المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثالثالتصوف مؤامرة ضد الإسلام - دراسات في التصوف

[إحسان إلهي ظهير]

الفصل: ‌الباب الثالثالتصوف مؤامرة ضد الإسلام

‌الباب الثالث

التصوف مؤامرة ضد الإسلام

إن التصوف ليس عبارة عن الغلو والمغالاة والتطرف في الدين فحسب ، بل هو مؤامرة حيكت وأحكم نسيجها ضد الإسلام والمسلمين ، وشارك في تخطيطها وتشكيلها وبث سمومها ونشر أنفاثها خليط من الناس وعديد من الفئات لأغراضهم وأهدافهم ، وقد ذكرنا هؤلاء الناس وأولئك الفئات في كتابنا ((التصوف .. المنشأ والمصادر)) عند ذكر مراجع التصوف ومصادره ، منشئه ومنشئيه (1).

أما الأغراض والأهداف فنذكرها هنا في هذا الباب وما بعده من الأبواب.

فكان من أهم تلك الأهداف لأولئك الناس والجماعات إبعاد المسلمين عن الإسلام الحقيقي وتعاليمه الصافية النقية المعتدلة وباسم الإسلام ، وترويج العقائد اليهودية والمسيحية ، والمذاهب الهندية والفارسية ، كالبوذية والهندوكية والزرادشتية والمانوية الأفلاطونية الحديثة ، وغيرها من التيارات التي ليس لها أية صلة بالإسلام وبتعاليم الشريعة الحنيفية السمحاء الغراء لقتل روح الجهاد وفكرة إعلاء كلمة الله وأن يكون الدين كله لله ، وتبليغ رسالات الله وأدائها إلى الأمم والملل كافة في أنحاء المعمورة كلها.

وأيضا تمكين الذل والاستكانة والهوان وإفشاء الجهل والكسل والخمول بينهم ، وإزاحتهم عن الحكم والسلطة والاختيار ، ولم يتمكنوا من هذا كله ، ولم ينجحوا في مهمتهم إلا بوضع الأسس والقواعد المختلفة عن قواعد الإسلام وأسسه وأصوله لأنه بدون ذلك لم يكن يرجى فصلهم وقطعهم عن إرشاداته وتوجيهاته كلية ، بل كان يتوقع الجوع إلى حظيرته بالرجوع إلى منابعه الأصلية ومصادره الحقيقية ، ففرقوهم عن الجمع ، وأبعدوهم عن الجماعات بوضع الأصول المنافية لأصول الجماعة وأسسها ، فجماعة المسلمين كان مذهبهم ومسلكهم مبنيّا على الإسلام المعبر عنه بالقرآن والسنة ، ومذهب القوم ومشربهم مبني على التصوف المعبر عنه بالكشف والإلهام ، ليس

(1) ومن أراد التثبت والتفصيل فليرجع إلى ذلك.

ص: 126

لشخص مخصوص ولا لرجل معين ، بل لكلِّ كشفه وإلهامه ، والكل منهم نبي صغير ، وله شرعته ومنهاجه ، وارتقى البعض إلى الإلوهية والربوبية كما سنبين كل ذلك بالدليل والبرهان ، وبوضع النقاط على الحروف ، فسوغوا شرائع جديدة ومذاهب بديعة ، ومسالك طريفة ، ومشارب غريبة ، ثم دونت هذه الشرائع وهذه المذاهب والمسالك والمشارب ، وسكبت في قوالب مختلفة ، وسميت بسلاسل وطرق في عرف التصوف.

فاخترع أهل كل سلسة قرآنًا لها بصورة مواجيد وترانيم ، وقصائد وأناشيد وأوراد عجيبة ، وأذكار مختلفة غريبة ، وجعلوا السنة أحاديث المشايخ وقصصهم والأساطير المضحكة والحكايات المبكية ، كما جعلوا صلواتهم الرقص والوجد وتحريك الرأس وتدويره آليًّا ، وحجهم زيارة المشاهد والقبور والطواف حولها ، وأكل ترابها والتمسح بجدرانها ، وجعلوا صومهم ترك الطيبات ، وتحريم ما أحل الله ، والتجوع المحض طيلة شهور وأعوام ، واعتكافهم الأنزواء في الخانقاهات والتكايا والربط والزوايا ، والدخول في سراديب الأرض وكهوف الجبال وغيرانها ، والسياحة التيه في الصحاري والبراري والقفار والمقابر ، كما عكسوا مفهوم الزكاة وقلبوه ، فجعلوها التسول والاستجداء والاسترزاق والاستعطاف ، وجعلوا اليد السفلى خيرًا من اليد العليا ، فأعرضوا عن العلم والعلماء ، ولقنوا مريديهم ومن وقع في فخهم وحبائلهم بالاجتناب والإعراض عنه وعنهم كيلا يهرب صيدهم وينجو فريستهم من مخالب هؤلاء وأشواكهم بنور العلم وبصحبة العلماء ، ولا يوجد في كتب الأولين منهم والآخرين ، القديمين منهم والحديثين مخالفة أكثر من مخالفة العلم وأهله ، وهذه وحدها كافية لمعرفة حقيقة التصوف والمتصوفة ، فقالوا:

" العلم حجاب الله الأكبر "(1).

وفسره كبير مشايخ الصوفية في الهند نظام الدين الدهلوي المتوفى 725هـ بقوله:

" إن العلم دون الحق ، وكل ما هو دونه فهو يحجب عنه "(2).

(1)((سيرة الأقطاب والأولياء)) لمحمود بن المبارك علوي كرماني ص516 ط لاهور.

(2)

انظر ((سير الأولياء في أحوال ملفوظات مشايخ جشت)) بالفارسية لمحمد بن مبارك العلي الكرماني المتوفى 770هـ ط مركز تحقيقات فارسي إيران وباكستان لاهور ، أيضا ((تذكرة أولياء باك وهند)) أردو للدكتور ظهور الحسن شارب ص 84 ط لاهور باكستان.

ص: 127

ومن تخريفات النفري أنه قال: " أوقفني الله في مقام الوقفة ، وقال لي ":

العلم حجابي. وقال: العالم يخبر عن الأمر والنهي ، وفيها علمه ، والواقف يخبر عن حقي وفيه معرفته.

وقال: العلم في الرقّ ، والواقف حرّ (1).

وكذبوا على سفيان الثوري أنه قال:

" لولا أن للشيطان فيه حظًّا ما ازدحمتم عليه يعني العلم "(2).

وأيضًا " طلب هذا ليس من زاد الآخرة "(3).

ونقل الطوسي عن بعضهم أنه قال:

" إذا رأيت الفقير قد انحطّ من الحقيقة إلى العلم ، فاعلم أنه قد فسخ عزمه ، وحل عقده "(4).

ويحكي الشعراني حكاية عن أحد الفقهاء ، يستدل منها على أفضلية المتصوفة على العلماء بالشريعة ، فيقول:

" جاء مرة قاض من المالكية يريد امتحان الشيخ محمد الحنفي ، فأعلموا الشيخ أنه جاء ممتحنًا فقال الشيخ رضي الله عنه: إن استطاع يسألني ماعدت أقعد على سجادة الفقراء ، فلما جاء القاضي يسأل ، قال: ما تقول في

وتوقف. فقال له الشيخ رضي الله عنه: نعم ، فقال: ما تقول في ، وتوقف ، له الشيخ رضي الله عنه: نعم ، حتى قال ذلك مرارًا عديدة ، فلم يفتح بشيء " (5).

ويفرق كذلك بين المعرفة الصوفية وفقه الشريعة حيث يقول:

(1) كتاب ((المواقف)) لمحمود بن عبد الجبار النفري ص 10 - 11 ط مطبعة دار الكتب المصرية القاهرة 1934.

(2)

انظر ((غيث المواهب العلية)) للنفري الرندي ج 2 ص 147.

(3)

أيضًا.

(4)

كتاب ((اللمع)) للطوسي ص 233.

(5)

((الطبقات الكبرى)) للشعراني ج2 ص 94.

ص: 128

" كان الشيخ زكريا من العارفين ، ولكنه تستر بالفقه "(1).

ويفضّل الصقلي والدمياطي الصوفية على علماء الشريعة حيث يكتب:

فلركعة من عارف هي أفضل

من ألفها من عالم فتقبلا

هذا دليل على أن العارف أفضل من غيره لأن ركعة من عارف أفضل من ألف ركعة من عالم غير عارف (أي غير صوفي).

قال الشيخ أبو القاسم الصقلي في كتاب ((الأنوار)): ركعة من عارف أفضل من ألف ركعة من عالم (2).

ونقلوا عن الجنيد أنه كان يقول:

" المريد الصادق غني عن علم العلماء ، وإذا أراد الله بالمريد خيرًا أوقعه إلى الصوفية ومنعه صحبة القراء "(3).

ومن الوقائع التي تترشح منها مخالفة طلب العلم ، ويتدفق البغض والحقد على العلماء والطلاب ما ذكر ابن عجيبة الحسني حيث قال:

" وقد عقد بعض الشيوخ حلقة الذكر في بيت مظلم ، فلم يجدوا قلوبهم ، فقال لهم: ائتوني بالمصباح ، فلما أتوا به وجدوا معهم طالبًا من طلبة المدرسة ، فأخرجوه فحينئذ ، وجدوا قلوبهم "(4).

ولذلك منعوه من الفكر والنظر في الأدلة واستعمال العقل ، كما ذكر كل ذلك الشيخ الأكبر للصوفية في رسالته: " إن المريد لا ينبغي له الكلام إلا بما شاهده وعاينه ، والصمت عليه واجب ، والفكر عليه حرام ، والنظر عليه في الأدلة محظور .... والأَوْلى بالشيخ إذا رأى المريد يجنح

(1) أيضًا ج2 ص 128.

(2)

كفاية الأتقياء ومنهاج الأصفياء للدمياطي ص 106 ط أيضًا كتاب ((الأنوار)) لأبي القاسم الصقلي نقلا عن الكفاية ص 106.

(3)

((طبقات الشعراني)) ج1 ص84 طبعة قديمة 1305هـ.

(4)

((الفتوحات الإلهية)) لابن عجيبة الحسني ص 119 ط عالم الفكر القاهرة.

ص: 129

إلى استعمال عقله في النظريات ولا يرجع إلى رأيه فيما يدله عليه فليطرده إلى منزله " (1).

ومثل ذلك بل أصرح وأوضح ما 1كره عبد الغني الرافعي حيث قال:

" إذا طلب المريد من شيخه دليلا شرعيًّا أو عقليًّا على ما ذكره من المعارف الإلهية والإشارات الربانية فليزجره ويهجره ، وإن لم يفعل فقد خانه في التربية

وذلك لأن الواجب في هذا الطريق التصديق للمرشد والتسليم لغيره ، ويحرم على المريد الفكر والنظر في الأدلة ، ويجب عليه الصمت وعدم التكلّم.

وإذا أصر المريد على الفكر والنظر في الأدلة ، فليطرده ، لئلا يفسد عليه بقية أصحابه ، كما يجب عليه طرده إذا علم أن حرمته سقطت من قلبه (2).

وسبب ذلك أن " طريق القوم أمر خاص زائد على علوم الظاهر "(3).

والعلم الظاهر المقصود منه علم القرآن والسنة ، فإن المتصوفة يريدون أن يترك المسلون تعلم كتاب الله ودراسة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتبعون خرافاتهم وخزعبلاتهم وأوهامهم التي يسمونها إلهامًا ، وتخيلاتهم التي يسمونها كشفًا كما ذكر ذلك ابن عجيبة الحسني:

" كان طريق التصوف مؤسسة على الكتاب والسنة ، وإلهامات العارفين الذين تنورت عقولهم، وانصقلت مرآة قلوبهم فيها فتجلى فيها ما كان حقًّا ، وزهق منها ما كان باطلا ، فكانت طريقتهم مبنية على التحقيق "(4).

فأضاف القوم إلى الكتاب والسنة أوهامهم وخرافاتهم أيضًا باسم الإلهامات ، وهي الأصل والمحك عندهم ، وعلى هذا الأساس خالفوا نصوص الكتاب والسنة ولم يسمحوا مجال الاعتراض لمريديهم التجاء إلى هذه القاعدة الصوفية كما سنبِّين ذلك في هذا الباب إن شاء الله.

(1)((الأمر المحكم المربوط فيما يلزم أهل طريق الله من الشروط)) لابن العربي ، المنشور مع ((ذخائر الأعلاق)) له أيضًا ص 269 - 270 ط مطبعة السعادة القاهرة.

(2)

((ترصيع الجواهر المكية)) لعبد الغني الرافعي ص 129.

(3)

((الأنوار القدسية)) للشعراني نقلا عن علي بن وفا ، ج1 ص 194 ط بغداد العراق.

(4)

((الفتوحات الإلهية)) في شرح المباحث الأصلية لابن عجيبة ص 344 ط عالم الفكر القاهرة 1983م.

ص: 130

هذا ، ولم يكتم بعض منهم ، حيث صرحوا بمخالفة طلب ذلك العلم الشريف، علم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم والتفقه في الدين، حتى إنهم نقلوا عن أبي سليمان الداراني أنه قال:

" من طلب الحديث فقد ركن إلى الدنيا "(1).

وروي عن رابعة البصرية أنها كانت تجعل إيثار كتب الحديث والإقبال على الناس من أبواب الدنيا (2).

ورووا عن بشر بن الحارث الحافي أن سبب تركه طلب الحديث أنه سمع أبا داود الطيالسي يحدث عن شعبة أنه كان يقول:

" الإكثار من طلب الحديث يصدّكم عن ذكر الله وعن الصلاة ، فهل أنتم منتهون؟!

فلما سمعه منه قال: انتهينا انتهينا.

ثم ترك الرحلة في طلب الحديث ، وأقبل على العبادة (3).

ونقلوا عن الجنيد أنه كان يقول:

" أحب للصوفي أن لا يقرأ ولا يكتب ، لأنه أجمع لهمّه وأحبّ للمريد المبتدي أن لا يَشغل قلبه بهذه الثلاث وإلا تغيّر حاله: التكسب ، وطلب الحديث ، والتزوّج "(4).

ومثل ذلك نقلوا عن أبي بكر نصر بن أحمد الدقاق - وكان من أقران الجنيد - أنه قال:

" آفة المريد ثلاثة أشياء: التزويج ، وكتابة الحديث ، ومعاشرة الضد "(5).

وروى الصوفية عن سفيان الثوري أنه كان يقول:

" ليس طلب الحديث من عدة الموت ، لكنه علة يتشاغل بها الرجل "(6).

كما رووا عن بشر بن الحارث أنه سأله رجل أن يحدثه فأبى عليه ، فجعل يرغبه

(1) انظر ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي ج 2 ص 152.

(2)

انظر أيضًا ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي ج 2 ص 57.

(3)

((غيث المواهب العلية)) في شرح الحكم العطائية للنفري الرندي ج2 ص 145.

(4)

((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي ج 1 ص 267 ط دار صادر بيروت.

(5)

((الطبقات الكبرى)) لعبد الوهاب الشعراني ج 1 ص88.

(6)

((غيث المواهب العلية)) ج 2 ص 147.

ص: 131

ويكلمه وهو يأبى عليه ، قال فلما أيس منه قال له: يا أبا نصر ما تقول لله غدًا إذا لقيته وسألك لِمَ لا تحدث؟

قال: فقال له بشر ، أقول: يا رب كانت نفسي تشتهي أن تحدث ، فامتنعت من أن أحدث ولم أعطها شهوتها (1).

وزاد الخطيب: قال بشر:

" إني وإن أذنت للرجل وهو يحدث. فإنه عندي قبل أن يحدث أفضل كثيرًا من كائن من الناس ، وإنما الحديث اليوم طرق من طلب الدنيا ، ولذة ، وما أدري كيف يسلم صاحبه؟! وكيف يسلم من يحفظه ، لأي شيء يحفظه ، قال بشر: وإني لأدعو الله أن يذهب به من قلبي ، ويذهب بحفظه من قلبي ، وإن لي كتبًا كثيرة قد ذهبت ، وأراها توطأ ويرمى بها فما آخذها ، وإني لأهم بدفنها وأنا حي صحيح ، وما أكره ترك ذاك خير عندي. وما هو من سلاح الآخرة ، ولا من عدد الموت "(2).

ويروي العطار في تذكرته أن بشرًا الحافي درس الحديث ، ثم دفن جميع كتبه في الأرض ، ولم يحدث قط (3).

ويذكر الشعراني عن أبي المواهب الشاذلي أنه انقطعت عنه رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم لاشتغاله بفقه الكتاب والسنة ، فيقول:

" كان سيدي أبو المواهب الشاذلي رضي الله عنه يقول: انقطعت عني رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة ، فحصل لي غمّ بذلك ، فتوجهت بقلبي إلى شيخي يشفع فيَّ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فحضر عنده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:

ها أنا - أنظر التعبير- فنظرت فلم أره. فقلت: ما رأيته ، فقال عليه الصلاة والسلام: سبحان الله! غلبت عليه الظلمة ، وكنت قد أشتغلت بقراءة جماعة في الفقه .... فتركت الاشتغال بالفقه فرأيته " (4).

(1)((حلية الأولياء وطبقات الأصفياء)) للأصبهاني ج8 ص 355 ط دار الكتاب العربي بيروت.

(2)

((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي ج7 ص 71 ط دار الكتاب العربي بيروت.

(3)

((تذكرة الأولياء)) لفريد الدين عطار ص66 ط باكستان.

(4)

((طبقات الشعراني)) ج2 ص 75.

ص: 132

وبلغت بهم الجرأة والكراهة للحديث وأهلة إلى أن قالوا: إن رجلا استشار معروفًا الكرخي في صحبة إمام أهل السنة أحمد بن حنبل فقال له جوابه:

" لا تصحبه ، فإن أحمد صاحب حديث ، وفي الحديث اشتغال بالناس ، فإن صحبته ذهب ما تجد في قلبك من حلاوة الذكر وحب الخلوة (1).

وابن عجيبة الحسني يحذر من مجالسة العلماء والاستماع إليهم بقوله:

" الجلوس معهم اليوم أقبح من سبعين عاميًّا غافلا وفقيرًا جاهلا ، لأنهم لا يعرفون إلا ظاهر الشريعة ، ويرون أن من خالفهم في هذا الظاهر مخطئ أو ضال ، فيجهدون في رد من خالفهم ، يعتقدون أنهم ينصحون وهم يغشون. فليحذر المريد من صحبهم والقرب منهم ما استطاع. فإن توقف في مسألة ولم يجد من يسأل عنها من أهل الباطن فليسأله على حذر ، ويكون معه كالجالس مع العقرب والحية. والله ما رأيت أحدًا من الفقراء قرب منهم وصحبهم فأفلح أبدًا في طريق الخصوص "(2).

وهذا مع إدعائهم " علمنا هذا مؤيد بالكتاب والسنة "(3).

والجدير بالذكر أن المتصوفة كما يخالفون العلم والعلماء وطلب الحديث ، يخالفون كذلك إسناد الحديث الذي ليس هو إلا من قوائمه ، فلا يقوم إلا به ، رغبة في ترويج أباطيلهم وأضاليلهم ، وزيغهم وضلالهم كذبًا على نبي الله ، وزورًا على رسوله صلوات الله وسلامه عليه كيلا يعرف الحق من الباطل ، والصدق من الكذب ، ويميز الصحيح من السقيم ، وعلى ذلك نرى أن كتب أكثرهم مليئة بالأحاديث الموضوعة والروايات المختلقة المزورة المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كُتُب الغزالي فيلسوف الإسلام وفقيه المسلمين ، ولما سئلوا عنها وعن مواردها ورواتها قالوا: روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام أو في اليقظة ، مدَّعين تصحيحها عن النبي صلى الله عليه وسلم أو

(1) انظر ((قوت القلوب)) لأبي طالب المكي ج2 ص236.

(2)

((ايقاظ الهمم)) لابن عجيبة الحسني ص 97 ط مصطفى البابي الحلبي الطبعة الثالثة 1402هـ.

(3)

انظر ((الرسالة القشيرية)) ج1 ص118 ، ((طبقات الأولياء)) لابن الملقن ص127 ، ((حياة القلوب)) للأموي ص 292 ، ((اليواقيت والجواهر)) للشعراني ج2 ص93 ، ((تنبيه المغتربين)) للشعراني ص6 ، ((جمهرة الأولياء)) للمنوفي ج2 ص 149 ، ((شرح كلمات الصوفية)) لمحمد الغراب ص 207.

ص: 133

عن الله رأساً دون النظر إلى إسنادها ، ورواتها مثل ما ذكر الشعراني عن أبي المواهب الشاذلي أنه قال:

" رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن الحديث المشهور ، ((واذكروا حتى يقولوا مجنون)) ، وفي ((صحيح ابن حبان)): ((أكثروا من ذكر الله حتى يقولوا مجنون)). فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صدق ابن حبان في روايته، وصدق راوي " اذكروا الله " فإني قلتهما معًا ، مرة قلت هذا، ومرة قلت هذا (1).

ويقول نجم الدين الكبرى المقتول 618هـ:

" غيث فأبصرت النبي عليه السلام ومعه علي ، فبادرت إلى علي فأخذت بيده وصافحته ، وألهمت كأني سمعت في الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من صافح عليًّا دخل الجنة ، فجعلت أسأل عليًّا عن هذا الحديث أصحيح هو؟ فكان يقول: نعم ، صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم من صافحني دخل الجنة "(2).

وفي هذا المعنى ذكر الصوفي المشهور أبو طالب المكي قصة مكذوبة على الإمام احمد بن حنبل ، أن داود المحبر لما صنّف كتاب ((العمل)) جاء أحمد بن حنبل فطلبه منه ، فنظر فيه أحمد صفحًا ، ثم رده إليه. فقال: ما لك؟ قال: أسانيد ضعفاء. فقال له داود: أنا لم أخرجه على أسانيد ، فانظر فيه بعين الخبر " (3).

وما أكثر ما يقوله المتصوفة ردّا على أهل الحديث لتمسكهم بالإسناد تصحيحًا لرواية وتضعيفًا لها:

" أخذتم علمكم ميتًا عن ميت ، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت "(4).

(1)((الطبقات الكبرى)) للشعراني ج2 ص 76.

(2)

((فواتح الجمال وفواتح الجلال)) لنجم الدين الكبرى ص12 بتصحيح الدكتور رفريتز مائر ، ط ألمانيا 1957م.

(3)

((قوت القلوب في معاملة المحبوب)) لأبي طالب المكي ج2 ص152.

(4)

((ذخائر الأعلاق)) لابن عربي ص153 ، ((الجواهر والدرر)) للشعراني ص 286 ، هامش الرسالة القشيرية ج1 ص88 وغيرها من الكتب الكثيرة.

ص: 134

كما نقلوا ذلك عن أبي يزيد البسطامي ، وسيأتي بيان ذلك مفصلاّ - إن شاء الله - في هذا الباب.

ويعلق على قول البسطامي هذا أحد المتصوفة المعاصرين:

" أقام الله أولياءه مقام الرسول في التفقه في الدين والإنذار، وهو الذي يدعو إلى الله عل بصيرة ، كما يدعو رسول الله صلى الله عليه وسلم على بصيرة لا على غلبة ظن ، كما يحكم عالم الرسوم ، فشتان بين من هو فيما يفتي به ويقوله على بصيرة منه في دعائه ، إلى الله وهو على بينة من ربه ، وبين من يفتي في دين الله بغلبة ظنه ، ثم إن من شأن عالم الرسوم عن الذب عن نفسه أنه يُجَهِل من يقول فهمني ربي ، ويرى أنه أفضل منه وأنه صاحب العلم ، إذ يقول من هو أهل الله إن الله ألقى في سري مراده بهذا الحكم في هذه الآية ، أو يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في واقعتي فأعلمني بصحة هذا الخبر المروي عنه وبحكمه عنده ، فمن ورث محمدًا في جمعيته كان له من الله تعريف بالحكم وهو من مقام أعلى من الاجتهاد، وهو أن يعطيه الله التعريف الإلهي أن حكم الله الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسالة هو كذا، فيكون في ذلك الحكم بمنزلة من سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وإذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجع إلى الله فيه فيعرف صحة الحديث من سِقَمه سواء كان الحديث عند أهل النقل من الصحيح أو مما تُكُلِّم فيه ، فإذا عرف فقد أخذ حكمه من الأصل، لذلك قال أبو يزيد البسطامي في هذا المقام، وصحته تخاطب علماء زمانه علماء الرسوم: " أخذتم علمكم ميتًا عن ميت ، وأخذنا علمنا عن الحي الذي لا يموت، يقول أمثالنا: حدثني قلبي عن ربي. وأنتم تقولون: حدثنا فلان ، وأين هو؟ قالوا: مات ، عن فلان وأين هو؟ قالوا: مات " فلا حجاب بين الله وبين عبده أعظم من نظره إلى نفسه وأخذه العلم عن فكره ونظره ، وإن وافق العلم فالأخذ عن الله أشرف "(1)؟

ويقول الشعراني:

" أخبرني الشيخ محمد الشناوي أن ثم جماعة ببلاد اليمن لهم سند بتلقين الصلاة

(1)((شرح كلمات الصوفية)) لمحمود الغراب ص 154 ط مطبعة زيد بن ثابت 1402هـ.

ص: 135

والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فيلقنون المريد بذلك ، ويشغلونه بالصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يزال يكثر منها حتى يصير يجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم يقظة ومشافهة ، ويسأله عن وقائعه كما يسأل المريد شيخه من الصوفية، وأن مريدهم يترقى بذلك في أيام قلائل، ويستغني عن جميع الأشياخ بتربيته صلى الله عليه وسلم " (1).

وذكر أيضا عن سليمان الحضيري الصوفي أنه قال:

" بينما أنا جالس في الخضيرية على باب الإمام الشافعي رضي الله عنه إذ رأيت جماعة عليهم ثياب بياض ، وعلى رؤوسهم غمامة من نور ، يقصدونني من ناحية الجبل ، فلما قربوا مني فإذا هو النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم فقبلت يده، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمض معنا إلى الروضة ، فذهبت مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت الشيخ جلال الدين (السيوطي) فخرج إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقبّل يدَه وسلم على أصحابه ، ثم أدخله الدار، وأجلسه وجلس بين يديه، فصار الشيخ جلال الدين (السيوطي) يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن بعض الأحاديث ، وهو صلى الله عليه وسلم يقول: هات يا شيخ السنة "(2).

ومثله في ((كتاب قلادة الجواهر في ذكر الرفاعي وأتباعه الأكابر)) (3).

ونقل النبهاني مثل ذلك عن أبي محمد بن الخطيب (4).

وأما فريد الدين العطار فينقل عن أبي الحسن الخرقاني أنه قال:

" وهبني الله جميع العلوم والمعارف مع كوني أميًّا ، وقرأت الحديث على رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصدقه مريده ، فرأى في المنام رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعه يقول: صدق الرجل ، صدق الرجل - ثم يقول المريد: بدأت أتردد إليه وأقرأ

(1)((الأنوار القدسية)) للشعراني ج 1 ص32 ط العراق.

(2)

((الطبقات الصغرى)) لعبد الوهاب الشعراني ص28 - 29 الطبعة الأولى ، القاهرة 1970م.

(3)

((قلادة الجواهر)) لأبي الهدى الرفاعي ص 422.

(4)

انظر ((جامع كرامات الأولياء)) للنبهاني ج2 ص 215.

ص: 136

الحديث ، فأحيانًا كان يقول: هذا الحديث ليس بصحيح ، ولما سألته كيف عرفت ذلك؟

قال: لما تقرأ الحديث اشتغل بمشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكلما قرأت الحديث الصحيح تبسم النبي صلى الله عليه وسلم وتنورت جبهته، وإذا مررت بحديث موضوع ظهرت كآبة على وجهه عليه الصلاة والسلام فبذلك أُمَيِّز الصحيح من الضعيف " (1).

ويصرح الدباغ قائلا:

" قد ينزل الملك على الولي ، ويخبره بصحة حديث ضعفه العلماء "(2).

فمن الغريب أن الصوفية إذا لم يجدوا السند في مسألة يدعون أنهم أخذوا عن الملك ،أو عن الخضر كما يقول الشعراني في مسألة اتصال السند بلبس الخرقة:

" فلا تستغرب يا أخي توقُّفَ بعض المحدثين في اتصال السند بلبس الخرقة ، فإنه معذور في ذلك ، لعسر استخراج ذلك من كتب المحدثين على غالب الصوفية ، فرحم الله الحافظ بن حجر والجلال السيوطي في تبيينهما اتصال السند بذلك.

وإن الشيخ محي الدين بن عربي لم يطلع على اتصال سندهما من طريق النقل الظاهر، فأخذها من طريق الخضر عليه السلام لما اجتمع به حتى اعتمد عليه في السند " (3).

وعبد الله الأنصاري الهروي أيضًا أنكر ضرورة الإسناد للعلم الصوفي حيث كتب: " العلم اللدني إسناده وجوده ، وإدراكه عيانه ، ونعته حكمه ، ليس بينه وبين الغيب حجاب "(4).

فالمعنى أن العلم اللدني لا يحتاج إلى إسناد ، فوجوده إسناده.

فهكذا أرادوا نشر الجهل ومحو العلم بهدم القواعد وتحطيمها ، التي لم تؤسس ولم

(1)((تذكرة الأولياء)) لفريد الدين العطار ص 277.

(2)

((الإبريز)) للدباغ ص 151 طبعة قديمة مصر.

(3)

((الأنوار القدسية)) للشعراني ج1 ص 30.

(4)

((منازل السائرين)) للخواجه عبد الله الأنصاري الهروي ص132 نشر أفغانستان 1350.

ص: 137

تخطط إلا للمراعاة والمحافظة على العلوم والفنون ، كيلا تلعب بها يد المحتالين المنتحلين والعابثين المبطلين. وما الله بغافل عما يعملون ،

وهذا مع أهمية الإسناد واهتمام المسلمين به لكونه عمدة ومعيارًا للقوي والضعيف والصحيح والسقيم، وعلى ذلك بوَّب الإمام مسلم بن حجاج القشيري بابًا في ((صحيحه)) لبيان أن الإسناد من الدين ، ونقل فيه عن محمد بن سيرين أنه قال:

" إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم "(1).

وعن عبد الله بن المبارك أنه قال:

" الإسناد من الدين ، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء "(2).

وروي عنه أيضا أنه قال: " بيننا وبين القوم القوائم يعني الإسناد "(3).

فهذه هي منزلة الإسناد عند أهل السنة وأئمتهم ، ولماذا لا يكون؟

لأن الإسناد يعرِّف أسماء الرواة ، وبأسمائهم تفتش عن أحوالهم ، وبأحوالهم تحكم على مروياتهم ، وإذا لم يكن ذلك لم يتأت الخبر ، ولم يحصل اليقين ، ولكن المتصوفة جعلوا الحديث لعبة يلعبون بها لإثبات مزاعمهم ونظرياتهم ، فحديث الناس جعلوه حديثًا للنبي المعصوم عليه الصلاة والسلام معتمدين على كشفهم إلهامهم ، فجعلوا الموضوع ثابتًا، والضعيف قويًا ، والسقيم صحيحًا دون النظر إلى روايته ومصدره ، قائلين بأنهم سمعوه عن النبي صلى الله عليه وسلم رأسًا ، أو علموا تصحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهة ، أو بواسطة الملك ، أو بتعليم الخضر ، وهذه إحدى وجوه مخالفة العلم وطرقها.

وقبل أن نتقدم إلى فكرة أخرى نريد أن نذكّر الباحث والقارئ أن مخالفة العلم منافية لتعاليم القرآن والسنة ، لأن العلم نور وضياء تستنير به الأمم طريقهم إلى الهدى ، ويستضيئون به في ظلمات الطريق ، ويصلون به إلى المقصود والمرام ، ولا يخالف النور

(1) رواه مسلم.

(2)

أيضا رواه مسلم.

(3)

أيضًا.

ص: 138

والضياء إلا الذين يحبون الجهل والظلام ، لا يتمنون إلا الظلام الدامس ، لأن النور يذهب بأبصارهم ، ويقضي على رغباتهم وشهواتهم ، وما أحسن ما قاله ابن الجوزي ردَّا على الصوفية في تركهم التشاغل بالعلم:

" أعلم أن أول تلبيس على الناس صدُّهم عن العلم ، لأن العلم نور فإذا أطفأ مصابيحهم ، خبطهم في الظلم كيف شاء

وروي عن ضرار بن عمرو قال:

إنّ أقواما تركوا العلم ومجالسة أهل العلم ، وأخذوا محاريب فصلوا وصاموا حتى يبس جلد أحدهم على عظمه ، وخالفوا السنة فهلكوا ، فو الله الذي لا إله غيره ما عمل عامل على جهل إلا كان ما يُفسد أكثر مما يصلح .... كما روي عن أبي الحسن بن سالم أنه قال:

جاء رجل إلى سهل بن عبد الله (التُّسْتَرِيُّ) وبيده محبرة وكتاب. فقال لسهل: جئت أن أكتب شيئًا ينفعني الله به. فقال: اكتب، إن استطعت أن تلقى الله وبيدك المحبرة والكتاب فافعل. قال: يا أبا محمد أفدني فائدة. فقال: الدنيا كلها جهل إلا ما كان علمًا ، والعلم كله حجة إلا ما كان عملا ، والعمل كله موقوف إلا ما كان منه على الكتاب والسنة ، وتقوم السنة على التقوى. وعن سهل بن عبد الله أنه قال: احفظوا السواد على البياض، فما أحد ترك الظاهر إلا تزندق. وعن سهل بن عبد الله أنه قال:

احفظوا السواد على البياض ، فما أحد ترك الظاهر إلا تزندق ، وعن سهل بن عبد الله أنه قال:

ما من طريق إلى الله أفضل من العلم ، فإن عدلت عن طريق العلم خطوة تهت في الظلام أربعين صباحًا

وروي عن إمام أهل السنة أحمد بن حنبل أنه كان يرى المحابر بأيدي طلبة العلم فيقول: هذه سرج الإسلام ، وكان هو يحمل المحبرة على كبر سنة ، فقال له رجل: إلى متى يا أبا عبد الله؟ فقال: المحبرة إلى المقبرة (1).

(1) انظر ((تلبيس إبليس)) للإمام ابن الجوزي البغدادي المتوفى 597هـ ص 310 وما بعد تحت عنوان ((تلبيس إبليس على الصوفية في ترك تشاغلهم بالعلم)) ، ط دار القلم بيروت 1403 هـ.

ص: 139

هذا ، وقد ذكر الرب تبارك وتعالى العلم في موضع المدح والثناء ، وحلّى به أنبياءه وأصفياءه ، وجعله مفخرة يعتز ويفتخر به ، كما جعل الجهل وعدم العلم عيبًا يعاب وينتقص عليه ويزدري به ، فقال جل من قائل:

{يرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} (1).

ومدح أهل العلم بقوله:

{إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء} (2).

كما أدرجهم ضمن من يشهد بألوهيته ووحدانيته ، حيث قال:

{شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ} (3).

لأنهم هم المؤمنون حقيقيًا ، ويؤمنون بكل ما ينزل من عنده:

{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} (4).

ومدح طالوت ، وبين سبب اختياره ، واصطفائه من بين الناس ، لأنه صاحب علم ، فقال:

{إِنَّ اللهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} (5).

هذا ، وقد زين نبيه يوسف بالعلم ، حيث قال:

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} (6).

وأباه من قبل أيضًا:

{وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} (7).

وكذلك الخضر:

(1) سورة المجادلة الآية 11.

(2)

سورة فاطر الآية 28.

(3)

سورة آل عمران الآية 18.

(4)

سورة آل عمران الآية 7.

(5)

سورة البقرة الآية 247.

(6)

سورة يوسف الآية 22.

(7)

سورة يوسف الآية 68.

ص: 140

{آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} (1).

ولوطًا كذلك: {آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} (2).

وكذلك موسى:

{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} (3).

وداود وسليمان: {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً} (4).

وذكر مَنَّهُ وإحسانه على أفضل البشر وسيد الخلق بقوله:

{وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} (5).

وأمهر بطلب المزيد منه بقوله: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (6).

وأما الجهل ، فوصف به قوم موسى الذين:

{قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (7).

وقوم لوط أيضًا:

{أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} (8).

وقوم هود الذين قال لهم نبيهم:

{وَأُبَلِّغُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} (9).

(1) سورة الكهف الآية 65.

(2)

سورة الأنبياء الآية 79.

(3)

سورة القصص الاية 14.

(4)

سورة النمل الآية 15.

(5)

سورة النساء الآية 113.

(6)

سورة طه الآية 114.

(7)

سورة الأعراف الآية 138.

(8)

سورة النمل الآية 55.

(9)

سورة الأحقاف الآية 23.

ص: 141

ومشركي الجزيرة الذين حاجوا خاتم النبيين ورسول الله إلى العالمين صلى الله عليه وسلم في دعوته ، وعارضوه فأمر أن يخاطبهم:

{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} (1).

وأمر المؤمنين عامة أن يعرضوا عن الجهال بقوله:

{وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً} (2).

والآيات في هذه المعاني لا تعد ولا تحصى.

ومثل ذلك وردت أحاديث كثيرة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مدح العلم والتحريض على اكتسابه ، والثناء على العلماء ، وذم الجهل وأهله ، فقال عليه الصلاة والسلام:

((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا ، سهل الله له به طريقًا إلى الجنة)) (3).

وقال صلى الله عليه وسلم:

((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد ، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ، حتى إذا لم يبقَ عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالا ، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلّوا وأضلّوا)) (4).

وقال:

((من دل على خير ، فله مثل أجر فاعله)) (5).

والحديث المشهور:

((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا ، سهل الله به طريقًا من طرق الجنة. وإن الملائكة لتضع أجنحتها لرضًى لطالب العلم. وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء. وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب. وإن العلماء ورثة الأنبياء. وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا ، وإنما ورِّثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر)) (6).

(1) سورة الزمر الآية 64.

(2)

سورة الفرقان الآية 63.

(3)

رواه مسلم.

(4)

متفق عليه.

(5)

رواه مسلم.

(6)

رواه أحمد والترمزي وأبو داود وابن ماجه والدارمي.

ص: 142

وعن أبي أمامة الباهلي قال:

ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان أحدهما عابد والآخر عالم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته وأهل السموات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلم الناس الخير)(1).

وقال صلى الله عليه وسلم:

(إن رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون في الدين، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا)(2).

وقال: (طلب العلم فريضة على كل مسلم)(3).

وقال: (من خرج في طلب العلم ، فهو في سبيل الله حتى يرجع)(4).

وقال صلى الله عليه وسلم:

(نضر الله عبدا سمع مقالتي فحفظها ووعاها وأداها، فرب حامل فقه غير فقيه ، ورب حامل فقه إلا من هو أفقه منه)(5).

و (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين)(6).

وأيضًا: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجلين كانا في بني إسرائيل: أحدهما كان عالمًا يصلي المكتوبة، ثم يجلس فيعلم الناس الخير، والآخر يصوم النهار ويقوم الليل أيهما أفضل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فضل هذا العالم الذي يصلي المكتوبة، ثم يجلس فيعلّم الناس الخير على العابد الذي يصوم النهار ويقوم الليل كفضلي على أدناكم)(7).

(1) رواه الترمذي.

(2)

رواه الترمذي.

(3)

رواه ابن ماجه والبيهقي.

(4)

رواه الترمذي والدارمي.

(5)

رواه الشافعي والبيهقي في ((المدخل)).

(6)

رواه البيهقي.

(7)

رواه الدارمي ، وصححه الألباني.

ص: 143

والأحاديث في هذا المعنى كثيرة جدًّا.

ولكن القوم أحبوا الجهل وكرهوا العلم ، واشتروا الضلالة بالهدى والغي بالبصيرة، وتفننوا في مخالفة العلم وذويه، وتقريب الجهل وترويجه، فاحتالوا واخترعوا طريقًا آخر ، وجاءوا وسموه كشفًا وإلهامًا، وبذلك أرادوا القضاء عليه إطفاء نور الهداية والرشد بمنع الناس عن القرآن ، وصدهم عن السنة زاعمين أن السنة منقولة من ميت عن ميت، وكشفهم وإلهامهم عن الحي الذي لا يموت، فلا حجة لها عليهم، ولهم ولكلامهم حجة عليها وعلى الخلق ، وهذا ضرب من ضروب الجهل، وإغراق وانغماس فيه ، ولا شك في أنه مؤامرة خطيرة ضد شريعة الله التي جاء بها محمد بن عبد الله خاتم أنبياء الله وسيد رسله صلى الله عليه وسلم وليس هناك مؤامرة أكبر وأخطر من هذه، لأنها تتضمن نسخ شريعة الله الأخيرة ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، لأنها ما دام أوامر الرب تنزل ، وأحكامه تتنزل، وإرشاداته تلهم، وتعليماته تعرف بالكشف، فلا معنى لانقطاع النبوة وختم لرسالة وكمال الدين وتمام النعمة.

ولو كان القرآن كافيًا لهداية الأمة وإرشاد الناس ، لما احتيج إلى إنزال الأمور بعده.

ولو كانت السنة النبوية شافية، لما اضطر إلى تنزيل السنن الجديدة وتقنينها ، وإن كانت تلك السنن سنن رسول الله لم يبينها هو عليه السلام لتلاميذه الراشدين وأصحابه الطيبين، فكيف أدى الأمانة وبلغ الرسالة، ولماذا شهد الله عنه {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} (1)؟

أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبين القرآن، فاحتيج إلى أن يبينه الله بعد وفاته بواسطة صوفي أو متصوفة ، فما معنى قوله إذن:

{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (2)

وقوله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} (3).

(1) سورة التكوير الآية 24.

(2)

سورة النحل الآية 44.

(3)

سورة آل عمران الأية 164.

ص: 144

فدعوى الكشف والإلهام ليس إلا تعطيلا للعلم والقواعد الشرعية بدون أصول ثابتة وأسس مطردة ، وكذلك نشر الفوضوية والهمجية، حيث لا يلزم أحد بشيء ، ولا يطلب منه شيء لإمكان وجود الكشف والإلهام خلافه، زيادة على ذلك إمكان الإلهامات المختلفة، والمكاشفات المتناقضة المتضاربة ، في وقت واحد باختلاف الأشخاص وتعدد الملهمين وأهل الكشف، لأنه لا مدخل للعقل ، ولا مقام للفكر فيها كما قال الشيخ الأكبر للمتصوفة محيي الدين بن عربي في ((فتوحاته)):

" اعلم أن علومنا وعلوم أصحابنا ليست من طريق الفكر، وإنما هي من الفيض الإلهي "

(1).

ويقول: " إن جميع ما أكتبه في تأليفي ليس هو عن رؤيَّة وفكر ، وإنما هو عن نفث في رُوعي على يد ملك الإلهام "(2).

و" جميع ما كتبته وأكتبه في هذا الكتاب إنما هو إملاء إلهي ، ولقاء رباني ، أو نفث رُوحاني في روح كِياني ، كل ذلك بحكم الإرث للأنبياء والتبعية لهم ، لا بحكم الاستقلال

وإن ترتيب أبواب ((الفتوحات)) لم يكن عن اختيار ولا عن نظر فكري ، وإنما الحق أملى علينا على لسان ملك الإلهام جميع ما نسطره ، وقد نذكر كلامًا بين كلامين لا تعلق له بما قبله ولا بعده ، وذلك شبيه بقوله تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} بين آيات طلاق ونكاح وعدة وفاة تتقدمها وتتأخرها.

وإن العارفين إنما كانوا لا يتقيدون بالكلام على ما بوبوا عليه فقط ، لأن قلوبهم عاكفة على باب الحضرة الإلهية مراقبة لما يبرز منها، فمهما برز لها أمر بادرت لامتثاله، وألفته على حسب ما حد لها، فقد تلقى الشيء إلى ما ليس من جنسه امتثالا لأمر ربها " (3).

(1)((الفتوحات المكية)) لابن عربي ،الباب السابع والأربعون نقلا عن كتاب ((الكبريت الأحمر في بيان علوم الشيخ الأكبر)) للشعراني ج1 ص5 بهامش ((اليواقيت والجواهر)).

(2)

((الفتوحات المكية)) لابن عربي ، الباب السادس والسون وثلاثمائة.

(3)

((الفتوحات المكية)) لابن عربي من أبواب شتى نقلا عن كتاب ((اليواقيت والجواهر)) للشعراني ص8.

ص: 145

وعلى ذلك يقول في بداية فصوصه: " إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مبشرة أريتها في العشر الآخر من محرم سنة سبع وعشرين وستمائة بمحروسة دمشق ، وبيده صلى الله عليه وسلم كتاب، فقال لي: هذا كتاب فصوص الحكم، خذه واخرج به إلى الناس ينتفعون به. فقلت: السمع والطاعة لله ولرسوله وأولي الأمر منا كما أمرنا. فحققت الأمنية، وأخلصت النية، وجردت القصد والهمة إلى إبراز هذا الكتاب كما حده لي رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة (2 - 1) ولا نقصان ، وسألت الله تعلى أن يجعلني فيه وفي جميع أحوالي من عباده الذين ليس للشيطان عليهم سلطان ، وان يخصني في جميع ما يرقمه بناني، وينطق به لساني ، وينطوي عليه جناني بالإلقاء السبوحي والنفث الروحي في الرُّوع النفسي بالتأييد الاعتصامي، حتى أكون مترجمًا لا متحكمًا، ليتحقق من يقف عليه من أهل الله أصحاب القلوب أنه من مقام التقديس المنزه عن الأغراض النفسية التي يدخلها التلبيس. وأرجو أن يكون الحق لما سمع دعائي قد أجاب ندائي ، فما ألقى إلا ما يلقى إليَّ، ولا أنزل في هذا المسطور إلا ينزل به علي. ولست بنبي ولا رسول ، ولكني وارث ، ولآخرتي حارث.

فمن الله فاسمعوا

وإلى الله فارجعوا

فإذا ما سمعتم ما

أتيت به

فعوا (1)

وبعدئذ لا يبقى لأحد أن يعترض على صوفي ، أو ينتقد فعلا من أفعاله ، أو يطعن في أمر من أوامره، أو يتكلم في تعليم من تعاليمه، مهما كان مخالفًا للعقل والنقل ، لأن النقل مأخوذ ميتًا عن ميت كما روى السهلجي عن أستاذه أنه قال:

" حضرت مجلس أبي يزيد البسطامي والناس يقولون: فلان لقي فلانًا.

قال أبو يزيد: مساكين أخذوا ميتًا عن ميت، وأخذنا علمنا من الحي الذي لا يموت.

(1)((فصوص الحكم)) لابن عربي ص47 - 48 مقدمة الكتاب، ط دار الكتاب العربي بيروت بتعليق أبي العلا عفيفي.

ص: 146

وقال أيضًا: الناس يقولون له ، وأن أقول منه (1).

وأيضًا قال ردًّا على رجل فقيه:

" علمك يا شيخ نقل عن لسان التعليم ، لا للعمل ، وعلمي من الله إلهامات من عنده "(2).

ونقلوا عن أصحاب الجنيد أنه قال:

" مدارج العلوم تكون بالوسائط ، وأما مدارج الحقائق ، فلا تكون إلا بالمكاشفة "(3).

ويقول ابن عربي:

" علماء الرسوم يأخذون خلفًا عن سلف إلى يوم القيامة ، فيبعد النسب ، والأولياء يأخذون عن الله ألقاه في صدورهم "(4).

ونقل النفزي الرندي عن المتصوفة أنه دخل عليه إنسان وهو يبكي،

فقال: ما يبكيك؟

قال: مات أستاذي.

فقال له ذلك العارف:

ولم جعلت أستاذك من يموت؟ (5).

ونقل الشعراني عن مشايخه أنه صرح بكل وضوح وجلاء:

" لا يكمل الرجل عندنا في مقام العلم حتى يكون علمه عن الله عز وجل بلا واسطة من نقل أو شيخ ، فإن من كان علمه مستفادًا من نقل أو شيخ فما برح عن الأخذ عن المحدثات ، وذلك معلول عند أهل الله عز وجل. ومن قطع عمره في معرفة المحدثات وتفاصيلها، فاته حظه من ربه عز وجل لأن العلوم المتعلقة بالمحدثات يفنى الرجل عمره فيها ولا يبلغ حقيقتها، ولو أنك يا أخي سلكت على يد شيخ من أهل الله عز وجل لأوصلك إلى حضرة شهود الحق تعالى، فتأخذ عنه العلم بالأمور من طريق

(1)((النور من كلمات أبي طيفور)) للسهلجي ص 100 المنشور في ((شطحات الصوفية)) للبدوي. أيضًا ((الفوحات المكية)) لابن عربي ج 1 ص139 مقدمة الكتاب. أيضًا ((ذخائر الأعلاق)) لابن عربي ص 153 ط مطبعة السعادة القاهرة. أيضًا ((الجواهر والدرر)) للشعراني ص286 بهامش (الإبريز) للدباغ، أيضًا ((الطبقات الكبرى)) له ص5. أيضًا هامش ((الرسالة القشيرية)) ج1 ص88. أيضًا ((شرح كلمات الصوفية)) لمحمود الغراب ص 153.

(2)

((النور من كلمات أبي طيفور)) للسهلجي ص100.

(3)

((طبقات الشعراني)) ج1 ص117.

(4)

مصرع التصوف هامش للوكيل نقلا عن المناوي.

(5)

((غيث المواهب العلية)) للنفري ج1 ص237 بتحقيق الدكتور عبد الحليم محمود.

ص: 147

الإلهام الصحيح من غير تعب ولا نصب ولا سهر كما أخذه الخضر عليه السلام.

فلا علم إلا ما كان عن كشف وشهود لا عن نظر وفكر، وظن وتخمين (1).

فهذا النص يرشح كل ما في إناء الديانة الصوفية من مخالفة طلب العلم والسعي لاكتسابه ، والرحلة في سبيله ، فلا يخرج أحد لطلب علوم القرآن والحديث، وليجلس في دير من دور القوم أو خلوة من الخلوات ويشتغل فيها بالعبادة والتحنث فيفتح الله عليه جميع العلوم بالتجلي على قلبه - عياذًا الله - كما ذكر الشعراني مبينًا نزول صورة العلوم والإلهام عليه ردًا على سؤال سأله:

((ما صورة تنزل وحي الإلهام على قلوب الأولياء؟)) فأجاب:

" صورته أن الحق تعالى إذا أراد أن يوحي إلى ولي من أوليائه بأمر ما، تجلى إلى قلب ذلك الولي في صورة الأمر، فيفهم من ذلك الولي التجلي بمجرد مشاهدته ما يريد الحق تعالى أن يعلم ذلك الولي به من تفهيم معاني كلامه أو كلام نبيه صلى الله عليه وسلم فهناك يجد الولي في نفسه علم ما لم يكن يعلم من الشريعة "(2).

هذا بالنسبة للعقل، وأما النقل ، فلقد صرح ابن عربي أنه لا علاقة له بعلمهم الذوقي والكشفي والإلهامي كما قال:

" وتختلف الطريق في تحصيل العلوم بين الفكر والوهب وهو الفيض الإلهي ، وعليه طريقة أصحابنا ، ليس لهم في الفكر دخول لما يتطرق إليه من الفساد، والصحة فيه مظنونة ، فلا يوثق بما يعطيه

ولهذا يقال في علوم النبوة والولاية: إنها وراء طور العقل ، ليس للعقل فيها دخول بفكر، لكن له القبول ، خاصة عند السليم العقل الذي لم تغلب عليه شبهة خيالية فكرية، يكون من ذلك فساد نظره " (3).

وأيضًا: " إن علوم الأنبياء والأولياء أذواق لا عن فكر ونظر "(4).

وقال محمد الاستنبولي: " لا يجوز لمن لا يعرف مصطلح القوم أن يتكلم في حقهم

(1)((الطبقات الكبرى)) للشعراني ص5.

(2)

((اليواقيت والجواهر)) للشعراني ج2 ص 84 ط مصطفى البابي الحلبي 1378هـ.

(3)

((الفتوحات المكية)) لابن عربي ، الجزء الرابع والعشرون، الباب السابع والأربعون ، السفر ص 162 ط الهيئة المصرية العامة للكتاب 1975م.

(4)

((ختم الأولياء)) للحكيم الترمذي ص239 هامش ط المطبعة الكاثوليكية بيروت.

ص: 148

بشرِّ ، لأن دائرة الولاية تبدأ من وراء طور العقل ، لبنائها على الكشف " (1).

ويعرف الخواجة عبد الله الأنصاري الهروي الكشف بقوله: " هو بلوغ ما وراء الحجاب وجودًا "(2).

فإذن لا إنكار على ما يقوله مشايخهم ويتفوهون به مخالفًا للعقل والنقل ، ولا رد على ما يعملون ويأتون به منافيًا للدليل الشرعي والبرهان النظري.

وأقطع النصوص في ذلك هو ما صرح به عبد الغني الرافعي حيث قال:

" ومن آداب الطريق أن يعتقد في شيخه أنه على شريعة من ربه وبينة منه ، فلا يزن أحواله ميزانه ، فقد يصدر من الشيخ ما صورته مذمومة وهو محمود في الباطن ، ومنهم من يجسد روحانيته على صورته ويقيمها في فعل من الأفعال ويراها الحاضرون ، فيقولون: رأينا فلانًا يفعل كذا. وهو بمعزل من ذلك الفعل

وكأنما إنما يفعلون ذلك ليصرفوا الناس عنهم " (3).

فالمعنى أن الصوفية لا إنكار عليهم ، ولو رآهم أحد يزني ، ويشرب الخمر، ويعمل الخبائث ، ويرتكب المحرمات ، لأنه من الممكن أن تتجسد روحانيته في صورة مثل صورته ويرتكب حرامًا ، وهو " بمعزل من ذلك ".

فوا أسفي على مؤامرة الصوفية ضد الإسلام والشريعة الإسلامية النقية الزكية النزيهة عن مثل هذه الفلسفات الشيطانية، فإنها لا تعرف شيئًا من هذه الحيل والعلل التي اخترعها الصوفية بالشريعة وأوامرها وهتك حرمتها.

وإلا فما المراد من تحريم الفكر والنظر في الأدلة على المريد وتحريم موازنة أفعال وأحوال شيخه بميزان الشريعة ، وإيجاب التسليم لمرشده وهاديه الذي لا يهديه إلا إلى الزيغ والضلال وإلى طريق الجحيم.

فهذا جزاء لمن أراد أن يحافظ على الشريعة ولا يتركها بأمر من يريدون القضاء

(1)((الطبقات الصغرى)) للشعراني ص 38.

(2)

((منازل السائرين)) للخواجة عبد الله الإنصاري الهروي ص 192.

(3)

((ترصيع الجواهر المكية)) لعبد الغني الرافعي ص 34.

ص: 149

عليها من المتصوفة.

ورواية أخرى رواها الجعلي الفضلي عن صوفي سوداني أنه كان " يرد المطلقة ثلاثًا من غير زوج ينكحها ، وكان الشيخ عبد القادر ابن الشيخ إدريس ينكر عليه في ذلك ، ويقول له: جميع الناس تسويهم أولاد الزنا. فيقول له:

متى ما أنكر عليه: اسأل أمك. فسأل أمه طاهرة عن ذلك، فقالت: أبوك طلقني ثلاثًا ، مكثت عزبة ثماني سنين ، فردّني له ، فحملت بك. فقال له الشيخ: يا عبد القادر ، رجعنا لك " (1).

وذكر الجعلي هذا واحدًا من مشايخه ومتصوفيه محمد الحميم بن عبد الصادق أنه تزوج من تسعين امرأة ، وجمع بين العشرات ، كما جمع بين بنات الشيخ بان النقا ، وبين بنات أبي لدودة اثنتين اثنتين ، فأنكر عليه القاضي ، وقال له: يا شيخ محمد ، خمست ، وسدست ، وعشرت حتى جمعت الآن بين أختين، تخالف كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟! فقال له: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أذن لي بذلك

فقال له القاضي: جميع هذه الأنكحة فسختها ، فدعا عليه وقال له: الله يفسخ جلدك. فمرض القاضي، وانفسخ جلده

وقال في رده أبياتًا منها:

فإن كنت يا قاضي قرأت مذاهبًا

فلم تدرك يا قاضي رموز مذاهبنا

فمذهبكم نصلح به بعض ديننا

ومذهبنا يعجم عليكم إذا قلنا

قطعنا البحار الزاخرات وراعنا

فلم يدر الفقهاء أين توجهنا

حللنا بواد عندنا اسمه الفضا

فضاق بنا الوادي ونحن ما ضقنا

حللنا بقرب القاب روحًا من الدنا

عجنا شموسًا أخجلت شمس نورنا (2)

ومثل ذلك رووا عن عبد الرحمن الجامي الصوفي الخراساني الفارسي المشهور انه قدم سيف الدين أحمد ومعه جملة من المدرسين ، فعمل لهم الضيافة ، ثم أقام لهم الغناء والرقص ، فقال بعض الحاضرين للشيخ:

(1) كتاب ((الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين)) للجعلي الفضلي ص103 ط المكتبة الثقافية بيروت لبنان.

(2)

أيضا ص 150 - 151.

ص: 150

يا مولانا ، كيف استماع الغناء والضرب بالدفوف والرقص ، ما هو خلاف الشرع؟

فحول الشيخ وجهه إليه ، وتكلم في أذنه خفية، فظهر منه صوت عجيب ، وحصل له وجد بالسماع وضرب الدف، ولما أفاق اعتذر للشيخ (1).

وأشنع منها الحكاية التي ذكرها اليافعي أن بعض الأمراء " استأذنته امرأته ذات ليلة في الخروج من بيته فأذن لها ثم تبعها ، ولم يزل يمشي بعدها إلى أن جاءت إلى موضع سماع الشيخ وفقرائه ، فرأى النساء وقربها من الفقراء ، فأنكر عليه بقلبه ، وقال: هؤلاء الفاعلون التاركون يسمعون والنساء عندهم. ثم إنه أخذه حرقان بول ، فتنحى إلى مكان ليبول فيه ، فوجد فرج امرأة ، فعرفه من أين أتى، ثم وقف حتى تفرق الناس وهو محزون متحير في أمره ، فوقف على الشيخ وقال له:

هكذا يكون الفقراء إذا جلس عندهم النساء ، فاستغفر الله تعالى من ذلك الخاطر، ودعا له الشيخ فعاد إلى حالة الأول " (2).

ومن الغرائب أن الهجويري المعروف بالاعتدال يحكي عن إحدى الصوفيات فاطمة البلخية أنها ذهبت مع زوجها الصوفي المشهور أحمد بن خضرويه البلخي إلى با يزيد، فلما أقبلت على با يزيد ورفعت البرقعة عن وجهها وكانت تتحدث معه بجرأة، فتعجب أحمد من ذلك ، واستولت الغيرة على قلبه ، فقال: يا فاطمة ، أيّ جرأة تلك التي كانت لك مع با يزيد؟

فقالت: لأنك أنت محرم طبيعتي ، وهو محرم طريقتي (3).

هذا ، والوقائع مثل هذه أكثر من أن تعد وتحصى ، وأن يسعها باب أو كتاب ، إن دلت على شيء دلت على أنه لا استنكار ولا نكير على الصوفية فيما يأمرون ويفعلون ، ويقولون ويعلمون ، لأن لهم علاقة رابطة واتصالا مع الله بطريق الكشف والإلهام

(1)((جامع كرامات الأولياء)) للنبهاني ج2 ص61.

(2)

((نشر المحاسن الغالية)) في فضل مشايخ الصوفية لعبد الله اليافعي ص87 بهامش ((جامع كرامات الأولياء)) ط دار صادر بيروت.

(3)

((كشف المحجوب)) للهجويري ترجمة عربية للدكتورة إسعاد عبد الهادي قنديل ص 332 ط بيروت ، أيضًا ((تذكرة الأولياء)) لفريد الدين العطار ص 169 ط باكستان ، أيضًا النور ص170.

ص: 151

غير مسطور في القرآن ولا مذكور في السنة ، فهم يعملون حسب ما يلهمون ، ويقولون حسب ما يكشف لهم مثل ما ينقل عبد القادر أحمد عطا عن الشعراني أن " الأولياء لهم علوم يتداولونها فيما بينهم لم يسطر في الكتاب ، ولم يطرق سمع أحد علم منها، وهي كثيرة "(1).

وبمثل ذلك قال الأستاذ مصطفى عبد الرزاق المتعاطف على التصوف والمتصوفة:

" وأهل التصوف يؤثرون العلوم الإلهامية دون التعليمية ، ويعدونها المعرفة الحقيقية والمشاهدة اليقينية التي يستحيل معها إمكان الخطأ.

ولذلك لم يحرصوا على دراسة العلم وتحصيل ما صنفه المصنفون ، والبحث عن الأقاويل والأدلة ، بل قالوا: إن الطريق إلى تحصيل تلك الدرجة بتقديم المجاهدة ، ومحو الصفات المذمومة، وقطع العلائق كلها ، والإقبال بكنه الهمة على الله تعالى. فطريق الصوفية يرجع إلى تطهيرٍ محضٍ وجلاء ومحاسبة للنفس ، ثم استعداد وانتظار للتجلي " (2).

وعلى ذلك قال الشعراني:

" لا ينبغي لأحد أن يبادر إلى الإنكار على من أمره شيخه بحلق اللحية - بعد ما ذكر حكاية غريبة عن الشيخ عبد الغفار القوصي - أن بعض الأولياء كان جالسا يعظ الناس ، فنزل من الكرسي وضرب شخصًا على رأسه من السامعين ، ثم رجع إلى الكرسي فقال فقيه: هذا حرام عليك ، أيش عمل هذا حتى تضربه؟

فقال المضروب: أنا أستحق ذلك ، لأني اغتبت في نفسي وليًا من الأولياء المدفونين فضربني تعزيرًا ، فخجل ذلك الفقيه من الشيخ ، ثم إنه نزل وضرب شخصًا آخر، فسألوه عن ذلك. فقال: إنه خطر في نفسه أنه أفضل من العلماء الحاضرين. وقال له: كيف تفضل نفسك؟ أما علمت أن ذلك ذنب إبليس الذي أخرج به من الجنة؟ فقال

(1) انظر مقدمة كتاب ((الطبقات الصغرى)) لعبد الوهاب الشعراني عبد القادر أحمد عطا ص 10 الطبعة الأولى القاهرة 1970.

(2)

((التصوف)) مقال مصطفى عبد الرزاق عن التصوف ص69 بيروت 1984م.

ص: 152

الشخص: أستغفر الله نعالى! وتاب من ذلك " (1).

ومثل ذلك قال في أخلاقه بعد ما ذكر عن المتبولي أنه قال:

" علمت من كان في ظهر آدم من السعداء حال كونهم ذرات ، فلا يزيدون على ما علمت ولا شخصًا واحدا ، وكذلك أطلعني الله تعالى على جميع ما يفعله كل عبد حين أرى أنفه فأعرف ما وقع فيه في الماضي ، وما يقع فيه في المستقبل من خير وشر- ثم قال -:

وقلت: وينبغي التسليم لكل من ادعى أن الله أطلعه على ذلك ، لأنه ادعى ممكنًا " (2).

وابن عجيبة الحسني لم ير أن يتأخر عن الجماعة ترويجًا لهذا الباطل ، فقال بعد ما نقل عن أبي بكر الشبلي أنه كان له تلميذ، فكساه رجل يومًا جبة ، وكان على رأس الشبلي قلنسوة ، فخطر على قلب التلميذ محبة القلنسوة ليجمعها مع الجبة ، فكاشفه الشيخ فأزال له الجبة وجمعها مع القلنسوة ، ورمى بهما في النار ، وقال له: لا تبق في قلبك التفاتًا لغير الله - قال بعد ذكر هذه الحكاية -:

وأنكر عليه بعض أهل الظاهر المتجمدون على ظاهر الشريعة جهلا بالمقصود ، لأن أعمال الصوفية مبينة على العبادة القلبية (3).

فهكذا خالف القوم الشريعة، ونقضوها وعطّلوها، وهدموا قواعدها بدعوى الكشف والإلهام ، فادعى بعض منهم بعدم التفريق بين النبي والولي من حيث الوحي والإلهام ، وزاد بعضهم في غلوائه ، فرجحوا الولاية على النبوة ، وزعموا بعدم ختم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وإتيان النبي (4).

وارتقى البعض الآخر إلى أن وصل إلى مرتبة الألوهية والربوبية ، فقالوا في ذلك ما قالوا (5).

والجدير بالذكر أن جل إلهامات القوم وأكثر مكاشفاتهم ليست من الرب - عز اسمه

(1) انظر ((الأخلاق المتبولية)) للشعراني ج1 ص411 - 412.

(2)

((الأخلاق المتبولية)) للشعراني ج1 ص124 ط القاهرة.

(3)

((ايقاظ الهمم)) لابن عجيبة ط مصطفى البابي الحلبي الطبعة الثالثة 1402هـ.

(4)

انظر كتابنا ((التصوف: المنشأ والمصادر)) الباب الثالث منه.

(5)

انظر لذلك كتابنا ((أولياء أم آلهة)) الباب الأول.

ص: 153

وجل مجده ، - بل إنها خبالات نفسانية أو بخارات صعدت إلى مفكراتهم وأذهانهم من سوء الهضم ، والتجوع ، والسهر، أو تخيلات المهووسين والمجانين أو إلقاءات وإيحاءات شيطانية ، لاختلافها وتناقضها وتعارضها وتبيانها باختلاف الأشخاص والبيئات.

فوجود الاختلاف دليل على أن مصدرها ومنبعها ليس بواحد ، وهذا واضح وجلي لمن عرف مكاشفات القوم، واطلع على إلهاماتهم، وقرأ في كتبهم ، فمكاشفات ابن عربي تختلف عن مكاشفات ابن سبعين ، وإلهامات أبي البسطامي عن با يزيد الأنصاري وذي النون المصري ، والرفاعي عن الشاذلي والنقشبندي عن السهروردي، والجشتي عن القادري، والبكتاشي عن

النوربشتي ، والتيجاني عن العروسي

{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً} (1).

وعلى ذلك انتبه لهم علماء الإسلام وفقهاء الأمة، وتصدوا لهم بالرد على أفكارهم وخيالاتهم ، ففسّقوا البعض وكفّروا الآخرين ، وافتوا بالزندقة على قسم منهم، ولم يكن ردهم عليهم إلا أن قالوا كما نطق به شيخهم الأكبر:

" ويزيل رجل الطريق التفكر عن نفسه جملة واحدة ، فإنه مفرّق لهمّه ، ويعتكف على مراقبة قلبه عند ربه ، عسى الله أن يفتح له الباب إليه ، ويعلم ما لم يكن يعلم ، مما علمته الرسل وأهل الله ، مما لم تستقل العقول بإدراكه ، وإحالته.

فإذا فتح الله لصاحب هذا القلب هذا " الباب " حصل له تجلِّ إلهي ، أعطاه ذلك التجلي بحسب ما يكون حكمه ، فينسب إلى الله منه أمرًا لم يكن قبل ذلك يجرأ على نسبته إلى الله - سبحانه -

غير أن أصحابنا اليوم يجدون غاية الألم ، حيث لا يقدرون يرسلون ما ينبغي أن يرسل عليه سبحانه كما أرسلت الأنبياء عليهم السلام فما أعظم تلك التجليات! وإنما منعهم أن يطلقوا عليه ما أطلقت الكتب المنزلة والرسل عليهم السلام عدم إنصاف السامعين من الفقهاء وأولي الأمر، لما يسارعون إليه في تفكير من يأتي بمثل ما جاءت به الأنبياء عليهم السلام في جنب الله، وتركوا - أعني

(1) سورة النساء الآية 82.

ص: 154

هؤلاء الفقهاء - معنى قوله تعالى:

{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} كما قال له صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل عند ذكره الأنبياء والرسل عليهم السلام: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} .

فأغلق الفقهاء هذا الباب من أجل المدعين الكاذبين في دعواهم.

ونعم ما فعلوا ، وما على الصادقين في هذا من ضرر، لأن الكلام والعبارة عن مثل هذا ما هو ضربة لازب. وفيما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك كفاية لهم.

فيوردونها، يستريحون إليها: من تعجب ، وفرح ، وضحك وتبشبش ، ونزول ، ومعية ، ومحبة ، وشوق ، وما أشبه ذلك مما لو انفرد بالعبارة عنه الولي كفر، وربما قُتل.

(303)

وأكثر علماء الرسوم عدموا علم ذلك ذوقًا وشربًا. فأنكروا مثل هذا من العارفين ، حسدًا من عند أنفسهم. إذ لو استحال إطلاق مثل هذا على الله تعالى ، ما أطلقه على نفسه ، ولا أطلقته رسله عليهم السلام عليه. ومنعهم الحسد أن يعلموا أن ذلك رد على كتاب الله، وتحجير على رحمة الله أن تنال بعض عباد الله، وأكثر العامة تابعون للفقهاء في هذا الإنكار ، تقليدًا لهم ، بل بحمد الله أقل العامة

فانظر ما يقاسيه في نفسه العالم بالله. فسبحان من أعمى بصائرهم علماء الرسوم ، حيث أسلموا وسلموا ، وآمنوا بما به كفروا، فالله يجعلنا ممن عرف الرجال بالحق ، لا ممن عرف الحق بالرجال (1).

" إنما كان الناس ينكرون على أهل الله تعالى علومهم لأنها جاءت أصحابها من طرق غريبة غير مألوفة، وهي طرق الكشف، وأكثر علوم الناس إنما جاءتهم من طريق الفكر، فلذلك كانوا ينكرون كل ما جاءهم من غير هذا الطريق ، وما كل أحد يقدر على جلاد مرآة قلبه بالمجاهدة والرياضة حتى يصير يفهم كلام أهل الله، ويدخل دائرتهم ، ولكن لله في ذلك حكم وأسرار (2).

وأيضًا " لقد وقع لنا وللعارفين أمور ومحن بواسطة إظهارنا المعارف والأسرار،

(1)((الفتوحات المكية)) لابن عربي السفر الرابع ص221 إلى 227 ط الهيئة المصرية العامة ايضًا.

(2)

أيضًا الباب الثامن والثلاثون والأربعمائة نقلا عن ((اليواقيت والجواهر)) للشعراني ج1 ص25.

ص: 155

وشهدوا فينا بالزندقة ، وآذونا الأذى، وصرنا كرسول كذبه قومه وما آمن معه إلا قليل ، وأعدى عدو لنا المقلدون لأفكارهم ، وأما الفلاسفة فيقولون عنا: هؤلاء قوم أهل هوس، قد فسدت خزانة خيالهم ، فضعفت عقولهم ، ويا ليتهم إذ لم يصدقونا جعلونا كأهل الكتاب لا يكذبونا فيما لم يخالف شرعنا ، مع أنا لا يضرنا بحمد الله إنكارهم علينا لجهلهم " (1).

ونقل الشعراني مثل ذلك عن الجنيد سيد الطائفة أنه قال:

" لا يبلغ أحد درج الحقيقة حتى يشهد فيه ألف صديق بأنه زنديق، وذلك ، لأنه إذا نطق بعلوم الأسرار لا يسع الصديقين إلا أن ينكروا عليه "(2).

وذكر الشعراني في مقدمة كتابه ((الطبقات الكبرى)) الكثيرين من المشايخ الصوفية الكبار الذين أخرجوا من بلادهم ، وفُسّقوا وكُفّروا مثل أبي يزيد البسطامي ، وذي النون المصري ، وسمنون ، وسيد الطائفة الجنيد ، والحكيم الترمذي، وأبي مدين المغربي، وغيرهم الكثيرين الكثيرين (3).

وذكر ماسنيون سبب سخط الفقهاء وغضبهم على المتصوفة حيث قال:

" ولكن الفقهاء والمتكلمين أسخطهم أن يروا أناسًا يتحدثون عن نشدان الضمير، ويحتكمون إلى قصائد الباطن، في حين أن شريعة القرآن تحاسب على الأعمال الظاهرة ، وتعاقب الناس على آثامهم، ولا حيلة لها مع النفاق في الدين ، ولذلك حاولوا أن يبينوا أن حياة الصوفية لا محالة مفضية بهم إلى الزيغ ".

وعن مثل هؤلاء قال الله عز وجل:

{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ

(1)((التدبيرات الإلهية)) لابن عربي ص113 ط مطبعة بريل ليدن 1336هـ ، أيضًا ((درر الغواص)) للشعراني ص320 بهامش ((الإبريز)) للدباغ طبعة قديمة مصر، أيضًا ((اليواقيت والجواهر)) للشعراني ص25 ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة.

(2)

((الطبقات الكبرى)) للشعراني.

(3)

المصدر السابق.

ص: 156

ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُم مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} (1).

و {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (2).

(1) آية رقم 79 سورة البقرة.

(2)

آية رقم 78 سورة آل عمران.

ص: 157