الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثاني
التصوف وَمخالفَة الشّريعَة
إننا ذكرنا في الباب الذي سبق أن الشريعة عبارة عن الكتاب والسنة ، والله أمر المؤمنين بالتمسك بهما فقال:
كما قال أيضاً:
وقال رسوله صلوات الله وسلامه عليه:
(تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله)(3).
فالمؤمن ملزم بأن يأتي ما أمره الشرع بعمله وأن يترك ما أمره الشرع بتركه: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (4).
وأنه لمسلوب الخيار أمام أوامر الله ورسوله {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} (5).
فالطيب ما طيبه الله ونبيه ، والحسن ما حسّنه الله ورسوله ، والمسنون والمستحب ما أستحبه الله ومرسله ، وكذلك القبيح والمذموم ما قبحه الله أو ذمّه رسول الله صلى الله
(1) سورة النساء الآية 59.
(2)
سورة النساء الآية 115.
(3)
رواه مالك في الموطأ.
(4)
سورة الحشر الآية 7.
(5)
سورة الأحزاب الآية 36.
عليه وسلم ، وليس للعقل فيه رأي ولا للرأي فيه دخل ، والأصل في العبادات المنع ، كما أن الأصل في المعاملات الإباحة مع مراعاة (الحلال بيّن والحرام بيّن ، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن أتقى الشبهات أستبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وأن لكل ملك حمى ، ألا وأن حمى الله محارمه)(1).
وإن المتصوفة كما لم يقتدوا بأسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم في معاملاتهم من الأكل والشرب واللبس والراحة والكسب والتجارة وغيرها من أمور الدنيا ، ولو يتبعوا خطوات ذلك النبي الذي ذكره الرب جل مجده في قرآنه وفرقانه {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (2).
كذلك لم ينهجوا منهجه ، ولم يسلكوا مسلكه ، وما اقتفوا أثره وأهتدوا بهديه ، وما أتبعوا سنته في الطاعات والعبادات ، فزادوا عليها أشياء من عند أنفسهم كما وكيفا ، كما أضافوا إليها أشياء لم تكن معهودة منقولة عن النبي المختار وخلفائه الراشدين الأبرار وأصحابه الطيبين الأخيار ، فضلّوا وأضلّوا ، وحادوا عن الجادة المستقيمة والمحجة البيضاء التي ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته عليها ، ليلها كنهارها ، لا يضّل سالكها ولا يهتدي تاركها ، فضلّت مساعيهم بدل أن تكون مشكورة ، وخسرت جهودهم وردت بدل أن تكون مقبولة ، وحبطت أعمالهم بدل أن تكون نافعة محمودة ، لتقدمهم بين يدي الله ورسوله ، واستصغارهم وتقلّلهم عمل رسول الله في عباداته ضيعتهم في معاملاته ، واستحقارهم سنة من كان أخشى الناس وأتقاهم لله ، فصاروا كالذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، فخالفوا أوامر
(1) متفق عليه.
(2)
سورة الأعراف الآية 157.
النبي ومنهياته زيادة ونقصاناً مفرطين في أشياء ومفرّّطين في أخرى.
كما تجاسروا على أنزالهم أنفسهم ومشائخهم على مرتبة التشريع والتقنين ، فأوجدوا أشياء ، وأبتدعوا أعمالا وجعلوها من الدين ناسين قول الخالق المتعال {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} (1).
فابتعدوا عن الجادة ، وتفرقت بهم السبل ، وصلّ عنهم سواء السبيل التي هي سبيل الله وسبيل رسوله صلى الله عليه وسلم وسبيل المؤمنين كما هو مبين في القرآن المجيد:
و {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} (3).
فخسروا خسرانا مبيناً.
ونحن نذكر في هذا الباب مخالفات المتصوفة للقرآن والسنة وبعض بدعهم التي أخترعوها ومحدثاتهم التي أبتدعوها تقربا إلى الله ووصولا إلى معرفته وابتغاء لمرضاته حسب زعمهم كما ذكرنا في الباب الذي سبق تطرفاتهم وتقشفاتهم التي لم ير لها أثر فيهما ولا في سيرة المؤمنين الأولين الذين نزل القرآن بينهم والذين تتلمذوا على مبيّن القرآن صلوات الله وسلامه عليه.
فنذكر في هذا الباب مخالفة المتصوفة لصريح القرآن والسنة ونصوصهما الظاهرة الصريحة.
من المعلوم في القرآن والسنة أن الله خلق الخلق وأمرهم بعبادته ، وأرسل إليهم الرسل تترى ، وختمهم بمحمد خاتم النبيين وأشرف المرسلين صلى الله عليه وسلم لكي يهدوهم إلى وحدانيته وعبادته ، وخلق الجنة لمن أطاعهم من خلقه وعبده وحده ،
(1) سورة الشورى الآية 21.
(2)
سورة الأنعام الآية 153.
(3)
سورة يوسف الآية 108.
وخلق النار لمن غوى وعصى أوامر ربهم وطغى إرشادات أنبيائهم ، فرغبهم في الطاعة بالجنة ، وأرهبهم عن المعصية بالنار ، فقال:
كما قال: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} (2).
{قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} (3).
وذكر أهل الفوز من أهل الخسران بقوله:
فإن أهل السعادة من رغبوا في جنته ورهبوا من النار ، فأطاعوه وأطاعوا رسله ، وآمنوا بما أنزل إليهم من ربهم ، وعملوا بما أمروا فدخلوا الجنة.
وأهل الشقاء من لم يرغب في الجنة ولم يرهب من النار ، فعصوا الله ورسله وكفروا بما أنزل إليهم من ربهم.
{فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ {106} خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ {107} وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ {108} (5).
(1) سورة آل عمران الآية 133.
(2)
سورة آل عمران الآية 131.
(3)
سورة التحريم الآية 6.
(4)
سورة آل عمران الآية 185.
(5)
سورة هود الآية 106 ، إلى 108.
(6)
سورة النساء الآية 13.
{وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (1).
ووصف المؤمنين بأنهم يدعون ربهم جنته رغبة فيها ويستغفرون من النار رهبة منها
وبيّن أحوالهم بأنهم لا يستريحون خوفا من عذابه وطمعاً في ثوابه فقال:
{تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} (4).
{وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} (5).
{وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} (6).
وهناك الدنيا والآخرة ، وهناك يوم الفصل ويوم الدين ، وإن الدنيا لمزرعة للآخرة ، ويوم الفصل يحكم بين العباد فينظر فيما أمروا في الدنيا ، وعلى ذلك يحكم لهم بما يستحقونه في الآخرة ، فقوم جعلوا نصب أعينهم الدنيا وحدها ، وقوم تركوا دنياهم لآخرتهم فزهدوا فيها ، وقوم جمعوا بين الحسنين ففازوا بنعيم الدنيا ونعيم الآخرة ، وعن هذا كله أخبر الرب تبارك وتعالى:
{فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ {200} وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {201} أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ {202} (7).
وقال: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} (8).
(1) سورة الجن الآية 23.
(2)
سورة البقرة آية 201.
(3)
سورة آل عمران آية 16.
(4)
سورة السجدة الآية 16.
(5)
سورة الإسراء آية 57.
(6)
سورة الأنبياء الآية 90.
(7)
سورة البقرة آية 200 إلى 202.
(8)
سورة الدخان آية 40.
و {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ {90} وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ {91} (1).
و {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ {13} وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ {14} (2).
والآيات في هذه المعاني كثيرة جداً.
ومثلها بل أكثر منها بأضعاف أحاديث نبوية شريفة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أحبُّ الخلائق إلى الله وأحبهم لله ، الذي قال سبحانه وتعالى في شأنه صلى الله عليه وسلم:{لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} (3).
كان أكثر الناس سؤالاً لجنته واستعاذة من النار فكان يقول: (اللهم إني أعوذ أسألك الجنة وما قرّب إليها من قول أو عمل ، وأعوذ بك من النار وما قرّب إليها من قول أو عمل)(4).
وروى الشيخان أنه كان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من عذاب النار وفتنة النار)(5).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت {وأنذر عشيرتك الأقربين} دعا النبي صلى الله عليه وسلم قريشاً فاجتمعوا ، فعمّ وخصّ ، فقال:
(يا بني كعب بن لؤيّ ، أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني مرة بن كعب ، أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد شمس ، أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد مناف ، أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم ، أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد المطلب ، أنقذوا أنفسكم من النار ، يا فاطمة ، أنقذي نفسك من النار ، فإني لا أملك لكم من الله شيئا ، غير أن لكم رحماً سأبلها ببلالها)(6).
فهذا هو منطوق القرآن والسنة.
وأما المتصوفة فلا يرون الأمر كذلك ، فلا الدنيا عندهم ولا الآخرة ، ولا الخوف
(1) سورة الشعراء آية 90 - 91.
(2)
سورة الإنفطار آية 13 - 14.
(3)
سورة الفتح آية 2.
(4)
أخرجه ابن ماجه وصححه ابن حبان والحاكم.
(5)
متفق عليه.
(6)
رواه مسلم.
ولا الطمع ، ولا الجنة ولا النار ، بل كثيراً ما يستهزؤن بها ويسخرون بذكرها ، فنقلوا عن رابعة العدوية البصرية أنها كانت تنشد:
" يعبدون الله خوفاً من لظى
…
فلظى قد عبدوا لا ربنا
ولدار الخلد صلّوا ، لا له
…
شبه قوم يعبدون الوثنا " (1).
وذكرها العطار فقال:
" جاء إليها رجال من أهل الله فسألت أحدهم: لماذا تعبد الله؟
فقال: خوفاً من عقابه والجحيم التي برزت للغاوين.
فسألت الآخر فقال: طمعاً في جنته التي أعدت للمتقين.
فقالت: أما أنا فما عبدته خوفاً من ناره ولا طمعا في جنته فأكون كالأجير السوء بل عبدته حباً له وشوقاً إليه " (2).
وورد مثل هذا في روضة التعريف بالحب الشريف أيضاً (3).
وروى الجلمي عنها أنها قالت:
" وعزتك ما عبدتك خوفاً من نارك ولا رغبة في جنتك ، بل كرامة لوجهك الكريم ومحبة فيك "(4).
وعلى ذلك قال المنوفي الحسيني بعد ذكر رابعة العدوية ، وجويرية ، ورابعة الدمشقية وغيرهن:" أولئك اللواتي طمعن في رحمة الله وأحببته لا رهبة من عقابه ، ولا طمعاً في ثوابه "(5).
وأنشدت أيضاً:
أحبك حبين حب الهوى
…
وحباً لأنك أهل لذاكا
فأما الذي هو حبّ الهوى
…
فشغلي بذكرك عمّن سواكا (6)
(1) ترصيع الجواهر المكية لعبد الغني الرافعي ص 49 ط المطبعة العامرية 1301هـ.
(2)
تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار ص 42.
(3)
أنظر روضة التعريف لوزير الدين بن الخطيب ص 427.
(4)
نفحات الأنس للجامي (فارس) ص 544 ط إيران.
(5)
جمهرة الأولياء للمنوفي الحسيني ج1 ص 270.
(6)
التعرف لمذهب أهل التصوف ص 131 ، 132 ، قوت القلوب لأبي طالب المكي ص 57 أيضاً روضة التعريف ص 427 ، أيضاً نشر المحاسن الغالية لليافي ج 1 ص بعاصر جامع كروان كرامات الأولياء للشعراني ط دار صادر بيروت.
وذكر ابن عجيبة الحسني أنها قالت:
كلهم يعبدونه من خوف نار
…
ويرون النجاة حظاً جزيلا
أو بأن يسكنوا الجنان فيضحوا
…
في رياض ويشربوا السلسلبيلا
ليس لي في في الجنان والنار رأي
…
أنا لا أبتغي بحبي بديلا (1)
وأكثر من ذلك ما نقله كل من القشيري والعطار والكلاباذي والكمشخانوي وغيرهم:
" مرضت رابعة العدوية فقيل لها:
ما سبب علّتك؟
فقالت: نظرت إلى الجنة بقلبي فغار عليّ قلبي ، فأدبني وقد آليت وحلفت أن لا أعود " (2).
وليس هذا الإستغناء عن الجنة والخوف والرهبة ، فحسب بل أكثر من ذلك نقل الشعراني استهزاءها بالجنة ونعيمها ، والقرآن الكريم ، فيقول:
" سمعت رابعة العدوية رضي الله عنها شخصا يتلو قوله عز وجل {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ {20} وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} قالت: نحن إذن صغار حتى نفرح بالفاكهة والطير "(3).
وليست رابعة العدوية وحدها من ينقلون عنها استغناءها عن الجنة واستحقار ذكرها ، وعدم اهتمامها بالخوف والرجاء ، والرهبة والرغبة ، بل هذا هو موقفهم ومشربهم ، فينقلون ذلك عن الآخرين أيضاّ ، فيقول السلمي والهجويري والسهلجي والمنوفي الحسيني:
" إن أبا يزيد البسطامي الذي قال فيه الجنيد البغدادي كما يروون: أبو يزيد منا بمنزلة
(1) إيقاظ الهمم لأبن عجيبة ص 32 ط مصطفى الباب ، أيضا هامش المعارضة والرد لمحمد كمال جعفر ص 137.
(2)
أنظر الرسالة القشيرية ج 2 ص 516 ، أيضا تذكرة الأولياء للعطار ص 34 ، أيضا التعرف لمذهب أهل التصوف ص 184 ، أيضا جامع أصول الأولياء للكمشخانوي ص 119 واللفظ له.
(3)
الطبقات الكبرى للشعراني ج 2 ص 71.
جبريل من الملائكة (1).
فكان يقول: " الجنة لا خطر لها عند أهل المحبة ، وأهل المحبة محجوبون بمحبتهم "(2).
ونقل ابن العريف عنه أيضاً أنه كان يسخر بالثواب ولم يكن يبالي بالعقاب ، وكان يقول مخاطبا للرب تعالى:
" أريدك لا أريدك للثواب
…
ولكني أريدك للعقاب " (3).
وكان يستهزئ بالجنة بقوله:
" لله عباد لو بدت لهم الجنة بزينتها لضجوا منها كما يضجّ أهل النار من النار "(4).
وقال أيضاً في هذا المعنى:
" من عرف الله صار للجنة ثواباً ، وصارت الجنة عليه وبالا "(5).
كما كان يستهزئ بالنار ، فينقل عنه أنه كان يقول:
" وددت أن قامت القيامة حتى أنصب خيمتي على باب جهنم. فسأله رجل: ولم ذاك يا أبا يزيد؟
فقال: إني أعلم أن جهنم إذا رأتني تخمد (6).
وأخيراً ما ذكر عنه السهلجي في ازدرائه واستصغاره الجنة حيث يروي عن ابن أخي أبي يزيد أنه قال:
" حدّثني أبي عن أبيه عن أبي يزيد أنه جاء حاتم الأصمّ زائراً له فقال حاتم: قد
(1) كشف المحجوب للهجويري ص 313.
(2)
طبقات الصوفية للسلمي ص 19 ، كشف المحجوب للهجويري ص 318 ، جمهرة الأولياء للمنوفي ج 2 ص 139 أنظر النور في كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 169 نشر الدكتور البدوي ط الكويت.
(3)
محاسن المجالس لأبي العباس أحمد بن محمد الصوفي الصنهاجي بن العريف ط باريس 1933م أيضا شرح كلمات الصوفية جمع محمود محمد الغراب ص 180.
(4)
النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 147.
(5)
أيضاً ص 118.
(6)
أيضاً ص 147.
قلت لتلامذتي: من لم يكن منكم يوم القيامة شفيعاً في أهل النار فيدخلهم الجنة لم يكن لي تلميذاً. فقال له أبو يزيد: ولكن قد قلت أنا لهم:
ليس من تلاميذي إلا من وقف يوم القيامة ، فكل من أمر من الموحدين إلى النار أخذ بيده وأدخله الجنة " (1).
ومثل ذلك نقلوا عن إبراهيم بن أدهم أنه كان يستهزئ بنعيم الجنة بدعائه:
" اللهم إنك تعلم أن الجنة لا تزن عندي جناح بعوضة "(2).
والشبلي الذي قال عنه الجنيد: " لكل قوم تاج ، وتاج هذا القوم الشبلي "(3).
ينقلون عن تاج قومهم هذا أنه كان يدعو: " اللهم أخبأ الجنة والنار خبايا غيبك حتى تعبد بغير واسطة "(4).
ومن استهزائهم بالجحيم ونيرانها أنه قال في مجلسه:
" إن لله عباداً لو بزقوا على جهنم لأطفوها "(5).
وكذلك كان يقول: " لو خطر على بالي أن الجحيم بنيرانها وسعيرها تحرق مني شعرة لكنت مشركاً "(6).
ومن استخفافه بوعيد أهل النار أنه سمع قارئاً يقرأ هذه الآية {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ} فقال الشبلي:
" ليتني كنت واحداً منهم "(7).
وأما معروف الكرخي فيروون عنه " أنه عبد الله لا خوفاً من ناره ، ولا شوقاً إلى جنته ، فلذلك رؤى في النوم في حظيرة القدس جالساً في سرادق العرش شاخصاً ببصره
(1) النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 98 ، 99.
(2)
جمهرة الأولياء لأبي الفيض المنوفي الحسيني ج 2 ص 130.
(3)
نفحات الأنس للجامي ص 180.
(4)
كشف المحجوب للهجويري ص 577 ط دار النهضة العربية بيروت.
(5)
أنظر كتاب اللمع للطوسي ص 491.
(6)
أيضاً ص 490.
(7)
اللمع للطوسي ص 490.
ينظر إلى الله " (1).
ونقل ذلك عبد الغني الرافعي أيضاً فقال:
" قال بعض إخوان معروف الكرخي رضي الله عنه: أخبرني يا أبا محفوظ ، أيّ شيء هاجك إلى العبادة والانقطاع عن الخلق؟ فسكت ، فقال له: ذكر الموت؟ فقال: أيّ شيء الموت؟
فقال: ذكر القبر والبرزخ؟ فقال: وأي شيء القبر؟
فقال: خوف النار ورجاء الجنة؟ فقال: وأيّ شيء هذا؟
ثم قال: إن كانت بينك وبينه معرفة كفاك جميع هذا " (2).
ونقل النفزي الرندي وأبو طالب المكي عن أبي حازم المدني أنه كان يقول:
" إني لأستحي من ربي أن أعبده خوفاً من العذاب فأكون مثل عبد السوء إن لم يخف لم يعمل ، وأستحي أن أعبده لأجل الثواب فأكون كالأجير السوء إن لم يُعط لم يعمل ، ولكن أعبده محبة له "(3).
وكتب الجامي في نفحاته أن محمد بن سعيد الزنجي سئل عن الرذيل من هو؟
قال: الذي يعبد الله خوفاً ورجاء.
قالوا: وأنت لم تعبد؟
قال: خدمة وطاعة (4).
ويقول الأنصاري الهروي المتوفى 481هـ:
" الحرمة هي التحرج عن المخالفات والمجاسرات ، وهي على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى تعظيم الأمر والنهي.
لا خوفاً من العقوبة
…
فيكون خصومه للنفس
ولا
…
طلبا
…
للجدّ
…
فيكون مسترقّا للأجرة
(1) قوت القلوب لأبي المكي ج 2 ص 56.
(2)
كفاية الأتقياء ومنهاج الأصفياء للدمياطي ص 107.
(3)
غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج 1 ص 242 ، أيضا قوت القلوب لأبي طالب المكي ج 2 ص 56.
(4)
نفحات الأنس للجامي (فارس) ص 38.
ولا شاهداً للجدّ
…
فيكون متديناً
…
بالمراياة
فإن هذه الأوصاف كلها شعب من عبادة النفس (1).
وقال أيضا تحت عنوان الرجاء:
" الرجاء أضعف منازل المريد لأنه معارضة من وجه ، واعتراض من وجه ، وهو وقوع في الرعونة في مذهب هذه الطائفة "(2).
وحكى عماد الدين الأموي وغيره أن داود عليه السلام أوحى إليه الرب تبارك وتعالى أن أودّ الأولاد إليّ عبدني بغير نوال
…
ومن أظلم ممن عبدني لجنة أو نار ، لو لم أخلق جنة ولا ناراً ألم أكن أهلاً لأن أطاع " (3).
ومن احتقارهم وأزدرائهم بالجنة ما ذكروا عن الصوفي عثمان بن عاشوراء أنه قال:
" خرجت من بغداد أريد الموصل فأنا أسير ، وإذا أنا بالدنيا قد عرضت لي بعزّها وجاهها ورفعتها ومراكبها وملابسها ومزيّناتها ومشتهياتها فأعرضت عنها ، فعرضت عليّ الجنة بحورها وقصورها وأنهارها وثمارها فلم أشتغل بها ، فقيل لي: ياعثمان ، لو وقفت مع الأولى لجبناك عن الثانية ، ولو وقفت مع الثانية لحجبناك عنا "(4).
ومثل نقل عن البسطامي أنه قال:
" الجنة هي الحجاب الأكبر لأن أهل الجنة سكنوا إلى الجنة ، وكل من سكن إلى سواه فهو محجوب "(5).
وقال الأموي:
" الخواص من الأولياء زهدوا في الحور العين وغيرهم من النعيم للنظر إلى وجه الله تعالى ، ثم أعرضوا عن الحور العين والقصور والإتكاء على الفرش والأرائك واللحوم والفواكه إلى مشاهدة كمال إله الكل "(6).
وفي هذا المعنى نقل الشعراني عن محمد الحنفي أنه دخل الحمام يوماً مع الفقراء ،
(1) منازل السائرين للخواجة عبد الله الأنصاري الهروي ص 68 ط إنتشارات مولى نشر أفغانستان 1350هـ.
(2)
أيضاً ص 60.
(3)
حياة القلوب لعماد الدين الأموي ج 2 ص 215 بهامش قوت القلوب ، أيضاً غيث المواهب العلية.
(4)
غيث المواهب العلية ج 1 ص 180.
(5)
النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 163.
(6)
حياة القلوب للأموي ج 2 ص 129.
فأخذ ماء من الحوض ورشّه على أصحابه ، وقال: النار التي يعذب بها العصاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مثل هذا الماء في سخونته ، ففرح الفقراء بذلك (1).
فليشاهد القراء إلى الاستهزاء والاستخفاف وما أسوأه وأشنعه بالإضافة إلى النيل من شأن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه:
(ناركم جزء من سبعين جزء من نار جهنم ، قيل: يا رسول الله ، إن كانت لكافية (2)، قال: فضلت عليهن بتسعة وستين جزء كلّهن مثل حرّها) (3).
هذا ويقول الإسكندري:
" من عبده لشيء يرجوه منه أو ليدفع بطاعته ورود العقوبة عنه فما قام بحق أوصافة "(4).
ومن أهم ما روي في ذلك ما رواه ابن الملقن في طبقاته عن أبي الحسن بن الموفق المتوفى 265 هـ أنه قال:
" اللهم إن كنت تعلم أني أعبدك خوفاً من نارك فعذّبني بها.
وأن كنت تعلم أني أعبدك حبا مني لجنتك وشوقاً إليها فأحرمنيها " (5).
ورووا عن شاب كان قلبه على قلب إبراهيم الخليل كما يقولون ، فينقلون عنه أنه كان يقول:
" يا سماء ويا أرض أشهدا عني ما خطر على قلبي ذكر الجنة والنار قط مثل إبراهيم الخليل "(6).
فأنظر ما أجرأهم على الكذب ، قطع النظر عن استحقار الجنة ونعيمها ، التي لم يكن
(1) طبقات الشعراني ج 2 ص 100.
(2)
أي أن هذه النار الدنيوية كافية في العقبى لإحتراق الكفار ، فهلا أكتفي بها ولأي شيء زيد في حرّها (الألباني).
(3)
متفق عليه.
(4)
أنظر غيث المواهب ج 1 ص 239.
(5)
طبقات الأولياء لأبن الملقن ص 342.
(6)
المصدر السابق.
نبي من الأنبياء إلا وقد سألها وطلبها من ربه مع ما فيهم سيد الأنبياء وأشرف المرسلين محمدنا خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم ، وجدّ نبينا إبراهيم الذي أتخذه الله خليلاً وأشتياقه إلى الجنة وطلبها من ربه مذكور محفوظ في كتاب ربه وربنا ، الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، حيث حكى عنه الرب تبارك وتعالى إذ يقول:
{رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ {83} وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ {84} وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ {85} (1).
هذا وقد ذكر السهلجي حكاية عن أبي موسى تدل على استخفاف الصوفية بالجنة ونيلهم من شأنها وعظمتها فيقول:
" يؤتى يوم القيامة برجل من طريق النار على حالة أحسن ما يكون ، فيراد أن يزداد الذي يؤتي من طريق النار ألما ووجعا فيقال له: ترى ذاك الذي يحمل إلى الجنة بتلك الزينة؟ وهو فلان. فيقول نعم ، كنت سمعت أسمه في دار الدنيا. قال فيبلغ الله صوته ذلك الولي فيقف مكانه فيقال له: لم لا تذهب؟ فيقول: لا أبرح من مكاني حتى يكون معي من سمع باسمي ، قال: فينادى: وهبناه منك ، خذ بيده وأذهب به إلى الجنة - وكان الشيخ أبو عبد الله يقول إذا حكى هذه الحكاية: فيقول: هذا لمن سمع الإسم ، فكيف لمن رأى وصحب "(2).
فالمعنى أنهم استصغروا شأن الجنة ومقامها ، وجعلوا دخولها من الأمور الهينة لا تحتاج إلى كثير عناء ومشقة ، بل يكفي أن يسمع الإنسان أسم وليّ من أولياء الصوفية ، وحسبه ذلك من دخول الجنة والبعد عن النار.
وأكثر من ذلك أنهم نقلوا عنه أنه قال:
" ما النار؟
لأستندن إليها ، وأقول: اجعلني لأهلها فداء أو لأبلعنها.
ما الجنة؟
(1) سورة الشعراء الآية 83 إلى 85.
(2)
النور من كلمات أبي طيفور ص 68.
لعبة صبيان " (1).
ومن احتقارهم الجنة ما رووه عن مطرف بن عبد الله بن الشخير أنه كان يقول:
" لو أتاني آت من ربي عز وجل فقال: أنت مخيّر بين الجنة والنار أو تصير تراباً لاخترت أن أصير تراباً "(2).
وذكروا عن سليمان الداراني أنه قال:
" إن لله عباداً ليس يشغلهم عن الله خوف النار ولا رجاء الجنة "(3).
ومما يدّل على إظهار الرغبة عن الجنة وعدم الاهتمام بنعيمها أن الشعراني روى عن سيده أبي الفضل الأحمدي أنه كان يقول:
" أرباب الأحوال تشتاق إليهم الجنة وهم لا يشتاقونها "(4).
أفليس ترجيح كون التراب على دخول الجنة ، وإظهار الرغبة عن نعيمها ، عيشها وترفها ، والزهد في حورها وقصورها وأنهارها وأثمارها ، أليس كفرا بنعمة الله وجحوداً بها ، وقد قال عز من قائل:
{وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (5).
وقال: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} (6).
و {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} (7).
فهذه هي الجنة والنار ، والثواب والعقاب ، والرجاء والخوف عند الصوفية ، وهذا هو ازدراؤهم واستحقارهم بها وبذكرها وبنعيمها خلافاً لسيرة المصطفين الأخيار وأحوال أصحاب خاتم النبيين الأبرار ، ومنافيا لنصوص القرآن الصريحة ، وأحاديث
(1) مجموع نصوص غير منشورة عن أبي يزيد ص 31 نقلا عن " شطحات الصوفية " للدكتور عبد الرحمن بدوي ط الكويت.
(2)
طبقات الشعراني ج 1 ص 33.
(3)
كفاية الأتقياء ومنهاج الأصفياء للدمياطي ص 107 ط.
(4)
الطبقات الكبرى لعبد الوهاب الشعراني ج2 ص 180.
(5)
سورة البقرة الآية 211.
(6)
سورة النحل الآية 83.
(7)
سورة العنكبوت الآية 67.
رسول الله الواضحة الجلية.
وإن المتصوفة لا يأبهون بالدنيا والآخرة كما لا يأبهون بالجنة والنار والثواب والعقاب ، فينقلون عن إبراهيم بن أدهم أنه قال:
" إن كنت تحب أن تكون لله وليا وهو لك محباً فدع الدنيا والآخرة ولا ترغبن فيهما ، وفرغ نفسك عنهما "(1).
ومثل ذلك ذكر القشيري والشعراني عن الحسين بن منصور أنه قال:
" علامة العارف أن يكون فارغاً من الدنيا والآخرة "(2).
ونقلوا كذلك عن محمد المغربي الشاذلي أنه كان يقول: لا يصح لمريد قدم في طريق أهل الله عز وجل إلا بعد أن يزهد في الدنيا ونعيم الآخرة (3)
ومثل ذلك ذكروا عن الجيلي أنه سئل عن الهمة فقال:
" هي أن يتعرى العبد بنفسه عن حب الدنيا ، وبروحه عن التعلق بالعقبى "(4).
وروى عن الشبلي أنه سمع قوله تعالى:
{مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} فصاح صيحة عظيمة وقال: فأين الذين يريدون الله تعالى (5).
مع أن الله عز وجل ولم يفرّق بين إرادة الآخرة وإرادته هو سبحانه تعالى حيث قال: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (6).
فإرادة الآخرة نفس إرادة الله لا فرق بينهما.
ومدح الله تعالى عباده الذين يريدون الآخرة ويسعون لها بقوله:
(1) كتاب المحبة للمحاسبي ضمن كتاب ختم الأولياء للترمذي ص 425 ط المكتبة الكاثوليكية بيروت.
(2)
الرسالة القشيرية لعبد الكريم القشيري ج 2 ص 605 ، أيضا طبقات الشعراني 1 ص 107.
(3)
الأخلاق المتبولية للشعراني تحقيق الدكتور منيع عبد الحليم محمود ج 1 ص 222.
(4)
الطبقات الكبرى لعبد الوهاب الشعراني ج 1 ص 127.
(5)
طبقات الشعراني ج 2 ص 72.
(6)
سورة الأنفال الآية 67.
(7)
سورة الإسراء الآية 19.
وجمع الله بين إرادته ورسوله والدار الآخرة في قوله: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} (1).
فهذه هي بعض قواعد المتصوفة في الخوف والرجاء والثواب والعقاب والجنة والنار والدنيا والآخرة ، وضعت لمخالفة منطوق القرآن وصريح السنة.
وهناك مخالفات أخرى للقرآن والسنة في مختلف المجالات نورد بعضا منها مع ذكر الآيات والأحاديث التي يخالفونها.
فمن المعروف أن الإسلام قلّما أكدّ وشدد في أكل الحلال وترك الحرام ، وطلبه من المؤمنين كما قبل العبادات والطاعات لأنه من لم يكن طعامه ولحمه ودمه من حلال أنى تتأتى منه الحسنات ، ويقبل عنه العبادات ، ويستجاب له الدعوات. فأمر الله به المؤمنين كما أمر به الأنبياء والمرسلين ، وقدمه على العمل الصالح والعبادة المقبولة فقال لأنبيائه وأصفيائه:
وقال مخاطبا للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} (3).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يكسب عبد مال حرام فيتصدق به فيقبل منه ، ولا ينفق منه فيبارك له فيه ، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، إن الله لا يمحو السيء بالسيء ، ولكن يمحو السيء بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث)(4).
وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة لحم نبت من السحت ، وكل لحم نبت السحت كانت النار أولى به)(5).
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(إن الله طيّب لا يقبل إلا
(1) سورة الأحزاب الآية 29.
(2)
سورة المؤمنون الآية 51.
(3)
سورة البقرة الآية 172.
(4)
رواه أحمد وكذا في شرح السنة.
(5)
رواه أحمد وكذا في شرح السنة.
طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال:{يا أيها الرسل كلوا من الطيبات وأعملوا صالحا} ، وقال:{يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر ، يمد يديه إلى السماء: يا رب ، يا رب ، ومطمعه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك) (1).
ولكن الصوفية يرون عكس ذلك فإنهم يرون الكسب من الركون إلى الدنيا ، ويبقون متعطلين عالة على الناس لا يعلمون ، ويعيشون على عطيات الناس من هبّ منهم ودب ، وقد مرّ بيان ذلك مفصلَا (2).
وليس هذا فحسب ، بل ذكروا أن عديدا منهم كانوا يتعاطون الحرام فيشربون الخمر ويأكلون الأفيون والبنج والحشيش ، ويتناولون المخدرات والمسكرات فواحداً منهم ذكرناه في كتابنا " التصوف: المنشأ والمصادر " الذي يقولون عنه: أنه كان مستجابا الدعوات ، ومحللاً المشكلات ، وما دعا شيئا قط إلا وقد أعطي ، وكان يشرب الخمر ويتعاطى المخدرات المسكرات ، وصار مزاره مهبط الأنوار ومحطّ البركات مثل ما كان هو في حياته (3).
ومثله الصوفي المشهور عين الدين المتوفي 822 هـ " كان يشرب الخمر ليلاً ونهاراً "(4).
ومنهم الشيخ الشرياني القصوري المتوفى 1043 هـ " كان قبله الحاجات وكعبة السائلين والطالبين ، ولم يكن يقضي لحظة بدون الخمر "(5).
وليس هذا فحسب ، بل أجتراء القوم وقالوا:
" وحكي عن إبراهيم بن أدهم رحمه الله أنه قال: كان بصحبتي رجل كثير الصوم والصلاة فعجبت من ذلك ، ثم نظرت في مأكوله من موضع غير طيب ، قال: فأمرته
(1) رواه مسلم.
(2)
أنظر الباب الأول من هذا الكتاب " التطرف من لوازم التصوف ".
(3)
تذكرة أولياء باكستان للدكتور شارب ج 2 ص 259 وما بعد.
(4)
أنظر تذكرة أولياء بر صغير للميرزه أختر الدهلوي ج 1 ص 203.
(5)
أيضاً ج 2 ص 103 ، 104.
بالخروج من ملكه وأخرجته معي في سفر ، فكنت أطعمه الحلال من موضع أعرفه وأرضاه ، قال: فلما صحبني مدة كنت أحتاج أن أضربه بالدرة حتى يقوم فيؤدي الفرض " (1).
وأما الملبس فنقل عنهم أنهم كانوا لا يراعون فيه الشرع ، فأحياناً كانوا يتجردون منه ولا يلبسون شيئاً ولا يراعون ما أوجبه الشرع من الستر ، وقد ذكرنا عديداً من الروايات في هذا الكتاب والكتاب الآخر ، وأحياناً كانوا يلبسون لباس الشهرة الممنوع عنه في السنة ، وأحياناً كانوا يستحلون الحرير كما ذكر الشعراني وأصحاب الطبقات متصوفة مشهورين وصوفية معروفين ما كانوا يلبسون إلا الحرير ، فمنهم: " الشيخ أحمد المشهور بحب رمانتي ، كان رضي الله عنه لا يلبس إلا الحرير
…
وكانت له كرامات كثيرة " (2).
ومنهم عون بن عبد الله بن عتبة فرووا عنه أنه كان يلبس الخز (3).
وحثّ أبو العباس أحمد بن علي البوني المتوفى 622هـ على التختم بالذهب حيث قال:
" ومن الأسرار العجيبة أن يوضع أسمه تعالى العلي العظيم في خاتم من ذهب ، من تختم به كان مهابا عند الناس معظّماً مكّرماً عالي القدر مرفوع الذكر ، ولا يزال كذلك طول حياته ، وإذا بعث يوم القيامة أمن تزلزل قدمه على الصراط ، وثقلت موازينه بالحسنات "(4).
مع التحريم الوارد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم: حيث قال:
(أحل الذهب والحرير للإناث من أمتي ، حرّم على ذكورها)(5).
وروى عن عليّ رضي الله عنه قال: " إن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ حريراً فجعله في
(1) كتاب اللمع للطوسي ص 219.
(2)
الطبقات الشعراني ج 2 ص 134.
(3)
الطبقات الكبرى للشعراني ج 1 ص 41.
(4)
منبع أصول الحكمة للبوني ص 46 ط مصطفى البابي الحلبي مصر.
(5)
رواه الترمذي والنسائي وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
يمينه ، وأخذ ذهباً فجعله في شماله ، ثم قال:(إن هذين حرام على ذكور أمتي) " (1).
ومن العجائب أن المتصوفة المدعين التقرب إلى الله وأبتغاء مرضاته وطلب رضوانه لا يسلكون في ذلك مسلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يبتغون خطاه ، فإن المسلم يعلم أن أحسن شيء ما يتكرم به العبد إلى الله وهي الصلوات الخمس بأوقاتها والتنفلات والتطوعات. ولكن الصوفية لا يرون ذلك مع ما أشتهر عنهم بكثرة الصلوات والنوافل فالأمر عكس ذلك ، نعم ، هناك بعض المتصوفة هم قد عرفوا بكثرة التنفل ولكن البعض منهم أيضاً خالفوا أسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم لإفراطهم في ذلك ، الإفراط المنهي عنه مثل قيام الليل كله من أوله إلى آخره ، وقد ذكرنا أمثلة لذلك في باب " التطرف من لوازم التصوف ".
ولكن الباحث والقارئ يتفحص أحوالهم وسيرهم في كتب الطبقات والسير ليرى العجب العجاب بأن القوم معظمهم لا يحضرون المساجد لأداء الصلوات الخمس ولا يحافظون عليها بل نقلوا عن كثير منهم بأنهم ما كانوا يخرجون من الروابط والزوايا ، والصوامع والتكايا ، والغيران والكهوف ، والسراديب والخلوات أسابيع وشهوراً بل وسنوات أيضاً ، لا للجمعة ولا للجماعة ، مع ورود التشديد في الحضور لأداء الصلوات في المساجد ومع الجماعة بأوقاتها. فإن الله تبارك وتعالى حينما أمر المؤمنين بإقامة الصلوات ، أمرهم بأدائها مع الجماعة ، فقال:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} (2).
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما سئل عن أفضل الأعمال ، قال:
(أفضلها الصلاة لأول وقتها)(3).
وعن أبي هريرة رضي الله قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى ، فقال: يا رسول الله ، إنه ليس لي قائد يقودني إلى المسجد ، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته ، فرخصّ له ، فلما ولّى دعاه ، فقال: (هل تسمع النداء
(1) رواه أبو داود وأحمد والنسائي وصححه الألباني.
(2)
سورة البقرة الآية 43.
(3)
رواه أحمد والترمذي وأبو داود.
بالصلاة؟)
قال: نعم ، قال:(فأجب)(1).
وقال عليه الصلاة والسلام: (والذي نفسه بيده ، لقد هممت أن آمر بحطب فيحطب ، ثم آمر بالصلاة فيؤذن لها ، ثم آمر رجلاً فيؤمّ الناس ، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فيؤذن لها ، ثم آمر رجلاً فيؤم الناس ، ثم أخالف إلى رجال لا يشهدون الصلاة فأحرّق عليهم بيوتهم ، والذي نفسي بيده ، لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء)(2).
وحث المؤمنين على الحضور في المساجد لأداء الصلاة مع الجماعة حيث قال:
(صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ بسبع وعشرين درجة)(3).
وإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يعرفون المنافق لعدم حضورهم للصلاة في المساجد مع الجماعة كما يروى عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ، قال:
" لقد رأيتنا وما يتخلّف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه ، أو مريض ، إن كان المريض ليمشي بين رجلين حتى يأتي الصلاة.
وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم علمنا الهدى ، وإن من سرّه سنن الهدى الصلاة في المسجد الذي يؤذن فيه. وفي رواية قال: من سرّه أن يلقى الله تعالى غداً مسلماً فليحافظ على هذه الصلوات الخمس ، حيث ينادى بهن ، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى ، وإنهن من سنن الهدى ، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلّف في بيته لتركتم سنة نبيكم ، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم ، وما من رجل يتطهر فيحسن الطهور ، ثم يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلا كتب الله له بكلّ خطوة يخطوها حسنة ، ورفعه بها درجة ، وحطّ عنه بها سيئة ، ولقد رأيتنا وما يتخلّف عنها إلاّ منافق معلوم النفاق ، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف " (4).
(1) رواه مسلم.
(2)
رواه البخاري.
(3)
متفق عليه.
(4)
رواه مسلم.
فهذه نبذة يسيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، وإن الله أوجب الجمعة على المسلمين بقوله:
كما فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم استماع الخطبة والحضور في العيدين.
ولكن القوم الذين يعدّون التصوف من دين الله بل أصل الدين وأساسه وسبباً لقربه وولايته ولا يرون شيئاً من ذلك. فأولا لا يحضرون الصلوات إطلاقاً ولا يرون للمسجد قيمة وشأناً كما نقل الشعراني في طبقاته:
" كان الإمام الحسن بن سمعون رضي الله عنه أماماً زاهداً ورعاً قلما يخرج من بيته إلا في أيام الجمع لأجل الصلاة ، وطول نهاره في قعر بيته رضي الله عنه "(2).
وذكر ظهير الدين القادري أيضاً صوفياً ما كان يخرج من منزله إلا للجمعات فيقول:
" كان ورعاً متديناً كثير العبادة منقطعاً في منزله من الناس لا يخرج إلا في الجمعات "(3).
وليس ترك الجماعة فقط ، بل الجمعة أيضاً كما ذكر المنوفي الحسيني عن الصوفي المصري الذي قال فيه " هو الولي المجذوب العالم القطب الشريف الشاذلي " فيذكر عنه أنه " ما كان يخرج من بيته إلا كل أسبوع لزيارة المشهد الحسيني وكان يخرج في موكب يذكر الله هو وإخوانه حتى إذا وصل إلى المسجد الحسيني كثر أنضمام الناس إليه وتزاحموا فيدخل بهم إلى صحن المسجد فيذكرون الله جميعاً "(4).
فلم يكن غرض خروج هذا الصوفي من بيته إلا زيارة المشهد الحسيني ، فأين
(1) سورة الجمعة الآية 9.
(2)
طبقات الشعراني ج 1 ص 68.
(3)
الفتح المبين لظهير الدين القادري ص 91 ط.
(4)
جمهرة الأولياء لأبي الفيض المنوفي الحسيني ج 2 ص 265 ط مؤسسة الحلبي القاهرة الطبعة الأولى 1387 هـ.
الجماعة وأين الجمعة؟
ثم ما الفائدة من هذا الذكر المقرون بالبدعات والخرافات مع ترك الجمعة والجماعة؟
وهناك صوفي آخر ذكره صاحب " تنبيه المغتربين " أنه كان يخلّي ولده على الخلوة أربعين يوماً فلا يفتح عليه " (1).
ويروي الجعلي الفضلي عن شيخه بأن النقا أنه مكث في خلوته أربعين يوماً (2).
وهذه الأربعينية التي يتعاهدها الصوفية ويعتزلون خلالها عن الناس ويرتاحون في الأربطة والغارات فيفوتهم ثواب السعي إلى المساجد وأجر الصلاة بالجماعة والجمعة قد ذكر فتوحها وفوائدها السهروردي والباخرزي أيضاً فيقولان:
" فإذا تمت الأربعون زالت الحجب ، وأنصبت إليه العلوم والمعارف انصباباً
…
فالعبد بنقطاعه إلى الله تعالى وأعتزال الناس يقطع مسافات وجوده ، ويستنبط من معدن نفسه جواهر العلوم " (3).
فيظنّ الصوفية بأن الله يفتح عليهم جواهر العلوم والمعارف ، ويكشف لهم الغرائب والعجائب " تعويضاً عما تركوا لأجله "(4).
ولا يدرون أن ترك الجمعة والجماعة لا ينتج المعارف والكرامات ، وإنما ينتج سخط الله ومقته ، وقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخلوة باليهودية والنصرانية في حديث رواه أبو أمامة حيث قال:
(خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية من سراياه وقال: فمر رجل بغار فيه شيء من ماء قال:
فحدّث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار فيقوته ما كان فيه ، وفيه شيء من ماء ويصيب
(1) تنبيه المغرين للشعراني ص 8.
(2)
كتاب الطبقات للجعلي الفضلي ص 60 ط بيروت.
(3)
عوارف المعارف للسهروردي ص 209 ط دار الكتاب العربي بيروت.
(4)
أيضا 212.
ما حوله من البقل ويتخلى عن الدنيا ثم قال: لو أتيت نبي الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فإن أذن لي فعلت وإلا لم أفعل ، فأتاه فقال: يا نبي الله إني مررت بغار فيه ما يقوتني من الماء والبقل فحدثتني نفسي بأن أقيم وأخلّي من الدنيا.
فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: (إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفسي بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها)(1).
وأما الأشياء التي تحصل لهم في خلواتهم فليست كرامات رحمانية كما يظنون ، وإنها أحوال شيطانية كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاواه:
" وهذه الخلوات قد يقصد أصحابها الأماكن التي ليس فيها أذان ولا إقامة ولا مسجد يصلي فيه الصلوات الخمس ، مهجورة إما مساجد وإما غير مساجد ، مثل الكهوف والغيران التي في الجبال ، ومثل المقابر لاسيما قبر من يحسن به الظن ومثل المواضع التي يقال أن بها أثر نبي أو رجل صالح ، ولهذا يحصل لهم في هذه المواضع أحوال شيطانية يظنون أنها كرامات رحمانية "(2).
هذا وقد ذكر الجامي عن الصوفي المشهور شمس الدين التبريزي أنه كان يمكث في خلوته ثلاثة شهور لا يخرج منها أصلا ، كما أنه لم يكن يسمح أحداً بالدخول فيها (3).
والشعراني يذكر صوفياً آخر مكث تسعة شهور في خلوته منقطعاً عن الخلق تاركاً للجمعة والجماعة فيقول:
" أنقطع الشيخ عبد الحليم المنزلاوي في الخلوة تسعة شهور يقرأ في الليل ختماً وفي النهار ختماً ، ثم خرج ينفق من الغيب إلى أن مات ، وأقمت عنده في زاويته نحو سبعة وخمسين يوماً فما رأيت الفقراء احتاجوا إلى شيء إلا ويخرج لهم من كيس صغير كعقدة الإبهام جميع ما يطلبونه "(4).
(1) أنظر لذلك تلبيس إبليس لأبن الجوزي ص 324 ط دار الوعي العربي بيروت.
(2)
فتاوى شيخ الإسلام ج 0 ص 406.
(3)
نفحات الأنس للجامي ص 466.
(4)
أنظر تذكرة أولياء بر صغير لميرزه أختر الدهلوي ج 2 ص 42 ط باكستان.
ومما يدل على بعض الصوفية وكرههم للحضور في المساجد للجمعة والجماعة ما حكوه عن بركات الخياط نقلاً عن أبي السعود الجارحي أنه قال:
" مدحت الشيخ بركات الخياط للشيخ جمال الدين الصائغ مفتي الجامع الأزهر وجماعة ، فقالوا: أمضوا بنا نزوره ، وكان يوم جمعة ، فسلّم المؤذّن على المنار فقالوا له: نصلّي الجمعة ، فقال: مالي عادة بذلك (يعني أن الجمعة عادة وليست فرضاً) ، فأنكروا عليه ، فقال: نصلي اليوم لأجلكم (وليس لله) ، فخرج إلى جامع المارداني فوجد في الطريق مسقاة الكلاب فتطهر منها (أنظر الإستهزاء بالفرائض الإسلامية) ، ثم وقع في مشحنة حمير ، ففارقوه وصاروا يوبخون الشيخ عبد الواحد الذي جاء بهم إليه ، وصار الشيخ بركات يوبخ عبد الواحد ويقول: أيش هؤلاء الحجارة الذين أتيت بهم لا يعود لك بالعادة أبداً ، والله يا ولدي ، مسقاة الكلاب إنما هي مطعمهم ومشربهم ، وكذلك مشنحة الحمير إنما هي صورة اعتقادهم النجس "(1).
وهناك آخر كان يمكث في خلوته ستة شهور كل سنة ، لا يطعم شيئاً ولا يشرب ، وإذا أراد الخروج من خلوته بعد ستة أشهر صاح بصوت عال ليختفي الناس عنه ولا يقع نظره على أحد لو وقع على أحد لكان أعمى عليه ليومين (2).
فهكذا أدّى بهم التصوف إلى الإستهزاء بفرائض الشريعة وشعائرها والجهر بهتكها ومخالفتها.
وليس ترك الجمعة والجماعة فحسب ، بل صلاة العيد أيضاً كما نقلوا عن أبي السعود الجارحي أنه كان كثير المجاهدات
…
كان ينول في سرب تحت الأرض من أول ليلة من رمضان فلا يخرج إلا بعد العيد بستة أيام ، وذلك بوضوء واحد من غير أكل (3).
فهل هذه هي المجاهدات التي قالوا عنها " لو أن النبوة تنال بالمجاهدة لنالها عبد الكريم (4).
(1) طبقات الشعراني ج 2 ص 135.
(2)
أيضا ج 2 ص 145.
(3)
الطبقات الكبرى للشعراني ج 2 ص 130.
(4)
أنظر قلادة الجواهر لأبي الهدى الرفاعي ص 357.
وقال الشعراني: " لو أن النبوة تنال بالمجاهدة لنالها سيدي أبو السعود "(1).
هذا والصوفي الهندي القديم علاء الدين صابر الكليري المتوفى 690 هـ لم يخرج من خلوته سنتين (2).
وأما الجعلي الفضلي فقد ذكر عن حمد النحلان الذي يقول فيه: " اجتمع بالخضر عليه السلام وأخذ عليه " يقول: " أنه مكث في الخلوة إثنين وثلاثين شهراً ، وأخذ معه ثلاث سلق قرظاً وسبع تمرات ، والخلوة فيها طاقة يناولونه بها الماء ، وكل ليلة مطالة قدر عين الجمل لفطوره ، فلما خرج من الخلوة وجدوا القرظ والتمرات والمطاطيل على حالها ، والركوة ملآنة ماء ، فجميع من شرب منها وقع مغشياً عليه وصار ولياً من أولياء الله تعالى "(3).
فهذا التارك للجمعة والجماعة والعيدين يرى فيه الصوفية أنه كان من كبار أولياء الله تعالى ومن أصحاب الفيوض والبركات.
فهل تأتي الولاية بمخالفة الشريعة الإسلامية؟ وهل تحصل بشرب ماء من ركوة الفساق العصاة التاركين للجماعة والجمعات؟.
ونقلوا عن الصوفي المشهور محمد الحنقي أنه أعتزل عن الناس وجلس في خلوة تحت الأرض سبع سنين ، فيقول الشعراني نقلاً عن أبي العباس المرسي أنه قال:
" لما خرج الشيخ محمد الحنقي من الكتاب جلس يبيع الكتب في سوقها ، فمّر عليه بعض الرجال فقال: يا محمد ، ما للدنيا خلقت ، فنزل من الدكان وترك جميع ما فيه من الغلة والكتب ولم يسأل عن ذلك بعد ، ثم حبّب إليه الخلوة فأختلى سبع سنين لم يخرج في خلوة تحت الأرض دخلها وهو ابن أربع عشرة سنة "(4).
ونقل ابن الملقن عن فتح بن شخرف الكسي أنه قال:
(1) أنظر طبقات الشعراني ج1 ص 140.
(2)
أنظر تذكرة أولياء برصغير لأختر الدهلوي ج 2 ص 2
…
ط باكستان.
(3)
كتاب الطبقات للجعلي الفضلي ص 60 ط.
(4)
طبقات الشعراني ج 2 ص 90.
" تهت في الجبال سبع سنين "(1).
وليس سبع سنين فحسب ، بل ذكروا عن أبن عثمان الحيري من الصوفية القدامى المتوفي سنة 298 هـ أنه أختلى عشرين سنة لم ير أثناء هذه المدة الطويلة شبحاً من الناس ، وبعد العشرين أمر بمخالطة الناس فخرج إليهم (2).
ولم يكتفوا بالعشرين ، فيذكر الطوسي عن أبي عبد الله الصبيحي أنه لم يخرج ثلاثين سنة من بيت من تحت الأرض من كثرة إجتهاد وتعبّده ، وكان إذا تكلّم بعلوم المعارف يدهش العالم (3).
ولو أقتصر الأمر على هذا إلا أنه قد تجاوز عن ثلاثين سنة أيضاً فذكروا عن حسين أبي علي الذي يعتقدون فيه أنه " كان من كمّل العارفين وأصحاب الدوائر الكبرى ، يناول الناس والفضة " يذكرون عن وليهم وعارفهم هذا أنه " مكث نحو أربعين سنة في خلوة مسدود بابها ليس لها غير طاقة يدخل منها الهواء "(4).
فالحاصل أن الصوفية قد زيّن لهم الشيطان العبادات البدعية ، وبغض إليهم السبل الشرعية ، وحبب إليهم الخلوة والاعتزال ليحرموا ثواب الجماعة والجمعة ولم يعرف الصوفية أنه لم يبق طريق إلى الله إلا بإتباع محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وأن هذه العزلة والوحدة والاستغناء عن الأهل والولد وذوي الرحم وأصحاب القربى والأصدقاء والإخلاء ، لمن الأعمال المخالفة للشريعة الإسلامية والموجبة للحرمان عن أجر السعي إلى ذكر الله وأداء الجمعة والاستماع إلى تلاوة القرآن الكريم والإصغاء ومعاشرة المسلمين بالبّر والصلة وحسن الخلق وتشييع الجنائز وعيادة المرضى وزيارة القبور وخدمة الوالدين وغيرها من الخلق الحسن ، وفي الحديث أن رسول الله
(1) طبقات الأولياء لأبن الملقن ص 274.
(2)
خزينة الأصفياء لغلام سرور اللاهوري ص 91 ط باكستان.
(3)
كتاب اللمع للطوسي ص 500.
(4)
الطبقات الكبرى لعبد الوهاب الشعراني ج 2 ص 88.
صلى الله عليه وسلم قال:
(ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر الله لهما قبل أن يفترقا)(1).
وقال صلى الله عليه وسلم:
(من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه)(2).
وقال: (ما من شيء في الميزان أثقل من حسن الخلق)(3).
وقال عليه الصلاة والسلام:
(لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق)(4).
وقال عليه السلام:
(ومن لم يهتم للمسلمين فليس منهم)(5).
ولكن الصوفية المعتزلين المحبين للخلوة ، المستمرين في الوحدة والعزلة شهوراً وسنين ، يعتقدون عكس ما في السنن والأحاديث ، فيروي كل من السلمي والسهروردي والباخرزي وابن عجيبة الحسني والشعراني قاعدة عامة للصوفية فيقولون:
" لا يزال الصوفية بخير ، ما تنافروا ، فإن اصطلحوا هلكوا "(6).
وينصح ابن عربي المريد لبركات التصوف بقوله:
" لا يزار ، ولا يتكلم أحداً في خير ولا في شر "(7).
ويقول في كتاب آخر:
" الصحبة أشرّ شيء على المريد ، فإن الطريق مبني على قطع المألوفات وترك المستحسنات ، ولما كانت الصحبة تؤدي إلى الألفة والأنس وتغيير المحلّ بوجود الألم
(1) رواه أبو داود والترمذي.
(2)
متفق عليه.
(3)
رواه أبو داود والترمذي.
(4)
رواه مسلم.
(5)
أخرجه الحاكم من حديث حذيفة والطبراني عن أبي ذر.
(6)
طبقات السلمي ص 42 ، عوارف المعارف للسهروردي ص 112 ، أوراد الأحباب وفصوص الآداب لأبي المفاخر يحيى الباخرزي ص 110 ط إيران ، الفتوحات الإلهية لأبن عجيبة ص 61 ، الطبقات الكبرى للشعراني ص 87.
(7)
الأمر المحكم المربوط فيما يلزم أهل طريق الله من الشروط لابن عربي ص 272 المنشور مع ذخائر الأخلاق وكلاهما لابن عربي القاهرة.
عند وقوع المفارقة ، لهذا كرهناها " (1).
حتى أنه قال: " لا يقل المريد لأحد: كيف حالك؟ "(2).
ورووا عن أويس القرني كذباً أنه قال:
" لا ينال الناس هذا الأمر حتى يكون الرجل كأنه قتل الناس أجمعين "(3).
ونقلوا كذلك عن الرفاعي أنه كان يقول:
" مالي خير إلا في الوحدة ، فيا ليتني لم أعرف أحداً "(4).
وقد أوصى داود الطائي مريدة بترك صحبة الناس ومعاشرهم فقال:
" فر من الناس كفرارك من السبع "(5).
وأما الشاذلي فيروون عنه أنه دعا ربه " يا ربّ ، أقلني من الناس فلا طاقة لي بمخالطتهم "(6).
وقال الغزالي: " الخلوة أصل ، والخلط عارض ، فيلزم الأصل ولا يخالط "(7).
ويقول أحمد الكمشخانوي:
" وأعلم أن التوفيق للعزلة دليل سعادة الأبد ، لأن من خالط الناس داراهم ، ومن داراهم راآهم ، ومن راآهم نافقهم ، ومن نافقهم استحق الدرك الأسفل من النار "(8).
ويكتب ابن عربي: " إن الحق سبحانه ولا يتجلى لقلب له أنس بغيره "(9).
ورووا عن الشبلي أنه قال:
(1) التدبيرات الإلهية لابن عربي ص 234 ط مطبعة بريل ليدن 1336 هـ.
(2)
أيضاً ص 237.
(3)
طبقات الشعراني ج1 ص 27.
(4)
أيضا ج 1 ص 141.
(5)
الرسالة القشيرية ج 1 ص 84.
(6)
أنظر المدرسة الشاذلية وأمامها أبو الحسن الشاذلي للدكتور عد الحليم محمود ص 35 دار الكتب الحديثة القاهرة.
(7)
فرائد اللآلي من رسائل الغزالي ط فرج الله ذكي الكردي مصر بتحقيق محمد بخيت 1344 هـ.
(8)
جامع الأصول في الأولياء للكمشخانوي ص 174.
(9)
التدبيرات الإلهية لابن عربي ص 235 ط ليدن 1336 هـ.
" علامة الإفلاس الاستئناس بالناس "(1)
وهذا كلّه رغم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكره السهروردي أيضاً في عوارفه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" المؤمن بألف ويؤلف ، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف "(2).
وهل تأتي الألفة بالتنافر والوحدة والعزلة والفرار من الناس أم بالمعاشرة والمخالطة والالتقاء والمصاحبة؟.
هذا وذكر الأموي عن الجنيد أنه قال:
" من أراد أن يسلم له دينه ويستريح بدنه وقلبه فليعتزل الناس ، فإن هذا زمان وحشة "(3).
ولم يأمر الصوفية معتقديهم بالتنافر والفرار عن عامة الناس فحسب ، بل عن الأقرباء وذوي الرحم أيضاً كما أنشد عجيبة الحسني:
أستغن عن كل ذي قرب وذي رحم
…
الغنيّ من استغنى عن الناس
وأين يذهب بعد الاعتزال عن الناس والاستغناء عنهم ، يبين ذلك صاحب " الأنوار القدسية " حيث يقول:
" من شأن المريد الصادق محبة العزلة عن الناس ، واستغناؤه الجلوس في البراري والمواضع الخربة حتى يتقوى ويصبر ولا يتدّنس بالأعيار "(4).
ويقول: " المريد الصادق يحب الخلوة البعيدة عن مرور الناس كخلاوي السطوح ويجب أن تكون ضيقة حتى لا يصلح له مدّ رجله فيها ، ويجب أن تكون مظلمة لا يدخلها نور الشمس "(5).
ولماذا يعتزل؟ يصرح بذلك الدمياطي حيث يقول:
(1) جامع الأصول للكمشخانوي ص 174.
(2)
أنظر عوراف المعارف للسهروردي ص 112.
(3)
حياة القلوب لعماد الدين الأموي بهامش قوت القلوب للمكي ج 2 ص 93 ط
…
دار صادر بيروت.
(4)
الأنوار القدسية للشعراني ج 1 ص 140.
(5)
أيضاً ج 1 ص 141.
" من الوصايا: العزلة ، وهي التفرد عن الخلق
…
وليذهب المريد إلى موضع كالبرية والجبال لا تلزمه فيه الجمعة والجماعة " (1).
فترك الجمعة والجماعة هو المقصود من الاعتزال والخلوة عندهم.
وقد ذكر هذه الخلوة وآدابها وطرق الدخول فيها بحرق الحضرمي (2) أيضاً.
وأيضاً عبد العزيز الدريني (3).
وقد ذكر الشعراني عن بعض مشائخه أنه ما شهد جنازة قطّ (4).
وينقل الفيتوري عبد السلام عن نصير الدين الأودهي العروس أنه لم يخرج قطّ إلى زيارة المريض إلى أن مات (5).
مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
(من شيع جنازة فله قيراط من الأجر ، فإن وقف حتى فله قيراطان ، وفي الخبر القيراط مثل جبل أحد)(6).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عاد مريضاً لم يزل في خرفة الجنة)(7).
وقال عليه الصلاة والسلام: (من أتى أخاه المسلم المسلم عائداً مشى في خرفة الجنة حتى يجلس ، فإذا جلس غمرته الرحمة ، فإن كان غدوة صلّى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي ، وإن كان مساء صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح)(8).
فالحاصل أن الصوفية قد وضعوا بدعات الخلوة والعزلة فراراَ عن الصلاة بالجماعة ، وهروباً عن أداء الجمعات ، كما أنهم حرموا أنفسهم من أجور أخرى أيضاً.
(1) كفاية الأتقياء ومنهاج الأصفياء للدمياطي ص 35.
(2)
أنظر رسالة ترتيب السلوك إلى ملك الملوك لجمال الدين محمد بن عمر بحرق الحضرمي المتوفى 930 هـ جامعة ط بنجاب لاهور باكستان.
(3)
أنظر طهارة القلوب لعبد العزيز الدريني ص 250 ط مصطفى البابي الحلبي القاهرة.
(4)
الطبقات الكبرى لعبد الوهاب الشعراني طبعة قديمة مصر.
(5)
الوصية الكبرى للفيتوري ص 101 ط مكتبة النجاح طرابلس ليبيا.
(6)
متفق عليه.
(7)
رواه مسلم.
(8)
رواه الترمذي وابن ماجة.
ولم يتركوا الجمعة والجماعة فحسب ، بل أن بعضاً منهم قد تركوا الصلاة أصلاً كما نقل النبهاني عن عبد القادر الدشطوطي أنه كان يسمع الأذن ولكنه ما رؤي يصلي قط ، فأعترض عليه الناس ، فقال:
" الناس معذورون ، يقولون: عبد القادر ما يصلي
…
ولكن لنا أماكن نصلي فيها " (1).
وهذه خرافة لا أصل لها نقلاً ولا عقلاً ، إنما أخترعت لتعطيل الشريعة وتركها ، وعلى ذلك يقول النبهاني محجراً عقله ومسفهاً إياه: إياكم.
إياكم أن تنكروا على أحد من الأولياء كونه لم يصل معكم في جماعة فإن لله تعالى رجالاً يصلون كل صلاة من الخمس في مكان غير بلدهم فبعضهم لا يصلي الجمعة دائماً إلا بمكة أو عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعضهم لا يصلي الظهر كل يوم إلا في الجامع الأبيض برملة لد ومنهم من لا يصلي المغرب كل يوم إلا على سد أسكندر ذي القرنين أو جبل قاف ومنهم من لا يصلي العصر كل يوم إلا ببيت المقدس ومنهم من لا يصلي الصبح كل يوم إلا بالجبل المقطم قال وكان سيدي إبراهيم المتبولي وجماعة يصلون الظهر كل يوم بالجامع الأبيض برملة لد
…
قال الشعراني وممن كان بمثل هؤلاء أيضاً سيدي علي اخواص وسيدي عبد القادر الدشطوطي وسيدي يوسف الكردي وأخبرني الشيخ يوسف الكردي أنه صلى مع سيدي إبراهيم المتبولي الظهر مرات بالجامع الأبيض برملة لد وكان أمامه نحيف الجسم فأمرني الشيخ فسلمت عليه ومشينا خطوات فإذا نحن داخل الغيط ببركة الحاج وكان سيدي إبراهيم وقت الظهر يدخل الغيط دائماً فلا يراه أحد يصلي الظهر في مصر أبداً " (2).
وذكر محمد غوثي الشطاري المتوفى في القرن العاشر من الهجرة شيخه شرف الباني بتّي أنه لم يكن يصلي ، فأعترض عليه فقال:
" إن الله أعفاني عن الفرض وقال لي: عينك عيني ، أي ذاتك ذاتي "(3).
(1) جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج2 ص 95 ط دار صادر بيروت ، أيضاً طبقات الشعراني ج 2 ص 139.
(2)
جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 1 ص 245.
(3)
كلزار أبرار لمحمد غوثي شطاري 100 ط المعارف لاهور باكستان.
وهناك آخر أحمد المعشوق المتوفى 773هـ ذكروا عنه أنه كان تاركاً للصلاة فسأله الناس عن السبب فأجاب قائلاً:
" إني امرأة حائضة ، لا تجب الصلاة عليّ "(1).
وكذلك ذكر العطار عن ذي النون المصري أنه قال له أحد مريديه: حججت أربعين حجة وقمت الليل أربعين سنة ولكني ما حظيت بمحادثة الله تعالى ومكاشفاته ، فقال له ذو النون: كل شبعاً ولاتصلّ العشاء.
ثم يعلق عليه العطار: لو سأل سائل ما الحكمة في الأمر بترك الصلاة؟ فالجواب أن الطريق أحياناً تخالف ظاهر الشريعة كقتل الخضر الولد بدون سبب ظاهري ، فإذن لا إنكار في الطريقة على مثل هذه الأمور " (2).
وحكى عنه العطار أيضاً أنه كان تاركاً للصلاة وكان يقول: " أن الله رفع عني فريضة الصلاة "(3).
وهناك صوفي كان يبغض المؤذن للصلاة ، فيقول الشعراني:
" كان سيدي إبراهيم بن عصيفير رضي الله عنه يتشوّش من قول المؤذن: " الله أكبر " فيرجمه ويقول: عليك يا كلب ، نحن كفرنا يا مسلمين حتى تكّبروا علينا "(4).
وينقل ابن عجيبة الحسني عن أحد الصوفية أنه كان ينشد:
تذلل له تحظى برؤيا جماله
…
ففي وجه من تهوى الفرائض والنفل (5).
وحكي عن الواسطي أنه لما دخل نيسابور سأل أصحاب أبي عثمان: بماذا كان يأمركم شيخكم؟
فقالوا: كان يأمرنا بالتزام الطاعة ورؤية التقصير فيها:
(1) تذكرة أولياء بر صغير للميرزه الدهلوي ج 3 ص 165.
(2)
تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار ص 73 ط باكستان.
(3)
أيضاً ص 86.
(4)
طبقات الشعراني ج 2 ص 141.
(5)
إيقاظ الهمم لابن عجيبة الحسني ص 507.
فقال: أمركم بالمجوسية المحضة.
هلاّ أمركم بالغيبة عنها (أي عن الطاعة) بشهود مجريها ومنشيها (1).
فإذا كان التزام الطاعة كالصلاة والصيام والحج من الفروض والسنن مجوسية محضة فما هو الإسلام؟
ومن أين استقى الصوفية فكرة الغيبة عن الطاعة بشهود منشيها ومجريها؟
وكذلك يخالفون رسول الله صلى الله عليه وسلم في تركهم للصف الأول قصداً وعمداً مع أن رسول صلى الله عليه وسلم قال:
(لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا)(2).
وقال عليه الصلاة والسلام:
(خير صفوف الرجال أولها ، وشرها آخرها)(3).
وقال: (إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول)(4).
وأما الصوفية فهم يكرهون ذلك كما قال الطوسي:
" ومن آداب الصوفية أنهم يكرهون الصلاة في الصف الأول "(5).
ويقول الشعراني:
" وقد كان سيدي أحمد الزاهد ، وسيدي محمد المغربي ، وسيدي مدين ، وسيدي أبو العباس الغمري يصلّون دائماً في آخر صف مساجدهم "(6).
ثم يبين الشعراني علّة صنيعهم هذا ، والعلّة أقبح من الصنيع ، فيقول:
" إن فعلهم هذا كان حياء من الله كما قال سيدي علي الخواص رحمه الله: حكم كمل
(1) أيضا ص 117.
(2)
متفق عليه.
(3)
رواه مسلم.
(4)
رواه أحمد.
(5)
كتاب اللمع للطوسي ص 208.
(6)
الأخلاق المتبولية للشعراني ج 1 ص 332.
العارفين إذا وقف أحدهم بين يدي ربه في الصلاة حكم من كان فسق في حريم الوالي أتوا به إليه فهو يخاف من القرب من حضرته حتى يحصل رضى الوالي والعفو والمسامحة " (1).
إن هذا تهاون بالسنة ، وإلا فما هذا الخجل والحياء والخوف؟
وهل هؤلاء الصوفية كانوا أشدّ خوفاً من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم ، وبالتالي هم الذين يقولون: لا نعبد ربنا خوفاً وطمعاً ورهبة ورغبة كما بينا ذلك بالتفصيل.
ومن مخالفتهم في الصلاة أيضاً ما ذكره الطوسي من آداب الصوفية أنهم إذا دخلوا البادية يتمون الفرائض ولا يقصرون الصلاة ، ولا يتركون شيئاً مما كانوا يعملون في أوطانهم وإن أباح لهم العلم ترك ذلك ، لأن السفر والحضر عندهم سواء (2).
هذا وقد روى عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: إنما قال الله تعالى {أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا} ، فقد أمن الناس. قال عمر: " عجبت مما عجبت منه ، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
(صدقة تصدق الله بها عليكم فأقبلوا صدقته)(3).
وعن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة (4).
وأما الصوفية فيقولون: إن طريقهم طريق الشدة ويرون العمل بالرخص انحطاطاً عن الحقيقة كما يقول ابن عربي:
" إن التصوف طريق الشدة ليس للرخاء فيه مدخل ، لأن الرخص إنما هي للعامة "(5).
(1) أيضاً ص 333.
(2)
كتاب اللمع للطوسي ص 227.
(3)
رواه مسلم.
(4)
رواه مسلم.
(5)
الأمر المربوط لأبن عربي ضمن ذخائر الأعلاق له أيضاً ص 268.
وقال النفزي الرندي:
" إذا رأيت المريد انحطّ عن رتبة الحقيقة إلى رخص الشريعة فأعلم أنه قد نقض عهده من الله "(1).
مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه)(2)
فهذه بعض مخالفات الصوفية في أهم فرائض الإسلام الصلاة.
وأما الصوم فهم خالفوا في ذلك أيضاً تعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم سالكين في ذلك مسلك أهل الرياضيات الهندية ومجاهدات الرهبان النصارى ، الذين يلتمسون الخوارق والبركات والتجليات والثمرات في التجوع ظنّا منهم بأن الجوع يورث الحكمة والمعرفة والأنوار الإلهية ، فالصوفية أيضاً انتهجوا منهجهم واقتفوا سنتهم ، فروى عن كثير منهم أنهم كانوا يصومون الدهر كما يقول السهروردي.
" جمع من المشايخ الصوفية كانوا يديمون الصوم في السفر والحضر على الدوام حتى لحقوا بالله.
وكان عبد الله بن جابار قد صام نيفاً وخمسين سنة لا يفطر في السفر والحضر " (3).
وحكوا عن أبي رويم بن أحمد أنه قال:
" اجتزيت ببغداد وقت الهاجرة ببعض السكك ، وأنا عطشان ، فاستقيت من دار ، ففتحت صبية بابها ، ومعها كوز ، فلما رأتني قالت:
صوفيّ يشرب بالنهار.
فما أفطرت بعد ذلك اليوم قط (4).
ويقول الطوسي:
(1) غيث المواهب العلية للنفزي ج 1 ص 199.
(2)
قد ذكر هذا الحديث ابن عربي أيضاً في كتابه " الجواب المستقيم " ص 148 من " ختم الأولياء ".
(3)
عوارف المعارف للسهروردي ص 331 ، أيضاً اللمع للطوسي ص 220.
(4)
الرسالة القشيرية ج 1 ص 127 ، اللمع للطوسي ص 217 ، 218 ، روضة التعريف للسان الدين بن الخطيب ص 673 ، تذكرة الأولياء للعطار ص 209 ، طبقات الأولياء لابن الملقن ص 229.
" حكي عن الجنيد أنه كان يصوم على الدوام
…
وحكى عن بعض المشايخ الأجلة أنه قال:
صمت كذا وكذا سنة لغير الله ، وذلك أن شابا كان يصحبه ، فكان يصوم حتى ينظر إليه ذلك الشاب فيتأدب به ويصوم بصيامه.
ورأيت أبا الحسن المكي بالبصرة رحمه الله ، فكان يصوم الدهر ولا يأكل الخبز إلا كل ليلة جمعة (1).
ونقل المنوفي الحسيني عن إبراهيم بن أدهم أيضاً أنه كان يصوم في السفر والحضر (2).
ورووا عن أحد أصحاب البسطامي أنه قام الليل وصام الدهر ثلاثين سنة (3).
وذكر الدريني المتوفى 697 هـ عن داود بن أبي هند أنه صام أربعين سنة لم يعلم الناس ولا أهل بيته ، وكان يأخذ الخبز ويخرج فيتصدق به فيظن الناس أنه يأكل غي البيت ، ويظن أهل بيته أنه يأكل مع الناس (4).
وأما الشعراني فيذكر عن أحمد السطحية أنه:
" كان رضي الله عنه يعرف سريان القلوب ، وكان رضي الله عنه صائم الدهر "(5).
وصوم الدهر هذا مخالف تماماً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال:
(أفضل الصيام صيام أخي داود عليه السلام ، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً)(6).
وروي عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أنه قال: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
(ألم أحدّث عنك أنك تقوم الليل وأنت الذي تقول لأقومن الليل وأصومن النهار) ،
(1) كتاب اللمع للطوسي ص 220.
(2)
جمهرة الأولياء للمنوفي الحسيني ج 2 ص 127.
(3)
النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 112.
(4)
طهارة القلوب والخضوع لعلام الغيوب لعبد العزيز الدريني ص 209 ط البابي الحلبي.
(5)
طبقات الشعراني ج 2 ص 138.
(6)
متفق عليه.
قال: أحسبه قال: نعم يا رسول الله قد قلت ذلك ، فقال:(فقم ونم ، وصم وأفطر ، وصم من كل شهر ثلاثة أيام ، ولك مثل صيام الدهر)، قال: قلت: يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك ، قال:(فصم يوما وأفطر يومين)، قلت: إني أطيق أفضل من ذلك ، قال: (فصم يوماً وأفطر يوماً وهو أعدل الصيام ، وهو صيام داود عليه السلام.
قلت: إني أطيق أفضل من ذلك.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أفضل من ذلك)(1).
وخالفوا الشريعة في الزكاة أيضاً كما روى ابن زروق والجامي وابن عجيبة والمنوفي أن واحداً من علماء الفقه سأل الشبلي:
كم في خمس من الإبل؟ فسكت الشبلي ، فأكثر ابن بشار. فقال له الشبلي: في واجب الشرع شاة ، وفيما يجب على أمثالنا كلها لله (2).
وأما الهجويري فيروي عنه أيضاً مثل ذلك فيقول:
" ووجدت في الحكايات أن واحداً من علماء الظاهر سأل الشبلي على سبيل التجربة عن الزكاة قائلاً: ما الذي يجب أن يعطي من الزكاة؟
قال: حين يكون البخل موجوداً ويحصل المال فيجب أن يعطي خمسة دراهم عن كل مائتي درهم ، ونصف دينار عن كل عشرين ديناراً ، هذا في مذهبك ، أما في مذهبي فيجب أن لا تملك شيئاً حتى تتخلص من مشغلة الزكاة (3).
وعلى ذلك نقل الطوسي والقشيري والسهرودي وغيرهم عن السري السقطي أنه قال:
" لا تسأل من أحد شيئاً ، ولا تأخذ من أحد شيئاً ، ولا يكن معك شيء تعطي منه أحداً "(4).
(1) متفق عليه.
(2)
قواعد التصوف لابن زروق ص 20 ، نفحات الأنس للجامي ص 139 ، الفتوحات الإلهية لابن عجيبة الحسني ص 51 ، جمهرة الأولياء للمنوفي ج 2 ص 153.
(3)
كشف المحجوب للهجويري ص 558.
(4)
اللمع للطوسي ص 262 ، الرسالة القشيرية ج 1 ص 71 ، عوارف المعارف للسهرودي ص 92.
ويقول سمنون المحب: الفقير الصادق هو الذي يأنس بالعدم كما يأنس الجاهل بالغنى (1).
ومن إحدى خرافات النفري في مواقفه أنه قال:
" قال لي الله: إن كنت ذا مال فما أنا منك ، ولا أنت مني "(2).
وحكى ابن الملقن في هذا المعنى عن الجنيد أنه قال:
" جاء إبراهيم الصياد يوماً إلى سرى وهو متزر بقطعة حصير ، فأمر السري فجيء بجبّة فأمتنع من لبسها ، فقال له سرى: ألبسها ، فإنه كان معي مقدار عشرة دراهم من موضع حلال فأشتريها به ،فنظر إليه شزرا ، وقال: أنت تقعد مع الفقراء ومعك عشرة دراهم ، وأمتنع من أخذها "(3).
ولذلك لا يشتغلون بالكسب وطلب المعاش ، بل يظنونه ركوناً إلى الدنيا (4).
وأما الحج فأحياناً يستهزؤن به ، وأحياناً كانوا يخرجون له بدون زاد وراحلة يتكففون الناس ويستجدون منهم ، ويمدون الأيدي إليهم ، وقد مر بيان هذا فيما سبق عند ذكر تطرفهم في التوكل.
وأما تركه والإستهزاء به فيذكر العطار عن أبي يزيد البسطامي أنه خرج مرة للحج ، فرجع من الطريق فسألوه عن السبب ، فقال: لقيني في الطريق رجل حبشي وقال لي: لماذا تركت الله ببسطام فرجعت (5).
ونقل السهلجي والعطار عن البسطامي أيضاً أنه قال:
" خرجت إلى الحج ، فاستقبلني رجل في بعض المتاهات فقال: أبا يزيد إلى أين؟ فقلت: إلى الحج ، فقال: كم معك من الدراهم؟
(1) طبقات الصوفية لعبد الرحمن السلمي ص 47.
(2)
كتاب المواقف لمحمد بن عبد الجبار النفري ص 54 ط
…
مطبعة دار الكتب المصرية 1934 هـ.
(3)
طبقات الأولياء لابن ملقن ص 25.
(4)
أنظر لذلك قوت القلوب ج 1 ص 252 ، أيضاً كتاب اللمع للطوسي ص 261 ، أيضا غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج 1 ص 208.
(5)
تذكرة الأولياء لفريد الدين العطار ص 82.
قلت: معي مائتا درهم: فقال: طف حولي سبع مرات ، وناولني المائتي درهم فإن لي عيالاً ، فطفت حوله وناولته المائتي درهم (1).
ونقل عنه الهجويري أنه قال:
" صرت إلى مكة ، فرأيت البيت مفرداً ، فقلت: حجي غير مقبول ، لأني رأيت أحجاراً كثيرة من هذا الجنس. وذهبت مرة أخرى فرأيت البيت ورب البيت ، قلت: لا حقيقة التوحيد بعد. وذهبت مرة ثالثة فرأيت الكل رب البيت ، ولا بيت "(2).
ومذل ذلك حكى سبط ابن الجوزي نقلاً عن ابن خميس أنه قال:
قال أبو يزيد: حججت أول حجة فرأيت البيت ولم أر صاحب البيت ، وحججت ثالثاً فلم أر البيت ولا صاحب البيت ولا الناس (3).
ومما يدلّ كذلك على استهزاء القوم بالكعبة وإهانتهم لها وللطواف حولها ما ذكر النبهاني نقلاً عن إبراهيم الخواص أنه قال:
" إن الكعبة طافت بالشيخ إبراهيم المتبولي حجراً حجراً ، ثم رجع كل حجر إلى مكانه. قال اليافعي رحمه الله تعالى:
وقد سمعنا سماعاً محققاً أن جماعة من القوم شوهدت الكعبة وهي تطوف بهم طوافاً محققاً (4).
وذكروا مثل ذلك عن رابعة البصرية أيضاً فقالوا:
" سافرت رابعة إلى مكة فرأت أثناء الطريق كعبة الله تمشي إليها - عياذاً بالله - فقالت: لا أريد الكعبة ، بل أريد ربها "(5).
وذكر السهلجي مثل ذلك عن البسطامي حيث روى عنه أنه قال:
(1) النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 164 من شطحات الصوفية للدكتور بدوي ، تذكرة الأولياء للعطار ص 82.
(2)
كشف المحجوب للهجويري ص 319.
(3)
مرآة الزمان لسبط بن الجوزي ص 214 ضمن شطحات الصوفية للبدوي ز
(4)
جامع كرامات الأولياء للنبهاني ج 1 ص 245.
(5)
أنظر خزينة الأصفياء لغلام سرور اللاهوري ص 413 ط باكستان.
" كنت أطوف حول بيت الله الحرام ، فلما أن وصلت إليه رأيت البيت يطوف حولي "(1) وليس هذا فحسب ، بل قال الحسن بن علوية:
" ذهب أبو يزيد إلى مكة مع واحد من تلامذته ، فلما دخل المدينة جاءت مكة إلى المدينة فطافت حوالي أبي يزيد ، فغشي على تلميذه وقع على الأرض. فلما أفاق مسح رأسه وقال: تعجبت؟
فقال: نعم ، قال: والله إن جاءت إليّ بسطام لكانت مقصرة في حقي - عياذاً بالله - (2).
هل هناك استهزاء واستخفاف بالكعبة والطواف حولها أكبر وأشدّ من هذا؟
أليس هذه الهذيانات إهانة ونيلا من شأن ركن من أركان الإسلام الخمسة؟
ومن إهانتهم كذلك للكعبة المشرفة - زادها الله شرفاً وتعظيماً وتكريماً رغم أنوف الصوفية - أن أحد الصوفية بالهند الشيخ محمد يعقوب سئل:
ما الفرق بين معبد السيخ (طائفة من كفار الهند) وبين بيت الله الحرام؟
فأجاب بقوله: ليس بينهما أيّ فرق (3).
وأما الشعراني فقال:
" لا ينبغي للمريد أن يستدبر شيخه أبداً إلا بإذن ، ويكون ذلك مع استشعار المريد الخجل والحياء حتى كأنه يمشي على الجمر ، فإن شيخه أعظم حرمة من الكعبة "(4).
ويجعل شأن زاوية محمد الغمري مثل شأن بيت الله الحرام ، فيقول:
" إن جماعة تراهنوا على أنهم يجدون زاوية سيدي محمد الغمري في المحلّة الكبرى ساكتة عن الذكر في ليل أو نهار فلم يجدوها فكانت كالكعبة بالنسبة للطائفين "(5).
ولم يستخفوا بالكعبة فقط بل الحجر الأسود أيضاً كما ذكر النبهاني عن ابن عربي أن:
" الكعبة كلّمته ، وكذلك الحجر الأسود ، وأنها طافت به ، ثم تلمذت له وطلبت منه
(1) النور من كلمات أبي يظفور للسهلجي ص 139.
(2)
أيضا ص 185.
(3)
تذكرة غوثية للشطاري الماندوني ص 96 ط
…
باكستان.
(4)
الأنوار القدسية للشعراني ج 2 ص 54 دار إحياء التراث العربي بغداد.
(5)
أيضاً ج 2 ص 140.
ترقيتها إلى مقامات في طريق القوم ، فرقاها لها وناشدها أشعاراً وناشدته فراجعه وحاشاً أولياء الله أن يخبروا خلاف الواقع " (1).
وتجاوزوا في إهانتها جميع الحدود وبلغوا أقصاها حيث نقلوا عن الشبلي أنه رأى الناس شعلة من نار في يده فسألوه السبب؟
فأجاب: أريد أن أحرق بها الكعبة ليتوجه الناس إلى ربها (2).
وأخيراً ننقل من الصوفي المصري عبد الرحمن الصفوري حكاية تدل على السخرية بالكعبة المشرفة والمدينة المنورة وبيت المقدس فيذكر عن الخواص أنه قال:
" زرت ولية من أولياء الله فقلت لها:
هل لك في بلادنا؟
فقالت: وما أصنع في بلادك؟
فقلت لها: فيها مكة والمدينة وبيت المقدس. فقالت: أرفع رأسك ، فرفعت رأسي ، فإذا بالكعبة والمدينة وبيت المقدس يحومون على رأسي في الهواء " (3).
فهذه هي حقيقة الحج والكعبة والطواف حولها لدى المتصوفة ، وتلك هي مخالفتهم للشريعة الإسلامية وإهانتهم لأركانها - أعاذنا الله من ذلك.
ومن أعمالهم المخالفة للشريعة الإسلامية عدم اعتنائهم بالنظافة والطهارة التي جعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف الإيمان (4).
وروي عنه عليه الصلاة والسلام في فضل الطيب والنظافة أنه قال:
" إن الله طيب يحب الطيب ، نظيف يحب النظافة ، كريم يحب الكرم ، جواد يحب الجود ، فنظفوا ولا تشبّهوا باليهود "(5).
ولكن الصوفية ينصحون مريديهم عكس ذلك ، فيكتب عبد الغني الرافعي:
(1) جامع كرامات الأولياء للنبهاني ص 120.
(2)
تذكرة الأولياء للعطار ص 304.
(3)
نزهة المجالس للصفوري ج1 ص 18 ط
…
دار الكتب العلمية بيروت.
(4)
رواه مسلم.
(5)
رواه الترمذي.
" كل مريد غسل ثوبه بغير نجاسة ، أو أكتحل ، أو رجّل شعره ، أو حسن شيئاً من زينة ظاهرة لغير ضرورة أو أمر شيخ فهو عامل لنفسه ، وقالوا لبعضهم: لم لا تمشّط لحيتك؟
فقال: إني إذن فارغ (1).
مع أنه روى عن أنس رضي الله عنه أنه قال:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر دهن رأسه وتسريح لحيته "(2).
وروى عن عطاء بن يسار قال:
" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد فدخل رجل ثائر الرأس واللحية ، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده ، كأنه يأمر بإصلاح شعره ولحيته ففعل ثم رجع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(أليس هذا خيراً من أن يأتي أحدكم وهو ثائر الرأس كأنه شيطان)(3).
وأما الشعراني فيروي عن الصوفي الشيخ محمد السروي أنه " جاءه الشيخ علي الحديدي يطلب منه الطريق فرآه ملتفتاً لنظافة ثيابه فقال:
إن كنت تطلب الطريق فأجعل ثيابك ممسحة لأيدي الفقراء ، فكان كلّ من أكل سمكاً أو زفراً يمسح في ثوبه يده مدة سنة وسبعة شهور حتى صارت ثيابه كثياب الزياتين أو المساكين ، فلما رأى ثيابه لقنه الذكر (4).
وذكر أيضاً صوفياً آخر أنجس وأقذر بكثير ، فقال:
" كان سيدي بركات الخياط رضي الله عنه يخيط المضربات المثمنة ، وكان رضي الله عنه يقول لمن يخيط له: هات معك فوطة وإلا يتسخ قماشك من ثيابي.
وكان دكانه منتنا قذرا لأن كل كلب وجد ميتاً أو قطاً أو خروفاً يأتي به فيضعه
(1) ترصيع الجواهر المكية لعبد الغني الرافعي ص 36 ط المطبعة العامرية الشرفية مصر 1301 هـ ، ومثله في تذكرة الأولياء للعطار ص 129.
(2)
رواه في شرح السنة.
(3)
رواه مالك.
(4)
طبقات الشعراني ج 2 ص 128.
داخل الدكان ، فكان لا يستطيع أحد أن يجلس عنده " (1).
وقد ذكر صاحب " الأنوار القدسية " عدم الاعتناء بالنظافة كقاعدة عامة لجميع المتصوفة حيث قال:
" يجب على المريد الصبر على وسخ الثياب وتخريقها حتى يزول وسخ قلبه "(2).
وروى الشيخ نور الدين السمهودي أنه كان له فروة كبش مغشاة بثوب طرح يلبسها صيفا وشتاء ، وكانت عمامته من غليظ المحلاوي ، يغسلها مرة في السنة (3).
وذكر ابن الملقن أن امرأة كانت تخدم الجنيد قالت:
" جئت يوماً إلى النوري ، كان يوماً شديد البرد والريح ، فوجدته في المسجد وحده جالساً ، فأمرني بإحضار خبز ولبن ، فأحضرته. وكان بين يديه قصعة فيها فحم ، فقلّبه بيده وهو مشتعل ، ثم أخذ الخبز واللبن ، فجعل اللبن يسيل على يديه ، وفيها سواد الفحم ، فقلت: يا ربّ ، ما أقذر أولياء ، ما فيهم أحد نظيف.
قالت: ثم خرجت من عنده ، فتعلقت بي امرأة وقالت: سرقت رزمة ثياب ، وجرّوني إلى الشرطي ، فأخبرني النوري بذلك ، فخرج وقال: لا تتعرض لها ، فإنها ولية ، فقال الشرطي: كيف أصنع المرأة تدّعي ذلك؟
قالت: فجاءت جارية ومعها الرزمة المطلوبة. وأنطلق النوري بزيتونة ، وقال لها: تقولين بعد هذا: يا رب ما أقذر أولياءك؟ فقالت: تبت (4).
فالمعنى أنه لا يحق لأحد أن يتعرض على قذارة الصوفية ونجاستهم ، ولا يجوز أن ينصح أحد هؤلاء المنتنين المتشبهين باليهود الأقذار المهتمين بوضع الكلاب والقطط الميتة في مساكنهم ، لا ينصحهم أحد باعتناء النظافة والطهارة ، وإلاّ فيصيبهم عقاب من عند الله وعذاب أليم.
(1) طبقات الشعراني ج 2 ص 145.
(2)
الأنوار القدسية لعبد الوهاب الشعراني ج1 ص 90.
(3)
الطبقات الصغرى لعبد الوهاب الشعراني ص 62 تحقيق عبد القادر عطا ط مكتبة القاهرة 1390هـ.
(4)
طبقات الأولياء لابن الملقن ص 66.
هذا وأن هناك مخالفة أخرى لنص الشريعة الإسلامية ، يرتكبها الصوفية ، وهي: إضاعة المال وإتلافه ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك حيث قال:
(إن الله كره لكم قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال)(1).
وأما الصوفية فيروون عن الشبلي أنه ألقى بأربعة آلاف دينار جملة في دجلة ، فقالوا له: ما تفعل؟
قال: الحجر أولى بالماء ، قالوا: لم لا تعطيها للخلق؟
قال: سبحان الله ، بم أحتجّ إلى الله في أني رفعت الحجاب عن قلبي ، وجعلته على قلوب أخوتي المسلمين (2).
وروى الطوسي عن الحسين النوري أنه حمل إليه ثلثمائة دينار ، قد باعوا عقاراً له ، فجلس على قنطرة الصراط وهو يحذف بواحد منها إلى الماء ، ويقول:
سيدي تريد أن تخدعني بهذا؟ (3).
ومن الحكايات في هذا المعنى ما ذكرها النفزي الرندي عن أبي عبد الله الرازي أنه قال:
كساني ابن الأنباري صوفاً ، ورأيت على رأس الشبلي قلنسوة ظريفة تليق بذلك الصوف ، فتمنيت في نفسي أن يكونا جميعاً لي ، فلما قام الشبلي من مجلسه التفت إليّ ، فتبعته وكان من عاداته إذا أراد أن أتبعه أن يلتفت إليّ.
فلما دخل داره دخلت ، فقال: أنزع الصوف ، فنزعه ، فلفّه ، وطرح عليه القلنسوة ، ودعا بنار فأحرقهما (4).
وعلى ذلك ذكر عنه الشعراني أنه كان إذا أعجبه شيء من ثيابه يذهب إلى التنور فيحرقه ، فيقال له: هلاّ تصدقت به؟
فيقول: ما أشغل قلبي كذلك يشغل قلب غيري (5).
(1) متفق عليه.
(2)
كشف المحجوب للهجويري ص 462.
(3)
كتاب اللمع للطوسي ص 257.
(4)
غيث المواهب العلية للنفزي الرندي ج2 ص 99.
(5)
الأنوار القدسية للشعراني ج 1 ص 90 ، أيضاً الطبقات الكبرى له ج 1 ص 104.
وقال الطوسي:
" دخل بعضهم عليه فرأى بين يديه اللوز والسكر وهو يحرقهما بالنار "(1).
هذا ومثل هذا كثير.
ومن مخالفتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق اللحية حيث أمر بإعفائها ، وعدّها من الفطرة حيث قال:(عشر من الفطرة: قص الشارب ، وإعفاء اللحية والسواك واستنشاق الماء وقص الأظفار وغسل البراجم (2) ونتف الإبط وحلق العانة وانتقاص الماء وقال الراوي: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة) (3).
وأما الصوفية فثبت منهم خلاف ذلك ، فيقول الشعراني:
" وبعضهم (الصوفية) يحلّق رأسه وحواجبه ولحيته "(4).
وبهذا صرح أبو نعيم الأصفهاني والعطار عن أبي بكر الشبلي نقلاً عن أحمد بن محمد النهاوندي أنه قال:
" مات للشبلي ابن كان أسمه غالبا ، فجزّت أمه شعرها عليه ، وكان للشبلي لحية كبيرة فأمر بحلق الجميع ، فقيل له: يا أستاذ ، ما حملك على هذا؟
فقال: جزّت هذه شعرها على مفقود ، فكيف لا أحلق لحيتي أنا على موجود؟ " (5).
وإلى ذلك أشار ابن زروق في كتابه (6).
وورد عن أبي يزيد البسطامي أيضاً أنه أمر مريده بحلق اللحية ، والحكاية بكاملها ذكرها السهلجي ، وأبن عجيبة ، وعبد الغني الرافعي ، فينقلون عن الحسن بن علي الدامغاني أنه قال:
" كان رجل من أهل يسطام لا ينقطع عن مجلس أبي يزيد ولا يفارقه. فقال له ذات
(1) كتاب اللمع للطوسي ص 483.
(2)
أي العقد التي على ظهر مفاصل الأصابع.
(3)
رواه مسلم.
(4)
الأخلاق المتبولية للشعراني ج1 ص 276.
(5)
حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني ج 10 ص 370 ، أيضاً تذكرة الأولياء للعطار ص 282.
(6)
انظر قواعد التصوف لابن زروق ص 87 ط مكتبة الكليات الأزهرية 1396 هـ.
يوم: أستاذ! أنا منذ ثلاثين سنة أصوم الدهر وأقوم الليل ، وقد تركت الشهوات وليس أجد في قلبي من هذا الذي تذكره شيئاً بتة. وأنا أؤمن بكل شيء ، تقول وأصدّق به ، فقال له أبو يزيد: لو صُمْتَ ثلثمائة سنة وأنت على ما أراك لا تجد من هذا العلم ذرة. قال: ولم يا أستاذ؟ قال: لأنك محجوب بنفسك. قال له: فلهذا دواء حتى ينكشف هذا الحجاب؟ قال: نعم! ولكنك لا تقبل ولا تعمل. قال: بلى! أنا أقبل وأعمل ما تقول. فقال له أبو يزيد: إذهب الساعة إلى الحجام وأحلق رأسك ولحيتك وانزع منك هذا اللباس وأتزر بعباء وعلق في عنقك مخلاة وأملأها جوزاً واجمع حولك صبياناً وقل بأعلى صوتك: يا صبيان! من صفعني صفعة أعطيته جوزة. وأدخل إلى سوقك التي تعظم فيه وينظر إليك كلُّ من عرفك على هذه الحالة. فقال: يا أبا يزيد! سبحان الله! تقول لي مثل هذا ويحسن أن أفعل هذا؟ فقال أبو يزيد: قولك: " سبحان الله " شرك. قال: وكيف؟ قال أبو يزيد: لأنك عظمت نفسك فسبّحتها. فقال: يا أبا يزيد! هذا ليس أقدر عليه ولا أفعله ، ولكن دُلّني على غير هذا حتى أفعله. فقال له أبو يزيد: ابتدأ بهذا قبل كل شيء حتى تّسقط جاهك وتّذل نفسك ، ثم بعد ذلك أعرّفك ما يصلح لك. فقال: لا أطيق هذا. قال: قلت إنك لا تقبل وأنا لا أعلم " (1).
فإذن لا يصلح أمر التصوف إلا لمن بادر إلى مخالفة الشرع بأمر شيخه ولم ينكر عليه ، ولذلك كتب الشعراني:
" لا ينبغي لأحد أن يبادر إلى الإنكار على أمر شيخه بحلق لحيته ، فربما كان ذلك من شيخه ليدفع به عنه الكبر والفخر "(2).
فهل يندفع الكبر والفخر ، وتتأتى اللذة في الصوم والصلاة والتلاوة بالخروج على الكتاب والسنة؟
وبالمناسبة ننقل هنا ما قاله الأفلاكي نقلاً عن بعض مشايخه أنه قال:
(1) النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 112 ، 113 ، إيقاظ الهمم لابن عجيبة ص 36 ، ترصيع الجواهر المكية لعبد الغني الرافعي ص 22.
(2)
الأخلاق المتبولية للشعراني ج1 ص 412.
" من سعادة المرء خفة لحيته ، لأن اللحية حلية المرء ، وفي كثرتها إعجاب المرء بنفسه ، وهو من المهلكات "(1).
وهذا كله رغم إدعائهم " من لم يتقيد بالكتاب والسنة فلا يمشي في ركابنا "(2).
وقال الدسوقي: " كل من خالف السنة فهو عدوي "(3).
ويقول الأسمر الفيتوري:
" من لم يتبع السنة فليس منّا ولا نأخذ بيده "(4).
على كل فإن الصوفية مع ادعائهم بأن طريقتهم مبنية على الكتاب والسنة ومتقيدة بهما لا يبالون بمخالفة أوامر الشرع ونواهيه ، وبل وأنهم يحكمون بما يخالف الشريعة التي جاء بها محمد صلوات الله وسلامه عليه ، وستأتي أمثلة ذلك في الباب التالي ، ادعاء بأنهم لا يفعلون شيئا إلاّ إذا أمروا كما قال ظهير الدين القادري:
" أنا لا أفعل شيئا إلا إذا أمرت "(5).
والأمر من الله يكون أحياناً بالمخاطبة على لسان الهاتف كما يصرّح بذلك ابن عجيبة الحسني حيث يقول:
" وتكون أيضاً مخاطبات على ألسنة الهواتف الكونية ، فيسمع العارف منها كل ما يحتاج إليه ، وهذا أمر مجرب لمن ذاق الفهم عن الله وفي ذلك يقول القشيري:
أنا بالله أنطق
ومن الله أسمع (6)
وأحيانا يكون الأمر والنهي بنزول الملك كما يبين ذلك عبد العزيز الدباغ بقوله:
" إن الولي ينزل عليه الملك بالأمر والنهي "(7).
(1) مناقب العارفين (فارس) لشمس الدين أحمد الأفلاكي العارفي ج 1 ص 412 طهران 1362 هـ.
(2)
الأخلاق المتبولية للشعراني ج 1 ص 258.
(3)
أيضاً.
(4)
الوصية الكبرى للأسمر الفيتوري ص 55.
(5)
أنظر الفتح المبين لظهير الدين القادري ص 40 ط.
(6)
الفتوحات الإلهية لأحمد بن محمد بن عجيبة الحسني ص 255 ط عالم الفكر القاهرة.
(7)
الإبريز للدباغ ص 151 طبعة قديمة مصر.
وقد بسطنا القول في مسألة نزول الوحي وإتيان الملائكة في كتابنا " التصوف: المنشأ والمصادر " فليراجع إلى ذلك (1).
وعلى ذلك أدعى الصوفية أخذ العلم عن الله بلا واسطة ، أي بلا واسطة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وسيأتي بيان ذلك أيضا في الباب التالي إن شاء الله.
وإن القوم ليخالفون شرع الله ، كتاب الرب وسنة النبي لأنهم لا يبالون بأوامرهما ومنهياتهما ، وإن بعضاً منهم ليستخفّ بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم مثلما نقل السهلجي عن أبي يزيد البسطامي أنه قال:
" أراد موسى عليه السلام أن يرى الله تعالى ، وأنا ما أردت أن أرى الله ، هو أراد أن يراني "(2).
وحكى العطار وأبو طالب المكي وسبط ابن الجوزي عن بعض أصحاب أبي يزيد أنه قال:
" كان عندي شاب صغير ملازم للخلوة فقلت له: هل رأيت أبا يزيد؟ قال: لا. فتركته أياماً وأعدت عليه القول. قال: لا. فلما أكثرت عليه قال: رأيت الله فأغناني عن أبي يزيد. قال: فكررت عليه القول وهو لا يزيد على هذا. فغاظني. فقلت: لو رأيت أبا يزيد مرة كان أنفع لك من رؤية الله سبعين مرة. فقال: قم بنا إليه. فخرجنا نطلب أبا يزيد. وإذا به قد خرج من النهر وفروته مقلوبة على كتفه. فلما رآه الشاب صاح ومات. فقلت لأبي يزيد: ما هذا؟ فإنه ذكر أنه يرى الله وما مات. يراك فيموت؟ فقال: نعم! كان يرى الله على قدر حاله. فلما نظر إليّ. رأى الله على قدر حالي فلم يثبت فمات. قال: ثم داريناه فغسلناه وكفّنّاه وصلى عليه ودفنه وبكى "(3).
وحكى السهلجي والعطار عنه أيضاً أنه جاءه رجل فقرأ عنده:
" إن بطش ربك لشديد " قال أبو يزيد:
وحياته إن بطشي أشد من بطشه (4).
(1) أنظر " التصوف: المنشأ والمصادر " للمؤلف ص 159 وما بعد ط إدارة ترجمان السنة لاهور باكستان.
(2)
النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 185 من شطحات الصوفية للدكتور عبد الرحمن بدوي ط وكالة المطبوعات الكويت.
(3)
تذكرة الأولياء لفريد الدين عطار ص 84 ط باكستان ، أيضاً مرآة الزمان لسبط بن الجوزي ص 213 ، 214 من شطحات الصوفية للدكتور بدوي ، أيضاً قوت القلوب لأبي طالب المكي ط صادر بيروت.
(4)
النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 143 ، أيضاً تذكرة الأولياء للعطار 288 ، شرح شطحيات لروزبهان بقلي شيرازي ص 129 ط طهران 1360 هـ.
ونقل روزبهان بقلي شيرازي عن أبي موسى أنه قال:
" سمع أبو يزيد مؤذناً يقول: الله أكبر ، فقال:
" وأنا أكبر من الله " - عياذاً بالله - (1).
ويروون في كتبهم حديثاً موضوعاً حيث يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
" رأيت ربي في سكك المدينة على صورة شابّ أمرد "(2).
ونقل العراقي المتوفى 688هـ عن الوراق أنه قال:
" ليس بيني وبين ربي فرق إلاّ أني تقدّمت بالعبودية "(3).
ومن إهانتهم لله سبحانه عز وجل أنهم نقلوا عن البسطامي أنه قال له الحق أخرج إلى خلقي بصفتي (وفي رواية بصورتي) فمن رآك رآني ، ومن عظمك عظمني ، فلم يسعني إلا امتثال أمر ربي ، فخطوت خطوة إلى نفسي من ربي فغشي عليه ، فإذا النداء " ردّوا عليّ حبيبي فلا صبر له عني "(4).
ونقلوا عن بعض المشايخ أنه قال لتلميذه:
" هل رأيت أبا يزيد "؟
فقال التلميذ: رأيت الله فأغناني عن أب يزيد ، فقال له العارف:
لأن ترى أبا يزيد مرة كان خيراً لك من أن ترى الله ألف مرة.
فلما سمع ذلك منه رحل إليه فقعد مع العارف على طريقة ، فعبر أبو يزيد وفروته على كتفه وفقال العارف للتلميذ:
هذا أبو يزيد ، فنظر إليه فمات من ساعته (5).
(1) شرح شطحيات لروزبهان بقلي شيرازي (فارسي) ص 101 ط طهران 1360هـ.
(2)
حضرات القدس (فارسي) لبدر الدين السرهندي ط وزارة الأوقاف لاهور 1971.
(3)
لمعات (فارسي) لفخر الدين العراقي ص 102 بتصحيح محمد خواجوي ط انتشارات مولى إيران 1363هـ.
(4)
شرح كلمات الصوفية جمع وتأليف محمود محمود الغراب ص 156 ط مطبعة زيد بن ثابت القاهرة 1402هـ.
(5)
أيضاً ص 151.
وتجاوز أبو الحسن الخرقاني جميع الحدود وقال:
" صارعت الله وصارعني ، فغلب عليّ "(1).
" لأني أقلّ من ربي سنتين "(2).
والعجب كل العجب على الصوفية الذين يسمون هذه الإهانات والهفوات شطحيات المشايخ ويتأولونها بتأويلات لا يقرّها العقل ولا النقل ، ويخترعون لهم أعذارا لا تؤيدها الشريعة الإسلامية ، ويقولون: لا إنكار عليهم في أقوالهم وأفعالهم لأنهم محفوظون عن الخطأ والزلل (3).
فدين الصوفية دين السخرية والاستهزاء ، لا يخافون في ذلك لومة لائم ، فنقلوا عن البسطامي أنه قال:
" غبت في الجبروت ، وخضت بحار الملكوت وحجب اللاهوت حتى وصلت إلى العرش فإذا هو خال ، فألقيت نفسي عليه وقلت:
سيدي ، أين طلبك؟
فكشفت ، فرأيت أني أنا ، فأنا أنا (4).
وحكوا عنه أيضاً أنه قال:
" ضربت خيمتي بإزاء العرش "(5).
وحكوا عن الشبلي أنه سئل: متى تستريح؟
فقال: إذا لم أر الله ذاكراً (6).
كما نقلوا عن الخرقاني حكاية قالوا فيها:
" نزل صوفي من الهواء يوماً وقال لأبي الحسن الخرقاني:
(1) شرح شطحيات لروزبهان بقلي شيرازي (فارس ص طهران 1360 هـ).
(2)
لمعات لفخر الدين العراقي ص 102 بتصحيح محمد خواجوي ط انتشارات مولى إيران 1363هـ.
(3)
أنظر لذلك كتابنا " التصوف: المنشأ والمصادر " ص 201 وما بعد.
(4)
النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 164.
(5)
شرح شطحيات لروزبهان ص 86.
(6)
شرح كلمات الصوفية لمحمود الغراب ص 230.
أنا جنيد الوقت وشبلي العصر ، فقام الخرقاني وضرب بقدمه الأرض وقال:
أنا أيضاً إله الوقت ورسول العصر " (1).
وأما إهانتهم واستخفافهم بخاتم الرسل والأنبياء محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحكي الكمشخانوي عن الشبلي أنه:
" أذن مرة ، فلما أنتهى إلى شهادة النبي عليه السلام قال:
إلهي ، لولا أنك أمرتني ما ذكرت معك غيرك " (2).
وذكروا عن أبي يزيد أنه قيل له:
" أن الخلق كلهم لواء محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة ، فقال أبو يزيد:
تالله ، إن لوائي أعظم من لواء محمد عليه السلام ، لوائي من نور تحته الجان والأنس كلهم من النبيين " (3).
ويكتب الفيتوري:
" قال الشيخ أحمد بن عروس لأهل تونس: لولا ما سبق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالشفاعة لشفعت في الأمم يوم القيامة ، وكلّ إصبع من أصابعي يشفع في سبعين ألفاً "(4).
فهؤلاء الصوفية ومشايخهم ، جعلوا الله عز وجل ونبيه صلى الله عليه وسلم هدف استخفافهم وموضع استهزائهم - حسب ما روى عنهم في كتب القوم أنفسهم - كأنهم لا يؤمنون بتوحيد الله وعظمته ، وجلاله وكماله ، وبرسالة النبي وعلو شأنه صلى الله عليه وسلم.
وما دام الأمر كذلك فكيف يستبعد عنهم مخالفة أوامر الله ورسوله ونواهيهما واستهزاء الشريعة والنيل من شأنها. أعاذ الله جميع المسلمين من الزيغ بعد الهدى {رَبَّنَا
(1) تذكرة الأولياء لفريد الدين عطار ص 282 ط باكستان.
(2)
جامع الأصول في أولياء لأحمد الكمشخانوي ط
…
المطبعة الوهبية 1298هـ.
(3)
النور من كلمات أبي طيفور للسهلجي ص 143 ، شرح شطحيات لروزبهان ص 132.
(4)
الوصية الكبرى لعبد السلام الأسمر الفيتوري ص 85 ط مكتبة النجاح طرابلس ليبيا.
لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} (1).
وأخيراً نذكر أن القرآن الكريم أيضاً لم يبق محفوظا عن أيدي المتصوفة ، فلقد حاولوا أن يصرفوا الناس عن تلاوته والتذكير بآياته ، فأنظر إلى النفري كيف يستخف بالقرآن الكريم ويستهين بآياته التي ذكر فيها الجنة والنار والثواب والعقاب والقيامة وأهوالها ، فيكذب على الله سبحانه وتعالى حيث يقول:
" قال الله تعالى " الليل لي لا للقرآن يتلى ، الليل لي لا للمحمدة والثناء " يقول تعالى " إن لك في النهار سبحاً طويلا " فاجعل الليل لي كما هو لي
…
وما طلبتك لتتلو القرآن فتقف مع معانيه فإن معانيه تفرقك عني فآية تمشي بك في جنتي وما أعددت لأوليائي فيها فأين أنا إذا كنت أنت في جنتي مع الحور المقصورات في الخيام كأنهن الياقوت والمرجان متكئاً على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان ، تسقى من رحيق مختوم مزاجه من تسنيم ، وآية توقفك مع ملائكتي وهم يدخلون عليك من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ، وآية تستشرف بك على جهنم فتعاين ما أعددت فيها لمن عصاني وأشرك بي من سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم ، وترى الحطمة وما أدراك ما الحطمة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة إنها عليهم مؤصدة في عمد ممددة ، أين أنا يا عبدي إذا تلوت هذه الآية وأنت بخاطرك وهمتك في الجنة تارة وفي جهنم تارة ، ثم تتلو آية فتمشي بك في القارعة يوم يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ، وترى في ذلك اليوم من هذه الآية يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه لكل أمرئ منهم يومئذ شأن يغنيه ، وترى العرش في ذلك اليوم تحمله ثمانية أملاك وفي ذلك اليوم تعرضون ، فها أنت يا عبدي في النهار في معاشك وفي الليل فيما تعطيه تلاوتك من جنة ونار وعرض ، فأنت بين آخرة ودنيا وبرزخ ، فما تركت لي وقتاً تخلو بي فيه إلا جعلته لنفسك ، والليل لي يا عبدي لا
(1) سورة آل عمران الآية 8.
للمحمدة والثناء " (1).
هذا ما قاله كبير القوم ، وأما ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيروي ابن عمر رضي الله عنه أنه قال:
(لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار ، ورجل آتاه الله مالاً فهو ينفق منه آناء الليل وآناء النهار)(2).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن سيد بن حضير قال: (بينما هو يقرا من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة عنده إذ جالت الفرس فسكت فسكنت ، فقرأ فجالت فسكت فسكنت ، ثم قرأ فجالت الفرس فأنصرف ، وكان أبنه يحيى قريباً منها فأشفق أن تصيبه ، ولما أخره رفع رأسه إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح ، فلما أصبح حدث النبي صلى الله عليه وسلم فقال:
وتدري وما ذاك؟ قال: لا ، قال:(تلك الملائكة ونت لصوتك ، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم)(3).
هذا وقد حكى الشعراني عن أبي عبد الله عمرو بن عثمان المكي أنه رأى الحسين بن منصور يوماً وهو يكتب شيئاً فقال: ما هذا؟
فقال: هو ذا أعارض القرآن (4).
(1) شرح كلمات الصوفية لمحمود الغراب ص 256 ، 257.
(2)
متفق عليه.
(3)
متفق عليه واللفظ للبخاري.
(4)
طبقات الشعراني ج 1 ص 88.