
(كم من بكور إِلَى إِحْرَاز منقبة
…
جعلته لعطاس الْفجْر تشميتا)
لَيْسَ فِيهِ منع لاستعماله على وَجه التَّشْبِيه فِي غير الصُّبْح بل هُوَ أتم فِي الرّيح مِنْهُ فِي الْفجْر لقَوْل الْمَذْكُور يُقَال عطس إِذا فاجأته صَيْحَة من غير إِرَادَة وهبوب الرّيح فَجْأَة كَذَلِك بِخِلَاف الْفجْر فَإِنَّهُ يلوح شَيْئا فَشَيْئًا انْتهى وَمن شعر صَاحب التَّرْجَمَة على مَا أنْشدهُ لَهُ ابْن مَعْصُوم فِي السلافة قَوْله فِي بعض المباني المنصورية
(مَعَاني الْحسن تظهر فِي المغاني
…
ظُهُور السحر فِي حدق الحسان)
(مشابه فِي صِفَات الْحسن أضحت
…
تمت بهَا المغاني للغواني)
(بِكُل عَمُود صبح من لجين
…
تكون فِي استقامة خوط بَان)
(مفصلة القدود ممثلات
…
مُوَاصلَة العناق من التداني)
(تردت سابري الْحسن يزري
…
بِحسن السابري الخسرواني)
(وتعطو الخيزرانة من دماها
…
بسالفة القطيع البرهماني)
(لمجدك تنتمي لَكِن نماها
…
إِلَى صنعاء مَا صنع اليدان)
(يدين لَك ابْن ذِي يزن ويعنو
…
لَهَا غمدان فِي الأَصْل الْيَمَانِيّ)
(غَدَتْ حرما وَلَكِن حل مِنْهَا
…
لوفدكم الْأمان مَعَ الْأَمَانِي)
(مبان بالخلافة آهلات
…
بهَا يَتْلُو الْهدى السَّبع المثاني)
(هِيَ الدُّنْيَا وساكنها إِمَام
…
لأهل الأَرْض من قاص ودان)
(قُصُور حَالهَا فِي الأَرْض شبه
…
وَمَا فِي الأَرْض للمنصور ثَان)
قَالَ الْمقري فِي كِتَابه نفح الطبب وَقد بَلغنِي وَفَاته وَأَنا بِمصْر عَام ثَلَاثِينَ وَألف وَذكر الشلي أَن وَفَاته كَانَت فِي سنة إِحْدَى وَثَلَاثِينَ وَلم أدر عَمَّن حَرَّره وَالله أعلم
عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز عَليّ بن عبد الْعَزِيز بن عبد السَّلَام بن مُوسَى بن أبي بكر بن أكبر عَليّ بن احْمَد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن دَاوُد الْبَيْضَاوِيّ
الشِّيرَازِيّ الأَصْل ثمَّ الْمَكِّيّ الزمزمي نِسْبَة لبئر زَمْزَم لِأَن جده عَليّ بن مُحَمَّد قدم مَكَّة فِي سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة عَام قدمهَا الْفِيل من الْعرَاق فِي قصَّة ذكرهَا المؤرخون فباشر عَن الشَّيْخ سَالم بن ياقوت الْمُؤَذّن فِي خدمَة بِئْر زَمْزَم فَلَمَّا ظهر لَهُ خَيره نزل لَهُ عَنْهَا وزوجه بابنته فولد مِنْهَا وَلَده أَحْمد الْمَذْكُور وَغَيره من إخْوَته وَصَارَ لَهُم أَمر الْبِئْر وَكَانَ مَعَه أَيْضا سِقَايَة الْعَبَّاس رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ وَمَا زَالُوا يتوالدون إِلَى أَن ولد عبد الْعَزِيز صَاحب التَّرْجَمَة وَهُوَ عريق فِي الْمجد من الطَّرفَيْنِ فَإِن جده لأمه الشهَاب أَحْمد بن حجر الْمَكِّيّ وَكَانَ شَافِعِيّ الْمَذْهَب كأسلافه كلهم وَكَانَ إِمَامًا كَبِير الشَّأْن عَالما رَئِيسا نبيها نَشأ بِمَكَّة وَأخذ عَن أساطين علمائها وجد وبرع فِي الْعُلُوم سيمى الْفِقْه وطار صيته وانتفع بِهِ النَّاس طبقَة بعد طبقَة وانتهت إِلَيْهِ رياسة الشَّافِعِيَّة على الْإِطْلَاق وسارت فَتَاوِيهِ وَعمر حَتَّى صَار الْعلم الْفَرد وَألف وَمن جملَة تأليفاته كتابات على التُّحْفَة تأليف جده ابْن حجر الْمَذْكُور وَهِي تدل على سَعَة اطِّلَاعه وَأخذ عَنهُ الشلي وَذكره فِي تَارِيخه عقد الْجَوَاهِر وَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا قَالَ وَكَانَت وِلَادَته بِمَكَّة المشرفة فِي سنة سبع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة بعد وَفَاة جده ابْن حجر بِثَلَاث سِنِين كَمَا أَخْبرنِي بذلك مشافهة وَتُوفِّي لَيْلَة الْأَحَد لثمان بَقينَ من جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف قلت وَأَبوهُ مُحَمَّد كَانَ رَئِيس مَكَّة فِي عصره أَخذ عَن وَالِده عبد الْعَزِيز وَعَن ابْن حجر وَأخذ عَنهُ النَّجْم الْغَزِّي الدِّمَشْقِي وَتُوفِّي سنة تسع وَألف وَإِنَّمَا ذكرته هُنَا لِأَنَّهُ لم يصلني من خَبره إِلَّا مَا ذكرته وجده عبد الْعَزِيز لَهُ تَرْجَمَة مُسْتَقلَّة فِي الْكَوَاكِب السائرة ذكر الْغَزِّي ابْنه مُحَمَّدًا فِي ضمنهَا فأدرجته أَنا فِي الضمن أَيْضا اقْتِدَاء بِالنَّجْمِ وَأَيّمَا كَانَ فقد حصلت على ذكره وَإِذا جَاءَ مَحل ذكره ذكرت اسْمه وأشرت إِلَى ذكره فِي هَذَا الْموضع
عبد عَليّ بن نَاصِر بن رَحْمَة الحويزي الأديب الشَّاعِر الْمَشْهُور كَانَ أوحد زَمَانه فِي الْأَدَب الغض وَالشعر البديع وَقد ذكره ابْن مَعْصُوم فَقَالَ فِي حَقه فَاضل قَالَ من الْفضل بِظِل وريف وكامل حل من الْكَمَال بَين خصب وريف فالإسماع من زهرات أدبه فِي ربيع وَمن ثَمَرَات فَضله فِي خريف إِن أنشأ ينشئ أبدى من فنون السجع ضَرَائِب أَو طفق ينظم أهْدى الشنوف للإسماع والعقود للترائب ومؤلفاته فِي الْأَدَب أحلى من رشف الضَّرْب بل أجل من نيل الأرب وَمَتى جاراه قوم فِي كَلَام الْعَرَب كَانَ النبع وَكَانَ الغرب واتصل بحكام الْبَصْرَة
وولاتها فوصلته بأسنى أفضالها وأهنى صلَاتهَا وهبت عَلَيْهِ من قبلهم رخاء الإقبال وعاش فِي كنفهم بَين نَضرة الْعَيْش ورخاء البال وَلم يزل بهَا حَتَّى انصرمت من الْحَيَاة أَيَّامه وقوضت من هَذِه الدَّار الفانية خيامه وَمن مؤلفاته الْمعول فِي شرح شَوَاهِد المطول وقطر الْغَمَام فِي شرح كَلَام الْمُلُوك مُلُوك الْكَلَام وَغير ذَلِك وَله ديوَان شعر بِالْعَرَبِيَّةِ وانتخب مِنْهُ نبذة سَمَّاهَا بحلي الأفاضل وَله أشعار بالتركية والفارسية ثمَّ أنْشد لَهُ هَذِه القصيدة يمدح بهَا عَليّ باشا ابْن أفرا سياب حَاكم الْبَصْرَة ويستأذنه فِي الْحَج وزياة النَّبِي
ومطلعها
(لمع الْبَرْق فِي اكف السقاة
…
وبدا الصُّبْح فِي سنا الكاسات)
(فالبدار البدار حَيّ على الراح
…
وهبوا لأكمل اللذا)
(نَار مُوسَى بَدَت فَأَيْنَ كليم الذَّات
…
يمحو بهَا حجاب الصِّفَات)
(صَاح ديك الصَّباح يَا صَاح بِالرَّاحِ
…
فَوَات الأفراح قبل الْفَوات)
(واصطبحنا اصطباح من رَاح
…
لَا يفرق بَين الشموس والذرات)
(تلق فِيهَا الْعُقُول منتقشات
…
كانتقاش الْأَشْخَاص فِي الْمرْآة)
(فَهِيَ الشربة الَّتِي عثر الْخضر عَلَيْهَا
…
فِي عين مَاء الْحَيَاة)
(وتقصى الاسكندر الْبَحْث عَنْهَا
…
فعداها وتاه فِي الظُّلُمَات)
(سكنت من حضائر الْقُدس حانا
…
جلّ عَن أَن يُقَاس بالحانات)
(نور حق بِنَفسِهِ قَامَ مَا احْتَاجَ
…
إِلَى كوَّة وَلَا مشكاة)
(قبس أشعلته أَيدي التجلي
…
فَأَضَاءَتْ بِهِ جَمِيع الْجِهَات)
(حجبت بالزجاج وَهِي عيان
…
كاحتجاب البذور بالهالات)
(يَا نديمي أجل لي عرائس سر
…
بغواشي الكؤس محتجبات)
(هَات راحي وناد خُذْهَا فَإِنِّي
…
لست أنسى يَوْم اللقا خُذ وهات)
(فَلَقَد هد ركن نحسي لما
…
سعدت بالحبيب كل جهاتي)
(هِيَ شهد الشُّهُود بل رَاحَة الْأَرْوَاح
…
بل حسن طلعة الْحَسَنَات)
(يَا سقاتي لَا تصرفوا الصّرْف عني
…
فحياتي فِي رشفها يَا سقاتي)
(غير بدع مِمَّن حساها إِذا ارْتَاحَ
…
وَقَالَ الْوُجُود بعض هباتي)
(قَامَ زين الْعباد من شربهَا قطبا
…
عَلَيْهِ دارت رحى الْبَينَات)
(فتلاشى بشعلة فتح الْعَينَيْنِ
…
مِنْهَا إِلَى عُيُون الذَّات)
(وخطت بالجنيد لجة بَحر
…
غرقت فِيهِ أَكثر الكائنات)
(ورمت بالحسين حَتَّى ترقى
…
بِأَن الْحق أرفع الدَّرَجَات)
(واستمعنا من شيخ بسطَام مَا أعظم
…
ذاتي بِالنَّفْيِ وَالْإِثْبَات)
(وقصارى خلع العذار بهَا نيل
…
مقَام يُقَاوم المعجزات)
(رب وفر مِنْهَا يُصِيب فَتى الْمجد
…
عَليّ العلى سرى السراة)
(فَهُوَ فِي سره المنزه سرى
…
أَنه لم يهم بجوز الفلاة)
(حاد عَن مَذْهَب التقشف
…
وانحاز إِلَى مَذْهَب الحماة الكماة)
(وتردّى برد البواطن وَالْأَصْل
…
خلوص الْأَعْمَال بِالنِّيَّاتِ)
(فَهُوَ فِي السِّرّ خَادِم الْفقر عاف
…
وَهُوَ فِي الْجَهْر ضيغم الْملك عاتي)
(وَله فِي مَرَاتِب الْفضل ذهن
…
هُوَ مِفْتَاح مقفل المشكلات)
(كتمته أولى الدهور وأبدته
…
على فَتْرَة من المكرمات)
(فأفادت بمجده الْبَصْرَة الفيحاء
…
حلى الْمعَاهد العاطلات)
(حل من حفظ نَفسه للْمَسَاكِين
…
سَنَام الْمَرَاتِب العاليات)
(أَسد فِي ملاحم الْحَرْب غيث
…
فِي الندى خضرم بِعلم اللُّغَات)
(كَفه مقلة العدوّة فَلَا يَنْفَكّ
…
كل عَن شِيمَة المرسلات)
(وَكَذَا خيله وأفئدة الْأَعْدَاء
…
سيان فِي رَحا العاديات)
(وَكَذَا مَاله وأرواح من عَادَاهُ
…
فِي كونهن فِي النازعات)
(أَن يضع وَقت من سواي فَإِنِّي
…
لي بعلياه أشرف الْأَوْقَات)
(شملتني مِنْهُ الْعِنَايَة حَتَّى
…
قد سمت همتي عَن النيرات)
(يَا إِمَام الْكِرَام يَا صَادِق الْوَعْد
…
إِذا لم يَفِ الورى بالعدات)
(وهما مَا تعوّد الْحلم والجود
…
وَهَاتَانِ أكْرم الْعَادَات)
(نلْت من جودك العميم نوالا
…
وَجَبت فِيهِ حجتي وزكاتي)
(عرف النَّاس فِي حماك وُقُوفِي
…
فأجزني الْوُقُوف فِي عَرَفَات)
(ومرادي لَك الثَّوَاب وللرق
…
قَضَاء الْمَنَاسِك الْوَاجِبَات)
(طوف بَيت الله الْحَرَام وتقبيل
…
ثرى قبر سيد الكائنات)
(لم أُفَارِق حمى العلى لبيت
…
غير بَيت العلى ذِي الدَّرَجَات)
(وابق واسلم على الرَّجَاء مليكاً
…
طوع مَا يَشْتَهِي الزَّمَان المواتي)
(
…
)
قلت أَخْبرنِي بعض المكيين أَن حج وَفِي ذكرى أَنه قَالَ لي جاور وَاتفقَ لَهُ مَعَ أدباء مَكَّة مطارحات ومدائح فَمن قصيدته الَّتِي مدح بهَا الشريف رَاشد ومستهلها
(الآم انتظاري للوصال وَلَا وصل
…
وحتام لَا تَدْنُو إليّ وَلَا أسلو)
(وَبَين ضلوعي زفرَة لَو تبوّأت
…
فُؤَادك مَا أيقنت أَن الْهوى سهل)
(جميلاً بصب زَاده النأي صبوة
…
ورفقاً بقلب مَسّه بعْدك الخبل)
(إِذا أطرفت مِنْك الْعُيُون بنظرة
…
فأيسر شَيْء عِنْد عاشقك الْقَتْل)
(أمنعمة بالزورة الظبية الَّتِي
…
بخلخالها حلم وَفِي قُرْطهَا جهل)
(وَمن كلما جردتها من ثِيَابهَا
…
كساها ثيابًا غَيرهَا الفاجم الجثل)
(سقى المزن أَقْوَامًا بو عساء رامة
…
لقد قطعت بيني وَبينهمْ السبل)
(وَحيا زَمَانا كلما جِئْت طَارِقًا
…
سليمى أجابتني إِلَى وَصلهَا جمل)
(تود وَلَا أصبو وَتُوفِّي وَلَا أَفِي
…
وأنأي وَلَا تنأى وأسلو وَلَا تسلو)
(إِذا الْغُصْن غض والشباب بمائه
…
وجيد الرِّضَا من كل نائبة عطل)
(وَمن خشيَة النَّار الَّتِي فَوق وجنتي
…
تقاصر أَن يدنو يعارضي النَّمْل)
(بروحي من ودعتها ومدامعي
…
كسقط جمان جد من سمطه الْحَبل)
(كَانَ قلاص الْمَالِكِيَّة نوخت
…
على مدمعي فَارْفض مذ سَارَتْ الأبل)
(وَمَا ضربت تِلْكَ الْخيام بعالج
…
لقصد سوى أَن لَا يصاحبني الْعقل)
(وحدب كَانَ العيس فِيهِ إِذا خطت
…
تسابق ظلا أَو يسابقها الظل)
(سئمن بِنَا الأمضاء حَتَّى كأننا
…
حياري ذجى أَو أَرْضنَا مَعنا قفل)
(إِذا عرضت لي من بِلَاد مذلة
…
فأيسر شَيْء عِنْدِي الوخد والرحل)
(وَلَيْسَ اعتساف البيد عَن مربع الْأَذَى
…
بذل وَلَكِن الْمقَام هُوَ الذل)
(وَلَا أَنا مِمَّن أَن جهلت خلاله
…
أَقَامَت بِهِ القامات والأعين النجل)
(فَكل رياض جِئْتهَا إِلَى مرتع
…
وكل أنَاس أكرموني هم الْأَهْل)
(ولي بإعتماد إِلَّا بلج الْوَجْه رَاشد
…
عَن الشّغل فِي آثَار هَذَا الورى شغل)
(همام رست للمجد فِي جنب عزمه
…
جبال جبال الأَرْض فِي جنبها سهل)
(وَلَيْث هياج مَا عرين جفونه
…
من الْكحل إِلَّا والعجاج لَهَا كحل)
(يقوم مقَام الْجَيْش إِن غَابَ جَيْشه
…
ويخلف حد النصل إِن غمد النصل)
(زكتْ شرفاً أعراقه وفروعه
…
وَطَابَتْ لنا مِنْهُ الْفَضَائِل وَالْفِعْل)
(إِذا لم يكن فعل الْكَرِيم كَأَصْلِهِ
…
كَرِيمًا فَمَا تغني الْمُنَاسب وَالْأَصْل)
(من النَّفر الغر الَّذين تحالفوا
…
مدى الدَّهْر أَن يَأْتِي دِيَارهمْ الْبُخْل)
(كرام إِذا راموا فطام وليدهم
…
عَن الثدي حطوا الْبُخْل فانفطم النجل)
(لُيُوث إِذا صالوا غيوث إِذا هموا
…
بحور إِذا جادوا سيوف إِذا سلوا)
(وَإِن خطبوا مجدا فَإِن سيوفهم
…
مُهُور وأطراف الْقَنَاة لَهُم رسل)
(إِذا قَفَلُوا تنأى الْعلَا حَيْثُمَا نأوا
…
وَإِن نزلُوا حل الندى أَيْنَمَا حلوا)
(توالت على كسب الثَّنَاء طباعهم
…
فأعراضهم حرم وَأَمْوَالهمْ حل)
(أمولاي أَن يمضوا ففيك سما الْعلَا
…
وَقَامَت قناة الدّين وانتشر الْعقل)
(وَإِن يَك قد أفْضى الزَّمَان بسالم
…
فَإنَّك روض الوبل إِن ذهب الوبل)
(إِلَيْك ارتمت فِينَا قلُوص كَأَنَّهَا
…
قسى بأسفار كَأَنَّهُمْ نبل)
(وَمَا زجرا إِلَّا نضاء سَوْطِي وَإِنَّمَا
…
إِلَيْك بِلَا سوق تسابقت الْإِبِل)
(يَمِينك لَا أقْصَى الزَّمَان بهَا حَيا
…
وكهفك لَا أودى الزَّمَان بِهِ ظلّ)
(وكل لحاظ لست أنسانها قذى
…
وَلَك بِلَاد لست صيبها مَحل)
وَمن مبدعاته خمريته الَّتِي تخلص فِيهَا إِلَى مدح الشريف الْمَذْكُور وأولها
(أقرقف فِي الزّجاج أم ذهب
…
ولؤلؤ مَا عَلَيْهِ أم حبب)
(شمس علا فَوق قرصها شهب
…
وَالْعجب الشَّمْس فَوْقهَا الحبب)
(حَمْرَاء قد عتقت فَلَو نطقت
…
حكت بِخلق السَّمَاء مَا السَّبَب)
(إِن لهبوها السقاة فِي غسق
…
يمزق اللَّيْل ذَلِك اللهب)
(وَإِن حساها النديم مصطبحا
…
ألم فِي الْجَيْش همه الطَّرب)
(لم أدر من قبل ذوب عسجدها
…
أَن بهَا التبر أَصله الْعِنَب)
(لله أيامنا بِذِي سلم
…
سقتك أَيَّام وصلنا السحب)
(وَالرَّوْض بالمزن يَانِع أنق
…
والغصن بِالرِّيحِ هزه الطَّرب)
(وَالنّهر يحتاكه الصِّبَا زردا
…
إِذا نضت من بوارق قضب)
(فحاننا الدَّهْر بالفراق وَقد
…
رثت جلابيب وصلنا القشب)
(عجبت للدهر فِي تصرفه
…
وكل أَفعَال دَهْرنَا عجب)
(يعاند الدَّهْر كل ذِي أدب
…
كَأَنَّمَا ناك أمه الْأَدَب)
(يَا عربا باللوى وكاظمه
…
لي فِي مقاصير حيكم أرب)
(بأهيف كالقضيب قامته
…
تسقيه دَوْمًا جفوني السكب)
(كَالشَّمْسِ أنواره وغرته
…
فَمَا لَهُ بالظلام ينتسب)
(تسفح من سفح مقلته سحب
…
إِذْ لَاحَ من فِيهِ بارق شنب)
(كَأَنَّمَا فيضها ووابلها
…
أَعَارَهُ الْفَيْض رَاشد النّدب)
وَكَانَ فِي فن الموسيقى من الْأَفْرَاد وَله أغان متداولة ومقبولة جَارِيَة على الصَّنْعَة البارعة وَأكْثر أغانيه من نظمه المطرب فَمن ذَلِك مَا ابتدعه فِي نَغمَة السيكاه من الثقيل
(أما والهوى لَوْلَا العذار المنمنم
…
لما اهتاج وجدي ساجع يترنم)
(وَلَا اهتجعت عَيْنَايَ من فيض أدمعي
…
قضى جريها أَن لَا يفارقها الدَّم)
(هُوَ الْحبّ مَا أحلى مقاساة خطبه
…
وأعذبه لَو كَانَت الْعين تكْتم)
وَله من نَغمَة الْحجاز وَالضَّرْب مخمس
(لَا تطلعي فِي قمر أنني
…
أَخَاف أَن تغلط أهل السّفر)
(أَو طلعت شمس فَلَا تطلعي
…
أَخَاف أَن تعمي عُيُون الْبشر)
وَله من هَذِه النغمة وَالضَّرْب دارج
(لمن العيس عشيا تترامى
…
تركتهَا شقق الْبَين سهاما)
(كلما برقعها نشر الصِّبَا
…
لبست من أَحْمَر الدمع لثاما)
(شفها جذب براها للحمى
…
فَهِيَ تصمي لرب نجد زماما)
(فِي هواكم آل نجد زَاد وجدي
…
وَغدا الْقلب ولوعا مستهاما)
وَله من الألحان الفارسية الْمَشْهُورَة مسرت آباد فِي نَغمَة الْعرَاق وضربه ثقيل وجام جم فِي نَغمَة الْحُسَيْنِي وضربه خَفِيف وَغير ذَلِك وَأشهر مَاله من الشعرة وَله فِي راقص
(وراقص تقضيب الْبَانِي قامته
…
تكَاد تذْهب روحي فِي تنقله)
(لَا تَسْتَقِر لَهُ فِي رقصه قدم
…
كَأَنَّمَا نَار قلبِي تَحت أرجله)
وَكثير من أهل الْأَدَب يظنون أَنه مخترع هَذَا الْمَعْنى وَلم يعلمُوا أَنه اختلسه من قَول السرى الرفاء فِي وصف جواد
(لَا يسْتَقرّ كَانَ أَرْبَعه
…
فرش الثرى من تحتهَا جَمْرَة)
وأشعاره وأخباره كَثِيرَة وَكَانَ يُسَمِّي نَفسه كلب عَليّ ويروي لَهُ فِي هَذَا المعرض بَيت هُوَ قَوْله
(فتية الْكَهْف نجا كلبهم
…
كَيفَ لَا ينجو غَدا كلب عَليّ)
وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ أديب بِحقِّهِ وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَلَاث وَخمسين وَألف بِالْبَصْرَةِ
عبد الْغفار بن يُوسُف جمال الدّين بن مُحَمَّد شمس الدّين بن مُحَمَّد ظهير الدّين الْقُدسِي الْحَنَفِيّ الْمَعْرُوف بالعجمي من أَعْيَان عُلَمَاء عصره وَكَانَ عَالما وجيها متواضعا متلطفا قَرَأَ بِبَلَدِهِ على أَبِيه وَالشَّمْس الخريشي الْحَنْبَلِيّ وَأخذ الحَدِيث عَن السراج عمر اللطفي وَالشَّيْخ مَحْمُود البيلوني الْحلَبِي قدم عَلَيْهِم الْقُدس وَأخذ طَرِيق النقشبندية عَن الْمولى مُحَمَّد صَادِق النقشبندي لما قدم لزيارة الْبَيْت الْمُقَدّس وَطَرِيق العلوانية عَن الشَّيْخ مُحَمَّد الدجاني وَله رحلتان إِلَى الْقَاهِرَة أولاهما فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين تِسْعمائَة أَخذ بهَا الحَدِيث عَن الْأُسْتَاذ مُحَمَّد الْبكْرِيّ وَالْفِقْه عَن النُّور عَليّ بن غَانِم الْمَقْدِسِي وَالشَّمْس النحريري والسراج الحانوتي وَالشَّيْخ عمر بن نجيم وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الذِّئْب والفرائض عَن الشَّيْخ عبد الله الشنشوري وَالْأُصُول عَن الشَّيْخ حسن الطناني والقراآت عَن الشهَاب أَحْمد بن عبد الْحق وَالثَّانيَِة فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف رَاجعا بحرا من الرّوم وَأخذ عَن الشهَاب عبد الرؤوف الْمَنَاوِيّ وَأخذ بِدِمَشْق عَن الشهَاب العيثاوي وبحلب عَن الشَّيْخ عمر العرضي وسافر إِلَى الرّوم مرَّتَيْنِ وَولي إِفْتَاء الْحَنَفِيَّة بالقدس وتدريس الْمدرسَة العثمانية وتصدر وَأخذ عَنهُ جمَاعَة مِنْهُم وَلَده هبة الله مفتي الْقُدس وَالشَّمْس مُحَمَّد بن عَليّ المكتبي الدِّمَشْقِي وَغَيرهمَا وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَلَاث أَو أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي نَهَار الْخَمِيس غرَّة ذِي الْقعدَة سنة سبع وَخمسين بعد الْألف رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْغَنِيّ بن إِسْمَاعِيل بن أَحْمد بن إِبْرَاهِيم الملقب زين الدّين النابلسي الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي وَهُوَ وَالِد إِسْمَاعِيل النابلسي الْمُقدم ذكره وخال جدي وَالِد وَالِدي محب الله كَانَ من الْفُضَلَاء الأعزاء نَشأ فِي كنف أَبِيه شيخ مَشَايِخ الشَّام وكبيرها وعالمها ومرجعها وَلما مَاتَ وَالِده تَوَجَّهت إِلَيْهِ جهاته ومعاليمه مِنْهَا تدريس الشَّافِعِيَّة بِجَامِع المرحوم درويش باشا الْمَشْرُوط لَهُ ولذريته وَآل إِلَيْهِ من مِيرَاث وَالِده أَشْيَاء كَثِيرَة من كتب وأثاث فاختص وتنعم مُدَّة عمره واشتغل بالتحصيل على الشهَاب أَحْمد الوفائي الْحَنْبَلِيّ وَلكنه لم يبلغ فِي الْعلم دَرَجَة يُنَوّه بهَا كَمَا بلغ وَالِده وَولده إِلَّا أَنه كَانَ متأدبا سخيا حسن المعاشرة وَله مذاكرة حلوة ولطف شمايل وَكَانَت وَفَاته فِي أواسط رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف وَدفن مَعَ وَالِده فِي قَبره فِي المدفن الْمعد لنا وَلَهُم بالصف الْمُقَابل لجامع جراح خَارج
بَاب الشاغور رحمه الله
عبد الْغَنِيّ بن صَلَاح الدّين الْمَعْرُوف بالخاني الْحَنْبَلِيّ الْحَنَفِيّ الأديب الأريب نزيل الْمَدِينَة المنورة كَانَ فَاضلا أديبا جميل المنظر وافر الْحُرْمَة ولد بحلب وَقَرَأَ بهَا واشتغل ورحل لكثير من الْبلدَانِ للتِّجَارَة فَدخل الشَّام ومصر وَالروم واليمن وَالْعراق وتكرر دُخُوله للحرمين لِلْحَجِّ ثمَّ ترك الْأَسْفَار واشتغل على أَخِيه ومربيه الشَّيْخ قَاسم الخاني بحلب وَبِه تخرج وَقَرَأَ عَلَيْهِ كثيرا من مؤلفاته وَاتفقَ لَهُ أَنه أمره بمطالعة بعض رسائله ألف مرّة فامتثل أمره ثمَّ جاور بالحرمين مُدَّة مديدة إِلَى أَن توطن طيبَة الطّيبَة وَأقَام فِيهَا وأكب على تَحْصِيل الْعلم وانهمك ولازم شيخ الْعَصْر إِبْرَاهِيم الْكرْدِي الكوراني وَأخذ عَنهُ الطَّرِيق ولحظه باكسير نظره حَتَّى ألف الرسائل اللطيفة وَتَوَلَّى بِالْمَدِينَةِ المناصب الْعلية واشتهر أمره وَكَانَ ينظم الشّعْر وَله ترسلات رائقة وَقد تلقيت خَبره من صاحبنا الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله فَأثْنى عَلَيْهِ كثيرا وَذكر لي أَن بَينه وَبَينه مراسلات كَثِيرَة لَكِنَّهَا فقدت مِنْهُ وَالْحَاصِل أَنه أديب فَاضل وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وَتُوفِّي بِالْمَدِينَةِ فِي ثَانِي عشر صفر سنة خمس وَتِسْعين وَألف وَدفن بِالبَقِيعِ
عبد الْغَنِيّ بن مُحَمَّد بن مَنْصُور بن مُحَمَّد بن خَلِيل العنبوسي الدِّمَشْقِي الْفَاضِل الْفَقِيه الْمُتَكَلّم الْحَنَفِيّ الْمَذْهَب أَخذ بِدِمَشْق عَن الشَّيْخ مُحَمَّد الْحِجَازِي وَولده عبد الْحق وَالْقَاضِي أكمل بن مُفْلِح وَأخذ الْفِقْه عَن الشَّيْخ يحيى بن مُحَمَّد البهنسي الْخَطِيب والقراآت عَن الْعَلَاء الطرابلسي ثمَّ لزم الْعَلامَة فضل الله بن عِيسَى البوسنوي نزيل دمشق وانتفع بِهِ فِي كثير من الْفُنُون وَأخذ التصوف وَالْكَلَام عَن الشَّيْخ الْعَارِف بِاللَّه مُحَمَّد الأتراوي المغربي نزيل دمشق الْآتِي ذكره وبرع فِي الْفُنُون خُصُوصا الْكَلَام فَإِنَّهُ كَانَ ماهرا فِيهِ وَأَخذه عَنهُ جمَاعَة وَتَوَلَّى الْكِتَابَة بالمحكمة العونية مُدَّة وَكَانَ أَبوهُ بهَا قَاضِيا شافعيا ثمَّ فرغ عَن الْكِتَابَة وَصَارَ خَطِيبًا بِجَامِع يلبغا ومتوليا على أوقافه وَحج فِي سنة تسع وَخمسين وَكَانَ يعرف اللِّسَان التركي وَكَانَ لَهُ معرفَة تَامَّة بأحوال النَّاس وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي نَهَار الثُّلَاثَاء عشرى جُمَادَى الْآخِرَة سنة سبع وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير بِالْقربِ من قبر أَوْس بن أَوْس والعنبوسي بِفَتْح الْبَاب الْمُهْملَة وَالنُّون من غير تَشْدِيد ثمَّ بعْدهَا مُوَحدَة وواو وسين مُهْملَة نِسْبَة إِلَى قَرْيَة من قرى نابلس خرج مِنْهَا
جمَاعَة من الْفُضَلَاء مِنْهُم أَبُو إِسْحَق إِبْرَاهِيم بن أبي الْفِدَاء المكتبي الشَّاعِر من أَجود شعره قَوْله
(أَنا الْمقل وحبي
…
إذاب قلبِي ولوعه)
(أبْكِي عَلَيْهِ بجهدي
…
حسب الْمقل دُمُوعه)
عبد الْقَادِر بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن فرج الشَّافِعِي خطيب جدة وعالمها والمقدم فِيهَا بالعلوم الشَّرْعِيَّة والأخلاق النَّبَوِيَّة ولد بجدة وَبهَا نَشأ وَأخذ بِمَكَّة عَن شيخ الْإِسْلَام الشهَاب أَحْمد بن حجر الهيثمي وَغَيره من عُلَمَاء عصره وَأخذ عَنهُ جمَاعَة من الْعلمَاء مِنْهُم الشَّيْخ الْعَلامَة أَحْمد بن مُحَمَّد الخلي وَله مؤلفات مِنْهَا السِّلَاح وَالْعدة فِي فضل ثغر جدة وَكَانَت وَفَاته فِي يَوْم السبت سَابِع شهر رَمَضَان سنة عشر بعد الْألف بجدة وَبهَا دَفنه رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْقَادِر بن أَحْمد بن سُلَيْمَان الدِّمَشْقِي الْحَنَفِيّ الصُّوفِي القادري صدر أَشْيَاخ الشَّام وَصَاحب الْقدَم الراسخة فِي المعارف والكمالات وَكَانَ كَبِير الْقدر سامي الرُّتْبَة جم المناقب حسن الْخلق طليق الْوَجْه مفرط السخاء والتودد نَشأ فِي حجر وَالِده إِلَى أَن بلغ من الْعُمر اثْنَتَيْ عشر سنة فَمَاتَ أَبوهُ وَجلسَ مَكَانَهُ على سجادة المشيخة فِي يَوْم مَوته وَكَانَ لِأَبِيهِ خَليفَة وَهُوَ الشَّيْخ مُحَمَّد المرزناتي الصَّالِحِي فَطلب الْخلَافَة لنَفسِهِ وتعصب مَعَه قوم مِنْهُم الشَّمْس بن المنقار وَكَانَ جدي القَاضِي محب الدّين مِمَّن قَامَ مَعَ عبد الْقَادِر واهتم بأَمْره وَوَقع بِسَبَب ذَلِك أُمُور ومحاربات كَثِيرَة وَمن جُمْلَتهَا فِي المحاورات الخطابية مَا أنْشدهُ الشَّمْس الذُّكُور فِي مجمع حافل بزاويتهم القلجية وَأَرَادَ بذلك الإزراء بالجد وَعبد الْقَادِر وَذَلِكَ الْبَيْت الْمَشْهُور
(شَيْئَانِ عجيبان هما أبرد من يخ
…
شيخ يتصابى وَصبي يتشايخ)
فَأَجَابَهُ الْجد وَكَانَ أَصْغَر مِنْهُ سنا وأكبر مرتبَة بقوله تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا} وَأنْشد معرضًا بِهِ وبالمرزناتي الْمَذْكُور
(لَو كَانَ كبر السن محمودة
…
فضل إِبْلِيس على آدم)
واستمرت هَذِه الشّحْنَة بَين الْجد وَالشَّمْس أَيَّامًا حَتَّى اجْتمعَا يَوْمًا فِي مجْلِس الدُّعَاء للسُّلْطَان بالجامع الْأمَوِي وَكَانَا قبل ذَلِك الْيَوْم إِذا حضرا مَجْلِسا مثل هَذَا يجلس قَاضِي الْبَلَد وَيجْلس وَاحِد مِنْهُمَا عَن الْيَمين وَالْآخر عَن الشمَال فَفِي ذَلِك الْيَوْم جَاءَ الْجد إِلَى الطّرف الَّذِي فِيهِ الشَّمْس وَجلسَ بَينه وَبَين القَاضِي فَلَمَّا تمّ الدُّعَاء قَامَ الشَّمْس مغضبا ونادى بِأَعْلَى صَوته أتجلس فَوقِي وَأَنا مفتي الْبَلدة من مُنْذُ كَذَا
فَأَجَابَهُ الْجد كل هَؤُلَاءِ يعلمُونَ أَن الْمُفْتِي بِالْأَمر السلطاني أَنا وَأما أَنْت فلك أُسْوَة بِمن يُفْتِي مثلك من غير إِذن فرتبة الرحجاني لي فَكل من حضر صدق قَوْله وَكَانَ الْجَمِيع يَغُضُّونَ من الشَّمْس ويكرهونه لسوء أخلاقه فَيُقَال أَنه ذهب من ذَلِك الْمجْلس محموما وَبَقِي أَيَّامًا وَمَات عودا على بَدْء واستقام الْأَمر لعبد الْقَادِر صَاحب التَّرْجَمَة فِي الْخلَافَة فسلك مَنْهَج وَالِده من إِقَامَة الذّكر بالجامع الْأمَوِي بعد صَلَاة الْجُمُعَة عِنْد بَاب الخطابة وبزاويتهم يَوْم الِاثْنَيْنِ بعد الْعَصْر وَمَا زَالَ يسمو ويرتفع حَتَّى بلغت شهرته الْآفَاق وَكَانَ حكام الشَّام وكبراؤها يقبلُونَ عَلَيْهِ ويترددون إِلَيْهِ وَيطْلبُونَ مدده وَتوجه إِلَى الْقُدس على عَادَة صوفية الشَّام بحشمة وافرة وَحج فِي سنة خمس عشرَة وَألف وسافر إِلَى قسطنطينية أَربع مَرَّات وانحصرت آخرا فِيهِ رياسة الْمَشَايِخ بِدِمَشْق وَكَانَ أَكْثَرهم حَالا وَقَالا وَبلغ من نُفُوذ الْكَلِمَة وشهرة الاعتناء مرتبَة علمية وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ خَاتِمَة أولى النباهة من الرؤساء وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي نَهَار الْخَمِيس سادس جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بزاويتهم إِلَى جَانب وَالِده ورثاه جمَاعَة مِنْهُم الْعَلامَة إِسْمَاعِيل بن عبد الْغَنِيّ الْمُقدم ذكره وَهَذِه أبياته
(شيخ شُيُوخ الشَّام يَا مرشد
…
من جنَّة الْخلد لَك المرقد)
(من للمريدين وَمن يلتجي
…
إِلَيْهِ فِي الْمُشكل أَو ينجد)
(من للمهماة إِذا أعضلت
…
وللمساكين إِذا أجهدوا)
(من لعيال وَالِد ماجد
…
مَعَ أمّهم فِي سَاعَة يفقد)
(أَواه من عظم مصاب بهم
…
وَمثل هَذَا الْخطب مَا يعْهَد)
(يَا حَاتِم الطَّبْع والمنتمى
…
جودك بالموجود لَا يجْحَد)
(وحلمك الْمَعْرُوف مَا مثله
…
قد كَانَ فِي الدَّهْر وَلَا يُوجد)
(من عَام خمس كنت شَيخا لَهُ
…
سجادة ديدنه يرشد)
(طلق الْمحيا هاضما نَفسه
…
وَتارَة يرْكَع أَو يسْجد)
(يَا شامة الشَّام وَيَا قطبها
…
قد طَابَ مِنْك السِّرّ والمشهد)
(أودعك الْأَسْرَار كَهْف الورى
…
والدك السَّامِي الذرى أَحْمد)
(وَأَنت أودعت الَّذِي حُزْته
…
للخلف الصَّالح كي يسْعد)
(بهم تسلينا وَمن بعده
…
مثلهم يُوجد لَا يفقد)
(أشياخنا السادات أهل التقى
…
وَذُو الكرامات الَّتِي تورد)
(لَا سِيمَا من كنت أجلسته
…
وَهُوَ الْكَبِير الصَّالح المرشد)
(ميزته بِالسِّنِّ إِذْ كلهم
…
أَعْلَام إرشاد لم يسْعد)
(لَا زَالَ هَذَا الْبَيْت ملجاً لَهُ
…
سكان ذخر لنا منجد)
(وَلم تزل رَحْمَة رَبِّي رَبِّي على
…
ضريحك الرَّوْضَة تستخلد)
عبد الْقَادِر بن أَحْمد بن يحيى بن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن شعْبَان الْمَعْرُوف بِابْن الغصين الْغَازِي الشَّافِعِي الْعَالم الْعَامِل الْوَلِيّ الصَّالح رَحل إِلَى مصر وَأخذ بهَا عَن الشَّيْخ عَليّ الْحلَبِي وَأبي الْعَبَّاس الْمقري والبرهان اللَّقَّانِيّ وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن اليمني وَالشَّيْخ حجاز الْوَاعِظ والميناوي والنور الشبراملسي وَالشَّمْس البابلي وَأخذ طَرِيق الرفاعية عَن الْأُسْتَاذ الْكَبِير مُحَمَّد العلمي الْقُدسِي وبرع فِي علمي الظَّاهِر وَالْبَاطِن وَحفظ عَلَيْهِ الْقُرْآن جماعات لَا يُحصونَ وَأخذ عَنهُ الحَدِيث وَغَيره كثير مِنْهُم صاحبنا الْفَاضِل الْكَامِل المكمل إِبْرَاهِيم الجينيني وَأَخْبرنِي أَنه كَانَ صَاحب كرامات وأحوال باهرة قَالَ وَذكر لنا أَنه من مُنْذُ عرف نَفسه لم يُصَلِّي صَلَاة إِلَّا بِجَمَاعَة وَلم يفته إِلَّا صَلَاة وَاحِدَة وَهِي صَلَاة الصُّبْح وَكَانَ مُسَافِرًا فِي طَرِيق مَكَّة فغلبه النّوم وَلم يفق إِلَّا بعد طُلُوع الشَّمْس وَأخْبرنَا صاحبنا الْمَذْكُور أَن مولده فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَلَاث عشرَة وَألف وَأَنه رَحل إِلَى مصر لطلب الْعلم سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَقدم غَزَّة فِي الْمحرم سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَأَن وَفَاته كَانَت فِي نَهَار الِاثْنَيْنِ سَابِع عشرى ذِي الْقعدَة سنة سبع وَثَمَانِينَ وَألف وَلم يخلف بعده فِي غَزَّة مثله علما وَعَملا
عبد الْقَادِر بن بهاء الدّين بن نَبهَان بن جلال الدّين بن تَقِيّ الدّين أبي بكر الْمَعْرُوف بِابْن عبد الْهَادِي الْعمريّ الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي شَيخنَا الجهبذ الْمُحَقق المدقق الفطن الذيق كَانَ من الغواصين عَن المباحث وَحل غوامضها وتبيين مبهماتها وَله فكرة تتوقد ذكاء وتتلهب فطنة وَكَانَ أغلب معلوماته أصُول الدّين وَالْفِقْه وَبِهِمَا تقوى وَضبط التحقيقات مَعَ الإتقان للعلوم الطبيعية والرياضية وَقَرَأَ الْكثير وَقيد وَضبط واستفاد وَأفَاد وَمن مشايخه الَّذين أَخذ عَنْهُم المنلا مَحْمُود الْكرْدِي والمنلا مَحْمُود أَمِين اللاري وَشَيخنَا إِبْرَاهِيم الفتال وَحضر دروس السَّيِّد مُحَمَّد نقيب الشَّام الْمَعْرُوف بِابْن حَمْزَة فِي التَّفْسِير وَغَيره وَجل انتفاعه بِهِ وتصدر للإقراء
فاشتغل عَلَيْهِ جمع كثير مِنْهُم ابْن عَمه عبد الْجَلِيل ورفيقي فِي الطّلب مُحَمَّد بن مُحَمَّد القَاضِي الْمَالِكِي بالمحكمة الْكُبْرَى وَالْفَقِير قَرَأت أَنا وإياه عَلَيْهِ طرفا من شرح الْعَضُد على مُخْتَصر الْمُنْتَهى لِابْنِ الْحَاجِب فِي الْأُصُول وَشرح الرسَالَة الوضعية للعصام وَكُنَّا نطالع شَرحه الَّذِي وَضعه على الْمُخْتَصر الْمَذْكُور وحقق فِيهِ التَّحْقِيق الَّذِي مَا وَرَاءه غَايَة وَألف كتبا كَثِيرَة مِنْهَا شَرحه هَذَا وَشرح على عقيدة الْمقري الْمُسَمَّاة بإضاءة الدجنة فِي عقائد أهل السّنة وَاخْتصرَ الهمع للسيوطي فِي النَّحْو وَشَرحه شرحاً نفيساً وَله منظومات فِي عُلُوم مُتَفَرِّقَة ومسائل متنوعة وَله شعر كثير وَكَانَ سَافر إِلَى الرّوم صُحْبَة الْأُسْتَاذ الْعَالم الْكَبِير مُحَمَّد بن سُلَيْمَان المغربي السُّوسِي نزيل مَكَّة وتقرب إِلَيْهِ وَأخذ عَنهُ فنوناً كَثِيرَة وبسببه عرف فَضله عِنْد الْوَزير الْأَعْظَم الْفَاضِل وأخيه مصطفى باشا وَابْن عَمهمَا حُسَيْن حَلَبِيّ وَكَانَ وَهُوَ بالروم مَاتَ الشَّيْخ الإِمَام عبد الْقَادِر الصفوري الْآتِي ذكره قَرِيبا إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَانَ مدرس دَار الحَدِيث الأشرفية فوجهت لصَاحب التَّرْجَمَة فَقدم دمشق وَأقَام بهَا على الِاشْتِغَال والتحصيل والإفادة والتصنيف وَكَانَ ابتلى بِمَرَض المراقيا وعالجه مُدَّة فَلم يفد علاجه ثمَّ استحكم فِيهِ فَكَانَ سَبَب وَفَاته فَتوفي فِي نَهَار الْخَمِيس ثَانِي صفر سنة مائَة وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس مِمَّا يَلِي عَمه الْأُسْتَاذ مُحَمَّد وَوضع عَلَيْهِمَا تَابُوت من الْخشب
عبد الْقَادِر بن حاجي المؤيدي مفتي الرّوم وَصدر الدولة الْمَعْرُوف بشيخي وَهُوَ ابْن أخي الْمولى عبد الرَّحْمَن المؤيدي كَبِير الْعلمَاء بالروم فِي عهد السُّلْطَان بايزيد وَولده السُّلْطَان سليم الفاتح ذكره ابْن نَوْعي فِي ذيل الشقائق وَقَالَ فِي تَرْجَمته ولد فِي حُدُود سنة عشْرين وَتِسْعمِائَة وجد واجتهد ثمَّ وصل إِلَى مجْلِس شيخ الْإِسْلَام أبي السُّعُود الْعِمَادِيّ فَقَرَأَ عَلَيْهِ ولازم مِنْهُ وَتَوَلَّى التدريس إِلَى أَن وصل إِلَى الْمدرسَة السليمانية فولي مِنْهَا قَضَاء الشَّام فِي جُمَادَى الْآخِرَة سنة أَربع وَسبعين وَتِسْعمِائَة بعد الْمولى عَليّ بن أَمر الله الْمَعْرُوف بِابْن الحنائي الْمَذْكُور ثمَّ تولى قَضَاء بروسة بعد سلفه الْمَذْكُور أَيْضا فِي رَجَب سنة سِتّ وَسبعين ثمَّ ولي قَضَاء قسطنطينية فِي رَجَب سنة سبع وَسبعين وَفِي جُمَادَى الْآخِرَة من سنة ثَمَان وَسبعين ولي قَضَاء الْعَسْكَر بأناطولي وَفِي الْمحرم سنة تسع وَسبعين ولي قَضَاء روم ايلي وَفِي الْمحرم سنة إِحْدَى
وَثَمَانِينَ تقاعد بوظيفة أَمْثَاله ثمَّ فِي ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَتِسْعين ضمت إِلَيْهِ دَار الحَدِيث وَفِي جُمَادَى الأولى سنة خمس وَتِسْعين صَار مفتياً وَكَانَ صَدرا جَلِيلًا صَاحب قدر عَال جبلا شامخاً من الْفضل وَالتَّقوى مَعْرُوفا بالنباهة مَوْصُوفا بالنزاهة شيخ فن الْفضل وَالْأَدب وَجُمْلَة ملك الْحسب وَالنّسب ثمَّ عزل عَن الْفَتْوَى فِي سنة سبع وَتِسْعين وتقاعد بِخَمْسِينَ عثمانياً وَاسْتمرّ مشتغلاً بِعبَادة الله وتقواه حَتَّى توفّي وَكَانَت وَفَاته فِي أَوَاخِر شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ بعد الْألف وَدفن بِجنب وَالِده فِي جوَار أبي أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ
عبد الْقَادِر بن حسن المنعوت محيى الدّين بن بدر الدّين الْبكْرِيّ الصديقي الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي الإِمَام الْفَقِيه الزَّاهِد العابد الْوَرع كَانَ من اجلاء الْعلمَاء الْكِبَار أَصْحَاب الدّيانَة والصلف وَله الْفضل الباهر والمشاركة التَّامَّة فِي فنون كَثِيرَة أجلهَا الْفِقْه والعربية وَكَانَ مُنْقَطِعًا عَن النَّاس قَلِيل الِاخْتِلَاط بهم ملازماً للاشتغال وَالْعِبَادَة مَوْصُوفا بِحسن الْأَخْلَاق وجلالة الْمِقْدَار وَهُوَ من بَيت عريق مجمع على صِحَة انتسابه للأسرة الصديقية وَلَا يشك فِي نسبهم إِلَّا جَاهِل أَو معاند وناهيك بِنِسْبَة لم يبْق من عُلَمَاء دمشق الْكِبَار الْمَشْهُورين فِي هَذِه لمِائَة وَالَّتِي قبلهَا أحد إِلَّا وَشهد بحقيتها وَمِنْهُم أمس النَّاس بِهَذِهِ النِّسْبَة السادات البكرية بِمصْر ولهذه النِّسْبَة الْعَظِيمَة كَانَ صَاحب التَّرْجَمَة مُعظما مُحْتَرما وانضاف إِلَيْهِ الْفضل التَّام فَزَاد احترامه وَقد قَرَأت بِخَط الأديب عبد الْكَرِيم الكريمي الطاراني الدِّمَشْقِي قَالَ سَأَلت عَنهُ صاحبنا الإِمَام الْعَلامَة زين الدّين عمر بن مُحَمَّد الْقَارِي الشَّافِعِي فَقَالَ كَانَ ماهراً فِي عُلُوم شَتَّى مِنْهَا الْفَرَائِض والحساب وَالْكَلَام وَالْعرُوض وَأما الْفِقْه والعربية فَكَانَ فيهمَا الْغَايَة القصوى لَا أرى لَهُ ضريباً فِي الْفُنُون الْمَذْكُورَة فَإِنَّهُ تلقاها عَن مَشَايِخ عِظَام ودأب فِي تَحْصِيل الْكَمَال وَذكره النَّجْم فِي الذيل وَقَالَ فِي تَرْجَمته حضر دروس شيخ الْإِسْلَام وَالِدي وَقَرَأَ على أخي الشهَاب شرح الْمحلى مصاحباً لرفيقه التَّاج الفرعوني مَعَ مطالعة حَاشِيَة الْوَالِد الصُّغْرَى عَلَيْهِ وَمَعَ إمْسَاك الشهَاب شرح وَالِده الصَّغِير على الْمِنْهَاج ولازمه فِي غير ذَلِك ولازم النُّور النَّسَفِيّ الْمصْرِيّ نزيل دمشق وَلَعَلَّه أول من قَرَأَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ تزوج بِأم الشَّيْخ محيى الدّين وَسكن عِنْدهم بمحلة بَاب توما وَقَرَأَ أَيْضا على الشَّيْخ اسماعيل النابلسي مرافقاً للشَّيْخ عمر الْقَارِي واصطحبا مُدَّة ثمَّ تقاطعا وَكَانَت وَفَاة صَاحب التَّرْجَمَة
فِي الثُّلُث الْأَخير من لَيْلَة الْأَحَد لليلتين بَقِيَتَا من صفر سنة ثَلَاث بعد الْألف وَدفن بمقبرة الشَّيْخ أرسلان رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْقَادِر بن شيخ عبد الله بن شيخ بن عبد الله العيدروس الملقب محيي الدّين الشَّيْخ الإِمَام أَبُو بكر اليمني الحضرموتي الْهِنْدِيّ أحد أكَابِر عُلَمَاء الحضارمة ذكره الشلي فِي تَارِيخه وَقَالَ فِي تَرْجَمته قد ترْجم نَفسه هُوَ فِي تَارِيخه النُّور السافر عَن أَخْبَار الْقرن الْعَاشِر فَقَالَ ولدت فِي عَشِيَّة يَوْم الْخَمِيس لعشرين خلت من شهر ربيع الأول سنة ثَمَان وَسبعين وَتِسْعمِائَة بِمَدِينَة أَحْمد أباد من بِلَاد الْهِنْد وَكَانَ وَالِدي رأى فِي الْمَنَام قبل ولادتي بِنَحْوِ نصف شهر جمَاعَة من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى مِنْهُم الشَّيْخ عبد الْقَادِر الكيلاني وَالشَّيْخ أَبُو بكر العيدروس وَكَانَ الشَّيْخ عبد الْقَادِر يُرِيد حَاجَة من الْوَالِد فَذَلِك هُوَ الَّذِي حمله على تسميتي بِهَذَا الِاسْم وَكَنَّانِي أَيْضا أَبَا بكر ولقبني محيي الدّين وتقرر عِنْده أَنه سَيكون لي شَأْن وَكَانَ قل أَن يسلم لَهُ ولد بِأَرْض الْهِنْد فَمَا عَاشَ لَهُ مِنْهُم غَيْرِي وَكَانَ يحبني جدا وَقَالَ لي مرّة إِذا وَقع زَمَانك افْعَل مَا شِئْت وَحكى بعض الثِّقَات قَالَ جَاءَ بعض الوزراء الْكِبَار إِلَى والدك يطْلب مِنْهُ الدُّعَاء فِي أَمر من الْأُمُور وَكنت إِذْ ذَاك صَغِيرا جدا وَكنت جَالِسا بَين يَدَيْهِ فَقَرَأت فِي الْحَال هَذِه الْآيَة {وَأُخْرَى تحبونها نصر من الله وَفتح قريب} فَقَالَ الشَّيْخ يكفيكم هَذَا الْمقَال هَذَا مثل الْوَحْي قَالَ ثمَّ قضيت تِلْكَ الْحَاجة وَكَانَت أُمِّي أم ولد هندية وهبتها بعض النِّسَاء من بَيت الْملك الْمَشْهُورَة بالصدقات لأبي وأعطتها جَمِيع مَا تحْتَاج إِلَيْهِ من أثاث وأخدمتها جملَة من الْجَوَارِي وَكَانَت تنظرها مثل ابْنَتهَا وتزورها فِي الشَّهْر مَرَّات وَكَانَت هِيَ إِذْ ذَاك بكرا وَلم تَلد لَهُ من الْأَوْلَاد غَيْرِي وَكَانَت من الصَّالِحَات وقرأت الْقُرْآن حَتَّى ختمته على يَد بعض أَوْلِيَاء الله فِي حَيَاة الْوَالِد ثمَّ اشتغلت بالتحصيل وقرأت عدَّة متون على جمَاعَة من الْعلمَاء وتصديت لنشر الْعلم وشاركت فِي كثير من الْفُنُون وتفرغت لتَحْصِيل الْعُلُوم النافعة وأعملت الهمة فِي اقتناء الْكتب المفيدة وبالغت فِي طلبَهَا من أقطار الْبِلَاد مَعَ مَا صَار إليّ من كتب الْوَالِد فَاجْتمع عِنْدِي جملَة وَلما بَلغنِي أَن سَيِّدي الشَّيْخ عبد الله العيدروس قَالَ من حصل كتاب إحْيَاء عُلُوم الدّين وَجعله فِي أَرْبَعِينَ جلدا ضمنت لَهُ على الله بِالْجنَّةِ فحصلته كَذَلِك بِهَذِهِ النِّيَّة ووفقت لاستماع الْأَحَادِيث وإشغال الْأَوْقَات بهَا وطالعت كثيرا من الْكتب ووقفت على أَشْيَاء غَرِيبَة مَعَ مَا تلقيته عَن الْمَشَايِخ
فَلم تفتني بِحَمْد الله إِشَارَة صوفية أَو مسئلة علمية أَو نُكْتَة أدبية وَلَكِنِّي مَعَ ذَلِك أظهر التجاهل فِي ذَلِك لِأَن الْكَلَام على إشارات التصوف ومقامات الصُّوفِيَّة لَا يَنْبَغِي للشَّخْص أَن يقدم عَلَيْهَا إِلَّا إِن كَانَ متحققاً بهَا وَمَعَ ذَلِك فَلَا يجوز لَهُ أَن يَخُوض فِيهَا مَعَ غير أَهلهَا لِأَنَّهَا مَبْنِيَّة على المواجيد والأذواق لَا يطلع على بَيَان حَقِيقَتهَا بالألسنة والأوراق ثمَّ من الله عَليّ بمالاً كَانَ لي قطّ فِي حِسَاب حَتَّى سَارَتْ بمصنفاتي الرفاق وَقَالَ بِفضل عُلَمَاء الْآفَاق وَرزقت محبَّة أَرْبَاب الْقُلُوب من أَوْلِيَاء الله تَعَالَى وحظيت بدعواتهم الصَّالِحَة وعظمني الْعلمَاء شرقاً وغرباً وخضع لي الرؤساء طَوْعًا وَكرها وكاتبني مُلُوك الْأَطْرَاف وأرفدوني بصلاتهم الجميلة ووصلت إِلَى المدائح من الْآفَاق كمصر وأقصى الْيمن وَغَيرهمَا وَأخذ عني غير وَاحِد من الْأَعْلَام وَلبس مني خرقَة التصوف جم غفير من الْأَعْيَان وألفت جملَة من الْكتب المقبولة الَّتِي لم أسبق إِلَى مثلهَا ككتاب الفتوحات القدوسية فِي الخرفة العيدروسية وَهُوَ كتاب نَفِيس لم يؤلف قبله أجمع مِنْهُ وَهُوَ مُجَلد ضخم وقرظه جمَاعَة من الْعلمَاء الْأَعْلَام حَتَّى بلغت تقاريظه كراريس وَمن غَرِيب الِاتِّفَاق أَن تَارِيخه جَاءَ مطابقاً لموضوعه وَهُوَ لبس خرقَة وَكتاب الحدائق الخضرة فِي سيرة النَّبِي عليه السلام وَأَصْحَابه الْعشْرَة وَهُوَ أول كتاب ألفته وسنى إِذْ ذَاك دون الْعشْرين وَكتاب إتحاف الحضرة العزيزة بعيون السِّيرَة الوجيزة وَهُوَ على نمط الحدائق إِلَّا أَنه أَصْغَر وَكتاب الْمُنْتَخب الْمُصْطَفى فِي أَخْبَار مولد الْمُصْطَفى وَكتاب الْمِنْهَاج إِلَى معرفَة الْمِعْرَاج وَكتاب الأنموذج اللَّطِيف فِي أهل بدر الشريف وَكتاب أَسبَاب النجَاة والنجاح فِي أذكار الْمسَاء والصباح وَكتاب الدّرّ الثمين فِي بَيَان المهم من الدّين وَكتاب الحوشي الرشيقة على العروة الْوَثِيقَة وَكتاب منح الْبَارِي بِخَتْم البُخَارِيّ وَكتاب تَعْرِيف الْأَحْيَاء بفضائل الْأَحْيَاء وباعثه أَن سَيِّدي الشَّيْخ عبد الله العيدروس قَالَ غفر الله لمن يكْتب كَلَامي فِي الْغَزالِيّ فرجوت أَن يتناولني دعاؤه وَأَرَدْت إسعاف وَالِدي بتحقيق رجاه فَإِنِّي سمعته يَقُول إِن أمْهل الزَّمَان جمعت كَلَام الشَّيْخ عبد الله فِي الْغَزالِيّ فِي كتاب وأسميه الْجَوْهَر المتلالي فِي كَلَام الشَّيْخ عبد الله فِي الْغَزالِيّ وَكتاب عقد اللآل بفضائل الْآل وَكتاب خدمَة السَّادة بني علوي بِاخْتِصَار العقد النَّبَوِيّ وَأَرْجُو أَن يوفقني الله لإتمامه وَكتاب بغية المستفيد بشرح تحفة المريد وَهُوَ مُخْتَصر جدا وَكتاب النفحة
العنبرية فِي شرح الْبَيْتَيْنِ العدنية وَكتاب غَايَة الْقرب فِي شرح نِهَايَة الطّلب اعتنى بِهِ النَّاس كثيرا وحصلوا مِنْهُ نسخا عديدة نَحْو الْأَرْبَعين فِيمَا علمت وَشرح على قصيدة الشَّيْخ أبي بكر العيدروس صَاحب عدن النونية وَكتاب إتحاف إخْوَان الصفاء بشرح تحفة الظرفاء بأسماء الْخُلَفَاء وَكتاب صدق الْوَفَاء بِحَق الإخاء وَكتاب النُّور السافر عَن أَخْبَار الْقرن الْعَاشِر وتقريظ على شرح قصيدة البوصيري الَّتِي عَارض بهَا بَانَتْ سعاد لشَيْخِنَا شيخ الْإِسْلَام عبد الْملك بن عبد السَّلَام دعسين الْأمَوِي اليمني الشَّافِعِي وَآخر على رِسَالَة صاحبنا الشَّيْخ الْعَلامَة أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَليّ الْبكْرِيّ فِي تَنْزِيه الإِمَام مَالك عَن تِلْكَ الْمقَالة الشنيعة الَّتِي نَسَبهَا إِلَيْهِ من لَا خلاق لَهُ وَأَجَازَ للفقيه الصَّالح أَحْمد بن الْفَقِيه مُحَمَّد باجابر وديوان شعر اسْمه الرَّوْض الأريض والفيض المستفيض انْتهى كَلَامه فِي حق نَفسه قَالَ الشلي وَمن مؤلفاته الَّتِي لم يذكرهَا الزهر الباسم من روض الْأُسْتَاذ حَاتِم وَهُوَ شرح رِسَالَة من السَّيِّد حَاتِم إِلَيْهِ وَهُوَ مطول نَحْو مجلدين وَكتاب قُرَّة الْعين فِي مَنَاقِب الْوَلِيّ عمر بن مُحَمَّد باحسين قَالَ فِي الزهر الباسم وَشَيخنَا وإمامنا فِي هَذَا الشَّأْن شيخ الْإِسْلَام الْعَالم الرباني المربي شيخ بن عبد الله العيدروس فَإِنَّهُ رباني بنظره وغذاني بسره وصدرني فِي مَكَانَهُ وَشَيخنَا الثَّانِي الشَّيْخ الَّذِي هُوَ الْأَخ وَابْن الْعم الإنساني الْكَامِل والجزء الَّذِي هُوَ الْكل شَامِل أَبُو الْأَرْوَاح وَشَيخ الْأَشْيَاخ حَاتِم بن أَحْمد الأهدل وَهُوَ الَّذِي أسْرع بأسرارنا حَتَّى لحقت وفتق ألسنتنا حَتَّى نطقت وَشَيخنَا الثَّالِث قطب الْوُجُود وَإِمَام أهل الشُّهُود وشمس الشموس الشَّيْخ عبد الله بن شيخ العيدروس صنوي ووالدي فَإِنَّهُ حكمني وألبسني الْخِرْقَة ونصبني شَيخا وَذكر صُورَة إِجَازَته لَهُ وتحكيمه وَشَيخنَا الرَّابِع درويش حُسَيْن الكشميري وَشَيخنَا الْخَامِس مُوسَى بن جَعْفَر الكشميري وَذكر تَرْجَمَة هذَيْن وَأَجَازَهُ الثَّانِي لَهُ وَشَيخنَا السَّادِس الْوَلِيّ الْكَبِير الْقدْوَة الشهير مُحَمَّد بن الشَّيْخ حسن جشني انْتهى وَلم يزل فِي أَحْمد أباد مستمراً على نفع الْعباد إِلَى أَن انْتقل إِلَى رَحْمَة الله تَعَالَى وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ وَألف بِمَدِينَة أَحْمد أباد وعمره سِتُّونَ سنة وقبره فِيهَا مَشْهُور مَعْرُوف يزار ويتبرك بِهِ
عبد الْقَادِر بن عُثْمَان القاهري الْحَنَفِيّ الشهير بالطوري مفتي الْحَنَفِيَّة بِمصْر من بَيت أَئِمَّة الْحَنَفِيَّة ذَوي حسب وَكَانَ عَالما فَاضلا فَقِيها أديباً وَله وجاهة ونباهة
فِي أَنْوَاع الْعُلُوم وَكَانَ ملازما على الْإِفْتَاء والتدريس بِجَامِع الْأَزْهَر وَله تصانيف مِنْهَا شرح على الْكَنْز فِي الْفِقْه وتكملة الْبَحْر الرَّائِق وَله كتاب فِي الْأَدَب جمعه من نظمه ونثره سَمَّاهُ الفواكة الطورية وَفِي هَذِه التَّسْمِيَة لطف لِأَن بلدته الطّور أَكثر تِلْكَ الدائرة فَاكِهَة ويعجبني مَا كتبه إِلَيْهِ بعض الأدباء فِي طلب كِتَابه هَذَا وَكَانَ وعده بإرساله إِلَيْهِ وَذَلِكَ
(يَا إِمَامًا لقد حوى دررا
…
بِكُل نظم وكل منثور)
(غرست بِالْفَضْلِ رَوْضَة بسقت
…
ثمارها من طلائع النُّور)
(يشتاق طرفِي لِأَن يشاهدها
…
فَتلك عِنْدِي أجل مَنْظُور)
(وفؤادي العليل من قدم
…
يتَمَنَّى فواكه الطّور)
وَذكره الشهَاب فِي الخبايا فَقَالَ فِي تَرْجَمته وَالطور وَكتاب مسطور لَهو صديق لي تجربه الْمَوَدَّة حلل الحبور روض مجد ناضر وبحر أدب وافر لَكِن طبعه أم الضقر مقلات نزور وَلم يورق حَتَّى احْتضرَ وَمضى بِأَمْر عَزِيز مقتدر ثمَّ أنْشد لَهُ قَوْله
(تنور منيتي بلطيف صنع
…
مَعَاني حسنه أضحت غزيرة)
(لَهُ قد رَشِيق ثمَّ جسم
…
عَلَيْهِ حِين لَاحَ رَأَيْت نوره)
ثمَّ تعقبه بِمَا فِي تَحْرِير التحريف للصفدي يَقُولُونَ تنور الرحل من النورة وَالصَّوَاب اتنور واتنار وَلَا يُقَال تنور إِلَّا إِذا أبْصر الْمنَار ثمَّ قَالَ وَمَا مَنعه صرح بِهِ غَيره من أهل اللُّغَة لَكِن الْمَشْهُور هَذَا قلت وَيشْهد للْأولِ مَا فِي حماسة الطَّائِي قَالَ أَعْرَابِي لابْنَيْهِ وَقد دخلا الْحمام فأحرقتهما النورة
(نهيتهما عَن نورة أحرقتهما
…
وحمام سوء مَاؤُهُ يتسعر)
(أجدكما لم تعلما أَن جارنا
…
أَبَا الحسل فِي الصَّحرَاء لَا يتنور)
على أَن تنور فِي كَلَام الطوري لَا يتَعَيَّن حمله على تعَاطِي النورة لاحْتِمَال جعل لَهُ نورا وَقَول الشهَاب فِي حَقه لَكِن طبعه أم الصقور إِلَى أَخّرهُ إِشَارَة إِلَى أَنه كَانَ قَلِيل الإفادة والْآثَار وَهُوَ حل لقَوْل النفيه الحماسي
(يغاث لطير أَكْثَرهَا فراخا
…
وَأم الصَّقْر مقلات نزور)
والمقلات بِالْفَتْح نَاقَة تضع وَاحِدًا ثمَّ لَا تحمل والنزور النَّاقة مَاتَ وَلَدهَا وتروم ولدا لَهَا وَقَوله وَيشْهد للْأولِ إِلَى آخِره هَذِه عبارَة الطَّائِي وَقَالَ الشريشي فِي شرح المقامات روى أَن عبيد بن قرط الْأَسدي دخل مَعَ صاحبين لَهُ بَلَدا فِيهِ حمام فَأحب
صَاحِبَاه دُخُوله فَنَهَاهُمَا عبيد فأبيا إِلَّا دُخُوله فَلَمَّا دخلا رَأيا فِيهِ رجلا يتنور أَي يسْتَعْمل النورة فسألا عَنْهَا فأخبرا بإذهابها الشّعْر فاستعملاها فَلم يحسنا فأحرقتهما وأضرت بهما فَقَالَ عبيد
(لعمري لقد حذرت قرطا وجاره
…
وَلَا ينفع التحذير من لَيْسَ يحذر)
(نهيتهما عَن نورة أحرقتهما
…
وحمام سوء ناره تتسعر)
(فَمَا مِنْهُمَا إِلَّا أَتَانِي موقعاً
…
بِهِ أثر من مَسهَا يتقسر)
(أجدكما لم تعلما أَن جارنا
…
أَبَا الحسل بِالْبَيْدَاءِ لَا يتنور)
(وَلم تعلما حمامنا فِي بِلَادنَا
…
إِذا جعل الحرباء فِي الحدل يحضر)
والنورة قيل إِنَّهَا لَيست عَرَبِيَّة فِي الأَصْل واشتقاقها يشابه اشتقاق الْعَرَبِيّ فَزعم قوم أَنَّهَا سميت بذلك لِأَن أول من عَملهَا امْرَأَة يُقَال لَهَا نورة وَقد استعملتها الْعَرَب فِي الشّعْر الْقَدِيم قَالَ الراجز
(يَا رب إِن كَانَ بَنو عميره
…
رَهْط الثلب هَؤُلَاءِ مقصوره)
(قد أَجمعُوا الخلعة مشهوره
…
واجتمعوا كَأَنَّهُمْ قاروره)
(فَابْعَثْ عَلَيْهِم سنة قاشوره
…
تحتلق المَال احتلاق النوره)
انْتهى وَقد تفحصت عَن وَفَاة الطوري كثيرا فَلم أظفر بهَا سوى أَنِّي رَأَيْت فِي مَجْمُوع بِخَط بعض الأفاضل الأدباء وَكَانَ مِمَّن قَرَأَ على الطوري أَنه كَانَ مَوْجُودا فِي سنة سِتّ وَعشْرين ألف
عبد الْقَادِر بن عَليّ بن يُوسُف بن مُحَمَّد أَبُو السُّعُود بن أبي الْحسن بن أبي المحاسن المغربي الفاسي الْمَالِكِي الإِمَام الْعَلامَة الْمُحدث الْمُفَسّر الصُّوفِي البارع فِي جَمِيع الْعُلُوم جَمِيع من انتسب إِلَى الْمغرب متفقون على جلالته وتوحده وَإنَّهُ عديم النظير وأوحد الْمَشَايِخ وَالْعُلَمَاء وَشَيخ الشُّيُوخ وسلطان عُلَمَاء الزَّمَان وَقد كَانَ جَامعا بَين الْعلم الظَّاهِر وَالْبَاطِن اشْتهر ذكره من حَال صغره وَكثر الثَّنَاء عَلَيْهِ وَبعد صيته فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا وَكثر أَخذ النَّاس عَنهُ بِحَيْثُ أَن تلامذته لَا يُحصونَ وَلم يحرم أحد مِنْهُم من الْعلم السِّرّ فِيهِ وَفِي آبَائِهِ وبركته مَشْهُورَة بِحَيْثُ أَن الطّلبَة تقصده من الْبِلَاد النائية لذَلِك وَقد جرب ذَلِك واشتهر عِنْد أهل الْمغرب وَكَانَ عَظِيم الْحِفْظ عَجِيب الاملاء إِذا قَرَأَ كتابا استوفى مَا فِيهِ فَإِن وجد فِيهِ مسئلة نَاقِصَة تممها أَو شَيْئا مستغلقاً شَرحه أَو طَويلا اخْتَصَرَهُ دون أَن يخل بِشَيْء من مَعَانِيه أَو مسَائِل مختلطة
رتبها أَو وجد فِيهِ خطأ بَينه بغاية الْأَدَب بِحَيْثُ لَا ينتقص مُصَنفه وَكَانَ من الْحلم والبذل وَالصَّبْر بِحَيْثُ فاق أقرانه فِي ذَلِك خُصُوصا مَعَ ندرة ذَلِك فِي أهل الغرب وَكَانَ من الهيبة بِحَيْثُ تخافه الْمُلُوك وتخشى سطوته الْأُمَرَاء وَكَانَت الْعلمَاء والعامة منقادين لأَمره فِيمَا يرومه مَعَ وُقُوفه عِنْد حَده فِي سَائِر شؤونه وأدب نَفسه وَلسَانه إِلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ من حسن اللِّقَاء وَجَمِيل الْمُعَامَلَة وَالْإِكْرَام لجليسه وَكَانَ لجماله وبداعة وَجهه وَحسن صورته لَا يمْلَأ النَّاس مِنْهُ نظرتهم وَقد أفرد وَلَده عبد الرَّحْمَن لترجمته مجلداً حافلاً سَمَّاهُ تحفة الأكابر بمناقب الشَّيْخ عبد الْقَادِر ذكر فِيهِ بعض أخلاقه وعلومه اللدنية والمكتسبة ومنازلاته وكراماته وأسراره ومعاملاته مَعَ ربه سُبْحَانَهُ وإشاراته مِمَّا ذكره بِلِسَانِهِ أَو كتبه أَو قَرَّرَهُ فِي آيَة من كتاب الله عز وجل من عِنْد نَفسه أَو من حَاصِل مَا حفظ وَنقل وَمَا تكلم بِهِ فِي بعض الْأَحَادِيث النَّبَوِيَّة أَو فِي بعض الْحَقَائِق المنقولة عَن أحد الصُّوفِيَّة وَبَعض كَلَامه فِي الحكم والحقائق وَمَا قَالَه من الشّعْر أَو قيل فِيهِ مِمَّا يتَضَمَّن ذكر الطَّرِيق وَأَهله إِلَى غير ذَلِك مِمَّا يتعرف مِنْهُ مبْنى طَرِيقه وتبريزه فِي الْمعرفَة وَالْعلم وتحقيقه فَقَالَ ولد بِالْقصرِ الْكَبِير عِنْد زَوَال يَوْم الِاثْنَيْنِ ثَانِي شهر رَمَضَان سنة سبع بعد الْألف وَتسَمى هَذِه السّنة بالمغرب سنة الْفِيل وَسبب ذَلِك أَن فِي هَذِه السّنة فِي شهر رَمَضَان مِنْهَا بعث السُّلْطَان أَبُو الْعَبَّاس الْمَنْصُور لوَلَده الْمَأْمُون هَدِيَّة من مراكش إِلَى فاس اشْتَمَلت على تحف وَبعث مَعهَا فيلة خَارج أهل فاس كلهم للقائها بِمِائَة ألف أَو يزِيدُونَ فَعظم وقعها وَكثر التَّعَجُّب مِنْهَا وَنَشَأ فِي حجر وَالِده مصوناً عَن عَبث الصّبيان ملازماً لدار جده وَبهَا ولدور بِي محفوفاً بالتدريج الرحماني فَقَرَأَ على وَالِده وَتعلم الْقُرْآن وَحفظه على معلمه غَانِم السفياني ثمَّ لَازم الْقِرَاءَة على أَخِيه أبي الْعَبَّاس أَحْمد وَقَرَأَ أَيْضا على الْفَقِيه مُحَمَّد الزيات وَمُحَمّد الرفاس وَعبد الْقوي كلهم من فُقَهَاء الْقصر ثمَّ رَحل إِلَى فاس بِقصد الْقِرَاءَة فِي أَوَائِل رَجَب سنة خمس وَعشْرين وَألف فَنزل بِالْمَدْرَسَةِ المصباحية وأكب على الِاجْتِهَاد فَكَانَ كثيرا مَا يجد نَفسه فِي الطَّرِيق سائراً لتَعلق قلبه بمجالس الْعلم وحنينه إِلَى أَمَاكِن الْقِرَاءَة فِي وَقتهَا وَفِي غير وَقتهَا فَانْتَفع فِي أقرب مُدَّة وَقَرَأَ على جمَاعَة من الْأَشْيَاخ مِنْهُم عَم أَبِيه الْعَارِف بِاللَّه أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد ثمَّ قَرَأَ على غَيره من عُلَمَاء فاس كالشيخ أبي الْقَاسِم بن أبي النَّعيم الغسان وَالْإِمَام الْحَافِظ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد الْمقري التلمساني وَأبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد الْجنان
الغرناطي وَأبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أَحْمد بن عَاشر وَأبي الْحسن بن الزبير السلجماسي وَقَرَأَ فِي خلال ذَلِك وَبعده على عَمه الْعَلامَة أبي حَامِد مُحَمَّد الْعَرَبِيّ ولازم فِي أول أمره بفاس أَبَا الْحسن عَليّ بن أبي الْقَاسِم بن القَاضِي فِي كثير من الْأُمَّهَات النحوية والرسمية والعروضية والحسابية وَقَرَأَ أَيْضا فِي الْمنطق وَغَيره على أبي الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد الْمُزنِيّ الشريف التلمساني وجود بفاس الْقُرْآن على الْأُسْتَاذ الْمقري أبي عبد الله مُحَمَّد الخروبي وَأخذ الْعشْر النافع عَن الْفَقِيه أبي مهْدي عِيسَى الشرفي وَعَن الْأُسْتَاذ أبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد السُّوسِي وَعَن الْفَقِيه الْأُسْتَاذ أبي زيد عبد الرَّحْمَن بن أبي الْقَاسِم القَاضِي وَأخذ الشاطبية بمضمنها سَمَاعا عَن ابْن عَاشر الْمَذْكُور فَأَما شَيْخه أَبُو مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن فمولده فِي الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء سَابِع عشري شهر ربيع الأول سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف وَقَرَأَ على أَخِيه أبي المحاسن وعَلى الْفَقِيه الْمُفْتِي الْخَطِيب أبي زَكَرِيَّا يحيى بن مُحَمَّد السراج والفقيه القَاضِي الْخَطِيب أبي مُحَمَّد عبد الْوَاحِد بن أَحْمد الْحميدِي وَالْإِمَام المتفنن الْأُسْتَاذ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن عَليّ المنجور وَالْإِمَام الْأُسْتَاذ النَّحْوِيّ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن قَاسم العزومي وَالْإِمَام الْمُحَقق النظار أبي عبد الله مُحَمَّد بن قَاسم الْقَيْسِي الْقصار وَالْإِمَام الْمقري المجود أبي مُحَمَّد الْحسن بن مُحَمَّد الدراوي وَغَيرهم وَقد اسْتَوْفَيْنَا مشايخه فِي تَرْجَمته وَأما وَالِده فَعَن وَالِده والسراج والْحميدِي والمنجور والعزومي وَزَاد عَن الْفَقِيه النوازلي أبي رَاشد يَعْقُوب بن يحيى البدري ومولده سنة ثَمَان وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي سنة تسع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة وَأخذ عَن أبي الْحسن عَليّ ابْن هَارُون وَأبي مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن سُفْيَان وهما عَن ابْن غَازِي وَغَيره وَزَاد أَيْضا عَن أبي عبد الله بن مجير المساري وَأبي عبد الله الترغي المساري وَأبي النَّعيم رضوَان ابْن عبد الله الجنوي وَأبي النجد مبارك بن عَليّ المصمودي وَغَيرهم ومولد ابْن مجير فِي أول الْعَاشِرَة وَتُوفِّي فِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَأخذ عَن ابْن غَازِي وَغَيره وَتُوفِّي الترعي سنة تسع بعد الْألف وَأخذ عَن أبي عبد الله الخروبي الطرابلسي عَن سَيِّدي زَرُّوق وَغَيره وَعَن أبي الْقَاسِم بن مُحَمَّد إِبْرَاهِيم ومولده سنة سِتّ وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة وَتُوفِّي سنة ثَمَان وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَأخذ عَن ابْن غَازِي وَأبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن يُوسُف الدقون وَتُوفِّي فِي مستهل شعْبَان سنة إِحْدَى وَعشْرين وَتِسْعمِائَة عَن أبي عبد الله الْمواق وَتُوفِّي فِي شعْبَان سنة سبع وَتِسْعين وَثَمَانمِائَة
عَن المستوري بأسانيده الَّتِي فِي فهرسته ولد وَالِد شَيخنَا فِي نصف رَمَضَان سنة سِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي عصر الْجُمُعَة السَّادِس عشر من جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاثِينَ وَألف وَله تَرْجَمَة على حِدة اسْتَوْفَيْنَا فِيهَا أَحْوَاله ومشايخه وَأما عَمه الشَّيْخ أَبُو حَامِد فمولده سادس شَوَّال سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي رَابِع عشر شهر ربيع الثَّانِي سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَألف وَأَخذه عَن وَالِده الشَّيْخ أبي المحاسن ومولده سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي لَيْلَة الْأَحَد الثَّامِن عشر من شهر ربيع الأول سنة ثَلَاث عشرَة وَألف وَعَن الإِمَام الْقصار ومولده سنة تسع وَثَلَاثِينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي سنة آخر شعْبَان سنة ثَمَان عشرَة وَألف وَعَن الْفَقِيه المشارك أبي الْحسن عَليّ بن مُحَمَّد بن أبي الْعَرَب السفياني وَتُوفِّي سنة ثَمَان عشرَة وَعَن الأديب الْفَقِيه أبي عبد الله مُحَمَّد ابْن عَليّ الْقَنْطَرِي القصري وَتُوفِّي فِي التَّارِيخ أَيْضا وَعَن القَاضِي أبي مُحَمَّد عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد المركني المغراوي وَتُوفِّي سنة أَربع عشرَة وَألف وَعَن عَمه الإِمَام أبي مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن الْمُتَقَدّم وَعَن شقيقه الْحَافِظ أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن يُوسُف ومولده فِي ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي الْحَادِي وَالْعِشْرين من ربيع الثَّانِي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَألف وَعَن الإِمَام أبي الطّيب الْحسن بن يُوسُف الزناتي ومولده سنة سِتِّينَ من الْعَاشِرَة وَتُوفِّي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَألف وَأخذ وَالِده عَن البستيني وَابْن جلال وَأبي زيد بن إِبْرَاهِيم وَعبد الْوَهَّاب الرقَاق والخباز وخروف وَابْن مجير والمصمودي وأسانيدهم فِي تَرْجَمته وترجمة أَخِيه أبي مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن وَأخذ الْقصار عَنْهُم مَا عدا الخباز والمصمودي وَزَاد عَن أبي شامة بن إِبْرَاهِيم وَأبي الْحسن الرَّاشِدِي وَأبي عبد الله بن هبة وَأبي النَّعيم رضوَان وَأبي الْعَبَّاس التسولي وبالإجارة عَن أبي الطّيب الْغَزِّي والبدر الْقَرَافِيّ وَأبي زَكَرِيَّا الْحطاب وزين العابدين الْبكْرِيّ وَأبي الْقَاسِم بن عبد الْجَبَّار القيجميجي وَأبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم وأسانيدهم مَذْكُورَة فِي غير هَذَا وَأخذ ابْن القَاضِي عَن ابْن مجير وَأبي الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم والقدومي والسراج والْحميدِي والبدري وَغَيرهم وَأخذ المري عَن المنجور وَشَيْخه أبي الْقَاسِم بن إِبْرَاهِيم وَأخذ
ابْن أبي الْعَرَب عَن المنجور والقصار وَأخذ الْقَنْطَرِي عَن أبي المحاسن الفاسي وَأبي النَّعيم رضوَان والمنجور وَأخذ المركني عَن ابْن مجبر وَالْمَجْبُور والسراج والْحميدِي والقدومي وَأبي الْقَاسِم بن عبد الْجَبَّار وَأبي الْقَاسِم بن سَوْدَة وَأما ابْن أبي النَّعيم فمولده فِي رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي خَامِس ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف وَأخذ عَن ابْن مجبر وَعَن السراج والْحميدِي والمنجور والقدومي وَقد تقدمُوا وَعَن الْفَقِيه الْمُحدث أبي الْعَبَّاس أَحْمد بَابا ابْن أَحْمد بن أَحْمد ابْن عمر بن اقيت السوداني وَتُوفِّي فِي سَابِع شعْبَان سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف وَأخذ عَن وَالِده عَن جمَاعَة مشارقة ومغاربة وَتُوفِّي وَالِده فِي سَابِع عشر شعْبَان سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة ومولده فِي الْمحرم سنة تسع وَعشْرين وَتِسْعمِائَة وَأما الْمقري فَتوفي بِمصْر فِي منتصف رَجَب أَو شعْبَان سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف وَرُوِيَ عَن الْقصار وَقَبله عَن عَمه الْمُفْتِي أبي عُثْمَان سعيد بن أَحْمد عَن الزقاق والونشريشي وَابْن جلال وسُفْيَان وَابْن هَارُون وخروف وَسَعِيد المانوي وَغَيرهم وَأما الْجنان فمولده سنة ثَلَاث وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي آخر ذِي الْحجَّة سنة خمسين وَألف وَأخذ عَن ابْن مجير والقدومي والبدري والسراج والْحميدِي والمنجور وَقد تقدمُوا عَن أبي عبد الله الحضري وَتُوفِّي سنة خمس عشرَة وَألف وَهُوَ عَن الخروبي وَقد تقدم وَأما ابْن عَاشر فَعَن الْقصار وَابْن أبي النَّعيم وَأبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن عَزِيز التجِيبِي وَأبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد ابْن شقرون بن القَاضِي وَأبي عبد الله مُحَمَّد الهراوي وبالمشرق عَن سَالم السنهوري وَعبد الله الدنوشري وبركات الْحطاب والصفي الْعزي وَغَيرهم وَتُوفِّي ابْن عَاشر ثَالِث الْحجَّة سنة أَرْبَعِينَ وَألف وَابْن عَزِيز سنة ثَلَاث وَعشْرين ومولده سنة أَربع وَخمسين وَتِسْعمِائَة وَهُوَ يروي عَن القدومي والمنجور والْحميدِي والسراج وَأبي إِسْحَاق ابْن عبد الْجَبَّار الفحبي وَمُحَمّد بن عَليّ الشَّامي فَالْأول عَن ابْن غَازِي وَالثَّانِي عَن سُفْيَان وَأما ابْن الزبير فَعَن الشَّيْخ الْوَرع الصَّالح النَّحْوِيّ أبي يزِيد عبد الرَّحْمَن بن قَاسم بن مُحَمَّد بن عبد الله إِعْرَاب المكناسي وَولد سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي بعد الْألف وَتُوفِّي ابْن الزبير سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف وَأما أَبُو الْحسن بن القَاضِي فَتوفي سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَألف عَن خمس وَأَرْبَعين سنة وَأخذ عَن أَبِيه وَعَن ابْن عَمه أبي الْعَبَّاس بن شقرون وَقد تقدما وَعَن عَمه أبي مُحَمَّد عبد الْعَزِيز بن مُحَمَّد بن القَاضِي وَتُوفِّي سنة سِتّ وَألف ومولده بعد الْخمسين
وَتِسْعمِائَة وَأخذ أَبوهُ وَعَمه وَابْن عَمه جَمِيعًا عَن جدنا أبي المحاسن يُوسُف بن مُحَمَّد وَأخذ أَبُو الْحسن أَيْضا عَن أبي الْعَبَّاس أَحْمد حبيب عَن الشَّيْخ أبي المحاسن أَيْضا وَأخذ أَبُو الْحسن أَيْضا عَن الْفَقِيه الْمُحدث أبي الْحسن عَليّ الشريشي وَتُوفِّي تَاسِع عشر ذِي الْحجَّة سنة إِحْدَى وَعشْرين وَألف عَن أبي النَّعيم رضوَان بن عبد الله وَتُوفِّي سنة إجدى وَتِسْعين من الْعَاشِرَة ومولده سنة اثْنَتَيْ عشرَة مِنْهَا وَأخذ عَن سُفْيَان وَغَيره وَأخذ أَبُو الْحسن المري عَن أَبِيه الْمُفْتِي أبي عبد الله مُحَمَّد وَعَن الْحميدِي والسراج وَابْن أبي النَّعيم والمقري وَقد تقدمُوا وَعَن القَاضِي أبي الْحسن عَليّ بن عبد الرَّحْمَن بن عمرَان وَتُوفِّي سنة ثَمَان عشرَة وَألف وَأخذ عَن الْأُسْتَاذ الْفَقِيه أبي الْعَبَّاس أَحْمد بن مُحَمَّد الزموري وَتُوفِّي سنة إِحْدَى وَألف عَن الونشريشي والزقاق وَأبي الْقسم بن إِبْرَاهِيم وَغَيرهم وَلم يُمكن بسط أسانيدهم وَقد بسطناها فِي غير هَذَا وَلما أكمل الْقِرَاءَة شَيخنَا اقْتصر على شَيْخه أبي مُحَمَّد عبد الرَّحْمَن عَم أَبِيه بِقصد التربية مظْهرا بالحقاق الربانية وَلم ينتسب إِلَّا إِلَيْهِ إِلَى أَن ربطه بعده بالشيخ سَيِّدي مُحَمَّد بن عبد الله وَكَانَ لَقِي قبله رجَالًا من أهل الله مِنْهُم الشَّيْخ سَيِّدي أَبُو الْقَاسِم ابْن الزبير المصباحي وَكَثِيرًا مَا تردد إِلَيْهِ بِالْقصرِ قبل رحلته إِلَى فاس وَكَانَ جليل الْقدر محافظاً على رسوم الشَّرِيعَة مَعَ تغفل فِي دُنْيَاهُ وغيبة لَا يُنكر فِيهَا من أَحْوَاله شَيْء وَله منازلات ومكاشفات توفّي فِي مستهل الْمحرم سنة ثَمَان عشرَة وَألف وَأخذ عَن الشَّيْخ أبي مُحَمَّد الْحسن بن عِيسَى المصباحي من أكَابِر أَصْحَاب الغزواني وَعَن وَالِده أبي مُحَمَّد عِيسَى بن الْحسن عَن وَالِده وَعَن أبي عبد الله الطَّالِب وَارِث الغزواني وَأخذُوا وَالِده أَيْضا عَن أبي عسرية المصباحي وَمِنْهُم الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن مُوسَى الشريعي الفجاج وَكَانَ جليل الْقدر كثير المكاشفات وَتُوفِّي سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف وَأخذ عَن أبي عبد الله الصّباغ القصري عَن أبي الْحسن فندرير عَن أبي الْعَبَّاس الحساني عَن أبي الْحسن عَليّ صَالح عَن التباع وَأخذ أَيْضا عَن سَيِّدي أبي شتاغي عَن سَيِّدي الغزواني وَمِنْهُم الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد الصرصري وَتُوفِّي سنة سبع وَعشْرين وَألف وَأخذ عَن أبي مهْدي عِيسَى بن الْحسن وَعَن أَبِيه الْمَذْكُورين وَمِنْهُم الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ بن أَحْمد بن أَيُّوب الخلطي وَأخذ عَنْهُمَا أَيْضا فِيمَا أَظن وَمِنْهُم الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد القجيري القصري وَكَانَ صَاحبه حَال عَظِيم توفّي سنة أَربع وَأَرْبَعين وَألف وَأخذ عَن الشَّيْخ الْفَقِيه الصَّالح أبي مُحَمَّد عبد الله
ابْن حسون السلائي دفن بسلا وَتُوفِّي سنة ثَلَاث عشرَة وَألف وَهُوَ عَن سَيِّدي عبد الله الهيطي وَتُوفِّي سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَألف عَن سَيِّدي الغزوانني وَتُوفِّي سنة خمس وَثَلَاثِينَ عَن التياع وَتُوفِّي سنة أَربع عشرَة كلهم من الْعَاشِرَة وَمِنْهُم الشَّيْخ أَبُو الْحسن عَليّ المصمدي وَتُوفِّي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف وَأخذ عَن أبي الْحسن الجعيدي وَتُوفِّي سنة ثَلَاث وَعشْرين وَألف عَن الشَّيْخ أبي الْحجَّاج يُوسُف التليدي أحد وارثي الغزواني وَتُوفِّي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَتِسْعمِائَة واختص بعده بتلميذه سَيِّدي مَنْصُور بن عبد الْمُنعم وَمِنْهُم الشَّيْخ سَيِّدي عبد الرَّحْمَن الشريف وَغَيرهم وَنَشَأ مُنْذُ صباه مُسْتَقِيم النَّفس على التَّزْكِيَة بالطاعات فيسر الله لَهُ التَّعَلُّم حَتَّى كَانَ يحفظ دون كثير قِرَاءَة فحدثنا من كَانَ يقْرَأ مَعَه فِي الصغر أَنه كَانَ ينظر فِي اللَّوْح ويحرك شَفَتَيْه من غير أَن يسمع لَهُ صَوت ثمَّ يعرض لوحه كَمَا يَنْبَغِي وَدخل فِي طَرِيق الْقَوْم وَكَانَ يحضر حزب أَخِيه أبي عسرية وَغَيره ثمَّ دخل فاس فلازم عَم أَبِيه قِرَاءَة وَطلب مِنْهُ الدُّخُول فِي حزب أَصْحَابه مَعَ جمَاعَة مِمَّن يقْرَأ مَعَه فَأَشَارَ بِالْقبُولِ وَلَكِن شَرط عَلَيْهِم حلق الشّعْر وَكَانَ للشَّيْخ شنتوف إِذْ ذَاك فبادر إِلَى حلقه وأغفل غَيره احتقاراً للشّرط فَلَمَّا أكمل الْقِرَاءَة طُولِبَ بِالرُّجُوعِ إِلَى وَطنه بعد كتبه الْإِجَازَة عَن شَيْخه أبي النَّعيم وأستاذه عَم أَبِيه وَذَلِكَ فِي جُمَادَى الأولى سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وَألف فَقَالَ لَهُ الشَّيْخ لَو كنت وَحدك مَا أطلقتك وَلَكِن سر فَلَمَّا وصل بعث إِلَيْهِ بالعوذ ليَأْتِيه فاختص بِهِ وَكَانَ يطالعه سَائِر يَوْمه وَرُبمَا خرج لَيْلًا بِحَسب مَا يحدث لَهُ من حَال يبثه أَو علم ينشره وَلم يزل يلازمه إِلَى وَفَاته مَعَ مَا كَانَ يُنَوّه بِهِ ويثني عَلَيْهِ وَيُشِير إِلَيْهِ بالخصوصية ثمَّ ظهر بعده الشَّيْخ الْعَارِف الشَّيْخ مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله معَان الأندلسي بِإِخْرَاج الْجَمَاعَة لَهُ فاستخرجوه جمعا لأمرهم وضبطاً لحالهم فصادفوا الْإِذْن لَهُ فِي ذَلِك فأظهر مَا كَانَ خَفِي ولاحت أنواره وَنزل لَهُ صَاحب التَّرْجَمَة فخدمه إِلَى وَفَاته جمعا للآراء وَلم يزل الشَّيْخ مُحَمَّد الْمَزْبُور يتيمن بِعلم المترجم وَيُشِير إِلَى توفيقه واختصاصه من بَين أَهله بِمَا هُوَ أقوى من التَّصْرِيح بتقديمه بعده فهمه وعرفه من سلم من شين الْحَسَد وَأخذ غَيره بعموقات لَا تفِيد شَيْئا لقَوْله الْوَقْت غال وَلَيْسَ هَذَا وَقت فقر إِنَّمَا نطلب أَن نموت مُسلمين وَمَا علم أَن هَذَا قَالَه الشَّيْخ المجذوب قبله وَقَالَهُ من الْمُتَقَدِّمين كثير بل وَالشَّيْخ وأشياخنا كَانُوا ينفون المشيخة عَنْهُم وَعَن أهل وقتهم ثمَّ قَالَ وَكَانَ أعلم أهل زَمَانه وأثبتهم وأضبطهم وَأَكْثَرهم تحريراً وَكَانَ يحفظ
مَا يسمع وَلَا يَعْتَرِيه نِسْيَان مُنْذُ زمن قِرَاءَته وَكَانَ لَا يدع مُشكلا فِي علم يسْأَل عَنهُ وَلَا يتَكَلَّم مَعَه فِي نازلة إِلَّا ويفكها وَلَا يتَكَلَّم مَعَه فِي علم إِلَّا ويفيد ثَمَرَته عَن روية لَا بتكلف مطالعة وَلَا ترددّ بِعِبَارَة سهلة لَا يتَكَلَّف لَهَا تأنقاً وَلَا يلْتَزم لَهَا خُرُوجًا عَن لِسَان الْوَقْت بل كَانَ تدريسه على ذَلِك تَارَة بِعِبَارَة الْوَقْت وَتارَة بِالْعَرَبِيَّةِ الْمَحْضَة فَإِذا كتب ظَهرت الفصاحة والبلاغة على الْوَجْه الَّذِي يبلغ من استحسانه كل مبلغ وَمَا رَأينَا تحصيلاً أتمّ من تَحْصِيله مَعَ التبحر فِي الْعُلُوم وَالْجمع لأدوات الِاجْتِهَاد وَكَانَ يمِيل إِلَيْهِ إِلَّا أَنه يوفق بَين رَأْيه ورأي أهل الْمذَاهب حَتَّى يصيره قولا جَارِيا على مَشْهُور الْمذَاهب وَلَا يقنع فِي أجوبته بِمَا يرَاهُ بنظره بل يَسْتَخْرِجهُ من النُّصُوص وَيَردهُ إِلَى مفهومها وَكَانَ لَهُ التَّمْكِين الْعَظِيم مَعَ قُوَّة التضلع فِي التَّفْسِير والْحَدِيث ومعاني الْكتاب وَالسّنة وَله فِي التصوف الْيَد الْبَيْضَاء وَأما الْعَرَبيَّة فَهُوَ أَبُو عذرها حَتَّى كَانَ يَقُول تِلْمِيذه الإِمَام الْعَلامَة أَبُو الْعَبَّاس أَحْمد بن جلال كل من يحسن النَّحْو بفاس وَيَزْعُم أَنه أَخذه عَن غير سَيِّدي عبد الْقَادِر فَهُوَ كَذَّاب وَأما الْأُصُول والمنطق وَالْبَيَان فَكَانَ يَقُول تِلْمِيذه الْمَذْكُور مارسنا الْعلمَاء فَكَانَ إِذا أشكل علينا فِي الْمحلى أَو السعد أَو غَيرهمَا شَيْء أَتَيْنَا شَيخنَا أَبَا الْعَبَّاس أَحْمد بن عمرَان وَهُوَ الْمشَار إِلَيْهِ مَعَه فِي ذَلِك فَسَأَلْنَاهُ فَيَأْخُذ الْكتب من أَيْدِينَا فيتأملها ثمَّ يجيبنا وَإِذا أَتَيْنَا سَيِّدي عبد الْقَادِر وسألناه أجابنا على البديهة دون تَأمل كتاب وَقد نفقت بضَاعَة سَائِر الْعُلُوم فِي عصره ببركته فتضلع بهَا تلامذته وتلامذة تلامذته حَتَّى صَارُوا يلقون من يَأْتِي بِشَيْء مِنْهَا مسارعين وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ أكمل أهل زَمَانه وَكَانَت وَفَاته فِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَألف
عبد الْقَادِر بن عمر الْبَغْدَادِيّ نزيل الْقَاهِرَة الأديب المُصَنّف الرّحال الباهر الطَّرِيقَة فِي الْإِحَاطَة بالمعارف والتضلع من الذَّخَائِر العلمية وَكَانَ فَاضلا بارعاً مطلعاً على أَقسَام كَلَام الْعَرَب النّظم والنثر رَاوِيا لوقائعها وحروبها وأيامها وَكَانَ يحفظ مقامات الحريري وَكَثِيرًا من دواوين الْعَرَب على اخْتِلَاف طبقاتهم وَهُوَ أحسن الْمُتَأَخِّرين معرفَة باللغة والأشعار والحكايات البديعة مَعَ التثبت فِي النَّقْل وَزِيَادَة الْفضل والانتقاد الْحسن ومناسبة إِيرَاد كل شَيْء مِنْهَا فِي مَوْضِعه مَعَ اللطافة وَقُوَّة المذاكرة وَحسن المنادمة وَحفظ اللُّغَة الفارسية والتركية وإتقانهما كل الإتقان وَمَعْرِفَة الْأَشْعَار الْحَسَنَة مِنْهُمَا وأخبار الْفرس خرج من
بَغْدَاد وَهُوَ متقن لهَذِهِ اللُّغَات الثَّلَاث وَورد دمشق وَقَرَأَ بهَا على الْعَلامَة السَّيِّد مُحَمَّد بن كَمَال الدّين نقيب الشَّام وعَلى شَيخنَا النَّجْم مُحَمَّد بن يحيى الفرضي فِي الْعَرَبيَّة وَأقَام بِدِمَشْق فِي مَسْجِد قبالة دَار النَّقِيب الْمَذْكُور مِقْدَار سنة ثمَّ رَحل إِلَى مصر فَدَخلَهَا فِي سنة خمسين وَألف بعد فتح بَغْدَاد بعامين وَأخذ الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة وآلاتها النقلية والعقلية عَن جمع من مَشَايِخ الْأَزْهَر أَجلهم الشهَاب الخفاجي وَالسري الدروري والبرهان المأموني والنور الشبراملسي وَالشَّيْخ يس الْحِمصِي وَغَيرهم وَأكْثر لُزُومه كَانَ للخفاجي قَرَأَ عَلَيْهِ كثيرا من التَّفْسِير والْحَدِيث والآداب وَأَجَازَهُ بذلك وبمؤلفاته وَكَانَ الخفاجي مَعَ جلالته وعظمته يُرَاجِعهُ فِي الْمسَائِل الغريبة لمعرفته مظانها وسعة اطِّلَاعه وَطول بَاعه حكى صاحبنا الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله قَالَ قلت لَهُ لما رَأَيْته من سَعَة حفظه واستحضاره مَا أَظن هَذَا الْعَصْر سمح بِرَجُل مثلك فَقَالَ لي جَمِيع مَا حفظته قَطْرَة من غَدِير الشهَاب وَمَا استغدت هَذِه الْعُلُوم الأدبية إِلَّا مِنْهُ وَلما مَاتَ الشهَاب تملك أَكثر كتبه وَجمع كتبا كَثِيرَة غَيرهَا وَأَخْبرنِي عَنهُ بعض من لَقيته أَنه كَانَ عِنْده ألف ديوَان من دواوين الْعَرَب العاربة وَألف المؤلفات الفائقة مِنْهَا شرح شَوَاهِد شرح الكافية للرضي الاسترابادي فِي ثَمَان مجلدات جمع فِيهِ عُلُوم الْأَدَب واللغة ومتعلقاتها بأسرها إِلَّا الْقَلِيل وملكته بالروم وانتفعت بِهِ ونقلت مِنْهُ فِي مجاميع لي نفائس أبحاث يعز وجودهَا فِي غَيره وَله أَيْضا شرح شَوَاهِد شرح الشافية للرضي أَيْضا والحاشية على شرح بَانَتْ سعاد لِابْنِ هِشَام وَقد رَأَيْتهَا وانتقيت مِنْهَا مبَاحث ونوادر كَثِيرَة من جُمْلَتهَا الناسب يجوز لَهُ أَن يذكر مَا تقدم وَأَن يفرغ مجهوده فِيمَا يدل على الصبابة وإفراط الوجد واللوعة والانحلال وَعدم الصَّبْر وَمَا أشبه ذَلِك من التذلل والتوله وَيجب أَن يجْتَنب مَا يدل على الإباء والعزة والتخشن والجلادة كَقَوْل إِسْحَاق الْأَعْرَج
(فَلَمَّا بدا لي مَا رَابَنِي
…
نزعت نزوع الأبيّ الْكَرِيم)
فَإِنَّهُ وصف نَفسه بِالْجلدِ والإقناع والتسلي وَهَذَا نقض للغرض وَقد عَابَ عَلَيْهِ بَعضهم فَقَالَ قبحه الله مَا أحبها سَاعَة قطّ وكقول عبد الرَّحْمَن
(إِن تنأ دَارك لَا أمل تذكرا
…
وَعَلَيْك مني رَحْمَة وَسَلام)
فَهَذَا وَإِن كَانَ معنى صَحِيحا لكنه أثقل من رضوى لَيْسَ فِيهِ لطف وَلَا عذوبة وَهُوَ
بالرثاء أشبه مِنْهُ بالنسيب ثمَّ إِن مثله إِنَّمَا يُخَاطب بِهِ الأماثل من الرِّجَال وَلَيْسَ يَنْبَغِي أَن يُخَاطب بِهِ النسوان وربات الحجال إِذْ لَيْسَ فِيهِ من الصنبوة والخلاعة مَا يجلب بِهِ مودتهن وَمن المخاشنة قَول طرفَة
(وَإِذا تلسنني ألسنها
…
إِنَّنِي لست بموهون فقر)
وَمن النِّهَايَة فِي المخاشنة قَول الآخر
(سَلام لَيْت لِسَانا تنطقين بِهِ
…
قبل الَّذِي نالني من صَوته قطعا)
فَهَذَا قَول عَدو مكاشر لَا محب مكاسر وأقبح من هَذَا قَول عبد بني الحسحاس فِي الدُّعَاء على محبوبته
(وراهن رَبِّي مثل مَا قدورينني
…
وأحمي على اكبادهن المكاويا)
وَمثله قَول جَنَازَة
(من حبها أَتَمَنَّى أَن يلاقيني
…
من نَحْو بلدتها ناع فينعاها)
(لكَي يكون فِرَاق لَا لِقَاء لَهُ
…
وتضمر النَّفس يأسا ثمَّ تسلاها)
انْتهى وَله من التآليف أَيْضا شرح الشاهدي الْجَامِع بَين الْفَارِسِي والتركي وَغير ذَلِك مِمَّا لم يصل إِلَيّ خَبره وكل تآليفه مفيدة نافعة وَكَانَ مَعَ تبحره فِي الْآدَاب وَمَعْرِفَة الشّعْر لم يتَّفق لَهُ نظم حَتَّى طلبت من بعض المختصين بِهِ شَيْئا من شعره لأثبته فِي تَرْجَمته فَذكر لي فِيمَا زعم أَنه لم يتفوه بِشَيْء مِنْهُ ترفعا عَنهُ ثمَّ رَأَيْت الشلي ذكر لَهُ فِي تَرْجَمته هَذِه الأبيات فِي هجاء طَبِيب يَهُودِيّ يعرف بِابْن جَمِيع
(يَا ابْن جَمِيع أَصبَحت تمتحن النَّحْو
…
ودعواك فِيهِ منحولة)
(أمك مَا بالها فقد ذهبت
…
مَرْفُوعَة السَّاق وَهِي مفعولة)
(فاعلها الا يرو وَهُوَ منتصب
…
مسَائِل قد أتتك مَجْهُولَة)
(وَالْعين عطل وَعين عصعصها
…
بِنُقْطَة الخصيتين مشكولة)
وَدخل دمشق فِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف وَكَانَ فِي صُحْبَة الْوَزير إِبْرَاهِيم باشا الْمَعْرُوف بكتخذا الْوَزير منصرفا من حُكُومَة مصر وسافر مَعَه إِلَى أردنة راجيا أَن يحل من الزَّمَان مَحل الفريدة من العقد فَدخل إِلَى مجْلِس الْوَزير الْأَعْظَم أَحْمد باشا الْفَاضِل واستمكن مِنْهُ واختص بِهِ وَلما حللت أدرنة فِي ذَلِك الْعَهْد زرته مرّة فِي معهده وَكَانَ بَينه وَبَين وَالِدي حُقُوق ومودة قديمَة فَرَحَّبَ بِي وَأَقْبل عَليّ وَكَانَ إِذْ ذَاك فِي غَايَة من إقبال الكبراء عَلَيْهِ فَلم يلبث حَتَّى هجمت عَلَيْهِ على فأسى مِنْهَا آلاما شَدِيدَة وَلم يبْق طَبِيب حَتَّى بَاشر معالجته وَكَانَ أمره فِي نيل أمانيه مأخوذا على التَّرَاخِي
فعاجله الملال والسآمة وضاق بِهِ الْأَمر فَذهب إِلَى معرة مصر وَعَاد مرّة ثَانِيَة وَأَنا بالروم فَابْتلى برمد فِي عَيْنَيْهِ حَتَّى قَارب أَن يكف فسافر من طَرِيق الْبَحْر إِلَى مصر فوصلها وَلم تطل مدَّته بِهِ حَتَّى توفّي وَكَانَت وِلَادَته بِبَغْدَاد فِي سنة ثَلَاثِينَ وَألف وَتُوفِّي فِي أحد الربعين من سنة ثَلَاث وَتِسْعين وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن سوار الدِّمَشْقِي العاتكي شيخ الْمحيا بِالشَّام وَأحد الكبراء الصلحاء أَصْحَاب الشان كَانَ فِي مبدأ أمره يُسَافر إِلَى الْقَاهِرَة للتِّجَارَة فَحَضَرَ مجْلِس النَّبِي
وَشَيْخه أذذاك الشَّيْخ شهَاب الدّين البُلْقِينِيّ فَوَقع عمله فِي خاطره ثمَّ رَجَعَ إِلَى دمشق فابتدأ بِعَمَل الْمحيا فِي لَيْلَة الْجُمُعَة بِجَامِع الْبزورِي بمحلة قبر عَاتِكَة فِي رَجَب سنة سبعين وَتِسْعمِائَة وَكَانَ يحضر مَعَه رجلَانِ أَو ثَلَاثَة من جِيرَانه أَنه لَا يزِيدُونَ فحضرهم ذَات لَيْلَة الشهَاب بن الْبَدْر الْغَزِّي فَاسْتحْسن فعلهم وَكَانَ يعاودهم كثيرا واعتنى بهم جدا وَمن لطائفه مَا قَالَه فِي مدح الْمحيا
(أَمَانَة تفسي فِي مطالعة الأحيا
…
وَأَحْيَاء روحي فِي مُشَاهدَة الْمحيا)
(فيارب هَذَا دأب عَبدك دَائِما
…
وديدنه مَا دَامَ فِي هَذِه الدِّينَا)
وَلما طَال تردده إِلَيْهِم ذكر ذَلِك لوالده الْبَدْر فَاسْتَحْسَنَهُ وَأمره أَن يَأْتِي بالشيخ عبد الْقَادِر إِلَيْهِ فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِ أَشَارَ لَهُ بِعَمَل الْمحيا فِي الْجَامِع الْأمَوِي بالمشهد الْمَعْرُوف بزين العابدين فامتثل أمره وقوى قلبه وابتدأه فِي الْمحرم سنة إِحْدَى وَسبعين لرؤيا رَآهَا هُوَ وَرجل يُقَال لَهُ بَرَكَات العقرباني موافقين لإشارة الْبَدْر وَحدث الشَّيْخ عبد الْقَادِر أَنه فِي أَوَائِل عمل المحياد دخل عَلَيْهِ الشَّيْخ صَالح خير الدّين الْمصْرِيّ الْحَنَفِيّ فَقَالَ رَأَيْت رَسُول الله
وَمَعَهُ الشَّيْخ عَليّ الشوني وَهُوَ أول من عمل مجْلِس الصَّلَاة على رَسُول الله
بِمصْر وَالشَّيْخ شهَاب الدّين البُلْقِينِيّ وَهُوَ خَلِيفَته فِي الْمجْلس فَقَالَ لي رَسُول الله
تعرف الشَّيْخ عبد الْقَادِر إِمَام الْجَامِع الْبزورِي فَقلت لَهُ نعم فَقَالَ اذْهَبْ إِلَيْهِ وَقل لَهُ يعْمل الْمحيا على طَريقَة الشَّيْخَيْنِ وَأَشَارَ إِلَى الشوني والبلقيني ثمَّ رأى الشَّيْخ عبد الْقَادِر نَفسه رَسُول الله
فِي النّوم فَقَالَ لَهُ اسْتَعِنْ عَن مجلسي بِأَصْحَابِك ثمَّ التمس بعد مُدَّة من الرُّؤْيَا من أَصْحَابه مساعدته فَلم يطعه مِنْهُم أحد وَقَالُوا لَا قدرَة لنا على سهر اللَّيْل فَرَأى رَسُول الله
مرّة ثَانِيَة فَقَالَ لَهُ أما قلت لَك اسْتَعِنْ على الْمجْلس بِأَصْحَابِك قَالَ فَقلت لَهُ مَا أَطَاعَنِي أحد فَقَالَ لَهُ أرسل إِلَيْك
جمَاعَة يعاونونك قَالَ فَبعد أَن رَأَيْت ذَلِك يسر الله لي جمَاعَة وَكَانَ يرى النَّبِي
فِي الْمَنَام كثيرا وَيحدث عَن رُؤْيَاهُ فَرُبمَا وَقع بعض النَّاس الضُّعَفَاء فِيهِ حَتَّى اتّفق للشَّيْخ الْفَاضِل الْبَدْر حسن بن عبد الْقَادِر محيي الدّين الْبكْرِيّ الصديقي وَكَانَ مِمَّن يُنكر ذَلِك عَلَيْهِ فَرَأى فِي مَنَامه أَن الْجَامِع الْأمَوِي ملآن من النَّاس وهم ينتظرون قَالَ فَقلت مَا تنتظرون قَالُوا نَنْتَظِر رَسُول الله
فَبعد ذَلِك دخل النَّبِي
فَأَقْبَلُوا عَلَيْهِ يقبلُونَ يَدَيْهِ وَكنت مِمَّن قبل يَده وَقلت لَهُ من أَنْت يَا سَيِّدي قَالَ أَنا رَسُول الله
الَّذِي يَقُول الشَّيْخ عبد الْقَادِر ابْن سوار كثيرا أَنه يراني فِي مَنَامه وَقد جِئْت لحضور مَجْلِسه فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ تَابَ عَن الْإِنْكَار وَصَارَ يلازم مجْلِس ابْن سوار ويعتقده وَيقبل يَده وَكَانَ للشَّيْخ عبد الْقَادِر فَضِيلَة وَكَانَ يقْرَأ الْقُرْآن مجوداً وَكَانَ من أحسن النَّاس قِرَاءَة وَله رِوَايَة عَن الْبَدْر الْغَزِّي وَالشَّيْخ أبي الْحسن الْبكْرِيّ والشهاب أَحْمد الطَّيِّبِيّ الْكَبِير قَالَ النَّجْم وَرَأَيْت فِي تَارِيخ ابْن طولون بِخَطِّهِ هَذِه الأبيات منسوبة للشَّيْخ عبد الْقَادِر بن سوار وَهِي هَذِه
(لَوْلَا ثَلَاث لم أرد عيشة
…
أعيش فِيهَا مدّة الْعُمر)
(محيا رَسُول الله ذخر الورى
…
من نوره أَسْنَى من الْبَدْر)
(وصحبة الإخوان لي دَائِما
…
بِالصّدقِ وَالْإِخْلَاص وَالذكر)
(وتوبة تمحو الَّذِي قد مضى
…
فِي الزَّمن الْمَاضِي من الْوزر)
(فأسأل الرَّحْمَن تيسيرها
…
فَهُوَ إلهي مَالك الْأَمر)
وَكنت أستبعد أَن تكون لَهُ فَقلت لَهُ رَأَيْت بِخَط ابْن طولون هَذِه الأبيات منسوبة لكم فَهَل أَنْتُم قُلْتُمُوهَا فَقَالَ لي وَإِنَّمَا هِيَ لأخيك الشَّيْخ شهَاب الدّين وَكنت أتفرس ذَلِك حَتَّى أَخْبرنِي الشَّيْخ عبد الْقَادِر أَنه كَانَ يتَمَثَّل بهَا فَظن الشَّيْخ شمس الدّين بن طولون أَنَّهَا نظمه ونقلها النَّاس من خطّ ابْن طولون منسوبة إِلَى الشَّيْخ عبد الْقَادِر حَتَّى رَأَيْتهَا بِخَط الدَّاودِيّ وَغَيره وَكَانَت ولادَة ابْن سوار لَيْلَة دُخُول السُّلْطَان سليم إِلَى دمشق وَهِي لَيْلَة الْحَادِي وَالْعِشْرين من شهر رَمَضَان سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي سحر لَيْلَة الْأَحَد ثامن عشر جُمَادَى الأولى سنة أَربع عشرَة بعد الْألف عَن أحد وَتِسْعين سنة وَسِتَّة أشهر وَعشْرين يَوْمًا وَصلى عَلَيْهِ فِي التوريزية وَدفن بمقبرة الدقاقين شرقيها من جِهَة الْقبْلَة بمحلة قبر عَاتِكَة وَقيل فِي تَارِيخ مَوته
(قَالُوا قضى قطب الورى نحبه
…
وَذَاكَ عبد الْقَادِر المرتضى)
(فَهَل قضى الله لَهُ بِالرِّضَا
…
فَقلت فِي تَارِيخه قد قضى)
عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن زين الفيومي الْمصْرِيّ الشَّافِعِي الإِمَام الْكَبِير الْمَعْرُوف وَهُوَ وَالِد عبد الْبر صَاحب المنتزه الْمُقدم ذكره لزم الشَّمْس الرَّمْلِيّ مُدَّة سِنِين وتفقه بِهِ وَأخذ عَن الشهَاب أَحْمد بن أَحْمد بن عبد الْحق السنباطي وَعَن شيخ الْقُرَّاء الشَّيْخ شحاذة اليمني وَأبي النجا سَالم السنهوري وَالشَّمْس مُحَمَّد البنوفري وَالشَّيْخ صَالح البُلْقِينِيّ وَمن مشايخه أَيْضا النُّور الزيَادي وتلقى الرياضيات عَن السَّيِّد الشريف الطَّحَّان وفَاق فِي الْفُنُون فَجمع بَين الْمَعْقُول وَالْمَنْقُول وَكَانَ فَقِيها مُحدثا فرضياً صوفياً وَيعرف الْحساب والهيئة والميقات والموسيقى وَغَيرهَا وتصدّر للإفتاء والتدريس وانتفع بِهِ كثير من الطّلبَة واشتهر فَضله والف تآليف كَثِيرَة مِنْهَا شَرحه الْكَبِير لمنهاج النَّوَوِيّ جمع فِيهِ بَين شرحي شَيْخه الرَّمْلِيّ وشرحي الْخَطِيب وَابْن حجر وَهُوَ عُمْدَة فِي مَذْهَبهم وَله شرح عَلَيْهِ مُخْتَصر من هَذَا سَمَّاهُ الرَّوْض الْمُهَذّب فِي تَحْرِير مَا لخصته من فروع الْمَذْهَب وَكتب على شرح الْمنْهَج وَشرح الْبَهْجَة وَشرح النزهة فِي الْحساب وَمتْن اللمع وَشرح متن الْمقنع فِي الْجَبْر والمقابلة وَشرح الْمَنْظُومَة الشهيرة بالرحبية فِي الْفَرَائِض وَله نظم يتَعَلَّق بالتصوف والعقائد وَمن شعره مَا رثى بِهِ شَيْخه الشمسي الرَّمْلِيّ الْمَذْكُور
(واحر قلبِي على حبر قضى وَمضى
…
لَو كَانَ يفدى فدته الْعين بالبصر)
(فالعين تَدْمَع وَالْقلب الحزين غَدا
…
بجمرة أوقدت باللهب والشرر)
(لفقد شمس لدين الله سيدنَا
…
وَمن هدى النَّاس من بَدو وَمن حضر)
(مُحَمَّد الْعَالم المفضال من سطعت
…
بِهِ الْفَضَائِل فِي العلياء كَالْقَمَرِ)
وَكَانَ لَهُ رُتْبَة علية بَين الْأَوْلِيَاء وَكَانَ يصدر عَنهُ كرامات وأحوال باهرة مِنْهَا أَنه مرض لَهُ ولد فزار الإِمَام الشَّافِعِي فَاجْتمع بزين العابدين الْمَنَاوِيّ فَقَالَ لَهُ مصلحتك عِنْد ذَاك الرجل وَأَشَارَ بِهِ إِلَى رجل جَالس فِي طاق من بَيت فَذهب إِلَيْهِ فَوَجَدَهُ بعض أَصْحَابه من الْعلمَاء فَذكر لَهُ فَدَعَا لوَلَده فَعُوفِيَ وَمِنْهَا أَنه رأى منا مَا عِيسَى بن مَرْيَم عليه الصلاة والسلام فِي طَرِيق مطهرة الْجَامِع الْأَزْهَر فَسَأَلَهُ الدُّعَاء فَقَالَ لَهُ بَقِي من عمرك ثَلَاثَة أَيَّام فَذهب إِلَى الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى مُحَمَّد البنوفري فَقص عَلَيْهِ الْمَنَام فَقَالَ لَهُ من عمرك الَّذِي مَعَ الْمَشَقَّة والكدر فَكَانَ كَذَلِك فَعَاشَ بعد
ذَلِك مَا ينوف على ثَلَاثِينَ سنة وَسُئِلَ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى صَالح البُلْقِينِيّ عَن القطب فَقَالَ من أَرَادَ أَن يرى القطب فَلْينْظر إِلَى عبد الْقَادِر إِلَى غير ذَلِك من كراماته الْمَشْهُورَة بَين عُلَمَاء جَامع الْأَزْهَر وَكَانَت وَفَاته سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف وَكَانَ هيأ قَبره قبل مَوته بِمدَّة جوَار الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى مُحَمَّد بن الترجمان الْمَشْهُور تجاه مقَام السُّلْطَان قايتباي بصحراء مصر
عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد بن يحيى بن مكرم بن محب الدّين بن رَضِي الدّين بن محب الدّين ابْن شهَاب الدّين بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن أبي بكر بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن أبي بكر بن عَليّ بن فَارس بن يُوسُف بن إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عَليّ بن عبد الْوَاحِد بن مُوسَى ابْن إِبْرَاهِيم بن جَعْفَر بن مُحَمَّد بن عَليّ بن الْحُسَيْن السبط بن عَليّ بن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الْحُسَيْنِي الطَّبَرِيّ الْمَكِّيّ الشَّافِعِي إِمَام أَئِمَّة الْحجاز قد ترْجم نَفسه فِي بعض كتبه فَقَالَ بعد أَن ذكر نسبه هَكَذَا سرد نسبه هَذَا أَئِمَّة التَّارِيخ وَالْعُلَمَاء الأكابر وَهُوَ متلق لَهُ كَابِرًا عَن كَابر فَإِن الْحَافِظ الْعُمْدَة سراج الدّين عمر بن فَهد مؤرخ مَكَّة ترْجم أَبَا بكر بن مُحَمَّد الطَّبَرِيّ وَنسبه فِي كتاب التَّبْيِين فِي تراجم الطبريين بِهَذَا النّسَب وَوجد ذَلِك بِخَط الْحَافِظ الْعُمْدَة الْمُحدث أبي عبد الله مُحَمَّد بن أَحْمد بن الْوَادي آشي وبخط الشَّيْخ تَقِيّ الدّين بن فَهد وَذكر أَنه وجده بِخَط الإِمَام رَضِي الدّين بن الْمُحب الطَّبَرِيّ وسرده كَذَلِك السراج الفهدي فِي مُعْجَمه وذيله على تَارِيخ الفاسي الْمُسَمّى بالدر الكمين بذيل العقد الثمين عِنْد تَرْجَمَة الإِمَام محب الدّين الطَّبَرِيّ وَذكره فِي تَرْجَمَة الْمَذْكُور أَيْضا الشَّيْخ الْعَلامَة عز الدّين بن فَهد فِي مُعْجَمه وَفِي كِتَابه الْمُسَمّى نزهة ذَوي الأحلام بأخبار الخطباء وَالْأَئِمَّة وقضاة بلد الله الْحَرَام وَسَاقه أَيْضا الشَّيْخ الرحلة جَار الله بن فَهد فِي مُعْجَمه الْمُسَمّى نوافج النفح المسكي بمعجم جَار الله بن فَهد الْمَكِّيّ عِنْد تَرْجَمَة شَيْخه الإِمَام محيي الدّين الطَّبَرِيّ وَفِي كِتَابه الْمُسَمّى القَوْل المؤتلف فِي الْخَمْسَة الْبيُوت المنسوبين للشرف وَصَاحب هَذِه التَّرْجَمَة ولد وَنَشَأ بِمَكَّة وترعرع فِي حجر أَبَوَيْهِ وأكمل حفظ الْقُرْآن وَهُوَ ابْن اثْنَتَيْ عشرَة سنة وَصلى بِهِ التَّرَاوِيح فِي مقَام إِبْرَاهِيم عليه السلام وَهُوَ فِي هَذَا السن وَحفظ عدَّة متون مِنْهَا الْأَرْبَعين النووية فِي الحَدِيث والإشارات عَلَيْهَا والعقائد النسفية وألفية ابْن مَالك فِي النَّحْو وَثلث الْمنْهَج لشيخ الْإِسْلَام زَكَرِيَّا فِي الْفِقْه وَعرض جُمْلَتهَا على عدَّة مَشَايِخ فِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة مِنْهُم شَافِعِيّ عصره الشَّمْس مُحَمَّد الرَّمْلِيّ الْمصْرِيّ
الشَّافِعِي والعلامة المفنن شمس الدّين مُحَمَّد النحراوي الْحَنَفِيّ والقدوة الْمُفِيد عبد الرَّحْمَن الشربيني الْخَطِيب وَالشَّيْخ الإِمَام الْعُمْدَة عَليّ بن جَار الله بن ظهيرة الْحَنَفِيّ وَالشَّيْخ الصَّالح الْعَالم يحيى بن مُحَمَّد الْحطاب الْمَالِكِي وَجَمَاعَة كَثِيرُونَ وأجازوه بمحفوظاته إجَازَة رِوَايَة وَكَتَبُوا لَهُ مَا يكْتب مثله فِي الْعَادة من الْإِجَازَة وَشرع من هَذَا الْعَام فِي الِاشْتِغَال وَحل الْمُتُون على الْمَشَايِخ فلازم دروس الرَّمْلِيّ فِي مجاورته تِلْكَ السّنة بِمَكَّة تبركاً وَشرع فِي حل الْمنْهَج على الشربيني وانْتهى فِيهِ إِلَى شُرُوط الصَّلَاة ولازم دروس الشَّيْخ الْجَلِيل المتقن المفنن عبد الرَّحِيم بن أبي بكر ابْن حسان الْحَنَفِيّ وَأخذ عَنهُ النَّحْو وَالصرْف وَأخذ النَّحْو وَالْعرُوض عَن الأديب الألمعي جمال الدّين بن إِسْمَاعِيل العصامي والمنطق عَن أخي الْمَذْكُور على العصامي وَحضر عِنْده قِرَاءَة شرح آدَاب الْبَحْث لمنلا حَنَفِيّ وَقطعَة من أَوَائِل الْمُغنِي لِابْنِ هِشَام وَقطعَة من شرح الجامي على الكافية وَحضر قِرَاءَة جَانب من شرح الْمنْهَج على الشَّيْخ الْقدْوَة أبي الْبَقَاء الغمري وَحضر عِنْده أَيْضا قِرَاءَة شرح الورقات للمحلى وَقَرَأَ قِطْعَة من أَوَائِل شرح الْمنْهَج على الشَّيْخ الصَّالح نصر الله بن مُحَمَّد وجانباً مِنْهُ أَيْضا على الشَّيْخ الْمُفِيد مُحَمَّد بن عبد الْعَزِيز الزمزمي وَقَرَأَ جانباً من متن الْمِنْهَاج على الشَّيْخ الْجَامِع المطلع مُحَمَّد البهنسي وَقَرَأَ جانباً من متن الشاطبية بعد حفظ نصفهَا على الشَّيْخ المفنن عَليّ الْهَرَوِيّ وَجمع عَلَيْهِ للقراء السَّبْعَة سُورَة الْبَقَرَة بكمالها وَقَرَأَ جانباً من تَهْذِيب الْمنطق للْقَاضِي زَكَرِيَّا عَليّ الشَّيْخ عَليّ بن ظهيرة ولازم ودأب وأعانه فهمه الثاقب فتصرف فِي النّظم والإنشاء وإنشاء الرسائل البديعة واطلع على الْعُلُوم الْعَرَبيَّة الأدبية فانقادت لَهُ طَائِعَة ثمَّ ترقى إِلَى مَا هُوَ أصعب مَسْلَك فاهتم بِقِرَاءَة جَانب من شرح الجغميني فِي الْهَيْئَة وَقطعَة من أَوَائِل شرح التَّجْرِيد للمنلا عَليّ القوشجي على الْعَلامَة الْجَلِيل نصير الدّين بن مُحَمَّد غياث الدّين مَنْصُور وَقَرَأَ عَلَيْهِ قِطْعَة من رِسَالَة الإسطرلاب وَقَرَأَ جانباً من كليات شرح الموجز فِي الطِّبّ للنفيسي على الْفَاضِل الْكَامِل يُوسُف الكيلاني وَقَرَأَ جانباً من شرح هِدَايَة الْحِكْمَة لمير قَاضِي حُسَيْن على السَّيِّد الْجَلِيل غضنفر ثمَّ صنف وأجاد كتبا عديدة مِنْهَا مقامة سَمَّاهَا درة الأصداف السّنيَّة فِي ذرْوَة الْأَوْصَاف الحسنية وَكتاب مُشْتَمل على زبدة أَرْبَعِينَ علما سَمَّاهُ عُيُون الْمسَائِل من أَعْيَان الرسائل وَشرح على الدريدية سَمَّاهُ الْآيَات الْمَقْصُورَة على الأبيات الْمَقْصُورَة وَشرح على سيرته الَّتِي
نظمها سَمَّاهُ حسن السريرة فِي حسن السِّيرَة وَشَرحه على قِطْعَة من ديوَان المتنبي سَمَّاهُ الْكَلم الطّيب على كَلَام أبي الطّيب وعلو الْحجَّة بِتَأْخِير أبي بكر بن حجَّة وَله رسائل علمية مِنْهَا قِطْعَة على أَوَائِل صَحِيح البُخَارِيّ سَمَّاهَا إفحام المجاري فِي إفهام البُخَارِيّ ورسالة سل السَّيْف على حل كَيفَ ورسالة فسر بهَا قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا يُرِيد الله ليذْهب عَنْكُم الرجس أهل الْبَيْت} سَمَّاهَا عرائس الْأَبْكَار وغرائس الأفكار وَمِنْهَا شرح على كتاب الْكَافِي فِي علمي الْعرُوض والقوافي سَمَّاهُ كشف الخافي من كتاب الْكَافِي وَلم يزل منهمكاً على الْعلم مباحثاً فِيهِ مَعْرُوفا بِهِ وَله الْأَشْعَار الرائقة الحلوة فَمن ذَلِك قَوْله يمدح الشريف حسن بن أبي نمي
(بَدَت تجر ذيول التيه والخيلا
…
فِي رَوْضَة الْعجب حَتَّى قلت حيّ على)
(خود تجرّد بيضًا من لواحظها
…
فَتتْرك الْأسد فِي ساحاتها قَتْلَى)
(وتنثني بقوام زانه هيف
…
فتجعل الْغُصْن تعديلاً كَذَا ميلًا)
(مَا أطلعت لي هلالاً من مبرقعها
…
إِلَّا وعاينته بَدْرًا فَلَا أَفلا)
(وَلَا رنت لي بلحظ فَتْرَة كسلا
…
إِلَّا وَقد بعثت جَوف الحشا رسلًا)
(يَا حسنها من فتاة حل مبسمها
…
ظلم يفوق على لذاته العسلا)
(ورصعته لآل حول منبتها
…
زمزّد الوشم يَا لله من فعلا)
(ناديتها ورماح الْحَيّ معلنة
…
يَا ظَبْيَة الْحَيّ هَل مَا يبلغ الأملا)
(لوالهٍ عبثت أَيدي الغرام بِهِ
…
أما ترى شَأْنه أَن يبدع الغزلا)
(قَالَت صدقت وَلَكِن ذَاك تَوْطِئَة
…
لمدح أفضل من فِي الأَرْض قد عدلا)
(السَّيِّد الْحسن الْملك الْهمام وَمن
…
ترَاهُ بِالْحَقِّ للجوزاء منتعلا)
(سُلْطَان مَكَّة حامي الْبَيْت من شهِدت
…
بعد لَهُ الأَرْض لما مهد السبلا)
(مؤيد الدّين بالفهم الَّذِي اقترنت
…
بِهِ السعادات فِي حالاته جملا)
(لَيْث الكتيبة مروى المشرفية من
…
دم العدا منهلاً إِذا أرعف الأسلا)
(صَاد الصناديد يَوْم الْحَرْب مَا بَطل
…
رأى عجائبه إِلَّا وَقد بطلا)
(كم ذَا أبانت عَن العلياء همته
…
وَكم أبادت معالي عزمه رجلا)
(وَكم محا سَيْفه أهل الْفساد وأرباب
…
العناد فجارى سَيْفه الأجلا)
(فَأَصْبحُوا لَا ترى إِلَّا مساكنهم
…
بلاقعاً قد كساها الذل ثوب بلَى)
(وَلَيْسَ بدعاً فَهَذَا شَأْن وَالِده
…
على المرتضى السَّامِي بِفضل وَلَا)
(فسل حنيناً وسل بَدْرًا وسل أحدا
…
والنهروان وسل صفّين والجملا)
(فيا ابْن طه عَلَوْت النَّاس مرتبَة
…
وَجل قدرك أَن تحكي لَهُ مثلا)
(هَل أَنْت ملك عَظِيم الْخلق أم ملك
…
أبن فأمرك هَذَا حير العقلا)
(جمعت كل صِفَات الْحسن أعظمها
…
جبر الخواطر للعاني وَمن وصلا)
(لَا سِيمَا من عبيد غرس نعمتكم
…
أَبَا وجدا فَمن ذَا أَصْبحُوا أصلا)
(لذا حثثت مطايا الْعَزْم مسرعة
…
إِلَى فنائك كَيْمَا أبلغ الأملا)
مِنْهَا
(مَا ينفذ حكم الشَّرْع دَامَ سوى
…
ذَات الشريف وَمَا عَنهُ نرى حولا)
(أدامه الله فِي سعد يسر بِهِ
…
وَذَا دُعَاء لكل الْخلق قد شملا)
(ثمَّ الصَّلَاة على الْمُخْتَار من مُضر
…
والآل والصحب مَا مدح الشريف حلا)
وَلما وقف على قَول الْبَدْر الدماميني
(يَا سَاكِني مَكَّة لَا زلتم
…
أنسا لنا أَنِّي لم أنسكم)
(مَا فِيكُم عيب سوى قَوْلكُم
…
عِنْد اللقا أوحشنا إنسكم)
قَالَ مجيباً
(مَا عيبنا هَذَا وَلكنه
…
من سوء فهم جَاءَ من حدسكم)
(لم نعن بالإيحاش عِنْد اللقا
…
بل مَا مضى فابكوا على نفسكم)
وحذا حذوه وَلَده زين العابدين الْمُقدم ذكره فَقَالَ
(يَا مظهر الْعَيْب على قَوْلنَا
…
عِنْد اللقا أوحشنا أنسكم)
(مَا قصدنا مَا قد جنحتم لَهُ
…
من خطأ قد جَاءَ فِي فهمكم)
(فقولنا الْمَذْكُور جَار على
…
حذف مُضَاف غَابَ من حدسكم)
(وَالْقَصْد فقد الْأنس فِيمَا مضى
…
لَا ضِدّه الْوَاقِع فِي وهمكم)
(فالأنس لم يوحش بلَى فَقده
…
هُوَ الَّذِي يوحش من مثلكُمْ)
(وَبعد أَن بَان لكم فاجزموا
…
بِنِسْبَة الْعَيْب إِلَى نفسكم)
وَحين وقف على مَا قَالَه الْعَلامَة أَحْمد بن عبد الرؤف قَالَ مجيباً ومعتذراً عَن الدماميني
(صونا موَالِي الْفضل بَين الورى
…
للبدر إِن تُدْرِكهُ شمسكم)
(وجللوه بعباء الإخا
…
فَإِنَّهُ الْأَنْسَب من قدسيكم)
(فَإِنَّهُ الْكَنْز وبنيانه
…
مؤسس قد مَا على أسكم)
(كَأَنَّهُ أضمر أَن شانكم
…
صناعَة الْإِيهَام فِي لفظكم)
(فَاسْتعْمل النَّوْع الَّذِي أَنْتُم
…
أَدْرِي بِهِ كي يجتني غرسكم)
(وَلم يَسعهُ كَونه مُنْكرا
…
لمثل هَذَا الحذق من مثلكُمْ)
(فَإِن هَذَا سَائِغ شَائِع
…
برهانه أوحشنا أنسكم)
وَكَانَت ولادَة صَاحب التَّرْجَمَة آخر نَهَار السَّابِع وَالْعِشْرين من صفر سنة سِتّ وَسبعين وَتِسْعمِائَة بِمَكَّة وَتُوفِّي فِي سنة ثَلَاث وَثَلَاثِينَ وَألف وَتُوفِّي وَالِده الإِمَام مُحَمَّد ابْن يحيى سنة ثَمَان عشرَة وَألف وَسبب موت صَاحب التَّرْجَمَة أَنه لما كَانَ لَيْلَة الْأَرْبَعَاء سلح شهر رَمَضَان أَمر حيدر باشا مُتَوَلِّي الْيمن أَن لَا يخْطب الْعِيد فِي هَذَا الْعَام إِلَّا خطيب حَنَفِيّ وَكَانَت النّوبَة لصَاحب التَّرْجَمَة وَكَانَ قد تهَيَّأ للخطبة وَأخذ جَمِيع مَا يَحْتَاجهُ من السماط والحلوى على عَادَة خطيب الْعِيد بِمَكَّة فراجع حيدر باشا فِي ذَلِك فَلم يفعل وشدد فِي مَنعه مُبَاشرَة خطْبَة الْعِيد فتعب لذَلِك تعباً شَدِيدا فَمَاتَ فَجْأَة وَصلى عَلَيْهِ بعد صَلَاة الْعِيد من يَوْمه والطبريون بَيت علم وَشرف مَشْهُورُونَ فِي مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا وهم أقدم ذَوي الْبيُوت بِمَكَّة فَإِن الشَّيْخ نجم الدّين عمر بن فَهد ذكر ذَلِك فِي كِتَابه التَّبْيِين بتراجم الطبريين وَقَالَ إِن أول من قدم مَكَّة مِنْهُم الشَّيْخ رَضِي الدّين أَبُو بكر مُحَمَّد بن أبي بكر بن عَليّ بن فَارس الْحُسَيْنِي الطَّبَرِيّ قيل سنة سبعين وَخَمْسمِائة أوفى الَّتِي بعْدهَا وَانْقطع بهَا وزار النَّبِي
وَسَأَلَ الله تَعَالَى عِنْده أَوْلَادًا عُلَمَاء هداة مرضيين فولد لَهُ سَبْعَة أَوْلَاد وهم مُحَمَّد وَأحمد وَعلي وَإِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق وَيَعْقُوب وَكَانُوا كلهم فُقَهَاء عُلَمَاء مدرسين وَكَانَ دُخُول الْقَضَاء وإمامة مقَام إِبْرَاهِيم فِي بَيتهمْ سنة ثَلَاث وَسبعين وسِتمِائَة كَمَا ذكره النَّجْم بن فَهد فِي تَارِيخه إتحاف الورى بأخبار أم الْقرى وَذكره الفاسي فِي تَارِيخه العقد الثمين فِي تَارِيخ بلد الله الْأمين وَلم تزل إِمَامَة الْمقَام الْمَذْكُور مَخْصُوصَة بهم لَا مدْخل مَعَهم فِي ذَلِك الْأَجْنَبِيّ وكل من كمل مِنْهُم للمباشرة يُبَاشر وَلَا يحْتَاج إِلَى إِذن جَدِيد لوُقُوع الْإِذْن الْمُطلق لَهُم من زمن السلاطين السَّابِقين والأشراف الْمُتَقَدِّمين وَاتفقَ فِي عَام إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف أَن إنْسَانا رام الدُّخُول مَعَهم فِي ذَلِك وَقع كَلَام طَوِيل فِي ذَلِك ثمَّ مَنعه الشريف عبد الله بن الْحسن ثمَّ ورد أَمر من وَزِير مصر حِينَئِذٍ مُحَمَّد باشا بِمَنْع الْمَذْكُور أَيْضا وَاسْتمرّ ذَلِك إِلَى الْآن وَمَا زَالَت المناصب الْعلية فِي أَيْديهم يتلقونها كَابِرًا عَن كَابر ويعقدون عَلَيْهَا فِي مقَام الافتخار بالخناصر من الْقَضَاء وَالْفَتْوَى والتدريس والإمامة والخطابة بِبَلَد الله النفيس وَكَانَ منصب الخطابة قَدِيما
ينْتَقل بِمَكَّة فِي ثَلَاثَة بيُوت الطبريين والظهيريين والنويريين وَبَيت الطَّبَرِيّ أقدمهم فِي ذَلِك كَمَا يعلم من كتب التواريخ الْقَدِيمَة وَمن خطباء الطبيين الْمُحب الطَّبَرِيّ والبهاء الطَّبَرِيّ ثمَّ إِنَّه فِي حُدُود الثَّلَاثِينَ وَألف جدد خطيب مالكي ثمَّ حنبلي ثمَّ آخر حنبلي فِي عَام ثَلَاث وَأَرْبَعين وَكَانَ منصب الخطابة مَحْفُوظًا عَن أَحْدَاث النَّاس فَلَا يقلده إِلَّا الْعَظِيم علما أَو نسبا وَاتفقَ فِي عَام إِحْدَى وَأَرْبَعين أَن بَاشر الخطابة الشَّيْخ مُحَمَّد المنوفي فورد أَمر من وَزِير مصر مُخَاطبا بِهِ صَاحب مَكَّة وقاضيها وَشَيخ حرمهَا بِمَنْعه من ذَلِك فَلَمَّا جَاءَت نوبَته امْتنع قَاضِي مَكَّة إِذْ ذَاك شكر الله أَفَنْدِي من الصَّلَاة خَلفه فَأرْسل إِلَى الشريف زيد وَكَانَ بمصلاه بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام وَقد صعد الْمِنْبَر وخطب فَأرْسل إِلَيْهِ الشريف وَمنعه من الصَّلَاة وَأَشَارَ إِلَى غَيره فصلى بِالنَّاسِ ثمَّ الخطباء فِي زَمَاننَا بغاية الْكَثْرَة بِحَيْثُ أَنه لم يصل الْوَاحِد مِنْهُم إِلَى نوبَته إِلَّا بعد مُضِيّ سنة ولنبي الطَّبَرِيّ مزِيد التَّقْوَى والورع وَالصَّلَاح وَتُوفِّي أَسبَاب الْخَيْر والفلاح وَزِيَادَة الألفة بَينهم وَبَين وُلَاة مَكَّة المشرفة والتراسل بَينهم بالأشعار الْحَسَنَة اللطيفة مِمَّا هُوَ مَذْكُور فِي التواريخ الْمَذْكُورَة وَغَيرهَا حَتَّى أَن تِلْكَ الألفة بَينهم اقْتَضَت المواصلة بالمصاهرة وأكملت مَا هُوَ من أَسبَاب الْمُفَاخَرَة فقد نقل الفاسي أَن زَيْنَب بنت قَاضِي مَكَّة الشهَاب أَحْمد بن قاضيها أَيْضا الْجمال مُحَمَّد الطَّبَرِيّ كَانَت زَوْجَة للشريف عجلَان صَاحب مَكَّة سنة سبعين وَسَبْعمائة ثمَّ اخْتلعت مِنْهُ لتسريه عَلَيْهَا وَمن طالع العقد الثمين علم مَا لَهُم من المناقب وَمَا اشتملوا عَلَيْهِ من المناصب وناهيك بالمقامة الَّتِي أَنْشَأَهَا الْحَافِظ جلال الدّين السُّيُوطِيّ مهنئاً الْمُحب الطَّبَرِيّ الْمُتَأَخر لما عزل أَبَا السعادات وَأَبا البركات ابْني ظهيرة عَن خطة الْقَضَاء وَولي ذَلِك بمفرده مَعَ مَا أضيف إِلَيْهِ من المناصب بسعاية الشريف أبي الْقَاسِم بن حسن بن عجلَان صَاحب مَكَّة وَمن جملَة المقامة
(إِن الْقُضَاة بِمَكَّة لثَلَاثَة
…
طبقًا لما قد جَاءَ فِي الْأَخْبَار)
(شيخ الْمقَام وَقد مضى فِي جنَّة
…
والقاضيان كِلَاهُمَا فِي النَّار)
وَذكر الْحَافِظ نجم الدّين عمر بن فَهد فِي تَذكرته الْمُسَمَّاة نور الْعُيُون بِمَا تفرق من الْفُنُون قَالَ لما كنت بِالْقَاهِرَةِ المحروسة سنة سِتّ وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة ورد إِلَيْهَا القَاضِي أَبُو البركات بن عَليّ بن ظهيرة ساعياً لِأَخِيهِ أبي السعادات فِي عوده لمنصبه قَضَاء الشَّافِعِيَّة وصحبة سؤالان مَعْنَاهُمَا أَن رجلَيْنِ من طلبة الْعلم الشريف بهَا
تنَازعا فِي مسئلة فَرضِيَّة فقصد أَحدهمَا بالسؤال عَنْهَا أَخَاهُ أَبَا السعادات وَامْتنع الآخر فَحلف الأول بِالطَّلَاق الثَّلَاث أَنه لَيْسَ بِمَكَّة وأعمالها أحد أعلم مِنْهُ فَهَل يَقع على الْحَالِف حنث أم لَا وَهل بِالْبَلَدِ من يُسَاوِي الْمشَار إِلَيْهِ فِي الْعلم أَو يفوقه فَأجَاب شيخ الْإِسْلَام الْحَافِظ الشهَاب أَحْمد بن حجر الْعَسْقَلَانِي الْكِنَانِي وَالْإِمَام السنباطي بِعَدَمِ الْحِنْث وَأطلق الأول بِانْفِرَادِهِ فِي وقته وَعدم مساواته فضلا عَن أَن يفوقه أحد فِي بَلَده وَقيد الثَّانِي بِأَنَّهُ إِذا سُئِلَ فِي الْفِقْه أجَاب فِي الْحَال من الرَّافِعِيّ وَالرَّوْضَة أَو فِي الْأُصُول فَمن ابْن الْحَاجِب والبيضاوي وَكَذَا الحَدِيث وَالتَّفْسِير كَمَا شَاهده مِنْهُ فِي مجاورته بِبَلَدِهِ فَلَمَّا اطلع على السؤالين وجوابهما الإِمَام أَبُو الْمَعَالِي الْمُحب الطَّبَرِيّ كتب فِي سنة سبع وَثَلَاثِينَ وَثَمَانمِائَة قصيدة لامية من نظمه إِلَى الْحَافِظ ابْن حجر مضمونها الْإِنْكَار عَلَيْهِ وعَلى السنباطي فِي الْفتيا وَهِي هَذِه
(يقبل الأَرْض عبد قد أحبكم
…
طفْلا وَفِي كبرٍ فِي الْحبّ مَا عدلا)
(وَيسْأل الله أَن يحظى برؤيتكم
…
على الصَّفَا فَعَسَى أَن يبلغ الأملا)
(يَا وَاحِد الْعَصْر خُذ منا مراسلة
…
تَشْكُو لما قد حكى عَنْكُم وَمَا حصلا)
(من مَكَّة صدرت تَشْكُو لخالقها
…
أَيْضا وتروى لكم عَن ألسن الفضلا)
(مَا بَال سيدنَا زلت أنامله
…
وَالله تِلْكَ لعمري زلَّة العقلا)
(جَاءَت لمَكَّة فتيا قد جزمت بهَا
…
بِأَن أفضلهَا هَذَا الَّذِي خذلا)
(وَقلت هَذَا طَلَاق لم يَقع وَلَقَد
…
قَالَ المحق طَلَاق الأحمق اتصلا)
(إِن كَانَ أعملها من قد ذكرت فقد
…
صَارَت بِلَا عَالم وَالْعلم قد هزلا)
(رام الترقي إِلَى الْعليا فأنزله
…
ذَا الدَّهْر من طيشه لَا زَالَ مستفلا)
(قد أوقع الحبر فِيمَا لَيْسَ شيمته
…
كَانَ الإِمَام عَن التحريف منعزلا)
(ارْجع هداك الَّذِي أَعْطَاك منزلَة
…
عَن ذِي الْمقَالة وَالْأَمر الَّذِي نقلا)
(مَا يحمد الله فِي الدّين والهوى وَلَقَد
…
ذمّ الَّذِي بالهوى قد كَانَ مشتغلا)
(هلا كتبتم أدام الله دولتكم
…
مثل السباطي إِذْ من أَكلَة وحلا)
(خُذ زادك الله حرصاً ذكر سيرته
…
عَن وَاحِد لم يزدْ فِيهَا وَلَا جهلا)
(أَبُو السعادات هَذَا من شبيبته
…
وَفِي كهولته مَا حَاز قطّ علا)
(لم يَأْخُذ الْعلم عَن شيخ يعرفهُ
…
وَجه الصَّوَاب وَلَا أصغى وَلَا قبلا)
(يُفْتِي من الْكتب إِن أخطا فعادته
…
وَإِن أصَاب فَوجه الذَّم مَا جهلا)
(والنحو لم يدر فِيهِ قطّ مسئلة
…
مثل الْحمار إِذا مَا فِيهِ قد سئلا)
(كَذَا الْأُصُول إِذا مَا قلت مبحثه
…
ينشى الرياسة إِذْ كَانَت لَهُ شغلا)
(علم الْفَرَائِض لم يحسن لمسئلة
…
مِنْهُ وَلَا لحساب الأَصْل قد عملا)
(قد ضيع الْعُمر حسداً للملا وَله
…
عجب وَكبر وحقد بئْسَمَا فعلا)
(أضحى بِمَكَّة يُؤْذِي الْخلق من حمق
…
وَلَيْسَ فِي النَّاس شخص من أَذَاهُ خلا)
(لَهُ مثالب أُخْرَى غير مَا ذكرت
…
إِنِّي عقلت لساني عَنهُ فانعقلا)
(جَمِيع جيران بَيت الله يَعْقِلهَا
…
إِن اتهمت فسل عَن ذَاك من عقلا)
(فَكيف ينْسب من هَذَا لَهُ صفة
…
بِأَنَّهُ عَالم وَالْحَال مَا نقلا)
(فَكُن رعاك الْإِلَه الْيَوْم معتذراً
…
عَمَّا جنيت وَقل وَالله قد جهلا)
(الله يبْقى لنا هَذَا المليك لقد
…
أراح مَكَّة من أَحْكَام من عزلا)
(كَانَت ولَايَته للْحكم نازلة
…
وَالْحَمْد لله عَنَّا زَالَ مَا نزلا)
(أسْتَغْفر الله فِي تَقْصِيرهَا فَلَقَد
…
جَاءَت بذب لما بِالنَّاسِ قد حصلا)
(وصل رب على الْمُخْتَار من مُضر
…
وَآله وأجب يَا خير من سئلا)
(كَذَلِك الصحب والأتباع مَا طلعت
…
شمس ولاح ضِيَاء الْأُفق أَو أَفلا)
وَقد أطلقنا عنان الْقَلَم فِي ميدان المداد وَإِن كَانَ لَيْسَ من شَرط المُرَاد إِذْ الحَدِيث شجون وَالْكَلَام يجر بعضه بَعْضًا هَذَا وَقد قَالَ الْحَافِظ ابْن حجر الْعَسْقَلَانِي الْمَذْكُور فِي بعض كتبه أَن قَول الأقران بَعضهم فِي بعض غير مَقْبُول قَالَ وَمَا علمت عصراً سلم أَهله من ذَلِك غير عصر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ انْتهى كَلَامه قلت وَفِي قَوْله غير عصر الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ تَأمل إِذْ لم يسلمُوا أَيْضا من ذَلِك كَمَا يعرفهُ من طالع سيرهم فَالظَّاهِر الْعُمُوم وَلَعَلَّ كَلَامه مَبْنِيّ على الْأَكْثَر وَالْغَالِب لقلته فيهم بِالنِّسْبَةِ لمن بعدهمْ وَالله تَعَالَى أعلم
عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد أبي الغيض السَّيِّد الْأَفْضَل أَبُو مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِابْن قضيب البان يتَّصل نسبه بِأبي عبد الله الْحُسَيْن قضيب البان الْموصِلِي من أَوْلَاد مُوسَى الجون بن عبد الله الْمَحْض بن الْحسن الْمثنى بن الْحسن السبط بن أَمِير الْمُؤمنِينَ عَليّ ابْن أبي طَالب رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم أَجْمَعِينَ وَالْحُسَيْن قضيب البان الْمَذْكُور صَاحب الكرامات الْمَشْهُورَة ذكره كثير من النسابة والمؤرخين وَهُوَ الَّذِي كَانَ صحب الشَّيْخ عبد الْقَادِر الكيلاني قدّس سره وَزوج الشَّيْخ عبد الْقَادِر ابْنَته الْمُسَمَّاة
بخديجة السمينة لأبي المحاسن على ولد الشَّيْخ قضيب البان الْمَذْكُور وَكَانَت قبل تَحت ولد الشَّيْخ عبد الرَّحْمَن الطنشونجي فَمَاتَ عَنْهَا جده وَتَزَوجهَا بعده أَبُو المحاسن عَليّ الْمَذْكُور واستولدها ذكر ذَلِك عبد الله بن سعد اليافعي وَشَيخ الشّرف فِي كِتَابَيْهِمَا فَيكون نسب السَّيِّد عبد الْقَادِر صَاحب التَّرْجَمَة مُتَّصِلا بِحَضْرَة الشَّيْخ عبد الْقَادِر الكيلاني من ابْنَته خَدِيجَة السمينة وبحضرة الشَّيْخ قضيب البان من وَلَده أبي المحاسن على المسطور وَهَذَا السَّيِّد هُوَ أكبر أهل وقته وفريد أقرانه ولد بحماه وَهَاجَر بِهِ أَبوهُ إِلَى حلب وتوطن بهَا إِلَى سنة ألف وفيهَا حج إِلَى بَيت الله الْحَرَام وجاور بِمَكَّة إِلَى حُدُود سنة اثْنَتَيْ عشرَة بعد الْألف وَمِنْهَا توجه إِلَى الْقَاهِرَة بِإِشَارَة القطب وَكَانَ شيخ الْإِسْلَام يحيى بن زَكَرِيَّا قَاضِيا بِمصْر فزاره وَكَانَ مُعْتَقدًا على الْمَشَايِخ والأولياء فبشره بمشيخة الْإِسْلَام وَبَايَعَهُ على الطّرق الثَّلَاثَة النقشبندية والقادرية والخلوتية ثمَّ أقره على طَرِيق النقشبندية وَأمره بالاشتغال بِالذكر القلبي وَله مَعَه كرامات ومكاشفات وَلما ولي الْإِفْتَاء وَجه إِلَيْهِ نقابة حلب وديار بكر وَمَا والاهما مَعَ قَضَاء حماه بطرِيق التَّأْبِيد برتبة مَكَّة المكرمة فَلم يقبل الْقَضَاء والرتبة وَاعْتذر عَن عدم قبُوله وَقبل النقابة لكَونهَا خدمَة آل الرَّسُول
وَاسْتمرّ نَقِيبًا بحلب إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَ لَهُ كرامات شهيرة وأحوال باهرة وَألف التآليف الْحَسَنَة الْوَضع الدَّالَّة على رسوخ قدمه فِي التصوف والمعارف الإلهية من جُمْلَتهَا الفتوحات المدنية ألفها على وتيرة الفتوحات المكية والمدنية للشَّيْخ الْأَكْبَر ابْن عَرَبِيّ وفيهَا يَقُول شيخ الْإِسْلَام ابْن زَكَرِيَّا الْمَذْكُور مقرظاً عَلَيْهَا بقوله
(فتوحات شَيْخي غادة مَدَنِيَّة
…
كستها نفيسات الْعُلُوم ملابسا)
(فَلَا عجب لَو تشتهيها نفوسنا
…
وأبحاثها أبدت إِلَيْنَا نفائسا)
(فَللَّه در الشَّيْخ أكبر عصره
…
بأنفاسه لَا زَالَ يحيي المجالسا)
وَله كتاب نهج السَّعَادَة فِي التصوف وناقوس الطباع فِي أسرار السماع وَشرح أَسمَاء الله الْحسنى ورسالة فِي أسرار الْحُرُوف وَكتاب مَقَاصِد القصائد ونفحة البان وحديقة اللآل فِي وصف الْآل وَكتاب المواقف الإلهية وعقيدة أَرْبَاب الْخَواص وَغير ذَلِك مَا ينوف على أَرْبَعِينَ تأليفاً وَله ديوَان شعر كُله فِي لِسَان الْقَوْم وَله تائية عَارض بهَا تائية ابْن الفارض وَقد شرحها الْعَلامَة إِبْرَاهِيم بن المنلا الْمُقدم ذكره شرحاً لطيفاً وَمن لطائف شعره قَوْله
(أرى للقلب نحوكم انجذابا
…
لأسْمع من جنابكم خطابا)
(فكم ليل بقربكم تقضى
…
إِلَى سحر سُجُود أَو اقترابا)
(وَكم من نشوة وَردت نَهَارا
…
فَلَا خطأ وعيت وَلَا صَوَابا)
(وَكم سحت علينا من نداكم
…
غيوث لَا تفارقنا انسكابا)
(وَكم نفحات أنس أسكرتنا
…
بهَا حضر الصَّفَا وَالْقَبْض غابا)
(توافقت الْقُلُوب على التداني
…
فَلم نشْهد بِهِ مِنْكُم حِجَابا)
(لقد حَاز الْوَلِيّ بِكُل حَال
…
من الرَّحْمَن فيضاً مستطابا)
(ترَاهُ بَين أهل الأَرْض أضحى
…
لداعي الْحبّ أسرعهم جَوَابا)
(وَغير الله لَيْسَ لَهُ مُرَاد
…
وَغير حماه لَا يَرْجُو انتسابا)
وَمن رَقِيقه قَوْله
(سقاني الْحبّ من خمر العيان
…
فتهت بسكرتي بَين الدنان)
(وَقلت لرفقتي رفقا بقلبي
…
وخاطبت الحبيب بِلَا لِسَان)
(شربت لحبه خمرًا سقاني
…
كصحبي فانتشى مِنْهَا جناني)
(شطحت بشربها بَين الندامى
…
ورشدي ضَاعَ مِمَّا قد دهاني)
(فأكرمني وتوجني بتاج
…
يقوم بسره قطب الزَّمَان)
(وَأَمرَنِي على الأقطاب حَتَّى
…
سرى أَمْرِي بهم فِي كل شان)
(وأطلعني على سر خفيّ
…
وَقَالَ السّتْر من سر الْمعَانِي)
(فهام أولو النهى من بعد سكري
…
وغابوا فِي الشُّهُود عَن الْمَكَان)
(مريدي لَا تخف واشطح بسري
…
فقد أذن الحبيب بِمَا حباني)
وَقَوله
(نظرت إِلَيْك بِعَين الطّلب
…
ومنك إِذن طلبي وَالسَّبَب)
(رَأَيْتُك فِي كل شَيْء بدا
…
وَلَيْسَ سواك لعَيْنِي حجب)
(فَأَنت هُوَ الظَّاهِر المرتجى
…
وَأَنت هُوَ الْبَاطِن المرتقب)
(وَأَنت الْوُجُود لأهل الشُّهُود
…
وَأَنت الَّذِي كل شَيْء وهب)
(وعيني بِعَيْنِك قد أَبْصرت
…
لعينك فِي كل تِلْكَ النّسَب)
وَمن مقاطيعه قَوْله
(وَلَقَد شكوتك فِي الضَّمِير إِلَى الْهوى
…
وعتبت من حنق عَلَيْك تجننا)
(منيت نَفسِي فِي هَوَاك فَلم أجد
…
إِلَّا الْمنية عِنْد مَا هجم المنا)
وَقَوله
(إِذا امتدّ كف للأنام بحاجة
…
فقوّتها من عَادَة الهمة السُّفْلى)
(وَمن يَك يَسْتَغْنِي عَن الْخلق جملَة
…
فيغنيه رب الْخلق من فَضله الْأَعْلَى)
وَقَوله
(إِذا أَسَأْت فَأحْسن
…
واستغفر الله تنجو)
(وَتب على الْفَوْر وارجع
…
وَرَحْمَة الله فارجو)
وَله غير ذَلِك من لطائف القَوْل وَكَانَت وِلَادَته بحماه فِي سنة إِحْدَى وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَتُوفِّي فِي حُدُود سنة أَرْبَعِينَ وَألف بحلب
عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد بن عمر العلمي الْمَقْدِسِي بن الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الشَّيْخ مُحَمَّد العلمي وَقد تقدم ذكر تَتِمَّة نسبه كَانَ عبد الْقَادِر هَذَا من الصلحاء الأجلاء وَكَانَ من محَاسِن وقته ونوادره فِي لطف الطَّبْع والتواضع والمعرفة وَكَانَ مَشْهُورا بالصلاح وَإِلَيْهِ كتب الإِمَام خير الدّين الرَّمْلِيّ فِي صدر كتاب قَوْله
(لحضرة القطب وَابْن القطب سيدنَا
…
مختارنا العلمي دَامَت فضائله)
(مني سَلاما كعد الْقطر أخصره
…
وَذَاكَ نزر إِذا نصت شمائله)
وَكَانَت وَفَاته نَهَار الْأَحَد وَدفن نَهَار الْإِثْنَيْنِ ثَانِي جُمَادَى الأولى سنة تسع وَسبعين وَألف بِمَدِينَة لدّ بِضَم اللَّام وَتَشْديد الدَّال وَهِي الْقرْيَة الْمَشْهُورَة قرب مَدِينَة الرملة من نواحي الْبَيْت المقدّس فِيهَا يقتل الدَّجَّال فِيمَا يَزْعمُونَ
عبد الْقَادِر بن مصطفى الصفوري الأَصْل الدِّمَشْقِي الشَّافِعِي الْمُحَقق الْكَبِير كَانَ من أساطين أفاضل عصره مَشْهُور الذّكر بعيد الصيت اتّفق أهل عصرنا على جلالته وَعظم شَأْنه وَدينه وورعه وصيانته وأمانته كَانَ فَقِيها مُفَسرًا محدّثاً أصولياً نحوياً وَعِنْده فنون كَثِيرَة غَيرهَا وَكَانَ مُنْقَطِعًا عَن النَّاس كثير الْبلوى والأمراض أَخذ بِدِمَشْق عَن الشَّمْس الميداني وَغَيره ثمَّ رَحل فِي صباه إِلَى مصر وَأخذ بهَا عَن الْبُرْهَان اللَّقَّانِيّ وَأبي الْعَبَّاس الْمقري وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن النَّقِيب الْبَيْرُوتِي نزيل دمياط وَجمع لنَفسِهِ مشيخة رَأَيْتهَا وَعَلَيْهَا خطه وَأكْثر الرِّوَايَة فِيهَا عَن ابْن النَّقِيب الْمَذْكُور ثمَّ رَجَعَ إِلَى الشَّام ودرس بهَا وَأفَاد وانتفع بِهِ جمَاعَة ثمَّ سَافر إِلَى الرّوم وَمكث بهَا زَمَانا وَلم يحصل على أمانيه فورد دمشق وَأعْطى بعد ذَلِك الْمدرسَة البلخية وَدَار الحَدِيث الأشرفية فسكنهما ودرس بهما مُدَّة حَيَاته وَكَانَ يدرس بالجامع الْأمَوِي فيحضره أَعْيَان الطّلبَة الشَّافِعِيَّة وَأجل من انْتفع بِهِ وَحصل ودأب مَوْلَانَا الشَّيْخ
الْعَالم الصَّالح الْوَرع تَقِيّ الدّين بن شمس الدّين السَّيِّد الحصني نفع الله بِهِ فَإِنَّهُ لَازمه سِنِين وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ صاحبنا الْفَاضِل أَحْمد بن مُحَمَّد الصَّفَدِي إِمَام الدرويشية الْمُقدم ذكره وصاحبنا الأديب الْفَاضِل زين الدّين بن أَحْمد البصراوي وَغَيرهم وَله تحريرات ورسائل كَثِيرَة ووقفت لَهُ على تَحْرِير علقه على عبارَة الْغَزالِيّ الْمَشْهُورَة فَذَكرتهَا هُنَا لما فِيهَا من الْفَائِدَة والعبارة هِيَ قَوْله لَيْسَ فِي الْإِمْكَان أبدع مِمَّا كَانَ وَكَانَ بعض الطّلبَة سَأَلَهُ عَنْهَا فَأجَاب بِمَا نَصه اعْلَم أَيهَا الْأَخ أَن الْمحَال على قسمَيْنِ أَحدهمَا محَال لذاته وَالثَّانِي محَال لغيره فَإِن الْمُمكن قد يصير محالاً لغيره أَو وَاجِبا لغيره مِثَاله بعث الْمَوْتَى من قُبُورهم مُمكن فِي حد ذَاته لِأَنَّهُ إِذا خلى الْعقل وَنَفسه حكم بِجَوَازِهِ لَكِن لما أخبر سُبْحَانَهُ صَار وَاجِب الْوُقُوع بِالنّظرِ إِلَى خبر الله تَعَالَى لَا يتَخَلَّف عَدمه وَصَارَ محالاً لغيره بِهَذَا الِاعْتِبَار إِذا تقرر لَك هَذَا علمت أَن مَا قَالَه حجَّة الْإِسْلَام حق وإيضاحه إِنَّمَا هُوَ بعد أَن تعلم أَن علم الله تَعَالَى قديم وَأَنه تعلق فِي الْأَزَل بِأَن الْمُمكن الَّذِي وجد يُوجد فِي أَي زمَان وَفِي أَي مَكَان وعَلى أَي صفة وَحِينَئِذٍ فوقوعه على خلاف مَا تعلق بِهِ الْعلم محَال لغيره لِأَنَّهُ لَو وَقع على خلاف ذَلِك لزم انقلاب الْعلم جهلا وَأَنه محَال فِي حق الْحَكِيم الْخَبِير الْعَلِيم الْقَدِيم والإرادة وَالْقُدْرَة تعلقهما بالممكن إِنَّمَا يكون على وفْق تعلق الْعلم الْقَدِيم بِهِ وحينئذٍ تعلم أَن عدم إِمْكَان أبدع مِمَّا كَانَ لَيْسَ فِيهِ نِسْبَة الْجَهْل وَلَا نِسْبَة الْعَجز إِلَى الْملك الديَّان كَيفَ يظنّ ذَلِك بِحجَّة الْإِسْلَام الَّتِي مَلَأت معلوماته الدُّنْيَا بل عدم إِمْكَانه إِنَّمَا هُوَ لعدم تعلق الْإِرَادَة وَالْقُدْرَة بِهِ لما يلْزم عَلَيْهِ من الْمحَال فَتدبر ذَلِك ينْدَفع عَنْك خيال أَوْهَام من لم يعلمُوا مواقع الْكَلَام وَلم يَذُوقُوا دقائق الْعُلُوم بل مطمح أنظارهم اعْتِرَاض أكَابِر الْعلمَاء والطعن على وَرَثَة الْأَنْبِيَاء كَأَنَّهُمْ صَارُوا لَهُم ضدّا فصرف الله تَعَالَى أذهانهم عَن الْوُصُول إِلَى غوامض الْمعَانِي وتمسكوا بظواهر المباني وَمن أجَاب بِأَن مَا مَوْصُولَة لم يُصَادف محلا لِأَن الْمَنْقُول عَن الإِمَام أَنه قَالَ لَيْسَ فِي الْإِمْكَان إِلَى آخِره وَجَوَاب هَذَا الْمُجيب مَبْنِيّ على أَن كَلَام الْحجَّة مَا فِي الْإِمْكَان إِلَى آخِره وَلَيْسَ هُوَ إِلَّا لَيْسَ كَمَا نَقله عَنهُ بعض الْمُتَأَخِّرين وَتكلم عَلَيْهِ بِكَلَام طَوِيل أَيْضا وقفت عَلَيْهِ بعد كتابتي مَا تقدم ورأيته نقل كَلَام الْحجَّة وَمن جملَة مَا نَقله أَن الْبذر الزَّرْكَشِيّ تكلم على هَذِه الْكَلِمَة فِي تَذكرته وَنقل كَلَام بعض من تقدمه فِيهَا هَذَا آخر مَا حَرَّره بفكره وَله ذيل نَقله عَن الإِمَام الْغَزالِيّ وَإِنَّمَا ذكرت هَذَا التَّحْرِير لِكَثْرَة تداول النَّاس هَذِه الْعبارَة وَبِاللَّهِ
التَّوْفِيق وَكَانَت ولادَة الصفوري فِي سنة عشرَة بعد الْألف وَتُوفِّي فِي شهر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَألف وَدفن بمقبرة بَاب الصَّغِير
عبد الْقَادِر بن الْمَعْرُوف بن عبد الْقَادِر بن مُحَمَّد بن عبد الْقَادِر بن الْحُسَيْن بن أَحْمد بن مُوسَى المشرع بن عَليّ بن أَحْمد بن عَليّ بن مُحَمَّد بن عَليّ بن مُحَمَّد أخي سَيِّدي الْفَقِيه أَحْمد بن مُوسَى بن مُوسَى المشرع الصُّوفِي العجيل أحد الصُّوفِيَّة السالكين طَريقَة الأسلاف المتمكنين فِي الْمعرفَة الملازمين لِلْعِبَادَةِ وَكَانَ مِمَّن كمله الله فِي خلقه وخلقه وكرم طبعه وَحسن طَرِيقَته وَكَانَت لَهُ مهابة فِي الْقُلُوب مَعَ خلق جميل وأدب وبراعة وإحسان وَكَانَ المنكرون عَلَيْهِ إِذا سَقَطت عينهم عَلَيْهِ يفرون مِنْهُ فرار الوحوش من الْأسد وَلَا يسْلك مَعَهم إِذا بلغه ذَلِك إِلَّا الْفِعْل الْأسد وَله ثبات على ظُهُور المقربات وَيَد طولي فِي على المقامات وتواترت مِنْهُ الكرامات الَّتِي اشتهرت ووضحت وَكَانَ متواضعاً حسن الْمُعَامَلَة للْمُسلمين وَلَا ينزل نَفسه منزلتها وَله عناية بكتب الصُّوفِيَّة وميل لعلوم الشَّرِيعَة وَكَانَ قَائِما بِخِدْمَة منصب آبَائِهِ وَله فِي بَيت جده الْفَقِيه أَحْمد بن مُوسَى العجيل ظُهُور تَامّ ومنزلة علية ونفوذ كلمة عِنْد الْأُمَرَاء والحكام وَكَانَ من الْكَرم فِي ذروته الْعَالِيَة وتلتمس بركته من الأقطار وَكَانَ من الملازمين للصَّلَاة على النَّبِي
فِي خلواته وجلواته على طَريقَة جده فَإِن لَهُ فِيهَا طَرِيقا راسخة وَكَانَت وَفَاته نفع الله تَعَالَى بِهِ فِي نَيف وَسِتِّينَ وَألف بِبَلَدِهِ بَيت الْفَقِيه ابْن عجيل وَدفن فِي قبَّة آبَائِهِ وَخَلفه فِي منصبه الشَّيْخ عبد الرَّزَّاق العجيل
عبد الْقَادِر بن ميمي الْبَصْرِيّ الْحَنَفِيّ الأديب الْفَاضِل الشَّاعِر عرفني بِهِ المرحوم السَّيِّد عبد الله بن حجازي الْحلَبِي روح الله تَعَالَى روحه وَكنت رَأَيْت تَرْجَمته الَّذِي تَرْجمهُ بهَا فِي التَّأْلِيف الَّذِي أَرَادَ أَن يذيل بِهِ على الريحانة وَقد أثنى عَلَيْهِ وَوَصفه بالأدب وَالْفضل وَرَأَيْت خَبره فِي تعاليق الْأَخ الْفَاضِل مصطفى بن فتح الله فَقَالَ فِي حَقه كَانَ إِمَامًا عَالما فَاضلا أَخذ عَن عُلَمَاء بَلَده وَقَرَأَ على المنلا إِبْرَاهِيم بن حسن الْكرْدِي نزيل الْمَدِينَة المنورة وَله تآليف مِنْهَا سالة فِي الْمنطق وَأُخْرَى فِي الْعرُوض وَأُخْرَى فِي التصريف وحاشية على تلويح السعد وَكَانَت وَفَاته بِالْبَصْرَةِ فِي سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف رحمه الله
السَّيِّد عبد الْقَادِر بن النَّاصِر بن عبد الرب بن عَليّ بن شمس الدّين ابْن الإِمَام يحيى شرف الدّين صَاحب كوكبان أحد أَفْرَاد الزَّمَان الْمجمع على جلالته مولده
كوكبان وَبهَا نَشأ وَقَرَأَ الْقُرْآن وَأخذ بهَا عَن أكَابِر الْعلمَاء الْأَعْيَان وَلم يزل يكْتَسب الْفَضَائِل ويجد فِي تَحْصِيل دَقِيق الْمسَائِل حَتَّى نَالَ مَا ناله ثمَّ تولى بعد وَالِده ملك كوكبان وَمَا والاها من الْبِلَاد وَعلا شَأْنه وَقصد وحطت عِنْده رحال أهل الآمال وَكَانَت حَضرته مجمع الأدباء وحلبة الشُّعَرَاء وهمته مَقْصُورَة على مجد يشيده وأنعام يجدده وَفضل يصطنعه وخامل وَضعه الدَّهْر فيصنعه وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ فاق فِي عصره بِالْيمن على الأقران وساد الْأَعْيَان فَلَا يدانيه مدان مَعَ مَا يُضَاف إِلَى ذَلِك من منظر وسيم ومخبر كريم وخلائق رقت وراقت وطرائق علت وفاقت وفضائل ضفت مدارها وشمائل صفت مشارعها وسودد تثنى بِهِ عُقُود الخناصر ويثنى عَلَيْهِ طيب العناصر وللفقيه الْعَارِف صَالح ابْن الصّديق النمازي الخزرجي أرجوزة سرد فِيهَا نسب جد صَاحب التَّرْجَمَة الإِمَام المتَوَكل على الله يحيى شرف الدّين بن شمس الدّين وأضاف القَاضِي الْفَاضِل الْعَلامَة أَبُو الْفضل عماد الدّين يحيى بن الْحسن الحيمي نسب صَاحب التَّرْجَمَة إِلَى الإِمَام شرف الدّين فلنذكر أَولا أَبْيَات الحيمى ثمَّ نعقبها بِأَبْيَات النمازي فمطلع الأولى هُوَ قَوْله
(أَقُول بعد الْحَمد فِي مقالي
…
وَالشُّكْر للخالق ذِي الْجلَال)
(وَبعد أَن أهْدى الصَّلَاة سرمدا
…
ثمَّ السَّلَام قَاصِدا مُحَمَّدًا)
إِلَى أَن يَقُول
(معطي الجزيل ذِي النوال الغامر
…
مولَايَ عبد الْقَادِر بن النَّاصِر)
(سليل عبد الْبر ذِي المكارم
…
نل على صفوة الأكارم)
(سليل شمس الدّين ذِي الْكَمَال
…
رَافع بَيت الْمجد والمعالي)
(ابْن الإِمَام الحبر ذِي الْعُلُوم
…
كَهْف اللهيف كافل الْيَتِيم)
(يحيى بن شمس الدّين من سَاد الورى
…
وَمن حَدِيث مجده لن يفترى)
(هَيْهَات أَن تحصى لَهُ مَكَارِم
…
أَو أَن تكون مثله الأكارم)
(دَعَا إِلَى الله بعزم صَادِق
…
وَقَامَ بِالْفَرْضِ وَحقّ الْخَالِق)
(ومهد الأقطار والبلادا
…
وَأصْلح الله بِهِ العبادا)
(أَحْيَا من الْعلم بدرس مَا درس
…
وَاتبع النَّاس هدى ذَا القبس)
(وهاك مَا أوردت فِي إيجازي
…
متمماً مَا نظم النمازي)
(فِي نظمه سلسلة الإبريز
…
وسردها فِي النّسَب الْعَزِيز)
(الْحَمد لله الْعلي الْأَحَد
…
الْقَادِر الْفَرد الْعَزِيز الصَّمد)
(ذِي الطول والإجلال وَالْإِكْرَام
…
وَالْفضل وَالْإِحْسَان والأنعام)
(أَحْمَده على توالي النعم
…
وأستمده صنوف الحكم)
(وَبعده فأفضل السَّلَام
…
على النَّبِي سيد الْأَنَام)
(مُحَمَّد وَآله الْكِرَام
…
سفن النجَاة أنجم الظلام)
(وَهَذِه أرجوزة شريفة
…
نظمت فِيهَا نسب الْخَلِيفَة)
(الْجَوْهَر الْمُفْرد فِي الْكَمَال
…
لما حوى من أكمل الْخِصَال)
(فِي ذَاته الْعُظْمَى وَفِي الْأُصُول
…
وَفِي حَوَاشِيه وَفِي الْفُصُول)
(فَمَاله فِي النَّاس من نَظِير
…
شَهَادَة من عَارِف خَبِير)
(ألبسهُ الله حلى الخلافه
…
فصانها بِالْعَدْلِ والعفافه)
(كعبة أهل الْفضل والعلوم
…
وَحجَّة الله على الْعُمُوم)
(أَحْيَا بِهِ الله أموراً جمه
…
من دَرَجَات الْآل والأئمه)
(وَكم لَهُ من آيَة وحجه
…
دَعَا بهَا النَّاس إِلَى المحجه)
(ليهتدوا فَمن أجَاب الدَّاعِي
…
فَهُوَ على الْحق بِلَا اندفاع)
(وَفقه الرَّحْمَن للإجابه
…
ولقبول الْحق والإنابه)
(وَمن عَصَاهُ فِي شقاء سرمدي
…
فِي هَذِه الدُّنْيَا وَفِي يَوْم غَد)
(مَا بَين مقتول ومستهان
…
وَبَين مطرود مدى الزَّمَان)
(وَهَذِه من أعظم الْآيَات
…
عِنْد جَمِيع العلما الْأَثْبَات)
(فِي كل حِين مِنْهُ يُسْتَفَاد
…
علم بِهِ يَتَّضِح الرشاد)
(راياته محفوفة بالسعد
…
يحيى بن شمس الدّين نجل الْمهْدي)
(أَحْمد أَعنِي نجل يحيى الحجه
…
نجل الإِمَام المرتضى المحجه)
(ابْن الْجواد أَحْمد بن المرتضى
…
ابْن مفضل بن مَنْصُور الرِّضَا)
(ابْن مفضل بن حجاج العلى
…
لله من قوم أولي فضل جلى)
(ابْن عَليّ نجل يحيى الْكَامِل
…
وَذَاكَ نجل الْقَاسِم الحلاحل)
(نجل الإِمَام يُوسُف الدَّاعِي إِلَى
…
هدى الْإِلَه نجل يحيى ذِي العلى)
(ابْن الإِمَام النَّاصِر بن الْهَادِي
…
يحيى إِمَام الْحق والرشاد)
(ابْن الْحُسَيْن بن الإِمَام الْقَاسِم
…
سليل إِبْرَاهِيم ذِي المكارم)
(سليل إِسْمَاعِيل ذِي الذّكر الْحسن
…
سليل إِبْرَاهِيم أَعنِي بن الْحسن)
(هُوَ الْمثنى نجل سبط الْمُصْطَفى
…
ابْن أَمِير الْمُؤمنِينَ المقتفى)
(أَعنِي سليل الدرة البتول
…
بنت النَّبِي الْمُصْطَفى الرَّسُول)
(مُحَمَّد خير الْأَنَام طرّا
…
أكْرم بِهِ من نسب أغرّا)
(وسمته سلسلة الإبريز
…
والجوهر الْمُرْتَفع الْعَزِيز)
(ورقية لكل دَاء معضل
…
فِي الدّين وَالدُّنْيَا فَخذهَا تعتلي)
(وَقد سَأَلت الله بِالْجَمِيعِ
…
وبالنبي الْمُصْطَفى الشَّفِيع)
(سُؤال من يستيقن الإجابه
…
ويرتجي فِي ذَلِك الإثابه)
(الْعَفو وَالْقَبُول والإنابه
…
والفهم والتوفيق والإصابه)
(وجملاً مضمرة فِي النَّفس
…
مقدورة قطعا بِغَيْر لبس)
(وَالله ذُو الْجلَال وَالْإِكْرَام
…
يعلمهَا وَيعلم اعتصامي)
(بهؤلاء السَّادة الْأَعْلَام
…
أول البها والنيل والأحلام)
(حاشا جلال الله أَن يردّا
…
يداي صفراً بعد أَن تمدّا)
وَشرح هَذِه الأرجوزة شرحاً وجيزاً لطيفاً السَّيِّد الْعَلامَة أَحْمد بن عبد الله بن أَحْمد ابْن إِبْرَاهِيم الْوَزير جمع فِيهِ سير الْمَذْكُورين فِيهَا وَبَعض فضائلهم وَقد استوفى أَخْبَار الإِمَام شرف الدّين السَّيِّد عِيسَى بن لطف الله بن المطهر بن الإِمَام شرف الدّين فِي تَارِيخ لطيف سَمَّاهُ روح الرّوح وَذكر وقائعه مَعَ التّرْك وماجرياته رَجَعَ إِلَى ذكر المترجم وَمن شعره قَوْله
(قد طَار قلبِي إِلَى من لَا أُسَمِّيهِ
…
وَإِن تناسى الوفا فَالله يحميه)
(مهفهف ماد من تيه وَمن جذل
…
فكاد قدّ قضيب البان يحكيه)
(بدر تكَاد بدور التم تشبهه
…
والظبي حاكاه لَكِن مَا يُسَاوِيه)
(ذُو مقلة يعرف السحر الْحَلَال بهَا
…
قلبِي بهَا يتقلى فِي تلظيه)
(كم أكتم الْحبّ فِي قلبِي وأضمره
…
لَكِن مدامع عَيْني لَيْسَ تخفيه)
(أَبيت أرعى نُجُوم اللَّيْل منزعجاً
…
ألتاع شوقاً وَفِي قلبِي الَّذِي فِيهِ)
(لي نَار وجد وأشواق أكابدها
…
لله قلبِي فِيهِ كم يقاسيه)
(الْبَرْق يذهله وَالرِّيح تدهشه
…
والشوق ينشره حينا ويطويه)
وَكَانَت وَفَاته فِي الْمحرم سنة سبع وَتِسْعين وَألف بكوكبان وَكَانَ مَرضه ثَلَاثَة أَيَّام
السَّيِّد عبد الْقَادِر القيصري نقيب الْأَشْرَاف بالممالك العثمانية من بَيت مَعْرُوف بِصِحَّة النّسَب فِي مَدِينَة قيصرية دخل دَار السلطنة فِي ابْتِدَاء أمره وجدّ واشتغل ثمَّ لَازم من الْمولى بهاء الدّين زَاده وسلك طَرِيق الْقَضَاء فولي قَضَاء بلدته قيصرية وَمَا انْعَزل عَنْهَا بقريب حَتَّى طلب من طرف السلطنة وَأعْطى نقابة الْأَشْرَاف بالممالك وَكَانَ النَّقِيب إِذْ ذَاك السَّيِّد يحيى قد مَاتَ وَكَانَ ذَلِك فِي شهر ربيع الآخر سنة ثَمَان بعد الْألف فاستمر نَقِيبًا إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَ فَاضلا أديباً شَاعِرًا ومخلصه على قاعدتهم قدري ذكره ابْن نَوْعي فِي ذيله وَقَالَ كَانَت وَفَاته فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَلَاث عشرَة وَألف وَولي النقابة بعده السَّيِّد ياوز الْمَعْرُوف بياوز أَمِير
عبد الْقَادِر قَاضِي الْعَسْكَر الشهير بقدري وَهُوَ صَاحب الْفَتَاوَى الْمَشْهُورَة بفتاويه قدري وَيُطلق عَلَيْهَا لفظ الْمَجْمُوعَة وَهِي الْآن عُمْدَة الْحُكَّام فِي أحكامهم والمفتين فِي فتاويهم وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهَا مَجْمُوعَة نفيسة أَكثر مسائلها وقائع وَكَانَت تقع أَيَّام الْمُفْتِي يحيى بن زَكَرِيَّا وَكَانَ هُوَ فِي خدمَة الْمُفْتِي الْمشَار إِلَيْهِ موزع الْفَتْوَى وموزع الْفَتْوَى عِنْدهم عبارَة عَن رجل يجمع الْفَتَاوَى الَّتِي كتبت أجوبتها ويدعها إِلَى يَوْم الثُّلَاثَاء من كل أُسْبُوع فَهَذَا يَوْم التَّوْزِيع فيقف فِي مَكَان من دَار الْمُفْتِي الْمعِين وينادي بأسماء أَصْحَاب الْفَتَاوَى وأسماؤهم مَكْتُوبَة على ظهر قرطاس الْفَتْوَى فَهَذِهِ خدمَة الموزع وَأمين الْفَتْوَى هُوَ الَّذِي يُرَاجع الْمسَائِل من محالها وَينزل عَلَيْهَا الوقائع وَاسْتمرّ عِنْد ابْن زَكَرِيَّا بِهَذِهِ الْخدمَة زَمَانا طَويلا وَكَانَ من ذَلِك الْعَهْد مَوْصُوفا بالتقى والإقبال على أَمر الْآخِرَة وَفِيه صَلَاح وإنابة وَمن هُنَا يحْكى أَن الْمُفْتِي الْمَذْكُور كَانَ أعرف أهل زَمَانه وَاجْتمعَ عِنْده من الحفدة أَرْبَاب الْمعرفَة مَا لم يجْتَمع عِنْد غَيره فَكَانَ إِذا أَرَادَ الْمُفَاوضَة مَعَ أحد فِي أَمر الدُّنْيَا والدولة وأحوال النَّاس قدم الْمولى مُحَمَّد بن عبد الْحَلِيم البورسوي الَّذِي صَار آخرا مفتياً الْآتِي ذكره وَكَانَ عِنْده أَمِين الْفَتْوَى وَأقرب المقربين فيتفاوض مَعَه فِي هَذِه الْأُمُور لكَمَال فطنته ودربته ومعرفته بأحوال النَّاس وَإِذا أَرَادَ المذاكرة فِي مشكلات الْفِقْه والمسائل اخْتَار الْمولى أوزون حسن أَي الطَّوِيل وَكَانَ من خواصه وَإِذا أَرَادَ المباحثة فِي أَنْوَاع الْفُنُون الْعَقْلِيَّة رجح الْمولى مصطفى البولوي الَّذِي صَار آخرا مفتياً وَكَانَ من حَوَاشِيه وَإِذا أَرَادَ المناقشة فِي الْأَدَب وَالشعر ميز الْمولى مُحَمَّد بن فضل الله الشهير بعصمتي الَّذِي صَار آخرا قَاضِي العساكر وَكَانَ من ندمائه وَإِذا أَرَادَ المفاكرة
فِي أَمر الْآخِرَة وأحوال الْمعَاد وَالْجنَّة وَالنَّار استدعى صَاحب التَّرْجَمَة وعَلى كل حَال فَهُوَ من خِيَار الموَالِي الْعِظَام ولي قَضَاء قسطنطينية وَقَضَاء العسكرين مَرَّات وَكَانَ عَالما فَاضلا وقوراً عَلَيْهِ مهابة الْعلم وَالصَّلَاح وَكَانَت وَفَاته فِي سنة ثَلَاث وَثَمَانِينَ وَألف بقسطنطينية وَدفن خَارج بَاب أدرنه
عبد الْكَرِيم بن الْعَالم الْوَلِيّ أبي بكر الشهير بالمصنف ابْن السَّيِّد هِدَايَة الله الْحُسَيْنِي الكوراني الشاهوي الشَّيْخ الإِمَام الْعَلامَة الْمُفِيد أَخذ عَن وَالِده ثمَّ رَحل إِلَى الْفَاضِل المنلا أَحْمد الْكرْدِي المجلى بِضَم الْمِيم ثمَّ جِيم مَفْتُوحَة على وزن صرد قَبيلَة من الأكراد قَالَه بَعضهم وَقَالَ آخر إِنَّه نِسْبَة إِلَى مجلان قَرْيَة تلميذ المنلا حبيب الله الشهير بميرزاجان الشِّيرَازِيّ تِلْمِيذه جمال الدّين مَحْمُود الشِّيرَازِيّ تلميذ جلال الدّين مُحَمَّد الدواني فَقَرَأَ عَلَيْهِ إِثْبَات الْوَاجِب وَشرح حِكْمَة الْعين وَشرح مُخْتَصر ابْن الْحَاجِب للْقَاضِي عضد الدّين ثمَّ عَاد وَأَبوهُ مَوْجُود وَأقَام على بَث الْعلم ونشره وَله من التصانيف تَفْسِير الْقُرْآن وصل فِيهِ إِلَى سُورَة النَّحْل فِي ثَلَاث مجلدات وَكتاب فِي المواعظ وَعنهُ أَخذ عَلامَة الْوُجُود الإِمَام الْكَبِير المنلا إِبْرَاهِيم بن حسن الْكرْدِي الكوراني نزيل الْمَدِينَة المنورة وَكَانَت وَفَاته فِي سنة خمسين بعد الْألف
عبد الْكَرِيم بن أكمل الدّين بن عبد الْكَرِيم بن محب الدّين بن أبي عِيسَى عَلَاء الدّين أَحْمد بن مُحَمَّد بن قاضيخان وَهَذَا قاضيخان غير صَاحب الْفَتَاوَى بن بهاء الدّين يَعْقُوب بن إِسْمَاعِيل بن عَليّ بن الْقَاسِم ابْن الْفَقِيه مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن إِسْمَاعِيل الْعَدنِي ثمَّ البيجابوري ثمَّ النهرواني الْحَنَفِيّ الْمَعْرُوف بالقطبي وَسَيَأْتِي جده عبد الْكَرِيم قَرِيبا كَانَ هَذَا من أَعْيَان الْفُضَلَاء بِمَكَّة وَمن أجلاء الصُّوفِيَّة المجللين ولد بِمَكَّة وَأخذ عَن وَالِده وَغَيره وَأخذ الطَّرِيق عَن الشهَاب أَحْمد الشناوي ولازم بعده تِلْمِيذه السَّيِّد الْجَلِيل سَالم بن أَحْمد شَيْخَانِ وَفتح الله تَعَالَى عَلَيْهِ بفتوحات وَتحقّق بِمَعْرِِفَة الْوحدَة الوجودية وَله شرح على فصوص القونوي واعتراه فِي آخِره أمره جذب كَانَ يغيب فِيهِ أَحْيَانًا عَن وجوده مَعَ حفظ الْمَرَاتِب الشَّرْعِيَّة وَكَانَت وَفَاته لَيْلَة الْأَرْبَعَاء بَين العشاءين عَاشر شهر ربيع الأول سنة خمس وَخمسين وَألف بِمَكَّة وَدفن صَبِيحَة يَوْمه بالمعلاة
المنلا عبد الْكَرِيم بن المنلا سُلَيْمَان بن مصطفى بن حسن القَاضِي بديورنه وَسَنَده ابْن عبد الْوَهَّاب الْكرْدِي الشَّامي الخالدي الشَّافِعِي نزيل دمشق الْعَالم
الْكَبِير الزَّاهِد العابد كَانَ من أمره أَنه قَرَأَ ببلاده واجتهد وَأخذ عَن كبار الْمُحَقِّقين ومشايخه كَثِيرُونَ فَمن أَخذ عَنهُ الحَدِيث عَمه مُحَمَّد عَن ميرزا مُحَمَّد الكوراني وَهُوَ عَن أَبِيه عبد اللَّطِيف عَن المنلا إلْيَاس من كلاط من كوران صَاحب التسهيل على العوامل وَهُوَ أَخذ عَن الْحَافِظ ابْن حجر الْعَسْقَلَانِي بأسانيده الْمَشْهُورَة وَأخذ الْفِقْه عَن المنلا أَحْمد الْعُمر ابادي وَهُوَ أَخذ عَن المنلا إلْيَاس الثَّانِي البروزي وَهُوَ أَخذ عَن المنلا إلْيَاس الْمُتَقَدّم بِسَنَدِهِ الْمُتَقَدّم وَالتَّفْسِير عَن المنلا يُوسُف الكوراني عَن الشَّيْخ عبد الْكَرِيم الشهرزوري الكركدري عَن المنلا إلْيَاس الْمَذْكُور بِسَنَدِهِ وَأخذ تَفْسِير الْبَيْضَاوِيّ عَن المنلا محسن بن المنلا سُلَيْمَان الدشاني قِرَاءَة لبعضه وسماعاً لباقيه فِي الرَّوْضَة الشَّرِيفَة وَهُوَ أَخذه عَن السَّيِّد ميرزا إِبْرَاهِيم الهمذاني وَعَن المنلا أَحْمد المنجلي تلميذ ميرزاجان وَأخذ الْفَرَائِض عَن القَاضِي شكر الله الشقري عَن الشَّيْخ بدر الدّين الطَّائِي عَن الْمولى إلْيَاس الْمَذْكُور بِهَذَا السَّنَد والنحو عَن المنلا عبد الصَّمد الموجشي نِسْبَة إِلَى قَرْيَة موجش من قرى كوران وَله رِوَايَات غير هَذِه وَتمكن فِي الْعُلُوم والمعارف كل التَّمَكُّن وَورد دمشق وَأقَام بهَا وَأخذ عَنهُ بهَا غَالب فضلائها الَّذين بهروا واشتهروا مِنْهُم الْعَلامَة السَّيِّد مُحَمَّد بن كَمَال الدّين النَّقِيب وَالشَّيْخ مُحَمَّد العيثي وَشَيخنَا إِبْرَاهِيم الفتال وَالسَّيِّد الْعَالم شمس الدّين مُحَمَّد الحصني وَكَانَ صَاحب قدم راسخة فِي الْولَايَة وصدرت عَنهُ كرامات ومكاشفات كَثِيرَة مِنْهَا أَنه صَار يَوْمًا إِلَى ربوة دمشق وَمَعَهُ تلامذته المذكورون وَكَانَ الشَّمْس العيثي احْتَلَمَ فِي ليلته تِلْكَ وغفل عَن الِاغْتِسَال فَلَمَّا قَامُوا لصَلَاة الظّهْر تَوَضَّأ وَأَرَادَ الشُّرُوع فِي الصَّلَاة فَجَذَبَهُ المنلا عبد الْكَرِيم من كتفه وَقَالَ لَهُ امْضِ اغْتسل ثمَّ صل فَذهب واغتسل ثمَّ عَاد وَصلى وَله من هَذَا الْقَبِيل أَشْيَاء وَكَانَت وَفَاته رَحمَه الله تَعَالَى تمّ الْجُزْء الثَّانِي ويليه الْجُزْء الثَّالِث وأوله عبد الْكَرِيم بن سِنَان المنشي