الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع
التَصُّوف .. بدعه وَخصَائِصه
إن المصنف لما يتعمق في كتب المتصوفة ورسائلهم وصحفهم ، في سيرهم وسلكوهم ، أحوالهم وطبقاتهم ، أسسهم وقواعدهم ، ليرى أن أمرهم مبني إما على التطرف أو مخالفة الشريعة ، أو مكوّن من البدع والزيغ والضلال.
فأما تطرفهم ومخالفتهم للشريعة فلقد ذكرناها فيما سبق ، ونورد ههنا ما أبتدعوه واستحدثوه باسم الدين في التصوف ، ولو أن كل هذا من حيث المبدأ والمال من قسم واحد لأن التطرف أيضا بدعة في الدين ، ومخالفات الشرع منهي عنها في الإسلام ، ولكننا خصصنا هذا الباب لبيان أشياء أختصّ بها المتصوفة ، وجعلوها من ميزاتهم وشعاراتهم ، بل أنها من لوازمهم وخصائصهم ، قلّما يتصور صوفي ولا يتصور هذه الأشياء معه أو يتصور هذه الأشياء ولا يحضر في الذهن التصوف والمتصوفة من قديم الزمان وحديثه باختلاف الكّم والكيف مثل الرقص والغناء ، والوجد والتواجد ، والأناشيد والمواجيد ووالقصائد والترانيم ، والأذكار والأوراد بألفاظها المخصوصة وآدابها الخاصة ، وتصور الشيخ ، وصحبة المريد ، والخلوات والخانقاوات وآداب المكوث فيها وغيرها من الأمور التي خصصوا لبيانها أبواباً وفصولا في كتبهم.
ويلاحظ الباحث أن للقوم نظاماً خاصاً ، ومميزاً عن نظام الإسلام ، وآداباً ومناهج لم يرد ذكرها في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم تعرف في القرون الأولى للشهود لها بالخير ، بل أخذوها من غير المسلمين ، والبعيدين عن الإسلام وعقائده ، أفكاره ومعتقداته ، بل هي تخالف في شكلها وصورتها ، وبحروفها وألفاظها ، وكلماتها ومنطوقها ، ومعانيها ومدلولاتها ، وأسمها ورسمها ، وسيرتها وتشكيلها ، وأدائها وأسلوبها من الإسلام الساذج ، غير المتكلف والمصطنع ، دين الفطرة ودين البساطة ، فأين هو وتعاليمه من الرقص والتمايل وجداً وطرباً ، والذكر وحلقاته ،
والحركات على التصفيق والبكاء والتصدية ، وضربات الذكر ، وتحريك الرأس والجسم آلياً وبهلوانياً ، والجلوس بين يدي الشيخ كالجلسة بين يدي الربّ الخشوع والخضوع ، وعدم التنفس أمامه والسؤال منه والاعتراض عليه وعلى كل ما يفعله ويأمر به ، والمكوث في سراديب الأرض واللبث في كهوف الجبال وغيرانها ، وغير ذلك من الخرافات والخزعبلات.
فالإسلام دين يشمل الدنيا والآخرة ، ويعامل الإنسان كما خلق في أحسن تقويم ، مكرم ومعظم ، وله حقوق ، وعليه فرائض ، وله إخوان وخلاّن وأهل وعيال ، ووالد وما ولد ، وأقارب وجيران ، وأسرة وبيئة يعيش فيها ومجتمع يحيطه ، فلا يستغني عنهم ولا يستغني عنه ، وعلى ذلك يقال: إن الإنسان مدني الطبع ، وهو كذلك ، ولذلك بعث الله النبيين وأرسل الرسل ليهدوه ويسلكوا سبيل المؤمنين المتقين والمعتدلين يراعون الذمم ، ويصلون الرحم ويوفون بالعهود ، ويرحمون الصغير ، ويوقرون الكبير ، ويداوون المريض ، ويواسون الجريح ، ويجبرون المكسور ، ويقرون الضيف ، ويراعون اليتيم ، ويعطون المسكين ، ويحافظون على ما أمر الله بحفظه ، ويراعون الله فيما أمرهم برعايته ، ويخافونه ويتقونه حق تقاته.
ولكن التصوف ليس هكذا ، فهو إنزواء وحشة وتنافر من الناس وأعتزال عنهم ، ثم رقص وسماع ، وأكل وشرب على الإستجداء ، ونوم في الروابط ، لا الكسب ولا الطلب ، ولا الزواج ولا المعاشرة ، ومخالفة فطرة الله التي فطر الناس عليها.
وقد ذكرنا أشياء منها ، نذكر ههنا من بدع القوم ومحدثاتهم التي علقت بهم ولزمتهم ، أو عرفت بهم وعرفوا بها.
فمن بدعهم ما يسمونه سماعاً ، وهو: سماع أناشيد وأبيات غزلية فيها ذكر الهجر والوصل ، والقرب والبعد ، والعذاب الملامة ، والعذل واللوم ، والقطيعة والشوق ، والحب والعشق ، والحبيب والمعشوق ، والقدود والخدود ، والحسن والجمال ، والغنج والدلال ، والخمر والكؤوس ، والساقي والسيقان ، مع الآلات وبدونها مكاء وتصدية ،
دون سماع القرآن وأحاديث سيد الأنام.
كما يقول ابن عجيبة الحسني: " السماع هو استماع الأشعار بالنغم والموسيقى "(1).
وجعلوا هذا السماع من لوازم التصوف حيث نقلوا عن علم من الأعلام المتصوفة الحسين النوري أنه سئل عن الصوفي فقال:
" الصوفي الذي سمع السماع وآثر على الأسباب "(2).
وقال أبن البنا السرقسطي:
وللأنام في السماع خوض
…
لكن لهذا الحزب فيه روض
وإن للشيوخ
…
فنّا
…
إذ جعلوه للطريق ركناً (3).
ونقل الشعراني عن الحارث المحاسبي أنه كان يقول:
" مما يتمتع به الفقراء سماع الصوت الحسن "(4).
و" أنه من أسرار الله تعالى في الوجود "(5).
وقالوا:
" السماع لصف غذاء الأرواح لأهل المعرفة لأنه وصف يدّق عن سائر الأعمال ، ويدرك برقه الطبع لرقته ، ويدرك بصفاء السر عند صفاء السر لأهله "(6).
ونقلوا عن الجنيد أنه قال:
" الرحمة تنزل على الفقير في ثلاثة مواضع: عند الأكل فإنه لا يأكل إلا عند الحاجة ، وعند الكلام فإنه لا يتكلم إلا لضرورة ، وعند السماع فإنه لا يسمع إلا عند الوجد "(7).
(1) الفتوحات الإلهية لابن عجيبة الحسني ص 183 ط عالم الفكر القاهرة.
(2)
كتاب اللمع للطوسي ص 343 ، أيضاً الرسالة القشيرية ج 2 ص 644.
(3)
المباحث الأصلية لابن البنا السرقسطي ضمن الفتوحات الإلهية لابن عجيبة ص 183.
(4)
الأنوار القدسية في معرفة قواعد الصوفية للشعراني ج 2 ص 179 ط دار إحياء التراث العربي بغداد.
(5)
التدبيرات الإلهية لابن عربي ص 223 ط ليدن.
(6)
كتاب اللمع للطوسي ص 342 ، الرسالة القشيرية ج 2 ص 646.
(7)
التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص 191 ، ومثله في كتاب اللمع للطوسي ص 343 ، وفي الرسالة القشيرية ج 2 ص 645 ، وفي أحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 247 ، وفي قوت القلوب لأبي طالب المكي ج 2 ص 61 ، وفي عوارف المعارف للسهروردي ص 176.
ويذكر الهجويري واحد من المشايخ أنه كان يقول:
" السماع تنبيه الأسرار لما فيها من المغيبات "(1).
وأما الكلاباذي فيقول:
" السماع استجمام من تعب الوقت ، وتنفس لأرباب الأحوال ، واستحضار الأسرار لذوي الأشغال.
وإنما اختير على غيره مما يستروح - هكذا - إليه الطباع ، لبعد النفوس عن التشبث به والسكون إليه ، فإنه من القضاء يبدو ، وإلى القضاء يعود " (2).
ونقل الغزالي وأبو طالب المكي عن بعض المشائخ أنه قال:
" رأيت أبا العباس الخضر عليه السلام فقلت له: ما تقول في هذا السماع الذي أختلف فيه أصحابنا؟
فقال له: الصفو الزلال الذي لا يثبت عليه إلا أقدام الفقهاء " (3).
وأما ابن عجيبة فنقل هذا عن رسول الله حيث قال:
" حكى عن بعض الأبدال أنه قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت:
ما تقول في السماع الذي عليه أصحابنا؟
فقال: هو الصفاء الذي لا يثبت عليه إلا أقدام العلماء " (4).
ونقل الشعراني عن سهل بن عبد الله أنه كان يقول:
" معنى السماع علم أستأثر الله تعالى به لا يعلمه إلا هو ، والعبارات تقصر عنه ولكن الصادقون - كذا - تشير إليهم المعاني فيستريحون بذلك من تعب الحجاب "(5).
(1) كشف المحجوب للهجويري ص 653 طبعة عربية.
(2)
التعرف للكلاباذي ص 190.
(3)
إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 247 ، أيضاً قوت القلوب لأبي طالب المكي ج 2 ص 63.
(4)
الفتوحات الإلهية لابن عجيبة الحسني ص 185.
(5)
الأنوار القدسية للشعراني ج 2 ص 182 ، ومثله في الرسالة القشيرية ج 2 ص 650.
ونقل الوزير لسان الدين بن الخطيب عن أبي علي الروذباري أنه سئل عن حقيقة السماع فقال:
" المنطق الذي ظهر الحق به ، ونطق به في الأزل "(1).
والقشيري ذكر عنه أنه سئل عن السماع فقال:
" مكاشفة الأسرار إلى مشاهدة المحبوب "(2).
ونقلوا عن ذي النون المصري أنه قال:
" السماع وارد حق يزعج القلوب إلى الله "(3).
ونقل القشيري عنه أنه سئل عن الصوت الحسن فقال:
" مخاطبات وإشارات أودعها الله تعالى كل طيب وكل طيبة "(4).
وهو الذي روى عن بعض المتصوفة أنه سئل عن السماع فقال:
" بروق تلمع ثم تخمد ، وأنوار تبدو ثم تخفى ، ما أحلاها لو بقيت مع صاحبها طرفة عين ، ثم أنشأ يقول:
خطرة في السر منه خطرت
…
خطرة البرق ابتدى ثم أضمحل
أيّ زور لك لو قصداً سرى
…
ومسلم بك لو حقاً فعل (5).
ونقلوا عن السري السقطي أنه قال:
" تطرب قلوب المحبين إلى السماع ، وتخاف قلوب التائبين ، وتكاب قلوب المشتاقين "(6).
ونقل الغزالي عن أبي الحسين الدراج أنه قال:
" جاء بي السماع في ميادين البهاء فأوجدني وجود الحق عند العطاء ، فسقاني بكأس
(1) روضة التعريف للوزير لسان الدين بن الخطيب ص 270.
(2)
الرسالة القشيرية ج 2 ص 649.
(3)
كشف المحجوب للهجويري ص 652.
(4)
أنظر الرسالة القشيرية ج 2 ص 645.
(5)
أيضاً ص 657.
(6)
الفتوحات الإلهية لابن عجيبة الحسني ص 184.
الصفاء فأدركت به منازل الرضاء ، وأخرجني إلى رياض التنزه والفضاء " (1).
وهناك كلام القشيري في رسائلة كاد أن يكون جامعاً وشاملاً لهذه المعاني كلها حيث يقول تحت عنوان " ما السماع ":
" السماع إدراك الغيوب بسمع القلوب بفهم الفؤاد لحقائق المراد ، الوقوف على إشارات الحق عند وجود عبارات الخلق ، الترقي مما يقرع سمع الظاهر إلى ما يوجب جمع السرائر إصغاء القلب إلى خطاب الغيب ، إشارات ترد على الأسرار عند عبارات تسمع من الأغبار إنطلاق لسان السرائر إذا سكت لسان الظواهر ، جريان لسان الفؤاد والعبد ساكت بين العباد ، مفاوضة الأحباب وسكوت اللسان عن الخطاب.
السماع من موجبات الرأفة ومذهبات الكلفة ، السماع سفير يؤدي إليكم رسائل الغيب بحسن التولي ، غذاء الأرواح وشفاءها ، روح القلوب وصفاءها ، لطائف الغيب وزوائده ، نتائج القرب وعوائده.
السماع يبرز كل وجد كامن ويزعج كل قلب ساكن ، السماع مبهج لقوم ومزعج لقوم لأنه يفيد قوماً وبيد قوماً من إفادة أبهجة وأصحاه ومن إبادة أزعجه - أو لأم محاه - السماع غريم لا يرضى من الفقير إلا ببذل الروح لكنه يغنيه عن نيل كل ممنوع ، السماع يقضي ويقتضي ، يقضي كل كاتم ويملك السمع حتى لا يدخله لوم لائم ، السماع تذكير ما سلف لك يوم الميثاق فيثير منك كوامن الاشتياق السماع معنى يصادفك بغتة ثم يفارقك فلتة فلا لوروده سبب ولا لزواله موجب يحتسب ، السماع غيور لا يرضى بدون قتلك لكنه يتلطف في اقتاصك بخلتك " (2).
فهذا هو السماع عند القوم ، لخصناه من الكتب الموثوقة المعتمدة لديهم.
(1) إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 267.
(2)
رسالة في السماع ضمن الرسائل القشيرية ص 50 وما بعد - نشر المعهد المركزي للأبحاث الإسلامية إسلام آباد باكستان.
وقبل أن نذكر آداب السماع التي اختلقها المتصوفة وأوجدوها بياناً بأن له مقاماً وشأناً ومنزلة ومرتبة تضاهي القرآن الكريم الذي أنزله الله هدى للناس ورحمة وشفاء للمؤمنين ، نريد أن نذكر بعض سماعاتهم التي كلف بها القوم وشغفوا بها ، وطالما يجعلون تأثيرها أوقع في النفوس من آيات الذكر الحكيم لكي يعرف القارئ من أيّ نوع هؤلاء الناس؟
فيذكر ابن الملقن عن صوفي مشهور عمرو بن عثمان المكي المتوفى 297هـ أنه دخل أصبهان ، فصحبه حدث وكان والده يمنعه من صحبته ، فمرض الصبي ، فدخل عليه عمرو مع قوّال ، فنظر الحدث إلى عمرو ، قال: قل له يقول شيئاً ، فقال:
مالي مرضت فلم يعدني عائد
…
منكم ويمرض عبدكم فأعود؟
فتمطى الحدث على فراشه وقعد ، وقال للقوال: زدني بحبك لله.
فقال:
وأشدّ من مرضي على صدودكم
…
وصدود عبدكم عليّ شديد
أقسمت لا عَلِق الفؤاد بغيركم
…
ولكم عليَ بما أقول عهود
فزاد به البر حتى قام وخرج معهم (1).
وذكر السلمي واحداً من أصحاب الجنيد وأحد مشائخ العراق وأئمتهم أبا محمد المرتعش النيسابوري والذي قال فيه أبو عبد الله الرازي " كان مشائخ العراق يقولون: عجائب بغداد في التصوف ثلاث: إشارات الشبلي ، ونكت المرتعش ، وحكايات جعفر الخلدي " يذكر عنه برواية أحمد بن علي:
" كنت عند المرتعش قاعداً ، فقال رجل: قد طال الليل وطاب الهواء ، فنظر إليه المرتعش وسكت ساعة ثم قال: لا أدري ما تقول ، غير أني أقول ما سمعت بعض القوالين في بعض هذه الليالي يغني ويقول:
(1) طبقات الأولياء لابن الملقن ص 344 مكتبة الخانجي القاهرة.
لست أدري أطال ليلي أم لا
…
وكيف يدري بذاك من يتقلى
لو تفرغت لاستطالة ليلى
…
ولرعي النجوم كنت محلي
إن للعاشقين عن قصر الليـ
…
ـل وعن طوله من الوجد شغلا
قال: فبكى من حضره (1).
وعنه ذكر ابن الملقن أنه قال لبعض جلسائه:
" أنشدني الأبيات التي كنت تنشد بالأمس ، فأنشأ يقول:
وقف الهوى بي حيث أنت فليـ
…
س لي متأخر عنه ولا متقدّم
أجد الملامة في هواك لذيذة
…
حبّا لذكرك فليملني اللوم
أشبهت أعدائي فصرت أحبّهم
…
إذ صار حظي منك حظي منهم
وأهنتني فأهنت نفسي صاغراً
…
ما من يهون عليك ممن يكرم (2).
ونقل السهروردي في عوارفه عن ذي النون أنه لما دخل بغداد دخل عليه جماعة ومعهم قوال ، فاستأذنوه أن يقول شيئاً ، فأذن له فأنشد القوال:
صغير هواك عذبني
…
فكيف به إذا
…
احتنكا
وأنت جمعت من قلبي
…
هوى قد كان مشتركاً
أما
…
ترثي لمكتئب
…
إذا ضحك الخلي بكى
فطاب قلبه ، قلبه وقام وتواجد وسقط على جبهته والدم يقطر من جبهته ولا يقع على الأرض (3).
ويذكر السراج الطوسي والهجويري عن الدراج أنه قال:
" كنت أنا وابن الفوطي مارّين على الدجلة بين البصرة والأبلّة وإذا بقصر حسن ، له منظر وعليه رجل بين يديه جارية تغني وتقول:
(1) طبقات الصوفية لأبي عبد الرحمن السلمي ترتيب أحمد الشرباصي ط مطابع الشعب القاهرة 1380هـ.
(2)
طبقات الأولياء لابن الملقن ص 143.
(3)
عوارف المعارف للسهروردي ص 179 ، الرسالة القشيرية ج 2 ص 650 ، أحياء علوم الدين للغزالي ص 269 ، نشر المحاسن الغالية لليافعي ص 205 بهامش جامع كرامات الأولياء للنبهاني.
كل
…
يوم
…
تتلوّن
…
غير هذا بك أجمل
في سبيل الله ود
…
كان مني
…
لك يبذل
قال: ، وإذا شاب تحت المنظر ، بيده ركوة وعليه مرقعة يتسمّع ، فقال: يا جارية بالله وبحياة مولاك إلاّ إذا أعدت هذا البيت ،
قال: فأقبلت الجارية عليه وهي تقول هذا البيت:
كل
…
يوم
…
تتلوّن
…
غير هذا بك أجمل ....
قال: فشهق شهقة وحمّد ، شهقة وحمّد ، فتأملناه فإذا هو ميت (1).
ونقل الهجويري عن أحد مشائخه أنه قال:
سمعت مع درويش في بغداد صوت مغنّ كان يغنّي:
مني إن تكن حقاً تكن أحسن المنى
…
وإلاّ فقد عشنا بها زمناً رغداً
فصرخ ذلك الدرويش وفارق الدنيا.
ومثل هذا ، يقول أبو الرودباري رضي الله عنه:
رأيت درويشاً كان قد شغل بغناء مغنّ ، فأصغيت أنا أيضاً لأرى ما يقول ، فكان ذلك المغنّي يقول بصوت حزين:
أمد كفى بالخضوع إلى الذي جاد بالصنيع
فصرخ الدرويش ووقع ، فلما اقتربت منه وجدته ميّتاً (2).
وأنشد أبو طالب المكي نقلاً عن بعض الصوفية أنه كان يقول:
يا حبيباً بذكره نتداوى
…
وصفوة لكل داء عجيب
من أراد الطبيب سرّا إذا
…
اشتياقاً إلى لقاء الطبيب
من أراد الحبيب سار إليه
…
وجفا الأهل دونه والقريب
ليس داء المحب داء يداوي
…
إنما برؤه لقاء الحبيب (3).
(1) كتاب اللمع للطوسي ص 358 ، أيضاً كشف المحجوب للهجويري ص 657 ، أيضاً إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 264 ط دار القلم بيروت.
(2)
كشف المحجوب للهجويري ص 658.
(3)
قوت القلوب لأبي طالب المكي ج 2 ص 43.
وأيضاً روى عن أبي تراب أنه كان ينشد:
لا تخدعن فللمحبّ دلائل
…
ولديه من تحف الحبيب وسائل
منها تنعمه يمرّ بلائه
…
وسروره في كل ما هو فاعل
فالمنع منه عطية مقبولة
…
والفقر إكرام ولطف عاجل
ومن اللطائف أن يرى من عزمه
…
طوع الحبيب وإن ألح العاذل
ومن الدلائل أن يرى مبتسما
…
والقلب من الحبيب بلابل
ومن الدلائل أن يرى متفهماً
…
لكلام من يحظى لذيه السائل
ومن الدلائل أن يرى متقشفاً
…
متحفظاً من كل ما هو قائل (1).
وذكر ابن عربي في كتابه " محاضرة الأبرار " كثيراً من الأبيات الغزلية التي يتهمّ الصوفية بالاستماع إليها ، فمنها ما ذكرها تحت عنوان " من السماع الصوفي " فيقول:
" وسماعنا على قول كثّير عزّة ":
لقد حلفت جهداً بما حلفت له
…
قريش غداه المأزمين وصلّت
وكانت لقطع الحبل بيني وبينها
…
كناذرة نذاراً فأوفت وحلّت
فقلت لها يا عز كلّ مصيبة
…
إذا وطّنت يوماً لها النفس ذلت (2).
وقال أيضاً:
" وسماعنا على قول ابن الدمنية:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد
…
لقد زادني مسراك وجداّ على وجد
لئن هتفت ورقاء في رونق الضحى
…
على فنن غضّ النبات من الزند
بكيت كما يبكي الوليد ولم تكن
…
جليداً وأبديت الذي لم يكن يبدي
وقد زعموا أن المحب إذا دنا
…
يملّ وأن النأي يشفي من الوجد
بكلّ تداوينا فلم يشف ما بنا
…
على أن قرب الدار خير من البعد
على أن قرب الدار ليس بنافع
…
إذا كان من تهواه ليس بذي ودّ (3).
(1) أيضاً ص 63.
(2)
محاضرة الأبرار ومسامرة الأخيار لابن عربي ج 1 ص 360 ط دار الكتاب الجديد القاهرة 1972 م.
(3)
أيضا ص 361.
ويقول: " وسماعنا على قول قيس المجنون أيضاً:
ألا يا حبذا نجد وطيب ترابه
…
وأرواحه إن كان نجد على العهد
ألا ليت شعري من عوارضتي قبا
…
بطول التنائي هل تغيرتا بعدي
وعن جارتينا بالأثيل إلى الحمى
…
على عهدنا أم لم يدوسا على عهد (1).
وأما كتابه " ذخائر الأعلاق " فكله ممتلئ بالتشبيب والتغزل والأبيات العشقية الداعية إلى الهزل والمجون والخلاعة ، ذكرنا نبذة منها في كتابنا " التصوف: المنشأ والمصادر " (2).
وقد ذكر الجامي في نفحاته أن هناك طائفة من الصوفية كثيراً ما ينشدون هذه الأبيات:
" قف بالديار فهذه آثارهم
…
تبكي الأحبة حسرة وتشوقاً
كم قد وقفت بها أسأل مخبراً
…
عن أهلها أو صادقاً أو مشفقاً
فأجابني داعي الهوى في رسمها
…
فارقت من تهوى تعز الملتقى " (3).
وذكر أيضاً أن مشائخ الصوفية ينشدون أشعاراً يصفون فيها راح المحبة وشوق وصل المحبوب ، ومن ذلك البيت المشهور:
" هنيئاً لأهل الدير كم سكروا بها
…
وما شربوا منها ولكنهم همو
على نفسه فلبيك من ضاع عمره
…
وليس له فيها نصيب ولا سهم " (4).
ونذكر بعض الأبيات التي ذكرها الغزالي من كبار المتصوفة فينقل عن النوري أنه كان مع جماعة في دعوى ، فجرى بينهم مسألة في العلم وأبو الحسين النوري ساكت ، ثم رفع رأسه وأنشدهم:
(1) أيضاً ص 339 ، 340.
(2)
أنظر الباب الثالث من كتابنا " التصوف: المنشأ والمصادر ".
(3)
نفحات الأنس للجامي ص 141 ط كتاب فروشي محمودي إيران 1337 هجري قمري.
(4)
نفحات الأنس للجامي ص 543.
"رب ورقاء هتوف في الضحى
…
ذات شجو صلحت في فنن
ذكرت ألفاً ودهراً صالحا
…
وبكت حزناً فهاجت حزني
فبكائي ربما أرقها
…
وبكاها ربما أرقني
وبقد أشكو فما أفهمها
…
ولقد تشكو فما تفهمني
غير أني بالجوى أعرفها
…
وهي أيضاً بالجوى تعرفني " (1).
وذكر:
" وكأس شربت على لذة
…
وأخرى تداويت منها بها " (2).
وأيضاً:
رقّ الزجاج ورقت الخمر
فتشابها فتشاكل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح
وكأنما قدح ولا خمر (3).
ومن تلك الأبيات ما نقلها أبو المفاخر يحيى الباخرزي عن ابن الفارض أنه كان ينشد:
" شربنا على ذكر الحبيب مدامة
…
سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم
لها البدر كأس وهي شمس يديرها
…
هلال وكم يبدو إذا مزجت نجم " (4).
فهذه نماذج للسماع الصوفي وأناشيد المتصوفة ، وهناك كثير من الأبيات الغزلية باللغة الفارسية والأردية لدى المتصوفة أراد منها وأقبح ، فيها الفسوق البيّن والفجور الظاهر ، نعرض عن إيرادها تجنباً عن الإطالة.
ويقول أبو طالب المكي عن هذا السماع:
" تعرف مواجيد أصحابنا عند السماع "(5).
ويكتب عن السماع أيضاً:
(1) أنظر إحياء علوم الدين ج 2 ص 273 ، 274.
(2)
أيضاً ص 269.
(3)
إحياء علوم الدين ج 2 ص 267.
(4)
أوراد الأحباب وفصوص الآداب للباخرزي ص 242 ط إيران.
(5)
أنظر قوت القلوب لأبي طالب المكي ج 2 ص 61.
" وإنما ذكرنا هذا لأنه كان طريقاً لبعض المحبين ، وحالاً لبعض المشتاقين ، فإن أنكرناه مجملاً أنكرنا على سبعين صادقاً من خيار الأمة "(1).
ويقول الأنصاري الهروي أن الأنس يتأتى من ثلاثة أشياء ، منها: التغذي بالسماع (2).
وهذه الأبيات والأناشيد والترانيم والقصائد والأشعار الغزلية المليئة بذكرها ما يذكره الغاوون لا تقرأ ولا تنشد بصوت طيب ، بل تغنّى على ألحان وأنغام ومع آلات الطرب واللهو والغناء ، كما أنه ليس من الضروري أن يكون القوال والمنشد رجلاً مسناً ، بل ومن النبات والجواري تسمع ويصغي إليهن كما ذكر الجعلي الفضلي عن سيده إسماعيل الصوفي أنه:
" أول ما تقوم عليه الحالة يمشي في حوشه ، ويحضر البنات والعرايس والعرسان للرقص ، ويضرب الربابة ، كل ضربة لها نغمة يفيق منها المجنون ، وتذهل منها العقول ، وتطرب لها الحيوانات والجمادات حتى إن الربابة يضعونها في الشمس أول ما تسمع صوته تضرب على نغمته من غير أن يضربها أحد ، وفرسة بنت بكر يشدونها له ويلبسونها الحرحر والجرس وقوادها ماسكها أول ما تسمع ترنمه في كلام الحرب وهو يقول:
بنت بكر المراد ويوا ويوا
…
سلطية العرضة ويوا ويوا
فإن الفرس تقوم وتومئ برأسها وتتأتى بيديها والعقد فيها شلو شلو (حكاية لصوت العقد)(3).
وذكر عن سليمان الطوالي الزغرات أنه " كانت له جارية تضرب له الدلوكة إسمها
(1) أيضاً ص 61 ، كذلك أوراد الأحباب وفصوص الآداب للباخرزي ص 227 ، أيضاً عوارف المعارف للسهروردي ص 184.
(2)
منازل السائرين للخواجه عبد الله الأنصاري الهروي ص 116 مع الشرح الفارسي ط انتشارات مولى إيران 1341 هجري قمري.
(3)
كتاب الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان لمحمد ضيف الله الجعلي الفضلي ص 28 ط المكتبة الثقافية بيروت لبنان.
منانة ، كانت ضرابة لها بجميع أنواع الضرب يقول لها:
يا منانة دقّ الدلوكة
…
خادم الله الماك مملوكة " (1).
وقد ذكر الشعراني أيضاً صوفية كانوا يضربون آلآت (2).
والدباغ أيضاً ذكر صوفياً طبّالاً كن يضرب بالطبل ففتح الله عليه فبقي على حالته ولم يرجع عنها (3).
وكتب الشعراني عن عمر بن الفارض أنه " كانت له جواري يغّنين له ، فيقوم ويتواجد ، وكان يتغالى في شرائهن لأجل حسن أصواتهن (4).
وأتهموا عطاء أنه " كانت له جاريتان يلحنان ، فكان إخوانه يستمعون إليهما "(5).
وعلى ذلك قال الفيتوري:
" يجوز ضرب البندير (من آلات الغناء) والرقص كذلك إذا كان من تواجد "(6).
وقال عماد الدين الأموي:
" لا بأس إذا كان في السماع آلة من دف أو شبابة ، ولا بأس بالرقص في السماع "(7).
ثم ذكروا آداباً لهذا السماع أو الغناء لا تقّل عن آداب سماع القرآن ، بل وتفوقها كما يكتب القشيري في رسالته تحت عنوان " ما آداب السماع "؟ فيقول:
القعود بالهيبة عند صحوك إلى أن تصل إلى الخمود والغيبة لمحوك ثم الأناخة بحقوة الخضوع بقلبك ناسياً أو متناسياً لخطاب من ربك ثم استشعار الخجل فيما يرقيك إليه الحق أو يلقيك به من وجود حال أو شهود مقام أو رويّة وصال أو توهم
(1) أيضاً ص 93.
(2)
أنظر طبقات الشعراني ج 2 ص 100.
(3)
أنظر الإبريز للدباغ ص 235 طبعة قديمة مصر.
(4)
الأنوار القدسية للشعراني ج 2 ص 186.
(5)
قوت القلوب لأبي طالب المكي ج 2 ص 62 ، عوارف المعارف للسهروردي ص 177 ، مكاشفة القلوب للغزالي ص 239.
(6)
الوصية الكبرى لعبد السلام الفيتوري ص 19 و 68.
(7)
حياة القلوب لعماد الدين الأموي ج 2 ص 179 بهامش قوت القلوب لأبي طالب المكي.
إكرام ثم ملاحظة ما يناغيك به من التقريب بعين السكر والنسيب ثم ترك المساكنة إلى ما يثني به الحق سبحانه عليك في سرك باستصغار حالك بل باستقذار قلك وكثرك ثم إخفاء حالك عن سقوط أحكام البشرية من تغيرك وتكدرك فيما تسامر فيه من غير إظهار فضل لك بكل وجه تدعيه أو حق من أحد تقتضيه ثم مراعاة حقوق الأكابر إذا حضروا موضع السماع بدوام السكون إلا عن غلبة الاختيار مسقطة ونازلة في الإزعاج مفرطة ثم كتمان ما تكاشف به من الأشراف على أحوال من هو دونك في الشرف والحال " (1).
ويقول:
" وللسماع شروط أخر ، فمنها أن لا يتخير فيما يسمع على القوال ، ولا يصح عليه خطأه في الأقوال لأن ذلك سوء أدب في أحكام الحضرة "(2).
وأما الباخرزي فيقول:
" من آداب الصوفية في السماعأن يصلّوا قبل الحضور في مجلس السماع ، ويسألوا البركة من الربّ عز وجل ، وأن يقعدوا فيه بالهيبة والوقار ، ويلازموا السكينة والإخلاص "(3).
وينقل كذلك عن روزبهان بقلي أنه قال في كتابه " الأنوار في كشف الأسرار ":
" من آداب السماع كذلك أن يكون القوال حسن الوجه لأن العارفين يحتاجون لاستجمام قلوبهم إلى ثلاثة أشياء: روائح طيبة ، ووجه صبيح ، وصوت حسن مليح كما قال عليه السلام: حبب إليّ من دنياكم ثلاث: الطيب والنساء ، وقرة عيني في الصلاة "(4).
(1) الرسائل القشيرية ص 54 ، 55 ط إسلام آباد باكستان.
(2)
أيضاً ص 53.
(3)
أوراد الأحباب وفصوص الآداب ليحيى الباخرزي (فارسي) ص 202 ط إيران.
(4)
أرواد الأحباب للباخرزي ص 207.
ومن تلك الآداب ما ذكرها عبد السلام الأسمر في وصيته فيقول:
" أخواني: تأدبوا معها أي حضرة السماع وأحسنوها واخشعوا فيها كما تخشعون في الصلاة اللهم إلا إذا نزل بكم أمر غالب من وجد أو شوق أو ذوق أو حال أو جدب. فإذا أغمي على أحد منكم في الحضرة فقد سقط عليه التكليف فسقطوا له ، وإذا شق بكم من ضرب أو مزاحمة أو صراخ يفسد عليكم ذكركم أو صوت قوي يخلط عليكم أو يشتتكم أو يضرّبكم ضرراً فأخرجوه من الحلقة برفق ولين ولا تضروه ولا تنازعوه ولا تهددوه ولا تفتحوا عليه ، ولو غير الاسم الأعظم ولو كان يقول خا خاخا أو حاحاحا أو لالالا أو هاهاها أو كاكاكا أو فافافا أو أي حرف من الحروف الهجائية. فإذا لم يشق بكم ولا يضرّ بكم فلا تخرجوه من الحضرة إلى أن يشبع واجعلوه في وسطها وأحسنوا له الذكر وصوتوا فيه بالقوة إلى أن يلقي على الأرض أو يطيب. فإذا سقط على وجه الأرض فانقلوه بظرافة وتلقوه حين سقوطه على الأرض لئلا يتضرّر جسده.
إخواني: فاخرجوه بينكم بأدب وظرافة وألقوه على الأرض النظيفة واطرحوه عليها وغطوه بالإزار إلى أن يفيق ويرجع على ما كان عليه.
إخواني: وغمضوا أعينكم في الحضرة ولا يلتفت منكم أحد ، وأحفظوا الحلقة لئلا يدخلكم الجان ، وحفظ الحلقة هو الفاهق الذي هو في دائرة الحضرة ما بين الرجل والرجل ولا يدخل في وسط الحضرة منكم أحد إلا من غلب عليه ، ما ذكرناه من جذب ونحوه.
إخواني: ومن أصابه الضراط فليخرج منها ويقضيه ويرجع إلى الحضرة " (1).
ولم يكتف بهذا بل صرح بأشياء أخرى ، فيها إهانات وخرافات ، فيقول:
" وعند إنشاد كلامي إياكم والعبث والسخرية وكذلك حين الذكر والإنشاد وحين تنشدون كلامي فإن روحي تحضر بين أيديكم سواء حياً أو ميتاً.
إخواني: وحين ينشد أحدكم كلامي فأنصتوا له واستمعوا وحضروا قلوبكم معه وتأملوه.
(1) الوصية الكبرى السلام الأسمر ص 50 ط مكتبة النجاح طرابلس ليبيا.
إخواني: وعند قولكم لكلامي فلا تتحدثوا ولا تعيشوا وأخشوا فيه فإن روحي بين أيديكم ومعها ملكان صالحان.
إخواني: ولا تقطعوا كلامي وأتقنوه وأحسنوه واحفظوه حفظاً فائقاً.
إخواني: وإذا قلتم من كلامي قصيدة فلا تبطلوا في أثنائها إلى أن تتموها ولا نظروا ، ولا تبتروها ولا تقطعوها ولو سمعتم الأذان المهم إلا إذا كنتم تشوشون على المؤذن أو تخلطوا عليه الآذان فأتموا سراً.
إخواني: من لا يهزه إنشادي ودفي فقد تغلظ طبعه وفسد مزاجه وفيه نزعة يهودية " (1).
وحكى القشيري عن الجنيد أنه قال:
" السماع يحتاج إلى ثلاثة أشياء: الزمان والمكان والأخوان "(2).
وقال الكمشخانوي:
" آداب الحضرة ثلاثة: دوام النظر ، وإلقاء السمع ، والتوطين لما يرد من الحكم "(3).
وقد أطال الغزالي في ذكر آداب السماع:
" الأول: مراعاة الزمان والمكان والإخوان: قال الجنيد: السماع يحتاج إلى ثلاثة أشياء وإلا فلا تسمع: الزمان والمكان والإخوان. ومعناه أن الإشتغال به في وقت حضور طعام أو حصام أو صلاة أو صارف من الصوارف مع اضطراب القلب لا فائدة فيه فهذا معنى مراعاة الزمان فيراعي حالة فراغ القلب له. وإما المكان: فقد يكون شارعاً مطروقاً أو موضعاً كريه الصورة أو فيه سبب يشغل القلب فيجتنب ذلك. وإما الإخوان: فسببه أنه إذا حضر غير الجنس من منكر السماع متزهد الظاهر مفلس من لطائف القلوب كان مستقلا في المجلس واشتغل القلب به
…
الأدب الثاني: هو نظر الحاضرين أن الشيخ إذا كان حوله مريدون يضرهم السماع
(1) أيضاً ص 52 ، 53.
(2)
الرسالة القشيرية ج 2 ص 645.
(3)
جامع الأصول في الأولياء للكمشخانوي ص 40.
فلا ينبغي أن يسمع في حضورهم فإن سمع فليشغلهم بشغل آخر
…
الأدب الثالث: إن يكون مصغياً إلى ما يقول القائل ، حاضر القلب ، قليل الالتفات إلى الجوانب ، متحرزاً عن النظر إلى وجوه المستمعين وما يظهر عليهم من أحوال الوجد. مشتغلاً بنفسه ومراعاة قلبه ومراقبة ما يفتح الله تعالى له من رحمته في سره ، متحفظاً عن التنحنح والتثاؤب ، ويجلس مطرقاً رأسه ، كجلوسه في فكر مستغرق لقلبه ، متماسكاً عن التصفيق والرقص وسائر الحركات على وجه التصنع والتكلف والمراءاة ، ساكتاً عن النطق في أثناء القول بكل ما عنه بدّ فإن غلبه الوجد وحركة بغير اختيار فهو معذور غير ملوم
…
الأدب الرابع: أن لا يقوم ولا يرفع صوته بالبكاء وهو يقدر على ضبط نفسه ولكن إن رقص أو تباكى فهو مباح إذا لم يقصد به المراءاة لأن التباكي إستجلاب للحزن ، والرقص سبب في تحريك السرور والنشاط ، فكل مسرور مباح فيجوز تحريكه
…
الأدب الخامس: موافقة القوم في القيام إذا قام واحد منهم في وجد صادق من غير رياء وتكلف ، أو قام باختيار من غير إظهار وجد وقامت له الجماعة فلا بد من الموافقة ، فذلك من آداب الصحبة. وكذلك إن جرت عادة طائفة تنحية العمامة على موافقة صاحب الوجد إذا سقطت عمامته أو خلع الثياب إذا سقط عنه ثوب بالتمزيق فالموافقة في هذه الأمور من حسن الصحبة والعشرة ، إذا المخالفة موحشة ولكل قوم رسم ، ولا بد من مخالفة الناس بأخلاقهم كما ورد في الخبر ، لا سيما إذا كانت أخلاقاً فيها حسن العشرة والمجاملة وتطيب القلب بالمساعدة " (1).
فيا لهفتي ووا أسفي على فقيه مثل الغزالي الذي ذهب به التصوف إلى هذه المذاهب والمقالات التي لا تتصور عن عاقل ذي شعور أن يقولها أو يتلفظ بها دون أن تصدر من شخص فقيه متكلّم أصولي مناظر ، ولله في خلقه شأن يهدي من يشاء ويضل من يريد ، وبهذا يعرف قدرته واختياره ، وعظمته وجلالته.
(1) إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 276 وما بعد.
والهجويري أيضا بوب باباً في ذكر آداب السماع ، وعد آداباً كثيرة ، منها:
" إذا استولى السماع على جماعة ولم يكن له منه نصيب فينظر إلى سكرهم بصحوة فيجب أن يكون محتاجاً إلى الوقت ويمكن لسلطان الوقت لتصل إليه بركاته "(1).
والسرقسطي أيضاً ذكر آداب السماع ، ومن جملتها:
" ولا يجوز عنده التكلم
…
ولا التلاهي لا ولا التبسم " (2).
ثم يشرح ابن عجيبة الحسني هذا البيت بقوله:
" إنما لا يجوز التكلم عنده (أي عند السماع) لأنه عند العارفين محل الوجد والخمرة ، والكلام يشوش القلب ويبعده من الحضرة ، ويتلف عن الحقيقة ، فالواجب تركه لمن أراد جبر قلبه
…
وأما التبسم فإن فيه إساءة الأدب ، فإن غلبه خرج ، وإلاّ أُخرج وزُجر. قال السلمي رحمه الله: ولا يحضر مجلس السماع من يبتسم أو يتلاهى " (3).
والشعراني نقل عن ابن عربي أن من آداب القوم في السماع أن لا يكون هناك من ليس من أهل طريقة أو من أهل طريقهم لكنه ينكر السماع ولا يقول به " (4).
ويقول:
" وإذا سقطت عمامة الشيخ عن رأسه أو وضعها هو اختياراً لثقلها أو لشدة حر ونحو ذلك ، فمن الأدب موافقة الفقراء له في ذلك ، فيضعون كلهم عمائمهم كذلك ، وإن رمى الشيخ عمامته إلى القوال أو رداءه فلهم أن يوافقوه بصدق ، وليحذر أحدهم أن يرمي خرفته للقوال من غير إشارة الشيخ فإنه ترك الأدب ، وإذا وقع من أحد من الفقراء خرفة أو عمامة في غير وجد ، فيستحب للنقيب رفعها عن مواقع الأقدام إكراماً لها ، وإن كانت عمامة الشيخ رفعها كذلك وصار قائماً بها إلى أن يطلبها الشيخ بالقرينة أو الإشارة ، فهناك يتقدم النقيب ويضعها على رأس الشيخ قائلاً بسم الله الرحمن الرحيم
(1) كشف المحجوب للهجويري ص 668.
(2)
المباحث الأصلية للسرقسطي ضمن الفتوحات الإلهية لابن عجيبة ص 190.
(3)
الفتوحات الإلهية لابن عجيبة الحسني ص 190 ، 191 ط عالم الفكر القاهرة.
(4)
الأنوار القدسية للشعراني ج 2 ص 187.
مع اسشعار الحياء والأدب " (1).
فهذه هي آداب السماع عند الصوفية.
ومن أشنع ما استحدثوه وابتدعوه في السماع هو الوجد والتواجد والرقص ، وقد بوّبوا لبيانها أبواباً مستقلة ، وفصّلوا الفصول ، وما هي إلا خرافات وخرافات ، وسخافات وسخافات ، واستخفاف العقل والاستهزاء بالفكر ولكن أنّى للقوم أن يتعقلوا ويتفكروا ، فقال السراج الطوسي مبيناً للوجد في باب مستقل من لمعه تحت عنوان " في ذكر اختلافهم في ماهية الوجد " قال:
" اختلف أهل التصوف في الوجد ما هو؟ فقال عمرو بن عثمان المكي رحمه الله: لا يقع على كيفية الوجد عبارة لأنها سر الله تعالى عند المؤمنين الموقنين "(2).
ونقل عن أحد المتصوفة أنه قال:
" إن الوجد مكاشفات من الحق ، ألا ترى أن أحدهم يكون ساكناً فيتحرك ويظهر منه الزفير والشهيق
…
وقال أبو سعيد أحمد بن بشر بن زياد الأعرابي رحمه الله:
" أول الوجد رفع الحجاب ، ومشاهدة الرقيب الفهم ، وملاحظة السبب ، ومحادثة السر ، وإيناس المفقود ، وهو فناؤك أنت من حيث أنت.
قال أبو سعيد رحمه الله: الوجد أول درجات الخصوص وهو ميراث التصديق بالغيب ، فلما ذاقوها وسطع في قلوبهم نورها ، زال عنهم كل شك وريب.
وقال أيضاً: الذي يحجب عن الوجد رؤية آثار النفس والتعلق بالعلائق والأسباب ، لأن النفس محجوبة بأسبابها ، فإذا انقطعت الأسباب ، وخلص الذكر وصحا القلب ورق وصفاً ، وتجعت فيه الموعظة والذكر وحل من المناجاة في محل غريب وخوطب وسمع الخطاب بأذنه واعية وقلب شاهد وسر طاهر ، فشاهد ما كان منه خالياً ، فذلك هو الوجد ، لأنه وجد ما كان عنده عدماً معدوماً " (3).
(1) أيضاً ص 190.
(2)
كتاب اللمع للطوسي ص 375 ط
…
دار الكتب الحديثة مصر.
(3)
أيضاً ص 375 ، 376.
وقال الهجويري:
" أعلم أن الوجد والوجود مصدران: أحدهما بمعنى الحزن ، والثاني بمعنى الوجد ، وفعل كلاهما كأنه واحد ، ولا يمكن التفرقة بينهما إلا بالمصدر ، كما يقال: وجد يجد وجوداً ووجداناً: إذا صار محزوناً ، وأيضاً: وجد يجد جدة: إذا صار غنياً ، ووجد يجد موجدة: إذا غضب ، والفرق بين هذه كلها يكون بالمصادر لا بالأفعال.
ومراد هذه الطائفة من الوجد والوجود إثبات حالين يظهران لهما في السماع ، أحدهما مقرون بالحزن ، والآخر موصول بالوجد والمراد.
وحقيقة الحزن: فقد المحبوب ، ومنع المراد ، وحقيقة الوجد: حصول المراد. والفرق بين الحزن والوجد هو أن الحزن اسم الغم الذي يكون في نصيب النفس ، والوجد اسم الغم الذي يكون في نصيب الغير على وجه المحبة. وتغير هذا جملة صفة الطالب " والحق لا يغير ".
ولا تدخل كيفية الوجد تحت العبارة لأنها ألم في المغايبة ، ولا يمكن بيان الألم بالقلم ، فالوجد سر بين الطالب والمطلوب يكون بيانه في كشف تلك الغيبة ، ولا تصح العلامة والإشارة إلى كيفية الوجود ، لأنه طرب في المشاهدة ، ولا يمكن إدراك الطرب بالطلب ، فالوجود فضل من المحبوب إلى المحب ، والإشارة معزولة عن حقيقته.
وعندي أن الوجد ألم للقلب ، أما من الفرح أو الترح أو الطرب أو التعب. والوجود إزالة غم عن القلب ومصادقته لمراده.
وصفة الواجد: أما حركة في غليان الشوق في حال الحجاب ، وأما سكون في حال المشاهدة في حال الكشف:" أما زفير وإما نفير ، أما أنبن وأما حنين ، أما عيش وأما طيش ، أما كرب وإما طرب "(1).
وقال الكلاباذي:
" الوجد هو ما صادف القلب من فزع أو غم أو رؤية معنى من أحوال الآخرة أو كشف حالة بين العبد وبين الله عز وجل
…
وقال النوري: الوجد لهيب ينشأ في
(1) كشف المحجوب للهجويري ترجمة عربية ص 661 ط دار النهضة العربية بيروت.
الأشرار ، ويسنح عن الشوق فتضطرب الجوارح طرباً أو حزناً عند ذلك الوارد
…
وقال بعضهم: الوجد بشارات الحق بالترقي إلى مقامات مشاهداته " (1).
وأما الغزالي فقد أطال فيه الكلام فيه بعد ذكر الأقاويل الكثيرة عن المتصوفة والحكماء:
" أنه عبارة عن حالة يثمرها السماع وذلك جزء من ستة وأربعين جزء من النبوة "(2).
وأما القشيري فنقل عن محمد بن الحسيني أنه قال:
" سمعت عبد الواحد بن بكر يقول:
" سمعت عبد الله بن عبد المجيد الصوفي يقول: سئل رويم عن وجود الصوفية (أي عما يجدونه) عند السماع ، فقال:
يشهدون المعاني التي تعزب عن غيرهم فتشير إليهم: إليّ إليّ ، فيتنعمون بذلك من الفرح ثم يقطع الحجاب فيعود ذلك الفرح بكاء ، فمنهم من يخرق ثيابه ، ومنهم من يصيح ، ومنهم من يبكي ، كلّ إنسان على قدره " (3).
وشرح عبد الله الأنصاري الهروي الوجد بقوله:
" الوجد لهب يتأجج من شهود عارض مقلق - ثم ذكر له درجات - فقال:
الدرجة الأولى وجد عارض.
والدرجة الثانية: يستفيق له الروح بلمع نور أزليّ أو سماع نداء أوّلي أو جذب حقيقي.
والدرجة الثالثة وجد يخطف العبد من يد الكونين ، ويمحص معناه من درن الحظ ، ويسلبه من رقّ الماء والطين (4).
وأما النداء الأولي الذي أشار إليه الهروي في هذا النص قد ذكره كثير من المتصوفة
(1) التعرف لمذهب أهل التصوف للكلاباذي ص 134.
(2)
إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 268.
(3)
الرسالة القشيرية ج 2 ص 647.
(4)
منازل السائرين للخواجة عبد الله الأنصاري الهروي ص 162.
في كتبهم ، فيروي القشيري والسيد محمد ماضي أبو العزائم وغيرهما عن الجنيد أنه سئل:
" ما بال الإنسان يكون هادئاً ، فإذا سمع السماع اضطرب؟
فقال: إن الله تعالى لما خاطب الذّر في الميثاق الأول بقوله: ألست بربكم قالوا بلى ، استفرغت عذوبة سماع الكلام والأرواح ، فلما سمعوا السماع حرّكهم ذكر ذلك " (1).
فهكذا حاول الصوفية ربط سماعهم للأناشيد والأبيات الغزلية مع سماع نداء أولى.
وهناك أمثلة لتواجد المتصوفة وكيفيته ، نذكر نبذة منها ، فيذكر الطوسي:
" حكى عن الشبلي أنه تواجد يوماً في مجلسه فقال: آه ليس يدري ما بقلبي سواه ، فقيل له: آه من أي شيء؟ فقال:
من كل شيء وذكر عنه أيضاً تواجد يوماً فضرب يده على الحائط حتى علمت عليه يده قال: فعمدوا إلى بعض الأطباء ، فلما أتاه قال للطبيب: ويلك! بأي شاهد جئني؟ قال: ألطف منه فلما أتاه قال له: ويلك ، بأي شاهد جئتني؟ قال: بشاهده قال: فأعطاه يده فبسطها وهو ساكت ، فلما أخرج الدواء يجعله عليها ، صاح وتواجد وترك إصبعه على موضع الداء وهو يقول:
أنْبَتَتْ
…
صَبَابتْكُم
…
فَرْحَةٍ عَلَى كَبِدِي
بتُّ مِن تَفجُعِكُمْ
…
كالأسيِر في الصفدِ " (2).
ونقلوا عن أبي سعيد الخراز أنه قال: رأيت علي بن الموقف في السماع يقول:
أقيموني ، فأقاموه ، فقام وتواجد ، ثم قال: أنا الشيخ الزفان " (3).
(1) معارج المقربين لمحمد ماضي أبو العزائم ص 323 ط دار الثقافة العربية للطباعة مصر ، أيضاً الرسالة القشيرية واللفظ له ص 644.
(2)
كتاب اللمع للطوسي ص 379.
(3)
الرسالة القشيرية ج 2 ص 645.
وحكى السهروردي عن الشبلي أنه سمع قائلاً يقول:
أسائل عن سلمي فهل من مخبر
يكون له علم بها أين تنزل
فزعق الشبلي وقال: لا والله ، ما في الدارين عنه مخبر " (1).
وذكروا عن عبد الله بن علي أنه قال:
" اجتمعت ليلة مع الشبلي رحمه الله ، فقال القوال: شيئاً ، فصاح الشبلي وتواجد قاعداً ، فقيل له: يا أبا بكر ، مالك من بين الجماعة قاعداً؟
فقام وتواجد وقال:
لي سكرتان وللندمان واحدة
شيء خصصت به من بينهم وحدي (2).
ويذكر الطوسي والغزالي:
" وكان الشبلي رحمة الله يتواجد كثيراً إذا سمع هذا البيت ":
ودادكم هجر ، وحبكم قلي
ووصلكم صرم ، وسلمكم حرب.
وقام الدقي ليلة إلى شطر الليل وهو يتخبط ويسقط على رأسه ويقوم ، والخلق يبكون ، والقوالون يقولون هذا البيت:
بالله فاردد فؤاد مكتئب
ليس له من حبيبه خلف (3)
ونقلوا عن أبي علي الرودباري أنه قال:
" جزت بقصر يوماً ، فرأيت شاباً حسن الوجه مطروحاً وحوله ناس مجتمعون ، فسألت عنه فقالوا: أنه جاز بهذا القصر فسمع جارية تغني:
(1) عوراف المعارف للسهروردي ص 184.
(2)
الرسالة القشيرية ج 2 ص 659.
(3)
كتاب اللمع للطوسي ص 364 ، أيضاً إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 265 ، ومثله في الرسالة القشيرية ج 2 ص 654.
كبرت همة عبد
…
طمعت في أن تراكاً
أو ما حسب لعين
…
أن ترى من قد رآك
فشهق شهقة ومات " (1).
ويقول اليافعي:
" وقد مات بالسماع من الفقراء خلق كثير من ذلك موت بعضهم بسماع هذا البيت:
تقول نساء الحي تطمع أن ترى
محاسن ليلى مت بداء المطامع
وموت آخر بسماع هذا البيت:
ما كنت أعرف ما مقدار وصلكم
حتى هجرت وبعض الهجر تأديب " (2).
وذكر ابن الملقن وصاحب " الكواكب الدرية " والغزالي عن أبي الحسين النوري أنه:
" اجتمع الجُنيد والنوري ورويم وابن وهب وغيرهم في سماع ، فمضى بعض الليل وأكثره ، فلم يتحرك أحد منهم ، ولا أثر فيه القول ، فقال النوري للجنيد: يا ابا القاسم! هذا السماع يمر مراً ، ولا أرى وجداً يظهر! ، فقال الجنيد: يا أبا الحسين! وترى الجبال وتحسبها جامدة وهي تمرّ مرّ السحاب) فأنت يا أبا الحسين ، ما أثر عليك؟! ". فقال النوري: " ما بلغت مقامي في السماع ". فقال الجنيد: " وما مقامك فيه؟ " فقال: " الرمز بالإشارة دون الإفصاح ، والكتابة دون الإيضاح ". ثم وثب وصفق بيديه ، فقام جميع من حضر بقيامه ساعة.
15 -
وكان سبب وفاته أنه سمع هذا البيت:
لا زلت أنزل من ودادك منزلاً
…
تتحير الألباب دون نزوله
فتواجد وهام في الصحراء ، فوقع في أجمة قصب قد قطع ، وبقيت أصوله مثل السيوف ، وكان يمشي عليها ويعيد البيت إلى الغداة ، والدم يسيل من رجليه ، ثم وقع
(1) نشر المحاسن الغالية لليافعي ج 2ص 204 بهامش جامع كرامات الأولياء للنبهاني ط
…
دار صادر بيروت ، أيضاً الرسالة القشيرية ج 2 ص 659.
(2)
نشر المحاسن الغالية لليافعي ص 204.
مثل السكران ، فورمت قدماه ومات " (1).
وذكر الهجويري وقائع عديدة في وجد المتصوفة وتواجدهم ، وقوة سلطانه وهيجانه وغليانه ، فقال:
" ويقول واحد من كبار المشايخ: سمعت مع درويش في بغداد صوت مغن كان يغني.
(شعر عربي)
مني أن تكن حقاً تكن أحسن المنى
…
وإلا فقد عشنا بها زمناً رغداً
فصرخ ذلك الدرويش وفارق الدنيا.
ومثل هذا ، يقول أبو علي الرودباري رضي الله عنه: رأيت درويشاً كان قد شغل بغناء مغن ، فأصغيت أنا أيضاً لأرى ما يقول ، فكان ذلك المغني يقول بصوت حزين:
" أمد كفى بالخضوع إلى الذي جاد بالصنيع "
فصرخ الدرويش ووقع ، فلما اقتربت منه وجدته ميتاً.
ويقول قائل كنت أسير مع إبراهيم الخواص رحمه الله في طريق ، فظهر طرب في قلبي ، فغنيت هذا الشعر:
(شعر عربي)
صح عند الناس إني عاشق
…
غير أن لم يعلموا عشقي لمن
ليس في الإنسان شيء حسن
…
إلا وأحسن منه صوت حسن
فقال لي: أعد هذا الشعر ، فأعدته ، فضرب الأرض عدة ضربات من الوجد ، فلما نظرت كانت أقدامه تغوص في الحجر كما لو كانت تغوص في شمع ، ثم وقع مغشياً عليه. فلما أفاق قال لي: كنت في روضة الجنة وأنت لم تر.
ومن هذا الجنس حكايات أكثر من أن يحتملها هذا الكتاب.
وقد رأيت معاينة درويشاً كان يسير في جبال أذربيجان ، ويقول هذه الأبيات
(1) طبقات الأولياء لابن الملقن ص 68 ، 69 ، أيضا الكواكب الدرية ج 1 ص 96 وأيضا إحياء ج 2 ص 266.
متعجلا:
(شعر عربي)
والله ما طلعت شمس ولا غربت
…
إلا وأنت منى قلبي ووسواسي
ولا تنفست محزوناً ولا فرحاً
…
إلا وذكرك مقرون بأنفاس
ولا جلست إلى قوم أحدثهم
…
إلا وأنت حديثي بين جلاسي
ولا هممت بشرب الماء من عطش
…
إلا رأيت خيالا منك في الكاس
وتغيّر من السماع وأسند ظهره إلى حجر وأسلم الروح " (1).
وقد ذكر الطوسي أيضاً فيه بعض وقائع ، فيقول:
" إن سهل بن عبد الله كان يقوى عليه الوجد حتى يبقى خمسة وعشرين يوماً أو أربعة وعشرين يوماً لا يأكل فيه طعاماً ، كان يعرق عند البرد الشديد وعليه قميص واحد ، وكانوا إذا سألوه عن شيء من العلم يقول: لا تسألوني فإنكم لا تنتفعون في هذا الوقت بكلامي "(2).
كما نقلوا عن السري السقطي أنه ذكر يوماً عنده المواجيد الحادة في الأذكار القوية وما جانس هذا مما يقوي على العبد ، فقال سري رحمه الله: وقد سألته فيه فقال:
نعم يضرب وجهه بالسيف وهو لا يحسه (3).
وعلى ذلك قالوا عن الوجد عند السماع حكاية عن رويم أنه قال في جواب سائل سأله عن وجد المشائخ عند السماع ، فقال:
" مثل قطيع الغنم إذا وقع في وسطه الذئاب "(4).
وذكر بعض كيفيات الوجد والتواجد السهروردي في عوارفه ، فقال:
" وحكى بعض المشائخ قال: رأينا جماعة ممن يمشي على الماء والهواء يسمعون
(1) كشف المحجوب للهجويري ص 658 ، 659.
(2)
كتاب اللمع للطوسي ص 381.
(3)
أيضاً.
(4)
الرسالة القشيرية ج 2 ص 654 ̧كتاب اللمع للطوسي ص 361.
السماع ويجدون به وتولهون عنده. وقال بعضهم كنّا على الساحل فسمع بعض إخواننا فجعل يتقلب على الماء يمر ويجيء ، حتى رجع إلى مكانه. ونقل أن بعضهم كان يتقلب على النار عند السماع ، ولا يحس بها. ونقل أن بعض الصوفية ظهر منه وجد عند السماع فأخذ شمعة فجعلها في عينه ، قال الناقل: قربت من عينه ، أنظر ، فرأيت ناراً أو نوراً يخرج من عينه يردّ نار الشمعة وحكى عن بعضهم أنه كان إذا وجد عند السماع ارتفع من الأرض في الهواء أذرعاً يمر ويجيء فيه " (1).
وذكر مثل هذه الشعبذات اليافعي أيضاً حيث يقول:
" ومن حكايات أرباب الأحوال في السماع وأصحاب المواجيد فيه (ما حكى) عن بعضهم أنه سمع على ساحل البحر فجعل يتقلب على الماء ويمر ويجيء حتى رجع إلى مكانه (وحكى) عن بعضهم أنه كان إذا وجد عند السماع أرتفع من الأرض في الهواء أذرعاً ويجيء فيه (وقلت) ومثل هذا رويناه عن الشيخ الكبير العارف بالله تعالى الشهير أبي عبد الله القرشي رضي الله عنه (قلت) وقد تقدمت حكاية عن بعض المشائخ أنه قطعت رجله حال السماع من أجل أكلة فيها ولم يشعر ومن المشهور (ما حكي) عن بعضهم إنه كان مقعداً وكان إذا ظهر به السماع يقوم (وحكى) عن بعضهم أنه كان يتقلب على النار عند السماع ولا يحس بها (قلت) وقد دخل كثير منهم في النار في حال السماع وقد تقدم في الفصل الثالث أن امتحن بعض الملوك بعض المشائخ بذلك بعد ما أمر بإيقاد نار عظيمة فأمر الشيخ أصحابها السماع فلما عمل فيهم الوجود دخل بهم فيها ثم اختطف إبناً للملك ودار به فيها ثم غابا ففزع الملك على ولده فزعاً شديداً ثم ظهرا وإذا في إحدى يدي ابن الملك تفاحة وفي الأخرى رمانة فقال أبوه أين كنت قال كنت في بستان فأخذت منه هاتين الحبتين فأحضر الملك كأساً مملوءة سما تقتل القطرة منه في الحال وقال للشيخ اشربه إن كنت صادقاً وكان مذهبكم حقاً فشربه الشيخ في حال السماع فتمزقت ثيابه فألقى عليه ثياب أخرى فتمزقت أيضاً ثم أخرى كذلك مراراً ثم ثبتت عليه الثياب بعد ذلك صحيحة ولم يمسه سوء "(2).
(1) عوارف المعارف للسهروردي ص 184.
(2)
نشر المحاسن الغالية لعبد الله بن أسعد اليافعي ج 2 ص 202 ، 203 بهامش جامع كرامات الأولياء.
وأما النبهاني فيكتب:
" كان عبد الله بن محمد المعروف بالعفيف من كبار الصالحين أهل الكرامات والأحوال ، وكان إذا حضر السماع يأخذه وجد غالب وجد حتى أنه ألقى نفسه مرة من سطح عال عند غلبة الوجد عليه ولم يضره شيء.
ومنها أنه أخرج مرة عين بعض القوال في حال غلبة الوجد عليه ، ثم ردها بعد أن سالت على خدّه فرجعت كأن لم يكن بها شيء " (1).
هذا وقد كذبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم إثباتاً للوجد فقالوا:
عن أنس كنا عند النبي إذا نزل عليه جبريل فقال: يا رسول الله وفقراء أمتك يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام ، وهو نصف يوم ، ففرح ، فقال:
أفيكم من ينشدنا؟
فقال بدري: نعم يا رسول الله ، فقال:
هات ، فأنشد البدري يقول:
قد لسعت حبّ الهوى كبدي
…
فلا طبيب لها ولا راق
إلا الحبيب الذي قد شغفت به
…
فعنده رقيتي وترياقي
فتواجد عليه السلام ، وتواجد أصحابه معه ، حتى سقط رداؤه عن منكبه ، فلما فرغوا أوى كل أحد مكانه فقال معاوية: ما أحسن لعبكم يا رسول الله؟ (عياذاً بالله).
فقال: مه مه يا معاوية ليس بكريم من لم يهتزّ عند ذكر الحبيب ، ثم اقتسم رداءه من حضرهم بأربعمائة قطعة " (2).
(1) جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 2 ص 119.
(2)
الفتوحات الإلهية لابن عجيبة ص 185 ، أيضاً عوارف المعارف للسهروردي ص 204 ، 205 ، ولكن السهروردي قال بعد ذكر هذه الرواية: " وقد تكلم في صحته أصحاب الحديث ، وما وجدنا شيئا نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاكل وجد أهل الزمان وسماعهم واجتماعهم إلا هذا ، وما أحسنه من حجة للصوفية وأهل الزمان في سماعهم وتمزيقهم الخرق وقسمتها إن لو صح والله أعلم.
ويخالج سري أنه غير صحيح ولم أجد فيه ذوق اجتماع النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه وما كانوا يعتمدونه على ما بُلغنا في هذا الحديث ، ويأبى القلب قبوله " (عوارف المعارف ص 205).
فهو كما قال: لأن الحديث موضوع باطل لا أصل له إطلاقاً باتفاق أهل العلم كما ذكر السيوطي أيضاً (أنظر هامش الفتوحات الإلهية لابن عجيبة ص 185).
والغزالي كذلك استدلّ على السماع والوجد من رؤيا ممشاد الدينوري أنه قال:
" رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت: يا رسول الله هل تنكر من هذا السماع شيئاً فقال: ما أنكر منه شيئاً ولكن قل لهم يفتتحون قبله بالقرآن ويختمون بعده بالقرآن. وحكى عن طاهر بن بلال الهمداني الوراق - وكان من أهل العلم - أنه قال: كنت معتكفا في جامع جدّة على البحر فرأيت يوماً طائفة يقولون في جانب منه قولاً ويستمعون ، فأنكرت ذلك بقلبي وقلت: في بيت من بيوت الله يقولون الشعر؟ قال: فرأيت النبي تلك الليلة وهو جالس في تلك الناحية وإلى جنبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه وإذا أبو بكر يقول شيئاً من القول والنبي يستمع إليه ويضع يده على صدره كالواجد بذلك ، فقلت في نفسي: ما أن ينبغي لي أن أنكر على أولئك الذين كانوا يستمعون وهذا رسول الله يستمع وأبو بكر يقول؟ فالتفت إلى رسول الله وقال: هذا حق بحق - أو قال حق من حق - أنا أشك فيه "(1).
ويقولون: إن هذه الأبيات الغزلية والأشعار العشقية أكثر تأثيراً ووقعاً في النفوس ، وأثارة للوجد والتواجد من القرآن الكريم كما ذكروا عن يوسف بن الحسين الرازي الذي قال فيه الأصبهاني: " المتخلّي من رؤية الناس ، المتحلي بالإخلاص خيفة رب الناس ، تارك للتزين والتصنع ، مفارق للتلّون والتمتع ، أبو يعقوب يوسف بن الحسين الرازي.
كان وحيداً فريداً ، وعلى المتنطعين شديداً ، صحب ذا النون المصري وأبا تراب النخشبي ، وأبا سعيد الخراز " (2).
يذكرون عنه نقلاً عن أبي الحسين الدراج أنه قال:
" قصدت زيادة يوسف بن الحسين الرازي ، من بغداد ، دخلت الري سألت الناس عن منزله ، فكل من أسأله عنه يقول: " أيش تعمل بذلك الزنديق؟! " ، فضيقوا صدري ،
(1) إحياء علوم الدين للغزالي ص 247.
(2)
حلية الأولياء لأبي نعيم الأصبهاني ج 10 ص 238 ، 239.
حتى عزمت على الانصراف. فبتُّ تلك الليلة في مسجد ، ثم قلت في نفسي: جئت هذا البلد ، فلا أقل من زيارته!. فلم أزل أسأل عنه ، حتى دفعت إلى مسجد ، فوجدته جالساً في المحراب ، وبين يديه ، مصحف يقرأ فيه ، إذا هو شيخ بهي ، حسن الوجه واللحية. فدنوت منه ، وسلمت عليه ، فرد علي السلام ، وقال: من أين أنت؟ قلت من بغداد ، قال: لأي شيء جئت؟ ، قلت زائر لك! ، قال: أرأيت لو أن إنساناً - في بعض البلدان التي جزت بها قال لك: أقم عندي ، وسأشتري لك داراً أو جارية! ، أكان ذلك يمنعك من زيارتي! ، قلت: يا سيدي! ، ما امتحنني الله بشيء من ذلك! ، ولو كان ، فلا أدري كيف كنت أكون ، فقال: أتحسن تقول شيئاً؟ ، قلت: نعم!. وأنشدت:
رأيتك تبني دائباً في قطيعتي
…
ولو كنت ذا رحم لهدمت ما تبني
كأني بكم ، والليث أفضل قولكم
…
ألا ليتنا كنا إذ الليثُ لا تغني
فأطبق المصحف ، " ولم يزل يبكي ، حتى بل لحيته وثوبه ، ورحمته من كثرة بكائه.
ثم ألتفت إليً ، وقال: يا بني أتلوم أهل الريً على قولهم: يوسف بن الحسين الزنديق ، وهو ذا من وقت صلاة الصبح أتلو القرآن ، لم تقطر من عيني قطرة ، وقد قامت عليً القيامة بهذا البيت " (1).
ومثل هذه الحكاية روى ابن الجوزي في كتابه نقلاً عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال:
" أخرجت إلى مرو في حياة الأستاذ أبي سهل الصعلوكي وكان له قبل خروجي أيام الجمع بالغدوات مجلس درس القرآن والختمات ، فوجدته عند خروجي قد رفع ذلك المجلس وعقد لابن الفرغاني في ذلك الوقت مجلس القوال يعني المغني ، فتداخلني من ذلك شيء فكنت أقول:
قد استبدل مجلس الختمات بمجلس القوّال ، فقال لي يوماً: أي شيء تقول الناس؟
(1) طبقات الأولياء لابن الملقن ص 380 ، 381 ، 382 ، أيضاً حلية الأولياء ج 10 ص 240 ، أيضاً اللمع للطوسي ص 364 ، أيضا إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 275 ، 276 ، أيضا الأنوار القدسية للشعراني ج 2 ص 184 ، أيضاً الطبقات الكبرى له أيضاً ج1 ص 89 ، 90.
فقلت: يقولون: رفع مجلس القرآن ووضع مجلس القوال ، فقال: من قال لأستاذه: لِمَ؟ لايفلح؟ (1).
وبذلك صرح القوم أن " السباع أدعى للوجد من التلاوة ، وأظهر تأثيراً ، والحجة على ذلك أن جلال القرآن لا تحتمله القوة البشرية المحدثة ، ولا تحمله صفاتها المخلوقة ، ولو كشف للقلوب ذرة من معناه لدهشت وتصدعت وتحيرت ، والألحان مناسبة للطباع بنسبة الحظوظ ، وإذا علقت الألحان بالشعر كانت خفيفة على الطباع ، لمشاكلة المخلوق بالمخلوق ، ما دامت البشرية باقية "(2).
ويصرح الصفوري:
" فإن قيل: يتواجد المتواجد عند سماع الشعر دون سماع القرآن حتى انفتح لبعض المتفقهة باب الإنكار بهذا؟
فالجواب: أن القرآن كلام ثقيل لا يليق مع وجوده إلى السكون والإنصات ، ولأنه يتكرر في الأسماع ، ولأن الشعر كلام البشر فبينهما مناسبة ، وأما كلام الله تعالى فلا مناسبة بينه وبين البشر " (3).
وقال الكمشخانوي:
" سئل إبراهيم الخواص: ما بال الإنسان يتحرك عند سماع الألحان ولا يجد ذلك عند سماع القرآن؟
فقال: لأن سماع القرآن صدقة لا يمكن أحداً أن يتحرك فيه لشدة غلبته عليه ، وسماع الألحان ترويح فيتحرّك فيه " (4).
وقد صرح الغزالي ذلك بكل وضوح وجلاء ، وبكلّ جرأة ويسأله بقوله:
" فإن كان سماع القرآن مفيداً للوجد فما بالهم يجتمعون على سماع الغناء من القوالين
(1) أنظر تلبس إبليس لابن الجوزي ص 240 ط دار القلم بيروت.
(2)
روضة التعريف للسان الدين بن الخطيب ص 271 ، 272 ط دار الفكر العربي.
(3)
نزهة المجالس ومنتخب النفائس لعبد الرحمن الصفوري ج 1 ص 61 ط مطبعة منبر بغداد.
(4)
جامع الأصول في الأولياء للكمشخانوي ص 245.
دون القارئين؟ فكان ينبغي أن يكون اجتماعهم وتواجدهم في حلق القراء لا حلق المغنين؟ وكان ينبغي أن يطلب عند كل اجتماع في كل دعوة قارئ لا قوال؟ فإن كلام الله تعالى أفضل من الغناء لا محالة ، فأعلم أن الغناء أشد تهييجاً للوجد من القرآن من سبعة أوجه:
الوجه الأول: إن جميع آيات القرآن لا تناسب حال المستمع ولا تصلح لفهمه وتنزيله على ما هو ملابس له
…
الوجه الثاني: إن القرآن محفوظ للأكثرين ومتكرر على الأسماع والقلوب ، وكلّما سمع أولاً عظم أثره في القلوب ، وفي الكرة الثانية يضعف أثره وفي الثالثة يكاد يسقط أثره.
الوجه الثالث: أن لوزن الكلام بذوق الشعر تأثيراً في النفس فليس الصوت الموزون الطيب كالصوت الطيب الذي ليس بموزون ، وإنما يوجد الوزن في الشعر دون الآيات
…
الوجه الرابع: إن الشعر الموزون يختلف تأثيره في النفس بالألحان التي تسمى الطرق والاستانات ، وإنما اختلاف تلك الطرق بمد المقصور وقصر الممدود والوقف في أثناء الكلمات والقطع والوصل في بعضها. وهذا التصرف جائز في الشعر ولا يجوز في القرآن إلا التلاوة كما أنزل ، ومدّ الوقف والوصل والقطع به على خلاف ما تقتضيه التلاوة حرام ومكروه ، وإذا رتل القرآن كما أنزل سقط عنه الأثر الذي سببه وزن الألحان وهو سبب مستقل بالتأثير وإن لم يكن مفهوماً ، كما في الأوتار والمزمار والشاهين وسائر الأصوات التي تفهم.
الوجه الخامس: أن الألحان الموزونة تعضد وتؤكد بإيقاعات وأصوات أخر موزونة خارج الحلق كالضرب بالقضيب والدف وغيره ، لأن الوجد الضعيف لا يستثار إلا بسبب قوي ، وإنما يقوى بمجموع هذه الأسباب ، ولكل واحد منها حظ في التأثير
…
الوجه السادس: إن المغني قد يغني ببيت لا يوافق حال السامع فيكرهه وينهاه عنه ويستدعي غيره فليس كل موافقاً لكل حال - والقرآن ليس كذلك -.
وههنا وجه سابع ذكره أبو نصر السراج الطوسي في الاعتذار عن ذلك - وسنذكر
ذلك عن الطوسي نفسه أيضاً - أن القرآن كلام الله وكلامه صفته ، وهو حق لا يطيقه البشر إذا بدا ، لأنه غير مخلوق لا تطيقه الصفات المخلوقة ولو كشف للقول ذرة من معناه وهيبته لتصدّعت ودهشت وتحيّرت
…
نفس الرواية التي حكيناها من قبل عن يوسف الرازي - ثم قال:
فإذن القلوب وإن كانت محترقة في حب الله تعالى فإن البيت الغريب يهيج منها ما لا تهيج تلاوة القرآن " (1).
وأما ما قاله السراج فهو: " إن القرآن كلام الله وكلامه صفته لا تطيقه البشرية
…
والنغمات الطيبة موافقة للطبائع ، ونسبته نسبة الحظوظ ولا نسبة الحقوق ، والقرآن كلام الله ، ونسبته نسبة الحقوق ، لا نسبة الحظوظ ، وهذه الأبيات والقصائد أيضاً نسبتها نسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق ، وهذا السماع وإن كان أهله متفاوتين في درجاتهم وتخصيصهم فإن موافقة للطبع ، وحظاً للنفس ، وتنعماً للروح ، لتشاكله بتلك اللطيفة التي جُعلت في الأصوات الحسنة ، والنغمات الطيبة وكذلك الأشعار فيها معادن دقيقة ، ورقة وفصاحة ولطافة وإشارات ، فإذا عُلقت هذه الأصوات والنغمات على هذه القصائد والأبيات يشاكل بعضها بعضاً بموافقتها ومجانستها ، ويكون أقرب إلى الحظوظ ، وأخف محملاً على السرائر والقلوب ، وأقل خطراً لتشاكل المخلوق بالمخلوق.
فمن أختار استماع القصائد على استماع القرآن اختار لحرمة القرآن ، وتعظيم ما فيه من الخطر: لأنه حقٌ ، والنفوس تحسن عندها ، وتموت عن حركاتها ، وتغني عن حظوظها وتنعمها إذا أشرقت عيبها أنوار الحقوق بتشعشعها وأبدت بها عن معانيها ، فقالوا: ما دامت البشرية باقية ونحن بصقاتنا وحظوظنا وأرواحنا متنعمة بالنغمات الشجية والأصوات الطبية فانبساطها بمشاهدة بقاء هذه الحظوظ إلى القصائد أولى من انبساطها بذلك إلى كلام الله عز وجل الذي هو صفته وكلامه الذي منه بدأ وإليه
(1) إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 273 إلى 276 ملخصاً بألفاظه.
يعود " (1).
والبدعة تفضي إلى بدعة ، بل إلى بدع ومستحدثات ، وليس لها نهاية ، كما أن السيئة تفضي وتؤدي إلى سيئة وسيئات أخرى.
فمن ثمار الوجد ولواحقه: الرقص ، فيقول السهروردي:
" ربما صار الرقص عبادة بحسن النية إذا نوى به استجمام النفس "(2).
ويقول عماد الدين الأموي:
" لا بأس بالرقص في السماع إذا لم يكن فيه تكسّر "(3).
ويكتب الفيتوري:
" يجوز الرقص في السماع إذا كان من تواجد وحالة "(4).
ويصرح ابن عجيبة الحسني:
" والأصل في الرقص هو الإباحة. . . وقد صح القيام والرقص في مجالس الذكر والسماع عن جماعة من أكابر الأئمة.
وقد تواتر النقل عن الصوفية قديماً وحديثاً ، شرقاً وغرباً ، أنهم كانوا يجتمعون لذكر الله ويقولون ويرقصون ، ولم يبلغنا عن أحد من العلماء المعتبرين أنه أنكر عليهم.
وقد رأيت بفاس بزاوية الصقليين جماعة يذكرون ويرقصون من صلاة العصر يوم الجمعة إلى المغرب ، مع توفر العلماء ، فلم ينكر أحد عليهم " (5).
وقد أحل الرقص أبو حامد الغزالي أيضاً في إحيائه (6).
وأما أبو الحسن الخرقاني فيعرّف ويمدح الرقص بقوله:
" الرقص هو مشاهدة ما تحت الثرى بوقوع القدم على الأرض ، ومشاهدة العرش
(1) كتاب اللمع للطوسي ص 356 ، 357.
(2)
عوراف المعارف للسهروردي ص 180.
(3)
حياة القلوب لعماد الدين الأموي ص 179 بهامش قوت القلوب.
(4)
الوصية الكبرى للفيتوري ص 19.
(5)
الفتوحات الإلهية لابن عجيبة الحسني ص 192 ، 193.
(6)
أنظر إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 278.
بتحريك الأيدي في الهواء " (1).
وأخيراً ننقل ما قاله ابن عجيبة ردّاً على الذين يعترضون على السماع والرقص ، فيقول:
أعلم أن اعتراض أهل الظاهرة على الصوفية لا ينقطع أبداً ، هذه سنة ماضية ، وخصوصاً في السماع والرقص ، وهم معذورون لأنهم لا يشاهدون إلا ذواتاً ترقص وتشطح ، ولا يدرون ما في باطنها من المواجيد والأفراح ، فيحملون ذلك على حفة العقل والطيش ، فيقعون فيهم إلا من عصمة الله بالتسليم ولذلك كان التصديق بطريقة القوم ولاية ، والاعتراض جناية. . . وقد رأيت للطرطوشي اعتراضاً كبيراً على الصوفية في الرقص حتى قال فيه: إنه ضلالة وجهالة ، وذلك لما قلناه ، قال تعالى:{بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} .
وكان الشيخ ابن عباد رضي الله عنه يقول:
لا تجعلوا لأهل الظاهر حجة على أهل الباطن أي لأنهم لم يدركوا ما أدركه أهل الباطن ، فلا تقوم الحجة عليهم بمجرد سوء الظن ، ولله دّر أبي مدين حيث يقول:
إذا لم تذق ما ذاقت الناس في الهوى
فلله يا خالي الحشا لا تعنفنا
اهتزت الأرواح شوقاً إلى اللّقا
نعم ترقصت الأشباح يا جاهل المعنى " (2).
وأما حكاياتهم في الرقص فيذكر نجم الدين الكبري عن بعض المتصوفين أنهم كانوا يوماً في سماع لبعض الأخوان وقد طاب لهم الوقت وقاموا للرقص " (3).
وذكر النفزي الرندي عن بعضهم أنه قال:
" كنت مسافراً إلى مكة ، فبينما أنا أمشي إذ رأيت شيخاً بيده مصحف وهو ينظر فيه ويرقص ، فتقدمت إليه فقلت: يا شيخ ، ما هذا الرقص؟.
(1) المنتخب من كتاب نور العلوم من كلام الشيخ أبو الحسن الخرقاني (بالفارسية) للأستاذ مجتبى مينوي ص 112 ط بخانه طهوري إيران.
(2)
الفتوحات الإلهية ص 201.
(3)
فوائح الجمال وفواتح الجلال لنجم الدين الكبري المتوفى 618 هـ ص 45.
قال: دعني عنك ، قلت في نفسي: عبد من أنا ، وكلام من أتلو ، وبيت من أنا قاصد ، فاستفزّني الوجد فرقصت (1).
ونقل الجعلي الفضلي عن سلمان العوضي أن أصحابه كانوا يقرشون الجمر والواحد يملأ عمامته حجراً ويضعها على رأسه ويرقص (2).
ويضيف بعض الصوفية إلى الرقص في السماع تمزيق الثياب وخرقها أيضاً كما ينقل الوزير لسان الدين بن الخطيب عن بعض الشيوخ:
" مرّ على خانقاه بالمشرق ، فخرج إليه فقراء استدعوه إلى شيخها ، فوجد جمعاً ، فقال الشيخ: يا مغربي ، حسن الظن بسمتك. وحكمناك في هذه الأحدوثة التي اجتمع لها الفقراء. وهي: أن هذا الفقير رقص وغلبه الوجد ، وخطر له تمزيق ثيابه ، فعدل عن عن جديد قريب عن ظاهره ، إلى خلق كان باشر جسده فمزقه ، فطالبه لمكان هذه البقية ، قال: فقلت: يا مولانا. هذا الفقير لما طلب قلبه ولم يجده ليمزقه مزق أقرب الأشياء إليه وأشبهها به في الأخلاق والرقة ، وفي مثل ذلك يقول الشاعر:
يفل غداّ جيش النوى عسكر اللقا
…
فرأيك في سمح الدموع موفقاً
وخد جرى عن كون جسمي سالماً
…
وذرعي ، ومن حقيهما أن يشققا
يدي لم تطق تمزيق جسمي لضعفها
…
ولم يك قلبي حاضراً فيمزقا
فصاح الشيخ ، وعاد الوجد ، وقاموا إلى رقصهم (3).
وحكى الشعراني عن أبي حفص الحداد النيسابوري أنه قيل له:
" إن فلاناً من أصحابك يدور حول السماع فإذا سمع بكى وصاح ومزّق ثيابه فقال:
أيش يعمل الغريق؟
يتعلق بكل شيء يظن فيه نجاته (4).
(1) غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج 2 ص 221.
(2)
كتاب الطبقات للجعلي الفضلي ص 94 ط المكتبة الثقافية بيروت.
(3)
روضة التعريف للوزير لسان الدين بن الخطيب
…
ص 371 ، 372.
(4)
طبقات الشعراني ج 1 ص 81.
وذكر الشعراني أيضاً جمعاً من الصوفية مزقوا ثيابهم وخرجوا عرايا إلى الصحراء ، فينقل عن الجيلي أنه رفع له شخص أدعى أنه يرى الله عز وجل بعيني رأسه ، فقال: أحق ما يقولون عنك؟
فقال: نعم ، فانتهره ونهاه عن هذا القول وأخذ عليه أن لا يعود إليه ، فقيل للشيخ: أمحقّ هذا أم مبطل؟
فقال: هذا محق ملبس عليه ، وذلك شهد ببصيرته نور الجمال ثم خرق من بصيرته إلى بصره لمعة فرأى بصره ببصيرته ، وبصيرته يتصل شعاعها بنور شهوده فيظن أن بصره رأى ما شهده ببصيرته ، وإنما رأى بصره ببصيرته فقط وهو لا يدري.
وكان جمع من المشايخ وأكابر العلماء حاضرين هذه الوقعة فأطربهم سماع هذا الكلام ودهشوا من حسن إفصاحه عن حال الرجل ، ومزّق جماعة ثيابهم وخرجوا عرايا إلى الصحراء (1).
وعلى ذلك كتب الهجويري:
" أعلم أن تخريق الثياب بين هذه الطائفة أمر معتاد ، وقد فعلوا هذا في المجامع الكبرى التي كان المشايخ الكبار رضي الله عنهم حاضرين فيها "(2).
وقد أباح الغزالي أيضاً تمزيق الثياب وتقطيعها حيث يقول:
" فإن قلت: فما تقول في تمزيق الصوفية الثياب الجديدة بعد سكون الوجد والفراغ من السماع فإنهم يمزقونها قطعاً صغاراً ويفرقونها على القوم ويسمونها الخرقة؟ فأعلم أن ذلك مباح "(3).
وأخيراً ننقل ما قاله الإمام ابن الجوزي في بيان الخرقة الصوفية فيقول:
" فإذا اشتد طربهم رموا ثيابهم على المغني فمنهم من يرمي بها صحاحاً ومنهم من يخرقها ثم يرمي بها وقد احتج لهم بعض الجهال فقال هؤلاء فقال هؤلاء في غيبة فلا يلامون فإن
(1) طبقات الشعراني ج 1 ص 126 ، 127.
(2)
كشف المحجوب للهجويري ص 665.
(3)
إحياء علوم الدين للغزالي ج 2 ص 279.
موسى عليه السلام لما غلب عليه الغم بعبادة قومه العجل رمى الألواح فكسرها ولم يدر ما صنع: والجواب أن نقول من يصحح عن موسى بأن رماها رمي كاسر والذي ذكر في القرآن ألقاها فحسب أين لنا أنها تكسرت ، ثم ولو قيل تكسرت فمن أين لنا أنه قصد كسرها ثم لو صححنا ذلك عنه قلنا: كان في غيبة حتى لو كان بين يديه حينئذ بحر من نار لخاضه ومن يصحح لهؤلاء غيبتهم وهم يعرفون المغني من غيره ويحذرون من بئر إن كانت عندهم ، ثم كيف يقاس أحوال الأنبياء على أحوال هؤلاء السفهاء ولقد رأيت شاباً من الصوفية يمشي في الأسواق ويصيح والغلمان يمشون خلفه وهو يبربر ويخرج إلى الجمعة فيصيح صيحات وهو يصلي الجمعة فسئلت عن صلاته ، فقلت: إن كان وقت صياحه غائباً فقد بطل وضوءه وإن كان حاضراً فهو متصنع وكان هذا الرجل جلداً لا يعمل شيئاً. بل يدار له بزنبيل في كل يوم فيجمع له ما يأكل هو وأصحابه فهذه حالة المتأكلين لا المتوكلين. ثم لو قدرنا أن القوم يصيحون عن غيبة فإن تعرضهم لما يغطي على العقول من سماع ما يطرب منهي عنه كالتعرض لكل ما غالبه الأذى وقد سئل ابن عقيل عن تواجدهم وتخريق ثيابهم فقال خطأ وحرام وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال عن شق الجيوب فقال له قائل ، فإنهم لا يعقلون ما يفعلون. قال إن حضروا هذه الأمكنة مع علمهم أن الطرب يغلب عليهم فيزيل عقولهم أثموا بما يدخل عليهم من التخريق وغيره مما يفسد ولا يسقط عنهم خطاب الشرع لأنهم مخاطبون قبل الحضور بتجنب هذه المواضع التي تفضي إلى ذلك كما هم منهيون عن شرب المساكر فإذا سكروا وجرى منهم إفساد الأموال لم يسقط الخطاب لسكرهم كذلك هذا الطرب الذي يسميه أهل التصوف وجداً إن صدقوا فيه فسكر طبع وإن كذبوا فتبيد ومع الصحو فلا سلامة فيه مع الحالين وتجنب مواضع الريب واجب. وأحتج لهم ابن طاهر في تخريقهم الثياب بحديث عائشة رضي الله عنها قالت: نصبت حجلة لي فيها رقم فمدها النبي صلى الله عليه وسلم فشقها.
فانظر إلى فقه هذا الرجل المسكين كيف يقيس حال من يمزق ثيابه فيفسدها وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال على مد ستر ليحط فانشق لا عن
قصد ، أو كان عن قصد لأجل الصور التي كانت فيه: وهذا من الشديد في حق الشارع عن المنهيات كما أمر يكسر الدنان في الخمور فإن أدعى مخرق ثيابه أنه غائب قلنا الشيطان غيبك لأنك لو كنت مع الحق لحفظك فإن الحق لا يفسد " (1).
وليس تمزيق الثياب فقط ، بل القرآن الكريم أيضاً - وعياذاً بالله - كما نقل الجعلي الفضلي عن الصوفي السوداني مكي الدقلاشي " كان ولياً من أولياء الله تعالى وسافر إلى بلده وسلك الناس الطريق وأرشدهم ، وظهرت على يديه الكرامات وخوارق العادات ، جاء لزيارة شيخه فلم يجد المركب فمشى هو وجيرانه على الماء حتى خرجوا إلى الشاطئ الشرقي أبي حراز وظلم جيرانه رجل أسمه أزرق من جماعة شيخ أليس أدلى سنار ودخل في مسجد الملك قائمة عليه الحالة فمزّق مصحفاً وجده في طاقة فدخل الخطيب والقاضي على الملك فسألهما عن ذلك ، فقالا له: رجل مجذوب ، وحين سأله الملك عن ذلك قال شعراً:
أما من يوم قمت سموني الهائم
…
مأذوناً لي لب أب جنا قائم
يا كاشر جيب الصلطية
…
نطعن بها أهل الجبرية
وأومأ إلى الملك بإصبعه فزاغ ، فقال لأصحابه: إن كان ما زغت فإن إصبعه يقدّ رأسي ، قال الناس: هذا مكي الدقلاشي ظلمة زول لشيخ أليس ، فأرسل الملك لشيخ أليس بردّ مظلمته وأهداه " (2).
فهذه هي بدعات المتصوفة الشنيعة ومحدثاتهم القبيحة التي لزمتهم ، وبها عرفوا وميّزوا عن الآخرين ، ولبسئ ما ميزوا وخصوا بها ، وامتازوا عن المؤمنين الذين {إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} (3).
{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} (4).
(1) أنظر تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 252 ، 253 ط
…
دار القلم بيروت.
(2)
كتاب الطبقات للجعلي الفضلي ص 157.
(3)
سورة الأنفال الآية 2.
(4)
سورة مريم الآية 58.
{إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا {107} وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا {108} وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا {109} (1).
وعلى هذا السماع كان أصحاب رسول الله يجتمعون ، ولا على ذلك كما قال شيخ الإسلام بن تيمية:
" فأما السماع الذي شرعه الله تعالى لعباده ، وكان سلف الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم يجتمعون عليه لصلاح قلوبهم وزكاة نفوسهم فهو سماع آيات الله ، وهو سماع النبيين والمؤمنين وأهل العلم وأهل المعرفة
…
وعلى هذا السماع كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتمعون ، وكانوا إذا اجتمعوا أمروا واحداً منهم أن يقرأ والباقون يستمعون وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأبي موسى:
يا أبا موسى: ذكرنا ربنا ، فيقرأ وهم يستمعون. وهذا هو السماع الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يشهده مع أصحابه ، ويستدعيه منهم ، كما في الصحيح عن عبد الله بن مسعود قال:" قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرأ عليّ القرآن) ، قلت: أقرأه عليك وعليك أنزل؟ فقال: (إني أحب أن أسمعه من غيري) ، فقرأت عليه سورة النساء حتى وصلت إلى هذه الآية {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} قال: (حسبك) فنظرت إليه فإذا عيناه تذرفان "
وأما سماع المكاء والتصدية وهو التصفيق بالأيدي ، والمكاء مثل الصفير ونحوه ، فهذا هو سماع المشركين الذي ذكره الله تعالى في قوله {وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية} فأخبر عن المشركين أنهم كانوا يتخذون التصفيق باليد. والتصويت بالفم قربة وديناً. ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يجتمعون على مثل هذا السماع ولا حضروه قط
…
(1) سورة الإسراء الآية 107 ، 108 ، 109.
(2)
سورة المائدة الآية 83.
وبالجملة قد عرف بالإضطرار من دين الإسلام: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع لصالحي أمته وعبادهم وزهادهم أيجتمعوا على استماع الأبيات الملحنة ، مع ضرب بالكف أو ضرب بالقضيب ، أو الدف. كما لم يبح لأحد أن يخرج من متابعته ، وأتباع ما جاء به من الكتاب والحكمة ، لا في باطن الأمر ، ولا في ظاهره ، ولعامي ولخاصي ، ولكن رخص النبي صلى الله عليه وسلم في أنواع من اللهو في العرس ونحوه ، كما رخص للنساء أن يضربن بالدف في الأعراس والأفراح. وأما الرجال على عهده فلم يكن أحد منهم يضرب بدف ، ولا يصفق بكف ، بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال:(التصفيق للنساء والتسبيح للرجال) ، ولعن المتشبهات من النساء بالرجال ، والمتشبهين من الرجال بالنساء).
ولما كان الغناء والضرب بالدف والكف من عمل النساء ، كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخنثاً ، ويسمون الرجال المغنين مخانيثاً ، وهذا مشهور في كلامهم
…
وتكلم كثير من المتأخرين في السماع: هو هو محظور؟ أو مكروه؟ أو مباح؟ وليس المقصود بذلك مجرد رفع الحرج ، بل مقصودهم بذلك أن يتخذ طريقاً إلى الله يجتمع عليه أهل الديانات لصلاح القلوب ، والتشويق إلى المحبوب ، والتخويف من المرهوب ، والتخزين على فوات المطلوب ، فستنزل به الرحمة. ونستجلب به النعمة ، وتحرك به مواجيد أهل الإيمان ، وتستجلي به مشاهد أهل العرفان ، حتى يقول بعضهم: إنه أفضل لبعض الناس أو للخاصة من سماع القرآن من عدة وجوه: حتى يجعلونه قوتاً للقلوب. وغذاءاً للأرواح ، وحادياً للنفوس ، يحدوها إلى السير إلى الله ، ويحثها على الإقبال عليه.
ولهذا يوجد من اعتاده ، واغتذى به لا يحن إلى القرآن ولا يفرح به ، ولا يجد في سماع الآيات كما يجد في سماع الأبيات: بل إذا سمعوا القرآن سمعوه ، بقلوب لاهية ، وألسن لاغية ، وإذا سمعوا المكاء والتصدية خشعت الأصوات ، وسكنت الحركات ، وأصغت القلوب ، وتعاطت المشروب " (1).
(1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج 11 ص 599 وما بعد.
هذا ما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية ، وأما الإمام ابن الجوزي فأيضاً قد فصل القول في تحريم الغناء والمنع منه مستدلاً من الكتاب والسنة ، وذكر في آخر الكلام قول أبي عبد الله بن بطة العكبري قال:
" سألني سائل عن استماع الغناء ، فنهيته عن ذلك وأعلمته أنه مما أنكرته العلماء واستحسنه السفهاء ، وإنما تفعله طائفة سمّوا بالصوفية ، وسماهم المحققون الجبرية ، أهل همم دنيئة وشرائع بدعية يظهرون الزهد وكل أسبابهم ظلمة ، ويدعون الشوق والمحبة بإسقاط الخوف والرجاء ، يسمعونه من الأحداث والنساء ويطربون ويصعقون ويتغاشون ويتماوتون ، ويزعمون أن ذلك من شدة حبهم لربهم وشوقهم إليه ، تعالى الله عما يقول الجاهلون علواً كبيراً "(1).
وقال هو نفسه: " إن الغناء يخرج الإنسان عن الإعتدال ويغيّر العقل ، وبيان هذا أن الإنسان إذا طرب فعل ما يستقبحه في حال صحته من غيرة من تحريك رأسه ، وتصفيق يديه ، ودقّ الأرض برجليه إلى غير ذلك مما يفعله أصحاب العقول السخيفة ، والغناء يوجب ذلك بل يقارب فعله فعل الخمر في تغطية العقل ، فينبغي أن يقع المنع منه "(2).
هذا وقد ذمّ الغناء الصوفي المشهور ابن زروق في كتابه (قواعد التصوف) وبيّن مساويه وجعله موجباً للزنا (3).
والسهروردي أيضاً قد أحسن وأجاد في هذا حيث كتب:
" وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كان إبليس أول من ناح وأول من تغنى) وروى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما نهيت عن صوتين فاجرين صوت عند نعمة ، وصوت عند مصيبة)، وقد روى عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: ما غنيت ولا تمنيت ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وروى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال:
(1) تلبيس إبليس لابن الجوزي ص 229.
(2)
أيضاً.
(3)
أنظر قواعد التصوف لابن زروق ص 70.
الغناء ينبت النفاق في القلب ، وروى أن ابن عمر رضي الله عنه مر على قوم وهم محرمون وفيهم رجل يتغنى فقال: ألا لا سمع الله لكم ، ألا لا سمع الله لكم ، وروى أن إنساناً سأل القاسم بن محمد عن الغناء فقال: أنهاك عنه وأكرهه لك ، قال: أحرام هو؟ قال: أنظر يا ابن أخي إذا ميز الله الحق والباطل في أيهما يجعل الغناء؟ وقال الفضيل بن عياض: الغناء رقية الزنا ، وعن الضحاك: الغناء مفسدة للقلب ومسخطة للرب ، وقال بعضهم: إياكم والغناء فإنه يزيد الشهوة ويهدم المروءة ، وأنه لينوب عن الخمر ويفعل ما يفعل السكر ، وهذا الذي ذكره هذا القائل صحيح لأن الطبع الموزون يفيق بالغناء والأوزان ، ويستحسن صاحب الطبع عند السماع ما لم يكن يستحسنه من الفرقعة بالأصابع والتصفيق والرقص وتصدر منه أفعال تدل على سخافة العقل ، وروى عن الحسن أنه قال: ليس الدف من سنة المسلمين ، والذي نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه سمع الشعر ، لا يدل على إباحة الغناء فإن الشعر كلام منظوم وغيره منثور فحسنه حسن وقبيحه قبيح ، وإنما يصير غناء بالألحان وإن أنصف المنصف وتفكر في اجتماع أهل الزمان وقعود المغني بدفه والمشبب بشبابته وتصور في نفسه هل وقع مثل هذا الجلوس والهيئة بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهل استحضروا أقوالا وقعدوا مجتمعين لاستماعه لا شك بأنه ينكر ذلك من حال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟ ولو كان في ذلك فضيلة نطلب ما أهملوها ، فمن يشير بأنه فضيلة تطلب ويجتمع لها لم يحظ بذوق معرفة أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين ، واستروح إلى استحسان بعض المتأخرين ذلك. وكثيراً ما يغلط الناس في هذا ، وكلما احتج عليهم بالسلف الماضين يحتجون بالمتأخرين. وكان السلف أقرب إلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهديهم أشبه بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكثيراً من الفقراء يتسمح عند قراء القرآن بأشياء من غير غلبة " (1).
أنشد ابن البنا السرقسطي:
وليس يحتاج إلى السماع
…
إلاّ أخو الضعف القصير الباع
والزعقات فيه والتمزيق
…
ضعف وهزّ الرأس والتصفيق (2).
(1) عوارف المعارف للسهروردي ص 188 ، 189 ط دار الكتاب العربي بيروت.
(2)
المباحث الأصلية للسرقسطي ص 195 ، 196 ضمن الفتوحات الإلهية لابن عجيبة الحسني.
وهناك بدع أخرى اختص بها المتصوفة أو هم الذين اخترعوها وأحدثوها وأوجدوها وابتدعوها ، فمنها أورادهم وأذكارهم التي لم ترد ، لا في كتاب ربنا ، ولا سنة نبينا صلوات الله وسلامه عليه ، وكذلك حلق الذكر وآدابها والشرائط التي اشترطوها ، وفضائلها المزيفة ومناقبها المزوّرة.
ومن المعلوم أن أفضل الذكر لا إله إلا الله كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).
وقال عليه الصلاة والسلام:
أفضل ما قلت أنا والنبيون من قبل (لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)(2).
وهناك أذكار أخرى وردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت عنه ورويت في كتب السنة ، وتلقتها الأمة ، وعلى رأسها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكروا الله بتلك الأذكار المخصوصة في أوقات معلومة عملاً بقول الله عز وجل:
{أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} (3).
وقوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} (4).
وقوله تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} (5).
وقوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (6).
وقال عليه الصلاة والسلام:
(أنا عند ظن عبدي وأنا معه إذا ذكرني ، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه ، ، وإن تقرب إليّ شبراً أقتربت منه ذراعاً وإن اقترب إليّ
(1) رواه؟
(2)
رواه مالك في الموطأ.
(3)
سورة الرعد الآية 28.
(4)
سورة البقرة الآية 152.
(5)
سورة آل عمران الآية 41.طريقة ولا سنة
(6)
سورة الجمعة الآية 10.
ذراعاً أقتربت إليه باعاً ، وإن أتاني مشياً أتيته هرولة) (1).
وإن الأذكار والأوراد سبب قربة الله ورضائه ، ورضوانه ولا يتقرب الإنسان إلى ربه بمثل ما يتقرب إليه بتلك الطريقة التي سلكها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبالألفاظ والكلمات والصيغ التي تلفظ بها عليه الصلاة والسلام ، ولقن بها تلامذته الراشدين ورفاقه المهديين لأن على تلك الألفاظ والكلمات والصيغ مسحة من مسحات الوحي ، ونفحة من نفحات الرب لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينطق إلا بما يوحى إليه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى {3} إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى {4} (2).
فلا تكون الكلمات أرضى لله وأحب إليه من تلك الكلمات التي أختارها هو سبحانه وتعالى لإلقائها إلى نبيه وصفيه ليدعو بها ، ويتقرب إليه ، ويبتغي مرضاته ، فعلى ذلك لم يقبل توبة آدم إلا بتلك الكلمات التي ألقاها إليه هو نفسه جل جلاله وعمّ نواله كما ذكر في محكم كتابه:
{فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} (3).
وأما كلمات الآخرين وكلامهم فمن يدري أنها تصل إلى جنابة وتجد القبول عنده أم لا ، وفي استعمالها وصياغتها نوع من الإزدراء والاستهجان والاستسخار بتلك الكلمات التي دعا بها نبي الرب ربه أو ذكره بها ، حيث ظنّ المخترع والمبتدع بأن أذكاره وأوراده التي ركّبها من عند نفسه هي أحسن وأجمل وألطف وأسرع وصولا إلى الله من تلك الكلمات الربانية التي أوحى بها إلى صفيه ونجيّه أتقى الناس وأخشاهم لله وأعلمهم به وما يرضيه ، وأفصح العرب ومن نطق بالضاد ، وأبلغ الخلائق وأعرفهم بمدلولات الألفاظ ومنطوقات الحروف والكلمات ، فترك ألفاظه وكلماته وصيغه في الذكر والدعاء والصلوات مضاهاة به وبفصاحته وبلاغته ، ومنقصة بمقامه وشأنه ورتبته ومنزلته ، علاوة على تكذيبه فيما يقوله ويبينه من المزية والفضيلة لذكر دون ذكر ، ومخالفته وشقاقه ومعصيته ، وتشريع جديد مع إقرار ختم النبوة به ، وكمال الدين وتمام النعمة عليه.
(1) رواه البخاري.
(2)
سورة النجم الآية 3 و 4.
(3)
سورة البقرة الآية 37.
وأنّى لأحد من الأمة هذا الخيار في حق من قال: (لو كان موسى حياً ما وسعه إلا إتباعي)(1).
فالمتأدب والمُتّبع لا يخطو إلا على خطواته ، ولا يقفوا إلَا أثره ، ولا يمشي إلا خلفه ، لا يتقدم بين يديه ولا يرفع صوته فوق صوته ، ولا يجهر له بالقول خوفاً من أن يحبط عمله وهو لا يشعر ، فكلامه حق ، وأمره مسلّم ، وقضاؤه محكم ، وإرشاده ملزم ، فلا ذكر أفضل من ذكره ، ولا دعاء أحسن من دعائه ، ولا التسبيح ألطف من تسبيحه ، ولا التحميد أروع من تحميده ، فلا طريقة ، ولا سنة دون سنته ، ولا ورد غير ورده ، ولا صلاة ولا سلام أفضل من صلاته الذي نطق بهما وعلّمها أصحابه.
وإن توظيف الوظائف والأوراد من حقه واختصاصه كما صرح بذلك الصوفي المشهور وشيخ الطريقة المشهورة ، أبو الحسن الشاذلي كما نقل عنه المشخانوي ، فقال:
" دخل رجل على أستاذي (عبد السلام بن مشيش) فقال له:
وظف لي وظائف وأوراداً ، فغضب الشيخ منه وقال له: أرسول أنا أوجب الواجبات " (2).
وبذلك قال ابن زروق في قواعده:
" تحديد ما لم يرد في الشرع تحديده ابتداع في الدين ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حدد كل شيء ولا يجوز التجاوز عنه "(3).
ولكن الصوفية يخالفون رسول الله في هذا كما يخالفونه وأوامر ربه في أشياء أخرى عديدة ، فاختلقوا أوراداً ، وأخترعوا وظائف ، وبينوا لها ثواباً من عند أنفسهم كأنهم مشرعون ، والموحى إليهم ، وأنشئوا لها هيئات ، وأحدثوا لها آداباً ، وأوجبوا لها حلقاً كأنهم علموا شيئاً لم يعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو علمه فكتمه ولم يخبر
(1) رواه؟
(2)
جامع الأصول في الأولياء لأحمد الكمشخانوي ص 42 ، أيضاً المدرسة الشاذلية وإمامها أبو الحسن للدكتور عبد الحليم محمود ص 28 ط
…
دار الكتب الحديثة القاهرة واللفظ له.
(3)
قواعد التصوف لأبي العباس أحمد بن زروق ص 56 ط مكتبة الكليات الأزهرية مصر.
أحداً من أصحابه فجاء هؤلاء فأخبروا الناس به ، وهذه أمثلة لذلك ، فيقول با يزيد الأنصاري المتوفى 980هـ وهو يقسم الذكر إلى أقسام ، فيقول:
" أما ذكر (لا إله إلا الله محمد رسول الله) فهو ذكر اللسان ، وهو يجوز في الشريعة ، وذكر (لا إله إلا الله) هو ذكر القلب ، وهو يجوز في الطريقة ، وذكر (إلا الله) هو ذكر الروح وترك الظن ، وهو يجوز في الحقيقة ، وذكر (الله) هو ذكر السر ، وهو يجوز في المعرفة ، وذكر (هو) هو ذكر المذكور وهو يجوز في الوحدة "(1).
والشيخ نور الدين البرفكاني حدد ذكر لفظ الجلالة تحديدا غير وارد في الشرع فقال:
" ليواظب المريد على ورد " لا إله إلا الله " مائة مرة مع حضور القلب باستحضار معناها وتغميض العينين ، وملاحظة أنه بمرأى من الله تعالى وأنه يراه ويقول: " الله الله " مائة مرة صباحاً ومساءاً "(2).
وحكوا عن الشبلي أنه قيل له:
" لم تقول " الله "؟ ولا تقول " لا إله إلا الله "؟
فقال: أستحي أن أوجّه إثباتاً بعد نفي. . . أخشى أن أؤخذ في كلمة الجحود ولا أصل إلى كلمة الإقرار " (3).
وفي ذلك قال شيخ الإسلام:
" إن الشرع لم يستحب من الذكر إلا ما كان تاماً مفيداً مثل " لا إله إلا الله " ومثل " الله أكبر " ومثل " سبحان الله والحمد لله " ومثل " لا حول ولا قوة إلا بالله ".
فأما الاسم المفرد مظهراً مثل: " الله ، الله " أو مضمراً مثل " هو ، هو " فهذا ليس بمشروع في كتاب ولا سنة ، ولا هو مأثور أيضاً عن أحد من سلف الأمة ، ولا عن أعيان الأمة المقتدى بهم ، وإنما نهج به قوم من ضلال المتأخرين
…
(1) مقصود المؤمنين لبا يزيد الأنصاري ص 306 ط إسلام آباد باكستان.
(2)
اللطف الداني من مناقب الشيخ نور الدين البرفكاني لبعد الوهاب محمد أمين ط مطبعة الجمهور الموصل.
(3)
أنظر شطحات الصوفية للدكتور بدوي ص 44 ط
…
الكويت.
وربما غلا بعضهم في ذلك حتى جعلوا ذكر الاسم المفرد للخاصة وذكر الكلمة التامة للعامة ، وربما قال بعضهم:" لا إله إلا الله " للمؤمنين ، و" الله " للعارفين ، و " هو " للمحققين ، وربما اقتصر أحدهم في خلوته أو في جماعة على " الله ، الله ، الله " أو على " يا هو " أو " لا هو إلا هو " " (1).
ويقول في موضع آخر: " أما ذكر الاسم المفرد فبدعة لم يشرع ، وليس هو بكلام يعقل ولا فيه إيمان. . . ومن العجب أن الصوفية يقولون: ذكر العامة " لا إله إلا الله " وذكر الخاصة " الله ، الله " وذكر خاصة الخاصة " هو ، هو " وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(أفضل الكلام بعد القرآن أربع ، وهن من القرآن: سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله والله أكبر) وفي حديث آخر (أفضل الذكر لا إله إلا الله) ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة " (2).
هذا ويقول الصوفي المشهور عبد الغني الرافعي:
" وأجمعوا على أنه ينبغي للمريد إذا ذكر الله تعالى أن يهتز من فوق رأسه إلى أسفل قدميه ، وهذه حالة يستدل بها على أنه صاحب همة ويرجى له الفتح عن قريب ، ويبتدئ بلا إله من جهة اليمين وإلا الله من جهة الشمال ، ويخيط بإلاّ على القلب ، وإذا ذكر بالأسماء الستة الباقية ضرب بذقنه على صدره ويخيط بالاسم على القلب ولا يميل يميناً ولا شمالاً "(3).
ويقول الصوفي الهندي إمداد الله الجشتي:
" على المريد أن يتصور مثال محمد صلى الله عليه وسلم في قلبه ، ويوجه رأسه إلى اليمين ثم يقول: يا أحمد ، ثم يتوجه لليسار ويقول: يا محمد ، ثم يقول: يا رسول الله ، ويضرب ذقنه على صدره "(4).
(1) فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ج 10 ص 556.
(2)
أيضاً ج 10 ص 396.
(3)
ترصيع الجواهر المكية لعبد الغني الرافعي ص 43 مطبعة شرف موسى مصر 1301 هـ.
(4)
ضياء القلوب لإمداد الله الجشتي ص 34 ط مطبع مجتبائي دهلي الهند.
وابن الحاج التلمساني المغربي المتوفى 737هـ قد ذكر خواص بعض أسماء الله الحسني في كتابه " شموس الأنوار " ، وذكر شروطاً وطرقاً ، آداباً وسنناً ، أنواراً وأسراراً ، علوماً وتصرفات ، نتائج وثمرات ، وحكماً وإشارات من عند نفسه ، لا يقوم لها برهان من الكتاب والسنة ، فيقول:
(أسمه تعالى الله الحي القيوم) من داوم على ذكره كل يوم عدد الأعداد الواقعة عليه إلى أن يغلب عليه منه حال الأسماء بعد الطهارة الكاملة والشروط التي منها ، الأول من الشروط أن يكون الإنسان في خلوة بعيدة عن العمارة ، الثاني أن يكون لباسه حلالاً. الثالث أن يكون طعامه حلالاً. الرابع أن يكون صائماً. الخامس أن لا يأكل إلا قليلاً من الطعام فإن حاد عن هذا النمط فسد. السادس أن يغتسل كل يوم. السابع أن لا يأكل ما فيه روح. الثامن أن لا ينام إلا عن غلبة. التاسع أن لا يشتغل إلا بذلك. العاشر أن لا يجلس إلا على حصى أو تراب وهو مستقبل القبلة. الحادي عشر أن يكون خاضع الرأس. الثاني عشر أن ينوي العبودية لله ولا ينوي بها كشف الحجاب. الثالث عشر مهما انتقض وضوؤه أعاده. الرابع عشر إن وجد أن يبخر كل ليلة جمعة أو ليلة الإثنين أو يوم الخميس بالبخور الطيب وكذلك يوم الإثنين ويوم الجمعة عند الزوال فإن الأرواح العلوية الذين يردون عليه يحبون الرائحة الطيبة. الخامس عشر أن لا يتكلم مع أحد في تلك المدة. السادس عشر أن يباشر كل ما يحتاجه بيده. السابع عشر أن يكثر من البكاء والندامة. الثامن عشر أن لا يلبس ثياباً رفيعة في تلك المدة. التاسع عشر أن يكون لباسه أبيض لا سواد فيه ، وفي عشرين أن يكون على يقين أن الله تعالى يستجيب له فأعرف قدر هذه الشروط فإنك لا تجنيها من ديوان ولا من أحد من الأعيان - وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب - ولنرجع إلى ما نحن بسيله من الأسماء أعني إسم الجلالة وهو اسمه تعالى الحيّ القيوم إذا وصل المسالك بهذه الأسماء المقامات العلية في الحال وامتزج الذكر مع عوالمه الحسية سمع الهواتف يخاطبونه من كل جهة بكل لغة عجيبة وأقوال قدسية لحينئذ يترك اسمين من هذا الذكر ويبقى ذاكراً ليلاً ونهاراً اسمه تعالى القيوم فقط ثم يذهب عنه
النوم وهو في سلوكه قد امتدّ بالقوة الصمدانية فإنه يسمع الهاتف الرباني يخاطبه بقوله فامنن أو أمسك بغير حساب ثم تتقدم بين يديه الأكوان قائلة له نحن بأمر الله عند أمرك فافعل بنا ما شئت وخذت ما شئت فهذا المقام مقام القطب الفرد الذي به يرزق الله ويعطي ويمنح لأهل الدنيا وقد يمتد من أنواره وعلومه الوتد الذي هو قائم بإقليم من أقاليم الدنيا فأعرف قدر هذه الأسماء فلا شك أنها أسم الله الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سئل به أعطى.
[فصل أسمه تعالى القدوس] من داوم عليه بالشروط المتقدمة إلى أن يغلب عليه منه حال شاهد أنواراً تخرج من فيه وسمع صرير القلم وفهم لغة العالم العلوي وهو مقام الأوتاد من أهل الدائرة الربانية فإذا شاهد هذه الحالة فليقطع ذلك الذكر وليشرع في أسم الجلالة وهو الله الله فإنه يثبت في تلك المرتبة.
[فصل أسمه تعالى السريع] من داوم عليه بالشروط المعلومة إلى أن يغلب عليه حال شاهد عالم الملكوت وكان مجاب الدعوة في كل أمر يحضر له وكشف له عن عالم الروحانية فيسألهم عن كلّ خير يريده.
[فصل في أسمه تعالى الوهاب] من داوم عليه كما رسمناه في أول الكتاب إلى أن يغلب عليه حال خدمته الروحانية وملوك الجن وتبعته الدنيا بحذافيرها وهو مقام العطاء فليعامل خلقه بهذه الصفة ولا يحتقر وضيعهم ولا رفيعهم وهذه المرتبة مقام النجباء أهل الكمال.
[فصل في اسمه تعالى الجواد] من داوم عليه إلى أن يغلب عليه من حال انفعلت له المكونات بأسرها ثم يتشكل بكل رهط أراد فإنه مقام البدلاء ولا يفتر عن ذلك الذكر إلى أن يأتيه اليقين.
[فصل اسمه تعالى الكافي المغني] من داوم عليهما بلا فتور إلى أن يغلب عليه منهما حال وامتزجت الأذكار مع عوالمه الحسية شاهد حسن الألوهية حتى إنه لو حبس السالك التراب بيده وذكر عليه تلك الأذكار صار ذهباً في أسرع وقت وهو مقام الأخيار من أهل الدائرة.
[فصل اسمه تعالى ذو الجلال والإكرام] من داوم عليه بالشروط المتقدّمة إلى أن يصير مغلوباً في الحال وامتزج الإسم الأعظم من عوالمه الحسية شاهد أسراراً لا يمكن التعبير عن ماهيتها حتى إن صاحبه إذا أراد أمراً من ألأمور يكون في أسرع وقت ولولا مخافة أن يقع هذا الكتاب في يد من لا يستحقه من أهل الضلالة والمعصية لتكلمت على هذا الاسم وجعلت خواصه وفوائده كلها مرسومة هنا لينتفع بها كل داخل وارد لهذا الكتاب فهو الاسم الأعظم الذي به السفينة تجري والطيور تجيبك فإن دعوتها حضرت بين يديك وكذلك كل مكوّن من المكونات.
[فصل اسمه تعالى الخبير] من داوم عليه بالشروط المذكورة إلى أن يمتزج الذكر مع عوالمه صار صاحب كشف إيماني وأخبر بما في الظاهر والباطن وكذا الذكر يليق بأهل المكاشفة من أهل الله.
[فصل اسمه تعالى العزيز] من داوم عليه بالشروط المذكورة إلى أن يغلب عليه حال منه تسخر له العالم العلوي والسفلي وجمع الله شمله بما يريد حتى إن ذاكره لو أراد أن يشير إلى جبل لانفتح أو حائط كذلك وهو الذكر النقباء من أهل الدائرة.
[فصل اسمه تعالى المقتدر القادر] إذا داوم عليهما السالك بعلو همة على الشروط المعدودة إلى أن يغلب عليه منهما حال قلّده الله بثوب الغلبة والنقمة حتى إنه لو نظر إلى طير في جو السماء بأقلّ نظرة كأنه مرمي بسهم أو قرب إليه أحد من الخلق بضر أخذ لوقته وهذا الذكر هو لأرباب القبض من أهل الدائرة فافهم.
[فصل اسمه تعالى الكبير] من داوم عليه بالشروط المذكورة إلى أن يغلب عليه منه حال ارتقى في درجة الخلافة الربانية المعلومة لأهل الحضرة الصمدانية ، وقد أتيت هنا في هذا الباب بفتح رباني فعليك أيها الراغب بالإجتهاد (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) " (1).
ومثل ذلك ذكر الوزير لسان الدين بن الخطيب في روضته طرق التقرب إلى أسماء الله الحسنى وشروط التقرب وآدابه وأسرار هذه الأسماء ، فيقول:
(1) شموس الأنوار وكنوز الأسرار لابن الحاج التلمساني ص 128 وما بعد ط مصطفى البابي 1357 هـ.
" أسمه " الحق " وهو الواجب بذاته ، والتقرب إليه به أن يردّ إليه الأشياء من صوت ونطق وحركة. . . وشرطة أن لا يأكل من الأسباب ، ومجاهدته الصمت. . . واسمه " الودود " والتقرب إليه باستدامة الجوع والخلوة. . . واسمه " الشهيد " ومعناه راجع إلى العلم ، والمتقرب إليه به يلزم التجوعات والرياضة ، والخشوع والمراقبة ، وملازمة اسمه الشهيد وتبدو له المحاضرة ، ثم المكاشفة ، ثم المشاهدة "(1).
ويقول أحمد بن علي البوني المتوفى 622 هـ:
" وأما اسمه تعالى " الفتاح العليم " فخواصهما تقرب من الاسمين المتقدمين ، وهو من أراد الوصول إلى علم الحقيقة فليأخذ بشروطها ، وليداوم على هذين الاسمين الشريفين عقب أوراده التي اعتادها بعد الصلوات الخمس فلا يمضي عليه أربعون يوماً إلا فتح الله عليه بالفتح الغيبي الذي لا يطلع عليه أحد إلا الأولياء أرباب المقامات والأحوال "(2).
هذا وقد وضع الصوفية صنيعاً وكلمات لصلاة الحاجة مخالفين فيها الصيغ والألفاظ التي وردت في الحديث حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(من كانت له حاجة إلى الله أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ وليحسن الوضوء ثم ليصلي ركعتين ثم ليثني على الله وليصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ثم ليقل: (لا إله إلا الله الحليم الكريم ، سبحان الله رب العرش الكريم ، الحمد لله رب العالمين ، أسألك موجبات رحمتك ، وعزائم مغفرتك ، والغنيمة من كل بر ، والسلامة من كل أثم ، لا تدع لي ذنب إلا غفرته ، ولا هماً إلا فرجته ، ولا حاجة هي لك رضا إلا قضيتها يا أرحم الرحمين).
ولكن الصوفية يقولون:
" من كانت له إلى الله حاجة فليصل أربع ركعات يقرأ في الأولى: الفاتحة وسورة الإخلاص عشر مرات ، وفي الثانية: الفاتحة وسورة الإخلاص عشرين مرة ، وفي الثالثة: الفاتحة وسورة الإخلاص ثلاثين ، وفي الرابعة: الفاتحة وسورة الإخلاص أربعين. وبعد
(1) روضة التعريف للسان الدين بن الخطيب ص 307 ط دار الفكر العربي.
(2)
الأصول والضوابط المحكمة للبوني ص 45 ضمن منبع أصول الحكمة ط مصطفى البابي الطبعة الأخيرة.
الفراغ يقول: اللهم بنورك وجلالك وبحق هذا الإسم الأعظم وبحق نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أسألك أن تقضي حاجتي وتبلغني سؤلي وأملي ، ويدعو بهذا الدعاء يستجاب له ، وهو هذا:
بسم الله الرحمن الرحيم الله الله الله لا إله إلا الله الأحد الصمد ، الله الله الله لا إله إلا الله بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام ، اللهم إني أسألك بحق أسمائك المطهرات المعروفات المكرومات الميمونات المقدسات التي هي: نور على نور ونرو فوق نور ونور في السموات والأرض ، وأسألك بنورك العزيز العظيم ، وبنور وجهك الكريم ، وبقوة سلطانك المبين وجبروتك المتين ، الحمد لله الذي لا إله إلا هو بديع السموات والأرض ذو الجلال والإكرام ، يا الله يا الله يا الله ، يا رب يا رب يا رب ، يا رباه يا رباه يا رباه ، اغفر لي ذنوبي ، وانصرني على أعدائي ، واقض حوائجي في الدنيا والآخرة ووالدي وجميع المسلمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم " (1).
وكذلك ابتدعوا أحزاناً سبعة ووزعوها على أيام الأسبوع ، يكررها الصوفية معرضين عن الأوراد والأذكار المأثورة الواردة في كتب السنة النبوية اخترعوها لها فضائل ومناقب ، منها ما ذكروه في فضائل الحزب الخامس في يوم الجمعة ، فقالوا بعد ذكر ألفاظ الذكر:
" من قرأه مرة واحدة كتب الله له ثواب حجة مقبولة وثواب من أعتق رقبة من ولد إسماعيل عليه السلام فيقول الله تعالى: يا ملائكتي هذا عبد من عبادي أكثر الصلاة على حبيبي محمد ، فو عزتي وجلالي ووجودي ومجدي وارتفاعي لأعطينه بكل حرف صلى قصراً في الجنة وليأتني يوم القيامة تحت لواء الحمد نور وجهه كالقمر ليلة البدر وكفه في كف حبيبي محمداً هذا لمن قالها كل يوم جمعة له هذا الفضل والله ذو الفضل العظيم "(2).
(1) الفوائد في الصلات والعوائد لشهاب الدين حمد بن عبد اللطيف الشرجي ص 55 ط مصطفى البابي الحلبي الطبعة الثانية 1388 هـ.
(2)
أنظر دلائل الخيرات ص 112 ، 113 ط
…
مصطفى البابي الحلبي القاهرة 1346 هـ.
وهناك اسم الله الأعظم ذكره أبو العباس أحمد بن علي البوني المتوفى 622 هـ ، وبيّن طريقة استعماله ، وفيها ألفاظ وكلمات ليس لها معنى ومفهوم ، لا ينطق بها أحد من الناس ، فلا ندري هي لغة الجن أو لغة السحر والكهانة يستخدمها الصوفية للتقرب إلى الله عز وجل وعياذاً بالله من هذا الهذيان - فيقول البوني:
" اسم الله الأعظم الذي لا يوفق لاستعماله إلا من سبقت له العناية هو الله وله من الحروف ج ب أووللجيم جينج أسم هوائي والباء بكمد أسم ترابي وللألف أهلل أسم ناري وللواو وكيل أسم مائي: وكيفية الذكر بهذه الأسماء أن تتلو في الثلث الأخير من الليل هذه الأسماء الأربعة ستة آلاف وستمائة وستاً وستين مرة ثم ركعتين وبعد السلام تقرأ (الله نور السموات والأرض) الآية سبعين مرة وتقول أستغفر الله العظيم سبعين مرة وتذكر البسملة سبعمائة وستاً وثمانين مرة ثم تقول اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آله وسلم مائة واثنين وثلاثين مرة وتقول الله الجليل القديم الأزلي أربعمائة وثمانياً وثمانين مرة ثم بعد صلاة الصبح تستغفر الله سبعين مرة وتذكر البسملة سبعين مرة وتصلي على النبي صلى الله عليه وسلم مائة مرة ثم تقول:
اللهم أهلل بكمد جينج وكيل الله يامور شطيئاً ياطهوج يا مبططروش أجب يازهزيائيل وأنت يا أهدكيل بحق الهاء الدائرة ، اللهم يا من هو أحون قاف آدم حم هاء آمين سبعين مرة ونكتب هذا الخاتم وقت شروق الشمس ، وهذه صفته:
C:\Documents and Settings\welcome\My Documents\Bluetooth Exchange Folder\5.jpg
وتحمله معك ، ثم إذا عرض لك أمر وأردت قضاءه فاكتب الخاتم ، وأدخل مقصودك في الخانة الخيالية منه ، ثم قل عليه: يا جنيح يابكمد يا أهلل يا وكيل 6666
مرة فإنك تجاب في أسرع وقت " (1).
وأيضاً الوظيفة التي ذكرها لقضاء المهمات وتسيير الأمور ، وهذه ألفاظها:
" اللهم إني أسألك بعظيم قديم كريم مكنون مخزون أسمائك وبأنواع أجناس رقوم نقوش أنوارك ، وبعزيز إعزاز عز عزتك ، وبحول طول جول شديد قوتك ، وبقدرة مقدار اقتدار قدرتك ، وبتأييد تحميد وتمجيد عظمتك ، وبسمو نمو علو رفعتك ، وبقيوم ديوم دوام أبديتك ، وبرضوان غفران آل مغفرتك ، وبرفيع بديع منبع سلطانك وبصلات سعات بساط رحمتك ، وبلوامع بوارق صواعق عجيج وهيج بهيج رهيج نور ذاتك ، وببهر جهر قهر ميمون ارتباط وحدانيتك ، وبهدير تيار أمواج بحرك المحيط بملكوتك ، وباتساع انفساح ميادين برازيخ كرسيك ، وبهيكليات علويات روحانيات أملاك عرشك ، وبأملاك الروحانيين المدبرين لكواكب أفلاك ، وبحنين أنين تسكين المريدين لقربك وبحرقات زفرات خضعات الخائفين من سطوتك ، وآمال؟ أقوال المجتهدين في مرضاتك وبتحمد تمجد تهجد تجلد العابدين على طاعتك يا أول يا آخر يا ظاهر يا باطن يا قديم يا مغيث أطمس بطلسم "(2).
وقد ذكر الشيخ علي بن محمد الطندتائي في رسالته وظيفة محتوية على كلمات غريبة على اللغة العربية ، وصّور شخصين ، وكتب عليهما أحرفاً ورموزاً لا معنى لها ، نثبت هنا كل ذلك فيقول:
" وإذا أردت جلب الهارب والسارق فقصّ شخصين من ورق وأكتب على شخص المطلوب هكذا:
أبارخ 2 يورخ انوش 2 صورخ بارخ 3 باروخ 2
كر
25 255
ان وس ل ك ق د وج ب
C:\Documents and Settings\welcome\My Documents\Bluetooth Exchange Folder\7.jpg
وعلى شخص الطلب هكذا:
C:\Documents and Settings\welcome\My Documents\Bluetooth Exchange Folder\8.jpg
(1) شرح الجلجوتية الكبرى لأبي العباس أحمد بن علي البوني ص 110 ط مصطفى البابي الحلبي مصر الطبعة الأخيرة.
(2)
منبع أصول الحكمة للبوني ص 111 ط مصطفى البابي مصر.
جالوش عبروش عراش جواش هيهوش
فهروش شلموش يعروش يعروش يعوش
د
…
ف
…
ر
أ
…
85
…
255
ثم أجعل وجه الطالب على وجه المطلوب وعلقهما في سيبة وأقرأ عليهما هذه الأسماء.
أيه بقطريال جليش دميال هططوش وهيم زنقطا حداية طغيال 45 مرة ثم العهد القديم 7 مرات ، فإن أحسست بثقل في عضو من أعضائك فهي علامة الإجابة وإلا فكرر سبعة ثانياً أو ثالثة وهكذا إلى تمام 49 مرة فإن المقصود يتم لا محالة بإذن الله تعالى والبخور لبان ذكر وكزبرة وجماجم تمر حنا " (1).
اخترع الصوفية هذه الألفاظ الغريبة وزعموا أن للحروف أسرارا ورموزاً وإضمارات وطبائع وإشارات ، متأثرين في ذلك بالعلوم السحرية الطلسمية فيها كفر وضلال ، وقال تعالى:{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} (2).
والصوفية اشتغلوا بترديد الكلمات السحرية الكفرية على ألسنتهم وألفوا في ذلك كتباً ورسائل ذكروا فيها أسرار الحروف ورموزها ، فنثبت هنا الجدول الذي هو أساس للأوراد الصوفية ووظائفهم:
" أول الحروف حرف الألف وخادمه الرئيس الأكبر رئيس ملائكة الحروف:
هَطْمَهْطَلْقِيائيل وإضماره هَدْهَيُون شَلْهَميدٍ طَمْخَلَلَشٍ بُهْلَميْلَخٍ.
حرف الباء وخادمه الملك جَرَمْهَيَائيل وإضماره كَشَمْشَخٍ هَيْلَخٍٍ مَهَلْشَطٍ.
حرف الجيم وخادمه الملك طلقطيائيل وإضماره هَدْمَخٍ هَلَشْلخَخٍ.
حرف الدال وخادمه الملك سكمهيائيل وإضماره هَلْطَفٍ مَهْللخٍ شَوييدٍ شئلْطَطٍ.
(1) الدرة البهية في جوامع الأسرار الروحانية للشيخ علي بن محمد الطندتائي ص 31 ط
…
مصطفى البابي الحلبي 1370 هـ.
(2)
سورة البقرة الآية 102.
حرف الهاء وخادمه الملك عَفْرَيائيل وإضماره ذَبْحطٍ هَمَكِيكٍ هَشْطيطعٍ.
حرف الواو وخادمه الملك طُونَيائيل وإضماره مَهْدَدُوةٍ شَلْتَمُوخٍ بَرَاخٍ.
حرف الزاي وخادمه الملك عَلمَشيائيل وإضماره مَعَدرْشٍ هَطَاطِمٍ مَهَطٍ.
حرف الحاء وخادمه الملك طَفيائيل وإضماره دَهْلِيخٍ كَمشَلاطَخٍ.
حرف الطاء وخادمه الملك عَصْطيائيل وإضماره شَمْهَطٍ مَبلْشَخٍ مَلْخشٍ طمهٍ. ٍ
حرف الياء وخادمه الملك هَرْدَقيلٍ وإضماره دَمْغيغ هَلهَفٍ شُوييدخٍ.
حرف الكاف وخادمه الملك شَمْهَائيل وإضماره شَفْرُودٍ هَمِيطا خَطشٍ.
حرف اللام وخادمه الملك طَهْطَيائيل وإضماره غَغِيطٍ طَهْمَشٍ خلشَدَمٍ.
حرف الميم وخادمه الملك شَرَاخيل وإضماره حَجَمُشَطٍ كَلِتْياطٍ مَدْمَخٍ.
حرف النون وخادمه الملك صَعْرِيائيل وإضماره شَغيغٍ دَلْحمٍ بَهِيط.
حرف السين وخادمه الملك هَطْغِيل وإضماره مَسْطَعٍ عَطْلَدٍ خييمٍ عَلْطلٍ.
حرف العين وخادمه الملك شَرْهِيل وإضماره لخطَمٍ غَدِيفٍ أرْزَدٍ.
حرف الفاء وخادمه الملك شطاطيلٍ وإضماره كَبْطَمٍ رَزْطَشٍ هَخَيطٍ.
حرف الصاد وخادمه الملك هَرْدَبالٍ وإضماره شَرُوخٍ هَمْشٍ.
حرف القاف وخادمه الملك عَزْقيل وإضماره غَدْغَصٍ طَلْحِياش.
حرف الراء وخادمه الملك دَهْرَابيل وإضماره عَللْطَفٍ عَلْميخٍ دَبْعومٍ.
حرف الشين وخادمه الملك خَرْدٍيائيل وإضماره شَظيفٍ كَهْييلٍ.
حرف الخاء وخادمه الملك خَمْليل وإضماره عَمُطْيارٍ واكِشٍ راكِشٍ دَهوطٍ.
حرف الذال وخادمه الملك رَفَعَيائيل وإضماره عَلَلمَهَصٍ صَهْدعٍ شَهْلَطٍ.
حرف الضاد وخادمه الملك رَفَعَيائيل وإضماره يوخٍ روخٍ أموشٍ طَمْلَشيطٍ عَبْصوعٍ.
حرف الظاء وخادمه الملك طَرْخَبائيل وإضماره هَمْيَطُيواشٍ مَعَدٍ مَشَطٍ.
حرف الغين وخادمه الملك سَلْكفيل وإضماره أشْعطلفٍ هيوطٍ شَطَطَفٍ كَلكَففَ " (1).
(1) منبع أصول الحكمة ص 222 ، 223.
كما أنهم وضعوا وظائف مختلفة للتأليف والتفريق وقضاء حوائج الناس وما يحتاج إليه الإنسان في كل وقت ، وللتسخير ، وإلقاء البغضاء والفرقة ، وخراب الأمكنة والدور ، وتسليط العذاب على الأعداء ، وجلب الغائب ، وتغييب الحاضر وغيرها من الأمور السحرية الطلسمية ، فتعاهدوا الأربعينات وغيرها ، واعتزلوا في الخلوات والجبال للحصول على أسرار الحروف ، ولتسخير الأرواح والملائكة ، فيقول الشيخ محمد الشافعي الخلوتي:
" إذا أردت ألفة بين أثنين مثلاً أو فرقة أو غير ذلك فابدأ بعون الله باسم ملك أرضي ثم المطلوب ثم الطالب أجرفاً متفرقة. . . وأعلم أن ذلك الملك يصير ملازماً لذلك الشخص مشتحوذاً عليه لا يفارقه أبداً من محبة وعقد شهوة ومرض عضو مخصوص وابطاله ، ولو وكلته بنقل الجبال لنقلها ، وبالبحار لنسفها فإنه عمل صحيح معمول به لا يتغير ولا يتبدل
…
.
ثم يقول بعد ذكره: إني كشفت لك السر المكتوم عن كثير من الناس لا يصل إليه إلا آحاد العلماء الراسخون وأفراد الحكماء الحاذقون " (1).
وأما علي أبو حي الله المرزوقي صاحب " الجواهر اللماعة " فأيضاً أورد في كتابه أوراداً نادى فيها أسماء لم ينزل الله بها من سلطان ، فطلب منها قضاء الحاجة والشفاء والنصر وغيرها ، فيقول:
" تصوم لله سبعة أيام برياضة تامة. . . وتقول: اللهم إني أسألك يا لهويش ويا طهبوش ويا يوش ويا فهليوش أسألك اللهم بحق هذه الأسماء والأسرار التي ألقيتها في قلب نبيك محمد صلى الله عليه وسلم وكسيته من جلال لطفك وهديته بطهارة قدسك أن تسخر لي روحانية خدام أسمك اللطيف المبارك العلوية والسلفية يكونون عوناً لي على ما أريد وهو كذا وكذا ، أجب يا عبد اللطيف وأنت يا شعاع يا شعضوض بحق ما تعرفونه من سرّ هذا الاسم اللطيف وشريف علمه الأعظم وذكر جلاله: وأذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة إن الله كان لطيفاً خبيرا ، أقضوا
(1) السر الظروف في علم بسط الحروف للشيخ محمد الشافعي الخلوتي ص 45 ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة 1370هـ.
حاجتي وامتثلوا مرضاتي وأسعفوني بالطاعة لخدمة الله والرسول وأئتوني من مال الله الذي مع خلق الله ، بحقك يا الله يا لطيف إني أسألك بلام لطفك وطاء طولك وياء يقظتك وفاء فردانيتك أسألك أن تسخر لي سرّاً من سرّك ونوراً من نورك ولطفاً من لطفك وهيبة من هيبتك تسخر لي بها جميع خلقك وتخضع لي قلوبهم بالألفة والمودة وتودع في قلوبهم محبتي سراً ونوراً وبهجة ، أجب يا عبد اللطيف ويا عبد الطالب ويا عبد البارئ ويا عبد الفتاح ويا شعاع ويا نور ويا صالح ويا شعضوض ويا حفيال " (1).
فهل هذه هي الأوراد والوظائف التي قالوا فيها:
" حكم أوراد السلف حكم الفرائض لأنها فرائض بالإلتزام والعهود والنذور فيجب إعادتها كالفريضة "(2).
هذا وذكر أحمد الرفاعي في مجالسه أوراداً وأدعية فيها كلمات فلسفية مغلقة مثل:
" يا كافي المهمات ، يا رب الأرض والسموات أسألك بالحقيقة المحمدية وبما انطوى في مضمونها من عظائم الأسرار الربانية بالميم المتدالي ببحبوحة مرج البحرين يلتقيان مادة المظاهر الطالعة والمشارق اللامعة ميزاب الفيوضات الهاطلة منبع العوارف المتواصلة ، ماهية المعرفة المطلوبة محراب جامع البداية الإبداعية ، منبر بيت النهاية الإمكانية.
وأسألك اللهم بحاء الحسن الأعم والحمد الأتم حد النهايات الصاعدة في أدراج السمو الملكوتي حيطة الغايات المتقبلة على بساط الإحسان الرحموتي.
وأسألك اللهم بميم المدد المعقود على مجمل أسرار الوجود. . . أسألك اللهم بالنور اللامع والقمر الساطع والبدر الطالع والفيض الهامع والمدد الواسع نقطة مركز الباء الدائرة الأولية وسر أسرار الألف القطبانية - إلى آخر الهذيان " (3).
وعبد السلام الأسمر الفيتوري أيضاً قد حشد كتابه بوظائف وأحزاب موضوعة ، وسماها بالحزب الكبير وحزب الخوف وحزب الفلاح ووظيفة الحضرة ، ثم قال بعد
(1) الجواهر اللماعة لعلي المرزوقي ص 54 ط مصطفى البابي الطبعة الأخيرة 1360 هـ.
(2)
الفتح الرباني فيما يحتاج إليه المريد التيجاني لمحمد بن عبد الله بن حسنين ص 65 ط مصطفى البابي الحلبي مصر.
(3)
المجالس الرفاعية لأحمد الرفاعي المجلس الثاني ص 46 وما بعد ط
…
مطبعة الإرشاد بغداد.
ذكر هذه الأحزاب:
" إخواني ، فعليكم بحفظ هذه الأحزاب وتلاوتها على الدوام إن قدرتم. إخواني ، والصواب أن تقرؤها جماعة في كل يوم بعد صلاة العصر استحباباً ، وقد جرى الأمر والعمل بذلك على أيدي المتصوفة وصالحي الأمة كالشاذلي وتلامذته وغيرهم "(1).
ولكل طائفة أذكار وأوراد مختصة بها ، ستذكر نبذة منها عند بيان الطرق الصوفية أن شاء الله في كتاب مستقل ، ونكتفي بهذا القدر من نماذج الذكر الصوفي ونعرض الجانب عن الكثير الكثير الذي هو منثور في كتبهم ومؤلفاتهم.
هذا وإن الصوفية يدّعون أحياناَ أن هذه الأذكار والأوراد والوظائف والأحزاب قد تعلّموها من عليّ رضي الله عنه كما ذكر ذلك الجعلي الفضلي عن حسن بن حسونة أنه قال:
" اختليت في باعوضة للذكر والعبادة فجاءني عليّ فلقنني الذكر "(2).
وأحياناً فيي يدّعون تلقّنها من الخضر كما يحكي شهاب الدين الشرجي اليمني عن بعضهم أنه " حصل له عطش شديد في بعض المفاوز ، قال: حتى خفت التلف ، فقعدت مستعداً للموت فغلبتني عيني وأنا جالس ، فقال قائل: قل يا لطيفاً بخلقه ، يا عليماً بخلقه! يا خبيراً بخلقه! ألطف بي يا لطيف يا عليم! يا خبير ، ثلاث مرات ، وهذه تحفة الأبد ، فإذا لحقتك ضائقة أو نزلت بك نازلة فقلها تكفي وتشفي ، فقلت: من أنت؟ قال: أنا الخضر "(3).
ونقل الهجويري عن إبراهيم بن آدم أنه قال:
" كان الحق تعالى يبعث إليّ بالرزق عند الحاجة دون عناء ، وأنفق لي في ذلك الوقت صحبة الخضر عليه السلام ، وعلمني اسم الله الأعظم "(4).
ويحكي الشعراني عن أحمد بن أبي الحواري أنه كان يقول:
" علّمني الخضر عليه السلام رقية للوجع ، فقال: إذا أصابك وجع فضع يدك على
(1) أنظر الوصية الكبرى لعبد السلام الأسمر الفيتوري ص 97 ط مكتبة النجاح طرابلس ليبيا.
(2)
كتاب الطبقات للجعلي الفضلي ص 47 ط بيروت.
(3)
الفوائد في الصلات والعوائد ص 32 ، 33 ط مصطفى البابي الحلبي مصر.
(4)
كشف المحجوب للهجويري ص 316 ، ومثله في الرسالة القشيرية ج 1 ص 55.
الموضع وقل: " وبالحق أنزلنا وبالحق نزل " ، فلم أزل أقولهما على الوجع فيذهب بساعته " (1).
والدباغ أيضاً نقل حكاية عن بعض الصوفية أنه قال:
" وبقيت عند قبر شيخي إلى الليل وأنا أبكي من حبّه ووحشة فراقه ، ثم بتّ على قبره والحال يتزايد إلى أن طلع الفجر ، فجاءني سيدنا الخضر عليه السلام فلقنني الذكر "(2).
وأحياناً يخرّفون بأنهم أخذوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم كحزب أبي الحسن الشاذلي ، الذي سماه بحزب البحر ، وكلماته " رب سهل ويسر ولا تعسر علينا يا ميسر كل عسير بحق أب ت ث ......... هـ ولا ي .... بسم الله بابنا ، تبارك حيطاننا ، يس سقفنا ، كهيعص كفايتنا ، حمعسق حمايتنا ، ستر العرش مسبول علينا إلخ "(3).
فيقولون في هذا الحزب أنه " لما اعترض الفقهاء على حزب الشاذلي المسمى بحزب البحر ، قال الشيخ:
" والله لقد أخذته من رسول الله صلى الله عليه وسلم حرفاً بحرف "(4).
وأحياناً يهذون أنهم تعلّموها من بعض الطيور كما يحكى الصفوري عن بعضهم أنه قال: " كنت أسيراً في قسطنطينية بلاد الروم فنذرت إذا خلصني الله أن أحج ماشياً فجاءني طائر إلى حائط السجن وقال اللهم إني أسألك يا من لا تراه العيون ولا تخالطه الظنون ولا تصفه الواصفون ولا تغيره الحوادث والدهور يا من يعلم مثاقيل الجبال ومكاييل البحار وما أظلم عليه الليل وأشرق عليه النهار يا من يعلم عدد قطر الأمطار وورق الأشجار ولا تواري عنه سماء سماء ولا أرض أرضاً ولا جبال ما في وعرها ولا بحار ما في قعرها أنت الذي سجد لك سواد الليل وضوء النهار ونور القمر وشعاع الشمس ودوي الماء وحفيف الأشجار وأنت الذي نجيت نوحاً من الغرق وغفرت لداود ذنبه وكشفت الضر عن أيوب ورددت موسى إلى أمه وصرفت
(1) طبقات الشعراني ج 1 ص 81.
(2)
الإبريز للدباغ ص 13 طبعة قديمة.
(3)
أنظر النفحة العلية في أوراد الشاذلية ص 12 ط مكتبة المتنبي القاهرة.
(4)
جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 2 ص 176.
عن يوسف السوء والفحشاء وأنت الذي فلقت البحر لموسى حي ن ضربه لبني إسرائيل بعصاه فكان كل فرق كالطود العظيم حتى مشى عليه موسى وشيعته وأنت الذي جعلت النار على إبراهيم برداً وسلاماً وأنت الذي صرفت قلوب سحرة فرعون إلى الإيمان بنبوة موسى يا شفيق يا رفيق يا جالي الضيق يا ركني الوثيق يا مولاي الحقيق خلصني من كل كرب وضيق ولا تحملني ما لا أطيق أنت منقذ الغرقى ومنجي الهلكى وجليس كل غريب وأنيس كل وحيد ومغيث كل مستغيث فرج عن الساعة الساعة فلا صبر لي على حلمك لا إله إلا أنت ليس كمثلك شيء وأنت على كل شيء قدير فلما دعا به في الليلة الثانية أرسل الله ملكاً فحمله إلى منزله فحج من سنته ما شياً فحدث به رجلاً فقال له من أين لك هذا الدعاء قال حفظته من طائر بقسطنطينية ببلاد الروم فقال حدثني أبي عن جدي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه دعاء الفرج " (1).
وأما كيفية تلقين الذكر فذكرها أيضاً كثير من الصوفية في كتبهم ، ننقلها عن عبد الغني الرافعي ، فيقول:
" وكيفية تلقين الذكر أن يضع الشيخ يده اليمنى في يد المريد اليمني بعد طهارة كل منهما ويجعل راحة كفه على راحته ويقبض إبهامه ويقول له غمض عينيك وأستغفر الله ثلاثاً ثم يقرأ الشيخ قوله تعالى يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحاً إلى قدير وإن الذين يبايعونك الله عظيماً وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتهم الآية ثم يطرق رأسه ويدعو سراً للمريد بنحو اللهم أعنه وأحفظه وتقبل منه وأفتح عليه باب كل خير كما فتحته على أنبيائك وأوليائك اللهم فرغنا لما خلقتنا له ولا تشغلنا بما تكفلت لنا به ولا تحرمنا ونحن نسألك ولا تعذبنا ونحن نستغفرك برحمتك يا أرحم الراحمين ثم يقول وكل منهما غاض بصره اسمع مني الذكر ثلاث مرات وقله بعدي ثلاثاً وأنا أسمع منك ثم يستأذن الشيخ بقوله دستور يا رسول الله دستور يا أهل الطريق دستور يا أستاذ الأذن لي بتلقين الذكر ويطلب بقلبه المدد من أهل السلسلة وذلك بعد أن يكون قدم قراءة الفاتحة له صلى الله عليه وسلم وفاتحة ثانية لأهل السلسلة وفاتحة ثالثة لقطب الكون والأولياء جميعاً عندما
(1) نزهة المجالس للصفوري ص 9 ط دار الكتب العلمية بيروت ومكتبة الشرق الجديد بغداد العراق.
يجلس المريد بين يديه " (1).
وأما اللغة السحرية الطلسمية التي يستعملها الصوفية في وضع الأذكار والأوراد ، فيدّعي الصوفية عنها أنها لغة الملائكة والأرواح ولغة أهل الجنة ، وبهذه اللغة فواتح سور القرآن الكريم (2).
وأما الشعراني فأدعى عن إبراهيم الدسوقي أنه كان له إلمام تام بهذه اللغة ، فكان يتكلّم بها ويكتب فيها ، نقدّم نموذجاً من هذه اللغة إلى القراء لمعرفة مدى تخريفات القوم وترهاتهم ، فينقل الشعراني عنه أنه كتب إلى بعض مريديه:
" بع السلام وإنني أحب الولد وباطني خلي من الحقد والحسد ولا بباطني شظا ولا حريق لظى ولا لوى لظى ولا جوى من مضى ولا مضض غضا ولا نكص نصاً ولا سقط نطاً ولا نطب غظاً ولا عطل حظاً ولا شنب سرى ولا سلب سباً ولا عتب فجا ولا بدع رضا ولا شطف جوا ولا عنف سرا ولا خمش خبش ولا حفس عفس ولا خفض خنس ولا حولد كنس ولا عنس كنس ولا عسعس خدس ولا جيقل خندس ولا سطاريس ولا عيطافيس ولا هطامرش ولا سطامريش ولا شوش اريش ولا ركاش قوش ولا " هلا دنوس ولا كنبا " سمطلول الروي ولا بوس عكموس ولا فنفاد أفاد ولا قداد أنكاد ولا بهداد ولا شهداد ولابد من العون وما لنا فعل إلا في الخير والنوال انتهى وكتب إلى بعض مريديه أيضاً سلام على العرائس المحشورة في ظل وابل الرحمة وبعد فإن شجرة القلوب إذا هزت فاح منها شذا يغذي الروح فينتشق من لاعنده زكم وله أنوار وعلوم مختلفة مانعة محجوبة معلومة لا معلومة معروفة لا معروفة غريبة عجيبة سهلة شظة وتفة طعم ورائحة وسم ميم محل جميل جهد راب ملوب نغط نبوط هوبط سهبط حره واغميط عمن عسب غلب عرماد علمود على عروس علماص مسرود قدقد فرصم صباع صبع صبوغ نبوب جهمل جمايد حربوعسس قنبود سماع بناغ مرنوع ختلوف كداف كروب كبنوف شعدا سعندبل ختلولف ختوف رصص ما
(1) ترصيع الجواهر المكية لعبد الغني الرافعي ص 16 ط مصر 1301 هـ.
(2)
أنظر لذلك الإبريز للدباغ ص 128 وما بعد.
من قمن قرقنبود سعي طبوطا طابرطا كما كهرحه جهدبيد نيلودات كهلودات كلوب فانهم مبرم واقرم منهم وأخبر يهدم سوس سفيوس كلافيد لا تهترعن عتبلا سعد سبح تزبد ولا تتكوكع زند حدام هدام سكهدل وقد سطرنا لك يا ولدي تحفة سنية ودرة مضية ربانية صريانية " (1).
هذا ونعود إلى موضوعنا ونقول: إن الصوفية قد أوجدوا صيغاً وألفاظاً في أورادهم ووظائفهم لم يعلّمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه ، ولم يدع واحد من السلف الصالح بتلك الكلمات والألفاظ ، وزعموا لها فضائل ومناقب ، وفضّلوها على تلاوة القرآن الكريم وعلى التسبيح والتهليل والتحميد ، وحملوا الناس على الإشتعال بترديد كلمات السحر والكهانة والتنجّم على ألسنتهم ، ثم اختلقوا لها آداباً وتجليات وأحوالاً ودرجات لم يأت بها كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يقول القشيري:
" إذا قبل المريد طريق التصوف يقول له الأستاذ:
قبلتك لأوصلك إلى طريق الله بقدر ما أعرف أني لا أبخل عليك بقدرها ما عرفته ثم يعرفه ويوصيه أن لا يسمعه من الأستاذ ويرى جميع أحواله من الله ويرى التوفيق منه ويقول له: قل: الله الله الله ثم يوصيه أن يواظب على قول هذا الذكر وأن لايشهد غيره وأن لا يفكر في غيره وإن أشغله عن هذا الذكر أمر من الأمور فطرح ذلك الأمور وإن كان موت والديه ولا يفعل من الطاعات إلا الفرائض والسنن وركعتي الضحى وبعد كل وضوء ركعتين فأما سواه من النوافل وقراءة القرآن فلا يشتغل إلا بهذا الذكر إلى أن يغيب بالذكر عن جميع ألأشياء بتوفيق الله لقوة إراداته ثم يغيب بالذكر وبين حضور الذكر ثم لا يزال يرتقي في الذكر يردد مدة طويلة بين غيبة عن الذكر بالذكر وبين حضور الذكر ثم لا يزال يرتقي في كل غيبة وحضور إلى رتبة أخرى ثم يرد ورود آخر عليه أعلى من هذا فيفنى العبد عن الذكر وعن هذه الأحوال فإذا رد إلى حال البقاء بعد هذه الغيبة يسلب عنه لسانه وسمعه وبصره إلا شهادة القلب ولا يمكنه أن يقول باللسان
(1) طبقات الشعراني ج 1 ص 167.
ويقول بالقلب نطقاً لا علماً ومشاهدة بل كما كان ينطق بلسانه قبله يذكر بقلبه حتى يرد ورود آخر عليه بعد مدة ما شاء الله أعلى من ذلك من حيث الهيبة فيبدو على العبد من الهيبة ورود يظن أنه قريب من الحق فيفنى العبد فيه ثم يتردد بين البقاء والفناء وكل مرة يرد إلى البقاء تزداد عبارات قلبه حتى ينتهي إلى أذكار يجدها مرة قلبه بألسنة مختلفة وعبارات لم يسمعها قبله ولا خطرت بباله قبله يجد ذلك " الله " في قلبه حتى يتوهم إن جملة الكون يذكر الله بعبارات مختلفة أحياناً ويصير بحيث لا يميز بين ذكره الذي يبدو قلبه وذكر الكون من غلبات الذكر عليه فليستمع جميع هذه الأذكار ثم بعده يرد ورود آخر بحيث لو ذاق هذا الورود غير من سلك هذه الطريقة على سبيل الوهلة لمات من هيبة الله سبحانه حتى يفنى هذا العبد ولا يبقى منه شيء ".
ثم يرد إلى حالة البقاء فيسلب عنه أحوال القلب من الشهادة وغيرها فيبدو له سر الغيب يبقى للعبد شيء وليس إلا الله " (1).
ويقول:
" إذا تحقق الذاكر في ذكر اللسان رجع ذكر لسانه إلى ذكر القلب فإذا ذكر القلب يرد عليه في الذكر أحوال يجد من نفسه بل يسمع من قلبه " الله " سبحانه اسماً وأذكاراً لم يسمعها قط ولا قرأها في كتاب بعبارات مختلفة والسنة متباينة لم يسمعها ملك ولا آدمي فإن لازم همته ولم يلتفت ولم يلاحظ هذه الواردات نال المريد الزيادة إلى أن ينتهي إلى ذكر السر وإن التفت إلى ما يجري عليه من هذه الأحوال ولاحظ هذه التسميات وهذه الأذكار ونظر إليها واشتغل بها فقد أساء الأدب فيعاقب في الوقت وعقوبته انقطاع المزيد عنه ثم يعاقب ثانياً إن صبر عليه بأن يرد إلى حال العلم هذه الأحوال ويرد عليه علوم حتى يظن أنه فتح عليه علوم الأولين والآخرين.
في ابتداء الذكر في الجوارح أن يجد حركة في جوارحه حتى لا يبقى عليه جزء من لحمه وعظمه إلا يجد فيه حركة واختلاجاً ثم تقوى تلك الحركات وتلك الاختلاجات.
(1) رسالة ترتيب السلوك للقشيري ص 65 - 67 من الرسائل القشيرية ط إسلام آباد ر باكستان.
حتى تصير أصواتاً وكلاماً حتى يسمع من جميع جوارحه وأجزائه أصواتاً إلا من لسانه فإن اللسان لا ينطق في هذه الأحوال والعبد ملازم لهمته لأنه يتيقن أنه لولا حظ وطلب علم هذه الأذكار نفى عنها إلى غيرها وهذا بعد أن وقع الذكر على القلب فأما في حال ذكر اللسان فيكون هذه الحركات والاختلاجات للجوارح لكن لا بهذه القوة " (1).
ثم يبيّن الخواطر والأحوال التي ترد على البعد يسمع العبد أصواتاً أحلى ما يكون ، وأحسن ما يكون حتى كأنها ألذ وأطرب وأشهى من أصوات الأوتار والمزامير والرابط ، وكل صوت حلو حسن.
ثم هذا الخاطر من الشيطان يكون بهذه الحالة ، وربما يكون أتمّ حلاوة من هذا الذي من الحق في الصورة (2).
ومن تلك الآداب " أن يستمدّ عند شروعه في الذكر بهمة شيخه بأن يشخصه بين عينيه ، ويستمدّ من همته ليكون رفيقه في السير.
ومنها أن يرى استمداده من شيخه هو استمداده حقيقة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه واسطة بينه وبينه. . .
ومنها اختيار الموضع المظلم من خلوة أو سرداب. . .
ومنها أن يخيل شخص شيخه بين عينيه ما دام ذاكراً ، وهذا عندهم ما آكد الآداب. . . وأجمعوا على أنه يجب على المريد الجهر بالذكر بقوة تامة وأن ذكر السر والهوينا لا يفيده رقياً (3).
هذا وإن الله تعالى يقول:
{وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} (4).
(1) الرسائل القشيرية ص 68 وما بعد.
(2)
يضا ص 75.
(3)
ترصيع الجواهر المكية لعبد الغني الرافعي ص 41 ، 42 أيضاً الأنوار القدسية للشعراني ج 1 ص 36 ، 37.
(4)
سورة الأعراف الآية 205.
ويروي با يزيد الأنصاري الصوفي المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
(أفضل الذكر الذكر الخفي)(1).
والشعراني يذكر من جملة آداب الذكر " محلّة في الذاكر الواعي المختار ، أما المسلوب الاختيار فهو ما يرد عليه من الأسرار ، فقد يجري على لسانه الله الله الله الله أو هو هو هو ، أو لا لا لا أو عا عا عا أو آآ آأو هـ هـ هـ أو ها ها ها أو صوت بغير حرف أو تخبيط ، وأدبه عند ذلك التسليم للوارد ، فإذا أنقضى الوارد فأدبه السكون من غير تقوّل "(2).
ومن جملتها ما ذكرها أحمد محمود زين الدين الحسيني حيث كتب:
" ويجب على الذاكر أن يستعد للذكر استعداده للصلاة ، فيجلس جلوس المتأدب المتواضع ، والمتذلل الخاشع ، جامعا حواسه ، مسبلاً عينيه كأن على رأسه الطير ، ماحياً من قلبه الغير ، متابعاً شيخه في حركاته وسكناته ، موافقاً له ولإخوانه في ذكر الجماعة ، عاملاً على مساواتهم في أصواتهم بطريقة موزونة تجمع القلوب حتى كأنهم صوت واحد ، والجهر في حقهم أنفع ، ولقولبهم أجمع ، وأشد في التأثير ، وأعظم في التذكير ، لاسيما في القلوب القاسية ، وإن من القلوب ما هو كالحجارة أو أشد قسوة ولا ينكسر إلا بالذكر القوي ، أما الكل والخواص فالأولى لهم الإسرار.
وعليه أن يعمل بكل ما يأمره به شيخه ، وليعلم أن شيخه كالطبيب فلا يقال له لم وليفهم عبارته وإشارته ، وليتمسك بعلمه وعمله وطريقته ، وليراقبه عند كل إرادة وعمل لأن شيخه يطالبه بما أمر الله وينهاه عن كل مانهاه ، فيجب عليه أن يعرض كل أموره على شيخه في القرب والبعد لألا يكون للشيطان عليه سبيل ، ولذلك قيل: من لا شيخ له فشيخه الشيطان.
وليرتبط بشيخه ارتباط الحلقة بسلسلتها حتى تبدل أو صافه بأوصافه ، وأخلاقه بأخلاقه ويفوز بالوراثة التي جازها شيخه بسر المتابعة ، وليتغلغل في مذهبه ، قال الإمام
(1) مقصود المؤمنين لبايزيد الأنصاري ص 330 ط باكستان.
(2)
الأنوار القدسية للشعراني ج 1 ص 39.
أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه من لم يتغلغل في مذهبنا مات مصراً على الكبائر وهو لم يشعر " (1).
ومنها استيذان الشيخ كما يقول الرافعي:
" لا ينبغي للمريد الذي هو تحت تربية المرشد أن يشتغل بشيء من الأوراد والأدعية إلاّ إذا أمره به أستاذه "(2).
وبمناسبة المقام ننقل هنا من الأفلاكي أنه قال:
" أنه لا يجوز الاستماع إلى كلام الإمام غير أمامه وإن كان كلاماً واضحاً "(3).
وأما الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر سابقاً فيقول:
" ومن آداب الذكر ألا يتلو ورداً إلا بإذن من شيخه ، أو يلقنه إياه ، وأن يجلس في الذكر على هيئة المتشهد ، متوضئاً مستقبل القبلة ما أمكن مغمضاً عينيه ، وألا يشغل قلبه حال الذكر إلا بالمذكور ، وأن يراقب صورة شيخه في جميع عباداته ، وأن يستمد بقلبه من شيخه وأن يلاحظ أن استمداده من شيخه هو الاستمداد من النبي صلى الله عليه وسلم ، لأن الشيخ الصادق نائب عنه.
وألا يشرب عقب الذكر مباشرة ، ولينتظر قليلاً في مكانه بعد الذكر الذكر صامتاً مستحضراً لتلقي ما يرد عليه من وارد الذكر ، وليؤد أوراده كاملة في أوقاتها وإلا حرم المدد وينبغي ألا يتقدم أحد للمريدين في بدء ذكر ولا حزب ولا ورد على من قدمه شيخهم مادام حاضراً " (4).
ويذكر القشيري في بيان آداب الذكر:
" المبتدئ في الأحوال يجب أن يسكن حواسه ولا يحرّك جزءاً منه ولا يردد طرفه ولا شيئاً ويكون مراعياً لهمته ولا يحرك البتة جزءاً من نفسه ولا من بدنه ولا من باطنه - إلى أن قال -: كنت أحياناً في بدو المجاهدة وأحوال الذكر لو استتر مني من في السماء لكان الستر عليّ أهون من أن أقوم للأكل وأتحرك للوضوء
(1) كتاب الاستبصار لأهل الأذكار لأحمد محمود زين الدين الحسيني ص 87 ، 88 ط مطبعة الأنوار القاهرة 1359 هـ.
(2)
ترصيع الجواهر المكية للرافعي ص 65.
(3)
مناقب العارفين للأفلاكي (فارسي) ج 1 ص 271 ط طهران إيران.
(4)
أبو الحسن الشاذلي للدكتور عبد الحليم محمود ص 387.
والفرض لأنه كان يغيب عن الذكر " (1).
فهذه شعبذات الذكر الصوفي ما يدّعون أن السيف لا يؤثر في الذاكر الواجد كما يقول القشيري والسهروردي:
" يبلغ العبد إلى حدّ لو ضرب وجهة بالسيف لم يشعر ".
ومن بعدهم في الذكر ما نقله الشعراني عن محمد الحنفي أنه كان يأمر أصحابه برفع الصوت بالذكر في الأسواق والشوراع. . . وكان إذا ركب يذكر الله تعالى بين يديه جماعة كطريقة مشائخ العجم ، وكان يجعل من خلفه جماعة كذلك يذكرون الله تعالى بالنوبة ، فكان الناس إذا سمعوا حسهم من المساجد أو الدور يخرجون ينظرون إليه ".
وأحياناً يذهب الصوفية للذكر إلى مساكن الحيات والعقارب كما يحكي اليافعي عن حامد الأسود أنه قال:
" كنت مع إبراهيم الخواص رضي الله تعالى عنه في سفر فجئنا إلى موضع به حيات كثيرة فوضع ركوته وجلس ، وجلست ، فلما برد الليل وبرد الهواء خرجت الحيات فصحت بالشيخ ، فقال: أذكر الله ، فذكرت فرجعت ، ثم عادت فصحت به ، فقال مثل ذلك ، فلم أزل إلى الصباح في مثل تلك الحالة ، فلما أصبحنا قام ومشى ومشيت معه ، فسقطت من وطائه حية عظيمة قد تطوقت ، فقلت: ما أحسست بها؟
قال: لا ، منذ زمان ما بتّ أطيب من البارحة.
فهذه هي طرق الذكر وكيفيات تلقينه وآدابه وشروطه وثمراته وبدعه الأخرى التي لا نجد ذكر شيء منها في كتاب الله المنزل من السماء ولا في سنة أفضل الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه ، إنها عادات وتقاليد وسنن تسرّبت من الحضارة الهندية الغريبة على الشريعة الإسلامية إلى الملّة الصوفية ، وقد تلقاها زعماء الصوفية وكبراؤها
(1) رسالة ترتيب السلوك للقشيري ص 76 ، 77.
وتغلغلوا فيها واستنّوا بها معرضين عما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، نسأل الله الرشد والهدى ونعوذ بالله من أن نضِلّ ونُضِلّ والله الهادي إلى سواء السبيل.