المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌القادرية ومن الطرق المشهورة في بلاد أفريقيا والبلدان العربية وشبه القارة - دراسات في التصوف

[إحسان إلهي ظهير]

الفصل: ‌ ‌القادرية ومن الطرق المشهورة في بلاد أفريقيا والبلدان العربية وشبه القارة

‌القادرية

ومن الطرق المشهورة في بلاد أفريقيا والبلدان العربية وشبه القارة الهندية الباكستانية ، نسبة إلى عبد القادر الجيلي أو الجيلاني " نسبة إلى جيل " وهي بلاد متفرقة وراء طبرستان ، ويقال لها أيضاً جيلان وكيلان (1).

والنسبة إليه جيلي وجيلاني وكيلاني (2).

ولد سنة 471 هـ (3).

وقيل: سنة 470 هـ (4).

في بيت أبي صالح عبد الله بن جنكي دوست ، وأمّه أم الخير فاطمة بنت الشيخ عبد الله الصومعي الزاهد حملت به هي بنت ستين سنة (5).

ويحكون عنها أنها قالت:

" لما وضعت إبني عبد القادر كان لا يرضع ثديي في نهار رمضان ، وغمّ على الناس هلال رمضان ، فأتوني وسألوني عنه فقلت: لم يلتقم اليوم ثدياً ، ثم اتضح أن ذلك اليوم كان رمضان ، واشتهر في بلدنا ذلك الوقت أنه ولد للأشراف ولد لا يرضع في نهار رمضان "(6).

ويحكون عن عمته بأنها أيضاً كانت ولية من كبار الأولياء حيث أن جيلان أجدبت مرة واستسقى أهلها فلم يسقوا ، " فأتى المشائخ إلى دار الشيخة أم محمد عائشة عمة الشيخ عبد القادر رضي الله عنه ، وسألوها الإستسقاء ، فقامت إلى رحبة بيتها وكنست الأرض وقالت:

يا رب ، أنا كنست فرشّ أنت. وقال: فلم يلبثوا أن أمطرت السماء

(1) شذرات الذهب ج 4 ص 198.

(2)

الأنساب ج 3 ص 414.

(3)

بهجة الأسرار ومعدن الأنوار لنور الدين الشنطوفي المتوفى 713 هـ ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة ، أيضاً سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي ج 20 ص 439.

(4)

الفتح المبين للسيد ظهير القادري ص 4 ط.

(5)

قلائد الجواهر في مناقب الشيخ عبد القادر لمحمد بن يحيى التادفي ص 3 ط دار الكتب العربية الكبرى البابي الحلبي.

(6)

بهجة الأسرار للشنطوفي ص 89 ، قلائد الجواهر لابن التادفي ص 3 ، الفتح المبين لظهير الدين القادري ص 5 ، الطبقات الكبرى للشعراني ص 126 ، نفحات الأنس للجامي ص 507 ، جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 2 ص 90.

ص: 265

كأفواه القرب ، ورجعوا إلى بيوتهم يخوضون في الماء " (1).

ويقولون: إن الشيخ من أولاد الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وصاحب " فوات الوفيات " ينهي نسبه إلى الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، كما هنالك اختلاف في أسماء آبائه إلى علي رضي الله عنه وعددهم.

وقد أنكر قوم انتسابه إلى الأشراف والعرب أيضاً ، ونسبوه إلى قبيلة من قبائل العجم ، وقد حرر في هذه القضية مباحث وكلام كثير ، وألّفت فيها كتب ورسائل منها " ترياق المحبين " لتقي الدين الواسطي وغيره من الكتب ، كما رفعت حول نسب الشيخ نزاعات إلى قضاء بغداد ، والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.

ويذكر الصوفية أنه قدم بغداد في الثامن عشرة من عمره " فلما دخل إلى بغداد وقف له الخضر عليه السلام ومنعه الدخول وقال له: ما معي أمر بأن تدخل إلى سبع سنين ، فأقام على الشط سبع سنين يلتقط من البقالة من المباح حتى صارت الخضرة تبين من عنقه ، ثم قام ذات ليلة فسمع الخطاب: يا عبد القادر ، أدخل بغداد ، فدخل وكانت ليلة مطيرة باردة فجاء إلى زاوية الشيخ حماد بن مسلم الدباس فقال الشيخ: أغلقوا باب الزاوية وأطفئوا الضوء ، فجلس الشيخ عبد القادر على الباب فألقى الله تعالى عليه النوم فنام فأجنب ، ثم قام فاغتسل فألقى الله تعالى عليه النوم فأجنب ، ولم يزل كذلك سبع عشرة مرة وهو يغتسل عقب كل مرة ، فلما كان عند الصبح فتح الباب فدخل الشيخ عبد القادر ، فقام إليه الشيخ حماد فاعتنقه وضمه إليه وبكى ، وقال له: يا ولدي عبد القادر ، الدولة اليوم لنا ، وغداً لك ، فإذا وليت فاعدل بهذه الشيبة "(2).

وأما النبهاني فقال: " إنه احتلم في ليلته تلك أربعين مرة "(3).

وقال صاحب " الفتح المبين ": سبعين مرة (4).

(1) بهجة الأسرار ص 89.

(2)

قلائد الجواهر لإبن التادفي ص 3.

(3)

جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 2 ص 90 ، أيضاً طبقات الشعراني ج 1 ص 128.

(4)

الفتح المبين لظهير الدين القادري ص 8.

ص: 266

ويعلم الأذكياء ما الذي يدل عليه هذا الإختلاف.

وبدأ يدرس في بغداد " وقصد الأشياخ الأئمة أعلام الهدى وعلماء الأمة ، فاشتغل بالقرآن العظيم حتى أتقنه وعم بدرايته سرّه وعلنه ، وتفقه على أبي الواء بن عقيل. . . وسمع الحديث من جماعة ، منهم: أبو غالب محمد بن الحسن الباقلاني. . . وقرأ الأدب على أبي زكريا التبريزي ، وصحب الشيخ العارف قدوة المحققين ، أبا الخير حماد بن مسلم الدباغ ، وأخذ عنه علم الطريقة وتأدب به ، وأخذ الخرقة الشريفة من يد القاضي أبي سعد المبارك المخزومي "(1).

" وكان شافعي المذهب ، فرأى الإمام أحمد بن حنبل يقول له:

أدرك المذهب يا عبد القادر ، وكان المذهب الحنبلي قد ضعف في العراق ، وكاد يمحى ، فانبرى إلى الاشتغال به تعليماً وتأليفاً حتى صار إمام الحنابلة " (2).

" ثم تصدر للتدريس والفتوى في مدرسة أستاذه أبي سعد المخزومي "(3).

ثم جلس للوعظ سنة 521 هـ (4).

ويذكر ظهير الدين القادري عن عبد الرزاق وعبد الوهاب وغيرهما أنهم قالوا:

" سمعنا الشيخ عبد القادر يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الظهر من يوم الثلاثاء السادس عشر من شوال سنة إحدى وعشرين وخمسمائة ، فقال: يا بني لم لا تتكلم؟

فقلت: يا أبتاه أنا رجل أعجمي كيف أتكلّم على فصحاء بغداد ، فقال: افتح فاك ، ففتحته فتفل فيه سبعاً ثم قال لي: تكلّم على الناس وادع في سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ، فصليت الظهر وجلست وحضرني خلق كثير ، فارتجّ عليّ فرأيت علي بن طالب كرّم الله وجهه قائماً بإزائي في المجلس فقال له: يا بنيّ لا تتكلّم.

(1) بهجة الأسرار للشطنوفي ص 106.

(2)

دائرة المعارف للبستاني مقال الشيخ محمد رشيد رضا ج 11 ص 622.

(3)

بهجة الأسرار ص 106.

(4)

دائرة المعارف الإسلامية مقال براؤن ج 12 ص 925 ط باكستان.

ص: 267

قلت: يا أبتاه قد أرتجّ عليّ فقال: افتح فاك ففتحته فتفل فيه ستاً ، فقلت له: لم لا تكملها سبعاً؟

فقال: أدباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم توارى عني ، فقلت: غواص الفكر يغوص في بحر القلب على دور المعارف فيستخرجها على ساحل الصدر فينادي عليها سمسار ترجمان اللسان فتشتري بنفائس أثمان الطاعة في بيوت أذن الله أن ترفع ، قالوا: فهذا أول كلام تكلّم به على الناس على الكرسي رضي الله عنه " (1).

ويقول الشعراني وغيره:

" وكان يلبس لباس العلماء ويتطيلس ، ويركب البغل ، وترفع الغاشية على يديه ، ويتكلم على كرسيّ عال ، وربما خطى في الهواء خطوات على رؤوس الناس ثم يرجع إلى الكرسي "(2).

ويقولون: كان يحضر مجالسه خلق كثير ، وربما حضر المجلس نحو من سبعين ألفاً (3).

حتى الأولياء والملائكة كما نقلوا أنه إذا صعد الكرسي فقال: الحمد لله أنصت له كل وليّ في الأرض سواء كان حاضراً بمجلسه أو غائباً عنه ، وكذلك يكررها ويسكت بعدها.

وإن الأولياء والملائكة ليزدحمون في مجلسه ، وإن الرحمة لتصبّ على حاضريه صبّا " (4).

والخضر أيضاً كما رووا:

" وكان الشيخ يتكلّم يوماً على الناس ، فخطا في الهواء خطوات ، وقال: يا إسرائيلي قف ، فاسمع كلام المحمدي ، ثم رجع إلى مكانه فقيل له في ذلك ، فقال: مرّ أبو العباس

(1) أنظر الفتح المبين ص 101 ، أيضاً قلائد الجواهر ص 13 ، أيضاً بهجة الأسرار ص 26.

(2)

الطبقات الكبرى للشعراني ج1 ص 126 ، قلائد الجواهر ص 13.

(3)

قلائد الجواهر لابن التادفي ص 13.

(4)

أخبار الأخيار لعبد الحق الدهلوي ص 38 ترجمة أردية من الفارسية ط كراتشي باكستان.

ص: 268

الخضر عليه السلام فخطوت إليه وقلت له ماسمعتم ، فوقف " (1).

وليس الخضر والملائكة فحسب ، بل ورسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك - عياذاً بالله - كما ذكر ذلك الشطنوفي عن أبي سعيد القيلوي أنه قال:

" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء صلوات الله عليهم في مجلس الشيخ عبد القادر غير مرة. . . وأن أرواح الأنبياء لتجول في السموات والأرض جولان الرياح في الأفاق ، ورأيت الملائكة عليهم السلام يحضرونه طوائف بعد طوائف ، ورأيت رجال الغيب والجان يتسابقون إلى مجلسه ، ورأيت أبا العباس الخضر يكثر من حضوره ، فسألته ، فقال: من أراد الفلاح فعليه بملازمة هذا المجلس "(2).

وفي مثل هذه المجالس قال مرة:

" قدمي هذه على رقبة كل وليّ لله ، فقام الجميع وأخذوا قدم الشيخ وجعلوها على أعناقهم ، ومدّ عنقه من كان غائباً "(3).

ويقول اليافعي:

" لم يبقى أحد من الأولياء في ذلك الوقت من الحاضرين والغائبين في جميع أقطار الأرض إلا حنا له رقبته إلا رجل بأصبهان فإنه لم يفعل ، فسلب حاله.

وروي أن الشيخ أبا لنجيب السهروردي رضي الله عنه طأطأ رأسه حتى كاد يبلغ الأرض ، وقال: على رأسي ، على رأسي ، على رأسي ، قالها ثلاثاً.

ومن جملة من حنا له رقبته من الغائبين الكبار المشهورين الشيخ أبو مدين والشيخ عبد الرحيم القناوي ، والشيخ أحمد بن أبي الحسين الرفاعي رضي الله عنهم.

فأما سيدي أحمد فرووا عنه أنه كان جالساً يوماً برواقه بأم عبيدة ، فمدّ عنقه وقال: على رقبتي ، فسئل عن ذلك ، فقال: قد قال الشيخ عبد القادر الآن ببغداد: قدمي على رقبة كل وليّ لله.

(1) قلائد الجواهر ص 13.

(2)

بهجة الأسرار ص 95.

(3)

بهجة الأسرار ص 3 وما بعد ، الفتح المبين ص 106 وما بعد ، قلائد الجواهر ص 22 نشر المحاسن ص 132 وغيرها.

ص: 269

وأما الشيخ أبو مدين فرووا أنه حنا رأسه يوماً وهو بين أصحابه وقال: أنا منهم ، اللهم إني أشهدك وأشهد ملائكتك بأني سمعت وأطعت ، فسأله أصحابه عن ذلك ، فقال: قد قال الشيخ عبد القادر الآن ببغداد: قدمي هذه على رقبة كل وليّ لله ، فأرّخوا ذلك وهم في المغرب ، ثم جاء المسافرون من العراق فأخبروا أن الشيخ عبد القادر قال ذلك في ذلك الوقت الذي أرخوه.

وأما الشيخ عبد الرحيم فرووا عنه أنه مدّ عنقه يوماً بقناء وقال: صدق الصادق الصدوق ، فقيل له: من هو؟

فقال: الشيخ عبد القادر قال: قدمي هذه على رقبة كل وليّ لله ، وتواضع له رجال المشرق والمغرب ، فأرّخوا ذلك الوقت ، ثم جاء الخبر بذلك في ذلك الوقت " (1).

وروى عن شيخه أبي محمد القاسم أنه قال:

" لما أمر الشيخ أن يقول: قدمي هذه على رقبة كل وليّ لله رأيت الأولياء بالمشرق والمغرب واضعين رؤوسهم تواضعاً إلا رجلاً بأرض العجم فإنه لم يفعل ، فتوارى عنه حاله "(2).

ويقول ظهير الدين القادري: أسمه الشيخ صنعان ، وكان سبب كبره وعدم تواضعه أمام قول الشيخ الجيلاني ابتلي بعشق بنت تصرانية ، ورعى الخنازير لها ، حتى أنه رأى يوماً في المنام أن الخنزير وضع قدمه على عنقه فاستيقظ فرأى الخنزير يدوس رقبة بقدمه ، فسمع صوتاً: ما رضيت بقدم محي الدين على رقبتك ، فصارت موطأ لما هو نجس العين ، فتاب واستغفر " (3).

هذا وإن السهروردي قال: " إن قوله هذا من شطحات الشيوخ التي لا يقتدي بهم فيها "(4).

(1) نشر المحاسن الغالية في فضل مشائخ الصوفية لأبي عبد الله اليافعي ج 2 ص 133 ، 134 بهامش جامع كرامات الأولياء للنبهاني ط دار صادر بيروت.

(2)

نشر المحاسن الغالية لليافعي ص 134.

(3)

الفتح المبين للقادري ص 107.

(4)

أنظر الفتح المبين ص 107.

ص: 270

وكان يقول:

" كانت ترد عليّ الأثقال الكثيرة لو وضعت على الجبال تفسخت ، فإذا كثرت عليّ وضعت جنبي على الأرض وقلت: فإن مع العسر يسرا إن مع العسر يسرا ، ثم أرفع رأسي وقد انفرجت عني تلك الأثقال ، قال: وقال لي: كنت أشتغل بالفقه على المشايخ وأخرج الصحراء ولا آوى بغداد وأجلس في الخراب بالليل والنهار ، وكنت ألبس جبة صوف وعلى رأسي خريقة ، وكنت أمشي حافياً في الشوك وغيره وأقتات بخرنوب الشوك وقمامة البقل وورق الخس من جانب النهر والشط ، وما هالني شيء إلا سلكته ، وكنت آخذ نفسي بالمجاهدة حتى طرقني من الله عز وجل طارق وكان يطرقني بالليل والنهار.

وآتى الصحراء فأصرخ وأهج على وجهي ، وما كنت أعرف إلا بالتخارس والجنون وحملت إلى البيمارستان ، وطرقتني الأحوال حتى متّ ، وجاءوا بالكفن والغاسل وجعلوني على المغتسل ليغسلوني ثم سرى عني " (1).

وكذلك " أقمت في صحراء العراق وخرائبه خمساً وعشرين سنة مجرداً سائحاً لا أعرف الخلق ولا يعرفونني ، يأتيني طوائف من رجال الغيب والجان ، أعلّمهم الطريق إلى الله عز وجل "(2).

ويقولون: أنه بلغ درجة الولاية وهو ابن عشر سنين كم نقلوا عنه ذلك أنه سئل:

متى علمت أنك ولي لله تعالى؟

قال: كنت وأنا ابن عشر سنين في بلدنا أخرج من داري وأذهب إلى المكتب فأرى الملائكة عليهم السلام تمشي حولي ، فإذا وصلت إلى المكتب سمعت الملائكة يقولون:

أفسحوا الطريق لولي الله حتى يجلس " (3).

(1) قلائد الجواهر ص 10 واللفظ له ، أخبار الأخيار لعبد الحق الدهلوي ص طبقات الشعراني ج 1 ص 126 بهجة الأسرار ص 85.

(2)

الطبقات الكبرى للشعراني ج 1 ص 128 ، قلائد الجواهر ص 10 ، أخبار الأخيار للدهلوي ص 36.

(3)

قلائد الجواهر ص 9 ، أخبار الأخيار لعبد الحق الدهلوي ص 43.

ص: 271

ولما كبر قال:

" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ببغداد وأنا على الكرسي وهو صلى الله عليه وسلم راكب وموسى عليه السلام إلى جانبه ، فقال: يا موسى ، أفي أمتك رجل هكذا؟

قال: لا ، فقال لي: يا عبد القادر وهو في الهواء فعانقني وألبسني خلعة كانت عليه ، وقال: هذه خلعة القطبية على الرجال والأبدال ، ثم تفل في فمي ثلاثاً وردّني إلى المنبر ، فترنمت هذه الأبيات:

سأشربها في كل دير وبيعه

وأظهر للعشاق ديني ومذهبي

وأضرب فوق السطح بالدف جلوة

لكاساتها لا في الزوايات مختبي " (1).

وأما معرفته بعلم الغيب وما يختلج في الصدور فروايات وروايات ، وحكايات وحكايات ، وكتب القوم مليئة منها ، وواحدة من ذلك البحر الخضم هي:

" لما أشتهر أمره في الآفاق اجتمع مائة فقيه من أذكياء بغداد يمتحنونه في العلم ، فجمع كل واحد له مسائل وجاء إليه ، فلما استقر بهم المجلس أطرق الشيخ فظهرت من صدره بارقة من نور فمرت على صدور المائة فمحت ما في قلوبهم فبهتوا واضطربوا وصاحوا صيحة واحدة ومزّقوا ثيابهم وكشفوا رؤوسهم ، ثم صعد الكرسي وأجاب الجميع عما كان عندهم ، فاعترفوا بفضله "(2).

وأخرى ما ذكره الشنطوفي عن محمد بن سهل أنه قال:

" حضرت مجلس الشيخ عبد القادر رضي الله عنه في سنة تسع وعشرين وخمسمائة وكنت في أخيريات الناس ، وكان يتكلم في الزهد ، قلت في نفسي: أريد أن يتكلم في المعرفة فقطع كلامه من الزهد وتكلم في المعرفة كلاماً ما سمعت مثله ، فقلت في نفسي: أريد أن يتكلم في علم الغيبة والحضور فقطع كلامه من المعرفة وتكلم في الغيبة والحضور كلاماً ما سمعت مثله ، فقلت في نفسي: أريد أن يتكلم في الشوق فقطع كلامه من الغيبة والحضور وتكلم كلاماً في الشوق ما سمعت مثله ، فقلت في نفسي: أريد أن يتكلم في

(1) قلائد ص 22.

(2)

الطبقات الكبرى للشعراني ج 1 ص 127 ، بهجة الأسرار ص 96 ، جامع كرامات الأولياء للنبهاني 2/ 90.

ص: 272

الفناء والبقاء فتكلم في الفناء والبقاء كلاماً ما سمعت مثله ، ثم قال: حسبك يا أبا الحسن ، فلم أتمالك أن مزقت ثيابي " (1).

وأما تصرفه حياً وميتاً ، وملكه المغفرة لمريديه فذكر كل من الشنطوفي وابن التادفي وعبد الحق الدهلوي وغيرهم من المتصوفة أنه: ضمن لمريديه إلى يوم القيامة أن لا يموت أحد منهم إلاّ على توبة ، وأعطى أن مريديه ومريدي مريديه إلى سبعة يدخلون الجنة.

وقال: أنا كافل لمريد المريد إلى سبعة كل أموره ، ولو انكشفت عورة مريدي بالمشرق وأنا بالمغرب لسترتها ، وأمرنا من حيث الحال والقدر أن نحفظ بهممنا (أي بقدراتنا) أصحابنا.

وطوبى لمن رآني ورأى من رآني ، ورأى من رأى من رآني ، وأنا حسرة على من لم يرني " (2).

وقال: أعطيت سجلاً مدّ البصر فيه أسماء أصحابي ومريدي إلى يوم القيامة ، وقيل لي: قد وهبوا لك ، وسألت مالكاً خازن النار: هل عندك من أصحابي أحد؟

فقال: لا وعزة ربي وجلاله ، إن يدي على مريدي كالسماء على الأرض أن لم يكن مريدي جيداً فأنا جيد.

وعزة ربي وجلاله ، لا برحت قدماي من بين يدي ربي حتى ينطلق بي وبكم إلى الجنة " (3).

وذكر الشعراني وغيره أنه كان يقول:

" أيما امرئ مسلم عبر على باب مدرستي خفف الله عنه العذاب إلى يوم القيامة.

وكان رجل يصرخ في قبره ويصيح حتى آذى الناس فأخبروه به ، فقال: أنه رآني مرة ولا بدّ أن الله تعالى يرحمه لأجل ذلك.

فمن ذلك الوقت ما سمع له أحد صراخاً " (4).

(1) بهجة الأسرار ص 94.

(2)

بهجة الأسرار ص 99 ، قلائد الجواهر ص 15 ، أخبار الأخيار.

(3)

بهجة الأسرار ص 100.

(4)

طبقات الشعراني ج 1 ص 126 ، بهجة الأسرار ص 101 ، قلائد الجواهر ص 15.

ص: 273

وكان يقول:

" عثر الحلاج فلم يكن في زمانه من يأخذ بيده ، ولو كنت في زمنه لأخذته بيده ، وأنا لكل من عثر مركوبة من أصحابي ومريدي ومحيي إلى يوم القيامة ، آخذ بيده. . . هذا فرسي مسرج ، وسيفي شاهر ، ورمحي منصوب وقوسي موتد ، أحفظك وأنت غافل "(1).

وكان يقول:

" من استغاث بي في كربة كشفت عنه.

ومن ناداني باسمي في شدة فرجت عنه.

ومن توسل بي حاجة قضيت له.

ومن صلى ركعتين يقرأ في كل ركعة بعد الفاتحة سورة الإخلاص إحدى عشرة مرة ثم يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد السلام ويسلم عليه ويذكرني ، ثم يخطو إلى جهة العراق إحدى عشرة خطوة ويذكر اسمي ويذكر حاجته فإنها تقضي بإذن الله " (2).

هذا وإن الصوفية رووا عنه أنه:

قيل له: إننا مثل ما تصوم ، ونصلي مثل ما تصلي ، ونجتهد مثل ما تجتهد ، وما نرى من أحوالك شيئاً؟

فقال رضي الله عنه: زاحمتمونا في الأعمال ، أتزاحمونا في المواهب؟

والله ما أكلت حتى قيل لي: بحقي عليك كل ، ولا شربت حتى قيل لي: بحقي عليك أشرب ، وما فعلت شيئاً حتى أمرت بفعله.

إلى أن قال فيها أيضاً: وقال رضي الله عنه: رأيت في المنام كأني في حجر عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وأنا أرضع ثديها الأيمن ، ثم أخرجت لي ثديها الأيسر فرضعته - عياذاً بالله على نقل هذه الإهانة - فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال: يا عائشة ، هذا ولدنا حقاً " (3).

فهؤلاء القادرية أحياناً أتصفو بصفات الرب جلّ وعلا ، وأحياناً جعلوه نبياً لا

(1) قلائد الجواهر ص 17 ، بهجة الأسرار ص 102.

(2)

بهجة الأسرار ص 102.

(3)

الفتح المبين لظهير الدين القادري ص 40.

ص: 274

يفعل شيئاً إلا إذا أمر ، وأحياناً ذكروا عنه وقائع ، ونسبوا إليه مناقب وفضائل فيها إهانة للنبي الطاهر المطهر وأهله صلوات الله وسلامه عليه.

ثم وإنهم قالوا: قال الشيخ أبو سلمان داود المنبجي: " كنت يوماً عند الشيخ عقيل المنبجي رضي الله عنه ، فقيل له: قد أشتهر ببغداد شاب أعجمي شريف أسمه عبد القادر فقال الشيخ عقيل: وإن أمره في السماء أشهر منه في الأرض "(1).

وأما كراماته التي يروي عنه المتصوفة فإنها لا تعدّ ولا تحصى ، فإنها تنبئ وتخبر بأن جميع اختيارات الرب وقدراته بيده ، إن لم يزد عليها فلم ينقص عنها.

وهذه بعض المختطفات منها " أنه توضأ يوماً فبال عليه عصفور فرفع رأسه إليه فإذا هو ميت "(2).

وأكثر منها أنه مرّ على مجلسه حدأة فصاحت ، فشوّشت على الحاضرين ، فقال: يا ريح ، خذي رأس هذه الحدأة فوقعت لوقتها في ناحية ورأسها في ناحية ، فنزل الشيخ عن الكرسي وأخذها بيده وأمرّ يده الأخرى وقال: بسم الله الرحمن الرحيم ، فحييت وطارت " (3).

ومثل هذه كثيرة جداً نقلنا بعضاً منها في باب " أولياء أم آلهة ".

وقد نسبت إليه كذلك منظومات تدلّ على أن الجيلاني كان يقدّم نفسه كإله مالك الاختيارات والقدرات.

وعن تلك المنظومات قال المستشرق براؤن: إن الأشعار التي نسبت إلى الشيخ عبد القادر تدلّ إليه ، يبدو أنها ليست من كلامه " (4).

وقال العلامة رشيد رضا: بنقل عن الشيخ الجيلاني من الكرامات من الكرامات وخوارق العادات ما لم ينقل عن غيره أو النقاد من أهل الرواية لا يحفلون بهذه النقول إذ لا أسانيد لها يحتج بها (دائرة المعارف ج 11 ص 623)(5).

(1) الطبقات الكبرى للشعراني ج 1 ص 127 ، أيضاً الفتح المبين ص 21 ، جامع كرامات الأولياء.

(2)

جامع كرامات الأولياء للنبهاني 2/ 11.

(3)

جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 2 ص 91.

(4)

دائرة المعارف الإسلامية ملخصاً مقال المستشرق براؤن عن الشيخ عبد القادر الجيلاني.

(5)

دائرة المعارف ج 11 ص 623.

ص: 275

وما أحسن ما قاله الإمام الذهبي في الشيخ عبد القادر الجيلاني.

" ليس في كبار المشايخ من له أحوال وكرامات أكثركم الشيخ عبد القادر لكن كثيراً منها لا يصح ، وفي بعض ذلك أشياء مستحيلة. . . وفي الجملة الشيخ عبد القادر كبير الشأن وعليه مآخذ في بعض أقواله ودعاويه والله الموعد ، وبعض ذلك مكذوب عليه "(1).

وما قاله الذهبي نقل مثله عن شيخ الإسلام ابن تيمية أيضاً ، وهو صحيح ، لا يظن أن مثل الشيخ عبد القادر الجيلي يتكلم بمثل ما نقلوا عنه ورووه ولا يقول بمثل ما حكوا عنه والله اعلم.

وعلى كل فإن الشيخ توفي بعد عمر طويل ناهزت تسعين سنة 561 هـ ، ودفن ببغداد في مدرسته.

وهناك أوراد ووظائف ينقلونها عن الشيخ وعن خلفائه تسمى بأذكار القادرية وأورادها. وسنده في التصوف والخرقة إلى الحسن البصري حسب ما يزعمون ، وأنه لبس الخرقة من الحسن رضي الله عنه مع أن لقاء الحسن البصري لم يثبت في القول الصحيح فهؤلاء هم القادرية وعقائدهم.

وبقيت هناك قضية كنا وعدنا بذكرها في ترجمة الجيلي ، وهو علاقة الجيلي مع متصوفة عصره وزمانه ، وعلى رأسهم معاصرة المشهور أبو العباس أحمد الرفاعي الذي ينازعه في الولاية والقطبية والغوثية وعلى رئاسة متصوفة ذلك الزمان.

فإن الرفاعية يقولون: إن الشيخ عبد القادر الجيلاني كان تحت رعاية وسيادة الرفاعي.

والقادرية يدّعون أن الأمر معكوس ، وإن الرفاعي هو الذي كان تابعاً للجيلاني ، والجيلاني كان متبوعاً ، ثم يختلق كل واحد من هذه الطوائف روايات وحكايات فزّوره مكذوبة لترجيح وتفضيل سيدهم على الآخر.

فالرفاعية يحكون عن حسن النقيب أنه قال:

" حضرنا في مجلس الشيخ الكبير السيد أحمد مع جماعة من المشائخ الكبار ذوي القدر والافتخار أصحاب الكرامات والأسرار

(1) سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي ج 20 ص 450 ، 451.

ص: 276

منهم سيدي بنائن بطو ومنهم سيدي حماد الدباس ومنهم سيدي أبو سعيد الخراز علي المخزومي ومنهم سيدي أحمد بن تاج الدين أبو الوفا. ومنهم سيدي عبد الرزاق الواسطي. ومنهم منصور بن الحسين الواسطي. ومنهم عقيل المنجي. ومنهم سيدي حباب بن قيس الحراني. ومنهم سيدي عبد القادر الكيلاني. ومنهم سيدي أحمد الأزرق. ومنهم سيدي محمد بن عبدو. ومنهم سيدي عدي بن مسافر الشامي. وغيرهم من بقية الأولياء العظام. وهم ببلاد الشط على شاطئ الفرات يتحادثون في علوم وأسرار عجيبة وأحوال غريبة أطلعهم الله تعالى عليها. فبينما هم كذلك إذ قام من الله بصدق الكلام والسعادة. ما منا إلا ومن هو تحدثه نفسه بأنه شيخ الشيوخ وسلطان العارفين وهذه دعوة لا دليل لها إلا ببرهان قوي مبين. فأطرق الحاضرون رؤوسهم ولم يرد أحد جوابه فعاد القول ثانياً وثالثاً فالتفت إليه الشيخ الكبير السيد أحمد بن أبي الحسن الرفاعي وقال حشرت مع فرعون وهامان وقارون إن خطر ببالي إنني شيخ على أحد من خلق الله تعالى مطلقاً إلا أن يتغمدني الله برحمته فأكون كأحد المؤمنين لكن أي سادة انظروا إلى أمامكم من ذلك الشاطئ ماذا ترون. فقالوا أي سيدنا نرى شجرة كبيرة ممتدة الأغصان طويلة الأفنان فقال لهم أي سادة من كان منكم يريد مشيخة الشيوخ إليه فيدعوها بأن تأتي إليه إلى هذا الجانب فنقوم كلنا نبايعه ونكون في خدمته ونرعى حق حرمته فلما سمعوا كلامه قاموا كلهم ودعوها واحد بعد واحد فلم تتحرك بحركة. فلم قام قطب الوجود سيدي تاج العارفين أبو الوفا ودعاها تمايلت وأضطربت اضطرابا شديداً حتى كادت أن تنكسر ولم تنم من مقامها. فقام قطب السادات السيد عبد القادر الكيلاني ودعاها فقامت من مكانها وسعت إلى عند كنار البحر ووقفت هناك فلما جاءت نوبة الشيخ الكبير السيد أحمد جاؤوا إليه وقالوا له نريد نوبتك أي سيدي. فقال لهم ومن هو حميد اللاش حتى يكون له نوبة. فقالوا نقسم عليك بالعزيز سبحانه أن نقوم في نوبتك وندعوها حتى نرى مقام عزتك فقال لهم: أي سادة أقسمتم عليّ بعزيز لا يمكنني المخالفة. وقام قائماً على قدميه وقال أي خلق الله

ص: 277

أقسم عليك بالعزيز سبحانه إلا ما أجبت دعوتي. وأتيتني طائعة مقرة بما ألهمك الله تعالى به. فشقت الأرض والبحر وأتت طائعة مقرة شاهدة بلسان عربي فصيح قائلة أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد إن محمداً رسول الله وإنك شيخ الشيوخ على الإطلاق وشيخ أهل الأرض والسماء بالوفاق فلما شاهدوا من كراماته ما شاهدوه عياناً قاموا على أقدامهم وكشفوا رؤوسهم وبايعوه أن يكون شيخاً عليهم وعلى كل من يلوذ بهم. هو وذريته إلى يوم القيامة " (1).

والقادرية يروون أنه لما قال الجيلاني في بغداد " رقبتي هذه على كل ولي ّلله طأطأت رؤوسها له ، ونقل أن السيد أحمد الرفاعي كان آنذاك في بلدته أم عبيدة: وعلى رقبتي أيضاً (2).

وقد مر بعض تفصيله فيما سبق.

وأيضاً " قال نقيب الأولياء أبو العباس الخضر ومثله ممن أطلعه الله على مقامات الأولياء كلهم ما هو نص في عموم فضله وشرفه على المتقدمين والمتأخرين (3).

وروى ابن الملقن ما يؤيّد القادرية ، عند ذكر الرفاعي حيث نقل عن أبي العباس الخضر بن عبد الله الحسني الموصلي أنه قال:

" كنت يوماً جالساً بين يدي الشيخ عبد القادر الجيلاني ، فخطر في نفسي زيارة الشيخ أحمد ، فقال الشيخ: أتحب رؤيته؟

فقلت: نعم ، فأطرق وقال: حضر ، فقمت إليه وسلمت عليه ، فقال: يا خضر! ومن يرى مثل الشيخ عبد القادر سيد الأولياء يتمنى رؤية مثلي؟ وهل أنا إلا من رعيته! ثم غاب ، فبعد وفاة الشيخ زرته ، فقال لي: يا خضر! ألم تكفك الأولى " (4).

(1) قلادة الجواهر في ذكر الغوث الرفاعي وأتباعه الأكابر محمد أبي الهدى الرفاعي ص 91 ، 92.

(2)

أنظر الفتح المبين ، قلائد الجواهر ، بهجة الأسرار ونشر المحاسن الغالية. وغيرها من الكتب ، وقد مرّ ذكر أرقام الصفحات فيما سبق.

(3)

الفتح المبين لظهير الدين القادري ص 111.

(4)

طبقات الأولياء لإبن الملقن ص 100.

ص: 278