الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لَوَازِم الْخدمَة وطالما طمعت الآمال بذلك مرَارًا وَلَو مرورا وَرُبمَا خطر ذَلِك فِي الْقلب فملأه ذَلِك الخاطر سُرُورًا على أننا لم نيأس من روح الله أَن يمن بلقائه وَأَن يكحل الْعين باثمد بهائه انْتهى وَكَانَ فِي آخر أمره ولع بِعلم النُّجُوم واستخراج بعض المغيبات الْمُتَعَلّقَة بامور السلطنة هُوَ وَبَعض أخذان لَهُ كَانَ يأنس بهم من جُمْلَتهمْ عبد الْبَاقِي بن مصطفى المتخلص بوجدي الشَّاعِر الْمَشْهُور فِي الرّوم فوصل خبرهم إِلَى الْوَزير الكوبري فسعى فِي قَتلهمْ فَقتلُوا فِي رَابِع شهر رَمَضَان سنة إِحْدَى وَسبعين وَألف والشرواني بِكَسْر الشين وَسُكُون الرَّاء وَفتح الْوَاو ثمَّ ألف وَنون نِسْبَة إِلَى بَلْدَة بالعجم خرج مِنْهَا عُلَمَاء وفضلاء من أَجلهم وَالِد صَاحب التَّرْجَمَة وَسَتَأْتِي تَرْجَمته إِن شَاءَ الله تَعَالَى
روحي الشَّاعِر الْبَغْدَادِيّ الْمَشْهُور كَانَ من أَعَاجِيب الدُّنْيَا فِي صَنْعَة الشّعْر التركي لَهُ التخيلات اللطيفة والألفاظ الرشيقة وديوانه مَشْهُور يُوجد كثيرا بأيدي النَّاس وَكَانَ على أسلوب السياح وَله فِي سياحته ماجريات ووقائع كَثِيرَة وَاسْتقر آخر أمره بِدِمَشْق وَكنت سَمِعت خبْرَة قَدِيما من المرحوم الدرويش عِيسَى العينتابي نزيل دمشق وَكَانَ كثيرا مَا يلهج بأخباره ويورد ماجرياته وينشد أشعاره واظنه لم يُدْرِكهُ الإسنا لَا اجتماعه فروايته لأخباره عَن سَماع وَذكر أَن وَفَاته كَانَت سنة أَربع عشرَة بعد الْألف بِدِمَشْق
ريحَان بن عبد الله الحبشي الأحمدي الشَّافِعِي الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى كَانَ مجاورا بالحجرة شمَالي مَسْجِد قبَاء ذكره النَّجْم فِي ذيله وَقَالَ كَانَ وَاضح الْكَشْف مجلو الْمرْآة ناقد البصيرة وَكَانَ للنَّاس فِيهِ اعْتِقَاد عَظِيم وَكَانَ القَاضِي عبد الرَّحْمَن قَاضِي الْمَدِينَة عمر لَهُ مَسْجِدا قَدِيما خَارج بَاب الْمصْرِيّ وَعمر لَهُ فِي جَانِبه بَيْتا لطيفا فسكن بِهِ وَتزَوج قَالَ زرته أَنا وَوَلَدي بدر الدّين واستأجزت لَهُ فَأَجَازَهُ وَألبسهُ الْخِرْقَة الأحمدية بحضوري وَصَارَ بَيْننَا مؤاخاة وَكَانَت وَفَاته فِي سنة خمس عشرَة بعد الْألف رحمه الله
(حرف الزَّاي)
زَكَرِيَّا بن إِبْرَاهِيم بن عبد الْعَظِيم بن أَحْمد أَبُو يحيى المعري الْمَقْدِسِي الْحَنَفِيّ الإِمَام الْقدْوَة الْمُعْتَبر رَحل إِلَى مصر وَأخذ بهَا التَّفْسِير والْحَدِيث عَن الشَّيْخ مَنْصُور سبط الطبلاوي الشَّافِعِي وَكَانَ فَقِيها مُفَسرًا لَهُ بَاعَ طَوِيل فِي كثير من الْفُنُون وَولي إِفْتَاء الْحَنَفِيَّة بالقدس ودرس وَأفَاد وانتفع بِهِ خلق كثير فِي الْفِقْه
وَغَيره وَكَانَت وَفَاته فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ ألف
زَكَرِيَّا بن بيرام مفتي الممالك الإسلامية علم الْعلمَاء المتجرين فِي جَمِيع الْعُلُوم وَكَانَ إِلَيْهِ الهاية فِي التَّحْقِيق وَهُوَ أَمِير أهل عصره فِي الْفِقْه وَالْأُصُول أَصله من أنقرة وَبهَا ولد وَنَشَأ ثمَّ قدم إِلَى قسطنطينة واشتغل بهَا على الْمولى عبد الْبَاقِي الْمَعْرُوف بعرب زَاده ثمَّ وصل إِلَى خدمَة مَعْلُول أَمِير فصحبه مَعَه إِلَى الْقَاهِرَة فِي سنة خمسين وَألف وشارك الْعَلامَة عَليّ بن غَانِم الْمَقْدِسِي فِي الْقِرَاءَة عَلَيْهِ وَلما وصل إِلَى قَضَاء أَنا طولي صيره حَافظ التذاكر ولازم مِنْهُ وأحاط بِكَثِير من الْعُلُوم إحاطة تَامَّة وَألف تآليف شاهدة بدقة نظره وتمكنه مِنْهَا حَوَاشِيه على أكمل الدّين وعَلى صدر الشَّرِيعَة وَغير ذَلِك وَله نظم ونثر بِالْعَرَبِيَّةِ مسبوكان فِي قالب الْجَوْدَة فَمن ذَلِك مَا قرظ بِهِ طَبَقَات القَاضِي تقى الدّين التَّمِيمِي الْمُقدم ذكره
(هَذَا كتاب فاق فِي أقرانه
…
يسبي الْعُقُول بكشفه وَبَيَانه)
(سفر جليل عبقري ماجد
…
سحر حَلَال جَاءَ من سحبانه)
(أوراقه أَشجَار روض زَاهِر
…
قد تجتني الثمرات من أفنانه)
(لله در مؤلف فاق الورى
…
بفرائد فغدا فريد زَمَانه)
(فجزاه رب الْعَالمين بِلُطْفِهِ
…
طَبَقَات عز فِي فسيح جنانه)
لما تعمقت فِي لجج هَذَا الْبَحْر الزاخر صادفت أصداف أَصْنَاف الدُّرَر الكامنة النَّوَادِر وألفيته رَوْضَة غناء زاهرة أزهارها وزهرة زهراء ناضرة أنوارها وجنات شقائقها محمرة وجنات حدائقها فخصرة تذكرة لعارف تقى وتبصرة المتبصر عَن الرذائل نقى جَاوز الشعرى بِشعرِهِ الْفَائِق وفَاق النثرة بنثره الرَّائِق قد استضاء بجواهره المضيئة تَاج تراجم الْأَعْيَان فَصَارَ كَأَنَّهُ مرْآة انعكس فِيهَا صور سير الأسلاف وأشراف أفاضل الزَّمَان اللَّهُمَّ اجْمَعْ بَيْننَا وَبينهمْ فِي غرف عدن وطبقات الْجنان وَمن شعره قَوْله
(أخف عليّ من منن الرِّجَال
…
من الدُّنْيَا الدنية ارتحالى)
(لَئِن ساءت بِسوء الْجَار حَالي
…
أحوّل بَلْدَة أُخْرَى رحالي)
وَقَوله أَيْضا
(إِذا مَا كنت مرضيّ السجايا
…
وعاش النَّاس مِنْك على أَمَان)
(فعش فِي الدَّهْر ذَا أَمن ويمن
…
ويوصلك الْإِلَه إِلَى الْأَمَانِي)
وَمن غزلياته قَوْله
(قد قتل العشاق من لحظه
…
دِمَاؤُهُمْ سَالَتْ على الأودية)
(يَا عجبا من قَاتل أَنه
…
لَيْسَ عَلَيْهِ قَود أَوديَة)
وَله غير ذَلِك وَكَانَ درس بمدارس قسطنطينية حَتَّى وصل إِلَى السليمانية وَولي مِنْهَا قَضَاء حلب فِي سنة ثَمَانِينَ وَتِسْعمِائَة قَالَ الشَّيْخ عمر العرضي وَلما قدمهَا ذَهَبْنَا إِلَيْهِ مُسلمين عَلَيْهِ فَإِذا هُوَ رجل فَاضل لَهُ استحضار حسن فِي فقه أبي حنيفَة وَكم جرى بَيْننَا وَبَينه من الأبحاث الَّتِي تدل على حسن استحضاره وسألني ذَات يَوْم عَن قَول بعض كتب الْحَنَفِيَّة لَو ادّعى رجلَانِ على إمرأة أَنَّهَا زَوْجَة كل مِنْهُمَا أَحدهمَا زيد وَالْآخر عمر فَقَالَت فِي الحواب تزوجت زيدا بعد عمر وَحكم بِأَنَّهَا زَوْجَة لزيد لَكِن لَو قَالَ لَهَا القَاضِي روجه من أَنْت فَقَالَت تزوجت زيدا بعد عمر وَحكم بِأَنَّهَا زَوْجَة عمر وفقال لي مَا الْفرق بَينهمَا فبحثنا مَعَه على قدر الْإِمْكَان ثمَّ أَنه أظهر جَوَابا حسنا من الْخُلَاصَة فَأخذت الْجَواب وكتبت عَلَيْهِ رِسَالَة لَطِيفَة وَقعت عِنْده فِي حيّز الْقبُول ثمَّ إِنِّي كتبت لَهُ رِسَالَة تشْتَمل على ثَلَاثِينَ سؤالا من اثْنَيْنِ وَعشْرين علما أَرَادَ أَن يلْتَزم الْجَواب عَنْهَا فَأجَاب عَن بعض أسئلتها ثمَّ اعتذر بِكَثْرَة اشْتِغَاله بالحكومات وَغَيرهَا ثمَّ ترقى فِي المناصب إِلَى أَن صَار قَاضِي العساكر بانا طولي ثمَّ عزل وَدخل دمشق بعد عَزله فِي سنة أَربع وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة مُتَوَجها مِنْهَا إِلَى الْحَج وصحبته ولداه الْمولى يحيى الَّذِي صَار آخرا مفتي الدولة وَالْمولى لطف الله الْآتِي ذكرهمَا وَقعد مَا أَدّوا فَرِيضَة الْحَج عَادوا إِلَى الرّوم فولى صَاحب التَّرْجَمَة قَضَاء الْعَسْكَر بروم إيلي وَوَقع بَينه وَبَين سِنَان باشا الْوَزير الْأَعْظَم فِي شعْبَان سنة ثَمَان وَتِسْعين وَتِسْعمِائَة فعزل ثمَّ ولي الْإِفْتَاء فِي رَجَب سنة إِحْدَى بعد الْألف وَأنْشد فِي تَوليته ابْن نوعى صَاحب ذيل الشقائق التركي بيتنا بالتركية استحسنته جدا فعربته فِي هذَيْن الْبَيْتَيْنِ ومنهما يعلم مَعْنَاهُ وهما قَوْله
(فِي رَأس كل مائَة يَجِيء من
…
يجدد الدّين بِحسن الْوَصْف)
(وَمثل ذَا مُجَدد الدّين لَا
…
يَجِيء إِلَّا وَاحِد فِي الْألف)
وَلم تطل مدَّته فَتوفي فِي شَوَّال من هَذِه السّنة وَكَانَت وَفَاته فَجْأَة دخل إِلَى حَضْرَة السُّلْطَان مُرَاد الثَّالِث وَاجْتمعَ بِهِ وَألبسهُ خلعة سنية فحال خُرُوجه سقط مَيتا وروى عَنهُ أَنه قبل وَفَاته بليلة وَاحِدَة رأى فِي مَنَامه كَأَن النَّبِي
يَقُول لَهُ فِي غَد تَجْتَمِع بالسلطان وتلبس خلعة وَتَكون عندنَا فانتبه وَهُوَ متعجب وَكَانَ من أمره مَا كَانَ وَدفن فِي أحد مدرستيه اللَّتَيْنِ بناهما بقسطنطينية بِقرب جَامع السُّلْطَان سليم وحمامه رَحمَه الله تَعَالَى
زَكَرِيَّاء بن حُسَيْن بن مسيح البوسنوي الأَصْل الدِّمَشْقِي المولد تقدم أَبوهُ حُسَيْن وَأَخُوهُ درويش مُحَمَّد وَنَشَأ هُوَ فِي كنف أَبِيه على صون ونزاهة واشتغل بِطَلَب الْعلم وَكَانَ فِي عنوان عمره جميلا غَايَة وَلم يكن فِي عصره من يُقَارِبه فِي الْحسن وَكَانَ تولع فِيهِ قوم من الأدباء والشعرء مِنْهُم الْأَمِير منجك المنجكي وَهُوَ الَّذِي يَقُول فِيهِ
(كلما رحت ذَاكِرًا زَكَرِيَّا
…
عَاد قلبِي من الغرام مَلِيًّا)
(رشأ كالمهاة جيدا ولحظا
…
وقضيب يقل بَدْرًا سنيا)
(أَتَرَى هَل أرَاهُ وَاللَّيْل داج
…
طالعا بَين بردئي مضيا)
(أجتني مَا اسْتَطَعْت من ورد
…
خديه بأيدي اللحاظ وردا جنيا)
(وأبل الأوام من رِيقه العذب
…
وأسقى من فِيهِ رَاحا شهيا)
(ثكلتني أم الصبابة إِن كنت
…
أرى ساليا لَهُ أَو نسيا)
وَقَالَ فِيهِ وَقد رَآهُ لابسا عِمَامَة وَهُوَ يقْرَأ فِي أحد دروس مَشَايِخ دمشق
(وقارىء بمعن فِي درسه
…
نفس المحبين فدا نَفسه)
(معمم يشبه بدر الدجى
…
مكوّر الشَّمْس على رَأسه)
(غُصْن فُؤَادِي صَار روضاً لَهُ
…
قد أبدع الغارس فِي غرسه)
وَهَذَا الْأَمِير مَعَ ميله الزَّائِد إِلَى الحسان كَانَ نزيه النَّفس سليم النَّاحِيَة رفيع الهمة وَهُوَ الْقَائِل وَقد رأى إعْرَاضًا من معشوق لَهُ
(قد أَبَت عبرتي بِأَن فُؤَادِي
…
يصطفى من بِغَيْر طرفِي يشام)
(أَنا لَا أَسْتَطِيع مَا يحمل النَّاس
…
وَعِنْدِي بعض الْكَلَام كَلَام)
(فَإِذا مَا الحبيب أعرض عني
…
فعلى الْحبّ والحبيب السَّلَام)
عودا إِلَى تَرْجَمَة زَكَرِيَّا وَبَعْدَمَا طلع عذاره نسخت آيَة جماله وكسفت صُورَة هلاله وَفِيه يَقُول أَحْمد بن شاهين بيتيه الْمَشْهُورين
(ومذ بدا الشّعْر على وَجهه
…
بدّلت الْحمرَة بالاصفرار)
(كَأَنَّمَا الْعَارِض لما بدا
…
قد صَار لِلْحسنِ جنَاحا فطار)
ثمَّ بعد ذَلِك ولى النيبابات بمحاكم دمشق وسافر فِي خدمَة الْمولى شعْبَان بن ولي الدّين
لما نقل من قَضَاء دمشق إِلَى قَضَاء مصر فِي سنة ثَمَان وَأَرْبَعين وَألف وصيره ثمَّة قساماً ونائباً بالصالحية ثمَّ عَاد فِي خدمته إِلَى دمشق وسافر إِلَى الْحَج فِي سنة خمس وَخمسين ولازم من الْمولى الْمَذْكُور وَلما ولي الْمَذْكُور قَضَاء الْعَسْكَر بأناطولي وَجه إِلَيْهِ الْقِسْمَة العسكرية بِدِمَشْق وَولي بقْعَة تدريس بِجَامِع بني أُميَّة ودرس بِالْمَدْرَسَةِ الظَّاهِرِيَّة الْكُبْرَى وَكَانَ يحسن اللُّغَة الفارسية والتركية والبوسنوية والعربية لِسَانه وَكَانَ يكْتب الْخط الْمليح وَله فَضِيلَة وَحسن منادمة ومطارحة وَله خلاعة ومجون وَكَانَ بَينه وَبَين أبي مودّة أكيدة وصحبة بَالِغَة وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ من تحف الدَّهْر وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة خمس وَعشْرين تَقْرِيبًا وَتُوفِّي فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَألف وَدفن بمقبرة الفراديس رَحمَه الله تَعَالَى
زَكَرِيَّاء ابْن خضر البقاعي العينتيتي الْفَقِيه الشَّافِعِي ورد دمشق فِي حُدُود سنة خمس أَو سِتّ أَو سبع وَسبعين وَتِسْعمِائَة وَأقَام مُدَّة بِجَامِع منجك خَارج دمشق بمحلة مَسْجِد الأقصاب وَقَرَأَ كثيرا وتفقه بالشهاب أَحْمد بن أَحْمد الطَّيِّبِيّ الْأَوْسَط ثمَّ لزم الْحسن البوريني فَقَرَأَ عَلَيْهِ الْعَرَبيَّة والأصلين وشيئاً من الْمنطق وَتوجه إِلَى الْقَاهِرَة وتفقه بهَا على النُّور الزيَادي وَأَجَازَهُ بالفتوى والتدريس ثمَّ رَجَعَ إِلَى دمشق وَولى إِعَادَة الناصرية الجوانية وتدريس الْمدرسَة النحاسية قرب مرج الدحداح وَكَانَ فَاضلا كَامِلا توفّي لَيْلَة الِاثْنَيْنِ سادس عشر شهر رَمَضَان سنة عشْرين وَألف والعينتيتي بِعَين مُهْملَة مَفْتُوحَة وياء مثناة من أَسْفَل وَنون سَاكِنة وتاء مثناة من فَوق مَكْسُورَة يعقبها يَاء مثناة من أَسْفَل ثمَّ تَاء مثناة من فَوق نِسْبَة إِلَى قَرْيَة من قرى شوف الحراذين من جبل لبنان
الشريف زيد بن محسن بن حُسَيْن بن حسن بن أبي نمي شرِيف مَكَّة الحسني وَقد تقدم ذكر تَتِمَّة نسبه فِي تَرْجَمَة عَم أَبِيه الشريف أبي طَالب فَليرْجع إِلَيْهِ ثمَّة كَانَ من أَمر زيد أَنه ولد بِمَكَّة فِي سنة أَربع عشرَة بعد الْألف وتربى فِي حجر وَالِده وسافر مَعَه إِلَى الْيمن وَلما توفّي أَبوهُ بِصَنْعَاء رَجَعَ إِلَى الْحجاز وَكَانَ قَامَ بِأَمْر الْحجاز الشريف أَحْمد بن عبد الْمطلب الْمُقدم ذكره فَلَمَّا قتل ولي مَكَانَهُ الشريف مَسْعُود بن إِدْرِيس ابْن حسن وولوه الْإِمَارَة وَكَانَ مَرِيضا بِمَرَض الدق فَمَاتَ بعد سنة وشهرين وَذَلِكَ فِي ثامن عشري شهر ربيع الثَّانِي سنة أَرْبَعِينَ وَألف فَاجْتمع الْأَشْرَاف على الشريف عبد الله بن حسن وولوه الْإِمَارَة وَاسْتمرّ نَحْو سنة ثمَّ خلع نَفسه وقلد
الْإِمَارَة وَلَده مُحَمَّدًا وأشرك مَعَه فِي الرّبع الشريف زيدا هَذَا فَبَقيَ أَمرهم على هَذَا الِاتِّفَاق مُدَّة قَليلَة فَدخل القنفدة فِي سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَألف بعض عَسْكَر الْيمن الَّذين طردهم حاكمها قانصوه فأرسلوا إِلَى الشريف مُحَمَّد الْمَذْكُور أَنا نُرِيد مصر وقصدنا الْإِقَامَة بِمَكَّة أَيَّامًا لنتهياً لللسفر فَأبى خوفًا من الْفِتْنَة وَالْفساد فَلَمَّا وصلهم الْخَبَر أجمع رَأْيهمْ على دُخُول مَكَّة وولوا الشريف نامي بن عبد الْمطلب وأشركوا مَعَه الشريف عبد الْعَزِيز بن إِدْرِيس فِي الرّبع بِلَا شعار وأرسلوه إِلَى أَمِير جدة ليسلمها إِلَيْهِم فَأبى وَقتل الرُّسُل فتجهزوا وحاصروهم يَوْمَيْنِ ثمَّ دخلُوا جدة ونهبوها وَاسْتمرّ الشريف نامي يصادر أهل مَكَّة وَنهب عسكره الْبِلَاد واستباحوا الْمُحرمَات وَكَانَ الشريف زيد هرب إِلَى الْمَدِينَة وَكتب عرُوضا وأرسلها إِلَى صَاحب مصر مَعَ السَّيِّد عَليّ بن هيزع حِوَالَة مَكَّة بِمصْر وَلما وصل خبرهم لصَاحب مصر أرسل إِلَيْهِم سَبْعَة من الْأُمَرَاء وَأرْسل بخلع سلطانية للشريف زيد وبلغهم أَن الشريف زيدا بِالْمَدِينَةِ فَدَخَلُوا وخلعوا عَلَيْهِ بِملك الْحجاز فِي الْحُجْرَة الشَّرِيفَة وَتوجه إِلَى الْعَسْكَر وَأتوا جَمِيعًا إِلَى مَكَّة وَلما وصلت العساكر إِلَى مر الظهْرَان خرجت الْخَوَارِج إِلَى جِهَة الشرق وَحج باالناس الشريف زيد سنة إِحْدَى وَأَرْبَعين وَلما فرغوا من الْمَنَاسِك توجهوا إِلَى مسك الْخَوَارِج فَلَمَّا بَلغهُمْ قصد الْعَسْكَر إِلَيْهِم تحَصَّنُوا بحصن تربة فحاصرتهم العساكر السُّلْطَانِيَّة وَكَانَت الْخَوَارِج فرْقَتَيْن فرقة رئيسهم يُقَال لَهُ الْأَمِير عَليّ وَالثَّانيَِة رئيسهم يُقَال لَهُ الْأَمِير مَحْمُود فَاسْتَمْسك الْأَمِير على نَفسه من أُمَرَاء مصر أَن يسلموه من الْقَتْل وَالْتزم لَهُم بالأمير مَحْمُود فقبلوا ذَلِك ومسكوا الْأَمِير مَحْمُود بحيلة دبروها وأتى بِهِ إِلَى مَكَّة وطيف بِهِ على جمل معذباً بالنَّار ثمَّ صلب حَيا بالمعلاة إِلَى أَن مَاتَ وأخذته الْعَامَّة وأحرقته فِي شُعْبَة العفاريت وَرجعت وَكَانَت الْخَوَارِج أَقَامَت الشريف نامي كَمَا تقدم وَكَانَ لَهُ اسْم الْأَمر فَقَط فَلَمَّا فرغوا من أَمر الْخَوَارِج قبضوا على الشريف نامي كَمَا تقدم وَكَانَ لَهُ اسْم الامر فَقَط فَلَمَّا فرغوا من أَمر الْخَوَارِج قبضوا على الشريف نامى وأخيه السَّيِّد وحبسوهما واستفتوا فيهمَا الْعلمَاء فأفتوا بِقَتْلِهِمَا فَقَتَلُوهُمَا وصلبوهما بجانبي رَأس الرَّدْم الْمُسَمّى الْآن بالمدعى وتمت الْولَايَة للشريف زيد وَكَانَ عادلاً مشفقاً على الرّعية وأزال فِي زَمَانه كثيرا من الْمُنْكَرَات وأبطل مَا خَالف الْكتاب وَالسّنة وَأمنت
فِي أَيَّامه الرعايا وَعمر عمائر مستحسنة من جُمْلَتهَا سَبِيل وحنفية بِمَكَّة وَفِي تَارِيخه يَقُول القَاضِي تَاج الدّين الْمَالِكِي
(لله تأسيس نما خَيره
…
وفاز بالتطهير من أمّ لَهُ)
(بِهِ سَبِيل وحنيفية
…
وسلسسبيل فارتشف سلسله)
(لَهُ نبا فِي الْفَيْض مهما روى
…
حَدِيثه أروى بِمَا سلسله)
(سَالَتْ عطاياه لجيناً فَمن
…
رام نداه نَالَ مَا أمّله)
(وَحَيْثُ لم يكتف سُؤَاله
…
فَلَا يكف الْبَذْل أَن أرْسلهُ)
(لأنّ من أسس بُنْيَانه
…
غيث الورى فِي السّنة الممحلة)
(من نَفسه يَوْم عطاه ترى
…
أَن وهب الدُّنْيَا فقد قلله)
(توجّه الله بتاج زها
…
بجوهر الْمجد الَّذِي كلله)
(وَالله من وافر إحسانه
…
أجْرى لَهُ الْأجر الَّذِي أجزله)
(فَإِن تسل عَن ضبط تَارِيخه
…
فَخذ جَوَابا يُوضح المسئله)
(أسسه سُلْطَان أم الْقرى
…
زيد يَدُوم والعز والسعد لَهُ)
وَفِي أَيَّامه وَقع بِمَكَّة سيل مرَّتَيْنِ مرّة فِي لَيْلَة الْأَرْبَعَاء لثلاث عشرَة بَقينَ من شَوَّال سنة خمس وَخمسين وَألف وَخرب دوراً وأبنية وَدخل الْمَسْجِد الْحَرَام وَعلا على عتبَة بَاب الْكَعْبَة مِقْدَار ذِرَاع وأتلف مَا فِي قبَّة الفراشين من الْمَصَاحِف والرباع والكتب وامتلأ الْمَسْجِد بِالتُّرَابِ والقمامات فتصدى الشريف زيد ونادى على الْعَامَّة بتنظيف الْمَسْجِد وَحضر بِنَفسِهِ وساعده شيخ الْحرم الْأَمِير مصطفى صَاحب جدة وبذل من مَاله مَالا جزيلاً وَاسْتمرّ الْعَمَل فِيهِ إِلَى النّصْف من ذِي الْقعدَة فتم تنظيفه من سَائِر جهاته وَمرَّة فِي يَوْم السبت بعد الظّهْر سَابِع شعْبَان سنة أَربع وَسبعين وَكَانَ حصل مطر شَدِيد وسالت أَوديَة مَكَّة وَأخذ السَّيْل جملَة من الْأَبْنِيَة والعشش والدور وَزَاد المَاء فِي الرّفْعَة والعلو وَكلما مر على حَيَوَان أَو عشة حمله واقتلع مَا مر عَلَيْهِ من خيمة أَو مَكَان وَلما وصل بَاب أجياد تمانع هُوَ وسيل أجياد فِي السّير فغلب سيل أجياد وَدخل من سَائِر الْأَبْوَاب فَامْتَلَأَ صحن الْمَسْجِد وَاسْتمرّ الْمَطَر نَحْو ثَلَاثِينَ دَرَجَة وَبلغ قفل الْكَعْبَة وأتلف مَا فِي خلْوَة الفراشين وَمَا فِي الخلاوي الْقَرِيبَة من الْمَسْجِد من الْمَصَاحِف والكتب وامتلأ الْمَسْجِد من التُّرَاب والقمامات وأتلف أَمْوَالًا كَثِيرَة فِي الْبيُوت الْقَرِيبَة من المجرى وَخرب دوراً كَثِيرَة وغرق
فِيهِ سِتَّة أنفس وتعطل الْمَسْجِد عَن الْأَذَان وَالْجَمَاعَة فِي خَمْسَة أَوْقَات من الظّهْر فتقيد الشريف زيد فِي تنظيف الْمَسْجِد وَحضر بِنَفسِهِ ونادى على الْعَامَّة وَكَذَلِكَ صَاحب جدة الْأَمِير سُلَيْمَان وَهُوَ يَوْمئِذٍ شيخ الْحرم الْمَكِّيّ وَعمل الْعلمَاء والمدرسون والخطباء والأشراف بِأَيْدِيهِم وبذل الشريف والأمير مَالا جزيلاً وأعملوا همتهم فتم تنظيفه فِي سَبْعَة أَيَّام وَكَانَ مسعوداً فِي سَائِر حركاته وَلم يَقْصِدهُ أَرْكَان الدولة بِسوء إِلَّا خيبهم الله تَعَالَى وَاتفقَ فِي زَمَانه أَن صَاحب جدة الْأَمِير مصطفى عظمت شوكته ونفذت كَلمته وَظَهَرت مِنْهُ أطوار لَا تلِيق بشأن الشريف زيد وَلم يزل كَذَلِك والشريف صابر عَلَيْهِ حَتَّى كَانَ أَوَائِل سنة سبع وَخمسين طلع الْأَمِير الْمَذْكُور إِلَى الطَّائِف للزيارة وطلع مَعَه بشير الحبشي غُلَام السُّلْطَان مُرَاد وَهَذَا فِي مَجِيئه الثَّانِي مُتَوَلِّيًا مشيخة الْحرم النَّبَوِيّ فَأَقَامَ مَا شَاءَ الله أَن يُقيم فَلَمَّا أَن كَانَ نازلاً إِلَى مَكَّة طالعاً فِي الْمحل الَّذِي يُقَال لَهُ النقب الْأَحْمَر وَجه جبر كرا مِمَّا يَلِي الطَّائِف وَقد تَفَرَّقت عساكره خلفا وأماماً وَلم يبْق مَعَه سوى السايس وحامل كوز المَاء اعْتَرَضَهُ رجل عَرَبِيّ كَانَ يتعهده بِالْإِحْسَانِ يُقَال لَهُ الْجَعْفَرِي فَضَربهُ وَهُوَ متجرد للْإِحْرَام بجنبية أنفذها إِلَى أحشائه وَذهب فَلم يدر مَحَله قيل أَن السايس أَرَادَ ضرب الْقَاتِل فَوَقع السَّيْف فِي مُؤخر الحصان فقمص فَسقط عَنهُ الْأَمِير فتلاحقت العساكر فَلم يلبث إِلَّا نَحْو ساعتين وَتُوفِّي وَكَانَ قَتله يَوْم التَّاسِع وَالْعِشْرين من جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة وَأدْخل إِلَى مَكَّة فِي التخت قَتِيلا غرَّة رَجَب مِنْهَا وَدفن بالمعلاة أَمَام قبَّة السيدة خَدِيجَة وَكَانَ الشريف زيد فِي تِلْكَ السّنة قد توجه إِلَى جِهَة الشرق فأبعد حَتَّى وصل قَرِيبا من الخرج وَكَانَ الْقَائِم مقَامه لحفظ مَكَّة السَّيِّد إِبْرَاهِيم بن مُحَمَّد بن عبد الله بن حسن بن أبي نمى فاستدنى السَّيِّد إِبْرَاهِيم غَالب عَسْكَر الْأَمِير وأنزلهم فِي مَحل يسعهم بأجياد وأجرى عَلَيْهِم العلوفات وَأمر كتخدا الْعَسْكَر دلاور بالنزول لجدة لحفظ البندر فَامْتنعَ ثمَّ بعد لَيَال نزل دلاور بعد هزيع من اللَّيْل قَاصِدا جدة خلسة فشعر بِهِ السَّيِّد إِبْرَاهِيم وأرصد لَهُ جمَاعَة فمسكوه وَأتوا بِهِ إِلَيْهِ فحبسه ثمَّ اختلس بعض الْعَسْكَر نَفسه وَذهب إِلَى بشير بِالطَّائِف وَأخْبرهُ بِمَا وَقع فَأتى بشير إِلَى مَكَّة وَنزل بمدرسة بهْرَام بالمسعى فتردد السَّيِّد إِبْرَاهِيم فِي الذّهاب إِلَيْهِ وَعَدَمه لاخْتِلَاف المشير ثمَّ جزم فَتَلقاهُ بِمَا هُوَ الْوَاجِب ثمَّ قَالَ لَهُ بعد اسْتِقْرَار الْمجْلس لم حبس دلاور فَقَالَ حَبسته خشيَة إضراره فَإنَّا ألزمناه مرَارًا
بالذهاب إِلَى جدة فَامْتنعَ فارتبنا بذهابه خُفْيَة فَقَالَ بشيراً طلقه فَقَالَ لَا أطلقهُ حى يصل الشريف زيد ثمَّ قَامَ السَّيِّد إِبْرَاهِيم فَلَمَّا كَانَ الْيَوْم الثَّانِي نزل بشير إِلَى القَاضِي واستدعى السَّيِّد إِبْرَاهِيم فَحكم عَلَيْهِ بِإِطْلَاقِهِ فَأَطْلقهُ ثمَّ بعد يَوْمَانِ عزم السَّيِّد إِبْرَهِيمُ والقائد رشيد حَاكم مَكَّة إِلَى نَحْو بركَة ماجن للتنزه فاستجر بشير الْعَسْكَر وَوَعدهمْ فحملوا أثقالهم وأدخلوها من بَاب الْمَسْجِد وَخَرجُوا بهَا من بَاب ابْن عَتيق ثمَّ خَرجُوا بعد الْعَصْر حازبين مارين على دَار السَّعَادَة ثمَّ على السُّوق ثمَّ على سويقة إِلَى أَن وصلوا إِلَى بَيت بشير وَكَانَ نازلاً بالباسطية فوصل الْخَبَر للسَّيِّد إِبْرَاهِيم فجَاء إِلَى الْبَلَد وَقَالَ لبشير مَا هَذَا الْفِعْل فَقَالَ بشير مجالسه نعم عَسْكَر السُّلْطَان لَهُم فِي التربية أَعْوَام فتأخذهم فِي خَمْسَة أَيَّام وَكَانَ فِي عَسْكَرهمْ شخص كثير الْفساد فَأمر السَّيِّد إِبْرَاهِيم بقتْله أَيْنَمَا وجد فَوجدَ سكراناً على الخريق فتناوله عَسْكَر الشريف فقطعوه فثارت الْفِتْنَة وترامت العسكران بالرصاص وَقتل شخص من النَّاس خلف الْمقَام الْمَالِكِي وَقتل كتخذا بشير وَلم يزل مطروحاً عِنْد بَاب ابْن عَتيق من دَاخل الْمَسْجِد إِلَى اللَّيْل حَتَّى رَفعه بعض النَّاس ثمَّ سعى القَاضِي أَحْمد قره باش وَغَيره بِالصُّلْحِ وَأَن لَا يصل أحد إِلَى أحد بِسوء من الْجَانِبَيْنِ وَلَا تخرج جمَاعَة بشير إِلَى السُّوق إِلَّا ثَلَاثَة أشخاص معينون لقَضَاء حَوَائِجه من السُّوق وسكنت الْفِتْنَة حَتَّى وصل الشريف زيد إِلَى مَكَّة فَاسْتحْسن جَمِيع مَا فعله السَّيِّد إِبْرَهِيمُ ثمَّ ظفر الله تَعَالَى الشريف زيدا على الْجَمِيع وَنَصره عَلَيْهِم وَمِمَّا اتّفق لَهُ أَنه زار النَّبِي
عَام تسع وَخمسين وَكَانَ دُخُوله إِلَى الْمَدِينَة من شعْبَان فَنزل بالقاضية خَارج السُّور ثمَّ فِي فجر الْيَوْم الْعَاشِر من الشَّهْر الْمَذْكُور نزل القَاضِي زفر قَاضِي الْمَدِينَة إِذْ ذَاك رَاكِبًا وَمَعَهُ ثَلَاثَة من الخدام فَلَمَّا كَانَ عِنْد الدفتر داريه وَثَبت عَلَيْهِ شخص فَضَربهُ بِالْحَدِّ فِي ظَهره وضربة أنفذها من صَدره فأكب على قربوس الْفرس وَلم تزل دَاخِلَة بِهِ إِلَى محراب سيدنَا عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه وَإِمَام الشَّافِعِيَّة قَائِم يُصَلِّي الْفجْر فَقَامَ بعض النَّاس إِلَيْهِ وأنزلوه بآخر رَمق وَهُوَ يَقُول يَا رَسُول الله يَا رَسُول الله وضع إِمَام الْوَجْه الشريف فَبعد لَحْظَة قضى عَلَيْهِ فحشدت عَسَاكِر الْمَدِينَة واجتمعوا وَأَغْلقُوا أَبْوَاب الْمَدِينَة وَتَفَرَّقُوا فِي نَوَاحِيهَا وأسوارها ووجهوا المدافع إِلَى جِهَة الشريف وَنَادَوْا اخْرُج عَنَّا الْآن وبدا مِنْهُم مَا لَا يَلِيق فَلم يزل الشريف بهم حَتَّى أعمل الْحِيلَة وَدخل من بَاب هُوَ وعسكر بعد
أَن نصب قَاضِيا واستدعى وُجُوههم لينْظر فِي قتلة القَاضِي ويبحث عَنْهُم فَأتوا إِلَيْهِ ثمَّ لم يزل يقبضهم وَاحِدًا بعد وَاحِد ففك بَعضهم بشفاعة وَذهب بالباقين مقيدين وأمربإبقاء بَعضهم فِي يَنْبع فاستمروا إِلَى مَجِيء الْحَاج فاستشفعوا بأميره فَأتى بهم إِلَى مَكَّة متشفعاً فيهم فَقبل الشريف شَفَاعَته وَعَفا عَنْهُم ثمَّ لم نزل بعد سفر الْحَاج قيطاس أَمِير جدة من مَكَّة إِلَى جدة مغاضباً للشريف زيد نزلُوا مَعَه وَكَتَبُوا أنفسهم من عسكره وَسبب غَضَبه الناشىء عَن الْحَرْب الْآتِي ذكره فِي سنة سِتِّينَ وَألف أُمُور مِنْهَا أَنه ورد إِلَى مَكَّة بعض تجار من الصعائدة وشخص عجمي يُسمى أَسد خَان من جِهَة الْيمن بِتِجَارَة ونزلوا من الْبَحْر إِلَى بندر القنفدة ووصلوا إِلَى مَكَّة وَلم يدخلُوا بندر جدة وَكَانَ قيطاس بِمَكَّة وَقد وصل لِلْحَجِّ فاحتال على الصعيدي وحبسه وَكَانَ الصعيدي ملتجئاً إِلَى السَّيِّد هَاشم بن عبد الله فألزم الشريف زيدا باطلاقه فوعده ثمَّ أَخَذته الحمية فَركب إِلَى الشريف ثَانِيًا ثمَّ نزل من عِنْده قَاصِدا بَيت قيطاس لفك الرجل من الْحَبْس فَنَادَى الشريف وَهُوَ قَائِم من روشته وَرَاء الرجل فَلَمَّا أقبل على بَيت قيطاس وجد الْمَحْبُوس مُنْطَلقًا فَرجع بِهِ وَمِنْهَا انجاء أُولَئِكَ النَّفر من عَسْكَر الْمَدِينَة ونسبتهم قتل القَاضِي إِلَيْهِ وَمِنْهَا تردد السَّيِّد عبد الْعَزِيز بن ادريس إِلَيْهِ ومواطأته وعده اسعافه بِمَا يأبي الله الا خلَافَة فَقبل أَن يُسَافر الْحَاج من مَكَّة نزل قيطاس للسَّيِّد عبد الْعَزِيز إِلَى مَكَّة وَنُودِيَ لَهُ بالبلاد وَأقَام حَاكما فِيهَا نَاصِر ابْن سعيد عَتيق مصطفى السيورى وأجرى الاحكام العجرفيه وَظن أَنَّهَا تكون أحمدية وَأَقْبل قيطاس وَمَعَهُ السَّيِّد الْمَذْكُور بِمن مَعَه وَمن اجْتمع عَلَيْهِ من عَسْكَر الْمَدِينَة وَخرج الشريف زيد وَكَانَ الْموقف فَوق التَّنْعِيم وَكَانَ السَّيِّد أَحْمد بن مُحَمَّد الْحَرْث مُتَقَدما فِي الميمنة بجماعته وَمن يَلِيهِ وَكَانَ فِي الميسرة كَذَلِك مُتَقَدما قَلِيلا السَّيِّد مبارك ابْن شبير بجماعته وَمن يَلِيهِ والشريف زيد بِمن مَعَه فِي الْقلب والعروج مَلَأت السهول والوعور وتراموا بالرصاص والمدافع وَكلما هم الاشراف بِالْجُمْلَةِ يَقُول لَهُم الشريف زيد مَعكُمْ مَعكُمْ كِنَايَة عَن التثبت والتأني وارتفع النَّهَار وحميت الشَّمْس فركض من الاشراف جمَاعَة مِنْهُم السَّيِّد وبيربن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم وَالسَّيِّد بشر بن سُلَيْمَان وَالسَّيِّد أَبُو الْقَاسِم فأصيب السَّيِّد وبير بالبندق فَسقط بَين الجمعين وَأُصِيب جمَاعَة من الْجَانِبَيْنِ وَحين اشْتَدَّ الْحَال على السَّيِّد عبد الْعَزِيز وَمن مَعَه فر إِلَى جمع السَّيِّد مبارك ابْن شبير دَاخِلا عَلَيْهِ
طَالبا الْأمان لَهُ ولقيطاس وَمن مَعَه من الشريف زيد فجَاء بِهِ إِلَى الشريف زيد فآمنه وَوَقع الصُّلْح ونصبت للشريف خيمة فَنزل بهَا يستظل وَسَأَلَ السَّيِّد عبد الْعَزِيز من الشريف زيد أَن يُوصل قيطاس إِلَى مأمنه لِأَنَّهُ أشْفق من نهب العربان لَهُ فأصحبه الشريف خمسين رجلا من الْعَسْكَر فَذهب إِلَى جدة رَاجعا خائباً وَجَاء بعد أشهر عَزله فَذهب إِلَى يَنْبع وواجه الْحَاج وَبهَا وَمكث بهَا إِلَى عود الْحَاج من مَكَّة إِلَيْهَا فَتوجه مَعَهم إِلَى مصر وَتوجه مَعَه السَّيِّد عبد الْعَزِيز فاستمر قيطاس بِمصْر سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَجَاء فِي موسمها أَمِير الْحَاج الْمصْرِيّ فَلَمَّا خرج الشريف زيد لملاقاته للخلعة السُّلْطَانِيَّة على الْعَادة لم يكن بَينهمَا مناكبة على الْمُعْتَاد بل مد لَهُ الشريف يَده فصافحها وَمن عامئذ تركت مناكبة شرِيف مَكَّة لأمراء الحجيج وَبَالغ الْأَمِير فِي تَعْظِيم الشريف وَلم يظفر عَلَيْهِ فِي أمرما وَأقَام السَّيِّد عبد الْعَزِيز بِمصْر نَحْو سنتَيْن ثمَّ جَاءَ خبر وَفَاته فِي السّنة الثَّالِثَة شَهِيدا بالطاعون وانْتهى وَبِالْجُمْلَةِ فأحوال الشريف زيد طَوِيلَة وأخباره كَثِيرَة وَلَو بسط القَوْل فِي وقائعه وغزواته وسعوداته وموافقات الأقدار لمراداته لطال الْكَلَام وَقد مدح بالقصائد الطنانة النفيسة وقصدته الشُّعَرَاء من الْبِلَاد الْبَعِيدَة فَمن وَفد إِلَيْهِم مِنْهُم ومدحه بالقصيدة الفائقة فِي بَابهَا السَّيِّد أَحْمد الأنسي اليمني ومستهل قصيدته
(سلوا آل نعم بَعدنَا أَيهَا السّفر
…
أعندهم علم بِمَا صيع الدَّهْر)
(تصدى لشت الشمل بيني وَبَينهَا
…
فنزلها البطحا ومنزلي الْقصر)
(رَآنِي وَنِعما لاهيين فغالنا
…
فشلت يَد الدَّهْر الخؤن وَلَا عذر)
(فوَاللَّه مَا مكر الْعَدو كمكره
…
وَلَكِن مكراً صاغه فَهُوَ الْمَكْر)
(فقولا لأحداث اللَّيَالِي تمهلى
…
وَيَا أيهذا الدَّهْر موعدك الْحَشْر)
(سَلام على ذَاك الزَّمَان وطيبه
…
وعيش تفضى لي وَمَا نبت الشّعْر)
(فَتلك الرياض الباسمات كَأَنَّمَا
…
عواتقها من سندس حلل خضر)
(تنضد فِيهَا الأقحوان ونرجس
…
كأعين نعم إِذْ يقابلها الثغر)
(كَأَن غصون الْورْد قضب زبرجد
…
تخال من الْيَاقُوت أعلامها الْحمر)
(إِذا خطرت فِي الرَّوْض نعم عَشِيَّة
…
تفاوح من فضلات أردانها الْعطر)
(وَإِن سحبت أذيالها خلت حَيَّة
…
إِلَى المَاء تسْعَى مَالا خمصها أثر)
(كساها الْجمال اليوسفي ملابسا
…
فأهون ملبوس لَهَا التيه وَالْكبر)
(فكم تخجل الأغصان مِنْهَا إِذا انْثَنَتْ
…
وتغضى حَيَاء من لواحظها البتر)
(لَهَا طرة تكسو الظلام دياجياً
…
على غرَّة إِن أسفرت طلع الْفجْر)
(وجيد من البلور أَبيض ناعم
…
كعنق غزال قد تكنفها الذعر)
(وَنحر يَقُول الدّرّ أَن بِهِ غنى
…
عَن الحلى لَكِن بِي إِلَى مثله نقر)
(وحقان كالكافور ناف علاهما
…
من الند مِثْقَال فندبه الصَّبْر)
(رويدك يَا كافور إِن قُلُوبنَا
…
ضِعَاف وَمَا كل الْبِلَاد هِيَ الْمصر)
(بدا الْقد غصنا باسقا متأودا
…
على تقوى رمل يطوف بِهِ نهر)
(يكَاد يدق الخصر من هيف بِهِ
…
روادفها لَوْلَا الثقافة والخصر)
(لَهَا بشر مثل الْحَرِير ومنطق
…
رخيم الْحَوَاشِي لَا هراء وَلَا نزر)
(رأتني سقيمانا حلا والها بهَا
…
فأدنت لَهَا عود أناملها الْعشْر)
(وغنت بِبَيْت يلبث الركب عِنْده
…
حيارى بِصَوْت عِنْده يرقص الْبر)
(إِذا كنت مطبوباً فَلَا زلت هَكَذَا
…
وَإِن كنت مسحوراً أَفلا برىء السحر)
(فَقلت لَهَا وَالله يَا ابْنة مَالك
…
لما شفني إِلَّا القطيعة والهجر)
(رمتني الْعُيُون البابليات أسهما
…
فأقصدني مِنْهَا سهامكم الْحمر)
(فَقَالَت وَأَلْقَتْ فِي الحشا من كَلَامهَا
…
تأجج نَار أَنْت من ملكنا حر)
(فوَاللَّه مَا أنسى وَقد بكرت لنا
…
بإبريقها تسْعَى بِهِ القنة الْبكر)
(تَدور بكاسات الْعقار كأنجم
…
إِذا طلعت من برجها أفل الْبَدْر)
(نداماي نعم والرباب وَزَيْنَب
…
ثَلَاث شخوص بَيْننَا النّظم والنثر)
(على الناي وَالْعود الرخيم وقهوة
…
يذكرهَا ذَنبا لأقدامنا الْعَصْر)
(فتقتص من ألبابنا وعقولنا
…
فَلم ندر هَل ذَاك النعاس أم السكر)
(مُعتقة من عهد عَاد وجرهم
…
ومودعها الأدنان لُقْمَان والنسر)
(مشعشعة صفراً كَأَن حبابها
…
على فرش من عسجد ينثر الدّرّ)
(إِذا أفرغت فِي الكاس نعم وَأُخْتهَا
…
تشابه من ثغريهما الرِّيق وَالْخمر)
(خلا أَن ريق الثغر أشفى لمهجتي
…
إِذا ذاقه قلبِي الشجي برد الْجَمْر)
(وأنفع درياق لمن قتل الْهوى
…
فهات ارتشاف الثغران سمح الثغر)
(بِهَذَا عرفنَا الْفرق مَا بَين كأسها
…
وَبَين مدام الظُّلم إِن أشكل الْأَمر)
(فوَاللَّه مَا أسلو هَواهَا على النَّوَى
…
بلَى إِن سلا بذل الندى الْملك لقسر)
(أَبُو حسن زيد الْمَعَالِي والتقى
…
لَهُ دون أَمْلَاك الورى الْمجد وَالْفَخْر)
(إِذا مَا مَشى بَين الصُّفُوف تزلزلت
…
لهيبته الْأَمْلَاك والعسكر المجر)
(وترجف ذَات الصدع خوفًا لِبَأْسِهِ
…
فتندك أطواد الممالك والقفر)
(فَلَو قَالَ للبحر المحي أئت طَائِعا
…
أَتَاهُ بِإِذن الله فِي السَّاعَة الْبَحْر)
(كريم مَتى تنزل بأعتاب دَاره
…
تَجِد ملكا يزهو بِهِ النهى وَالْأَمر)
(تَجِد ملكا يُغني الْوُفُود وينجز الوعود
…
وَأدنى بذله الدهم والشقر)
(على جوده من وَجهه وَلسَانه
…
دليلان للوفد البشاشة والبشر)
(فَمَا أحنف حلماً وَمَا حَاتِم بِذِي
…
وَمَا عنتر يَوْم الْحَقِيقَة مَا عَمْرو)
(هُوَ الْملك الضَّحَّاك يَوْم نزاله
…
إِذا مَا الجبان الْوَجْه قطبه السكر)
(لقد قر طرف الدَّهْر مِنْهُ لِأَنَّهُ
…
لَدَيْهِ النوال الحلو والقضب المر)
(حَيَاة وَمَوْت للموالي وللعدا
…
لقد جمعا فِي كَفه الْجَبْر وَالْكَسْر)
(أنخ عِنْده يَا طَالب الرزق فَالَّذِي
…
حواه أنوشر وَإِن فِي عينه النزر)
(وَلَا تصغ للعذال أذناوان وفوا
…
بأحسابهم مِنْهُم فَمَا العَبْد وَالْحر)
(وَهل يَسْتَوِي عذب فرات مروق
…
وملح أجاج لَا وَلَا التِّبْن والتبر)
(فَلَو سَمِعت أذن العداة لمجده
…
مزاياه لاستحيت وَلَكِن بهَا وقر)
(مليك إِلَيْهِ الِانْتِهَاء وَقَيْصَر
…
يقصر عَنهُ بل وكسرى بِهِ كسر)
(مليك لَهُ عِنْد الاله مكانة
…
تبوأها من قبله الْيَأْس وَالْخضر)
(مليك لَهُ سر خَفِي كَأَنَّمَا يناجيه بِالْغَيْبِ ابْن دَاوُد والحبر
…
)
(فَإِن كذبُوا أَعدَاء زيد فحسبه
…
من الشَّاهِد المقبول قصَّته الْبكر)
(ليَالِي إِذْ جَاءَ الخصى وَأَكْثرُوا
…
أقاويل غي ضَاقَ ذرعا بهَا الصَّدْر)
(فأيقظه من نَومه بعد هجعة
…
من اللَّيْل بَيت زَاد فخراً بِهِ الشّعْر)
(كَأَن لم يكن أَمر وَإِن كَانَ كَائِن
…
لَكَانَ بِهِ أَمر نفا ذَلِك الْأَمر)
(وَفِي طي هَذَا عِبْرَة لَا ولى النهى
…
وذكرى لمن كَانَت لَهُ فطنة نفر)
(فيا زيد قل للحاسدين تحفظُوا
…
بغيظكم أَن لَا يطيعكم الصَّبْر)
(فجدي كَمَا قد تعلمُونَ مؤثل
…
وكل حمام الْبر يقنصها الصَّقْر)
(من الْقَوْم أَرْبَاب المكارم والعلى
…
ميامين فِي أَيْديهم الْعسر واليسر)
(مساميح فِي الأولى مصابيح فِي الدجى
…
تصالح فِي معناهم الْخَيْر وَالشَّر)
(أسنتهم فِي كل شَرق ومغرب
…
إِذا وَردت زرق وَإِن صدرت حمر)
(مساعير حَرْب والقنا متشاجر
…
وَيَوْم الندى تبدو حجاججة غر)
(وليدهم دَان الْمُلُوك لأَمره
…
تَقول لبدر التم مَا أنصف الشَّهْر)
(بنى حسن لَا أبعد الله داركم
…
وَلَا زَالَ منهلاً بأرجائها الْقطر)
(وَلَا زَالَ صدر الدست منشر حابكم
…
فعنكم وُلَاة الْبَيْت ينشرح الصَّدْر)
(وَصلى على الْمُخْتَار والآل رَبنَا
…
وَسلم مَا لَاحَ السما كَانَ والنسر)
قلت وَهَذِه قصيدة معمورة وَقد ذكرهَا ابْن مَعْصُوم فِي تَرْجَمَة الأنسي فَقَالَ أجَازه الشريف زيد عَلَيْهَا جَائِزَة سنية النّيل قلت كَانَت الْجَائِزَة على مَا سمعته ألف ذهب وعبداً وفرسا وَالذَّهَب الْوَاحِد عِنْدهم بِمَثَابَة ثلث القرش فِي بِلَادنَا وَقعد تعقبها ابْن مَعْصُوم وَأَنا قد ذكرت فِي النفحة أجوبة التعقبات الَّتِي تعقبها فَارْجِع إِلَيْهَا ثمَّة وَقَول الأنسي فِيهَا
(كَأَن لم يكن أَمر وَإِن كَانَ كَائِن
…
لَكَانَ بِهِ أَمر نفى ذَلِك الْأَمر)
لهَذَا الْبَيْت قصَّة محلهَا هُنَا وَهُوَ أَنه لما كَانَ أثْنَاء سنة تسع وَأَرْبَعين وَألف وصل بشير الحبشي الطواشي الْمَار الذّكر فِي قدمة أولى لَهُ إِلَى مَكَّة وَمَعَهُ أوَامِر سلطانية من السُّلْطَان مُرَاد بِأَنَّهُ مُطلق التَّصَرُّف وَكَانَ فِي ظَنّه أَن يعْزل الشريف زيدا من منصبه ويولى غَيره فورد الْخَبَر بوفاة السُّلْطَان مُرَاد فشاع الْخَبَر بينبع ثمَّ كتمه بشير ليتم لَهُ مَا أَرَادَ وَكَانَ الشريف زيد هيأ لبشير عدَّة أَمَاكِن من الْمدَارِس والبيوت وَأمر بفرشها وَكَانَ نِيَّته مواجهته إِلَى مر وَأرْسل بعض خُدَّامه لينبع ليرى من مَعَ بشير من الْخَيل وَالرِّجَال فَلَمَّا وصل إِلَيْهَا سمع هَذَا الْخَبَر وتحققه فَرجع مسرعاً مجداً إِلَى الشريف زيد فَلَمَّا تحقق صِحَة الْخَبَر أَمر بتحويل الْفرش الَّتِي فرشت فِي تِلْكَ الْأَمَاكِن وغلق بَعْضهَا ثمَّ لما قَارب بشير مَكَّة خرج إِلَيْهِ الشريف زيد ولاقاه فِي سَبِيل الجوخى مَحل ملاقاة أَمِير الْحَاج فَلَمَّا قابله وَفِي ظن بشير أَن الْخَبَر لم يبلغهُ وَأَنه يتم لَهُ مَا أَرَادَ فَلَمَّا تقاربا ركض الشريف زيد بفرسه مُقبلا على بشير قَائِلا لَهُ رحم الله مَوْلَانَا السُّلْطَان مُرَاد فأسقط فِي يَد بشير وَبَقِي كالأسير وَكَانَ الشريف زيد قد رأى فِي الْمَنَام كَأَن شخصا ينشده هَذَا الْبَيْت كَانَ لم يكن إِلَى آخر الْبَيْت فانتبه وَكتبه بِالسِّوَاكِ على رمل فِي صحن نُحَاس خشيَة النسْيَان وَكَانَت هَذِه الرُّؤْيَا فِي اللَّيْلَة الَّتِي أَسْفر صياحها عَن هَذَا الْخَبَر فنظم السَّيِّد أَحْمد صَاحب التَّرْجَمَة هَذِه القصيدة
وأدرج فِيهَا هَذَا الْبَيْت انْتهى وَكَانَت وَفَاة الشريف زيد فِي يَوْم الثلاثا لثلاث خلون من محرم سنة سبع وَسبعين وَألف وَدفن بالمعلاة فِي قبَّة عَم وَالِده الشريف أبي طَالب وأسف النَّاس عيه وَقَامَ بعده أَصْغَر أَوْلَاده الشريف سعد كَمَا ذكرنَا ذَلِك مفصلا فِي تَرْجَمَة الشريف بَرَكَات فَلَا حَاجَة إِلَى الْإِعَادَة وَكَانَت مُدَّة ولَايَة صَاحب التَّرْجَمَة خمْسا وَثَلَاثِينَ سنة وشهراً وأياماً وَكَانَ متخلقا بالأخلاق الحميدة متصفاً بِالصِّفَاتِ الجميلة كثير الْحلم وَالصَّبْر والشفقة وَلم يضْبط عَلَيْهِ أَنه قتل شخصا بِغَيْر حق فِي هَذِه الْمدَّة وَكَانَت الأقطار فِي زَمَنه آمِنَة مطمئنة وَكَانَ أهل مَكَّة ينذرون لَهُ النذور يأْتونَ بهَا إِلَيْهِ خُصُوصا بعد وَفَاته فَإِن العقيدة فِيهِ أَكثر وَظهر أمره فِي الْعَالم وَقد رَآهُ بعض الصَّالِحين الثِّقَات فِي الْمَنَام بعد وَفَاته وَهُوَ قَائِم على بعض آبار مَكَّة وَبِيَدِهِ دلو عَظِيم يملؤه من تِلْكَ الْبِئْر ويصبه فِي الأَرْض فَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي مَا هَذَا أَنا أَحَق بِهِ مِنْك فَقَالَ لَهُ مَا تقدر على ذَلِك أما ترى إِلَى هَذِه النَّار وَأَنا أطفيها وَرَآهُ بَعضهم أَيْضا فِي بُسْتَان كَبِير وَهُوَ جَالس متكىء وأمامه من الْجِهَة الْأُخْرَى بَحر عَظِيم وَهُوَ فِي غَايَة الصِّحَّة فَتقدم إِلَيْهِ وَقبل يَدَيْهِ وَقَالَ لَهُ يَا سَيِّدي خاطرك مَعَ أولادك وَمَعَ الرّعية فَقَالَ لَهُ أما أَوْلَادِي فَالله وَرَسُوله مَعَهم وَمَا كَانَ من الرّعية فهم راضون عَنْهُم وَكَانَ لَهُ من الْوَلَد سَبْعَة من الذُّكُور أَحْمد وحسين وناصر مَاتُوا فِي حَيَاته وَورثه أَرْبَعَة حسن وَمُحَمّد يحيى وَأحمد وَسعد مرتبتهم فِي السن كرتبتهم فِي الذّكر وَمن الاناث عدَّة وأرخ وَفَاته الشَّيْخ أَحْمد بن أبي الْقَاسِم الحلى بقوله
(مَاتَ كَهْف الورى مليك مُلُوك
…
الأَرْض من لم يزل مدى الدَّهْر محسن)
(فالمعالي قَالَت لنا أرخوه
…
قد ثوى فِي الْجنان زيد بن محسن)
زين بن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن عبد الله بن مُحَمَّد الْمَعْرُوف بِجعْل اللَّيْل صَاحب الْمَدِينَة المنورة أحد الْمَشَاهِير بِالْكَرمِ والباع الطَّوِيل فِي الْمعرفَة وَالْيَقِين ولد بِمَدِينَة روغة وَنَشَأ بهَا ورباه جده السَّيِّد الْكَبِير عقيل بن مُحَمَّد باحسن وألزمه أحسن الطَّرِيقَة وَصَحب الْعلمَاء وغاص مَعَهم ثمَّ رَحل إِلَى تريم وَأخذ عَن جمَاعَة ثمَّ ارتحل إِلَى الديار الْهِنْدِيَّة فَدخل بندر سورت وَأخذ بِهِ عَن شمس الشموس مُحَمَّد ابْن عبد الله العيدروس ثمَّ حج سنة سبع عشرَة بعد الْألف وَعَاد إِلَى تِلْكَ الديار ثمَّ لما مَاتَ شَيْخه العيدروس اجْتمع هُوَ بالوزير الْأَشْهر الْملك عنبر فقابله بالاكرام وحظى عِنْده كثيرا وأحبه بعض الوزراء ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْحَرَمَيْنِ وَصَحب بهما جمَاعَة وَأخذ
عَنهُ جمَاعَة وَطَابَتْ لَهُ طيبَة فاستوطنها ودانت لَهُ أهاليها وَكَانَ حسن الْأَخْلَاق معرضًا عَن الاكتراث بمفاخر الدُّنْيَا حَلِيمًا إِلَى الْغَايَة أجمع أَصْحَابه أَنه لم يغْضب وَلَا دَعَا على أحد وَإِن تكلم فِيهِ بقدح أَو سبه وَمِمَّا يحْكى عَنهُ أَنه كَانَ عَادَته الِاغْتِسَال للصبح كل يَوْم من إبريق معد لذَلِك فاتفق أَنه كثر فِي بعض اللَّيَالِي مرق العشاق فطرحه غُلَامه فِي ذَلِك الإبريق فَلَمَّا أصبح نَاوَلَهُ الإبريق فاغتسل بِهِ فَسَأَلَهُ عَن ذَلِك فَقَالَ الْغُلَام أَنا الَّذِي طرحته فِي الإبريق فَلم يغْضب وَلم يُعَاقب الْغُلَام وَكَانَ كثير الْبَذْل والولائم وَكَانَ لَا يتَمَيَّز بِشَيْء عَن ضيفانه ويساوي نَفسه بخدمه وَكَانَ كَثِيرُونَ يحْضرُون وليمته وَلَا يعْرفُونَ صورته وَإِذا اجْتمع الْفُقَرَاء تَحت دَاره قسم الطَّعَام عَلَيْهِم بِيَدِهِ وَلَا يُمكن من ذَلِك أحدا من عبيده وَمن تواضعه أَن جمَاعَة من مشايخه أذنوا لَهُ فِي التَّحْكِيم والالباس فَلم يفعل ذَلِك إِلَّا نَادرا وَبِالْجُمْلَةِ فقد عَمت بركته أهل عصره وَكَانَ مَعَ كَثْرَة مَا يُنْفِقهُ من الْأَمْوَال لَا يعرف لَهُ مَعْلُوم وَلَا جِهَة ظَاهِرَة فَكَانَ ينْفق من الْغَيْب وَكَانَ يتستر بالسلف وَالدّين وَلما سمع ذَلِك بعض وزراء الْهِنْد من محبيه أرسل لَهُ مركبا مشحوناً لقَضَاء الدّين الَّذِي عَلَيْهِ وَوصل الْمركب بندر جدة فَكَانَ فِي يَوْم وُصُوله قد استوفى أَجله فتوفى وَكَانَت وَفَاته فِي سادس ذِي الْقعدَة سنة ثَمَان وَخمسين وَألف وَدفن بِالبَقِيعِ بِالْقربِ من قبه أهل الْبَيْت وقبره مَعْرُوف يزار رَحمَه الله تَعَالَى
زين بن عمر بن عبد الرَّحْمَن بن عَليّ بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله الحديلي بن مُحَمَّد ابْن حسن الطَّوِيل ابْن مُحَمَّد بن عبد الله بن الْفَقِيه أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن بن علوي بن مُحَمَّد صَاحب مرباط اليمني الإِمَام الْعَالم الْعلم أحد فصحاء الْعلمَاء ولد بِمَدِينَة تريم سنة ثَلَاثِينَ وَألف وَحفظ الْقُرْآن والجزرية والعقيدة الغزالية وَالْأَرْبَعِينَ النووية والإرشاد والقطر والملحة وَغير ذَلِك وَكَانَ فِي الْحِفْظ آيَة غَرِيب الضَّبْط للألفاظ قَالَ الشلي فِي تَرْجَمته وَكَانَ رفيقي فِي الطّلب أَخذ الْفِقْه عَن شَيخنَا عبد الله بن أبي بكر الْخَطِيب وَشَيخنَا عبد الله بن زين بافقيه وَأخذ الْعَرَبيَّة عَنْهُم وَقَرَأَ الحَدِيث على شَيخنَا أبي بكر بن عبد الرَّحْمَن بن شهَاب وَشَيخنَا أَحْمد بن عمر البيتي وَلَكِن غلب عَلَيْهِ الْفِقْه وَكَانَ لَهُ عناية تَامَّة بالإرشاد ثمَّ ارتحل إِلَى الْهِنْد وَاجْتمعَ فِيهَا بخال كَانَ لَهُ هُنَاكَ فَأكْرمه وَلما مَاتَ خَاله تَعب تعباً شَدِيدا فِي الغربة فَرجع قَافِلًا إِلَى وَطنه فَلم يجد حَظه فَخرج من ديار حَضرمَوْت إِلَى الْيمن وتدبر بندر المخاو ورد علينا
بِمَكَّة سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَألف فَوَجَدته محافظاً عل الصُّحْبَة وَلم يزل سالكاً سَبِيل النجَاة حَتَّى توفّي بالمخا وَكَانَت وَفَاته فِي سنة تسع وَثَمَانِينَ وَألف رَحمَه الله تَعَالَى
زين بن مُحَمَّد بن عَليّ بن زين بن عَليّ بن علوي خرد ابْن مُحَمَّد حميدان ابْن عبد الرَّحْمَن ابْن مُحَمَّد بن الشَّيْخ الْوَلِيّ عبد الله باعلوي السَّيِّد الامام الْفَاضِل صَاحب الشَّأْن الرفعي ذكره الشلي وَقَالَ فِي تَرْجَمته ولد بتريم وَحفظ الْقُرْآن وَصَحب أكَابِر الْقَوْم مِنْهُم السَّيِّد مُحَمَّد بن عقيل مديحيج وَالسَّيِّد الْكَبِير أَبُو بكر بن على معلم خردو السَّيِّد لكبير عبد الرَّحْمَن بن عقيل السقاف قَرَأَ من الققه ربع الْعِبَادَات واعتنى بِعلم التصوف وَأحكم علم الْبَاطِن والحقائق وَله كَلَام فِي علم الْحَقَائِق وَكَانَ مُنْقَطع القرين فِي الزّهْد ومعاملات الْقُلُوب مجاب الدُّعَاء كَبِيرا لقدر كثيرا الذّكر والفكر كَامِل الْعِنَايَة حسن السمت وافر الْعقل خيرا رَقِيق الْقلب سريع الدمعة مَاشِيا على طَريقَة السّلف من خشونة الْعَيْش واللباس وَترك التَّكَلُّف سليم الصَّدْر حَلِيمًا صبوراً وَأخذ عَنهُ جمَاعَة كَثِيرَة من العارفين وَصَحبه جمع قَالَ وَهُوَ شَيْخي فِي زمن الشَّبَاب وَلم يزل مواظباً على حسن طَرِيقَته إِلَى أَن مَاتَ فِي سنة تسع وَأَرْبَعين وَألف وَدفن بمقبرة زنبل رَحمَه الله تَعَالَى
زين بن مُحَمَّد بن أَحْمد الوترية ابْن عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن عبد الله بن مُحَمَّد بن عبد الله الحديلي وتتمة النّسَب مَذْكُورَة فِي تَرْجَمَة زين بن عمر الْمَذْكُور قبل الَّذِي قبل هَذِه الشَّيْخ الْكَامِل الْفَائِق الْأَوْصَاف ذكره الشلي أَيْضا وَقَالَ فِي تَرْجَمته ولد بتريم وَحفظ الْقُرْآن واشتغل حَتَّى برع فِي علم النَّحْو والتصريف وَأخذ بوطنه عَن خلق كثير من أَجلهم الشَّيْخ الْكَبِير عبد الله بن أَحْمد العيدروس ولازمه حَتَّى تخرج بِهِ وَكَانَ يُحِبهُ ويثني عَلَيْهِ وَصَحب وَالِده مُحَمَّد بن أَحْمد الشلي الْكَبِير وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن السقاف ابْن مُحَمَّد العيدروس وَالشَّيْخ عبد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد إِمَام السقاف ثمَّ رَحل إِلَى كثير من الأقطار وَدخل بندر عدن وَأخذ عَن جمَاعَة من العارفين ورحل إِلَى الوهط وَأخذ عَن الْعَارِف بِاللَّه عبد الله بن عَليّ وَحج وَأخذ بِمَكَّة عَن الزمزمي وَعبد الله بن سعيد باقشير وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن عبد الْمُنعم الطَّائِفِي وَأخذ الطَّرِيقَة عَن الشَّيْخ عبد الْهَادِي باليل وبالمدينة عَن القشاشي وَلبس مِنْهُ الْخِرْقَة وَأخذ عَن الشَّيْخ زين بن عبد الله باحسن وَالشَّيْخ مُحَمَّد بن علوي وَلبس الْخِرْقَة مِنْهُ أَيْضا وَمن الشَّيْخ عبد الله بن أَحْمد العيدروس ورحل إِلَى الْهِنْد فَأخذ عَن السَّيِّد
جَعْفَر الصَّادِق وَعَن جمَاعَة من الْحفاظ واعتنى وَتقدم بِحسن ذكائه وذوقه وَلحق دَرَجَة من هُوَ فَوْقه وَكَانَ لَهُ اعتناء بِعلم النَّحْو واللغة وَضبط الْأَلْفَاظ وَكَانَ كَرِيمًا حسن الْأَخْلَاق صبوراً مُحْتملا للأذى محكماً أَمر دينه ودنياه ذَا رَأْي رصين وعقل وافر وانتفع بِهِ جمَاعَة من أهل عصره وَلم يشْتَهر أحد من أقرانه اشتهاره وَكَانَت وَفَاته ببندر المحاسنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَألف
زين الدّين بن أَحْمد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ الشَّافِعِي الْحلَبِي الْمَعْرُوف بالأشعافي نزيل دمشق الْفَاضِل الأديب الْعَرُوضِي السائر ذكره ولد بحلب وَنَشَأ بهَا وَأخذ عَن جمَاعَة وَلما دخل الْبَهَاء الْحَارِثِيّ العاملي حلب أَخذ عَنهُ وبرع فِي عدَّة فنون وَألف وصنف وَمن جملَة تأليفاته شرح عَليّ الشفا وَله رسائل فِي الْعرُوض كَثِيرَة مِنْهَا بل الْقَلِيل فِي علم الْخَلِيل وعمدة النَّبِيل ورسالة بَين فِيهَا عرُوض أَبْيَات من شَوَاهِد النَّحْو سَهَا فِيهَا الْعَلامَة الْعَيْنِيّ فِي مُخْتَصر شرح الشواهد سَمَّاهَا التَّنْبِيهَات الزينية على الغفلات العينية قَالَ فِي ديباجتها وَكنت أَولا أنسب ذَلِك إِلَى تَحْرِيف النساخ إِلَى أَن وقفت على نُسْخَة قُرِئت عَلَيْهِ وَكتب خطه فِي مَوَاضِع مِنْهَا وَفِي آخرهَا إجَازَة بِخَطِّهِ فتصفحتها فَإِذا هِيَ مُشْتَمِلَة على مَا فِي النّسخ مِمَّا هُوَ خلاف الصَّوَاب وَولي نظر الْمدرسَة الطرنطائية دَاخل بَاب الْملك بحلب وتعرف الْآن بالأويسية لسكن الطَّائِفَة الاويسية بهَا ثمَّ خرج إِلَى الرّوم وَمكث بهَا ثمَّ دخل دمشق وَاسْتقر بهَا وانتفع بِهِ كثير من أَهلهَا فِي الْعرُوض وَغَيره وَذكره البديعي فِي ذكرى حبيب وَقَالَ فِي وَصفه وَكَانَ لَهُ مذاكرة تَأْخُذ بلب الصاحب ومحاضرات ترغب عَن محاضرات الرَّاغِب ورقة طبع تملك زِمَام قياده لكل ريم وتهيمه لكل وليديراه هيمانه بنسيم وَله شعر نضير مِنْهُ قَوْله
(كتبت وأفكاري بحقك مزقت
…
كَمَا قد بَدَت فِي الْحبّ كل ممزق)
(وَلَو حم لي التَّوْفِيق كنت تركته
…
ولكنني أَصبَحت غير موفق)
(إِذا قيل أَشْقَى النَّاس من بَات ذَا هوى
…
فَلَا تنكرن هَذَا الْمقَال وَصدق)
وَهَذَا كَقَوْل الآخر
(سَأَلتهَا عَن فُؤَادِي أَيْن مَسْكَنه
…
فَإِنَّهُ ضل عني عِنْد مسراها)
(قَالَت لدي قُلُوب جمة جمعت
…
فأيها أَنْت تبغي قلت أشقاها)
وَكتب لبَعض أَصْحَابه يعزيه عَن نعل لَهُ ضَاعَت
(تعز أخي إِن كنت مِمَّن لَهُ عقل
…
وَلَا تبد أحزانا إِذا ذهبت نعل)
(وَلَا تعتب الدَّهْر الخؤون فدأبه
…
لعقد اجْتِمَاع الشمل دون الورى حل)
(لحى الله دهرا لَا يزَال مُولَعا
…
بتكدير صفو الْعَيْش مِمَّن لَهُ فضل)
(يفرق حَتَّى شَمل رجل ونعلها
…
أَشد فِرَاق لَا يرى بعده شَمل)
(فَمَا شِئْت فَاصْنَعْ مَا اللبيب بجازع
…
وَلَا تَارِك صفوا وَلَو زلت النَّعْل)
(بحقك قُم نسعى إِلَى الراح سحرة
…
نجدد أفراجا لكل صدا تجلو)
(إِلَى دَار لذات وَروض مَسَرَّة
…
لرحب فناها من غصون المنى ظلّ)
وَقد أورد لَهُ هَذِه الأبيات الخفاجي فِي تَرْجَمته وَذكره معارضات وَقعت لَهَا فِي هَذَا الْخُصُوص وَقد تَرْجمهُ الشهَاب تَرْجَمَة لَطِيفَة وَكَانَ فِي سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف مَوْجُود فِي الْحَيَاة فَأَنِّي قَرَأت بِخَطِّهِ فِي آخر رِسَالَة التَّنْبِيهَات أَنه فرغ من كاتبها يَوْم الْأَحَد ثَانِي عشرى صفر سنة خمس وَثَلَاثِينَ وَألف ثمَّ أَخْبرنِي بعض الحلبيين مِمَّن يعرفهُ أَنه توفّي فِي حُدُود سنة اثْنَتَيْنِ أَو ثَلَاث وَأَرْبَعين بعد الْألف وَالله أعلم
زين الدّين بن حُسَيْن بن الْفَقِيه عبد الله بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَاج با فضل التريمي قَالَ الشلي فِي تَرْجَمته شيخ مَشَايِخنَا الإِمَام الْمَشْهُور ذُو الْأَحْوَال الشهيرة ولد بِمَدِينَة تريم وَنَشَأ بهَا وَحفظ الْقُرْآن وَغَيره واشتغل فِي أَنْوَاع الْعُلُوم أَخذ الْفِقْه عَن الشَّيْخ مُحَمَّد بن إِسْمَعِيل با فضل وَالسَّيِّد عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين وَغَيرهمَا وتصوف على وَالِده حُسَيْن وَسمع مِنْهُ ولازمه حَتَّى تخرج بِهِ وَأخذ عَن السَّيِّد الْجَلِيل عمر بن عبد الله العيدروس وَلبس مِنْهُ الْخِرْقَة وجد فِي الإشتغال حَتَّى صَار أوحد زَمَانه وانتصب للأقراء والتدريس وإنتفاع النَّاس وبرع فِي الْعُلُوم وتميز وطار اسْمه واشتهر ورحل النَّاس إِلَيْهِ للأخذ عَنهُ وَأثْنى عَلَيْهِ فضلاء عصره طبقَة بعد طبقَة وَمِمَّنْ انْتفع بِهِ الإِمَام زين العابدين وَالسَّيِّد علوي بن عبد الله وَشَيخنَا شقاف بن مُحَمَّد العيدروسيون وسيدي الْوَالِد الْوَالِد وَشَيخنَا أَبُو بكر بن عبد الرَّحْمَن بن شهَاب الدّين وَغير هَؤُلَاءِ وَأكْثر عُلَمَاء تريم الَّذين أدركناهم بهَا من طلبته وَكَانَت سيرته أحسن سيرة قَوِيا من عنف لينًا من ضعف لَا تَأْخُذهُ فِي الله لومة لائم مهابا أمره كُله جد لَا يكَاد يرى لَيْلًا أَو نَهَارا فِي غير عمل صَالح وَهُوَ لعمري جدير بِكُل نعت جميل وثناء حسن ومناقبه مَشْهُورَة وترجمته تِلْمِيذه السَّيِّد شيخ بن عبد الله العيدروس فِي السلسلة وَقَالَ كَانَ متفننا فِي جَمِيع الْعُلُوم مستشارا فِي المعضلات وَاحِد عصره
وأوانه وَكَانَ فِيهِ خمس خلال مَعَ خمس قل أَن تَجْتَمِع فِي أحد تواضع مَعَ شرف وهمة مَعَ فقر وفور عقل مَعَ سَلامَة صدر وَفقه مَعَ تصوف ورقة طبع مَعَ صلابة دين وَكَانَت وَفَاته فِي سنة سِتّ وَعشْرين وَألف وعمره نَحْو السّبْعين
زين الدّين بن مُحَمَّد بن حسن بن زين الدّين الشَّهِيد الشَّامي العاملي تقدم ذكر جده وزين الدّين هَذَا أحد فضلاء الزَّمَان ذكره صَاحب السلافة وَقَالَ فِي تَرْجَمته زين الْأَئِمَّة وفاضل الْأمة وملث غمام الْفضل وَكَاشف الْغُمَّة شرح الله صَدره للعلوم شرحا وَبنى لَهُ من رفيع الذّكر فِي الدَّاريْنِ صرحا إِلَى زهد أسس بُنْيَانه على تقوى وَصَلَاح آهل بِهِ ربعه فَمَا أقوى وآداب تحمر خدود الْورْد من أنفاسها خجلا وشيم أوضح بهَا غوامض مَكَارِم الْأَخْلَاق وجلا رَأَيْته بِمَكَّة والفلاح يشرق من محياه وَطيب الأعراق يفوح من نشر رياه وَمَا طَالَتْ مجاورته بهَا حَتَّى وافاه الْأَجَل وانتقل من جوَار حرم الله إِلَى جوَار الله عز وجل وَله شعر خلب بِهِ الْعُقُول وسحر وحسدت رقته أنفاس نسيم السحر ثمَّ أنْشد لَهُ قَوْله من قصيدة فِي الْمَدْح مطْلعهَا
(شام برقا لَاحَ بالأبرق وَهنا
…
فصبا شوقا إِلَى لجزع وحنا)
(وَجرى ذكر أثيلات النقا
…
فَشكى من لاعج الوجد وَأَنا)
(دنف قد عاقه صرف الردى
…
وخطوب الدَّهْر عَمَّا يتَمَنَّى)
(شفه الشوق إِلَى بَان اللوى
…
فغدا منهمل الدمع معنى)
(أسلمته للردى أَيدي الأسى
…
عِنْد مَا أحسن بِالْأَيَّامِ ظنا)
(طالما أمل المام الْكرَى
…
طَمَعا فِي زورة الطيف وأنى)
(كلما جن الدجى حن إِلَى
…
زمن الْوَصْل بأبدى مَا أجنا)
(واذاهب نسيم من رَبًّا
…
حاجر أهْدى لَهُ سقما وحزنا)
(يَا عريبا بالحمى لولاكم
…
مَا صبا قلبِي إِلَى ربع ومغنى)
(كَانَ لي صَبر فأوهاه النَّوَى
…
بعدكم يَا جيرة الْحَيّ وأفنى)
(قَاتل الله النَّوَى كم قرحت
…
كبدا من ألم الشوق وجفنا)
(كدّرت مورد لذاتي وَمَا
…
تركت لي من جميل الصَّبْر ركنا)
(
…
قطعت أفلاذ قلبِي والحشا
…
وكستني من جليل السقم وَهنا)
(فالي كم أشتكي جور الْهوى
…
وأقاسي من هوى ليلى ولبنى)
(قد صَحا قلبِي من سكر الْهوى
…
بعد مَا أزعجه السكر وعبى)
(ونهاني عَن هوى الغيد النهى
…
وحباني الشيب إحسانا وحسنا)
(وتفرغت إِلَى مدح فَتى
…
سنة الْمَعْرُوف والأفضال سنا)
وَله من قصيدة أُخْرَى مستهلها
(سئمت لفرط تنقلي الْبَيْدَاء
…
وَشَكتْ لعظم ترحلي الأنضاء)
(مَا إِن أرى فِي الدَّهْر غير مُودع
…
خلا وتوديع الْخَلِيل عناء)
(أبلى النَّوَى جلدي وأوقد فِي الحشا
…
نيران وجد مَالهَا إطفاء)
(فقدت لطول الْبَين عَيْني ماءها
…
فبكاؤها بدل الدُّمُوع دِمَاء)
(فَارَقت أوطاني وَأهل مودتي
…
وحبائبا غيدا لَهُنَّ وَفَاء)
(من كل مائسة القوام إِذْ أبدت
…
لجمال بهجتها تغار ذكاء)
(مَا أسفرت وَاللَّيْل مرخ ستره
…
أَلا تهتك دونهَا الظلماء)
(ترمي الْقُلُوب بأسهم تصمى وَمَا
…
لجراحهن سوى الْوِصَال دَوَاء)
(شمس تغار لَهَا الشموس مضيئة
…
وَلها قُلُوب العاشقين سَمَاء)
(هيفاء تختلس الْعُقُول إِذا رنت
…
فَكَأَنَّمَا لحظاتها الصَّهْبَاء)
(ومعاشر ماشان صدق ولائهم
…
نقض العهود وَلَا الوداد مراء)
(مَا كنت أَحسب قبل يَوْم فراقهم
…
أَن سَوف يقْضِي بعد ذَاك بَقَاء)
(فسقى رَبِّي وَادي دمشق وجادها
…
من هاطل المزن الملث حَيَاء)
(فِيهَا أهيل مودتي وبتربها
…
لجليل وجدي والسقام شِفَاء)
(ورعى ليالينا الَّتِي فِي ظلها
…
سلفت ومقلة دَهْرنَا عمياء)
(أَتَرَى الزَّمَان يجود لي بايابها
…
وَيُبَاح لي بعد البعاد لِقَاء)
(فَإلَى مَتى يَا دهر تصدع بالنوى
…
أعشار قلب مَا لَهُنَّ قواء)
(وتسومني فِيك الْمقَام بذلة
…
ولهمتي عَمَّا تسوم إباء)
(فَأَجَابَنِي لَوْلَا التغرب مَا ارْتقى
…
رتب الْمَعَالِي قبلك الْآبَاء)
(فاصبر على مر الخطوب فَإِنَّمَا
…
من دون كل مَسَرَّة ضراء)
(واترك تذكرك الشآم فَإِنَّمَا
…
دون الشآم وَأَهْلهَا بيداء)
وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ شَاعِر متفوق وشعره يدل على قُوَّة طبعه وصمادة فكره وَكَانَت وَفَاته فِي سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف
زين العابدين بن أبي الْجُود الْحَنَفِيّ الدِّمَشْقِي كَانَ فِي ابْتِدَاء أمره مِمَّن جد واجتهد فِي التَّحْصِيل حَتَّى برع وَقَرَأَ الْكثير وَضبط أَكثر تخرجه بالشيخ مُحَمَّد بن على الحرفوشي الحريري وَكَانَ يصاحبه ويطارحه كثيرا وَجمع كتبا كَثِيرَة وَكَانَ لَهُ رِوَايَة وَاسِعَة فِي أَخْبَار السّلف وَمَا جرياتهم لَكِن رُبمَا نسب فِي بَعْضهَا إِلَى الْكَذِب وَغلب عَلَيْهِ فِي آخر عمره الكيف حَتَّى استغرق وَرُبمَا كَانَ يمر فِي طَرِيق من الطرقات فيغلب عَلَيْهِ نُعَاس الكيف فينام وَهُوَ قَائِم على قَدَمَيْهِ فَلَا يفِيق إِلَّا بعد زمَان طَوِيل وَكَانَ كثير من السراق يترقبون نعسته وَهُوَ فِي مَكَان مُنْفَرد فَيَأْخُذُونَ شَيْئا من ملبسه وَكَانَ فِيهِ تساهل فِي أَمر الدّين وَسمعت من لَفظه مرَارًا وَقد ذكر لَهُ صديق كَانَ يألفه وَكَانَ من أهل الْأَهْوَاء ثمَّ سُئِلَ عَن سَبَب الِاتِّحَاد بَينهمَا فَقَالَ لم يكن ثمَّة عِلّة إِلَّا الْإِلْحَاد وَبِالْجُمْلَةِ فَإِنَّهُ كَانَ ابْن وقته يتَصَرَّف فِي مَجْلِسه كَيفَ شَاءَ وَعمر ونادم أَعْيَان الْفُضَلَاء والكبراء وَصلح حَاله آخرا بعض الصّلاح وَكَانَت وَفَاته فِي أَوَائِل سنة خمس وَثَمَانِينَ وَألف عَن اثْنَتَيْنِ وَسبعين سنة وَدفن بمقبرة بَاب الفراديس
زين العابدين بن زَكَرِيَّا بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عبد الله بن مفرج الْغَزِّي العامري الدِّمَشْقِي الْفَقِيه الفرضي الشَّافِعِي وَقد تقدم تَمام نسبه فِي تَرْجَمَة عَمه أبي الطّيب وَكَانَ زين العابدين هَذَا من فضلاء وقته وَله التفوق فِي علمي الْفَرَائِض والحساب أَخذ عَن عَمه النَّجْم الْغَزِّي وَعَن غَيره وَكَانَ عَمه الْمَذْكُور مَعَ تبحره فِي الْعُلُوم ومكانته الَّتِي ظَهرت فِيهَا كثيرا لمراجعة لَهُ فِيمَا يتَعَلَّق بالفرائض وَلما مَاتَ وَالِد زَكَرِيَّا كَانَ إِمَامًا بالجامع الْأمَوِي فوجهت إِلَيْهِ وَهِي الْآن بَاقِيَة فِي أَوْلَاده وَكَانَ للنَّاس فِيهِ اعْتِقَاد وَهُوَ مَحَله لما كَانَ فِيهِ من الصّلاح وَاجْتنَاب مَا لَا يعنيه واعتنائه بِأُمُور الشَّرِيعَة وَبِالْجُمْلَةِ فَهَؤُلَاءِ بَيت مبارك وَكلهمْ صلحاء أتقياء وَهَذَا من وُجُوههم وَكَانَت وِلَادَته فِي سنة ثَمَان عشرَة بعد الْألف وَتُوفِّي فِي خَامِس رَجَب سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَألف وَدفن بمقبرة أجداده بني الْغَزِّي فِي تربة الشَّيْخ أرسلان رَحمَه الله تَعَالَى
زين العابدين بن عبد الرؤوف بن تَاج العارفين بن عَليّ بن زين العابدين بن يحيى ابْن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مخلوف بن عبد السَّلَام الحدادي ثمَّ الْمَنَاوِيّ القاهري الشَّافِعِي الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى الاستاذ الْكَبِير ولد الإِمَام الْكَبِير الْمَنَاوِيّ
شَارِح الْجَامِع الصَّغِير الْآتِي ذكره إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَكَانَ زين العابدين هَذَا عَالما متعبداً ورعاً خَاشِعًا نَشأ فِي حجر وَالِده وَحفظ الْقُرْآن وَهُوَ ابْن سبع سِنِين وعدة متون وَهُوَ ابْن عشر مِنْهَا الزّبد لِابْنِ أرسلان والتحفة الوردية فِي النَّحْو وَكتاب الْإِرْشَاد فِي النَّحْو للسعد التَّفْتَازَانِيّ وَغَيرهَا وعرضها على مَشَايِخ عصره كَالشَّمْسِ مُحَمَّد الرَّمْلِيّ ثمَّ بعد وَفَاة الرَّمْلِيّ انْتقل إِلَى الشهَاب أَحْمد الشربيني الْخَطِيب وَالشَّيْخ حراز الغمري واشتغل بِعلم الْعَرَبيَّة على الشَّيْخ عبد الْكَرِيم البولاقي وبالأصول على الشَّمْس مُحَمَّد المأموني وألتى برمق وعرب زَاده قَاضِي مصر وَأخذ التَّفْسِير والْحَدِيث والجفر والمواليد والحساب والهندسة عَن الْعَلامَة عَليّ بن غَانِم الْمَقْدِسِي والْحَدِيث عَن الحافظين أبي النحا سَالم السنهوري والشهاب أَحْمد المتبولي وَعَن القَاضِي بدر الدّين الْقَرَافِيّ الْمَالِكِي وَأَجَازَهُ كل مِنْهُم بمروياته ثمَّ سلك طَرِيق التصوف فَأخذ طَرِيق الخلوتية عَن جمَاعَة مِنْهُم الشَّيْخ صَالح مُحَمَّد تركي الخلوتي وَشَيخ الطَّرِيق أَحْمد العجمي وَالشَّيْخ خطر الخواطري العجمي وَالشَّيْخ عبد الله الرُّومِي وَالشَّيْخ مُحَمَّد اليوناني وَالشَّيْخ محرم الرُّومِي وَغَيرهم ثمَّ لَازم الْخلْوَة واشتغل حَتَّى صَار لَا يرى إِلَّا مُصَليا أَو ذَاكِرًا وَيقوم اللَّيْل كُله حَتَّى ظَهرت عَلَيْهِ خوارق وأحوال كَثِيرَة وانتفع بِهِ على صغر سنه جمَاعَة وَكَانَ من اللين وسعة الصَّدْر وَالِاحْتِمَال على جَانب عَظِيم وَكَانَ يرى النَّبِي
وَهُوَ جَالس فِي ورده وَكَانَ فِي ابْتِدَاء أمره أرْسلهُ وَالِده لمصْلحَة وَهُوَ مراهق فَمر بِابْن العظمة الْآتِي ذكره وَهُوَ لَا يعرفهُ فناداه يَا زين العابدين فَتقدم إِلَيْهِ فَوضع فِي فِيهِ قلب خس وَقَالَ اذْهَبْ فقد خصصناك وَكَانَت الْأَرْوَاح تألفه والأولياء تعرفه ويدخلون عَلَيْهِ لَيْلًا فِي مَحَله من خلال الشبابيك ويجلسون مَعَه ويخبرونه بِأُمُور لَا تتخلف من جُمْلَتهمْ الشَّيْخ شاه ولي العجمي كَانَ يدْخل عَلَيْهِ كثيرا من الشباك ويتعشى مَعَه وَاجْتمعَ بالقطب مرَارًا وَكَانَ فِي ابداء أمره يرى أنوارا وَيسمع كلَاما وأخبارا فَتَارَة يرى كنور الْقَمَر وَتارَة كنور الشَّمْس وَتارَة فتائل وقناديل ورؤس شمع موقودة بِهِ تسْقط عَلَيْهِ وَيرى منامات عالية الْمِقْدَار وَمن خوارقه أَن الإِمَام الشَّافِعِي كَانَ يخاطبه من قَبره وَكَانَ فِي بعض الأحيان يخرج يَده من الْقَبْر وَيَضَع لَهُ فِي يَده شَيْئا قَالَ وَمَا زرته يَوْمًا إِلَّا وَرَأَيْت عِنْد قُبَّته نهرين على أَحدهمَا حمامة بَيْضَاء وعَلى الآخر حمامة خضراء وَكَانَ يرى جده الشّرف يحيى الْمَنَاوِيّ وَهُوَ جَالس فِي قَبره وَعَلِيهِ ثِيَاب سود وَهُوَ
يكلمهُ ويباسطه وَيَدْعُو لَهُ وَحدث الحمصاني وَهُوَ أحد الْمَشَايِخ قَالَ رَأَيْت طعيمة الصعيدي الْمصْرِيّ وَهُوَ من كبار الْأَوْلِيَاء فِي عَالم الْأَرْوَاح وأمامه إِنْسَان كالنور أَو نور كالإنسان قلت مَا هَذَا قَالَ زين العابدين الْمَنَاوِيّ قد وكل بِأَهْل البرزخ وَله تآليف كَثِيرَة مِنْهَا شرح على تائية ابْن الفارض وَشرح الْمشَاهد لِابْنِ عَرَبِيّ وَله حَاشِيَة على شرح الْمِنْهَاج للجلال الْمحلي وَشرح على الأزهرية وَجمع فتاوي جده شيخ الْإِسْلَام يحيى الْمَنَاوِيّ وجرد حَاشِيَة جده الْمَذْكُور على شرح الْبَهْجَة للعراقي وحاشيته على الرَّوْض الْأنف لِلسُّهَيْلِي وَله عدَّة رسائل مِنْهَا مَا كمل وَمِنْهَا مَا لم يكمل وأخباره وكراماته كَثِيرَة وَكَانَت وَفَاته صَبِيحَة يَوْم الثُّلَاثَاء رَابِع ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَعشْرين وَألف وَلم يمرض بل شكى بعد تنَاول الطَّعَام وَدخل فرَاشه إِلَى الْفجْر ثمَّ تَوَضَّأ وَصلى فَقضى عَلَيْهِ وَصلى عَلَيْهِ جمع حافل بِجَامِع الْأَزْهَر يَوْم الْأَرْبَعَاء وَدفن بَين الوليين العارفين الشَّيْخ أَحْمد الزَّاهِد وَالشَّيْخ مَدين الأشموني وَقَالَ الشَّيْخ عَليّ العاملي أحد عدُول محكمَة بَاب الشعرية فِي تَارِيخ وَفَاته
(مَاتَ الإِمَام الْعَالم المتقي
…
العابد الزَّاهِد عين الزَّمَان)
(من كَانَ زين العابدين الَّذِي
…
حَاز الْمعَانِي ببديع الْبَيَان)
(فرحمه الله على روحه
…
وذاته مَا أشرق النيرَان)
(ومذ توفّي صَحَّ تَارِيخه
…
أَمْسَى الْمَنَاوِيّ خَالِدا بالجنان)
وَقَالَ أَيْضا
(لقد توفّي الحبر بَحر التقى
…
اللوذعي الْعُمْدَة الْفَاضِل)
(لما توفّي جَاءَ تَارِيخه
…
مَاتَ الْوَلِيّ الْعَارِف الْكَامِل)
والحدادي والمناوي سَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِمَا فِي تَرْجَمَة وَالِده عبد الرؤوف
زين العابدين بن عبد الْقَادِر الطَّبَرِيّ الْحُسَيْنِي الْمَكِّيّ الشَّافِعِي إِمَام الْمقَام الإبراهيمي الإِمَام ابْن الإِمَام مولده بِمَكَّة لَيْلَة ثامن عشر ذِي الْحجَّة سنة اثْنَتَيْنِ بعد الْألف كَمَا وجد ذَلِك بِخَط وَالِده وَنَشَأ وَحفظ القرأن وَأخذ عَن وَالِده وَعَن أكَابِر شُيُوخ الْحَرَمَيْنِ مِنْهُم الشَّيْخ عبد الْوَاحِد الحصاري المعمر الَّذِي ولد فِي مستهل رَجَب سنة عشر وَتِسْعمِائَة وَأَجَازَ صَاحب التَّرْجَمَة مشافهة بِمَكَّة ختام عَام إِحْدَى عشرَة بعد الْألف وَأَجَازَهُ جلّ شُيُوخه وَعنهُ أَخذ السَّيِّد مُحَمَّد الشلي باعلوي وَشَيخنَا الْحسن ابْن عَليّ العجيمي الْمَكِّيّ فسح الله فِي أَجله وَغَيرهمَا من الأفاضل وَله شعر لطيف
مِنْهُ قَوْله
(غارت بدور التم من كاعب
…
هام بهَا المفستون بَين الْأَنَام)
(رنت بِطرف فاتر ناعس
…
يرشق من ألحاظه بِالسِّهَامِ)
(بديعة الشكل وَلكنهَا
…
بعيدَة الْوَصْل على المستهام)
(يود لوزار حماها على
…
رغم العدا مختفياً فِي الظلام)
(هَذَا ورؤياه إِلَى وَجههَا
…
غَايَة مَا يحظى بِهِ وَالسَّلَام)
وَله معومى فِي حسام
(وسَاق كبدر التم فِي غسق الدجى
…
يَدُور بأكواب ويرقص كالغصن)
(فأفديه من سَاق سما فِي سما البها
…
عَلَيْهِ إِذا مَا دَار تَاج من الْحسن)
وَبَينه وَبَين القَاضِي تَاج الدّين الْمَالِكِي الْمُقدم ذكره وَغَيره من أفاضل المكيين مطارحات يطول ذكرهَا وَكَانَت وَفَاته بِمَكَّة بعد شروق يَوْم الْإِثْنَيْنِ رَابِع عشر شهر رَمَضَان سنة ثَمَان وَسبعين وَألف وَدفن بعد صَلَاة الْعَصْر بالمعلاة فِي تربة آبَائِهِ وَنسب بني الطَّبَرِيّ وشرفهم وَقد بَيتهمْ سَيَأْتِي فِي تَرْجَمَة وَالِد صَاحب التَّرْجَمَة الإِمَام عبد الْقَادِر إِذْ هُوَ أشهر هَذَا الْبَيْت من أبنائه الْمَذْكُورين فِي كتَابنَا هَذَا والشهرة تَقْتَضِي مزِيد الإعتناء والأفكار تنساق لنَحْو الْمَشْهُور كثيرا وَلم يتَقَدَّم مِنْهُم مَعنا إِلَّا زين العابدين هَذَا وَهُوَ لبس من الشُّهْرَة بِمحل وَالِده وَالله أعلم
زين العابدين بن مُحَمَّد بن عَليّ الْبكْرِيّ الصديقي القاهري الشَّافِعِي الْأُسْتَاذ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى قَامَ مقَام أَبِيه من بعده ودرس وَأفْتى وَأفَاد وَكَانَ فِي مصر مَالك أزمة الوجاهة وسالك رُتْبَة البراعة واليراعة وَألف التآليف الْحَسَنَة الْوَضع وَأشهر مَاله من المؤلفات رِسَالَة إِلَّا ترج وَكَانَ أَخُوهُ أَبُو السرُور الْمُقدم ذكره من الْعلمَاء إِلَّا أَنه لم يبلغ دَرَجَة زين العابدين فِي التصوف والتكلم بِلِسَان الْمعرفَة وروى أَن والدهما الْأُسْتَاذ الْأَعْظَم لما حَضرته الْوَفَاة قَالَ لخادمة لَهُ نَادَى لي زين العابدين فَذَهَبت وَنَادَتْ ابا السرُور فَقَالَ لَهَا بعد أَن خرج نَادِي لي زين العابدين فأنك إِذا ناديتيه وَلم تنادى أحدا غَيره فَأَنت حرَّة فَذَهَبت وَنَادَتْ زين العابدين قَالَت فَلَمَّا دخل على وَالِدَة قَالَ لَهُ اجْلِسْ وأملى عَلَيْهِ شيثا ثمَّ قَالَ لَهُ فهمت فهمت قَالَ نعم قَالَ قُم الْآن فَلَمَّا توفّي وَالِده ظهر بِمَا ظهر بِهِ من المعارف والحقائق وَذهب كثير من أهل مصر وَغَيرهم إِلَى أَن بدايته كَانَت نِهَايَة أَبِيه وَقد أَخذ الْعلم عَن وَالِده وَغَيره وَشَيْخه الْمُخْتَص
بتعليمه الشَّيْخ بدر الدّين البرديني وتأخرت وَفَاته عَنهُ وانتهت إِلَيْهِ الرياسة بِالِاسْتِحْقَاقِ الذاتي وَكَانَ عَالما بارعا فِي الْعَرَبيَّة وَالتَّفْسِير وعلوم البلاغة وَله شعر لطيف سَائِغ فَمِنْهُ قَوْله
(محب لحر الْوَجْه فِي الترب مرغا
…
وصب من الأجفان حَقًا تفرغا)
(أماط الْهوى عَنهُ نقاب سلوه
…
وأرخى عَلَيْهِ السّتْر لَيْلًا وأسبغا)
(فيا حاد يَا ركب الملاح ترفقا
…
وقصا نباه عِنْد سعدى وبلغا)
(وقولا رَأينَا من تعد ضلوعه
…
غراما وَمن نَالَ الضنى مِنْهُ مبلغا)
وَقَوله
(ومجلس لَذَّة أَمْسَى وجيها
…
يضيء كَأَنَّهُ بدر مُنِير)
(تجمع فِيهِ مشموم وَرَاح
…
وأوتار وولدان وحور)
(تجمعت الْحَواس الْخمس فِيهِ
…
بِخمْس يستتم بهَا السرُور)
(فَكَانَ الضَّم قسم اللَّمْس فِيهِ
…
وَقسم الذَّوْق كاسات تَدور)
(وللسمع الأغاني والغواني
…
لاعيننا وللشم البخور)
وَقَوله فِي القهوة
(أَن تشرب القهوة فِي حانها
…
فاللطف قد حف بندمانها)
(حَان حكى الْجنَّة فِي بسطها
…
برقة الْعَيْش وإخوانها)
(بِمَائِهَا نغسل أكدارنا
…
ونحرق الْهم بنيرانها)
(لاهم يبْقى لَا وَلَا غم إِذْ
…
قابلك الساقي بفنجانها)
(يَقُول من أبْصر كَانُوا بهَا
…
أُفٍّ على الْخمر وادنانها)
(شراب أهل الله فِيهَا الشفا
…
جَوَاب من يسْأَل عَن شانها)
وَقَوله فِيهَا أَيْضا
(اسقنا قهوة غدافية اللَّوْن
…
حَلَالا تفرج الْهم عَنَّا)
(وأدرها من خَالص اللَّبن صرفا
…
لَا تشب حسنها بِغَيْر فتنا)
(وَاتبع قَول أِشرف الرُّسُل حَقًا
…
قَالَ قولا من غَشنَا لَيْسَ منا)
وَذكره الخفاجي فَقَالَ فِي وَصفه تعَاطِي حِرْفَة الزهاده وَفتح حَانُوت السجادة وَادّعى الكرامات وقص منامات لَهَا الْكرَى مَاتَ وَمِمَّا اتّفق لَهُ أَن النَّاس خَرجُوا للدُّعَاء بالاستسقا وَقدر رعى الْقَحْط الْبِلَاد فَلم يدع ثمرا وَلَا وَرقا والجو بالغمام مطبق وجفن السحب بدمع الْقطر مغرق فَلَمَّا دَعَا تجلى وَعَبس وَتَوَلَّى فَقُمْت
على سَاق الارتجال وأنشدت أَصْحَابِي فِي الْحَال
(وَولي قطب لرب السَّمَاء
…
أسْرع الصحو إِذْ دَعَا بِالْمَاءِ)
(فِي صُرَاخ وأدمع هُوَ يُغني
…
عَن رعو منهلة الأنواء)
(فَكَأَن السَّحَاب كَانَ مَرِيضا
…
مَاتَ لما دَعَا بالاستسقا)
انْتهى قلت ذكره بِهَذَا الاسلوب من الشهَاب اسمج السمج وَالْحَامِل لَهُ على ذَلِك الْحَسَد لتصور مَا كَانَ عَلَيْهِ المترجم من الاقبال وَإِلَّا فالشهاب لَيْسَ من أقرانه بِحَسب الْوُجُود أما فِي حَيَاة المترجم فمعلوم ضَرُورَة أَن الخفاجي كَانَ إِذا ذَاك فِي ابْتِدَاء طلوعه وغضارته وَلَيْسَ بِالْمُشَارِ إِلَيْهِ فِي أَمر وَأما بعد مَوته فَإِنَّهُ وَإِن ولي قَضَاء مصر لكنه لم يبلغ بعض مَا بلغ ذَاك من الْحُرْمَة والهيبة وأنى لَهُ وَلَو سلم هَذَا فَمَا الْمُقْتَضى لحسد رجل فَاتَ وولعت بِهِ أَيدي الْآفَات وَمَا ذكره وَقع قَرِيبا فِي بَلْدَتنَا دمشق مَا يُشبههُ وَذَلِكَ أَنهم خَرجُوا يستسقون فَلم يسقوا وَاتفقَ فِي ذَلِك الْيَوْم مجئ مظْلمَة سلطانية فَقَالَ فِي ذَلِك شَيخنَا الشَّيْخ عبد الْغَنِيّ النابلسي
(خَرجُوا ليستسقوا الْغَدَاة فأمطروا
…
سحب الجرائم من سما الْحُكَّام)
(ودعوا فحين تصدعت أنفاسهم
…
ردّت منكسة من الآثام)
(وَلَو استقاموا فِي الْأُمُور تَتَابَعَت
…
نعم الْإِلَه ومنة الْإِسْلَام)
(إِن السِّهَام إِذا تعوّج نصلها
…
عَادَتْ فأثر عودهَا بالرامي)
عودا وَبلغ صَاحب التَّرْجَمَة فِي آخر أمره من الْجَلالَة ونفوذ الْكَلِمَة مبلغا لَيْسَ لَا حد وَرَاءه مطمع حَتَّى خشيَة حكام مصر وَكَانُوا يدارونه ويتوقعون رِضَاهُ إِلَى أَن ولي قَضَاء مصر الْمولى عبد الْوَهَّاب الْآتِي ذكره فَوَقع بَينهمَا فِي شَيْء فَعرض فِيهِ إِلَى الْأَبْوَاب السُّلْطَانِيَّة فَلَمَّا كَانَ يَوْم الْأَحَد ثَالِث شهر ربيع الأول سنة ثَلَاث عشرَة وَألف طلع إِلَى إِبْرَاهِيم باشا بعد الْعَصْر على عَادَته فأحضر السماط ثمَّ القهوة فَلَمَّا أكلُوا وَشَرِبُوا خر زين العابدين مغشيا عَلَيْهِ وَحمل إِلَى بَيته فَمَاتَ هَذَا هُوَ المستفيض على أَلْسِنَة المؤرخين وروى بَعضهم أَن مَوته كَانَ خنقا أَو غَيره وَأَنه طرح على بَاب قلعة الْجَبَل واشتهر ذَلِك فِي دمشق فَبنى عبد الْحق بن مُحَمَّد الْحِجَازِي الدِّمَشْقِي قَوْله فِي رثائه عَلَيْهِ وأبياته هِيَ هَذِه
(لم يهدموا أَرْكَان مصر وَإِنَّمَا
…
هدموا بقتلك قبَّة الْإِسْلَام)
(وتناوشتك يَد الْكلاب وطالما
…
خضعت لغزك صولة الضرغام)