المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(باب بيان أقسام السنة) - خلاصة الأفكار شرح مختصر المنار

[ابن قطلوبغا]

الفصل: ‌(باب بيان أقسام السنة)

(باب بيان أقسام السنة)

(السُّنة: هي المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً).

وهذا غير جامع لخروج التقرير، وغير مانع لشمول القرآن.

وإصلاحه: بأنها المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً أو فعلاً أو تقريراً.

وهي تشترك مع الكتاب في الأقسام المتقدمة، ويختصّ هذا الباب بكيفية اتصالها بنا، وحال نقلها إلينا، ومتعلقات ذلك، فلذلك قال:

(وبيان وجوه) أي طرق (اتصالها بنا أقسام) أربعة بالاستقراء:

(منها المتواتر) وهو لغة المتتابع (وهو الكامل) لعدم الشبهة، وفي العرف: هو (الذي رواه قوم لا يحصى عددهم ولا يتوهم) عادة (تواطؤهم): أي توافقهم (على الكذب).

وفيه خلل لفوته ذكر دوام هذا في الطرفين والوسط، ولأنَّ عدم الإحصاء ليس بشرط بل الكثرة.

ص: 128

فالأولى: أنه خبر جماعة يفيد بنفسه العلم بصدقه.

وموجبه: علم اليقين.

2 -

(والمشهور هو الذي في اتصاله) بنا (شبهة) صورة،

ص: 129

وهذا غير محتاج إليه في التعريف، ويكفي فيه قوله وهو الذي (انتشر من الآحاد) في القرن الثاني والثالث (حتى صار كالمتواتر).

وحكمه: أنه يوجب علم الطمأنينة، وهو دون اليقين وفوق أصل الظن.

3 -

وخبر الواحد وهو الذي في اتصاله بنا شبهة صورة ومعنى، وعرف بما لم يبلغ حد الشهرة.

وحكمه: أنه يوجب العمل، ولا يوجب العلم.

وتركه المصنف سهواً لأنه معظم السنة، وعليه مدار معظم الأحكام.

(والمنقطع) وهو القسم الثاني من الأقسام الأربعة (وهو نوعان: ظاهر وباطن): أي ظاهر انقطاعه بمعنى أنه منقطع في الصورة

ص: 130

الظاهرة، وباطن: أي انقطاعه، بمعنى أن نسبته على القائل منقطعة في باطن الأمر، وإن اتصلت في الظاهر.

(فالظاهر) انقطاعه (هو المرسل وهو المنقطع الإسناد) وهو طريق المتن، بأن سقطت الواسطة بين الراوي وبين النبي صلى الله عليه وسلم كأن يقول لما لم يسمعه من النبي صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو لما لم يره فعله: فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فُعل بين يديه كذا، ونحوه.

(وهو) أي المرسل على (أربعة أوجه:

أحدها: ما أرسله الصحابي، وهو مقبول بالإجماع) للإجماع على عدالتهم، فلم يضر الجهل بالساقط من الإسناد.

(والثاني: ما أرسله أهل القرن الثاني) وهم التابعون، (وهو حجة عند الحنفية)، وجميع أهل عصرهم إلى ما بعد المئتين، كما قاله أبو داود في رسالته إلى أهل مكة

ص: 131

وابن جرير الطبري.

ص: 132

وذلك لثبوت عدالة الساقط بالحديث الذي استدلّ به لقبول مرسل الصحابي، وهو حديث ((خير القرون)) كما استدلّ به الخطيب في ((الكفاية)) وغيره من أئمة الحديث، وكذا المرسل لأنه يستحيل أن يشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء إلا بعد ثبوته عنده، ولا ثبوت إلا بعد عدالة الراوي.

ص: 133

(والثالث: ما أرسله العدل في كل عصر) بعد القرن الثاني والثالث (وهو حجّة عند الكرخي)؛ لأن علّة القبول في القرون الثلاثة العدالة والضبط، فمهما وجدا وجب القبول.

وقال عيسى بن أبان: لا يقبل؛ لأن الزمان زمان الفسق وفشو الكذب، فلا بُدَّ من البيان.

وقد يقال: إن كان العدل عالماً بأحوال الرواة فالقول ما قاله الكرخي لاتفاق أئمة الحديث بعد البخاري على قبول معلقاته المجزومة.

ص: 134

(والرابع ما أرسل من وجه وأسند من وجه)، مثل حديث ((لا نكاح إلا بولي)) ورواه شعبة وسفيان مرسلاً عن أبي بردة عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه إسرائيل بن يونس مسنداً عن أبي بردة، عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم (فلا شبهة في قَبوله عند مَن يقبل المرسل)، وعند المحققين من غيرهم أيضاً.

(والباطن) انقطاعه (على وجهين):

(أحدهما: المنقطع لنقص الناقل) بفوت شرط من شروط الرواية، وهي: عقل البالغ، وإسلامه، وعدالته - وهي رجحان جهة الدين والعقل على طريق الهوى والشهوة بعدم اقتراف الكبائر والإصرار على الصغائر - وضبطه بسماع الكلام كما يحقّ سماعه، ثم فهم معناه، ثم الثبات عليه إلى حين أدائه.

فلا يقبل خبر مَن فَقَدَ شيئاً من هذه الشروط.

ص: 135

وللجرح والتعديل عند أئمة الحديث مراتب، ولهم كلمات تستعمل في أهل تلك المراتب، والتي تستعمل في الجرح منها ما يرجع إلى العدالة، ومنها ما يرجع إلى الضبط.

وأنا أذكرها لك على سبيل التدلي:

فأعلى التعديل: أوثق الناس، وأثبت الناس، وإليه المنتهى في التثبت.

ثم ثقة ثقة، أو ثقة ثبت، أو ثبت ثبت، أو ثقة حافظ، أو عدل حافظ.

ثم ثقة، أو متقن، أو ثبت، أو حجة.

ثم صدوق، أو محلة الصدق، أو لا بأس به، أو ليس به بأس.

ثم شيخ، ثم صالح، وقيل: صالح، ثم شيخ.

وأعلى الجرح: أكذب الناس، وإليه المنتهى في الكذب أو في الوضع، أو ركن الكذب، ونحو ذلك.

ثم دجال، أو وضاع، أو كذاب.

ثم متروك، أو ساقط، أو فاحش الغلط، أو منكر الحديث.

ثم ضعيف، أو ليس بالقوي، أو فيه مقال.

ثم لين، أو سيء الحفظ، أو فيه أدنى مقال.

(والثاني المنقطع) باطناً (بدليل معارض) يقدم عليه.

ومثَّل لذلك بحديث فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: لم يجعل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى.

ص: 136

عارضه قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} ، وقراءة ابن مسعود ((وأنفقوا عليهنّ من وجدكم)).

وحديث القضاء بشاهد ويمين عارض قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا

ص: 137

شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم}، وعند عدم الرجلين أوجب رجلاً وامرأتين، وحيث نقل إلى ما ليس بمعهود في مجالس الحكام دلّ على عدم قبول الشاهد الواحد مع اليمين، وعارض السنة المشهورة وهو قوله عليه الصلاة والسلام:((البينة على المدعي واليمين على من أنكر)).

وحديث المصرّاة عارض قوله تعالى:

ص: 138

{فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم} .

(والثالث) من الأقسام الأربعة (ما جعل الخبر فيه حجة) وهي حقوق الله تعالى، وهي العبادات والعقوبات عند أبي يوسف رحمه الله وحقوق العباد.

(والرابع) من الأقسام الأربعة المختصة بالسنة (في بيان نفس الخبر وهو أربعة أقسام):

(متحتم الصدق) لإحاطة العلم بذلك، كخبر الرسول صلى الله عليه وسلم لمن يسمعه منه؛ لأنه ثبت بالدليل القاطع عصمته.

(وحكمه: اعتقادُه): أي وجوب اعتقاده (والائتمارُ به) لقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} .

(وقسم متحتم الكذب) قالوا: كدعوى فرعون الربوبية.

قلت: ليس هذا مما نحن فيه، والله أعلم.

(وحكمه: اعتقاد بطلانه).

(وقسم يحتملهما): أي الصدق والكذب، كخبر الفاسق يحتمل الصدق باعتبار دينه، ويحتمل الكذب باعتبار فسقه.

(وحكمه: التوقف فيه)؛ لاستواء الجانبين، وقد قال تعالى:{إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} .

(وقسم ترجح أحد احتماليه)، وهو جانب صدقه لتمثيلهم له بخبر العدل المستجمع لشرائط الرواية.

ص: 139

(وحكمه: العمل به) للدلائل الدالة على ذلك كما تقدم (دون اعتقاد حقيته).

ولهذا النوع أطراف ثلاثة:

طرف السماع: وهو أن تقرأ على المحدث، أو يقرأ المحدث عليك، أو يقرأ بحضرته وأنت تسمع، وهذا عزيمة، والرخصة: الإجازة.

وطرف الحفظ: والعزيمة فيه: حفظ المروي من وقت السماع إلى وقت الأداء، الرخصة: الاعتماد على الكتاب المسموع.

وطرف الأداء: والعزيمة فيه: أن يؤدى بلفظه كما سمع، والرخصة: أن ينقله بمعناه، وقد منعه بعضهم.

والصحيح عندنا تفصيل: إن كان مُحكَماً يجوز للعالم باللغة.

وإن كان ظاهراً يحتمل الغير: كعام يحتمل الخصوص، وحقيقة تحتمل المجاز، يجوز للمجتهد فقط.

وما كان مشتركاً أو مجملاً أو متشابهاً أو من جوامع الكلم، فلا يجوز أصلاً.

وقد يلحق الحديثَ الطعنُ:

أما من الراوي بأن أنكر الرواية عنه إنكارَ جاحد، بأن قال: كذبتَ عليَّ أو ما رويتُ لك، وفي هذا الوجه يسقط العمل بالحديث.

ص: 140

وإن أنكر إنكاراً موقوفاً، بأن قال: لا أذكر أني رويت لك هذا ولا أعرفه، ففيه خلاف.

أو عمل بخلافه بعد الرواية مما هو خلاف بيقين، فيسقط العمل به أيضاً.

كما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل)) ثم إن عائشة رضي الله عنها زوجت بنت أخيها بلا إذن وليها.

وكما روى أبو هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: ((غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً)) كما في ((الصحيحين)).

ص: 141

وعمل بالثلاث كما رواه الطحاوي وغيره عنه.

ويشكل عليه أن ابن عمر روى قصّة حِبان بن مُنْقِذ في الخيار ثلاثة أيام، وقال في ((الهداية)) عن ابن عمر رضي الله عنه أنه أجاز الخيار شهرين.

ص: 142

وكذا ترك الراوي العمل بالحديث، كما روى ابن عمر:((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه عند الركوع وعند رفع الرأس منه)) كما في الصحيحين، وترك ذلك، كما روى محمد في ((موطئه)) وغيره عن عبد العزيز بن حكيم قال:((رأيت ابن عمر يرفع يديه بحذاء أذنيه في أول تكبيرة افتتاح الصلاة، ولم يرفعهما فيما سوى ذلك))، وعن مجاهد قال:((صليت خلف ابن عمر فلم يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى من الصلاة)).

ص: 143

وكذا عمل الصحابة رضي الله عنهم بخلافه إذا كان ظاهراً لا يحتمل الخفاء عليهم، كحديث حذيفة ((البكر بالبكر جلد مئة وتغريب عام)) وما روي ((أن عمر رضي الله عنه نفى رجلاً

فلحق بالروم مرتداً، فحلف أن لا ينفي أحداً أبداً))، فلما ترك النفي والحديث لا يخفى عليهم؛ لأن إقامة الحد مفوض إلى الإمام، ومبنيٌّ على الشهرة، علم أنه ليس من تمام الحدّ.

قالوا: وإن كان من جنس ما يحتمل الخفاء، كحديث القهقهة في الصلاة رواه زيد بن خالد الجهني وروي عن أبي موسى الأشعري

ص: 144

أنه لم يعمل به، فلا يوجب جرحاً؛ لأنه من الحوادث الشاذة فاحتمل الخفاء على أبي موسى.

قلت: لم يخف على أبي موسى لأنه رواه كما أخرجه عنه الطبراني، بالأسانيد الصحيحة، فيكون مما رواه وعمل بخلافه. على هذا [لكن روى الطحاوي عن أبي موسى أن مذهبه إيجاب الوضوء من القهقهة والله أعلم] وأما قولهم: إن زيد بن خالد رواه، فمما لم يوجد في ((مسنده)) في شيء من الكتب التي بأيدي أهل العلم الآن، وقد رواه الأئمة عن أبي حنيفة [رضي الله عنه] من غير طريق زيد؛ فرواه محمد من مرسل الحسن، ورواه غيره من طريق معبد، والله أعلم.

وتعيين الراوي بعض محتملات لفظ الحديث لا يمنع العمل بظاهر الحديث، كتعيين ابن عمر رضي الله عنه أن التفرق بالأبدان في الحديث المتفق عليه ((البيعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا)) لم يمنع من حمل التفرق على الأقوال.

ص: 145

ولا يسمع الجرح في الراوي إلا مفسراً بما هو قادح متفق عليه.

ولا يجرح بالتدليس، قالوا: وهو كتمان انقطاع في الحديث، مثل أن يقول: حدثني فلان عن فلان، ولا يقول: قال حدثني فلان، أو قال: أخبرني فلان، والصحيح أن هذا ليس بجرح؛ لأنه يوهم شبهة الإرسال، وحقيقة الإرسال ليس بجرح فشبهته أولى.

قلت: التدليس عندهم إحداث الانقطاع لا كتمانه؛ لأنه إسقاط راوٍ من السند أو أكثر، ولا يختص بهذه الصورة، بل يكون بإسقاط شيخه الذي سمع منه،

ص: 146

وهذه الصورة التي ذكروها تسمى عندهم تدليس التسوية: وهي شرّ أنواع التدليس، وحينئذٍ فهو تحقق الإرسال لا أنه يوهم.

ثم إن المدلسين عندهم ما عدا سفيان بن عيينة إنما يسقطون الضعيف، فلا يصحّ أن يقال عليهم ما ذكر، من أن حقيقة الإرسال ليس بجرح؛ لأن المرسل عندنا إنما أرسل عن ثقة عنده.

ولا يجرح بالتلبيس: وهو أن يذكر الشيخ بما لا يشتهر به، ويسمّى هذا عند المحدثين تدليس الشيوخ، ومضرّته في المتقدمين نوعين طريق معرفة المحدث.

ص: 147