الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الأول
التطّرف مِن لَوازم التصَوُّف
لقد ذكرنا فيما سبق في كتابنا " التصوف: المنشأ والمصادر "(1) أن التطرف من لوازم التصوف وخصائصه ، وأنه أمر زائد على الزهد المشروع المجب إليه ، ولا يوجد صوفي لا يبالغ في التجوع والتعري وترك الحلال ، ويفرط في التقشف والتعنت وتعذيب النفس وتكليفها ما لا يطاق ، وجلب الأذى ، والتجاوز في أوامر الله ونواهيه ، والتقدم بين يدي الله ورسوله حتى يصل إلى اجتناب ما أمر الله به وتحريم ما أحل الله ، وتحليل ما حرم الله وإتيان ما منع الله عنه ورسوله صلوات الله وسلامه عليه ، وأوردنا بعض الأمثلة هناك مناسبة للمقام تاركين التفصيل لهذا الكتاب ، ونريد أن نذكر الباحث والقارئ قبل دخولنا في صميم الموضوع أن المشروع ما شرعه الله ورسوله ، والمستحب ما استحبه الله ونبيه وصفيه خير الخلائق أجمعين ، وكل أمر لم يأمر به الله ولم ينفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم مهما حسن منظره ، وعظم شأنه ، وحبب إلى النفوس فهو مقبوح مردود في دين الذي جاء به محمد صلوات الله وسلامه عليه ، وشرك بالله وكفر به وبكتابه وبرسوله حيث إنه عبارة بعدم كمال الدين وتمام النعمة وختم نبوة محمد صلوات الله وسلامه عليه بأن الله عز وجل قال في كتابه المحكم مخاطبا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياة نبيه وصفيه وفي أيامه الأخيرة {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (2).
وقال: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} (3).
وقال: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} (4).
(1) انظر مقدمة الكتاب ص 9 ط إدارة ترجمان السنة لاهور باكستان.
(2)
سورة المائدة الآية 3.
(3)
سورة الحشر الآية 7.
(4)
سورة الأحزاب الآية 40.
وقال: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (1).
وقال: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} (4).
وقال: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (5).
وقال: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (6).
وقال: {إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} (8).
وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا
(1) سورة سبأ الآية 28.
(2)
سورة الحجرات الآية 1.
(3)
سورة آل عمران الآية 31.
(4)
سورة الأنفال الآية 20.
(5)
سورة الشورى الآية 21.
(6)
سورة آل عمران الآية 19.
(7)
سورة آل عمران الآية 85.
(8)
سورة النور الآية 54.
(9)
سورة محمد الآية 33.
(10)
سورة الأحزاب الآية 21.
يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} (1).
وقال: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} (3).
هذا وقد قال عليه الصلاة والسلام:
(تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله)(4).
وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما جئت به)(5).
وقال: (إياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)(6).
وقال: (من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم الإسلام)(7).
وقال صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى) قيل: ومن أبى؟ قال: (من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)(8).
هذا ولقد روى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
جاء ثلاثة رهط إلى أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها ، فقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟
فقال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا.
(1) سورة الأحقاف الآية 9.
(2)
سورة النور الآية 63.
(3)
سورة الأنعام الآية 38.
(4)
رواه في الموطأ وله شاهد في الحكم.
(5)
رواه في شرح السنة وقال النووي: " هذا حديث صحيح ".
(6)
رواه أحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
(7)
رواه البيهقي في شعب الإيمان.
(8)
رواه البخاري.
وقال الآخر: أنا أصوم النهار أبدا ولا أفطر.
وقال الآخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا.
فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إليهم فقال: (أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله ، وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني)(1)
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فو الله أني أعلمهم بالله وأشدهم له خشية)(2).
وقال الداودي شارحا هذا الحديث:
" إن التنزه عما رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم من أعظم الذنوب لأنه يرى نفسه أتقى لله من رسوله وهذا إلحاد ".
وعلق عليه ابن حجر بقوله: " لا شك في إلحاد من أعتقد ذلك "(3).
وروى عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أنه قال:
(وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون فقلنا: يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصينا.
قال:
(أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن تأمر عليكم عبد.
وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا. فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ، عضوا عليها النواجذ. وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة) (4).
وعن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(ما من نبي بعثه الله في أمته قبلي إلا كان له في أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ، ثم أنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون ، ويفعلون ما
(1) متفق عليه.
(2)
متفق عليه.
(3)
أنظر فتح الباري لأبن حجر.
(4)
رواه أبو داود والترمذي.
لا يؤمرون. فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل) (1).
وعنه رضي الله عنه أيضا أنه قال:
خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال: (هذا سبيل الله).
ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله ، وقال:(هذه سبل ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ، وقرأ {وأن هذا صراطي مستقيما فأتبعوه} الآية (2).
ومثل ذلك ما رواه أبو داود في سننه عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:
(لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم ، فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم ، فتلك بقاياهم في الصوامع والديار رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم)(3).
وأخيرا ما ثبت في الصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)(4).
فالدين والشريعة عبارة عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما لم يرد ذكره فيهما فليس له من الأمر من شيء ، فإن أسلاف هذه الأمة وعلى رأسهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهموا الدين هكذا ، ولم يكونوا يحيدون عنهما قيد شبر ، وكل ما لم يثبت ولم يرد ذكره في كتاب ربهم وسنة نبيهم عدوه زيادة على الشرع وحدثا في الدين وبدعة مرفوضة وعملا مردودا ، صغيرا كان أم كبيرا.
وعلى ذلك قال صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود لمن رآهم يسبحون بالحصا:
" على الله تحصون؟ لقد سبقتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم علما ، وقد
(1) رواه مسلم.
(2)
رواه أحمد والنسائي والدارمي وحسنه الألباني.
(3)
رواه أبو داوود.
(4)
متفق عليه.
أحدثتم بدعة ظلما " (1).
وروى أن عبد الله بن مسعود بلغة أن الناس يجتمعون في ناحية من مسجد الكوفة يسبحون تسبيحا معلوما ويهللون ويكبرون.
قال: فلبس برنسا ثم أنطلق فجلس إليهم فلما عرف ما يقولون رفع البرنس عن رأسه ثم قال ك (أنا أبو عبد الرحمن) ثم قال:
(لقد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علما ، أو لقد جئتم ببدعة ظلما).
قال: فقال عمر بن عتبة: نستغفر الله ثلاث مرات ، ثم قال رجل من بني تميم: والله ما فضلنا أصحاب محمد علما ولا جئنا ببدعة ظلما ولكنا ربنا ، فقال:(بلى والذي نفس ابن مسعود بيده ، لقد فضلتم أصحاب محمد علما أو جئتم ببدعة ظلما ، والذي نفس ابن مسعود بيده لئن أخذتم آثار القوم ليسبقنكم سبقا بعيدا ، ولئن حرتم يمينا وشمالا لتضلن ضلالا بعيدا)(2)
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال:
(كنا عند عمر فقال: نهينا عن التكلف)(3).
وعنه نقل يعلى بن أميه أنه قال:
" طفت مع عمر بن الخطاب ، فلما كنت عند الركن الذي يلي الباب مما يلي الحجر أخذت بيده ليستلم ، فقال: أما طفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قلت: بلى
…
قال: فهل رأيته يستلمه؟
قلت: لا ، قال: فأبعد عنه ، فإن لك في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة " (4).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه:
(الإقتصاد في السنة أحسن من الاجتهاد في البدعة)(5).
(1) انظر " البدع والنهي عنها " لمحمد بن وضاح القرطبي الأندلسي المتوفي 286هـ ، ص 11/ ط دار الرائد العربي ببيروت.
(2)
المصدر السابق ص 9.
(3)
رواه البخاري.
(4)
رواه أحمد والطبراني ، ورجاله رجال الصحيح.
(5)
رواه الحاكم في المستدرك.
وروى أبو داود عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أنه قال:
" كل عبادة لم يتعبدها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا تعبدوها فإن الأول لم يدع للآخر مقالا ، فاتقوا الله يا معشر القراء ، وخذوا طريق من كان قبلكم "(1).
ولقد نقل عن إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله تعالى أنه قال: " من أبتدع بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} ، فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا "(2).
وكان يردد أيضا:
وخير أمور الدين ما كان سنة
…
وشر الأمور المحدثات البدائع (3)
وذكر الشاطبي عن ابن رواح عن الحسن أنه قال:
" صاحب البدعة لا يزداد اجتهادا ، صياما وصلاة إلا ازداد من الله بعداً "(4).
ومثل ذلك روى عن هشام بن حسان أنه قال:
" لا يقبل الله من صاحب بدعة صياما ولا صلاة ولا حجا ولا جهادا ولا عمرة ولا صدقة ولا عتقا ولا صرفا ولا عدلا "(5).
وأخيرا نذكر ما ذكره الشاطبي في اعتصامه تعريفا للبدعة ، فيقول:" البدعة عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه وتعالى ".
ثم فصل قوله " تضاهي الشرعية " يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك ، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة.
(1) رواه أبو داود.
(2)
سنن الدارمي ج 1 ص 60.
(3)
الإعتصام للشاطبي ج 1 ص 85.
(4)
أيضا ج 2 ص 82.
(5)
أيضا ص 84.
منها وضع الحدود كالناذر للصيام قائما لا يقعد ، صاحيا لا يستظل ، والاختصاص في الانقطاع للعبادة ، والاقتصار في المأكل والملبس على صنف من غير علة.
ومنها إلتزام الكيفيات والهيئات المعينة ، كالذكر بهيئة الاجتماع على صوت واحد ، واتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيدا ، وما أشبه ذلك.
ومنها التزام العبادات المعينة في أوقات معينة لم يوجد لها ذلك التعيين في الشريعة ، كالتزام صيام يوم النصف من شعبان وقيام ليلته.
وثم أوجه تضاهي بها البدعة الأمور المشروعة ، فلو كانت لا تضاهي الأمور المشروعة لم تكن بدعة ، لأنها من باب الأفعال العادية (1).
أما بعد فبعد هذا التمهيد والتوطئة المختصرة وذكر قول الله عز وجل حيث خاطب أهل الكتاب: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} (2).
نقول: أن أمور التصوف وأعمال المتصوفة كلها مبنية على مخالفة تلك الأسس والقواعد ، وليس فيها إتباع ولا اعتدال بل كلها ابتداع وغلو وتطرف ورهبانية ابتدعوها ، ما كتبها الله عليهم ، ولا أوجبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا عمل بها أصحابه ورفاقه ، تلامذته الراشدون ومبلغوا تعاليمه إلى العالمين ، الذين اقتفوا آثاره ،واهتدوا بهديه ، واتبعوا سننه ، وحملوا رايته ، وجاهدوا في الله حق جهاده ، ولم يكن واحد منهم معطلا نفسه ، منزويا في الأربطة والتكايا ، منعزلا في الخانقاوات والزوايا ، متعطلا عن العمل ، تاركا للجمعة والجماعة ، مخترعا الطرق المخصوصة للوصول إلى الله ، ومتخذا التعنت والتطرف تقربا وتزلفا إليه ، ولم يكن يعد التجوع والتعري سببا للنجاة ، ولا التسول والاستجداء وسيلة للنجاح ، وكانوا تجارا زراعيا صناعا ورعاء للإبل والماشية ، يكسبون الحلال ويرزقون به أولادهم ، أهلهم وذويهم ، ويطعمون الطعام على
(1) الاعتصام للشاطبي ج1 ص 39.
(2)
سورة النساء الآية 171.
حبه مسكينا ويتيما وأسيرا ، أصحاب الأهل والعيال ، وأرباب البيوت والأموال ، يبتغون فضلا من الله ورضوانا ، اللهم إلا من لم يجد إليها سبيلا ، مغلوبا على أمره مقهورا مجبورا ، وكان يكد ويجد ويجتهد صابرا شكورا إلى أن يغنيه الرزاق ذو القوة المتين.
خلافا للمتصوفة الذين جعلوا مسلكهم مبنيا على الغلو والتطرف ، ومسلكهم على التعنت والتقشف ، الذي لم ينزل الله به من سلطان ، ولم يأت به في السنة من برهان ، مخالفين طريقة نبي الله وصفيه وطريقة أصحابه خيار خلق الله وأوليائه ، مخترعين مبتدعين غير مقتدين ولا متبعين ، فقالوا: ما أخذنا التصوف عن القيل والقال لكن عن الجوع وترك الدنيا وقطع المألوفات والمستحسنات (1).
وذكروا أن الجوع هو ركن من أركان التصوف وأساس من أسسه فقال قائلهم: " شأن المزيد كثرة الجوع بطريقة الشرعي ، وهو معظم أركان الطريق ، فكما أن الشارع جعل معظم الحج عرفة ، كذلك أهل الله جعلوا الجوع هو الطريق "(2).
ونقل النفزي الرندي أن الجوع أحد الأركان الأربعة للتصوف ، والبقية هي:
الصمت والخلوة والسهر ، ومن حصل عليها فقد حصل على كلية الدواء والتحقق بزمرة الأولياء والبدلاء " (3).
وقال الشعراني: " كل فقير لا يحصل له جوع ولا عري فهو من أبناء الدنيا ، ليس له في طريق الفقراء نصيب "(4).
وعلى ذلك نقل القشيري عن أبي علي الروذباري أنه قال:
" إذا قال الصوفي بعد خمسة أيام: أن جائع فألزموه السوق وأمروه بالكسب "(5).
وذكر الكمشخانوي عن الجوع أنه أحد أركان المجاهدة ، وبسببه تنفجر ينابيع
(1) الرسالة القشيرية ج1 ص 117 بتحقيق عبد الحليم محمود.
(2)
الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية لعبد الوهاب الشعراني ج1 ص 55 ط دار أحياء التراث العربي بغداد.
(3)
انظر غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج1 ص 92 ط القاهرة.
(4)
الأخلاق المتبولية للشعراني ج2 ص 94 بتحقيق الدكتور منيع عبد الحليم محمود ط مصر.
(5)
الرسالة القشيرية لعبد الكريم القشيري ج1 ص 377.
الحكمة لأهل السلوك ، وهو من صفات أهل الحقيقة.
كما نقل عن سهل بن عبد الله التستري أنه كان يقول:
جعل الله في الشبع الجهل والمعصية ، وفي الجوع العلم والحكمة ، قال أبو سليمان الداراني:
" مفتاح الدنيا الشبع ، ومفتاح الآخرة الجوع ، وقال يحيى بن معاذ الرازي: الجوع نور والشبع نار "(1).
والصفوري يمدح الجوع الصوفي بقول قائلهم:
لأن أترك لقمة من عشائي أحب إلي من قيام ليل ، والجوع في خزائن الله لا يعطيه إلا لمن أحبه (2).
وحكى ابن الملقن عن يحيى بن معاذ الرازي المتوفي 258 هـ أنه قال:
الزهد ثلاثة أشياء: الخلوة ، والقلة ، والجوع (3).
وذكر صوفي قديم أبو عثمان الهجويري في شرف الجوع كلاما كثيرا مع ما ذكر فيه أحاديث واهية موضوعة ، فيقول:
" وقوله عليه السلام: بطن جائع أحب إلى الله من سبعين عابدا غافلا.
أعلم أن للجوع شرفا كبيرا ، وهو محمود عند الأمم والملل ، لأن خاطر الجائع يكون أحدّ من وجهة الظاهر ، وتكون قريحته أكثر تهذيبا ، وجسده أصح ومن هيأوا أنفسهم بالرياضة لا يكون لهم شره كبير ، لأن الجوع للنفس خضوع ، وللقلب خشوع ، فجسد الجائع خاضع وقلبه جائع لأن القوة النفسانية تتلاشى به.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أجيعوا بطونكم ، واظمئوا أكبادكم ، وأعروا أجسادكم ، لعل قلوبكم ترى الله عيانا في الدنيا ".
(1) جامع أصول الأولياء لأحمد الكمشخانوي ص 163 ط المطبعة الوهبية طرابلس 1289هـ ، ومثله تذكرة الأولياء للعطار ص 134.
(2)
نزهة المجالس للصفوري ج1 ص 177 ط
…
بغداد.
(3)
طبقات الأولياء لابن الملقن ص 322.
وإذا كان للجسد من الجوع بلاء ، فإن للقلب به ضياء ، وللروح به صفاء ، وللسر لقاء. وحين يدرك السر اللقاء ، وتجد الروح الصفاء ، ويجد القلب الضياء ، فأي ضير إذا لقي الجسد البلاء " (1).
ونقل الشعراني عن الخراز أنه كان يقول:
" الجوع طعام الزاهدين "(2).
ونقل عن أحمد الرفاعي أنه قال:
" أنا أحب للمريد الجوع والعري والفقر والذل "(3).
وعلى هذا الأساس نقلوا حكايات وأكاذيب عديدة لتمجيد الجوع وتمجيد المتجوعين والثناء عليهم ، أكاذيب واضحة صريحة. فقالوا:
" إن سهل بن عبد الله التستري كان لا يأكل الطعام نيفا وعشرين يوما "(4).
ومرة قالوا عنه أيضا أنه كان يأكل كل خمسة عشر يوما مرة ، فإذا دخل رمضان لم يكن يأكل شيئا إلى يوم العيد (5).
ومثل ذلك نقلوا عن إبراهيم بن أدهم أيضا (6).
وروى الطوسي أكثر من ذلك عن أبي عبيد البسري أنه " كان إذا دخل رمضان دخل البيت وسد عليه الباب ويقول لامرأته: " أطرحي كل ليلة رغيفا من كوة في البيت ولا يخرج منه حتى يخرج رمضان ، فتدخل امرأته البيت فإذا الثلاثون رغيفا موضوعة في ناحية البيت " (7).
وأغرب من ذلك أن الهجويري نقل هذه الحكاية عن الطوسي نفسه ، وهذه هي ألفاضها:
" إن الشيخ أبا نصر السراج الملقب بطاووس الفقراء وصاحب كتاب " اللمع " ورد
(1) كشف المحجوب للهجويري ص 570 ترجمة عربية ط دار النهضة العربية بيروت 1980م.
(2)
الطبقات الكبرى للشعراني ج1 ص 97.
(3)
الأنوار القدسية لعبد الوهاب الشعراني ج1 ص 132 ط بغداد.
(4)
اللمع للطوسي أبي نصر السراج ص 269.
(5)
كشف المحجوب للهوجيري ص 567 ترجمة عربية دكتورة اسعاد عبد الهادي ط بيروت 1980م.
(6)
أيضا.
(7)
اللمع لأبي نصر السراج الطوسي ص 217.
بغداد في شهر رمضان ، فأعطوه في مسجد الشونيزية وأسلموا إليه إمامه الدراويش ، فأمهم حتى العيد ، وكان يختم القرآن خمس مرات في التراويح ، وكان الخادم كل ليلة يضع قرصا في الخلوة ، فلما كان يوم العيد رحل رضي الله عنه ، ونظر الخادم فكانت الثلاثون قرصا في مكانها " (1).
ومن الغرائب أن هذه القصة البسرى بعينها بألفاظها ومدلولاتها ، ولو كانت للطوسي نفسه لم يكن ليسردها للآخر.
أو أن الحكايات واحدة من الأولين والآخرين.
وعلى كل فإن المكي أبا طالب زاد عليهما حيث حكى عن أحد المتصوفة أنه وقف على راهب فذاكره بحاله وطمع في إسلامه وترك ما هو عليه من الغرور ، فكلمه في ذلك بكلام كثير إلى أن قال له الراهب: فإن المسيح كان يطوي أربعين يوما وأنا معتقد إعجاز هذا ، وأنه لا يكون إلا لنبي.
فقال له الصوفي: فإن طويت خمسين يوما ما تترك ما أنت عليه وتدخل في دين الإسلام ، وتعلم أن ما نحن عليه حق وأنك على باطل؟
قال: نعم. فقعد عنده لا يبرح ولا يذهب إلا من حيث يراه الراهب إلى أن طوى خمسين يوما. فقال: أزيدك أيضا ، فطوى إلى تمام الستين فعجب الراهب منه وأعتقد فضله وفضل دينه وقال: ما كنت أظن أن أحدا يجاوز فعل المسيح عليه السلام ولكن هذه أمة تشبه بالأنبياء في العلم والفضل (2).
وروى ابن الملقن عن أبي بكر الفرغاني:
أنه دخل مصر على هذا الزي ، فعرف بها ، وأجتمع إليه الصوفية ، فتكلم عليهم ، فعرض له السفر ، فقام من مجلسه ، وخرج معه نحو من سبعين منهم ، فمشى في يومه فراسخ ، لا يعرج على أحد ، فأنقطع من كان خلفه ، وبقي منهم قليل ، فألتفت إليهم وقال:" كأني بكم قد جعتم وعطشتم؟ "، فقالوا:" نعم! " فعدل بهم إلى دير فيه صومعة
(1) كشف المحجوب للهجويري ص 567.
(2)
قوت القلوب في معاملة المحجوب لأبي طالب المكي ج2 ص 166 ط دار صادر بيروت.
راهب ، فلما دخلوا أشرف الراهب على أصحابه ، وناداهم:" أطعموا رهبان المسلمين! ، فإن بهم قلة صبر على الجوع " فغضب من ذلك ، ورفع رأسه إليه ، وقال:" أيها الراهب هل لك إلى خصلة نتبين بها الصابر والجازع؟ "، قال:" وما ذاك؟ " قال: " تنزل من صومعتك ، فتتناول من الطعام ما أحببت ، ثم تدخل معي بيتا ، ونغلق علينا الباب ، ويُدَلّى لنا من الماء قدر ما نتطهر به ، فأول من يظهر جزعه ، ويستغيث من جوعه ، ويستفتح الباب ، يدخل في دين صاحبه كائنا من كان ، على أنني منذ ثلاث لم أذق ذواقا ". قال الراهب: " لك ذلك ". فنزل من صومعته ، وأكل ما أحب وشرب ، ثم دخل مع أبي بكر بيتا ، وغُلِّق الباب عليهما ، والصوفية والرهبان يرصدونهما ، لا يسمع لهما حس أربعين يوما. فلما كان في اليوم الحادي والأربعين سمعوا حسحسة الباب ، وقد تعلق أحد به ، ففتحوا ، فإذا الراهب قد تلف جوعا وعطشا ، وإذا هو يستغيث بهم إشارة ، فأسقوه ، وأتخذوا له حريرة ، فصبوها في حلقه ، والفرغاني ينظر إليهم (1).
وروى أحدهم عن أبي محمد الباثغري أنه مضى عليه ثمانون يوما لم يطعم فيها شيئاً (2).
وذكر أصحاب الطبقات الصوفية عن أحد المتصوفة في الهند شاه ميان جي بيغ أنه كان يعتكف من غرة رجب إلى العاشور من محرم مغلقا عليه أبواب الحجرة ، وكان يمكث فيها ستة أشهر بلا ماء ولا طعام ، وقد مات سنة 889هـ (3).
ونقلوا مثل ذلك عن شاه كمال البغدادي الهندي المتوفى سنة 921 هـ (4).
وحكى ابن الملقن عن مفرج الدماميني أنه لما أشترى - وكان عبدا - مكث ستة أشهر لا يأكل ولا يشرب (5).
فاستقلوا هذه المدة أيضا فنقلوا عن البسطامي أنه قال:
(1) طبقات الأولياء لأبن الملقن المتوفي 804 هـ ص 303 ، 304 ط مكتبة الخانجي القاهرة.
(2)
كشف المحجوب ص 568.
(3)
انظر تذكرة أولياء بر صغير للميرزه محمد أختر الدهلوي أردو ج2 ص 42 ط لاهور باكستان.
(4)
أنظر تذكرة أولياء باك وهند للدكتور ظهور الحسن شارب ص 220 ط لاهور باكستان.
(5)
طبقات الأولياء لأبن الملقن ص 472.
" دعوت نفسي إلى شيء من الطاعات فلم تجبني ، فمنعتها عن الماء سنة "(1).
أين هذا من إبراهيم بن أدهم حيث ذكروا عنه أنه " أول دخوله الطريق سنة لا أكل ولا شرب ولا نام "(2).
ومن الشيخ الجيلاني حيث نقل عنه الشعراني أنه " مكث بداية أمره سنة لا يأكل ولا يشرب ولا ينام "(3).
ولم يكتفوا بهذه المدة أيضا حتى قال كبير القوم أبو القاسم القشيري رواية عن السلمي أنه قال بإسناده عن أبي عقال المغربي أنه أقام بمكة أربع سنين لم يأكل ولم يشرب إلى أن مات (4).
فهل هذا معقول يا عباد الله؟
وهل هذا من الدين؟
وهل أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن نأتي مثل هذه الشعبذات؟ أو كان أحد من أصحابه يأتي بمثل هذه النيرنجيات والطلمسات والمخاريق؟ ولكن القوم يعدونها من لوازم الولاية والكرامة ، فيخترعون القصص ويبدعون في اختلاقها ، وينسجون الأساطير ويسردون الأباطيل ، ويحشونها بالكذب المحض ويغلون ويبالغون فيه.
فمن الغرائب أن أبا النصر السراج الطوسي جاوز الحدود فقال:
" رأيت إنسانا من الصوفية مكث سبع سنين لم يشرب الماء "(5).
وقال واحد من هؤلاء:
" إن الشيخ بديع المتوفى سنة 840 هـ الذي يعد من كبار المشائخ وأولياء الهند
(1) جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج2 ص 115 ط دار صادر بيروت ، ومثله في تذكرة الأولياء لفريد الدين عطار ص 93 ط باكستان.
(2)
كتاب الطبقات في خصوص الصالحين والأولياء لمحمد ضيف الله الجعلي ص 61 ط المكتبة الثقافية ببيروت.
(3)
الأخلاق المتبولية لعبد الوهاب الشعراني ج1 ص 150.
(4)
أنظر الرسالة القشيرية ج1 ص 220 بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود ط القاهرة 1972م.
(5)
كتاب اللمع للطوسي ص 408.
وحائزا على مقام الصمدية لم يذق طعاما مدة إثني عشر عاما " (1).
وكتب الآخر وهو فريد الدين مسعود المتوفى 664هـ بأنه وقف على رجليه في عالم الاستغراق عشرين سنة لم يجلس فيها ولم يأكل شيئا (2).
وأما عبد العزيز الدريني المتوفى 697هـ فلم يستكثر هذا ، بل نقل عن أبي هند أنه صام أربعين سنة ولم يعلم الناس ولا أهل بيته ، كان يأخذ الخبز ويخرج فيتصدق به فيظن الناس أنه يأكل في البيت ، ويظن أهل بيته أنه يأكل مع الناس (3)
هذا ورووا في فضل التجوع روايات كتلك الحكايات واهية باطلة ، مختلقة مصطنعة ، مثل ما ذكر الكمشخانوي أن عمر بن عبد العزيز أجاع صنفا من الطير أربعين صباحا ثم طاروا في الهواء ورجعوا رائحة المسك تفوح منها.
قال القشيري: لا يبعد أنها وصلت إلى الجنة.
وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من عرف الله وعظمه منع فاه من الكلام وبطنه من الطعام (4).
كما روى الآخر عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:
" بطن جائع أحب إلى الله من سبعين عابدا غافلا "(5).
وروى الصفوري الشافعي عنه صلى الله عليه وسلم " أفضلكم عند الله منزلة أطولكم جوعا "(6).
وأيضاً " من أجاع بطنه عظمت فكرته وفطن قلبه "(7).
و" نوَروا قلوبكم بالجوع وخشن الثياب "(8).
(1) أنظر خزينة الأصفياء لغلام سرور اللاهوري ص 290 ترجمة أردية ط لاهور باكستان.
(2)
تذكرة أولياء باك وهند للدكتور شارب الدهلوي ص 55.
(3)
أنظر طهارة القلوب والخضوع لعلام الغيوب لعبد العزيز الدريني ص 209 ط مصطفى البابي الحلبي مصر 1972م.
(4)
جامع أصول الأولياء للكمشخانوي ص 164.
(5)
كشف المحجوب للهجويري ص 569.
(6)
نزهة المجالس للصفوري الشافعي ص 177.
(7)
إحياء علوم الدين للغزالي ج3 ص 80 ط دار القلم بيروت الطبعة الأولى.
(8)
نزهة المجالس للصفوري ج1 ص 177 ط دار الكتب العلمية بيروت.
ونقل ابن عجيبة الحسني عن أبي سليمان الداراني أنه قال:
" أحلى ما تكون العبادة إذا لصق ظهري ببطني "(1).
ومثل هذا ورد عن القوم في ترك الماء البارد والعذب ، واجتناب اللحم ، والتحرز عن الطيبات ، فيقولون:
" من شرب الماء لم يشتق إلى الجنة "(2).
وروى الكلاباذي والقشيري عن الجنيد أنه قال:
" دخلت يوما على السري السقطي وهو يبكي فقلت له: ما يبكيك؟
فقال: جاءتني البارحة الصبية فقالت:
يا أبتي ، هذه ليلة حارة ، وهذا الكوز أعلقه ها هنا.
ثم أني حملتني عيناي فنمت ، فرأيت جارية من أحسن الخلق الخلق قد نزلت من السماء ، فقلت: لمن أنت؟
فقالت: لمن لا أشرب الماء المبرد في الكيزان.
فتناولت الكوز فضربت به الأرض فكسرته.
قال الجنيد: فرأيت الخزف لم يرفعه ولم يمسه ، حتى عفا عليه التراب (3).
وأما الشعراني فروى عن بعض مشايخ الصوفية أنه كان يقول:
" مثقال ذرة من لحم تقسي القلب أربعين صباحا "(4).
وهناك حكايات أخرى سردها النفزي الرندي المتوفى 792 هـ ، منها ما نقله عن إبراهيم الخواص أنه قال:
" كنت في جبل " لكام " فرأيت رمانا (فاشتهيته ، فدنوت منه فأخذت واحدة
(1) الفتوحات الإلهية لابن عجيبة الحسني ص 154 ط القاهرة.
(2)
المعارضة والرد المنسوب إلى سهل بن عبد الله التستري ص 125 بتحقيق محمد كمال جعفر ط دار الإنسان القاهرة 1980م.
(3)
الرسالة القشيرية ج1 ص 72 ، أيضا نزهة المجالس للصفوري ج1 ص 245 ط بيروت ، أيضا التعرف لمذهب أهل التصوف لأبي بكر الكلاباذي ص 184 ط مكتبة الكليات الأزهرية.
(4)
طبقات الشعراني ج1 ص 46.
فشققتها ، فوجدتها حامضة قضيت وتركت الرمان ، فرأيت رجلا مطروحا قد أجتمعت عليه الزنانير فقلت: السلام عليك ، فقال: وعليك السلام يا إبراهيم ، فقلت: كيف عرفتني؟ فقال: من عرف الله لم يخف عليه شيء وفقلت: أرى لك حالا مع الله تعالى ، فلو سألته أن يحميك ويقيك من هذه الزنانير!! فقال: وأرى لك حالا مع الله تعالى ، فلو سألته أن يحميك ويقيك من شهوة الرمان ، فإن لذع (شهوة) الرمان يجد الإنسان ألمه في الآخرة. ولدغ عن الزنانير يجد ألمه في الدنيا ".
وقال السري رضي الله تعالى عنه: " إن نفسي تطالبني منذ ثلاثين سنة أو أربعين سنة أن أغمس جزرة في دبس فما أطعمتها " ، فلما كان ترك الشهوات والتنعمات من شأن المريد ومن مقتضى حاله لزمه الوفاء به وكان عمله على خلافه نقضا وفسخا ، كما تقدم.
قال جعفر بن نصير ، رضي الله تعالى عنه: " دفع إليَّ الجنيد درهما وقال أشتر به التين الوزيري فاشتريته ، فلما أفطر أخذ واحدة ووضعها في فمه ثم ألقاها ، وبكى ، وقال: أحمله!! فقلت له في ذلك ، فقال: هتف بي هاتف أما أستحي شهوة تركتها من أجله ثم تعود إليها!
وقال عتبة الغلام لعبد الواحد بن زيد رضي الله عنهما: إن فلانا يصف من قلبه منزلة ما أعرفها. قال: لأنك تأكل مع خبزك تمرا وهو لا يزيد على الخبز شيئا. فقلت: إن كنتُ تركتُ أكل التمر عرفتُ تلك المنزلة؟ قال: نعم وغيرها. فأخذ يبكي ، فقال له بعض أصحابه: لا أبكى الله عينيك ، أعلى التمر تبكي؟ فقال عبد الواحد: دعه فإن نفسه قد عرفت صدق عزمه في الترك ، هو إذا ترك شيئا لم يعاود فيه أبداً ".
وقال أحمد بن الجواري: " أشتهى أبو سليمان الداراني ، رضي الله تعالى عنه ، رغيفا حاراً بملح فجئت به إليه ، فعض منه عضةً ، ثم طرح الرغيف ، وقال: عَجِلَت إلى شهوتي بعد إطالة جهدي وشقوتي ، قد عزمت على التوبة فأقبلني ، قال أحمد: " فما رأيته أكل الملح حتى لقي الله تعالى ".
قال أبو تراب النخشبي ، رضي الله عنه: " ما تمنت نفسي شهوة من الشهوات إلا مرة واحدة تمنت خبزا وبيضا وأنا على سفر ، فعدلت إلى قرية ، فقام واحد وتعلق بي وقال: هذا كان مع اللصوص ، فضربوني سبعين دِرِّة ، ثم عرفني رجل منهم ، فقال:
هذا أبو تراب النخشبي ، فأعتذروا إليَّ ، فحملني رجل منهم منزله ، وقدم إليَّ خبزا وبيضا ، فقلت في نفسي: كلي بعد سبعين درة ".
وقال بعضهم: أشتهى أبو الخير العسقلاني ، رضي الله تعالى عنه ، السمك سنين ثم ظهر له ذلك من موضع حلال ، فلما مدّ يده إليه ليأكل دخلت شوكة من عظامه أصبعه ، فذهبت في ذلك يده ، فقال ك " يا رب ، هذا لمن مد يده بشهوة إلى حلال فكيف بمن مد يده بشهوة إلى حرام؟ ".
كما رووا عن أبي الخير الأقطع أنه " عقد مع الله عقداً أن لا يمد يده إلى شيء مما تنبت الأرض بشهوة ، فنسي وتناول عنقودا من شجرة البطم ، فبينما هو يلوكه إذ تذكر العقد فرمى بالعنقود وبقي ما في فمه ، فبصقه وجلس نادما ، قال: فما أستقر بي الجلوس حتى دار بي فرسان ورجال وقالوا: قم. فساقوني إلى أن أخرجوني إلى ساحل بحر إسكندرية! فرأيت هناك أميرا وبين يديه سودان قد قطعوا الطريق فوجدوني أسود اللون ومعي ترس وحربة فقالوا: هذا منهم بلا شك ، فقطع أيديهم وأرجلهم إلى أن وصل إليّ فقال لي: قدّم يدك ، فمددتها ثم رفعت رأسي وقلت: إلهي وسيدي ومولاي ، يدي جنت فرجلي ماذا صنعت؟
فدخل عليه فارس ورمى بنفسه على الأمير وقال: هذا رجل صالح يعرف بأبي الخير التبناتي ، فرمى الأمير نفسه إلى الأرض وأخذ يدي المقطوعة من الأرض يقبلها ، وتعلق بي يبكي ويعتذر إلي ، فقلت له: جعلتك في حل من أول ما قطعتها ، وقلت: يد جنت فقطعت (1).
فهكذا حرّم الصوفية على أنفسهم أكل الطيبات وابتعدوا عنها زعماً منهم أن هذا الصنيع سيرقبهم إلى الله تعالى ، وأنى لهم ذلك.
هذا وكتب السهروردي أن الصوفية عودوا أنفسهم بتقليل المطعم حتى رد بعضهم نفسه إلى أقلّ قوتها ، فيقول:
(1) أنظر طبقات الشعراني ج1 ص 109 ، خزينة الأصفياء ص 110 ط باكستان.
" ومن الصالحين من كان يعير القوت بنوى التمر وينقص كل ليلة نواة.
ومنهم من كان يعير بعود رطب ، وينقص كل ليلة نواة.
ومنهم من كان يعير بعود رطب وينقص كل ليلة بقدر نشاف العود.
ومنهم من كان ينقص كل ليلة ربع سبع الرغيف حتى يفنى الرغيف في شهر (1).
ونقل كذلك عن الزاهد خليفة أنه كان يأكل في كل شهر لوزة (2)
وروى النفزي الرندي عن بعضهم أنه مكث خمسين سنة ، لم يزد على زبيبة كل يوم (3).
وحكى النبهاني في كتابه عن سهل أنه كان قوته في السنة بدرهم شعير بغير ملح ولا أدم (4).
وهذا كله رغم ما ورد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما يخالف صنيعهم ويعارض طريقهم حيث قال الرب تبارك وتعالى في كلامه:
{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} (5).
وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب الحلواء والعسل (6).
وعن عبد الله بن جعفر أنه قال: (رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل الرطب بالقثاء)(7).
وعن عمرو بن أمية أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة في يده ، فدعى إلى الصلاة فألقاها والسكين التي يحتز بها ، ثم قام فصلى ، ولم يتوضأ (8).
وعن أنس ، أن خياطا دعا النبي صلى الله عليه وسلم لطعام صنعه ، فذهبت مع
(1) عوارف المعارف للسهروردي ص 223.
(2)
أيضا.
(3)
غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج1 ص 150.
(4)
جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج2 ص 115 ط دار صادر بيروت.
(5)
سورة الأعراف الآية 32.
(6)
رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها.
(7)
متفق عليه.
(8)
متفق عليه.
النبي صلى الله عليه وسلم فقرب خبز شعير ومرقا فيه دباء وقديد ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء من حوالي القصعة ، فلم أزل أحب الدباء بعد يومئذ (1).
وعن جابر ، أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أهله الأدم فقالوا: ما عندنا إلا خل ، فدعا به ، فجعل يأكل به ويقول:
{نعم الإدام الخل ، نعم الأدام الخل} (2).
وعن أبي أيوب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى بطعام أكل منه وبعث بفضله إلي ّ (3).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: " أتى رسول الله بلحم فرفع إليه الذراع وكانت تعجبه فنهس منها "(4).
وعن ابن عباس ، قال:" كان أحبّ الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الثريد من الخبز ، والثريد من الحيس "(5).
وعن أبي أسيد الأنصاري ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {كلوا الزيت وأدهنوا به ، فإنه من شجرة مباركة} (6).
وعن عائشة ، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأكل البطيخ بالرطب (7).
وعن ابني بسر السلميين ، قالا: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقدمنا زبدا وتمرا ، وكان يحب الزبد والتمر (8).
وعن عكراش بن ذؤيب ، قال: أتينا بجفنة كثيرة الثريد والوذر ، فخبطت بيدي في نواحيها ، وأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين يديه ، فقبض بيده اليسرى على يدي اليمنى ثم قال: يا عكراش ، كل من موضع واحد فإنه طعام واحد ، ثم أتينا بطبق
(1) متفق عليه.
(2)
رواه مسلم.
(3)
رواه مسلم.
(4)
رواه الترمذي وابن ماجه.
(5)
رواه أبو داوود.
(6)
رواه الترمذي وابن ماجه والدارمي.
(7)
رواه الترمذي.
(8)
رواه أبو داود.
فيه ألوان التمر ، فجعلت آكل من بين يديّ ، وجالت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطبق ، فقال يا عكراش: كل من حيث شئت ، فإنه غير لون واحد (1).
وعن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأنصار ، ومعه صاحب له ، فسلّم فردّ الرجل وهو يحوّل الماء في حائط ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن كان عندك ماء بات في شنّة وإلا كرعنا؟)
فقال: عندي ماء بات في شنّ ، فانطلق إلى العريش فسكب في قدح ماء ، ثم حلب عليه من داجن ، فشرب النبي صلى الله عليه وسلم ثم أعاد فشرب الرجل الذي جاء معه (2).
وعن الزهري عن عروة عن عائشة ، قالت: كان أحب الشراب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحلو البارد (3).
وعن عائشة ، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يستعذب له الماء من السقيا ، قيل هي عين بينها وبين المدينة يومان (4).
وعن أنس ، قال: لقد سقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدحي هذا الشراب كله العسل والنبيذ والماء واللبن (5).
وعن عائشة ، قالت: كنا نبيذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء يوكأ أعلاه ، وله عزلاه، ننبذ غدوة فيشربه عشاء ، وننبذ عشاء فيشربه غدوة (6).
وأخيرا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف)(7).
(1) رواه الترمذي.
(2)
رواه البخاري.
(3)
رواه الترمذي.
(4)
رواه أبو داود وصححه الألباني.
(5)
رواه مسلم.
(6)
رواه مسلم.
(7)
رواه مسلم وأبن ماجه.
وخير ما ورد في هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا وجد أكل وشرب وشكر ، وإذا لم يجد ما يأكله ويشربه فصبر ، ولم يكن يرد موجودا كما لم يكن يتكلف مفقودا ، وما أحسن ما كتبه الحافظ ابن قيم الجوزية رحمه الله عن هدية صلى الله عليه وسلم وسيرته في الطعام فقال:
" كان هديه وسيرته في الطعام لا يرد موجودا ولا يتكلف مفقودا فما قرب إليه شيء من الطيبات إلا أكله إلا أن تعافه نفسه فيتركه من غير تحريم وما عاب طعاما قط إن أشتهاه أكله وإلا تركه كما ترك أكل الضب لما لم يعتده ولم يحرمه على الأمة بل أكل على مائدته وهو ينظر وأكل الحلوى والعسل وكان يحبهما وأكل لحم الجزور والضأن والدجاج ولحم الحبارى ولحم الوحش والأرنب وطعام البحر وأكل الشوي وأكل الرطب والتمر وشرب اللبن خالصا ومشوبا والسويق والعسل بالماء وشرب نقيع التمر وأكل الخزيرة وهي حساء يتخذ من اللبن والدقيق وأكل القثاء بالرطب وأكل الإقط وأكل التمر بالخبز وأكل الخبز بالخل وأكل الثريد وهو الخبز باللحم وأكل الخبز بالأهالة وهي الودك وهو الشحم المذاب وأكل من الكبد المشوبة وأكل القديد وأكل الدباء المطبوخة وكان يحبها وأكل المسلوقة وأكل الثريد بالسمن وأكل الجبن وأكل الخبز بالزيت وأكل البطيخ بالرطب وأكل التمر بالزبد وكان يحبه ولم يكن يد طيبا ولا يتكلفه بل كان هديه أكل أكل ما تيسر فإن أعوزه صبر حتى أنه ليربط على بطنه الحجر من الجوع ويرى الهلال والهلال والهلال ولا يوقد في بيته نار وكان معظم مطعمه يوضع على الأرض في السفر وهي كانت مائدته وكان يأكل بأصبعه الثلاث ويلعقها إذا فرغ ، وهو أشرف ما يكون من الأكلة ، فإن المتكبر يأكل بإصبع واحد ، والجشع الحريص يأكل بالخمس ويدفع بالراحة ، وكان لا يأكل متكئاً "(1).
ولكن القوم عكسوا الموضوع فحرموا ما أحل الله ، وتعنتوا وتطرفوا في ترك الطعام والشراب ، وأسسوا أسسا وأصلوا قواعد لا وجود لها في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ولا في سيرة أصحابه خيار خلق الله وأبرار هذه الأمة المغفورة لها
(1) زاد المعاد في هدي خير العباد لأبن قيم الجوزية ج1 ص 37.
، لم يأخذوها إلا من البراهمة ورهبنة النصارى (1).
ومن تطرفات القوم وتعنتهم في هذا أيضا ما رواه الغزالي أن مالك بن دينار مرض مرضه الذي مات فيه ، فأشتهى قدحاً من العسل واللبن ليثرد فيه رغيفا حارا ، فمضى الخادم وحمل إليه ، فأخذه مالك بن دينار ونظر فيه ساعة وقال:" يا نفس قد صبرت ثلاثين سنة ، وقد بقي من عمرك ساعة ، ورمى القدح من يديه ، وصبر نفسه ومات "(2).
فهل هذا من الدين يا ترى ، وهل هذا هو الزهد الذي يدندنون حوله ويطبلون؟
ولقد روى القشيري مثل هذا عن بشر بن الحارث " أنه أشتهى الباقلاء سنين فلم يأكله فرؤي في المنام بعد وفاته فقيل له: ما فعل الله بك؟
قال: فغفر لي ، وقال (أي الرب): كل يا من لم يأكل ، وأشرب يا من لم يشرب (3).
وقبله السلمي روى طبقاته عن بشر هذا أنه قال:
" إني لأشتهي الشواء منذ أربعين سنة ، فما صفا لي درهمه.
وقال له رجل: لا أدري بأي شيء آكل خبزي؟
فقال له: أذكر العافية وأجعلها أدامك " (4).
وروى ابن الملقن ابن أبي عبد الله المغربي المتوفي 299هـ أنه مكث سنين كثيرة لا يأكل ما وصلت إليه أيدي بني آدم (5).
وذكر الكمشخانوي أن أبا تراب النخشبي كان يأكل من البصرة إلى مكة أكلة واحدة (6).
(1) أنظر تفصيل ذلك وأدلته في كتابنا " التصوف: المنشأ والمصادر " الباب الثاني ط إدارة ترجمان السنة لاهور باكستان.
(2)
مكاشفة القلوب إلى علام الغيوب لأبي حامد الغزالي ص 15 ط الشعب القاهرة.
(3)
الرسالة القشيرية ج1 ص 76 ، أيضا روضة التعريف لل ن الدين بن الخطيب ص 539 ط دار الفكر العربي.
(4)
جامع الأصول في الأولياء للكمشخانوي ص 164.
(5)
طبقات الأولياء لأبن الملقن ص 403.
(6)
جامع الأصول في الأولياء للكمشخانوي ص 164.
وقال الشعراني:
" راضى الصوفية أنفسهم بالجوع حتى صارت تصبر على الطعام أربعين يوما وأكثر ، وبعضهم حجّ من مصر بأربعة أرغفة حملها معه أكل في كل ربع من الطريق رغيفا ، وبعضهم حجّ برغيفين ، رغيف أكله بمكة ورغيف أكله في العقبة ، وبعضهم أكل في مصر من يوم خروج الحجاج فلم يأكل شيئا حتى رجع مصر "(1).
والصوفي الفارسي الباخرزي المتوفى سنة 736 هـ كتب أن المشائخ قالوا:
" لا تأكل ما تشتهي ، وأن تأكل لا تطلبه ، وأن تطلبه لا تتزين به ، وقالوا: ما فوق الخبز فهو شهوة ولو كان ملحاً ، ولكن البعض يقولون: أن الخبز من كبرى المشتهيات ، وأعلاها اللحم والحلوى ، وأدناها الملح والخلّ "(2).
ونقل ابن عجيبة الحسنى عن سهل التستري أنه قال:
" لأن أترك من عشائي لقمة أحب إليّ من قيام ليلة "(3).
ونقل العطار عن سري السقطي أنه كان يقول:
" منذ أربعين سنة تتمنى نفسي شرب العسل ولكني لم أجبها "(4).
وعلى ذلك يتركون التكسب ويرونه من المبغضات بل المنكرات والمحرمات ، ويأمرون بالتسول والاستجداء أو الكسل والخمول مع أنه من سنة رسول الله وسنة خلفائه الراشدين المهديين بعده ، الذين أمر المؤمنين بإقتدائه وأتباع سنتهم ، وهو سنة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عامة إلا من أعوز الفقر أو اقعدته الملمات.
والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة لا تعد ولا تحصى ، نذكر منها ما رواه المقداد بن معد يكرب أنه قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أكل أحد طعاما قط خيراً من أن يأكل من
(1) درر الغواص للشعراني ص 59 من هامش الإبريز للدباغ ط مصر.
(2)
أوراد الأحباب وفصوص الأدب (فارس) لأبي المفاخر يحيى الباخرزي بتحقيق أبرج أفشار ص 332 ط جامعة طهران 1966 م ،.
(3)
الفتوحات الإلهية لأبن عجيبة الحسني ص 134.
(4)
تذكرة الأولياء لفريد الدين عطار ص 153 ط لاهور.
عمل يديه ، وأن نبي الله داود عليه السلام كان يأكل من عمل يديه) (1).
وروت عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(إن أطيب ما أكلتم ، من كسبكم ، وأن أولادكم من كسبكم)(2).
وقال صلى الله عليه وسلم:
(إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ، وولده من كسبه)(3).
وعن رافع بن خديج أنه قال:
قيل يا رسول الله ، أي الكسب أطيب؟
قال: (عمل الرجل بيده ، وكل بيع مبرور)(4).
وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء)(5).
وأخيرا ما رواه الزبير بن العوام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة حطب على ظهره فيبيعها فيكفّ الله بها وجهه خير له من أن يسأل الناس ، أعطوه أو منعوه)(6).
وفي هذا المعنى ما رواه أبو داود وابن ماجة أن رجلا من الأنصار أتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله ، فقال: أما في بيتك شيء؟
فقال: بلى ، حلس نلبس بعضه ونبسط بعضه ، وقعب نشرت فيه من الماء ، قال: أئتني بهما ، فأتاه بهما ، فأخذهما رسول الله بيده وقال: من يشتري هذين؟
قال رجل: أنا آخذهما بدرهم ، قال: من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثا ، قال
(1) رواه البخاري.
(2)
رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه.
(3)
رواه أبو داود ومثله في الدارمي.
(4)
رواه أحمد.
(5)
رواه الترمذي والحاكم والدارمي واللفظ له.
(6)
رواه البخاري.
رجل: أنا آخذهما بدرهمين ، فأعطاهما إياه. فأخذ الدرهمين فأعطاهما الأنصاري ، وقال: أشتر بأحدهما طعاما فأنبذه إلى أهلك ، وأشتر بالآخر قدوما ، فأتني به ، فأتاه به ، فشد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عوداً بيده ، ثم قال: أذهب فاحتطب وبع ، ولا أرينك خمسة عشر يوماً ، فذهب الرجل يحتطب ويبيع ، فجاءه وقد أصاب عشرة دراهم فأشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا خير لك من أن تجيء المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة ، إن المسألة لاتصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع ، أو لذي غرم مفظع ، أو لذي دم موجع)(1).
وعن أبي سعيد أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي)(2).
وعن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(لا حسد إلا في أثنتين: رجل أعطاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ، ورجل أعطاه الله مالا فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار)(3).
وعن أبي مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إذا أنفق المسلم نفقة على أهله وهو يحتسبها كانت له صدقة)(4).
وعن أبي هريرة قال: يا رسول الله ، أي الصدقة أفضل؟
قال: (جهد المقل وأبدأ بمن تعول)(5).
فهذا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم وثبت عنه في فضل الكسب والمكتسب ، وهو أزهد العالمين وأتقاهم لله ، وقد أقر بذلك الطوسي حيث قال:
(1) مشكاة المصابيح ج1 ص 581.
(2)
رواه مسلم.
(3)
متفق عليه.
(4)
متفق عليه.
(5)
رواه أبو داود.
" إن التكسب من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نقل عن سهل بن عبد الله أنه قال: من طعن على لاكتساب فقد طعن على السنة ، كما نقل عن عبد الله بن المبارك أنه كان يقول: لا خير فيمن لا يذوق ذل المكاسب، وأيضا مكاسبك لا تمنعك عن التفويض والتوكل إذا لم تضيعها في كسبك "(1).
ولكن المتصوفة يقولون عكس ما قاله الرسول وما أمر به وما ورد في كتاب الله ، فيقولون:" من طلب معاشا فقد ركن إلى الدنيا "(2).
وأبو نصر السراج الطوسي الذي أقر بكون التكسب سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي نقل عن ذي النون المصري أنه قال:
" إذا طلب العرف المعاش فهو لاشيء "(3).
كما ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأمر أصحابه بطلب المعاش (4).
ظنا منه بأن " الكسب رخصة وأباحه لمن لم يطلق حال التوكل "(5).
وهذا غلط وفاسد لأن التوكل ليس معناه الترك ، بل معناه الجد والعزم ، ثم الإعتماد على الله بأنه وحده يثمر الجهود ويقللها من النجاح ، لا الإنسان ، وهذا معنى قوله {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} (6).
ولكن ابن محمد الشطا الدمياطي يقول:
" أترك الكسب حال كونك متجرداً عن الأهل والأولاد "(7).
وذكروا عن ابن السماك أنه كان يقول:
" لا تشتغل بالرزق المضمون عن العمل المفروض ، وكن اليوم مشغولا بما أنت
(1) أنظر كتاب اللمع للطوسي ص 259 ط دار الكتب الحديثة 1960 م.
(2)
عوراف المعارف للسهروردي ص 165.
(3)
كتاب اللمع للطوسي ص 162.
(4)
أيضا ص 184.
(5)
أيضا ص 524.
(6)
سورة آل عمران الآية 159.
(7)
كفاية الأتقياء ومنهاج الأصفياء لأبي بكر محمد الشطا الدمياطي ط دار الكتب العربية مصر.
عليه مسئول غدا ، وإياك والفضول فإن حسابها يطول.
إني علمت وخير العلم أنفعه
…
إن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعييني تطلبه
…
ولو قعدت أتاني لا يعديني (1).
وحكوا في كتبهم عن أويس القرني أنه لقيه هرم بن حبان على شاطئ الفرات يغسل كسرا وخرقا قد التقطها من المنبوذ ، وكان ذلك أكله ولباسه ، قال: فسألته عن الزهد أي شيء هو؟
فقال: في أي شيء خرجت؟
قلت: أطلب المعاش ، فقال: إذا وقع الطلب ذهب الزهد (2).
وذكر السهروردي عن أبي يزيد البسطامي أنه قيل له: ما نراك تشتغل بالكسب؟
فمن أين معاشك؟
فقال: مولاي يرزق الكلب والخنزير تراه لا يرزق أبا يزيد (3).
ويقول السهروردي أيضا:
" إذا كمل شغل الصوفي بالله وكمل زهده لكمال تقواه بحكم الوقت عليه بترك التسبّب (4).
ونقل عبد الرحمن الجامي الصوفي الفارسي الكبير عن إبراهيم بن أدهم أنه قال لشخص أتريد أن تكون وليا من أولياء الله؟
فقال: نعم.
فقال له: لا ترغب في شيء من الدنيا والآخرة (5).
وذكر الفيتوري عن فتح الله بوراس القيرواني أنه كان من أهل التوكل ولا يكتسب من الدنيا شيئا ، ولا قبضت يده منجلا يحصد به الزرع ، ولا جعل محراثا يحرث في أرض
(1) شرح كلمات الصوفية جمع وتأليف محمود الغراب ص 140 ط القاهرة 1402هـ.
(2)
قوت القلوب لأبي طالب المكي ص 267.
(3)
عوارف المعارف للسهروردي ص 159 ، أيضا كفاية الأتقياء للدمياطي ص 28.
(4)
عوارف المعارف للسهروردي ص 153.
(5)
نفحات الأنس للجامي ص 6 طبعة فارسية إيران 1337 هجري قمري.
بادية ولا حاضرة ولا وجبت عليه زكاة الفطر قط (1).
وقال ابن عجيبة الحسني:
" التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار ، والتحقق بالبذل والإيثار ، وترك التدبير والاختيار .... والصوفي الصادق علامته أن يفتقر بعد الغنى ، ويذل بعد العز ، ويخفى بعد شهرة "(2).
ونقل الجامي عن إبراهيم الهروي أنه قال:
" من أراد أن يبلغ كل الشرف فليختر سبعا على سبع: الفقر على الغنى ، والجوع على الشبع ، والدون على المرتفع ، والذل على العز ، والتواضع على الكبر ، والحزن على الفرح ، والموت على الحياة "(3).
ومثله في غيث المواهب (4).
وكتب فريد الدين عطار حكاية عن إبراهيم بن أدهم أنه قال لأحد أثناء طوافه حول الكعبة لا تصلح أن تعد الصالحين ما لم تغلق على نفسك باب العز والغنى ، وتفتح باب الذل والفقر (5).
فهكذا أعرض الصوفية عن التكسب والأشغال بطلب الرزق بظن منهم أن هذه هي تعاليم الإسلام - وحاشاه من ذلك - وهكذا حثوا الناس على التمسك بالفقر والذل ، واختيار الخمول والكسل.
هذا ، ومن تطرفات المتصوفة التعري وتعذيب النفس والجسم ، ولقد ذكرنا منها روايات وحكايات عديدة في كتابنا " التصوف: المنشأ والمصادر " (6).
ونورد ههنا في بيان تقشفهم وتعنتهم وغلوهم في ترك الطيبات التي أحلها الله لعباده ،
(1) الوصية الكبرى لعبد السلام الأسمر الفيتوري ص 74 ط مكتبة النجاح طرابلس 1976م.
(2)
إيقاظ الهمم في شرح الحكم لأبن عجيبة الحسني ص 4 ط البابي الحلبي القاهرة 1982م.
(3)
نفحات الأنس للجامي ص 45.
(4)
أنظر غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ص 200.
(5)
تذكرة الأولياء لفريد الدين عطار أوردو ص 61 ط باكستان.
(6)
أنظر الباب الثاني.
وأخرجها للمؤمنين ، وتزين بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتلامذته الراشدون فيذكر ابن الملقن:
قال بعض المتصوفة: " دخلت على بشر في علته ، فقلت: عظني.
فقال: إن في هذه الدار نملة ، تجمع الحبّ في الصيف لتأكله في الشتاء ، فلما كان يوما أخذت حبة في فمها ، فجاء عصفور فأخذها ، فلا ما جمعت أكلت ، ولا ما أملت نالت " (1).
ونقل الكلاباذي عن أبي المغيث وهو يذكر مجاهدته ، فيقول:
" كان لا يستند ولا ينام على جنبه ، وكان يقوم الليل ، وإذا غلبته عينه قعد ، ووضع جبينه على ركبتيه فيغفو غفوة "(2).
وهذا مع ذكر الرب تعالى المؤمنين في قوله: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} (3).
وأما نجم الدين الكبري المتوفى 618هـ فقد كذب على عيسى عليه السلام حيث قال:
" أنه كان نائما متوسداً بلبنة ، فهبّ من منامه فإذا اللعين عن رأسه ، فقال له: ما جاء بك إليّ؟
فقال طمعت فيك ، فقال: يا ملعون أنا روح الله كيف تطمع فيّ؟
قال: أنك أخذت قماشي فطمعت فيك ، قال: وما ذاك القماش؟
قال: هذه اللبنة تحت رأسك ، فرماها عيسى عليه السلام حتى فارقه " (4).
وذكر الطوسي عن ابن الكريني - وكان أستاذ الجنيد - أنه أصابته جنابة ليلة من الليالي ، وكانت عليه مرقعة ثخينة غليظة ، فجاء إلى الشط ليلة ، وكان برد شديد ، فخزنت نفسه على الدخول في الماء لشدة البرد ، قال: فطرح نفسه في الماء مع المرقعة ، ولم
(1) طبقات الأولياء لأبن الملقن ص 116 ط مكتبة الخانجي القاهرة 1973م.
(2)
التعرف لمذهب أهل التصوف لأبي بكر الكلاباذي ص 175 ط مكتبة الكليات الأزهرية.
(3)
سورة آل عمران الآية 191.
(4)
فوائح الجمال وفواتح الجلال لنجم الدين الكبرى ص 15 ط بتصحيح المستشرق الألماني الدكتور فريتزمائر ط ويسبادن ألمانيا 1957م.
يزل يغوص في الماء مع مرقعته ثم خرج من الماء ، وقال: أعتقدت أن لا أنزعها من بدني حتى تجفّ عليّ ، قال فلم تجف عليه شهرا كاملا ، وأراد بذلك تأييدا لنفسه (1).
وهل هذا تأديب أو تعذيب؟.
وذكر الصوفي الهندي اللاهوري عن يوسف الأسباط أنه كان من أولياء الله الكبار ، قد مكث عريانا أربعين سنة لم يكن يضع على جسمه شيئا إلا قطعة من المسوح ما يستر بها عورته (2).
ومنها ما ذكروه عن الشيخ الشرياني القصوري أنه تعرّى وتجرد عن الثياب ومكث متعريا صيفا وشتاء إلى أن أدركه الموت ، وكان مع ذلك يصطلي نارا ليلا ونهارا في الصيف المحرق والشتاء المبرد (3).
ومثله الآخر ذكره كل حسن القادري في التذكرة الغوثية (4).
ونقل العطار عن الجنيد أن رجلا شكى إليه الجوع والتعري ، فقال: أجاعك الله وعرّاك ، لأن الجوع والتعري من نعم الله ، لا يرزقها إلا لبعاده المقربين (5).
وذكر الطوسي عن حسن القزاز الدينوري أنه حج إثنتي عشرة حجة حافيا ، مكشوف الرأس ، فكان إذا دخل في رجله شوك يمسح رجله بالأرض ويمشي (6).
مع ورود النهي عن النبي صلى الله عليه وسلم في مثل ذلك حيث روى ابن عباس أنه:
جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله ، إن أختي نذرت أن تحج ماشية. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الله لا يصنع بشقاء أختك شيئا ، فلتحج راكبة ، وتكفّر عن يمينها)(7).
(1) كتاب اللمع للطوسي ص 198.
(2)
أنظر خزينة الأصفياء لغلام سرور اللاهوري ص 36.
(3)
تذكرة أولياء بر ضغير لميرزه الدهلوي ج4 ص 102 ط باكستان.
(4)
أنظر تذكرة غوثية ص 291 ط تجلي برس دلهي.
(5)
تذكرة الأولياء للعطار ص 189.
(6)
كتاب اللمع للطوسي ص 223.
(7)
رواه أبو داود.
وفي هذا المعنى روى عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يهادي بين ابنيه ، فسأل عنه؟
فقالوا: نذر أن يمشي ، فقال:(إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه) وأمره أن يركب (1).
هذا ويذكر الدريني عن صوفي مشهور ملقب بمسروق أنه حج فما نام قط إلا ساجدا (2). أهذه مفخرة أم زيادة على اكتاب والسنة؟
وأين هذا من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم كما ذكره النفزي أيضا في كتابه حيث روى عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(إن الدين يسر ، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه) رواه البخاري (3).
وأما تطرفهم في سهر الليالي وقلة النوم فيذكر الهجويري عن أبي الفوارس شاء بن شجاع الكرماني أنه ورد في آثاره أنه لم ينم لأربعين عاما ، وعندما نام رأى الله سبحانه وتعالى في النوم ، فقال: يا إلهي ، كنت أطلبك بسهر الليالي فرأيتك في النوم.
فقال: يا شاه ، لقد أدركت في النوم بغيتك بسهرك الليل ، ولو كنت نمت هناك لما رأيت هنا (4).
وحكى مثل ذلك الغزالي عن وهب بن منبه أنه دعا الله أن يرفع عنه النوم بالليل ، فذهب عنه النوم أربعين سنة (5).
مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينام ويسهر ، ويعمل ويستريح ، وأصحابه كذلك ، وأن الله عز وجل قال:
{وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا} (6).
(1) رواه أبو داود.
(2)
أنظر طهارة القلوب لعبد العزيز الدريني ص 161 ط مصطفى البابي الحلبي.
(3)
أنظر غيث المواهب العلية ج2 ص 168.
(4)
كشف المحجوب للهجويري ص 350 ترجمة عربية ط بيروت ، أيضا تذكرة الأولياء للعطار ص 169.
(5)
مكاشفة القلوب للغزالي ص 30 ط الشعب القاهرة.
(6)
سورة الفرقان الآية 47.
ولكن الصوفية يروون عن مشائخهم أنهم لم يكونوا ينامون الليل ويقطعونه في الذكر والتلاوة كما ذكر أبن عجيبة الحسني:
" وقد كان منهم من يقطع الليل كله في ركعة ، ويختم القرآن في كل ليلة "(1).
ويحكي عبد السلام الفيتوري عن نفسه أنه يسبح سبعين ألفا وباسم الجلالة خمسمائة ألف في كل يوم وليلة ، ويختم القرآن قبل أن يستقر الضيا " (2).
وقطع النظر عن عدم وقوع هذا عقلا كره الرسول صلى الله عليه وسلم ختم القرآن في أقل من ثلاث حيث قال:
(لم يفقه من قرأ في أقل من ثلاث)(3).
ولكن القوم جعلوا الغلو والمغالاة من أصول الولاية والكرامة مسفهين العقل ومخالفين النقل ، فينقل المنوفي الحسيني عن عبد الفتاح الشبلنجي الشاذلي أنه كان يصلي مائة وثمانين ركعة تهجدا كل ليلة ، ويقرأ نصف القرآن كل نهار مع سبعين ألفا على المسبحة من أوراد وأذكار شتى (4).
ونقل عن بعضهم أنه أدعى:
" أنا منذ ثلاثين سنة أصوم وأقوم الليل "(5).
ونقل الجامي عن الجنيد أنه قال:
" ما رأيت أعبد من السري أتت عليه سبعون سنة ما رؤى مضطجعا إلا في علة الموت "(6).
ونقل القوم عن عطاء السلمي أنه كان إذا جنّه الليل يخرج إلى المقابر فلا يزال
(1) إيقاظ الهمم لأبن عجيبة ص 460.
(2)
الوصية الكبرى للفيتوري ص 66.
(3)
رواه الترمذي وأبو داود والدارمي وصححه الألباني.
(4)
أنظر جمهرة الأولياء للمنوفي الحسيني ج2 ص 274 ط مؤسسة الحلبي القاهرة.
(5)
إيقاظ الهمم لأبن عجيبة الحسني ص 36.
(6)
نفحات الأنس لأبن عجيبة الحسني ص 36.
يناجيهم إلى الفجر (1).
وذكر الشعراني عن الربيع أنه كان يخرج إلى المقابر ويحي الليل كله هناك (2).
ونقل الهجويري عن النوري أنه ظل يصرخ لمدة ثلاثة أيام وليال في بيته واقفا في مكان واحد (3).
ولم يستحي الشعراني فيما نقل عن رابعة البصرية كانت تتوضأ كل ليلة وتتطيب وتقول لزوجها:
ألك حاجة؟ فإن قال: لا ، قامت إلى الصباح (4)
وقال الدريني:
" كان السلف الصالحون إذا بلغ أحدهم أربعين سنة طوى فراشة "(5).
والحاصل أن الصوفية يفتخرون بكثرة التعبد وقيام الليل كله مع ورود النهي في محكم التنزيل لصفي الله ونجيّه {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ {1} قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا {2} نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا {3} أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا {4} (6).
وروى عبد الله بن عباس رضي الله عنه ابن عم رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم وحبر الأمة وترجمان القرآن ، قال:
(بت عند خالتي ميمونة ليلة ، والنبي صلى الله عليه وسلم عندها ، فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهله ساعة ، ثم رقد ، فلما كان ثلث الليل الآخر أو بعضه قعد ، فنظر إلى السماء فقرأ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} حتى ختم السورة ، ثم قام إلى القربة فأطلق شناقها ، ثم صب في الجفنة ، ثم توضأ وضوءا حسنا بين الوضوءين ، لم يكثر وقد أبلغ ، فقام فصلى ،
(1) تنبيه المغتربين للشعراني ص 34 ، 35 ط.
(2)
الطبقات الكبرى للشعراني ج1 ص 28.
(3)
كشف المحجوب للهجويري ص 344.
(4)
تنبيه المغتربين للشعراني ص 35.
(5)
طهارة القلوب لعبد العزيز الدريني ص 161 ط مصطفى البابي الحلبي.
(6)
سورة المزمل الآية 1 إلى 4.
فقمت وتوضأت ، فقمت عن يساره ، فأخذ بأذني فأدراني عن يمينه ، فتتامت صلاته ثلاث عشرة ركعة ، ثم أضطجع فنام حتى نفخ ، وكان إذا نام نفخ ، فآذنه بلال بالصلاة فصلى) (1).
وعن عبد الله بن عمرو ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود ، كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه ، وينام سدسه)(2).
وهذا ومن تطرفات الصوفية وغلوهم في التعبد والتحنث ما نقلوه عن الجنيد أنه " كان يدخل كل يوم حانوته ويسبل الستر ويصلي أربعمائة ركعة ثم يعود "(3).
وحكوا عن الآخر أنه كان يصلي كل يوم ألف ركعة (4).
ونسب الشعراني إلى أويس القرني أنه قد فرض على نفسه كل يوم ألف ركعة (5).
وحكى العطار عن أبي يزيد البسطامي أنه كان يصلي أربع ركعات للعشاء ، وكان إذا فرغ قال: إن هذه الصلاة غير مقبولة عند الله ، وكان يعيدها ، ثم إذا فرغ يعيدها ، وهكذا يفعل حتى ينقضي الليل كله (6).
فهل يا ترى ألا يعد ذلك تجاوزا عما أمر الله به في كتابه وثبت عن رسول الله في سنته ، أليس هذا هو معنى التقدم بين يدي الله ورسوله المنهي عنه في كتاب الله العظيم:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (7).
وأليست هذه الفروض والواجبات التي فرضوها وأوجبوها على أنفسهم حسب ما ينقل القوم - والعهدة على من نقل ، والكلام على ما نقل - مضاهاة للشارع والشرع أفلا يندرج كل هذا تحت وعيد الله عز وجل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ
(1) متفق عليه.
(2)
متفق عليه.
(3)
الرسالة القشيرية ج1 ص 119 ، مكاشفة القلوب للغزالي ص 30 ، غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج1 ص 283.
(4)
تنبيه المغترين للشعراني ص 114 ط.
(5)
الطبقات الكبرى لعبد الوهاب الشعراني ج 1 ص 27.
(6)
تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار ص 94.
(7)
سورة الحجرات الآية 1.
الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (1).
أو تحت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ّ)(2).
فالحاصل من الحكايات والأدعاءات التي سردناها آنفا أن الصوفية يريدون أن يثبتوا منها أن مشائخهم وأوليائهم ورؤسائهم كانوا قد وقفوا أنفسهم ، ونذروا حياتهم للتعبد والتطوع ولم يكونوا يشتغلون بشيء من أمور الدنيا بل كان كل همهم الصيام والقيام ، والذكر والسهر ، والتسبيح والتهليل ، والمجاهدات والرياضات ، وأنها لرغبة عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وأعراض عن أسوته وقدوته وأتباع سيرته كما روى ذلك عن أبي بردة أنه قال:
(دخلت امرأة عثمان بن مظعون على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فرأيتها سيئة الهيئة فقلن لها: مالك؟ فما في قريش رجل أغنى من بعلك ، قالت: ما لنا منه شيء ، أما ليله فقائم ، وأما نهاره فصائم فدخلن إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكرن ذلك له فلقيه فقال:
يا عثمان ، أما لك بي أسوة؟
فقال: بأبي وأمي أنت وما ذاك؟
قال: تصوم النهار وتقوم الليل ، قال: إني لأفعل ، قال: لا تفعل ، إن لعينك عليك حقا ، وإن لجسدك عليك حقا ، وإن لأهلك عليك حقا ، فصل ونم ، وصم وأفطر) (3).
وعن أبي قلابة بلغ به صلى الله عليه وسلم أن ناسا من أصحابه أحتموا النساء واللحم اجتمعوا ، فذكرنا ترك النساء واللحم فأوعد فيه وعداً شديداً ، وقال:(لو كنت تقدمت فيه لفعلت)، ثم قال:(إني لم أرسل بالرهبانية ، إن خير الدين الحنيفية السمحة)(4).
(1) سورة الشورى الآية 21.
(2)
متفق عليه.
(3)
رواه البخاري.
(4)
رواه الدارمي.
وأعترف بذلك أبن زروق أيضا حيث قال:
" الأجر على قدر الإتباع ، لا على أجر المشقة
…
والتشديد في العبادة منهي عنه كالتراخي عنها " (1).
ومن تطرفات الصوفية ، وزيادتهم ، وغلوهم وتعنتهم ، ومبالغتهم في الخوف من الله تعالى كما ذكر صاحب " الأخلاق المتبولية " عن مشايخه أن كل واحد منهم يغلب عليه البكاء والخوف ، فيصير يتمرغ في الأرض كالطير المذبوح (2).
وأيضا " الصوفية دائما يخافون أن يمسخ الله صورهم صورة كلب أو خنزير "(3).
وقالوا: " ومن أخلاق الصوفية خوفهم أن الله تعالى يخسف بهم الأرض "(4).
وذكر الكلاباذي والنفزي الرندي والشعراني وغيرهم عن السري السقطي أنه قال:
" إني لأنظر في المرآة كل يوم مراراً مخافة أن يكون قد أسود ّ وجهي "(5).
ونقولوا عن الكرخي أنه قال:
" خاف أن لا يقبلني فأفتضح "(6).
وروى اليافعي عن أبي بكر الوراق أنه قال:
" ربما أصلي لله تعالى ركعتين فأنصرف عنهما وأنا بمنزلة من ينصرف عن السرقة من الحياء "(7).
والكلاباذي نقل عن الفضيل أنه قال:
" الناس مغفورون كلهم لولا مكاني فيهم "(8).
(1) قواعد التصوف لأحمد بن محمد زروق ص 55 ، 56 ط مكتبة الكليات الأزهرية 1396هـ.
(2)
أنظر الأخلاق المتبولية لعبد الوهاب الشعراني ج1 ص 149.
(3)
أيضا ج 1 ص 442.
(4)
أيضا 442.
(5)
التعرف لمذهب أهل التصوف ص 70 ، أيضا غيث المواهب ج1 ص 134 ، أيضا الأنوار القدسية للشعراني ج2 ص 12.
(6)
الأنوار القدسية للشعراني ج 2 ص 212 ، 1 الأخلاق المتبولية ج 3 ص 153.
(7)
نشر المحاسن الغالية لليافعي ج 1 ص 383 بهامش جامع كرامات الأولياء ط دار رضا.
(8)
التعرف لمهذب أهل التصوف للكلاباذي ص 70.
وحكى العطار عن فتح الموصلي أنه كان يبكي كثيرا حتى جرى الدم من عينيه ، فسئل: لماذا هذا البكاء الشديد؟
قال: خوفا من الله (1).
ومثل ذلك نقل عنه ابن الملقن أيضا حكاية عن أبي إسماعيل أنه قال:
" دخلت عليه يوما ، وقد مدّ كفّه يبكي ، حتى رأيت الدموع من بين أصحابه تتحدر ، فدنوت منه لأنظر إليه ، فإذا دموعه قد خالطها صفرة ، فقلت: بالله يا فتح ، بكيت الدم؟
فقال: نعم ، ولولا أنك حلفتني بالله ما أخبرتك ، فقلت: على ماذا بكيت الدموع ثم الدم؟
فقال: بكيت الدموع على تخلفي عن واجب حق الله ، وبكيت الدم بعد الدموع حزنا ألا تكون قد صحت لي توبتي (2).
وقال عماد الدين الأموي:
" حكي أن الحسن البصري أقام ثلاثين سنة لم يضحك ".
وقيل: " إن عطاء السلمي لم يضحك أربعين سنة ، وهذا كان حال سائر عباد البصرة غلبت عليهم المخاوف فكان حالهم الحزن "(3).
وقد عدّ المتصوفة الحزن الدائم وعدم الضحك من علائم الخشية والتقوى مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أتقى العالمين وأخشاهم لله - كان يضحك ويبستم ، وقد روى عن عبد الله بن الحارث أنه قال:
" ما رأيت أحدا أكثر تبسما من رسول الله صلى الله عليه وسلم "(4).
(1) تذكرة الأولياء للعطار ص 157.
(2)
طبقات الأولياء لأبن الملقن ص 279.
(3)
حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبوب لعماد الدين الأموي ص 15 بهامش قوت القلوب لأبي طالب المكي ط دار صادر بيروت.
(4)
رواه الترمذي.
وقد ذكر أنس بن مالك رضي الله عنه قال:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحسن الناس خلقا ، فأرسلني يوما لحاجة ، فقلت: والله لا أذهب ، وفي نفسي أن أذهب لما أمرني به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرجت حتى أمرّ على صبيان وهم يلعبون في السوق ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قبض بقفاي من ورائي ، قال: فنظرت إليه وهو يضحك ، فقال:
(يا أنيس ، ذهبت حيث أمرتك؟)
قلت: نعم ، أنا أذهب يا رسول الله (1).
وعنه أيضا ، قال:" كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية ، فأدركه أعرابي ، فحبذه بردائه جبذة شديدة ، ورجع نبي الله صلى الله عليه وسلم في نحر الأعرابي حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدّة جبذته ، ثم قال: يا محمد ، مر لي من مال الله الذي عندك ، فألتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ضحك ، ثم أمر له بعطاء "(2).
هذا ولقد حكى الصوفية عن أبي حفص أنه قال:
" منذ أربعين سنة أعتقد في نفسي أن الله ينظر إليّ نظر السخط "(3).
ومن أطرف وأعجب ما نقلوا في ذلك هو ما حكاه الشعراني عن العلاء بن زياد أنه ربما بكى سبعة أيام متوالية لا يذوق فيها طعاما ولا شرابا (4).
فهذه هي شدة الصوفية وزيادتهم ، تطرفهم ومغالاتهم في الخوف من الله تعالى ، وما أحسن ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الخصوص:
" ومن خاف الله خوفا مقتصداً ، يدعو إلى فعل ما يحبه الله وترك ما يكرهه الله ، من غير هذه الزيادة فحاله أكمل ، وأفضل من حال هؤلاء ، وهو حال الصحابة رضي الله عنهم
…
(1) رواه مسلم.
(2)
متفق عليه.
(3)
غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج 1 ص 133 بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود ط القاهرة.
(4)
الطبقات الكبرى لعبد الوهاب الشعراني ج 1 ص 35.
وأفضل الطرق والسبل إلى الله ما كان عليه هو وأصحابه ، ويعلم من ذلك أن على المؤمنين أن يتقوا الله بحسب اجتهادهم ووسعهم ، كما قال الله تعالى {فأتقوا الله ما أستطعتم} وقال صلى الله عليه وسلم:(وإذا أمرتكم فأتوا منه ما أستطعتم فمن جعل طريق أحد من العلماء والفقهاء أو طريق أحد العبّاد والنسّاك أفضل من طريق الصحابة فهو مخطئ ضال مبتدع)(1).
وإن الصوفية قد تطرفوا في التوكل على الله تعالى وقطع الأسباب ، وإغلاق باب الوسائل ، وترك التحرز والإحتياط ، ففسروا التوكل بغير معناه الشرعي مما يخالف الكتاب والسنة ، وعطّلوا الجوارح عن العمل ، وظنوا أن الحركة تنافي اليقين والتوكل ، فآثروا الخمول والكسل على الجد والعمل ، ورجّحوا الراحة والسكون على الحركة والشغل كما نقل السلمي عن رويم بن أحمد البغدادي أنه قال:
" التوكل إسقاط رؤية الوسائط ، والتعلق بأعلى العلائق "(2).
ونقل عن الخواجة عبد الله الأنصاري الهروي أنه قال:
" التوكل هو إسقاط الطلب ، وغض العين عن السبب إجتهادا في تصحيح التوكل "(3).
ومثل ذلك قال ابن عجيبة الحسني موضحا للمصطلح الصوفي " التجريد ":
الشغل دون الكسب بالعبادة
…
محض التوكل ، ورأي السادة
ثم السؤال آخر المكاسب
…
وهو بشرط الإضطرار واجب
الاشتغال بالعبادة والتجريد عن الأسباب من أعظم القرب عند ذوي الألباب ، إذ لا يصفو الباطن من الأعيار ويملأ بالمعارف والأسرار إلا إذا تخلص الظاهر من كثرة الأكدار ، ولا يتخلص إلا إذا تجرد من الأسباب وأتكل على الملك الوهاب (4).
(1) رسالة الصوفية والفقراء لشيخ الإسلام ص 20 ط دار الفتح القاهرة 1404 هـ.
(2)
طبقات السلمي ص 43 ط مطابع الشعب 1380 هـ.
(3)
منازل السائرين للخواجة عبد الله الأنصاري المتوفى 481 هـ ص 76 ط.
(4)
الفتوحات الإلهية لأبن عجيبة الحسنى ص 234 ، 235 ط عالم الفكر القاهرة.
ويشرح معنى التوكل الصوفي أحمد الكمشخانوي حيث يكتب:
(وقال) الحسن أخو سنان حججت أربع عشرة حجة حافيا متوكلا وكان يدخل في رجلي الشوك فلا أخرجه لئلا ينقض توكلي (وقيل) من أدعى التوكل ثم شبع فقد حمل زادا وجاء جماعة من الشام إلى بشر الحافي فطلبوا منه أن يحج معهم فقال لهم نعم ولكن بثلاثة شروط أن لا نحمل معنا شيئا ولا نسأل أحدا شيئا ولا نقبل من أحد شيئا فقالوا أما الأول والثاني فنقدر عليه وأما الثالث فلا نقدر عليه فقال خرجتم تحجون متوكلين على زاد الحجاج (وقال) أبو حمزة الخراساني حججت سنة فبينما أنا في الطريق إذ وقعت في بئر فطلبت مني نفسي أن أستغيث فلم أفعل فما تم هذا الخاطر حتى مر برأس البئر رجلان فقال أحدهما لصاحبه تعال حتى نسد رأس هذا البئر لئلا يقع فيها أحد فوافقه صاحبه فهممت أن أصبح ثم قلت في نفسي أصيح إلى من هو أقرب منهما ثم سكت حتى سدوا رأس البئر ومضوا فلما مضت ساعة سمعت حس شيء فتح رأس البئر ودلي رحلة وقال لي بلسان حاله تعلق برجلي فتعلقت بها فأخرجني فإذا هو سبع فتركني ومر فسمعت هاتفا يقول يا أبا حمزة كيف ترى نجيناك من الهلاك بالهلاك (وقال) أبو سعيد الخراز دخلت البادية مرة بغير زاد فأصابتني فاقة فرأيت المرحلة من بعيد فسررت بالوصول ثم فكرت في نفسي أنني سكنت إلى غير الله في توكلي فآليت أن لا أدخل المرحلة إلا أن أحمل إليها (وقال) إبراهيم الخواص بينا أنا أسير في البادية إذ قال لي أعرابي يا إبراهيم التوكل عندنا فأقم عندنا حتى يصح توكلك أما تعلم أن رجاءك لدخول بلد فيه أطعمة يحملك ويقويك أقطع رجاءك عن دخول البلدان وتوكل (1).
وإليكم الآن نصا مهماً في هذا الخصوص ذكروه عن أبي مدين ، يتضح منه مفهوم التوكل الصوفي وهو: الهروب عن طلب الحلال والتكسب ، واللجوء إلى الراحة والتعطل ، والنص بتمامه كما يلي:
" الإمام أبو مدين عبد صالح إمام في التوحيد والتوكل كان ببجاية من بلاد
(1) جامع الأصول في الأولياء للكمشخانوي ص 243 ، 244.
المغرب ، وكان يقول بترك الأسباب التي يرتزق بها الناس ، وكان قوي اليقين ويدعو الناس إلى مقامه والإشتغال بالأهم من عبادة الله فترك الحرفة وجلس مع الله على ما يفتح الله له وكان طريقة عجيبة مع الله في ذلك الجلوس فإنه كان يرد شيئا يؤتى إليه به فقيل له يا أبن أبا مدين لم لا تحترف أو لم لا تقول بالحرفة أي في ترك الأسباب والأكل من الكسب وإنه الأفضل من غير الكسب فقال بها فقيل فلم لا تحترف فقال " الضيف عندكم إذا نزل بقوم وعزم على الإقامة كم تواقيت زمان وجوب ضيافته عليهم قالوا " ثلاثة أيام " قال " وبعد الثلاثة الأيام " قالوا " يحترف ولا يقعد عندهم حتى يحرجهم " فقال رضي الله عنه " ألستم تعلمون أن الضيف إذا نزل بقوم وجب بالنص عليهم القيام بحقه ثلاثة أيام إذا كان مقيما ولو أن الضيف في تلك الأيام أكل من كسبه أليس كان العار يلحق بالقوم الذين نزل بهم " فقالوا " نعم " قال الشيخ " الله أكبر أنصفونا إن أهل الله رحلوا عن الخلق ونزلوا بالله أضيافا عنده فهم في ضيافة الله فنحن أضياف ربنا تبارك وتعالى نزلنا عليه في حضرته على وجه الإقامة عنده إلى الأبد فتعينت الضيافة فإنه تعالى ما دام على كريم خلق لعبده إلا كان هو أولى بالأنصاف به فضيافتنا ثلاثة أيام " ثم قال " وأيام ربنا كما قال كل يوم كألف سنة مما تعدون فضيافته بحسب أيامه ونحن نأخذ ضيافته على قدر أيامه فإذا أقمنا عنده ثلاثة آلاف سنة وإذا أكملت الثلاثة أيام الله من نزلنا عليه وأنقضت لا نحترف ولا نأكل من كسبنا عند ذلك يتوجه اللوم وأعتراضكم علينا وإقامة مثل هذه الحجة علينا ونحن نموت وتنقضي الدنيا ويبقى لنا فضله عنده تعالى من ضيافتنا " (1).
ثم علّق عليه المؤلف بقوله:
" أنظر يا أخي ما أحسن نظر هذا وما أعظم موافقته للسنة فلقد نور الله قلب هذا الشيخ ، فحق الضيف واجب ولذلك أستحسن ذلك منه المعترض وأنظر من هذا النَفَس إن كنت منهم.
وأتفق للشيخ وكان وقته التجريد وعدم الإدخار أن نسي في جيبه دينارا وكان كثيرا
(1) شرح كلمات الصوفية جمع محمود محمود الغراب ص 277 ، 278 ط القاهرة 1402هـ.
ما يرتب منقطعا في جبل الكواكب وكانت هناك غزالة تأتي إليه فتدر عليه فيكون ذلك قوته فلما جاء إلى الجبل جاءت الغزالة وهو محتاج إلى الطعام فمد يده على عادته إليها ليشرب من لبنها فنفرت عنه وما زالت تنطحه بقرونها وكلما مد يده إليها نفرت منه ففكر في سبب ذلك فتذكر الدينار فأخرجه من جيبه ورمى به في موضع فقده ولا يجده فجاءت إليه الغزالة وآنست به ودرّت عليه (1).
ونقل العطار عن إبراهيم بن أدهم أنه قال:
" خرجت إلى البرية متوكلا على الله تعالى فما وجدت فيها شيئا للأكل مدة طويلة فخطر على بالي أن أذهب إلى صديقي وآكل من عنده ، فهتف بي هاتف: إن الله طهر الأرض من المتوكلين؟
قلت: ما هذا الصوت؟
ثم هتف هاتف: من أراد أن يأكل من بيت صديقه فليس بمتوكل (2).
هذا وثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يدلّ على خلاف ذلك تماما ، وفيه ردّ واف على الفكرة الصوفية الباطلة المخترعة التي تناقض أسوة الرسول صلى الله عليه وسلم وحياته الطيبة المباركة فيروي أبو هريرة رضي الله عنه ويقول:
" خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم أو ليلة ، فإذا هو بأبي بكر وعمر فقال:(ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة؟)
قالا: الجوع. قال: (وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما ، قوموا) ، فقاموا معه ، فأتى رجلاً من الأنصار ، فإذا هو ليس في بيته ، فلما رأته المرأة قالت: مرحبا وأهلا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(أين فلان؟)
قالت ذهب يستعذب لنا الماء ، إذ جاء الأنصاري فنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه ، ثم قال: الحمد لله ، ما أحد اليوم أكرم أضيافا مني ، قال: فأنطلق فجاءهم بعذق فيه بسر وتمر ورطب ، فقال: كلوا من هذه ، وأخذ المدية ، فقال له رسول الله
(1) أيضا ص 278 ، 279.
(2)
تذكرة الأولياء للعطار ص 60.
صلى الله عليه وسلم: (إياك والحلوب) ، فذبح لهم ، فأكلوا من الشاة ومن ذلك العذق وشربوا (1).
فمن المتوكل؟ رسول هذه الأمة المجيدة ، أم مشايخ الصوفية؟.
وأعتمادا على توكلهم الغير الشرعي كانوا يخرجون للحج بدون زاد ولا راحلة كما يذكر أبن عجيبة الحسني عن إبراهيم الخواص أنه يقول:
" لقيت فقيرا في البادية فقلت له: إلى أين؟
فقال: إلى مكة.
قلت: بلا زاد ولا راحلة؟
فقال: الذي يمسك السموات والأرضين ويحفظهما لا يعجزه قوتي بلا سبب ولا علاقة.
فقلت: صدقت " (2).
وحكى أيضاً عن بعض مشايخه أنه " دخل برية الحجاز مع أصحابه بغير زاد ، فلما طالت عليهم المدة وأجهدهم الجوع ، أنحرف الشيخ عن طريق وهزّ شجرة ، فأسقطت رطبا جنيا فأكلوا منها الاشابا ، فقال له الشيخ: لم لم تأكل؟
قال: إني نويت التوكل على الله ورفضت الأسباب جملة ، فيكف أجعلك عندي بمنزلة السبب حتى تكون النفس متشوقة لما علمت منك ، ثم لم يصحبهم تصحيحا ليقينه وإتماما لعقده " (3).
وكذلك ذكر الجعلي الفضلي في طبقاته كثيرا من الصوفية الذين خرجوا للحج لا زاد معهم ولا ماء (4).
ونقل العطار عن إبراهيم بن أدهم أنه خرج إلى الحج مع أصحابه فقال له أصحابه في
(1) رواه مسلم.
(2)
إيقاظ الهمم لأبن عجيبة ص 316.
(3)
إيقاظ الهمم لأبن عجيبة ص 441.
(4)
أنظر كتاب الطبقات للجعلي الفضلي ص 61 ط المكتبة الثقافية بيروت.
الطريق: ليس عندنا شيء من الزاد فقال:
توكلوا على الله وأنظروا إلى تلك الشجرة التي صارت ذهبا ، فنظروا فإذا الشجرة من ذهب (1).
وروى ابن الملقن عن فتح الموصلي أنه قال: " رأيت غلاماً بالبادية لم يبلغ الحلم ، وهو يمشي وحده ويحرك شفتيه ، فسلّمت عليه ، فرد علي السلام ، فقلت: إلى أين؟ قال: إلى بيت ربي ، فقلت: وبماذا تحرك شفتيك؟ فقال: أتلو كلام ربي. فقلت له: إنه لم يجر عليك قلم التكليف ، فقال: رأيت الموت يأخذ من هو أصغر مني سناً. فقلت: خطوك قصير ، وطريقك بعيد ، فقال: إنما عليّ نقل الخطا وعليه الإبلاغ.
فقلت: فأين الزاد والراحلة؟
قال: زادي يقيني ، وراحلتي رجلاي " (2).
وأما تعاليم الإسلام فهي بعكسها تماما كما روى عن أبن عباس رضي الله عنه قال:
" كان أهل اليمن يحجون فلا يتزودون ويقولون: نحن المتوكلون ، فإذا قدموا مكة سألوا الناس ، فأنزل الله تعالى:{وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} (3).
ولم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ورفاقه البررة بهذا النوع من التعطيل بل أمرهم بالطلب والعمل حيث قال:
(إن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها ، ألا فاتقوا الله ، وأجملوا في الطلب)(4).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رجل: " يا رسول الله أعقلها وأتوكل أو أطلقها وأتوكل؟ قال: (أعقلها وتوكل)(5).
وأما التوكل الصوفي فليس إلا إيثاراً للخمول والجلوس في الروابط والخانقاوات ، وهروبا عن الجدّ والكدّ ، والاجتهاد والجهاد كما يذكر السهروردي في عوارفه رواية
(1) تذكرة الأولياء للعطار ص 64.
(2)
طبقات الأولياء لابن الملقن ص 277 ، 278.
(3)
رواه البخاري.
(4)
رواه في شرح السنة والبيهقي في شعب الإيمان.
(5)
رواه الترمذي.
عن داود بن صالح قال:
" قال لي أبو سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي ، هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية {أصبروا وصابروا ورابطوا}؟ قلت: لا ، قال: يأبن أخي ، لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يربط فيه الخيل ، ولكنه إنتظار الصلاة بعد الصلاة ، فالرباط لجهاد النفس والمقيم في الرباط مرابط مجاهد نفسه. قال الله تعالى {وجاهدوا في الله حق جهاده} قال عبد الله بن المبارك: هو مجاهدة النفس والهوى وذلك حق الجهاد ، وهو الجهاد الأكبر ، على ما روى في الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين رجع من بعض غزواته: (رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر). وقيل: إن بعض الصالحين كتب إلى أخ له يستدعيه إلى الغزو فكتب إليه: يا أخي كل الثغور مجتمعة لي في بيت واحد والباب علي مردود ، فكتب إليه أخوه: لو كان الناس كلهم لزموا ما لزمته أختلت أمور المسلمين وغلب الكفار ، فلا بد من الغزو والجهاد وفكتب إليه: يا أخي ، لو لزم الناس ما أنا عليه وقالوا في زواياهم على سجاداتهم: الله أكبر ، أنهدم سور قسطنطينية "(1).
هذا وأن هناك أنواعا أخرى من تطرفات المتصوفة في إظهار التواضع والذّل ، والرضا بالدون والمسكنة وهوان النفس ، والسقوط في أعين الناس ، فمن الصوفية المصابين بهذا النوع من التطرف الذي سموه خشوعاً وتواضعاً ورياضة للنفس ، أستاذ الجنيد أبو الحسن الكريني كما ينقل عنه أبو طالب المكي وابن عجيبة أنه قال:
" نزلت في محله فعرفت فيها بالصلاح فتشتت قلبي فدخلت حماما في جوف المحلة وعنيت على ثياب فاخرة فسرقتها ولبستها ، ثم لبست مرقعتي فوقها وخرجت أمشي قليلا قليلاً ليفطن بي ، فلحقوني فنزعوا مرقعتي واستخرجوا الثياب وصفعوني وأوجعوني ضرباً ، فصرت أعرف في الناحية بلص الحمام ، فسكنت نفسي "(2).
ويخرج نفسه عن حدّ الكرامة الإنسانية ويجعلها بمنزلة الكلب في حكاية ذكروها
(1) عوارف المعارف للسهروردي ص 105 ط دار الكتاب العربي بيروت.
(2)
قوت القلوب لأبي طالب المكي ج2 ص 74 ، أيضا إيقاظ الهمم لأبن عجيبة ص 405.
أن رجلا دعاه ثلاث مرات إلى طعامه ثم يردّه ، فرجع إليه بعد ذلك حتى أدخله المنزل في المرة الرابعة ، فسأله عن ذلك ، فقال: قد ريّضت نفسي على الذلّ عشرين سنة حتى صارت بمنزلة الكلب يطرد فينطرد ، ثم يدعى فيرمي له عظم فيجيء (1).
وأغرب من هذا ما ذكره النفزي الرندي نقلا عن أبي الحسن علي بن عتيق بن يوسف القرطبي صاحب كتاب بغية الطالب ومنية الراغب أنه رأى أبا محمد بن عبد الله مفيد وهو يمشي في يوم شات كثير الطين ، فأستقبله كلب يمشي على الطريق التي كان عليها ، قال: فرأيته قد لصق بالحائط وعمل للكلب طريقاً ووقف ليجوز ، وحينئذ يمشي هو ، فلما قرب منه الكلب قال: فرأيته قد ترك مكانه الذي كان فيه ونزل أسفل ، وترك الكلب يمشي فوقه ، قال: فلما جاوزه الكلب وصلت إليه فوجدته وعليه كآبة ، فقلت له: يا سيدي ، إني رأيتك صنعت الآن شيئا استغربته ، كيف بنفسك في الطين وتركت الكلب يمشي في الموضع النقي؟
فقال لي: بعد أن عملت له طريقا تحتي ففكرت ، فقلت: ترفعت على الكلب ، وجعلت نفسي أرفع منه ، بل هو والله أرفع مني وأولى بالكرامة (2).
فهذا هو التواضع والانكسار عند الصوفية ، يظنون الترفع على الكلاب تكبرا موجباً لسخط الله تعالى ومقته ، ولقد صرح بذلك ابن عجيبة الحسني حيث قال:
" من رأى لنفسه قيمة على الكلب فهو متكبر ممقوت عند الله "(3).
وقال الآخرون من الصوفية:
" من ظنّ أن نفسه خير من نفس فرعون فقد أظهر الكبر "(4).
وأما أحمد بن أبي الحسين الرفاعي فأكرم كلباً إظهارا لتواضعه وهو أنه وقلة شأنه وإذالالا لنفسه ، فيذكرون عنه أنه وجد كلباً أجرب أخرجه أهل أم عبيدة إلى محل بعيد ،
(1) غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج 2 ص 159 ، أيضا قوت القلوب للمكي ج 2 ص 74.
(2)
غيث المواهب العلية للنفزي ج 2 ص 159 بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود ، أيضا إيقاظ الهمم ص 406.
(3)
إيقاظ الهمم لابن عجيبة ص 404.
(4)
أنظر الرسالة القشيرية ج 1 ص 115 ، الأخلاق المتبولية للشعراني ج 3 ص 207 ، أيضا الطبقات الكبرى له أيضا ج 1 ص 83.
فخرج معه إلى البرية وضرب عليه مظلة وصار يطليه بالدهن ويطعمه ويسقيه ويحت الجرب منه بخرقة ، فلما برئ حمل له ماء مسخناً وغسلّه (1).
ثم علّق على صنيع الرفاعي هذا ساتراً إياه بقناع التقدس والتأله بقوله:
" كان قد كلفه الله تعالى بالنظر في أمر الدواب والحيوانات "(2).
وليس ذلك فحسب بل ذكر عنه أبو الهدى الرفاعي أنه كان يبتدئ من لقيه بالسلام حتى الأنعام والكلاب ، وكان إذا رأى خنزيراً يقول له: أنعم صباحاً (3).
وحكوا عن عبد الرحيم القناوي أنه رأى مرة في عنق كلب خرقة من صوف فقام له إجلالا.
لا ندري من أين أخذ الصوفية هذه الآداب والطرق لرياضة النفس وإذلالها؟
ومن الذي أمر بالإنكسار والتخشع والتذلل بين يدي الكلاب والخنازير؟ وما معنى قوله تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ} (4).
وقوله عز وجل: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} (5).
ونذكر أخيراً في هذا المعنى ما نقلوه عن علي سيرجاني أنه دعا الله يوماً بضريح شجاع الدين الكرماني أن يرسل إليه ضيفاً يأكل معه إذ جاء كلب فطرده ، فهتف هاتف: تطلب ضيفاً ثم تطرده ، فحزن جداً وخرج للبحث عنه ووجده في برية ، فقدم إليه طعاماً فلم يأكل ، فتاب الشيخ إلى الله وأناب إليه.
فنطق الكلب: أحسنت يا شيخ ، لو عملت هذا الصنيع بموضع غير ضريح الشيخ شجاع الدين لعوقبت عقاباً شديداً (6).
(1) قلادة الجواهر لأبي الهدى الرفاعي ص 62 ، أيضاً طبقات الشعراني ج 2 ص 112.
(2)
الطبقات الكبرى للشعراني ج 2 ص 112.
(3)
قلادة الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر لأبي الهدى بالرفاعي ص 62 ، 63 ، أيضا طبقات الشعراني ج 1 ص 112.
(4)
سورة الإسراء الآية 70.
(5)
سورة التين الآية 4.
(6)
تذكرة الأولياء للعطار ص 171.
ومن الحكايات التي يسردها الصوفية بياناً لتواضع مشايخهم ما ذكرها اليافعي نقلاً عن إبراهيم بن أدهم أنه قال:
" ما سررت بشيء كسروري يوماً كنت جالسا فجاء إنسان وبال عليّ "(1).
ونقل السلمي عن أبي محمد الراسي أنه قال:
" لا يكون الصوفي صوفياً حتى لا تقلّه أرض ولا تظله سماء ، ولا يكون له قبول عند الخلق "(2).
وقال آخر:
" الصوفي كالأرض يطرح عليه كل قبيح ويطؤه البرّ والفاجر "(3).
وذكر الشعراني في طبقاته حكاية أبي العباس أحمد بم مسروق بياناً لتواضعه وانسلاخه عن التكبر وتجرده عن الترفع ، فيقول:
" جاءه مرة شخص فدخل داره لوليمة كانت عند أبي العباس بلا دعوة ، فقال أبو العباس: لله علي أن أدعه يمشي إلا على خدّي حتى لأجلس موضع الأكل فوضع خده على الأرض ومشى عليه الرجل إلى أن أبلغ إلى موضع جلوسه ، وصار يقول: مثل هذا الرجل يتواضع لي ويحضر وليمتي ، بأيّ شيء أكافئه؟ "(4).
فبمثل هذه التفاهات كانوا يتصنعون التواضع ، ويتكلفون به ، ويتجاوزون إلى التهاون والتخاذل الغير معهود في السلف الصالح.
وأحيانا يأمرون مريديهم بحلق اللحية وتعليق المخلاة في رقبته إذلالا لنفسه وإسقاطاً لجاهه (5).
ويقول محمد بن أبي الحسن: مددت رجلي يوماً بعد صلاة المغرب ، فهتف بي هاتف:
(1) نشر المحاسن الغالية لليافعي ص 97 بهامش جامع الكرامات للنبهاني ، أيضا إيقاظ الهمم لابن عجيبة ص 412.
(2)
طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي ص 126.
(3)
إيقاظ الهمم ص 5.
(4)
طبقات الشعراني ج 1 ص 63.
(5)
أنظر النور من كلمات أبي طيفور ص 113 ضمن شطحات الصوفية للدكتور عبد الرحمن بدوي ط الكويت ، أيضاً إيقاظ الهمم لابن عجيبة الحسني ص 36.
أهكذا تجالس الملوك؟ (1).
ولا شك أن هذا تدّين زائد على السنة ، لا يعتبر تواضعاً إسلامياً. بل زّينه الشيطان وأما نسبة قول إلى هاتف فإنها كثيرة في كتبهم ومقولاتهم ، يخترعون شيئاً وينسبونه إلى الهاتف ويعنون به ملكاً من الملائكة ، وأحياناً يدّعون أن الله سبحانه جلّ شأنه هو الذي خاطبهم وهتف بهم كما بيّنا في كتابنا " التصوف: المنشأ والمصادر " (2).
ونختم الكلام في موضوع التطرف في التواضع على ما ذكره الشعراني كقاعدة عامة لجميع المتصوفة حيث قال:
" لا يصلح هذا الأمر إلا لأقوام قد كنسوا بأرواحهم المزابل على رضا منهم وأختيار "(3).
وهناك تطرفات صوفية أخرى في أمور الدين والدنيا نذكر بعضا منها إجمالا وفيقول السهروردي عبد القاهر:
" من عرف عن يمينه وشماله في الصلاة متعمداً فلا صلاة له "(4).
وينتقل الشعراني عن إبراهيم المتبولي أنه قال:
" كل من رجع الذهب على التراب فصلاته باطلة "(5).
وذكر أبو طالب المكي عن بعض الصوفية أنه قال:
" العامة يتوبون من سيئاتهم ، والصوفية يتوبون من حسناتهم "(6).
وأيضاً " من تاب من تسعة وتسعين ذنباً لم يتب من ذنب واحد لم يكن عندنا من التائبين "(7).
وقالوا: " التوبة فرض كل عبد في كل نفس "(8).
(1) نفحات الأنس للجامي ص 128.
(2)
أنظر الباب الثالث التشيع والتصوف.
(3)
طبقات الشعراني ج 1 ص 88.
(4)
عوراف المعارف للسهروردي ص 320 دار الكتاب العربي بيروت.
(5)
الأخلاق المتبولية للشعراني ج 1ص 156.
(6)
قوت القلوب لأبي طالب المكي ج 1 ص 189.
(7)
أيضا ص 191.
(8)
طبقات الشعراني ج 2 ص 93.
وحكى الكلاباذي عن التستري أنه قال:
" من غمض عن الله طرفة عين فلا يهتدي طول عمره "(1).
وقال الشبلي كما نقل عنه السلمي في طبقاته:
" سهو طرفة عين عن الله لأهل المعرفة شرك بالله "(2).
وحكى عماد الدين الأموي إبراهيم الخواص أنه كان يتكلم في العلم وحوله جماعة إلى أن طلعت عليه الشمس وحميت حتى وجدت حرها وهو جالس لا يعبأ بها. فلما أشتدت قلت له: يا سيدي ، ما ترى أن تقوم إلى الظل؟
فقال: ويلك ، ما تدلني إلا على الشرك (3).
وقال الشاذلي:
" لو حجب عني رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما عددت نفسي من المسلمين "(4).
وقال إبراهيم المتبولي:
" من رفع بصره إلى شيء بغير نية الاعتبار كتبت عليه خطيئة "(5).
وأخيرا ننقل من القوم أنهم قالوا:
" مبنى التصوف على أخلاق ثمانية من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام:
السخاء وهو لإبراهيم ، والرضا وهو لإسحاق ، والصبر وهو لأيوب ، الإشارة وهي لزكريا ، والغربة وهي ليحيى ، ولبس الصوف وهو لموسى ، والسياحة وهي لعيسى ، والفقر وهو لمحمد صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين " (6).
فهذه هي دعواهم ، وتلك هي أقاويلهم وأفاعيلهم مبنية على مخالفة الكتاب والسنة
(1) التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص 78.
(2)
طبقات الصوفية للسلمي ص 83.
(3)
حياة القلوب في كيفية الوصول إلى المحبوب لعماد الدين الأسوي.
(4)
الأخلاق المتبولية للشعراني.
(5)
الأخلاق المتبولية للشعراني.
(6)
المصدر السابق.
ومنافيه لما جاءت به الشريعة السماوية السمحة ومناقضة لأعتدال الإسلام وقصد السبيل ، وتقدم بين يدي الله ورسوله ، وتجاوز عليهما ، وتعنت غير محبوب ، وتقشف غير محمود ، لم ينزل الله به من سلطان.
وكذلك يدخل في مناقضة الصوفية تعاليم الدين ومخالفتهم شرع الله أمور أخرى كثيرة خالف فيها المتصوفة نصوص القرآن والسنة ، فجمعوا بين الشيئين:
الإتيان بما لم ينطق به كتاب الله وسنة رسول الله ، والمخالفة لما ورد فيهما.
كما جاؤوا ببدع وخرافات أخرى ، جعلوها دينا وليست من الدين ، نريد أن نذكرها في باب مستقل يلي هذا الباب لكي يعرف القارئ ويعلم الباحث بأن التصوف ليس إلا تطرفاً في السلوك والأحوال والمعاملات ، ومخالفة المنطوق والمنصوص في المعاملات والعبادات ، وليس إلا ترويجاً للخرافات والبدعات. وبالله التوفيق.