المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(مآب) إلى ذكر ما وعدنا به في الديباجة من التعرض لبعض مواضع في مجلة المنار - الأجوبة الكافية عن الأسئلة الشامية

[الكافي التونسي]

فهرس الكتاب

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌(النبذة)

- ‌سؤال: ما تفسير سبع سماوات طباقا

- ‌سؤال: ما المعراج

- ‌سؤال: ما تفسير آية الشهب {وجعلناها رجوما للشياطين}

- ‌سؤال: ما تفسير آية {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}

- ‌سؤال:ما حكمة الدعاء مع أن الأشياء مقدرة من عالم الأزل

- ‌سؤال: ما كيفية وسوسة الشيطان

- ‌سؤال: ما المراد من سبع أرضين، وقد ورد في الحديث الصحيح: "إن في كل أرض منها آدم كآدمكم ومحمدا كمحمدكم صلى الله عليه وسلم

- ‌سؤال: قوله تعالى {أولم ينظروا إلى السماء فوقهم} يقتضي أن هذا اللون لون نفس السماء؛ لأنه لا يشاهد غيره

- ‌سؤال: قانون النشوء التدريجي ونظرية داروين القاضية بأن أصل الإنسان قرد وأنه قبل ذلك كان مكروبا صغيرا ثم ترقى…إلخ

- ‌سؤال: ما حكم من أنكر وجود الجن؟ وما يترتب على إنكاره من الأحكام

- ‌سؤال: هل الطبيعة في اعتقاد

- ‌(مآب) إلى ذكر ما وعدنا به في الديباجة من التعرض لبعض مواضع في مجلة المنار

- ‌(فهرست

- ‌بيان ما وجد بعد الطبع من الخطأ والصواب

الفصل: ‌(مآب) إلى ذكر ما وعدنا به في الديباجة من التعرض لبعض مواضع في مجلة المنار

ذوق سليم وبصيرة ثاقبة، اللهم اهدنا ووفقنا وإخواننا المسلمين لاتباع سنة نبيك صلى الله تعالى عليه وسلم.

(مآب) إلى ذكر ما وعدنا به في الديباجة من التعرض لبعض مواضع في مجلة المنار

.

سؤال وارد عليه مذكور في المجلد الرابع عشر في صفحة 340 صورته بعد الديباجة: ما معنى "سبع سماوات طباقا" في قوله تعالى {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} ؟ وما قولكم في قول أهل الجغرافية: إن السماوات ليست بأجرام، وإنما هي أهوية، وفسروا السماء بمعناها اللغوي، وهو كل ما علاك فهو سماء، فهل هذا القول ينافي تلك الآية، وآية {أفلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها وزيناها وما لها من فروج} أم لا؟ وقولهم: إن الأمطار تتكون من ماء البحر؟ وهل يجوز لهم ولمن تبعهم اعتقاد ذلك اعتمادا على علمهم وخبرتهم؟ أفيدونا بما هو الحق، وإن سبق لكم البحث عن هذه المسألة في المنار؛ لأنها مفشى لتكفير من تجري به معتقدا ذلك؟

الجواب: في صفحة 341 المنار: أما الجواب عن السؤال الأول فقد سبق بيانه في المنار، ونقول فيه ما يفتح به الآن: السماء في اللغة: ما كان في جهة العلو. وأطلق في القرآن على السقف وعلى السحاب والمطر، وعلى مجموع ما نرى فوقنا من الكواكب في فلكها وبروجها وسماها - بناء، فقال:{بناها} و {بنيناها} ، والمعنى: ترتيب أجزائها وتسويتها كما يبنى الجيش والكلام، قال في الأساس: وكل شيء صنعته فقد بنيته.

أقول: وبالله أستعين فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم: إن سؤال هذا السائل يشتمل على خمسة أسئلة، يحتاج كل واحد منها إلى جواب يخصه: الأول: الاستفهام عن معنى "سبع سماوات"

إلخ. الثاني: عن قول أهل الجغرافية:

ص: 47

إن السماء ليست بأجرام. الثالث: هل ينافي قولهم هذا الآيتين؟ الرابع: قولهم: الأمطار تتكون من ماء البحر. الخامس: ما حكم من يعتقد ذلك؛ اعتمادا على علمهم بذلك؟ فالواجب على المفتي أن يجيب عن الخمسة مفصلا لها مقتصرا على ذلك كما هو الشأن من قولهم إن الجواب على قدر السؤال. فقوله: وأطلق في القرآن على السقف وعلى السحاب وعلى المطر لا حاجة إليه بالنسبة للسائل؛ لأنه لم يسأل عما يطلق عليه لفظ سماء حتى توضحه له، وقوله: وعلى مجموع ما نرى فوقنا من الكواكب

إلخ - مسلم لغة، لكنه لم يستفهم عنه السائل؛ لكونه معلوما عنده، فحقه حيث ذكره أن يتبعه بمعناها العرفي؛ لكونه المراد للسائل، وهي بناء عظيم مزين بالكواكب حسبما تقدم وما سيأتي، إن شاء الله تعالى.

وقوله: وسماها بناء، إلى قوله: فقد بنيته - فيه نظر ظاهر؛ لأن المراد بناء محكم، لا مطلق الترتيب والتسوية. وكلام الأساس الذي نقله - ذكره صاحبه في قسم المجاز بعد ذكر الحقيقة. فَنَقْلُ هذا الأستاذ له موهما به الحقيقة غير مقبول عند من تدثر بالمجاوز واستشعر بالحقيقة.

وقوله في الجواب أيضا وأشار إلى أن منها القربى التي تتمتع أبصارنا بزينتها، ومنها البعدى التي لا نراها، يعني في قوله {سبع سماوات طباقا} حق وصدق؛ لأن ما عدا سماء الدنيا بعيد عنا لا نراه؛ لحيلولة سماء الدنيا بيننا وبينه، وإن كان بعضه أبعد من بعض، قوله ويذكر السماء بلفظ المفرد غالبا، المعنى الذي ذكرناه آنفا وهو مجموع ما نراه في الأفق فوقنا - فيه نظر من ثلاثة أوجه: الأول: تقدم. الثاني: أن اللام في "السماء" للجنس أو الاستغراق إلا إذا ذكرت بحلية الزينة

ص: 48

فالمراد سماء الدنيا، الثالث: أن الأفق في اصطلاحهم هو الخط الوهمي الحاجز بين السماء والأرض، وإن كان في اللغة يطلق على الناحية.

(قوله) في الجواب أيضا وذكرها بلفظ الجمع وخصه بسبع في عدة آيات، فالمراد بالجمع نحو قوله تعالى {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} هذه السبع يعني بالجمع الذي لم يصرح فيه بلفظ السبع يحمل على السبع هو كذلك.

(قوله) وعبر عنها بالطباق كما في آية سورة الملك المذكورة في السؤال وبالطرائق، فقال في أوائل سورة المؤمنين:{ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق} هو كذلك، أي: عبر عن السماوت السبع بما ذكر.

(قوله) وسمى هذه الطرائق حبكا على التشبيه، فقال في أوائل سورة "والذاريات":{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} وهي الطرائق المعهودة في الرمل - ممنوع بتاتا.

سارت مشرقة وسرت مغربا

شتان بين مشرق ومغرب

وبيان ذلك: أن المراد بالحبك في الآية مدح السماء بما زينها الله تعالى به، لا أن المراد منها عدد السماوات كما ادعاه أولا، ولا أن المراد منها الطرائق المعهودة في الرمل كما ادعاه ثانيا، قال في القاموس: وحبك الرمل بضمتين حروفه، إلى أن قال: ومن السماء طرائق النجوم، وإليك ما يفسره به أهل اللسان: أخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عباس في قوله {والسماء ذات الحبك} ، قال:"حسنها واستواؤها". وأخرج أبو الشيخ وغيره عن ابن عباس أيضا في قوله {والسماء ذات الحبك} ، قال:"ذات البهاء والجمال كالبرد المسلسل". وأخرج ابن منيع عن علي بن أبي طالب، أنه سئل عن قوله {والسماء ذات الحبك} ، قال:"ذات الخلق الحسن". وأخرج ابن جرير وأبو

ص: 49

الشيخ عن الحسن، {ذات الحبك} ، قال: ذات الخلق الحسن، محتبكة بالنجوم.

وأخرج ابن جرير وأبو الشيخ عن عكرمة، {والسماء ذات الحبك} ، قال: الخلق الحسن، ألم تر الحائك إذا نسج الثوب فأجاد نسجه، قيل والله أجاد ما حبكه. وأخرج ابن جرير عن مجاهد، {والسماء ذات الحبك} قال: المتقن البناء.

(قوله) فالسبع الشداد والطباق والطرائق والحبك تنبئ عن شيء واحد معروف عند العرب الذين نزل القرآن بلسانهم - غير صحيح بالنسبة للحبك لما تقدم، وأيضا العرب لا تعلم إلا ما تشاهده. وأما ما غاب عنها فلا تعلمه إلا بواسطة صاحب الوحي صلى الله عليه وسلم.

(قوله) وقد سمى هذه السبع سماوات؛ لأن كل واحدة منها تعلو المخاطبين ويصعدون إليها نظرهم من فوق - فيه نظر ظاهر؛ لأن المخاطبين إنما يصعدون نظرهم للمرئي منها، وهي التي أمروا بالتفكر فيها والنظر إليها نظر اعتبار وتدبر، وما عداها لم يكلفوا بالنظر إليه لعدم استطاعتهم ذلك، وهذا الشيخ إنما يحاول بكلامه أمرا سيصرح به بعد، إلا أنه لا يتم له، ويرد عليه إن شاء الله تعالى برد جميل.

قوله "ووصف به السماء المفردة" إلى قوله "يختلف باختلاف الاعتبار" فيه نظر ظاهر يتبين بأدنى تأمل.

قوله: ذهب بعض الغافلين الذين يظنون أن الله تعالى خاطب الناس بما لا يفهمون وأقام عليهم الحجة العقلية بما لا يعقلون إلى أن السماء والسماوات من عالم الغيب كالجنة والنار فلا تعرف حقيقتها، وإنما يجب الإيمان بها إذعانا لخبر الوحي، ولو كان الأمر كذلك لما ذكر في الآيات التي يقيم الله بها حجته على عباده ليعلموا أنه الخالق المنفرد بالخلق والإبداع والعلم المحيط والحكمة البالغة والقدرة والمشيئة؛ كما استدل على ذلك بالأرض وما فيها

ص: 50

فقرن بين السماء والأرض وبالإبل والجبال وغير ذلك من عوالم الأرض.

تقول وافتراء على من سماه غافلا بقوله الذين أن الله إلى قوله لا يعقلون إلى أن السماء والسماوات إلخ؛ لأن الله تعالى، إنما كلفنا بالنظر والتفكر في الآيات والصفات التي في السماء والأرض والإبل والجبال من حسن سبك السماء واستوائها وعدم فطورها وزينتها بالكواكب وغير ذلك من الآيات السماوية وعيون الأرض ونباتها وأزهارها وعذب مائها وأجاجه ومعادنها، وحسن تركيب الإبل وعظم الراسيات من الجبال، لا أنه تعالى كلفنا بمعرفة حقائق ما ذكر تأمل منصفا.

تنبيه: ما ذكره من شأن هذا الغافل عنده من قبيل السفسطه لأنه يصرف به ذهن السائل عن سؤاله ويشغله به عن سؤاله وقد فعل كما أبين لك ذلك إن شاء الله تعالى.

قوله: السماء اسم جنس يطلق على جهة العلو إلى قوله: وإنما كانوا يعنون بالسماء الجو الذي فوقهم، فيه نظر بين لمن تأمل؛ لأن السماء بناء لا جو كما يقوله أهل الجغرافية فهو تابع لهم في هذا المعنى، وهو الذي يحاوله فيما تقدم ويأتي رد ذلك إن شاء الله تعالى.

قوله: ذكر السماء في أكثر من مائة موضع في القرآن بهذه المعاني ولم يشتبه أحد من العرب في فهم شيء منها لا مؤمنهم ولا كافرهم، ولم يفهموا من السماوات السبع والطرائق والحبك والطباق إلا الكواكب السبعة السيارة ومداراتها في أفلاكها، التي تشبه طرق الرمل يسلكها السفر في الموامي والبوادي

ساقط عن درجة الاعتبار كلام مفترى على الوحي وعن ساداته العرب أو كلام صادر عن غيبوبة عقل بتوهمه أنه أحاط بما لم يحط به غيره حاد بذلك عن سنن المسلمين واتبع

ص: 51

قول الحائدين حسبما يظهر لك إن شاء الله تعالى ونعني بساداته العرب الصحابة والتابعين، وفي مقدمتهم ترجمان القرآن من حصلت له بركة دعوة النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:" وعلمه التأويل" فلم يفهم صحابي ولا تابعي الذين باشروا القرآن من يد صاحب الوحي وهم أهل اللسان الذي نزل القرآن به أن السماوات والطرائق والطباق هي الكواكب السبعة السيارة البتة، بل هذا القول إنما حدث عن قرب، بل كل من تصدى لتفسير ذلك يتبع ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من أنها سبعة أجرام بعضها فوق بعض وأنها محل السيارات وغيرها من الكواكب الثابتة، وأن مدارات السيارات في الأفلاك (1) أعني السماوات، والشيخ يحوم حول القول الذي يقول بعدم الأجرام، وإنما هي فضاء الكواكب متجاذبة حول مركز الشمس في مداراتها الهوائية، وعليه فيكون موافقا لغير أهل الإسلام وسيأتي له التصريح بهذا المذهب وفيما ترى من كلامه مناقضات ثلاث فقوله السماء الجو يناقض سابقه وهو أن منها القربي

إلخ، المقتضى أنها أجرام مزينة بالكواكب ويناقض لاحقه المقتضى

(1) قوله أعني

إلخ.

وفي الإبريزي قلت للشيخ: أن المنجمين يزعمون أن النجوم +الثابة في فلك الثوابت وهو الفلك الثامن، فقال من أين لهم هذا، فقلت: زعموا من اختلاف سيرها مع السبعة السيارة فقال ليس كما ظنوا النجوم كلها في السماء الدنيا ا. هـ.

وهذا هو ظاهر القرآن، وكذا قال الرازي في تفسير سورة الملك ظاهر القرآن يضعف مذهب الفلاسفة وبحث معهم في منشأ الزعم، فأنت ترى الأقوال في محل النجوم من رأي سماء لا أنها هي سماء

ص: 52

أنها كوكب واللاحق أيضا يناقض السابق؛ لأن الكواكب مزين بها لا مزينة، فيا للعجب من هذا الشيخ المجتهد الذي يناقص نفسه ولا يشعر بذلك، ويكذب على الله في تنزيله كلامه تعالى على ما لم يرده، ومن شرط المجتهد العدالة ومن جملة شروط العدالة التنزه عن المكذب، لكن هذا الشيخ تبعا لأستاذه لا يعتبر شروط الاجتهاد التي ذكرها المسلمون، وعليه يجوز عندهما عدم العدالة في المجتهد وحينئذ فلا غرابة في الكذب.

وتقدم الكلام على السماوات في أول الأسئلة فراجعه وأزيدك هنا أخرج ابن أبي شيبة والواسطي عن عبد الله بن عمر قال: إن الحرم لحرم في السماوات السبع بمقداره من الأرض، وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وأبو الشيخ عن مجاهد في قوله:{ولقد خلقنا فوقكم سبع طرائق} قال: السماوات السبع، وعن ابن عباس رضي الله عنهما {وبنينا خلقنا فوقكم} فوق رءوسكم {سبعا} سبع سماوات شداد غلاظا ا. هـ.

وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس في قوله: {سبع سماوات طباقا} قال: بعضها فوق بعض ويشهد لقولي السابق وكلام صادر عن غيبوبة عقل أن الشيخ ناقض كلامه بكلامه كما بينت لك آنفا وأنه تابع للطبائعيين في هذا المذهب دون المسلمين {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب} .

قوله: وخصها بالذكر

إلخ، كلامه * لا نحتاج للتعرض له لقلة جدواه، حيث أدركنا معلومات الشيخ ومذهبه فيما كتبه وتحصيله في العلم غير أن السائل لم يستفد من كلام الشيخ جوابا عن الأسئلة الخمسة التي بينتها سابقا لا تصريحا ولا تلويحا إلا مذهب الجغرافيين في السماوات فإنه يستفاد

ص: 53

من كلامه أنهم على حق حيث إن المفتي جاراهم على ذلك، ومن هنا يتبين لك صدق كلامي في الديباجة بأن مثل هذا لا يتصدى للرد عليه، حيث إنه صحافي والصحافي يخلط في كلامه ويموه على السامعين، وأي تخليط وتمويه ارتكبه هذا المفتي مع هذا السائل مع أنه بسط الكلام وأتى بما لا جدوى فيه، بل هو كذب على الله تعالى لو كان مفتيا متقيا الله عالما بأحكام الفتوى لنهج نهج المفتين الحقيقيين، بأن يقول: حيث إن السائل مسلم غير طبيعي {سبع سماوات طباقا} أي أجراما بعضها فوق بعض ويستدل على كلامه بالأحاديث والآثار الواردة في ذلك، وبأن يرد على أهل الجغرافية قولهم، ويستدل على ذلك أيضا وبأن يقول: إن قول أهل الجغرافية ينافي الآيتين يقينا، ويستدل على ذلك بالأدلة الشرعية المؤيدة بالعقل في بعضها كما تقدم لنا.

(وبأن الأمطار تنزل من جهة السماء) والقول بأن السحاب له خراطيم تأخذ الماء من البحر ثم تعلو به فيعذب فيها بإن الله تعالى نقل غير معتبر عند علماء المسلمين، ولم نعثر على من يقول بهذا القول إلا على خالد بن يزيد، وقال: إن ما يكون من البحر لا ينبت شيئا، وإنما ينبت ما كان من جهة السماء ويختلفون في محله ومقره فراجع أقوالهم، أخرج أبو الشيخ عن خالد بن يزيد قال المطر منه من السماء ومنه ماء يسقيه الغيم من البحر فيعذبه الرعد والبرق، فأما ما كان من البحر فلا يكون له نبات، وأما النبات فما كان من السماء وبأن يقول: إن معتقد عدم جرمية السماوات يكفر لمصادمته نصوص القرآن وأما

ص: 54

معتقد كون الأمطار أصلها من البحر فهذا (1) يتوقف فيه لوجود قائل

(1) قوله يتوقف لوجود إلخ، أعلم أن هذه إحدى المسائل التي وقع اختلاف أهل السنة فيها فمنهم من وافق الحكماء ومنهم من خالفهم متمسكا بالآثار الواردة بلا تأويل، ومن وافق الحكماء أول ما ورد بما هو مقرر مشهور، ورأينا كثيرا من فحول العلماء قد توافق بعض أقوالهم أقوال الحكماء دون أهل السنة، والقاصر مثلنا يخشى اتباعه في ذلك؛ احتياطا لدينه خشية أن يكون ذلك سرى له من مذاهب المخالفين؛ لأنهم غير معصومين من الخطأ فيتوقف عن الاقتداء به في تلك المقالة، بل ربما يكون هذا مكذوبا عليه وقد وجد من رجال هذه الأمة بعض أفراد منحهم الله بعلم لدني منه تعالى، ويندر من لا يثق بهم في علومهم وأمنت النفوس من بثهم علما في الناس تخشى عاقبته منهم القطب الدباغ والعارف الخواص وهما زيادة عن ذلك أميان لا تلقى لهما عن شيخ ولا كتاب مذهبا من المذاهب، بل فيض رباني على نمط متبوعهما النبي الأمي صلى الله عليه وسلم، وكالشيخ التجاني وسيدي إبراهيم الدسوقي، فلذا أكثرنا النقل عن هؤلاء فيما مضى وفيما يأتي لما أن هذا التأليف أكثر محاوراته في أمور غيبية ثقة بأقوالهم ولو خالفت المشهور عن أهل السنة في بعض الأحيان مما لا يخل بعقيدة ولا ينابذ العقل فرارا من المحذور السابق، فبناء على ما ذكر أنقل لك مقالة للقطب الدباغ تناسب هذا المبحث.

قال في الباب الثاني من الإبريز في أثناء جواب سؤاله له عن سبب الخسف في بعض الأماكن: أن الأرض محمولة على الماء، والماء محمول على الريح، والريح تخرج من حيز عظيم بين السماء وطرف الماء أعني ماء البحر المحيط، وذلك أنا لو قدرنا رجلا يمشي ولا ينقطع مشيه فإنه لا يزال يمشي فوق الماء إلى أن ينتهي الماء وعند ذلك لا يبقى بينه وبين السماء إلا الجو الذي تخرج منه الريح، فيرى رياحا لا تكيف ولا تطاق وهي بإذن الله الحاملة للماء والأرض والماسكة للسماء، ثم هي خدامة لا تسكن لحظة ومرتفعة نحو السماء، فإذا أراد الله تعالى أن ينزل المطر على قوم أمر شيئا من تلك الرياح فانعكس إلى جهة الأرض وعبر على متن البحر المحيط أو غيره، فيحمل ما أراد الله تعالى من الماء إلى الموضع الذي يريده عز وجل، وكم مرة أنظر إلى طرف الماء الموالي للجو الذي فيه الرياح فأرى فيه جبالا من الثلج لا يعلم قدر عظمها إلا الله عز وجل، ثم أنظر بعد ذلك فأجد تلك الجبال نقلت إلى طرف الماء الموالي لجبل قاف وإذا الرياح المنعكسة هي التي حملتها ا. هـ.

وجعله الريح ماسكة للسماء والأرض لا ينافي أن الله يمسك السماوات والأرض الآية؛ لأن هذا الحمل من خصائص قدرته تعالى ولا قدرة لأحد على هذا الإمساك، وقال في جواب سؤاله عن أصل الثلج ومن أين نزوله أن الثلج ماء عقدته الرياح وأصله غالبا من ماء البحر المحيط؛ لأن ماءه مخصوص بثلاث خصال لا توجد في غيره البرودة إلى النهاية لمجاورته للرياح ولبعده عن حر الشمس ولذلك ينعقد بأدنى سبب والصفاء إلى النهاية؛ لأنه ماء باق على أصل خلقته لم يمتزج بشيء من جواهر الأرض، فإنه بحر محمول على القدرة الأزلية، وليس هو على الأرض ولا على شيء.

(أي غير الريح لما تقدم له) والبعد إلى النهاية، فإن المسافة التي بيننا وبينه في غاية البعد، فإذا أمر الله الرياح بحمل شيء من هذا الماء فإنه ينعقد بعد حمله؛ لأجل البرودة التي فيه ولا تزال الرياح تحله شيئا فشيئا وتسحقه قليلا قليلا، فإذا طالت المسافة بيننا وبينه حصل له انحلال إلى النهاية حتى يصير كالهباء وتجتمع أجزاؤه؛ لأجل النداوة التي فيه، ولذا ينزل أحيانا على هيئة لطيف الصوف أو أدق منه فهذا هو أصل الثلج، وأما البرد فإن المسافة التي بين انعقاده ونزوله غير طويلة؛ لأنه من ماء البحار التي في وسط الأرض ومن الغدر أن المجتمعة من نزول الأمطار غالبا، ولذلك شاهد الثقات من الناس وسط الحبة من البرد شيئا من أجزاء الأرض، وإنما كان مستديرا على هيئة الطعام المفتول تحت يده على المرأة مثلا في القصعة لأجل مصاككة الريح له فراجت أجزاؤه تحت أيدي الرياح ا. هـ.

المراد منه وهذا هو استكشاف خلص السنيين فعض عليه بالنواجد فإنه ناشيء عن نور البصائر.

خذ ما رأيت ودع شيأ سمعت به

في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل

ولا تقل أن هذه العبارات عن هذا الشيخ تخالف المعقول والمنقول عن المستكشفين وكثير ممن عداهم؛ لأن عقل الموحد بقدرته تعالى التي لا تحيط بكنهها العقول لا يستبعد ذلك، وأما دعوى السياحين وإحاطتهم بجميع ما على وجه الأرض فلا يسلمها لهم إلا قاصر النظر الذي لا ينظر إلا لما بين قدميه، فهل عندهم في الدنيا سد لذي القرنين أو محيط غير المحيطات التي يمرون فيها في تجاراتهم، وليس في الدنيا جبل قاف، وهل تباعد أحد منهم في سياحته عن البلدان العامرة وما قاربها من القرى والجزر، ودعواهم الاستكشاف بالنظارات المعظمة التي اطلعوا بها حتى على ما في العالم العلوي وهي كما قال تعالى {كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور} ومن هنا تأخذ إحدى معجزات القرآن العلمية على وجود أناس آخر الزمان تحصل لهم هذه المعارف الظلمانية لا كما يزعمون من الخرافات الوهمية

ص: 55

من المسلمين بذلك فينبغي أن يعلم حتى يرجع عن اعتقاده فيكون الشيخ

ص: 56

أدى وظيفة الفتوى التي تصدى لها اعتباطا أعنى من غير تصدير له من الحاكم ولا من جماعة المسلمين فالله سبحانه يتولى هداية الجميع قال تعالى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} وقال الصديق الأكبر أي سماء تظلني وأي أرض تقلني أن أقول في كتاب الله برأيي أتضرع إلى الله تعالى وأبتهل إليه وأستنصر به على من تجاوز حد المسلمين وسلك سبيل الضالين، وقال في كتاب الله تعالى برأيه وحمله على غير محامله وتجاسر على الكتاب والسنة ورمي ربقة الإسلام من عنقه إن كان متلبسا بها قبل، وعانق غير الإسلام إرضاء لمن نحا نحو مذهبهم خالف المنصوص أجمع، وفي أثناء تقاريره يظهر منها أنه مسلم ولو خالف رسول المسلمين ونسبه في معراجه للتخيل وغيره مما يقدح في مقام النبوة من أنه علم واطلع على ما لم

ص: 57

يطلع عليه النبي صلى الله عليه وسلم من أسرار الكتاب مما تراه عيانا إن شاء الله تعالى، فالرد على ما ادعى الإسلام آكد من الرد على من لا يعترف بالإسلام أصلا كداروين صاحب فلسفة النشوء والارتقاء لاغترار كثير من الناس بهذا دون ذلك في صفحة 577 من الجزء المذكور علم الفلك والقرآن نظرة في السماوات والأرض في صفحة 578 ما هي هذه الأرض التي نعيش عليها هي كوكب من الكواكب التي تدور بمركز الشمس وتسمى السيارات.

أقول: يعتقد صاحب هذا الكلام أن الأرض متحركة طائفة بمركز الشمس، وليست راسية ومائدة وليست بثابتة وسابحة وليست موثقة بالجبال، وهذا مذهب داورين الطبيعي

ص: 58

ومن تبعه كأصحاب هذه المجلة، قال داورين في كتاب النشوء والارتقاء في صفحة 238: أن الأوهام التي تقاضت الإنسان حياته زمنا طويلا وكانت أعظم الأسباب شقائه، ودواعي عنائه اثنان عظيمان، وهما أولا: اعتقاده القديم في الأرض أنها مركز تدور حوله الأفلاك، وثانيا: اعتقاده في نفسه أنه من أصل سماوي فأهبطه الخالق من فسيح جناته ولماذا؟ وأسكنه ضيق أرضه إلى أن قال: ومنها أرضنا المتحركة حول الشمس، خلافا لمن يظن من أن الأرض ثابتة والشمس تدور حولها خدمة لها ا. هـ. واعتقاد المسلمين قاطبة بأن الأرض ثابتة تبعا لما أمتن الله به علينا بقوله سبحانه وتعالى في سورة لقمان:{خلق السماوات بغير عمد ترونها وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم} أي: لئلا تميد بكم وفي عم يتساءلون: {ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا} وفي والنازعات: {والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها والجبال أرساها} وغير ذلك من الآيات الدالة على ثبوت الأرض وعدم تحركها، في مختار الصحاح مادا الشيء تحرك، وفي القاموس ماد يميد ميدا وميدانا تحرك وزاغ، وفيه أيضا رسا رسوا ثبت كأرسى، فالله سبحانه أخبر بثبوتها وعدم تحركها وطوافها حول الشمس وداروين ومن تبعه أخبروا بحركتها وطوافها حول مركز الشمس فمن هو العالم بوصفها الحقيقي؟ الجواب: الله {ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير} فمن الصادق في خبره؟ الجواب: الله الصادق {ومن أصدق من الله حديثا} فإذا ثبت هذا فمن الواجب اتباعه في قوله؟ الجواب: الواجب اتباع قول الله تعالى؛ لأن خبره صدق يستحيل عليه الكذب وما في معناه، وطرح قول الغير وراء الظهر ومعتقد خلاف دين المسلمين كافر بلا

ص: 59

توقف ثم اتل قوله سبحانه وتعالى {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} وقال في صفحة 580 والسبب الذي يمسك السيارات في أفلاكها ويحفظ نظامها في مداراتها، وهو جذب الشمس لها فلولاه لسارت في طريق مستقيم إلى حيث لا يعلم إلا الله، وكذلك جميع الكواكب يجذب بعضها بعضا من جميع الجهات فالسماء بما فيها من الكواكب كالبنيان يشد بعضه بعضا.

أقول: إن هذا الكلام من نتيجة الكلام الأول ولا يقوله مسلم والمسلم، إنما يقول:{إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا ولئن زالتا أن أمسكهما من أحد من بعده} راجع تفسير هذه الآية والمثل الذي ضربه الله تعالى لسيدنا موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.

بقي في الكلام شيء وهو قوله: كالبنيان صريح في أنه لا بنيان وهذا موافق لقول أستاذه أي: فيما يؤخذ من كلامه في تفسير السماء قال في والنازعات: بناها؛ بيان لكيفية خلقه السماء والبناء ضم الأجزاء المتفرقة بعضها إلى بعض مع ربطها بما يمسكها، حتى يكون عنها بنية واحدة، وهكذا صنع الله بالكواكب وضع كلا منها على نسبة من الآخر مع ما يمسك كلا في مداره حتى كان منها عالم واحد في النظر سمي باسم واحد وهو السماء التي تعلونا، وهو معنى قوله:{رفع سمكها فسواها} والسمك قامة كل شيء فقد رفع أجرامها فوق رءوسنا، فسواها عدلها بوضع كل جرم في وضعه، وقال في التكوير في تفسير {وإذا السماء كشطت}: وكشط السماء إزالتها كما يكشط الجلد عن الذبيحة، أي: إذا السماء كشفت وطويت ولم يبق هناك شيء يسمى سماء أو غطاء، وهذا إنما يكون بخلو ذلك العالم الجديد من الكواكب،

ص: 60

بل بخلوه مما يطلق عليه في الدنيا اسم الأعلى والأسفل، وقال في الانفطار:{إذا السماء انفطرت} أي: انشقت، وجاء في سورة الفرقان:{يوم تشقق السماء بالغمام} وانشقاق السماء انصداع نظامها فلا يبقى أمر ما فيها من الكواكب على ما تراه اليوم، وقال في الانشقاق: وانشقاق السماء مثل انفطارها الذي مر تفسيره في سورة إذا السماء انفطرت وهو فساد تركيبها واختلال نظامها عندما يريد الله خراب هذا العالم الذي نحن فيه وهو يكون بحادثة من الحوادث التي قد ينجر إليها سير العالم، كأن يمر كوكب في سيره بالقرب من آخر فيتجاذبا فيتصادما فيضطرب نظام الشمس بأسره، ويحدث من ذلك غمام وأي غمام يظهر في مواضع متفرقة من الجو والفضاء الواسع، فتكون السماء قد تشققت بالغمام واختل نظامها حال ظهوره، وقال في سورة البروج: أقسم سبحانه أولا بما فيه غيب وشهود وهو السماء ذات البروج، فإن كواكبها مشهود نورها مرئي ضوءها معروفة حركاتها في طلوعها ومغيبها يحسر البصر، والسماء ما علاك مما تسميه بهذا الاسم وفيه البروج تشاهدها، ولكن فيها غيب لا نعرفه بالحس وهو حقيقة الكواكب وما أودع الله فيها من القوى وما أسكنها من الملك أو غيره، كل ذلك غيب لا تدركه حواسنا، وإن وصل إلى الاعتقاد بشيء منه عقلنا ثم أقسم جل شأنه بما هو غيب صرف وهو اليوم الموعود، وقال في تفسير والسماء والطارق: يقسم سبحانه بالسماء وقد قلنا أنها كل ما علانا، فهو قسم بالعالم العلوي، وقال في الغاشية: ورفع السماء إمساك ما فوقك من شموس وأقمار ونجوم كل منها في مدار لا يختل سيره ولا يفسد نظامه، وقال في تفسير {والسماء وما بناها}: السماء اسم لما علاك وارتفع فوق رأسك، وأنت

ص: 61

إنما تتصور عند سماعك لفظ السماء هذا الكون الذي فوقك فيه الشمس والقمر وسائر الكواكب تجري في مجاريها وتتحرك في مداراتها، هذا هو السماء وقد بناه الله أي رفعه وجعل كل كوكب منه بمنزلة لبنة من بناء سقف أو قبة أو جدران تحيط بك، وشد هذه الكواكب بعضها إلى بعض برباط الجاذبية العامة كما تربط أجزاء البناء الواحد بما يوضع بينهما مما تتماسك به، والذي بنى السماء هو الله جل شأنه.

(فاستفدنا من أطراف كلام الشيخ) أن السماء في اعتقاده غير السماء التي يعتقدها أهل الشرع التي تقدم بيانها وسيأتي بعض ما يتعلق بها إن شاء الله تعالى، فالسماء عند الشيخ يطلقها تارة على الجو الذي فيه الكواكب، وتارة على نفس الكواكب، وتارة على المجموع المربوط كواكبه بجاذبية أي بأمر معنوي لا قوام له شبه المغناطيس كما سيصرحون به بعد، وهذه الجاذبية عنده بمثابة الجص والرمل اللذين يوضعان بين الحجارة في البناء المعهود بنا فيتكون من الهيئة المذكورة السماء.

(واستفدنا) أيضا من كلامه: أن تلك الكواكب مسكونة بالملائكة أو غيرها، وأن هلاك هذا الكون وانفطاره وانشقاقه وظهور الغمام يكون بتصادم كوكبين في حال سيرهما، وغير ذلك من المعاني الغزيرة الغريبة فهو لا يؤمن بأن اختلال نظام هذا العالم يكون بسبب نفخ إسرافيل عليه السلام في الصور الناطقة به الآيات والأحاديث، واستفدنا منه أيضا: تعدد الشمس والقمر زيادة عما أخبر به الله به بقوله: {فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة} فهما كوكبان أحدهما ظهوره بالنهار والآخر بالليل، فما استفدناه من كلامه هو الذي يسبح فيه تلامذته، فإذا كانت عقيدة الشيخ هذه فلا نلوم على اتباعه المعتقدين كماله وعلمه على حد ما قيل:

ص: 62

إذا كان رب البيت للطبل ضاربا

فلا تلم الصبيان فيه على الرقص

فإن سأل سائل عن هذا العلم من أين اكتسبه الشيخ؟ فلا يخلو الحال إما أن يقال: إنه استنبطه من كتاب الله وسنة رسوله؛ لكونه مجتهدا وإما أن يقال: اكتسبته من العلماء؛ تقليدا لهم من غير نظر في دليل فإن قيل بالأول رد ذلك؛ لأنه ليس في القرآن ولا في السنة ما يشير إلى ما ذهب إليه ولا أظنه يدعيه، وإن قيل بالثاني يسأل أيضا لم ترك الاجتهاد وهو يأمر به غيره فيصدق عليه {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم} ولم ذا قلد وهو ينهى الناس عن التقليد ويغلظ في ذلك القول فيصدق عليه أيضا:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

ثم يسأل عن مشايخه الذين قلدهم في هذا العلم أهم مسلمون أم لا؟ فإن قيل بالأول رد ذلك أيضا؛ لأن المسلمين بريئون من هذا العلم الذي أبرزه الشيخ، وإن قيل بالثاني وهو الواقع حسبما يأتي إن شاء الله تعالى يسأل أيضا لم يأخذ عن علماء المسلمين وأخذ عن غيرهم أظن أنه يجاب عنه بلا توقف؛ لوثوقه بعلمهم دون المسلمين؛ لأن علمهم مستفاد من الآثار المسندة إلى الرسول والصحابة والتابعين، وعلم غيرهم مستفاد بالنظارات البلورية المعظمة فينتج عن ذلك أن الشيخ مقلد لا مجتهد ومقلده كافر لا مسلم، فتشنيعه على التقليد أشنع وأفظع عند من يعقل ويتبين من هذا وأمثاله أن الشيخ محمد عبده شهرته أكثر من علمه وأن كل دعوى ادعاها هو أو غيره له لا نسلم والمحك يفسدها رجوع لما نحن بصدده، ثم استدل على جذب الشمس للسيارات وجذب الكواكب بعضها لبعض بقوله:{أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها} وبقوله: {والسماء ذات الحبك}

ص: 63

(أقول) لا دلالة في الآية الأولى قطعا على التجاذب الذي يدعيه، وإنما سيقت والله أعلم لردع من أنكر البعث بأن السماء على عظمها لا تنكرون أنه تعالى هو الخالق لها فكيف تنكرون خلقكم بعد الموت على ضعفكم، ولا في الآية الثانية وقد تقدم قريبا معناها فراجعه إن شئت، ثم قال: الحبك جمع حبيكة كطريقة وطرق بمعنى محبوكة أي مربوطة، فقوله تعالى {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} معناه ذات المجاميع من الكواكب المربوط بعضها بعضها ببعض بحبال من الجاذبية، فإن كل حبيكة مجموعة من الكواكب المتجاذبة فالآية الشريفة نص على تعدد المجاميع وعلى الجاذبية التي يقول الإفرنج أنهم مكتشفوها وعليه فهي إحدى معجزات القرآن العلمية.

(أقول) بفضل الله تعالى: أن القرآن الشريف نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين، والعرب من أولهم إلى آخرهم لا يفقهون أن الحبك معناها مجاميع الكواكب وجاذبية الكواكب بعضها لبعض، وإنما يفقهون معنى الحبك ما تقدم من الحسن والإتقان وطرائق النجوم كما تقدم، فلو كان المراد من الحبك ما قاله هذا الكاتب للزم أن الله تعالى خاطب الناس بما لا يعقلون معناه، وتقدم لهم أنفسهم التنكيت والتوبيخ بذلك على من سموه غافلا، فما ادعاه من أن الآية نص

إلخ، باطل يرد على وجه قائله:

أوردها سعد وسعد مشتمل

ما هكذا يا سعد تورد الإبل

(قوله) فإذا جاء الوقت الذي يفسد فيه نظام هذا الكون إلى قوله: والجاني على ركبته والنسر طائر وغير ذلك فيه نظر، وإنما تركت تتبعه؛ لأن غالبه مبني على الباطل الأول وغير الغالب لا حاجة لنا فيه.

(وقال) ولعل سدرة المنتهى

ص: 64

المذكورة في القرآن الشريف هي صورة كهذه الصور.

أقول: هذا من فرع الخرافات السابقة فلا ينظر إليه أخرج ابن أبي شيبة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لما انتهيت إلى السدرة إذا ورقها مثل أذان الفيلة وإذا نبقها أمثال القلال، فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تحولت فذكر الياقوت، والرؤيا يقظة ذاتية على المشهور والراجح لا بالروح فقط، أو منامية كما هو الضعيف والمرجوح، وقول الأقل فما يأتي له من أن النبي صلى الله عليه وسلم تخيل له أن بها نبقا ولا نبق مردود عليه ويفسق قائله كما سبق في سؤال المعراج، فلا تغفل عما قدمناه، ومن جملة ما قدمناه أن الأمور الغيبية لا دخل للعقل فيها، وإنما تستفاد من طريق الوحي ليس إلا، والحاصل أن ما ذكره هنا من المجاميع وأن الجنة التي يتنعم فيها المؤمن والنار التي يعذب فيها الكافر هما في هاته المجاميع، وجميع ما يتعلق بذلك هو خيالات لا وجود لها معارضة للنصوص الشرعية، فعلى من يعتقد حقية دين الإسلام إلقاء هذه الخرافات وراء المحيط؛ لأنها كسراب بقيعة، بل ربما السراب له وجود فيما يتراءى يقظة، وهذه المجاميع التي يذكرونها لا ثبوت لها قطعا، وإنما هي تخيل كتخيل النائم الذي يتخبطه الشيطان ومع ذلك لا يحصل لكل أحد، وإنما يحصل لمن معه آلات التخيل أعني أرصادهم التي ضيعوا نفيس أعمارهم فيها بلا فائدة، وفي البخاري في كتاب بدء الخلق باب في النجوم، وقال قتادة:{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} خلق هذه النجوم لثلاث: جعلها زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها، فمن تأول فيها بغير ذلك أخطأ وأضاع نصيبه وتكلف ما لا علم له به.

قال: والكواكب سماوات

ص: 65

فالسماوات المذكورة كثيرا في القرآن الشريف هي هذه السيارات السبع وهي طباق بعضها فوق بعض؛ لأن فلك كل منها فوق فلك غيرها كما تقدم، والشمس مركز لهذه الأفلاك السبعة، ومنها تستمد هذه السيارة النور والحرارة فهي سراج وهاج ونورها كنور السراج غير مستمد من غيره (1) ناشئ عن احتراق موادها كما سبق.

أقول: وعلى الله أتوكل

(1) قوله ناشئ

إلخ.

قال في الإبريز: أن الأرض من حين خلقت هي وجبالها لم تزل مظلمة والملائكة والأرواح يعبدون الله عليها فلم يفجأهم إلا والأنوار ظهرت في الشمس والقمر والنجوم، ففر الملائكة الذين في الأرض من نور الشمس الذي ما كانوا يعهدونه قبل، وخافوا إخراب العالم أو حصول أمر ينزل بهم إلى ظل الليل الذي يعرفونه خائفين متضرعين يطلبون منه تعالى الرضا وعدم السخط، فجعلت الشمس تنسخه وهم يذهبون معه إلى أن عادوا إلى المكان الذي بدءوا منه، واجتمع ملائكة كل أرض في أرضهم، فلما عادوا إلى مكانهم ولم يحصل شيء مما كانوا يتوقعونه زال عنهم ذلك الهول العظيم، واطمأن أهل كل أرض عن فرارهم منها، وأما ملائكة السماوات والأرواح التي في البرزخ فإنهم لما رأوا ملائكة الأرض فعلوا ما فعلوا نزلوا معهم إلى الأرض، فأما أراوح بنى آدم فوقفوا مع ملائكة الأرض الأولى واجتمع الجميع من ملائكة الأرض والسماوات والأراوح على تلك الليلة، فلما رجعت الشمس إلى موضعها الأول ولم يحدث شيء أمنوا فرجعوا إلى مراكزهم ثم صاروا يفعلون ذلك كل عام، فهذا هو سبب ليلة القدر، وأنوار الشمس مستمدة من نور البرزخ ونور البرزخ مستمد من نور النبي صلى الله عليه وسلم ومن نور أرواح المؤمنين التي فيه المستمد من نوره صلى الله عليه وسلم والشمس في السماء الرابعة تدور بالبرزخ على هيئة الطائف فتقطعه في عام والبرزخ هو البيت المعمور، وهو مقر الأرواح من يوم خلقها إلى بعثها وأسفله أضيق من أعلاه يبتدئ من أسفل السافلين إلى أن يفوت السماوات في ارتفاعه، وأما نور النجوم والقمر فإنما هو من نور الشمس المتقدم بيان أصله تسامتها فيحصل لها النور، فأخذنا من كلامه أن الشمس هي الدائرة دون الأرض، وأنها خاصة بمن حصل لهم الفزع السابق دون من عداهم من المخلوقات، وربما يؤخذ من رجوعهم لموضعهم عند فرارهم كروية الأرض وسبق عنه أن النجوم كالقمر الكل في السماء الدنيا وهو ظاهر الكتاب

ص: 66

هذا من نتيجة كلام الشيخ محمد عبده السابق فلا تغفل فإنهم عالة عليه في الضلال، وأقول أيضا: أن صاحب هذا الكلام يكتب كيفما اتفق له من غير مبالات بكونه خالصا أو زائفا صحيحا أو سقيما صدقا أو كذبا حقا أو باطلا تراه يجعل السماء المذكورة في القرآن غير الفلك ويجعل الأول حالا والثاني محلا، وأن السماوات المذكورة في القرآن هي الكواكب السيارة في الأفلاك وهذا من خبط العشواء لا يقول بذلك إلا مبرسم، إذ لم نعثر على قول للمتقدمين على أن السيارات السبع هي السماوات السبع في لسان الشرع، بل عندهم السماوات والأفلاك شيء واحد في لسان الشرع وهي محل الكواكب، نعم نقل الشيخ مرتضى: أن المنجمين يقولون أن الأفلاك سبعة أطواق دون السماء قد ركبت فيها النجوم السبعة، في كل طوق منهم نجم، وبعضها أرفع من بعض يدور فيها بإذن الله تعالى، وقال الزجاج في قوله تعالى {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} لكل

ص: 67

واحد منها فلك ا. هـ.

فالمنجمون لم يدعوا أن الكواكب هي السماوات، بل الكواكب في مدارات دون السماء تسمى الأفلاك ومع ذلك لا يسلم لهم، وأما السماء عندهم غير الكواكب.

وإبطال كلام الخصم: قال الله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} ، وقال أيضا:{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} في مختار الصحاح: والفلك واحد أفلاك النجوم، فالتفرقة بينهما ناشئة عن جهل.

إيضاح عقلي: لو كانت السماء المذكورة في القرآن هي الكواكب لزم أن يكون مزينا بالكواكب، لكن التالي باطل؛ لأنه لو كان مزينا بالكواكب لكان مزينا بنفسه؛ لأنه من جملتها والتالي باطل ضرورة؛ لأن الشيء لا يزين إلا بغيره، وإذا بطل كونه مزينا بنفسه بطل ما أدى إليه وهو كونه مزينا بالكواكب، وإذا بطل كونه مزينا بالكواكب بطل ما أدى إليه وهو كون الكوكب سماء، وإذا بطل كون الكوكب سماء شرعا ثبت المطلوب وهو كون السماء غير الكوكب فتفطن ولا تغتر بقول من يكتب ما لا يفقه، وإنما يتبع قول داروين وأضرابه حسبما يأتي إن شاء الله تعالى.

قال وأما الأقمار فهي كالمرآة تعكس نور الشمس على الكواكب التابعة لها فلذا لم تسم في القرآن بالسرج فإنها لا نور لها من ذاتها قال الله تعالى {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ} أي جنس القمر {فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} أي لهن.

أقول صريح كلامه أن القمر متعدد دون الشمس وهو تحكم منه لأنهما ذكرا معا بلفظ الإفراد، وتقدم لأستاذه: أن كلا منهما متعدد فانظر من الصادق منهما والحق أنهما لا تعدد فيهما معا.

فقوله: وأن الأقمار نور في السماوات حين ما كان الناس يظنون أن لا قمر إلا للأرض فقط

ص: 68

ساقط وأن ظن الناس هو الحق، غاية ما هناك أن القمر يضيء على أهل الأرض، وعلى أهل السماوات والشمس، كذلك أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ في العظمة عن الحسن في قوله:{وجعل القمر فيهن نورا وجعل الشمس سراجا} قال: وجوههما في السماء وظهورهما إليكم، وأخرج ابن المنذر عن عكرمة في قوله {وجعل القمر فيهن نورا} قال: إنه يضيء نور القمر فيهن كلهن كما لو كان سبع زجاجات أسفل منها شهاب أضاءت كلهن، فكذلك نور القمر في السماوات كلهن لصفائهن.

قوله: ويقول العلماء: أنه من المحقق أن هذه السيارات مسكونة بحيوانات تشبه الحيوانات التي على أرضنا هذه فيكون كل كوكب منها أرضا مسكونة بالنسبة لحيواناته، وباقي الكواكب سماوات بالنسبة لها * غير صحيح ولا دلالة على صحته البتة؛ لأنه تقدم لنا في النبذة: أن ما غاب عنا من الفلكيات والأرضين لا سبيل لإدراك ما فيهن بالعقل، وإنما يستفاد من طريق الوحي وصاحب الوحي أخبر بأن السماوات أعني الأفلاك عامرة بالملائكة المكرمين منهم الساجد ومنهم الراكع ومنهم ومنهم

إلخ، ما أخبر عليه الصلاة والسلام، ولم يخبر بأن الكواكب السيارات أرضين مسكونة بحيوانات كحيواناتنا أشيء جهله رسول الله وعلمه هذا الكاتب؟! إن هذا لمن العجب العجاب أن الشخص إذا نزع منه عرق الإيمان لا يبالي بمناقضته لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم.

فقوله: ويقول العلماء يعني من هم على شاكلته، وأما علماء المسلمين قاطبة فلا يستطيع أحد منهم أن يتفوه بمثل هذا البهتان.

قوله: والظاهر أن القول بوجود الحيوانات في هذه الكواكب صحيح؛ لأن الله تعالى يقول في كتابه: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ}

ص: 69

ويقول: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} * غير صحيح لما علمت ولا دلالة في الآيتين؛ لأن السماوات في الآيتين غير السماوات التي يريدها هو أعني الكواكب؛ لأنه لا قائل من أهل الإسلام بأن الكواكب هي السماوات المذكورة في القرآن، وإنما يقولون تبعا للقرآن والحديث الوارد أن الكواكب زينة السماوات وجعلت رجوما للشياطين وللاهتداء بها.

(قوله) الدابة كل حيوان يدب أي يمشي، ومنه قوله تعالى {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} والمعنى إذا قامت القيامة بعث الله نوعا مخصوصا من دواب هذه الأرض كما يبعث غيره من الدواب الأخرى وينطقه فيوبخ الإنسان على كفره، كما ينطق أعضاءه في ذلك اليوم أيضا، فليس المراد من قوله دابة الفرد، بل النوع.

(فيه صدق وكذب) فقوله: الدابة كل حيوان يدب صدق والآية في ذاتها صدق والاستدلال بها على ما ذكره من أن المراد بالدابة النوع لا الفرد كذب وبهتان، وكون المراد أخرجنا لهم

إلخ، أي: بعثنا بعد الموت افتراء على الله وعلى رسوله المخبر بخلاف ما قال هذا الدجال، بل الإخراج قبل القيامة؛ لكون الدابة المخرجة من أنواع علامة القيامة وهي فرد لا نوع، كما يدعيه هذا المفتري، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن بين يدي الساعة الدجال والدابة، ويأجوج ومأجوج، والدخان وطلوع الشمس من مغربها ا. هـ وهذا معلوم عند المسلمين.

قوله: أما كون الأرضين سبعا كالسماوات فهو أمر نجهله ولا نفهمه.

(يقال له فيه) علمه غيرك وفهمه تلقيا عن صاحب الشريعة حسبما تقدم وما يأتي قريبا

ص: 70

وما علينا إذا جهلت لم تفهم.

وقوله: والحق يقال: إن كون الأرضين سبعا هو كما يظهر لنا وهم من أوهام القدماء؛ ولذلك لم يرد في القرآن الشريف لفظ الأرض مجموعا أي أرضين، ولم يرد فيه مطلقا أن الأرضين سبع مع أنه ذكر أن السماوات سبع مرارا عديدة، وفي كل مرة يذكر معها الأرض بالإفراد.

(لا صحة له ولا حق له) فيما قاله، بل كفر صراح إذ من جملة من صرح بالتعدد الرسول صلى الله عليه وسلم، وما لجأ هذا الداعي في العلم أن يخوض في البحر الزاخر، وماذا عليه لو اقتدى بقول من قال:

إذا لم تستطع شيئا فدعه

وجاوزه إلى ما تستطيع

وإليك البيان الشافي لتفهم طوية هذا الكاتب ثمرة الشيخ محمد عبده في تفسير أبي السعود {ومن الأرض مثلهن} أي خلق الأرض مثلهن في العدد، وقرئ مثلهن بالرفع على أنه مبتدأ ومن الأرض خبره واختلف في كيفية طبقات الأرض، قال الجمهور: إنها سبع أرضين طباقا بعضها فوق بعض بين كل أرض وأرض مسافة كما بين السماء والأرض، وفي كل أرض سكان من خلق الله تعالى وقال الضحاك مطبقة بعضها فوق بعض من غير فتق بخلاف السماوات، قال القرطبي: والأول أصح؛ لأن الأخبار دالة عليه كما روى البخاري وغيره: من أن كعبا حلف بالذي فلق البحر لموسى أن صهيبا حدثه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، ورب الأرضين وما أقللن، ورب الشياطين وما أضللن ورب الرياح وما أذرين نسألك خير هذه القرية وخير أهلها ونعوذ بك من شرها وشر أهلها وشر من فيها، قال الماوردي: وعلى هذا تختص دعوة الإسلام بأهل الأرض العليا دون من

ص: 71

عداهم، وأن فيهن من فيهن من يعقل من الخلق وفي مشاهدتهم السماء واستمدادهم الضوء منها قولان، أحدهما: أنهم يشاهدون السماء من كل جانب من أرضهم ويستمدون الضوء منها، والثاني: أنهم لا يشاهدون السماء، وأن الله تعالى خلق لهم ضياء يشاهدونه، وحكى الكلبي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنها سبع متفرقة بالبحار تظل الجميع السماء وعن قتادة في كل سماء وفي كل أرض خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه، وفي جامع البيان قال: حدثني يونس قال: أخبرني ابن وهب قال: حدثنا جرير ابن حازم قال: حدثني حميد بن قيس عن مجاهد قال (1) هذا البيت الكعبة رابع أربعة عشر بيتا في كل سماء بيت كل بيت منها حذو صاحبه لو وقع وقع عليه، وأن هذا الحرم حرمي بناؤه من السماوات السبع والأرضين السبع، حدثنا ابن أبي الأعلى قال: حدثنا ابن ثور عن معمر عن قتادة قال: بينا النبي صلى الله عليه وسلم جالس مرة مع أصحابه إذا مرت سحابة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذا هذه العنان؟ هذه روايا الأرض يسوقها الله تعالى إلى قوم لا يعبدونه، قال: أتدرون ما هذه السماء؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال هذه السماء موج مكفوف وسقف محفوظ، قال: أتدرون ما فوق ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال: فوق ذلك سماء أخرى حتى عدد سبع سماوات، وهو يقول أتدرون ما بينهما؟ خمسمائة سنة ثم قال: أتدرون

(1) قوله هذا البيت

إلخ، هذا الوصف بالبيت المعمور الذي مر لنا ذكره في أصل استمداد نور الشمس أنسب؛ لأنه الذي يسامت كل سماء وكل أرض عند ارتفاعه من أسفل الأرضين إلى أن تجاوز أعلاه أعلى السماوات، انظر الإبريز

ص: 72

ما فوق ذلك قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: فوق ذلك العرش، قال: أتدرون ما بينهما؟ قالوا: الله ورسوله أعلم قال بينهما خمسمائة سنة، ثم قال: أتدرون ما تحت هذه الأرض؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: تحت ذلك أرض، قال: أتدرون كم بينهما؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عدد سبع أرضين ا. هـ.

باختصار وفي هذا القدر كفاية لمن صدق وآمن رسول رب العالمين انظر البخاري في كتاب بدء الخلق.

(قوله) نعم ورد فيه قوله تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} وهي الآية الوحيدة التي فهموا منها أن الأرض سبع وهي كما لا يخفى لا تفيد ذلك مطلقا.

(أقول) مستعينا بالله تعالى: أن هذا الجريء على كلام الله تعالى تكلم أولا على نفي تعدد الأرض بعقله، ثم علم بهذه الآية الشريفة وكان قبل جاهلا بها، وأنها نص في التعدد فلم يؤمن بها وحاول بتفسيرها بعقله الحاد في آيات الله ليثبت ما ادعاه أولا وأنى له ذلك مع تصريح رسول الله بالتعدد وتصريح الصحابة والتابعين بذلك وما أحوج هذا المسكين إلى الولوج فيما لا يستطيع الخروج منه.

وابن اللبون إذا ما لز في قرن

لم يستطع صولة البزل القناعيس

(فقوله) وهي الآية الوحيدة

إلخ، يقال له نعم هي الآية الوحيدة، وهي نص لا تحتاج لتأويل لتعضدها بالأحاديث الدالة على ذلك فالقائل بالتعدد له مستند، والقائل بنفي التعدد لا مستند له إلا الوهم المبني على وهم أهل الطبيعة، شتان بين المستندين.

(ثم قال) ولنا في تفسيرها وجهان إلى أن قال: وعليه يعني على ما خبط به في الآية خبط

ص: 73

عشواء (1) فليس في القرآن الشريف أدنى دليل على أن الأرض سبع كما يزعمون.

(قد علمت) الحكم في ذلك، واعلم أيضا أن هذا الشخص لا تقنعه الآيات والأحاديث ولا الآثار المروية عن السلف الصالح، وإنما يقنعه قول غير أهل الإسلام وهو الذي يرتاح له نفسه فانظر ممن هو.

(ثم بعد) أن هذى في جانب العرش بما سولت له نفسه وقرينه، قال فإذا قلت أن العرش ثابت فما هذا الشيء الذي يثبته والجواب: أن الله تعالى وكل به قوى مخصوصة لا نعلم كنهها ولا حقيقتها، وهذه القوى المجهولة لنا تسمى حملة العرش، وهي أشياء روحانية لا يمكننا أن ندرك ماهيتها، كما أننا لا ندرك ماهية المغناطيس أو الكهرباء أو سائر القوى الجاذبة، ومن ادعى إدراك هذه الأشياء فليخبرني

(1) قوله فليس

إلخ، قال الحافظ ابن حجر: ظاهر قوله تعالى {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} يرد على أهل الهيئة قولهم أن لا مسافة بين كل أرض وأرض وإن كانت فوقها، وأن السابعة صماء لا جوف لها وفي وسطها المركز وهي نقطة مقدرة متوهمة إلى غير ذلك من أقوالهم التي لا برهان عليها، ثم ساق الأحاديث الدالة على مقدار ما بين كل أرض وأختها ا. هـ. زرقاني باختصار.

وهؤلاء لا تقنعهم الأدلة؛ لأن القطعي عندهم يؤولونه والظني يضعفونه أو يوضعونه؛ لأن حجاب الجحود حال بينهم وبين قبول الأشياء الحقة ولو كانت بديهية وحينئذ فيقال

وإذا البينات لم تغن شيئا

فالتماس الهدى بهن عناء

{فما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون}

ص: 74

أي شيء ينبعث من الجسم الجاذب إلى المجذوب فيجذبه، وما كنه هذا الشيء وكيف نتصوره قال الله تعالى {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} ، وقال أيضا:{وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} أي ثمانية أصناف من هذه القوى الروحانية أو ثماني قوى، وهي المسماة بالملائكة، وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم.

(أقول) بفضل الله تعالى أن هذا المسكين جاهل بأحكام دينه، حيث يخلط النور بالظلام والكفر بالإسلام يستدل بكلام رب العالمين على إثبات قول الملحدين يذكر لفظ المجاميع ويكررها كثيرا، وهذا المعنى الذي يريده منها لم يكن معلوما لدى أهل الدين ولا مراد الله في كلامه الذي أنزله على رسوله بلسان عربي مبين، وقال له فيه:{وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} والنبي صلى الله عليه وسلم لم يبين للناس أن السماوات هي الكواكب السيارة وأن السبع السيارة مع الأرض تسمى مجموعة، ولم يبين لهم أيضا أن هناك مجموعات أخر، بل بين لهم أن السماوات سبع ما بين كل سماء وسماء كذا وأن سمك كل واحدة كذا وأن سماء الدنيا مزينة بالكواكب، وأن جميع السماوات عامرة بالملائكة، فبين لهم بيانا غير البيان الذي بينه هذا الشخص في السماوات والعرش والملائكة، فيلزم هذا الرجل أنه عالم والنبي جاهل بأحوال وأحكام ما أنزل عليه ليبينه للناس معاذ الله أن يكون رسول الله جاهلا، وهذا الشقي عالما، بل هو الجاهل بل الكافر بلا تردد، نسأل الله تعالى أن يحفظ علينا ديننا عند نزول الفتن ثم أن ما ادعاه في جانب حملة العرش هو نتيجة مذاكرة له مع الشيخ رشيد رضا كما صرح به هو

ص: 75

في ذلك المحل وما ذكره في حملة العرش وبقية الملائكة من أنهم قوى معنوية كالقوة الموجودة في المغناطيس وما رتبه على ذلك في حيز المنع، بل الملائكة بأجمعهم أجسام نورانية لطيفة قائمة بنفسها قادرة على التشكل كما تقدم، وما في المغناطيس من الخصوصيات ليس من هذا القبيل قطعا، بل هو معنى أوجده الله تعالى في ذلك الشيء وخصوصية شتان بين الأجسام والمعاني، فالجسم من شرطه أن يقوم بنفسه والمعنى من شرطه أن يقوم بغيره ولا تحيز له إلا تبعا للجسم فلو كانت الملائكة قوى كالمغناطيس فمن أتى بالوحي للنبي صلى الله عليه وسلم إلا أن ينكر كون القرآن منزلا من عند الله فانظروا يا أولي الألباب إلى هذا المتطفل على موائد العلم، فإليك ما ورد في شأن حملة العرش أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ والبيهقي في شعب الإيمان عن هارون بن رباب رضي الله عنه قال: حملة العرش ثمانية يتجاوبون بصوت رخيم، يقول أربعة منهم: سبحانك وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، وأربعة منهم يقولون: سبحانك وبحمدك على حلمك بعد علمك إلى غير ذلك من الأحاديث الدالة على أنهم أجسام ناطقة لا أنهم معان صامتة (1) هذا هو الحق ولا تغتر بقول

(1) قوله هذا هو

إلخ، قد سبق لنا عن القطب الدباغ في مبحث بدء الخلق كيفية خلق العرش وحملته فارجع إليه، وروي أن الله لما خلق العرش قال له: يا رب لم خلقتني؟ قال له تعالى: لأجعلك حجابا تحجب أحبابي عن أنوار الحجب التي فوقك فإنهم لا يطيقونها؛ لأني أخلقهم من تراب.

وزاد في الإبريز في محل آخر عما تقدم أن حملة العرش الثمانية خلقوا من صفاء نور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وبإزاء كل باب من أبواب الجنة الثمانية واحد منهم والسر في ذلك أن الله لما خلق نور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قسمه إلى ثمانية أقسام، وخص كل قسم بسر من الأسرار وجعل من كل قسم جنة وملكا من الحملة ليتناسبا في الأصل والسر ثم جعل كل ملك بإزاء باب من أبواب الجنة التي تشاء كله فيسقى ذلك الملك بنور تلك الجنة

ص: 76

من يلحد في آيات الله بغير علم قوله في صفحة 583 والمراد بالسماء الدنيا هنا في قوله تعالى {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ}

إلخ، الفضاء المحيط بنا القريب أي هذا الجو الذي نشاهده وفيه العوالم كلها أما ما وراءه من الجواء البعيدة منا التي لا يمكن أن نصل إليها بأعيننا ولا بمناظرنا، فهو فضاء محض لا شيء فيه فلفظ السماء كما قلنا له معان كثيرة كلها ترجع إلى معنى السمو وتفسر في كل مقام بحسبه* كذب محض* ومع ذلك هو تابع فيه لأستاذه، وكلهم عالة على داروين وما قالوه فليس من كلام المسلمين ولا مراد لرب العالمين، بل السماء في الآية المذكورة ونحوها ليس المراد منها الجو، بل المراد منها بناء عظيم محكم كما تقدم والآيات الناطقة بأنها بناء كثيرة، ولا آية تدل على أنها جو كما قال هذا الدجال فمنها بناها وبنيناها، والبناء في لغة العرب معروف {يوم تمور السماء مورا} أي تدور دورا ومن المعلوم أن الدوران لا يكون إلا للأجسام هل ترى من فطور أي شقوق {إذا السماء انشقت} {وفتحت السماء فكانت أبوابا} والشقوق والأبواب لا تكون إلا في الأجرام قال الله تعالى {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} والسقف معناه معلوم عند العرب فالعجمي أو المستعجم إذا لم يفهم معاني القرآن

ص: 77

لا ينظر إلى قوله ولا يعد قوله قولا معتبرا، بل يضرب به عرض الحائط ولا يعول على قوله إلا من شاركه في أوصافه، قوله: والسقف المرفوع قال في جامع البيان لابن جرير الطبري رحمه الله تعالى قوله {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} يعني السقف في هذا الموضع السماء وجعلها سقفا؛ لأنها سماء الدنيا كسماء البيت الذي هو سقفه والجو لا يسمى سقفا في لغة العرب التي نزل القرآن بها في مختار الصحاح الجو ما بين السماء والأرض وفي القاموس الجو الهواء ا. هـ.

وكيف يكون الهواء سقفا محفوظا، وما ذكره هذا الشخص لا يقول به أحد من المسلمين الذين لم تدنس عقائدهم برجس أهل الضلال وهذا الذي جنح إليه هذا الشخص هو مذهب داروين ومن كان على مذهبه وفي كتاب النشوء والارتقاء في صفحة 239 ولذلك كان انتشار الحقائق المخالفة لمألوف الناس صعبا جدا، فكوبر نيكوس وكبار وغليلي سحقوا بتعاليمهم الأفلاك البلورية التي اختلقتها أوهام الأقدمين وأصلحوا علم الهيئة من هذا الخطأ المبين وقرروا أن السماوات ليست قبة زرقاء مرفوعة فوق الأرض، فيسأل هذا الكاتب عن سبب عدوله عن صريح الآيات والأحاديث إلى تخمين داروين وأمثاله، اللهم إنا نعوذ بك من السلب بعد العطاء ومن الكفر بعد الإيمان ومن الشقاوة بعد السعادة، وفي الحقيقة هذه عقيدة كل من أدخل في المدارس قبل تعلم واجبات دينه فويل للأباء من الأبناء حيث لم يعتنوا بتربيتهم على ملة الإسلام.

(قوله) ومما تقدم تعلم أن العوالم متعددة ولذلك يقول القرآن الشريف في كثير من المواضع الحمد لله رب العالمين.

(صحيح)(1) باعتبار تعدد الأجناس والأنواع

(1) قوله باعتبار

إلخ، هذا التعدد الاعتباري شائع

عندهم ولذا أهل الكشف يعدون عوالم لم تخطر على بال أمثالنا قال العارف بالله الرفاعي: إن لله ثمانمائة ألف عالم العرش بجميع ما في جوفه منها عالم واحد والكامل من الرجال من أطلعه الله على جميعها، وليس ذلك إلا الفرد الجامع ا. هـ.

يعني الغوث، ويقال: إن الحجب سبعون وغلظ كل حجاب سبعون ألف عام، وبين كل حجاب وحجاب سبعون ألف عام، وفوق الحجب عالم الرقا، وكل ذلك معمور بالملائكة الكرام، والله يختص بهدايته من يشاء في التصديق بنحو هذه الأشياء

ص: 78

والأصناف وإلا فالعالم بفتح اللام هو اسم لما سوى الله تعالى كما هو مقرر عند أهل العلم.

(قوله) وهذا مما يخالف ما كان عليه القدماء فإنهم كانوا يزعمون أن العالم واحد وأن الإنسان أشرف الموجودات وأن الكواكب كلها أجرام فارغة خلقت ليتلذذ بمنظرها الإنسان ساقط عن درجة الاعتبار وما زعموه وقالوه هو الحق الذي لا محيص عنه من أن العالم واحد، وإنما يتعدد بالاعتبار المتقدم والجمع في العالمين جار على ذلك وأن الكواكب لا ساكن فيها، ومن ادعى أنها مسكونة لا دليل يعتبر عنده إلا تخمينه برصده وأن نوع بني آدم (1) أشرف المخلوقات

(1) قوله أشرف

إلخ، قد تقدم الكلام في هذه المسألة عن القطب الدباغ من حيثية شرف خلقة الآدمي عما عداها من جميع المخلوقات ويزاد على ذلك هنا أما باعتبار الصورة الخلقية وما انطوت عليه هذه الهيئة التركيبية من اللطائف والحكم التي لم يشتمل عليها واحد من البرية فأقوال العلماء في ذلك لا تُحصى ولا تكاد تستقصى وقال أبو محمد ماجد الكردي ما خلق الله من عجيبة إلا ونقشها في صورة الآدمي ولا أوجد أمرا غريبا إلا وسطه فيه ولا ابرز سرا إلا وجعل فيه مفتاح علمه فهو نسخة مختصرة من العالم ا. هـ.

ولهذا المعنى أشار بعضهم بقوله

أتحسب أنك جرم صغير

وفيك انطوى العالم الأكبر

وبهذا الاعتبار فهو أفضل حتى من الملك لا فرق في ذلك بين ذات مؤمنة وكافرة إلى هذا الإشارة بقوله تعالى {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} وأما تفضيله باعتبار عظم الدرجة وزيادة القربة فعند المحققين أن الخواص من الآدميين وهم الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام أفضل حتى من خواص الملائكة وسيأتي التصريح بذلك عن الإبريز في مبحث الاجتهاد والتقليد عند قوله تعالى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}

إلخ، وإلى هذا الإشارة بقوله تعالى {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} وحمل المحققون كثير على الجميع ولذلك نظائر في اللغة

ص: 79

لا نزاع فيه بين المؤمنين باعتبار الهيئة الخلقية، وكذا باعتبار الرتبة والمزية إلا من شذ وقال بتفضيل الملائكة على البشر، والدليل للجمهور الحديث الذي أخرجه أبو نعيم والبيهقي في الدلائل عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله خلق السماوات سبعا فاختار العليا منها فأسكنها من شاء من خلقه، ثم خلق الخلق فاختار من الخلق بني آدم، واختار من بني آدم العرب واختار من العرب مضر واختار من مضر قريشا واختار من قريش بني هاشم واختارني من بني هاشم فأنا خيار الأخيار، وآية {ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا} واردة على امتنان خاص ببني آدم

ص: 80

وهو أن أكلهم وشربهم يتناولونه بأيديهم بخلاف كثير من الخلق فإنهم يتناولونه بأفواههم كالبهائم، ولا تدل على أن هناك من هو أفضل من بني آدم، وقد قدمنا أن هذا الكتاب يكتب كيفما اتفق له من غير تدبر، وذلك دليل على أنه لم يتعاط العلم على أهله ولا أخذ بحظ يعتبر، بل أخذ شيئا سطحيا وسبح في شاطئ بحره، ولم يغص على اللآلئ في لججه، بل قنع بالاسم دون المسمى وذلك من الدواهي على الدين العظمى، ويشهد لما ذكرته أيضا ما أخرجه الطبراني والبيهقي في شعب الإيمان، والخطيب في تاريخه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من شيء أكرم على الله من بنى آدم يوم القيامة، قيل: يا رسول الله ولا الملائكة المقربون؟ قال: ولا الملائكة، الملائكة مجبورون كالشمس والقمر.

(قوله) فالقرآن ينطبق على العلوم الحالية أتم الانطباق.

(غير صحيح) بل بينهما تمام التباين كما وقفت عليه سابقا.

(قوله) يلاحظ القارئ مما تقدم أن القرآن الشريف قد أتى في هذا الباب بمسائل علمية دقيقة لم تكن معروفة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه المسائل تعتبر من معجزات القرآن العلمية الخالدة.

(أقول) ما قاله ليس بصواب، والقرآن العظيم ينزه عن الهزليات والترهات التي اختلقها وألصقها بالقرآن قال تعالى {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ}

(قوله) وها كها ملخصة إلى آخر كلامه.

(باطل) لنفرعه عن باطل فلا نحتاج إلى تتبعه ثانيا.

(قال) في صفحة 306 من الجزء المذكور بعد أن تكلم مع داروين وأصحابه: وأما كيفية خلق الإنسان فالجواب القطعي عنها لا يعلمه إلا الله تعالى، وأما الظني فيمكننا أن نقول لا يخفى أن أجنة الحيوانات بعضها يتكون

ص: 81

في الرحم والبعض الآخر خارج عن الرحم كالتي تتكون في التجويف البطني في الإنسان وغيره، وفي بعض الطيور وفي مياه البحار كالقنافذ وغير ذلك، والذي يظهر فيها كلها أن اللازم للتكوين هو حيوان منوي وبويضة ووسط للغذاء، سواء كان ذلك الوسط جدر الرحم أو غشاء البريتون أو زلال البيض أو مياه البحار وغير ذلك، وعليه فيحتمل أن الله تعالى خلق أولا حيوانات منوية وبويضات من مادة واحدة وهما خلايا حيوانية، كما خلق الأميبا وغيرها من الحيوانات ذات الخلية الواحدة، ولاختلاف الوسط والظروف صارت هذه الحيوانات المنوية والبويضات مختلفة متنوعة، فمن بعضها خلق الإنسان الأول آدم وحواء، ومن البعض الآخر خلقت الحيوانات الأخرى، وذلك بأن تخلقت البويضات بالحيوان المنوي ثم التصقت ببعض الموا البروتوبلاسمية الأولى التي كانت توجد في البحار وعلى شواطئها، ومن هذه المادة البروتوبلاسمية صارت البويضة تمص غذاءها كما تمصه أحيانا من البريتون في الحمل خارج الرحم، وصارت تنمو وتكبر كما تكبر الآن في بطون الأمهات ولما تم نموها انفجرت وخرج منها الإنسان كما يخرج من الكيس الأمنيوسي، ولعل الله تعالى ساق له إذ ذاك بعض الحيوانات الأخرى كالدبية المشهورة بهذا الأمر فأرضعته، أو كان يوجد مواد زلالية مغذية في البحار فصار يشرب منها، أو كان يشرب ماء فيه حيوانات دقيقة جدا فيتغذى بها، وما يقال فيه يقال في الحيوانات الأخرى الشبيهة به التي يجوز أن يقال في كيفية تغذيتها الأولى أيضا أنها وجدت بعض نباتات طرية هلامية مغذية فازدردتها في مبدأ نشأتها حتى كبرت وصار يمكنها أن تأكل غيرها من النباتات، أو الحيوانات الأخرى، فإن قيل: فكيف يوجد ذكر واحد وأنثى واحدة مع أنه يحتمل

ص: 82

أن الحيوانات والبويضات كانت كثيرة، قلت: هو عين ما يحصل الآن في الإنسان وغيره فمع وجود حيوانات منوية تعد بالملايين وكذلك بويضات في كل جماع فلا يتكون منها غالبا إلا ولد واحد، وإن قيل: لم لم يخلق الآن حيوانات بهذه الطريقة الجديدة؟ قلت: ولم لم يتولد الآن من الجمادات أحياء جديدة أليس ذلك لاختلاف حال الزمان وطبيعة الأرض الآن عما كانت عليه في مبدأ الخليقة، أما إذا وجدت تلك الأحوال الأولى فلا يبعد أن يتكون فيها حيوانات جديدة، كما لا يبعد أن يتكون فيها أيضا بطريق التولد الذاتي خلايات بروتوبلاسمية جديدة، أما مسألة التذكير والتأنيث فما يقال فيها الآن يقال نحوه، وما يقرب منه في الخلايات البروتوبلاسمية الأولى التي صار بعضها حيوانا منويا ملقحا بالكسر والبعض الآخر بويضات ملقحة، بالفتح والله تعالى أعلم بأسرار خلقه.

(قوله) وأما كيفية خلق الإنسان إلى قوله إلا الله (صدق) غير أن الله سبحانه وتعالى أخبر عنها وعن أطوارها، فبذلك صارت معلومة عند كل مؤمن مصدق لخبر الله تعالى، فأول مادته التي تطور منها التراب ثم صار التراب مع ما خلط به طينا غير لازب، ثم صار طينا لازبا أي لازقا ثم صار حمأ مسنونا متغيرا، منتنا فسواه تعالى حينئذ على هيئته التي نفخ فيها الروح بعد مدة، ثم صار بعد التسوية صلصالا يابسا يصوت ثم مضت عليه مدة على هذه الحالة يعلمها الله تعالى، وبعدها نفخ فيه الروح، وبعد النفخ سجدت له الملائكة لأمر الله تعالى إياهم قبل النفخ بذلك والقرآن العظيم مشحون (1) ببيان كيفية خلق آدم عليه السلام والأحاديث كثيرة

(1) قوله ببيان

إلخ، في جواهر المعاني عن الشيخ التجاني خلق آدم عليه الصلاة والسلام على رأس 72000 سنة من منشأ العالم.

وقال في الإبريز أن الله تعالى لما أراد خلق آدم عليه السلام أمر الملائكة فجمعت تربته في عشرة أيام من جميع المعادن الذهب والفضة والنحاس وغيرها، فملأت بذلك قدر مساحة ميل من الأرض ثم تركوها في الماء عشرين يوما، وهذا الماء خاص فيه نفع لآدم وذريته لأنه ماء الأرض التي ينسب إليها آدم على الحقيقة، فيشاكلها وهو مستمد من المياه التي في أطراف الأرض فإنه خرق تخومها حتى اجتمع في عين بجهة الشام ثم بعد العشرين يوما ابتدأ التصوير يدخله شيئا فشيئا وهو في جوف ذلك الطين إلى أن بلغ أربعين يوما وهو لا يرى منه شيء، وبعد ذلك أراد الله نقله من الطينية إلى جسم بني آدم فظهر في أصابعه شبه القرحة حتى ملأتها، ثم انفجرت وجمدت مادتها على الأصابع فرجعت بيضاء مثل الجمار ثم سرى ذلك فيه عضوا عضوا إلى أن صار مثل الجمار في الصفاء والنعومة، ثم دخلته الدموية شيئا فشيئا، وانفلق عنه الطين وحصل فيه يبس فصارت الريح تهب عليه واليبس يظهر في أجزائه فتكونت العظام وتكاملت خلقته في عشرين يوما، فكان مجموع ذلك ثلاثة أشهر وهي رجب وشعبان ورمضان، وحكمة التدريج لهذا الزمان مع إمكان خلقه في لحظة لما في تنقل ذلك الحادث من طور لآخر من جمع همم الملأ الأعلى إلى الالتفات إليه بالتعجب في أمر الله، والتفكر في شأنه وكيف يخلقه وإلى أي شيء يصير، فيحصل لهم زمن الارتقاب من العلم بالله تعالى والاطلاع على باهر قدرته وسريانها في المقدورات شيء عظيم.

(سيما وقد كان قال لهم: {إني جاعل في الأرض خليفة} الآية، وقال: {إني خالق بشرا من طين} إلى قوله: {فقعوا له ساجدين} مما يدل على مزيد الاعتناء به مما لم ينله أحد قبله) ولما أراد نفخ الروح فيه نقله إلى الجنة الأولى لتسقى ذاته من أنوراها، فلما حل فيها دخلت فيه الروح فدخل فيه العقل والعلم وحصلت له المعرفة بالله عز وجل، فأراد أن يقوم فارتعد فسقط ثم أراد ثانيا فحصل له كذلك كما يحصل للصبيان عند إرادة القيام، ثم أمده الله بالمشاهدة التي تحصل لأهل الفتح وهو واقف على رجل معتمد بركبته الأخرى على الأرض، فقال إذ ذاك الله الله الله لا إله إلا الله محمد رسول، فأمده الله بالقوة فاستقل قائما، وجعل يمشي في الجنة ويروح حيث شاء، ثم ألقى الله عليه وجعا في ضلعه فحصل له مثل الدمل العظيم حتى خرج منه قدر رأس إنسان فبقي فيه إلى أن انفجر عن مثل القليب بالتصغير، فسقط إلى الأرض فنظر إليه آدم فإذا هو مصور بصورته فتركه، وجعلت روائح الجنة ونفحاتها تمر عليه وجعل آدم يتعاهده فيجده يسرع في الكبر إسراعا عظيما فجعل يأنس إليه ويجلس معه فألقى الله فيه العقل فجعل يتحدث مع آدم، فلما مر عليهما شهران ألقى الله فيهما الشهوة فوقع آدم على حواء فحملت فوضعت حملها بعد النزول إلى الأرض لثلاثة أشهر من حملها، ثم حملت في الأرض بعد ذلك فوضعته لتسعة أشهر، واستمر ذلك إلى الآن ا. هـ.

وقال سيدي علي الخواص: لما سبق في علمه تعالى إيجاد التوالد والتناسل في هذه الدار ببقاء النوع الإنساني استخرج من ضلع آدم القصير حواء فقصرت بذلك عن درجة الرجل وخص الإخراج من الضلع لما فيه من الانحناء والانعطاف لتحنو وتعطف على ولدها وزوجها، ثم عمر ذلك الموضع من آدم الذي خرجت منه بالشهوة فحن إليها حنينه لنفسه وحنت إليه حنينها لوطنها والأول أشد ا. هـ.

المراد منه فعلمنا من توافق هذين العارفين على أن حواء أخرجت من أحد أضلاع آدم كما هو مشهور بطلان دعوى بعض علماء العصر: أن شيوع هذا القول عند المفسرين من الخرافات، وأن حواء لم تخلق إلا من الطينة التي خلق منها آدم على أن قوله تعالى {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} مع قوله {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} إلى غير ذلك من الآيات صريح في بطلان دعواه، وأن الخلق من التراب خاص بآدم.

ثم قال في الإبريز: أن الله رفع آدم إلى الجنة أظهر الحيوانات كلها في باقي الطينة التي خلق منها على صورة الدود فخلق من كل نوع عشرة، خمسة من الذكور وخمسة من الإناث، ثم أرسل الله مطرا عظيما ما سمع بمثله فجاءت السيول من كل مكان معها الأوحال الكثيرة فكثرت ذلك الطين، وحصل منه نفع عظيم لتلك الحيوانات بمنزلة من اتسع عيشه وجاءه الخصب، فلما نزل آدم من الجنة بعد تسعة أشهر وفرغ بطنه وطلب ما يأكل وجد الحيوانات تمشي على وجه الأرض وهي تكبر شيئا فشيئا فأنس بها، وأعلمه الله أنها سبب معاشه ومعاش ذريته، وكذا خلق من تلك الطين النخيل والأعناب والتين والزيتون، وكذا كل شجرة ذكرت في القرآن ووجدها أيضا حملت في تلك المدة القريبة بإذن الله تعالى فكانت أول رزق ا. هـ.

ص: 83

في ذلك فالعدول عن الخبر القطعي إلى التخمين وإلحاق النقص بصفوة الله

ص: 84

وأبي الأنبياء بالهيآت التي ذكرها من كونه تخلق من حيوان منوي

إلخ

ص: 85

ردة إن كان مسلما من قبل، وعند المالكية من انتقص نبيا أو ملكا يقتل ولو تاب، والداعي لعدوله عن الخبر القطعي لقول داروين السابق اعتقاده

ص: 86

في نفسه أن الإنسان من أصل سماوي

إلخ، وداروين طبيعي لا يعترف بالإله ولا بآدم المنزل من الجنة، ومثله لا نقيم له وزنا حتى نتصدى لرد مقاله بالبراهين العقلية؛ لأن الغالب على هؤلاء لا يرجعون عن معتقداتهم ولو ظهر لهم فساد ما هم عليه، بخلاف بعض المسلمين في هذه الأعصر الأخيرة فإنه غاب عليهم اعتقاد ما عليه غيرهم وترك ما كانوا عليه من غير بيان فساد ما كانوا عليه وغير بيان صحة ما انتقلوا إليه ضلالا وسفها وقلة حياء ومروءة، بل نقيم الوزن على من يدعي أنه مسلم فصاحب هذه المقالة لا يعترف بصدق خبر الله ولا بنزول آدم من الجنة ولا بكونه مخلوقا من طين، بل يعتقد أنه مخلوق من حيوان منوي وبويضة اعتقادا ظنيا كما قال سابقا، ويعتقد أن طبيعة الأرض والزمان مؤثرتان ومن يصرح بهذا فليس في عداد المسلمين ولو كان يقول في أثناء كلامه القرآن الشريف، وكذا يصرح بلفظ الجلالة وبلفظ الرسول؛ لأن ذلك يوجد ممن هو كافر أصلي، ومثل هذا كثير فيمن تعاطى العلوم الفلسفية والطبيعية من قبل أن يسبق إلى ذهنه شيء من عقائد المسلمين فتتمكن منه العقائد الزائغة تمكن السل والداء العضال، فلا ينجع فيه دواء البتة وهؤلاء ضررهم على المسلمين أشد من ضرر من لم يدع الإسلام، وكل عاقل يدرك ذلك في صفحة 637 من المجلد المذكور استدراك العصمة لله ولكتابه، وحدهما أقول بفضل الله تعالى: لقد خالف بقوله هذا إجماع المسلمين من أن العصمة أيضا للرسل والأنبياء والملائكة فقوله وحدهما كذب على أن إطلاق لفظ العصمة على الله غير جائز، ثم قال وقد وقفنا في خطأ في مقالة الفلك صفحة 589 من هذا العدد من المنار نبهنا عليه الأستاذ المفضال

ص: 87

السيد محمد رشيد، وذلك في تفسير قوله تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} فأحببت أن أصححه كما يأتي فيضاف هذا التصحيح في أول صفحة 589 المذكورة بعد قولنا في الصفحة التي قبلها، ولنا في تفسيرها وجهان إما أن تكون إلى قولنا وعليه فليس في القرآن إلخ.

(أقول بفضل الله تعالى) قد أصلح هذا الكتاب ما كتبه خطأ أولا من نفي تعدد الأرض بخطأ مثله بدون فرق؛ لأن ما تقدم له يعد عند العلماء من الهذيان ودخول الرعاة على بيوت الملوك فيستحق صاحبه إن لم يتب المقت الدائم، وما هنا مثله فيا ليته بقي على خطأ واحد لكان أجمل له، ويشاركه في خطئه الأول والثاني أستاذه الذي أرشده، حيث يظهر من كلامه السابق في شأن العرش أن ما كتبه ثم هو نتيجة مذاكرة مع السيد رشيد رضا فهذا المسكين والله أعلم لا يكتب إلا على رأيه، وعلى كل حال المسئولية عن الخطأ والنقص في الدين على الأستاذ رشيد أفندي رضا؛ لأنه رب الدار، قال وصحة العبارة هكذا كلمة الأرض فيها بمعنى الطين والتراب الذي نعرفه كما في قوله تعالى:{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} وقوله {يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} ونحوه كثير وإما أن تكون بمعنى الكرة الأرضية كما في قوله تعالى {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} إلى قوله {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} أما على الوجه الأول فتقدير الآية هكذا الله الذي خلق سبع سماوات، ومن هذا الطين والتراب خلق ما هو مثلهن، وهو هذا الكوكب الأرضي أي الكرة الأرضية، فكأنه قال: إن هذه الأرض المركبة من الطين والتراب خلقت مثل السماوات أو الكواكب السيارة

ص: 88

وذلك؛ لأن الأرض مثل السيارات في المادة وكيفية الخلق وكونها تسير حول الشمس وتستمد النور والحرارة منها وكونها مسكونة بالحيوانات كالكواكب الأخرى وكونها كروية الشكل، فالسيارات أي السماوات والأرض هي متماثلة من جميع الوجوه كلها مخلوقة من مادة واحدة وهي مادة الشمس وعلى طريقة واحدة قال تعالى {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا} أي شيئا واحدة {فَفَتَقْنَاهُمَا} أي فصلنا بعضها عن بعض فالأرض خلقها مثل السماوات تماما {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} ؛ لأن نواميس جميع الموجودات واحدة، وعلى تفسيرنا هذا تكون هذه الآية دالة على أن الأرض هي إحدى السيارات، وهو أمر ما كان معروفا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وما يخطر ببال أحد من العرب وذلك من دلائل صدق القرآن.

(أقول) وبالله أستعين: أن هذا الشخص تجرأ على تفسير كلام الله تعالى بما لم يتجرأ عليه غيره فيما علمت الحد في آيات الله وفسرها على حسب هواه، وتكلم فيها بغير علم، تلفظ في مواضع كثيرة بما هو كفر صريح لا يحتمل التأويل.

قوله: كلمة الأرض إلى قوله: ونحوه كثير، (هو كذلك) أعني الأرض معلومة لا نحتاج إلى الاستدلال على معرفتها، وإنما نحتاج إلى إثبات كونها فردا واحدا لا تعدد فيه، وهذا دونه خرط القتاد ولو استعان بجميع أشياعه.

(قوله) وأما أن تكون بمعنى الكرة الأرضية إلى قوله: {ومن الأرض مثلهن} لا تفيد اتحادها ولو قلنا بكرويتها، والآية الشريفة لا تدل على عدم تعددها كما حملها هذا الشخص على ذلك، أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير

ص: 89

قوله تعالى {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} قال ما في السماوات السبع والأرضين السبع في يد الله عز وجل ليس إلا كخردلة في يد أحدكم.

(وقوله) وأما على الوجه الثاني إلى آخر كلامه فلا نحتاج إلى تتبعه؛ لأنه كسابقه، والحاصل أن ما فسر به الآيات هنا وفيما تقدم تفسير كفار لا تفسير مسلمين متبعين لرسولهم صلى الله عليه وسلم ترك المأثور والمعقول واتبع أوهام الفلكيين الكفار، فيا أيها المسلم لا تكترث بشيء من تفسيره؛ لأنه خلاف الحق والواقع وعليك بالتفاسير المأثورة وتفاسير علماء المسلمين بغير المأثور (قوله) وهذا أمر ما كان معروفا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم

إلخ، صدق؛ لأن المعروف في زمن النبي صلى الله عليه وسلم بالنسبة لما يؤخذ من القرآن هو الأحكام والمواعظ وما هو حق عند الله تعالى، وأما ما ذكره هذا الشخص فليس في شيء مما ذكر كما تقدم فكون ما ذكره لم يعلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلخ هو مدح لزمن النبي، بل وما بعده إلى أن حدث هذا المفسر برأيه فالله سبحانه وتعالى يجازيه بعدله أو يتوب عليه ويعفو عنا وعنه والمسلمين في صفحة 673 من المجلد المذكور.

(الكسب بآلة الفونغراف) وأما الجواب عن الرابع يعني عن السؤال الرابع فهو: أنه لا يظهر لنا وجه التحريم كسب صاحب آلة الفونغراف والأصل في الأشياء الحل.

(أقول) وبالله اعتصم: الذي يظهر من كلامه أنه يستظهر الأحكام ولو خالفت ما أجمعت عليه الآمة والمنصوص عليها للفقهاء أجمع أن الكسب بغير ما أباحه الشرع لا يجوز، ولا شك أن الفونغراف من آلات اللهو ومن المعازف المنهي عنها شرعا، المنقول الإجماع على تحريمها ولا عبرة بمن شذ وقال بالجواز وكذب وافترى من نسب السماع المعروف،

ص: 90

اليوم للصحابة والتابعين، وإنما سمع النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعون السماع المعهود عندهم، وهو السماع الساذج لا آلة لهو معه غير الدف في العيد وفي العرس كقصيدة بانت سعاد وما في حكمها، كالسماع من سيدنا حسان بن ثابت ومن ادعى خلاف هذا فيهم فعليه الإثبات، ولن يستطيع والسماء أقرب إليه من ذلك.

(قوله) وكان حاصل الجواب إنه لم يرد نص في الكتاب ولا في السنة في تحريم سماع الغناء وآلات اللهو يحتج به.

(غير صحيح) ورد في الكتاب {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا} وقد نهى عن ذلك ضمنا في قوله: كل لهو يلهو به المؤمن باطل إلا في ثلاث تأدبيه فرسه ورميه عن كبد قوسه وملاعبته امرأته فإنه حق.

وورد في الحديث النهي عن ذلك ضمنا أيضا، ففي صحيح البخاري رحمه الله تعالى في كتاب الأشربة باب ما جاء فيمن يستحل الخمر ويسميه بغير اسمه، وقال هشام بن عمار: حدثنا صدقة بن خالد، حدثنا عبد الرحمن بن غنم الأشعري قال: حدثني أبو عامر أو أبو مالك الأشعري والله ما كذبني سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر (يعني الزنا) والحرير والخمر والمعازف وينزلن أقوام إلى جنب علم يروح عليهم بسارحة لهم يأتيهم يعني الفقير لحاجة، فيقولون: ارجع إلينا غدا فيبيتهم الله ويضع العلم ويمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة ا. هـ.

فلعل هذا المفتي ممن أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم يستحلون

إلخ، في مختار الصحاح: المعازف الملاهي، والعازف اللاعب بها والمغني، وفي القاموس الملاهي كالعود والطنبور، الواحد عزف أو معزف كمنبر، والعازف اللاعب بها والمعنى.

(قوله ورد في الصحيح) أن النبي صلى الله

ص: 91

عليه وسلم وكبار الصحابة سمعوا أصوات الجواري والدفوف بلا نكير.

(صحيح) في ذاته إلا أنه لا يلاقي في السؤال؛ لأن السؤال وارد عن سماع آلات اللهو والغناء المعروف الآن، ولم ينقل عن مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه سمعوا آلات الطرب والغناء معها فما قاله هنا تلبيس وتمويه وخلط موضوع بآخر كما هو ديدنه ويروج ذلك له عند السذج.

قوله: لم يرد نص عن الأئمة الأربعة في تحريم سماع الآلات.

(غير صحيح وكذب صريح) وتهور فاسد ما ألجأه إلى هذه الدعوى الطويلة العريضة التي يوهم بها المطلع على كلامه أنه تصفح كتب المذاهب الأربعة، ولم يعثر لهم في تحريم ما ذكر على نص صريح لو أفتى من عقله بدون نقل عن غيره لكان أستر لجهله، وإن كان في الواقع لا يحل له ذلك، وفي كتاب السيف اليماني لمن قال يحل سماع الآلات والأغاني للشيخ مصطفى البولاقي: وقد سئل مالك رحمه الله عما يترخص فيه أهل المدينة من الغناء فقال: إنما يفعله عندنا الفساق ونهى عن الغناء واستماعه، وأما أبو حنيفة فإنه يكره الغناء ويجعله من الذنوب وذلك مذهب أهل الكوفة سفيان وحماد وإبراهيم والشعبي لا اختلاف بينهم في ذلك، إلى أن قال: وكان الشافعي يكره الطقطقة بالقضيب ويقول: وضعتها الزنادقة ليشغلوا بها عن القرآن، وأما العود والطنبور وسائر الملاهي فحرام ومستمعها فاسق، ثم قال: فصل فإن قيل: أليس قد روي عن جماعة من الصحابة أنهم سمعوه قلنا: ما بلغنا أن أحدا من السلف الصالح فعله وهذه مصنفات أئمة الدين وأعلام المسلمين مثل مصنف مالك بن أنس وصحيح البخاري ومسلم وسنن أبي داود والنسائي رضي الله عنهم

ص: 92

إلى غيرها خالية من دعواكم وهذه تصانيف فقهاء المسلمين الذين تدور عليهم الفتيا قديما وحديثا في شرقي البلاد وغربيها فقد صنف المسلمون على مذهب مالك تصانيف لا تحصى، وكذلك مصنفات علماء المسلمين على مذاهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وغيرهم من فقهاء المسلمين، كلها مشحونة بالذب عن الغناء وتفسيق أهله، فإن كان فعله واحد من المتأخرين فقد أخطأ ولا يلزم الاقتداء به، وترك الاقتداء بالأئمة الراشدين ومن هنا زل من لا بصيرة له يحتج عليهم بفعل الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين ويحتجون علينا بالمتأخرين، سيما وكل من يرى هذا الرأي الفاسد خلو من الفقه عاطل من العلم لا يعرف مأخذ الأحكام ولا يفصل الحلال من الحرام ولا يدرس العلم ولا يصحب أهله ولا يقرأ مصنفاته ولا دواوينه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما استرذل الله عبدا إلا حظر عليه العلم، فمن هجر أهل العلم والحكمة وانقضى عمره في مخالطة أهل اللهو والبطالة كيف يؤمن على هذه المسألة وغيرها {وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله} فيا من رضي لدينه ودنياه ووتوثق لآخرته ومثواه باختيار مالك بن أنس إن كنت على مذهبه أو باختيار أبي حنيفة والشافعي وأحمد إن كنت على مذهبهم، كيف هجرت اختيارهم في هذه المسألة وجعلت إمامك فيها لشهواتك وبلوغ أوطارك ولذاتك {وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} اهـ.

وفي كتاب ابن حجر الهيتمي القسم الثالث عشر المعازف والأوتار كالطنبور والعود والرباب والكمنجة والسنطير وغير ذلك من آلالات اللهو المشهورة عند أهل اللهو والسفاهة والفسق، وهذه كلها محرمة بلا خلاف، ومن حكى فيها خلافا فقد غلط أو غلب عليه هواه حتى أصمه وأعماه ومنعه هداه

ص: 93

وزل به عن سنن تقواه ا. هـ.

وممن حكى الإجماع على تحريمه الإمام أبو العباس القرطبي، وهو الثقة العدل فإنه قال كما نقله عنه أئمتنا وأقروه: وأما المزامير والأوتار والكوبة فلا يختلف في تحريم سماعها ولم أسمع عن أحد ممن يعتبر قوله من السلف وأئمة الخلف إنه يبيح ذلك، وكيف لا يحرم شعار أهل الخمور والفسوق ومهيج الشهوات والفساد والمجون وما كان كذلك لم يشك أحد في تحريمه وتفسيق فاعله وتأثيمه ا. هـ.

وممن نقل الإجماع أيضا على ذلك إمام أصحابنا المتأخرين أبو الفتح سليم بن أيوب الرازي، فإنه قال في تقريبه بعد أن أورد حديثا في تحريم الكوبة وفيه حديث: إن الله يغفر لكل مذنب إلا صاحب عرطبة أو كوبة، والعرطبة العود ومع هذا فإنه إجماع ا. هـ.

فقد تبين لك بما نقلناه لك كذب هذا المفتي على المذاهب الأربعة ومن كان شعاره الكذب كيف يصح له أن ينصب نفسه للفتيا ويدعي الاجتهاد، اللهم ألهمنا رشدنا وعرفنا مكائد أنفسنا وانصرنا عليها بفضلك يا أرحم الراحمين، فعليك يا أيها المسلم المتدين بمراجعة كف الرعاع لابن حجر الهيتمي والسيف اليماني للشيخ البولاقي إن أردت التثبت لدينك، فإنك تجد فيهما ما يقنعك ويكف نفسك عن سماع الخلاف في آلات اللهو والغناء، فإنهما تكفلا برد ما هو مخالف للحق في صفحة 510 من المجلد المذكور بحث الاجتهاد والتقليد فصول من كتاب المؤمل للرد إلى الأمر الأول لأبي شامة الفقيه الشافعي (أقول) ومن الله تعالى أطلب التوفيق أن بعض ما سينقله عن هذا العالم الشهير لا يناسب الفتوى به من عامة الناس فضلا عن علمائهم فضلا عمن حصلت له شهرة فإن كانت

ص: 94

النسبة له صحيحة فإن الله سبحانه وتعالى انتصر لأوليائه وحملة شرعه بأن بعث إليه اثنين بصفة كونهما مستفتيين في مسألة فدخلا عليه في بيته وضرباه ضربا مبرحا واعتل بسببه ومات من ذلك، وهذا أهون جزاء الدنيا انظر الطبقات لابن السبكي، وهذه سنة الله تعالى في كل من تغالى في أعراض أئمة الدين، فقد بلغنا عن الثقات أن اثنين من هذا العصر الأخير كان ديدنهما تنقيص العلماء قديما وحديثا فسلط الله تعالى على كل منهما الأكلة في لسانه، فالكبير منهما قطع لسانه قبل موته، والثاني اندلق على صدره ومات ممنوع الكلام نسأل الله تعالى أن يرزقنا الأدب مع أوليائه وحملة شرعه، ثم أني بفضل الله أريد أن أرد ما نقله صاحب مجلة المنار وأقره مستحسنا له، حيث لم ينتقد عليه في شيء مما نقل فيكون شريك القائل بقطع النظر عن قائل هذا الكلام لما قروه من أن الرجال تعرف بالحق لا الحق يعرف بالرجال، كما هو شأن كثير ممن لا حظ له في العلم في زماننا، ومن أن الكلام مع الكلام بقطع النظر عن مقام المتكلم، ومن أن كلا منكم راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر عليه الصلاة والسلام.

قوله: وصح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلماء فيقبض العلم حتى إذا لم يترك عالما اتخذ الناس رؤساء جهالا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.

أقول: فيه قد حصل بعض ما أخبر به صلى الله عليه وسلم ولا يزال الأمر في ازدياد حيث إن من اتخذه الناس مفتيا يأمر الناس بالاجتهاد وينهاهم عن التقليد وعن اتباع الأئمة الأربعة المشهود لهم بالخيرية في القرون

ص: 95

الأولى، ودعاة الاجتهاد لا يخلو منهم زمن في الغالب ورئيسهم في ذلك ابن حزم الأندلسي، فكل من أتى بهذه الدعوة بعده عالة عليه كالسنوسي في بغيته تراهم يزينون الاجتهاد من غير بيان شروط اجتهاد، بل غرض كثير منهم الفساد، وبلغني أن بعض العصريين يأخذ مرتبا شهريا على بث هذه الدعوى ليركب بعض ناقصي العقل متن الاجتهاد من غير استيفاء بعض شروطه، فيضلوا في أنفسهم ويضلوا غيرهم، وقد حصل من كثير دعوى الاجتهاد فخاضوا في لجج الكتاب والسنة من غير سفينة ولا معرفة سباحة، ولم ينظروا إلى غيرهما من بقية شروط الاجتهاد، تراهم يتفننون فيهما يحملون الآيات والأحاديث على حسبما زينت لهم أنفسهم، حيث إنهم لا يعترفون بغالب المأثور حيث لا يوافق غرضهم، بل يردونه ويزيفونه ويبرئون الله ورسوله منه حسبما تقدم، وما يأتي إن شاء الله تعالى، ثم تبعتهم في ذلك شبيبة متخرجة من المدارس وغيرها فطعنوا في البخاري، فقال بعضهم: يلزم حرقه ولا نقول ولا نعمل إلا بالقرآن، وبعضهم لا يقول بالقرآن حيث يقول: إنه تقادم زمنه، وإنما يقولون بأخبار علماء غير المسلمين، فيصدق عليهم قوله تعالى:{وإذا لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم} فممن اجتهد من هؤلاء وأداه اجتهاده إلى أن المرأة لها حق في كل ما يتناوله الرجل من حضور المحافل وإلقاء الخطب والاستخدام في الوظائف كالغربيين، وسيأتي إن شاء الله تعالى إفساد رأيه وأنه كاذب في دعواه الاجتهاد بل مقلد، وبعضهم اجتهد فرأى أن الذي أخر المسلمين هو تمسكهم بعوائد الدين، ويأتي أنه مقلد أيضا، وبعضهم أداه اجتهاده إلى إباحة ما قل من الربا وأستاذهم الكبير يبيح القليل والكثير

ص: 96

حسبما أنقل لك ذلك إن شاء الله تعالى، وغير ذلك مما يصدر عمن فسدت أخلاقهم بتعاطيهم سفاسف العلوم، وتركهم ما هو العمدة في دينهم، فإذا نظرت إلى من هذه أوصافهم وجدت صدق خبره عليه الصلاة والسلام كالشمس في رابعة النهار، اللهم قيض لنا من ينصر شريعة رسولك صلى الله عليه وسلم.

(قوله) وما أعظم حظ من بذل نفسه وجهدها في تحصيل العلم حفظا على الناس لما بقي في أيديهم منه، فإن هذه الأزمنة قد غلب على أهلها الكسل والملل وحب الدنيا، وقد قنع الحريص منهم من علوم القرآن بحفظ سوره، ونقل بعض قراءاته وغفل عن علم تفسيره ومعانيه، واستنباط أحكامه الشريفة من مبانيه، واقتصر من علم الحديث على سماع بعض الكتب على شيوخ أكثرهم أجهل منه بعلم الرواية فضلا عن الدراية.

(فيه تفصيل) فأما قوله: وما أعظم إلى قوله: وحب الدنيا فمسلم وواقع من حيث تعظيم حظ من بذل نفسه

إلخ، ومن حيث غلبة الكسل وحب الدنيا نسأل الله التوفيق لنا ولإخواننا المسلمين إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير، وأما قوله: وقد قنع الحريص ففيه غش وتهمة، أما الغش فمن حيث الإغراء ضمنا بالاجتهاد واستنباط الأحكام من غير اعتبار شروط الاجتهاد، وأما التهمة فإن هذا الكلام لأبي شامة؛ لأن علماء الحديث في زمانه عالمون بالرواية والدراية غير أنهم كانوا على الحق المبين لم يدعوا شيئا ليس لهم فيه حظ ولا نصيب، أعني الاجتهاد ويأتي إن شاء الله تعالى أن كثيرا من علماء السلف قيل في حقهم أنهم بلغوا رتبة الاجتهاد ولم يجتهدوا لعلو كعب هذا المقام، ولعلمهم من نفوسهم أنهم لم يبلغوه على الحقيقة، وإلا لو بلغوه حقيقة لوجب عليهم

ص: 97

وحرم في حقهم التقليد ولكنهم كانوا أهل دين، فلما ذهبوا وخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات وادعوا مع ذلك الاجتهاد زادوا في الطين بلة وفي الطنبور نغمة، سبحانك ربي هذا بهتان عظيم.

(قوله ومنهم) من قنع بزبالة أفهام الرجال وكناسة أفكارهم وبالنقل عن أهل مذهبه، وقد سئل بعض العارفين عن معنى المذهب فأجاب: أن معناه دين مبدل قال الله تعالى: {ولا تكونوا كالذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا} إلا ومع هذا يخيل إليه أنه من رءوس العلماء وهو عند الله وعند علماء الدين من أجهل الجهلاء، بل بمنزلة قسيس النصارى أو حبر اليهود؛ لأن اليهود والنصارى ما كفروا إلا بابتداعهم في الأصول والفروع.

(قول) ذي رعونة عار عن المروءة والدين؛ لأن مقاله هذا يشمل كل من أخذ بقول الغير ولم ينظر في الدليلين أعني الكتاب والسنة من زمن الصحابة إلى وقتنا هذا، ولم ينج منه إلا المجتهد المطلق؛ ولأنه جعل علماء المسلمين غير المجتهدين بمثابة القسيسين والأحبار وأن المذاهب دين مبدل، وأن اختلاف المذاهب في بعض الجزئيات الفرعية بمثابة من أخبر الله تعالى عنهم من المشركين ورضي بذلك هذا الناقل، وهو مصدر نفسه للفتوى ولم يتمعر وجهه نصرة لحاملي لواء شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون أسوة من قيل في حقهم هذا القول لو صح، حيث إنه يلهج كثيرا بقوله أما منا الشافعي، فما أشد غباوته، حيث ينقل قولا باطلا فيه سبه وسب أسلافه ولم يتعقبه ببنت شفة، لكن ربما يتخلص منها بدعوى الاجتهاد أقول: لا يستطيع أن يخرج من حيث إنه معترف بإمامة الشافعي رضي الله عنه له، ومن حيث إن من وقف على فتاويه لا يعترف له بغزارة علم

ص: 98

فضلا عن الاجتهاد في الدين ثم إن صاحب هذا القول ركب جموحا ولج به

في مهمه مغبرة أرجاؤه

كان لون أرضه سماؤه

قدح بقوله هذا في أعراض علماء الإسلام أجمع، وفي ذلك تحقيرهم فانظر الحكم فيمن حقر عالما واحدا، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما عليه المعول عند علماء المسلمين من حيث من يجب عليه الاجتهاد ومن يجب عليه التقليد، وننقل أيضا عبارة ابن حزم الصريحة أن الشخص ولو كان أميا لا يقلد حيا ولا ميتا حسبما يأتي إن شاء الله تعالى، وتمام الكلام على هذه المقولة يأتي عند تعرضه للأئمة إن شاء الله تعالى.

(قوله فصل) والعلم بالأحكام واستنباطها كان أولا حاصلا للصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم.

(لم يبين) فيه غاية زمن المستنبطين للأحكام في النوازل من الكتاب والسنة، إيهاما منه وخديعة وغشا بأن هذا الأمر مستمر حتى بعد تقرر المذاهب المعلومة الحقة، وليس كذلك، بل أخبر الثقات العدول بأنه لم يوجد مجتهد مطلق بعد تقرر المذاهب الحقة، وأن من ادعاه لم يسلم له ولم يتبعه على ذلك متبع يعول عليه، وإن كان الاجتهاد المطلق في حد ذاته جائزا.

(فقوله) فكانوا إذا نزلت بهم النازلة بحثوا عن حكم الله تعالى فيها من كتاب الله وسنة نبيه، وكانوا يتدافعون الفتوى ويود كل منهم لو كفاه إياها غيره.

(فيه نظر) من حيث تدافع كلامه، وذلك أن صريح عبارته أولا أن الأخذ للأحكام من الكتاب والسنة كان حاصلا لكل فرد فرد من الصحابة فمن بعدهم، وصريحها ثانيا أن ذلك كان حاصلا للبعض بدليل قوله: يتدافعون الفتوى

إلخ، وحق العبارة السليمة من الخدش أن يقول: والعلم بالأحكام واستنباطها كان أولا حاصلا لبعض أفراد الصحابة ولبعض

ص: 99

أفراد من بعدهم.

(وعليه) أن لم يستنبط الأحكام من الكتاب والسنة وأخذ بكلام المستنبط صحابيا كان أو من بعدهم آخذ بزبالة أذهان الرجال وكناسة أفكارهم، فانظر في حالة هذا المتهور الذي ورط نفسه وحملها تباعة عظيمة لهؤلاء السادة الذين هم خير القرون، المشهود لهم بالخيرية من سيد الرسل صلى الله عليه وسلم وعليهم أجمعين.

(قوله) وكان جماعة منهم يكرهون الكلام في مسألة لم تقع ويقولون للسائل عنها: أكان ذلك؟ فإن قال: لا، قالوا: دعه حتى يقع ثم نجتهد فيه، كل ذلك يفعلونه خوفا من الهجوم على ما لا علم لهم به واشتغالا بما هو الأهم من العبادة والجهاد.

(صدق) والذي دعا العلماء غير المجتهدين تقليد المجتهدين في أقوالهم التي بذلوا جهدهم وأفرغوا وسع طاقتهم في استخراجها من أصولها الشرعية المنزلة بالنسبة لمن تبعهم عليها منزلة الفتاوى التي يأخذها الصحابي الذي ليس بمجتهد عن الصحابي المجتهد بلا فرق، ومن ادعى الفرق فعليه ببيانه هو خوف التقول على كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بغير علم، وأي فرق بين العالم الذي لم تبلغ درجته الأخذ من الكتاب والسنة والصحابي والتابعي اللذين لم يبلغا ذلك لو أمعن النظر صاحب هذا القول إمعان المدقق في قوله لخجل بنفسه لنفسه، حيث إنه يأمر المقعد بالقيام ويحمل غير المستحق للاجتهاد على الاجتهاد ما ذاك إلا ضرب من الجنون، وإفساد في الدين وتلبيس على المستضعفين من المسلمين؛ ليأخذ بالحظوة من قلوبهم، وإن كان في ذلك بعد من الله تعالى، اللهم خلصنا من حظوظ أنفسنا، وأعتقنا من رقها، فإنك القادر على ذلك، متوسلين إليك بحبيبك الأعظم صلى الله عليه وسلم.

ص: 100

(قوله) فإذا وقعت الواقعة لم يكن بد من النظر فيها.

(هو كذلك) بالنسبة للمتأهل للنظر في الدليل، وأما من ليس كذلك، وليس فيه قابلية الأخذ من الكتاب والسنة كأهل زماننا ومن قبلهم إلى زمن المجتهدين فما الحكم فيه؟ أقول على مذهب دعاة الاجتهاد: يجتهد في ذلك ولا يأخذ بزبالة أذهان الرجال وكناسة أفكارهم، ولو أداه اجتهاده إلى خرق الإجماع والكفر، كاجتهاد من ادعى أنه علم من القرآن ما لم يكن معلوما زمن النبي، ولا خطر ببال أحد من العرب كما تقدم، وأما على مذهب أهل السنة والجماعة فينظر في المسألة إن كان فيه قابلية لذلك، فإن كان منصوص على حكم نظيرتها بلا فرق في مذهبه قال للسائل بذلك، وإن لم يكن منصوص على حكم نظيرتها وكان في قدرته إدراجها تحت قاعدة من قواعد إمامه إلى غير ذلك مما هو مبين في أحكام المفتي، وإذا لم يكن فيه قابلية أحال السائل على غيره، وإذا لم يمكنه أخذ حكم المسألة من مذهبه أخذ حكمها من بقية المذاهب الحقة، وليس بين المذاهب الأربعة اختلاف كاختلاف المشركين حتى يستدل بالآية السابقة التي في شأنهم، بل اختلافهم في فروع جزئية كل إمام منهم أخذ بمستند صح عنده ولم يطلع عليه غيره أو اطلع وعنده ما يرجح مقابله، وكل من الأئمة والأتباع لا يجهل نظيره، بل يقول كل على حق، وما وقع من بعض الأتباع من التنازع والتنافر لا يقدح في المذهب نفسه ولا في صاحبه، وإنما المسئولية على من قام بذلك وهذا أمر معلوم عند كل عالم منصف.

(قوله) قال الحافظ البيهقي: وقد كره بعض السلف للعوام المسألة عما لم يكن ولم يمض فيه كتاب ولا سنة، وكرهوا للمسئول الاجتهاد

ص: 101

فيها قبل أن تقع؛ لأن الاجتهاد، إنما أبيح للضرورة ولا ضرورة قبل الواقعة فلا يغنيهم ما مضي من الاجتهاد، واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، وعن طاوس قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو على المنبر: أحرج على كل امرئ مسلم سأل عن شيء لم يكن فإنه قد بين ما هو كائن، وفي رواية لا يحل لكم أن تسألوا عما لم يكن فإنه قد قضي فيما هو كائن، قلت: وهذا معنى قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ}

إلخ، وعن عبد الرحمن ابن شريح أن عمر بن الخطاب كان يقول: إياكم وهذه العضل فإنها إذا نزلت بعث الله لها من يقيمها ويفسرها.

(هو من معنى) ما قبله من حيث النهي عن السؤال عن الأشياء قبل وقوعها وهذا بخلاف ما ثبت عن الفقهاء من فرضهم مسائل قبل وقوعها جازاهم الله عن المسلمين خيرا.

قوله: قلت: إنما يضطر إلى الاجتهاد في الأحكام الحكام ولم يأت الاجتهاد لغير الحكام؛ لحديث معاذ إن لم أجد في كتاب الله تعالى فبسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن لم أجد في سنة رسول الله أجتهد برأيي إلا أنه كان حاكما، وقوله عليه الصلاة والسلام أقضي بينكم برأيي فيما لم ينزل علي فيه شيء وهو حاكم وكذلك قوله تعالى {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} لأنهما كانا حاكمين، فالاجتهاد بمنزلة الميتة قال الثعلبي والشافعي لا يحل تناولها إلا عند المخمصة، والذي ليس بحاكم ويجتهد برأيه فمثله كمثل رجل يقعد في بيته ويقول: جاز لفلان أكل الميتة ويجوز أكلها لي أيضا، فكذلك لا يجوز أن يحتج بقول المجتهد؛ لأن المجتهد يخطئ ويصيب، فإذا كان شيء يحتمل أن يكون صوابا وخطأ فتركه أولى مثل

ص: 102

الشبهات من الطعام تركها أولى من تناولها.

(غير صواب) من عدة وجوه.

(الوجه الأول) قوله: إنما يضطر إلى الاجتهاد إلى قوله: لأنه كان حاكما، ليس بصواب؛ لأنه تقدم له نفسه بقرب دور بعد فصل والعلم بالأحكام واستنباطها كان حاصلا للصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم، فكانوا إذا نزلت بهم النازلة بحثوا عن حكم الله تعالى فيها من كتاب الله وسنة نبيه، وكانوا يتدافعون الفتوى ومن المعلوم ببداهة العقل أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم هم الذين كانوا يقصدون للفتوى ولم يكونوا كلهم حكاما، فقصر الاجتهاد على الحكام باطل لمخالفته للواقع، أما قوله: وقوله عليه الصلاة والسلام: أقضي بينكم برأيي إلى قوله: وهو حاكم ففي ذلك خلاف قيل: يجتهد وقيل: لا يجتهد ويرجئ المسألة حتى يأتيه الوحي فيها، وهذا وقع منه كثيرا عليه الصلاة والسلام، وإذا اجتهد فاجتهاده برأيه ليس كاجتهاد غيره محتمل الصواب والخطأ، بل لا يخطئ؛ لأنه لا ينطق عن خطأ البتة فنطقه لا يكون إلا عن صواب.

(الوجه الثاني) قوله: وكذلك قوله تعالى {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} لأنهما كانا حاكمين ليس بصواب؛ لأن سيدنا سليمان لم يكن حاكما، وإنما الحاكم أبوه سيدنا داود عليهما الصلاة، وإنما لما مر به الخصمان ظهر له غير ما حكم به أبوه فقال لهما: لو كان الحكم كذا وكذا، فلما سمعا الخصمان مقاله رجعا إلى أبيه داود وقصا عليه ما قاله ابنه سيدنا سليمان فرجع عن حكمه وحكم بما ظهر لابنه (1) راجع التفاسير تقف على حقيقة الأمر.

(الوجه الثالث) قوله

(1) قوله راجع

إلخ.

في الإبريز: أن ما وقع من سيدنا سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كان على سبيل الصلح والتراضي، وإلا فالواقع ما حكم به أبوه من غرم قيمة الحرث وهو العنب، وإنما أمر بدفع الغنم لأنهم لم تكن

عندهم عين في ذلك الزمان وإن كانت فهي قليلة وكان تعاملهم بالمواشي والغنم؛ لكثرتها عندهم فلذلك أمر بدفع الغنم دون العين وسليمان عليه السلام رأي الصلح بينهما بدفع منفعة الغنم من سمن ولبن وصوف في قيمة الحرث حتى يرجع الحرث إلى الحالة الصالحة، وهذا إنما يكون مع التراضي، وبذلك يندفع ما يقال من خطأ داود وإصابة سليمان إذ مثل هذا لا يقال في الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إذ هم صفوة الله من خلقه وهم عنده أفضل من الملائكة ومن كل عزيز، إذ لو جاز عليهم الخطأ فأي ثقة تقع لنا بهم حيث صاروا مثلنا ا. هـ.

ومن هذا المبحث تأخذ ترجيح القول بأفضلية الأنبياء حتى على الملائكة كما أشرنا آنفا في غير الصورة الخلقية أما هي فمحل اتفاق

ص: 103

فالاجتهاد بمنزلة الميتة غير مسلم؛ لأن المجتهدين بذلوا أنفسهم في استخراج غير المنصوص من الأحكام من أصولها المقررة عندهم وبينوها على فرض وقوعها، ولم يتوقفوا على الوقوع فإلحاق الاجتهاد بالميتة في الحكم من حيث إن كلا منهما لا يتناول إلا عند الضرورة غير مرضي.

(الوجه الرابع) قوله: والذي ليس بحاكم ويجتهد برأيه إلى قوله أيضا ساقط عن درجة الاعتبار، ولما علمت من أن الاجتهاد ليس بقاصر على الحكام.

(الوجه الخامس) قوله: فكذلك لا يجوز لأحد أن يحتج بقول المجتهد

إلخ، (1) ساقط أيضا؛ لأن المسلمين من عصر الصحابة إلى

(1) قوله ساقط أيضا

إلخ؛ ولأن هذا الحكم بحسب عمومه يشمل كل مجتهد غير معصوم ولو حاكما أو صحابيا إذا اجتهد فيتنافى مع استثنائهم له قبل، فإن قالوا: هم مستثنون وكلا منا فمين عداهم تنافى مع ما هم عليه من دعاويهم وتأهيلهم كل واحد للاجتهاد كما ستراها إن شاء الله في مباحثه الآتية عنهم التي يضيق عنها الفضاء تبعا لإمامهم ابن حزم الذي زاد عليهم في توسعة دائرته حتى لغير الحكام مع شمول الخطأ والصواب للكل، إلا أن يقولوا: سوغ لنا ذلك شمول ضرورة فقد الحكم في المسألة لنا كأكل الميتة للمضطر على حسب أوهامهم التي هي من بعض الظن

ص: 104

وقتنا يحتجون بآراء الصحابة والتابعين ومن بعدهم ويرشد لصحة علمهم قوله عليه الصلاة والسلام: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواخذ، وقوله أيضا: أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، وهم مجتهدون فكيف لا يحتج بقول المجتهد ما هذا القول إلا هفوة سقط بها قائلها من قنة شاهق، وأول من سن هذه السنة السيئة في علمي ابن حزم وهو عطية هذه الطائفة

قنافذ هداجون حول بيوتهم

بما كان إياهم عطية عودا

وحال ابن حزم في شذوذه وخروجه عن السواد الأعظم وإطلاق لسانه على الأئمة المجتهدين معلوم عند أهل العلم، فمن يعلم حاله لا يقيم له وزنا وإن كان جبلا في العلم، فمن سلك مسلكه واتبع سبيله يحكم عليه بمثل حكمه، وسننقل عبارته عن قريب التي اغتر بها جمع غير أنهم مدلسون حيث يوهمون أتباعهم أنهم هم القائلون لتلك المقالة ولم ينسبوها لقائلها الأول.

(قوله) وعن الصلت بن رشد قال سألت طاوسا عن شيء فقال أكان هذا؟ قلت: نعم، قال: الله الذي لا إله إلا هو، قلت: الله الذي لا إله إلا هو، قال: إن أصحابنا حدثونا عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال يا أيها الناس لا تعجلوا بالبلاء قبل

ص: 105

نزوله فيذهب بكم ههنا وههنا وإن لم تعجلوا به قبل نزوله لم ينفك المسلمون أن يكون فيهم من إذا سئل سدد.

(صواب) غير أنه حجة عليه من حيث إنه يؤخذ برأي هذا المسلم الذي يسدد الله رأيه، ومذهبهم أنه لا يؤخذ برأي الغير البتة، وإنما تؤخذ الأحكام من الأصلين ليس إلا كما يأتي في عبارة ابن حزم.

(قوله) وعن النبي صلى الله عليه وسلم لا تستعجلوا بالبلية قبل نزولها فإنكم إذا فعلتم ذلك لا يزال منكم من يوفق ويسدد وأنكم إذا استعجلتم بها قبل نزولها تفرقتم.

(حكمه) حكم ما تقدم بلصقه، وقد تفرق الناس واختلفوا لغلبة الهوى عليهم.

(قوله) وكان ابن عمر إذا سئل عن الفتوى يقول اذهب إلى هذا الأمير الذي تقلد أمور الناس وضعها في عنقه، إشارة إلى أن الفتوى والقضايا والأحكام من توابع الولاية والسلطنة.

(هو كذلك) إلا إنه لا يقتضي عدم جواز الفتوى لغير الحاكم كما تقدم آنفا.

(قوله قلت) بهذا السبب أخذوا سنن اليهود والنصارى وزادوا عليهم حتى صاروا ثلاثا وسبعين فرقة، وحكم عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم أصحاب النار كما شهد للعشرة بأنهم من أصحاب الجنة.

(أقول) فيه أن قوله وحكم عليهم بالنار غير صحيح، بل الذين أخبر عنهم من أصحاب النار اثنان وسبعون فريقا (1) والفرقة المتممة لثلاث وسبعين هي الناجية وهي التي سلكت سبيل

(1) قوله والفرقة

إلخ، قال السيف الآمدي: كان المسلمون عند موت النبي صلى الله عليه وسلم على عقيدة واحدة لم يقع بينهم اختلاف إلا في مسائل اجتهادية لا توجب تكفيرا، وما وقع بينهم اختلاف في المسائل الاعتقادية إلى أن ظهر نفاة القدر وهو أول الخلاف الناشئ في الاعتقاديات، ولم يزل الخلاف فيها يتشعب إلى أن بلغ اختلاف أهل الإسلام إلى ثلاث وسبعين فرقة كما أخبر بذلك عليه الصلاة والسلام، ومراده عليه الصلاة والسلام الاختلاف في العقائد الدينية والأصول القطعية مما يكون المصيب فيها واحدا إجماعا لا اختلاف المجتهدين في الفروع الظنية، كمالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد ونحوهم من أئمة الاجتهاد، فكلهم على عقيدة واحدة في أصول الدين وهي ما عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومذاهب الكل ترجع إلى فرقة واحدة وهي الناجية ا. هـ.

رماح وبما قاله الآمدي يمكن أن يحمل قول الشيخ فيما يأتي أن الافتراق بدا من زمن الصحابة على افتراقهم فيما عدا العقائد وهو اللائق بهم رضي الله عنهم.

وقال صاحب الإبريز: كان عندي كتاب التبصير لأبي المظفر الإسفراييني في اثنين وسبعين فرقة، فكنت أذكر لشيخي عبد العزيز شبه أهل الأهواء العويصة فيحلها في أول جوابه ثم يترقى إلى معارف أخرى، ثم علمني رحمه الله توحيد الصوفية العارفين، وقال لي: هذا الذي كانت عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت له: لو علم الناس هذا الحق في التوحيد ما افترقت الأمة إلى ثلاث وسبعين فرقة، فقال: نعم وهو الذي كان أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتبه في كتاب عند وفاته حتى لا تضل أمته من بعده أبدا ا. هـ.

روي البخاري في كتاب العلم عن ابن عباس قال: لما اشتد بالنبي صلى الله عليه وسلم وجعه قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لا تضلوا بعده، قال عمر: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع غلبه الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا فاختلفوا وكثر اللغط، فقال قوموا عني ولا ينبغي عندي التنازع فخرج ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كتابه

ص: 106

الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه العدول وأما سبب التفرق فيحتمل ما قاله

ص: 107

ويحتمل غيره، والله أعلم.

(قوله) وقال مسروق: سألت أبي بن كعب عن شيء قال: أكان بعد؟ قلت: لا، قال: فاصبر حتى يكون فإذا كان اجتهدنا لك رأينا.

أقول: أنه حجة عليه أيضا تأمل.

قوله: وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت مائة وعشرين من الأنصار من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم منهم من أحد يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه إياه، وفي رواية يسأل أحدهم المسألة فيردها إلى هذا حتى ترجع إلى الأول * فيه رد لقوله السابق إشارة إلى أن الفتوى

إلخ، ولقولهم لا يؤخذ بقول الغير ولا يؤخذ إلا بالأصلين تأمل.

قوله: ثم بعد الصحابة أراد الله أن يصدق نبيه في قوله تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة أعظمها فرقة على أمتي يقيسون الأمور برأيهم فيحللون الحرام ويحرمون الحلال، رواه البراز في مسنده عن جبير بن نفير عن عوف بن مالك الأشجعي عنه صلى الله عليه وسلم.

(فيه نظر من وجهين الأول: صريح عبارته أن الافتراق ما وقع إلا بعد زمن الصحابة، وليس بصحيح، بل بدأ الافتراق من زمنهم يعلم ذلك أهل الخبرة، الثاني: لم يبين كيفية قياس الفرقة التي تقيس برأيها التي هي أعظم بلية على هذه الأمة فعدم بيان كيفية القياس بالرأي دليل في علة الحكم مشاركة بينة، ولا يمنع ذلك إلا من شذ كأستاذهم ابن حزم، وإنما شنع من شنع على أهل الرأي الذين يقيسون (1) الأدلة

(1) قوله لأدلة

إلخ، منها أن الأحكام لا يصلح أن يكون دليلا عليها إلا ما كان يقينا دون ما كان ظنيا كالقياس لأنه يؤدي لوقوع النزاع والتفرق المنهي عنهما بقوله تعالى {وَلَا تَنَازَعُوا وَلَا تَفَرَّقُوا} وأجيب عن ذلك بأن الدلائل القائمة على العمل بالقياس مخصصة لعموم قوله {ولا تنازعوا ولا تفرقوا} ا. هـ.

رازي، وأما ما روي عن بعض السلف كجعفر الصادق رضي الله عنه من النهي فلعله الإكثار منه فربما لا يأمن صاحبه من الوقوع في الخطأ، إذ ظن غير المعصوم ليس بمأمون

ص: 108

له لم يعتقد بها الجمهور لوجود ما يعارضها، والمعول عليه عندهم أنه متى فقد النص فلا غبار على القياس للمتأهل لذلك، وحقه أن يقول في بيان الفرقة: هم الذين يقيسون الأمور برأيهم من غير مراعاة شروط القياس المقررة، فلو فعل ذلك لأدى وظيفة العالم وهى بيان حقيقة الشيء عند الحاجة إليه، ولكن إذا كان الإنسان مريض القلب يميل إلى ما يهوى.

قوله: فكثرت الوقائع والنوازل في التابعين، ومن بعدهم واجتهدوا بآرائهم لمن اضطر ولمن لم يضطر، ووصلت إلى من بعدهم من الفقهاء ففرعوا عليها وقاسوا واجتهدوا في إلحاق غيرها بها، فتضاعفت مسائل الفقه وشككهم إبليس ووسوس في صدورهم واختلفوا كثيرا من غير تقليد، فقد نهى إمامنا الشافعى عن تقليده وتقليد غيره كما سنذكره في فصل، وكانت تلك الأزمنة مملوءة بالمجتهدين، فكل صنف على ما رأى وتعقب بعضهم بعضا مستمدين من الأصلين الكتاب والسنة وترجيح الراجح من أقوال السلف المختلفة بغير هوى.

(فيه صدق وكذب وقلة حياء وحجة عليه وعلى من هو على شاكلته) فقوله: فكثرت الوقائع إلى قوله: مسائل الفقه صدق، وقوله: وشككهم إبليس ووسوس في صدورهم كذب؛ لأنه أخبر بما لم يعلم وقلة حياء لتطاوله على خيار خير القرون من بعد قرن

ص: 109

الصحابة وهم مجتهدون من التابعين وتابعيهم.

والحجة ظاهرة من حيث إنهم اجتهدوا لمن اضطر وغيره، وهم العدول من غير ريب ولم يطعن فيهم إلا زنديق غير متدين؛ لأن الدين ما وصل إلينا إلا من طريقهم، ومن حيث إن الغير أخذ برأيهم من غير نكير على الآخذ، ولم يقل له: أنك أخذت بزبالة أذهان الرجال

إلخ، ولم يكلفوهم الاجتهاد، بل كل من أتاهم مستفتيا أفتوه بالمنصوص إن كان، وإلا اجتهدوا له وأخبروه بما ترجح في ظنهم؛ لأن الأحكام الفقهية المجتهد فيها مظنونة غير مقطوع بها، والآخذ بها ناج عند الله تعالى، ولم يكلفنا مولانا سبحانه وتعالى بالاجتهاد مطلقا أعني من توفرت فيه شروط الاجتهاد، ومن لم يتوفر فيه ولم يكلفنا بالحكم في الواقع ونفس الأمر فضلا منه تعالى.

قوله: ولم يزل الأمر على ما وصفت إلى أن استقرت المذاهب المدونة ثم اشتهرت المذاهب الأربعة وهجر غيرها.

* وهو كذلك وكانت المذاهب كثيرة كمذهب أبي ثور والأوزاعي والليث بن سعد * ثم اشتهرت المذاهب الأربعة، نعم وشهرتها ببقاء متبعيها والآخذين بها وهجر غيرها لانقطاع مقلديها، وقد أخبرني بعض مشائخي أن مذهب الإمام الليث بقي معمولا به إلى القرن السادس.

قوله: فقصرت همم اتباعهم إلا قليلا منهم فقلدوا بعد ما كان التقليد لغير الرسل حراما.

(هو كذلك) بالنسبة لقصور الهمم عن الاجتهاد المطلق المطلوب لهذا الكاتب، إلا أن في عبارته تنافيا ودعوى غير صحيحة أما التنافي فحاصل بين قوله اتباعهم وقوله إلا قليلا؛ لأن التابع مهما طال باعه فقاصر عن الاجتهاد المطلق، ولو بلغه لما كان تابعا فقوله: إلا قليلا لا محل له عند من يحسن النقد، وأما الدعوى الفاسدة فقوله: فقلدوا إلى قوله: حراما وجه ذلك

ص: 110

هو أن عبارته تقتضي أن التقليد لم يكن قبل، وإنما حدث بعد تقرر المذاهب، وليس بصحيح، بل التقليد جائز واقع في زمنه صلى الله عليه وسلم وفي زمن الصحابة، فكان الصحابي يأخذ بقول الصحابي من غير نكير عليه، ووقائع ذلك كثيرة شهيرة مسطرة في كتب الحديث نعوذ بالله تعالى من نزغات الشيطان وفلتات اللسان وطغيان القلم وغواية إبليس الإنسي ..

قوله: بل صارت أقوال أئمتهم عندهم بمنزلة الأصلين.

(هو كذلك) عندهم ولا شائبة نقص في ذلك البتة؛ لأن أقوال أئمتهم مأخوذة ومستنبطة من الأصلين ومن بقية أدلة الفروع المقررة عندهم، فهي أحكام الله بلا ريب عند المتقين؛ ولأن الموضوع أنهم غير قادرين على أخذ الأحكام الفرعية من أصولها فنص العلماء المقتدي بهم حسبما تأتي عبارتهم على أن المقلد تنزل أقوال وقواعد أمامه منزلة الأصول فيأخذ منها ويقيس عليها إن اقتضى الأمر ذلك ولا يسوغ له أن يتطاول إلى الأخذ من أصول الفقه لعجزه، وإنما يأخذ منها المجتهد المطلق، والمقلدون إنما قلدوهم لكونهم أعلم منهم بحكم الله تعالى وتلقوا منهم ما قلدوهم فيه على أنه حكم الله تعالى لا على أنه من مخترعاتهم التي لا مستند لها من الله تعالى، حتى يكونوا مثل أحبار اليهود ورهبان النصارى الذين غيروا دين الله تعالى تبعا لهواهم وإبقاء لمناصبهم، واتبعهم اليهود والنصارى فيما غيروه وبدلوه فصدق عليهم قوله تعالى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} وأما المجتهدون الأئمة الأربعة وغيرهم ممن مضى قبلهم فننزههم عن التغيير والتبديل في أحكام رب العالمين، بل كل ما أداهم إليه اجتهادهم هو حكم رب العالمين في الظاهر، وإنما نحن مأمورون باتباع الظاهر ولسنا مكلفين بغير الظاهر

ص: 111

قطعا لقوله عليه الصلاة والسلام: أمرت أن أحكم بالظاهر والله يتولي السرائر، أو كما قال عليه الصلاة والسلام، ولقوله عليه الصلاة والسلام تبكيتا وزجرا لسيدنا خالد بن الوليد في قضية الصابي: هلا شققت صدره أو كما، قال فلم يكونوا أربابا لمن تبعهم، وننزه أتباعهم أيضا عن أن يكونوا مثل اليهود والنصارى للفارق البين، وهو أن اليهود والنصارى اتبعوا من ذكر في دين مغير مبدل، فصح ما قيل في حقهم، وأما أتباع المجتهدين فإنما تبعوهم في دين غير مبدل ولا مغير فلم يخذوهم أربابا من دون الله بل لا رب لهم إلا الله تعالى.

فقوله: وذلك معنى قوله تعالى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} كذب وافتراء وجريمة عظيمة ارتكبها بالنسبة للتابع والمتبوع ما أقبح التهور خصوصا على عظماء المسلمين، اللهم احفظ سمعنا وبصرنا وخاطرنا وجميع جوارحنا من أن نتطاول على من لا يستحق التطاول عليه، وانصر المحقين على المبطلين، ومن رام تنقيص علماء المسلمين من هؤلاء الفرق الباغية الطاغية التي تريد الدين أن يكون على حسب هواها، بل بعضهم يود محوه بالمرة {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله ألا أن يتم نوره ولو كره الكافرون} .

قوله: فعدم المجتهدون وغلب المقلدون وكثر التعصب (فيه تفصيل) في الحكم فقوله: فعدم المجتهدون صدق، وقوله: وغلب المقلدون فيه ركة من جهة اللفظ والمعنى، أما من جهة اللفظ فلأن الذي يقابل العدم البقاء فحقه أن يقول: وبقي المقلدون، وأما من جهة المعنى فلأن قوله: وغلب المقلدون يقتضي وجود بعض المجتهدين إلا أن الغالب المقلدون، وقد حكم قبل بانعدام المجتهدين بتاتا تأمل إن كنت ذا فهم.

قوله: وكثر التعصب فيه تفصيل فإن كان

ص: 112

التعصب لإحقاق حق وإبطال باطل فممدوح يثاب عليه، وإن كان التعصب لإخفاء حق وإظهار باطل فمذموم يعاقب عليه فاعله إن لم يتب.

(قوله) كفروا بالرسول حيث قال: يبعث الله في كل مائة سنة من ينفي تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وحجروا على رب العالمين مثل اليهود أن يبعث بعد أئمتهم وليا مجتهدا.

(فيه) من سوء التعبير ووقاحة الجراءة وخلع عذار الإيمان ما لا مزيد عليه فنسبة الكفر إليهم غير جائزة قطعا سواء أردنا معناه الحقيقي أو التحميس، كما قاله بعض أتباعهم وسواء أردنا كفر البعض أو أردنا كفرا دون كفر الذي ترجم له البخاري، كما قاله صاحب المنار فعبارته مؤاخذ بها ولا ينفي شؤم المؤاخذة عنه جواب من أجاب عنه من شيعته، بل من أجاب عنه يعد مبرئا له في الظاهر ومنتصرا له في الباطن؛ لأن المذهب واحد فيكون شريكه في جريمته الشنعاء.

(قوله) حيث قال: يبعث الله إلى قوله: المبطلين هو من تحريف الغالين وانتحال المبطلين؛ لأن حديثا ورد عن النبي (1) بهذه الصورة لم يكن قطعا قوله: وحجروا على رب العالمين إلى قوله: مجتهد.

(كذب واعتداء) فالكذب إخباره بأنهم حجروا على الله، ومن يقدر أن يحجر على الله، بل موقنون بأنه فاعل مختار في قدرته أن يؤهل من شاء للاجتهاد

(1) قوله بهذه الصورة

إلخ، ورواية الماوردي في أدب الدنيا والدين في باب أدب العلم ما نصها قال: وروى معاذ بن رفاعة عن إبراهيم بن عبد الرحمن العدوي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين

ص: 113

المطلق في أي زمان ومكان شاء غاية ما عندهم أنهم يقولون (1) لم يوجد بعد تقرر المذاهب الأربعة من توفرت فيه شروط الاجتهاد المقررة عندهم، وإنما يوجد دجالون أصحاب دعاوى باطلة لا يتبعهم إلا رعاع الناس ولا تمضي مدة يسيرة حتى ينقطع أثرهم، كما أن كثيرا ادعى المهدية لوجود آثار تنص على ظهور الفاطمي في آخر الزمان، وكذلك سمى كثير من العرب أبناءهم محمدا طمعا في أنه يكون رسول آخر الزمان، وذلك لما أخبرتهم أحبار اليهود بأن رسول آخر الزمان يسمى محمدا حان أوان ظهوره، ولكن الله أعلم حيث يجعل رسالاته، فمثل ما عليه المدعون زبد، وما عليه الأربعة ما ينفع الناس وقد أخبر الله تعالى بحكم القسمين في كتابه تعالى فقال عز من قائل {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} الآية، ولا يلزم أن يكون المجدد الذي أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مجتهدا مطلقا، بل يصح أن يكون مجتهدا في الفتوى وسنبين الفرق بينهما وهذا هو المتعين؛ لأن الذين قيل في حقهم أنهم مجددون كابن عرفة المالكي لم يكونوا مجتهدين اجتهادا مطلقا، وإنما كانوا مجتهدين اجتهاد الفتوى وبهم انتفع الناس وارتفع كعب العلم، انظر تراجمهم تجد الحقيقة كما ذكرت لك والاعتداء تطاوله على مقام الأبرياء من دعواه الكاذبة

(1) قوله لم يوجد

إلخ، ودليل ذلك عدم الوقوع {قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين} وأما دعوى لو نشاء لقلنا مثل هذا فهي من أدلة العجز نعم إنهم إن جروا على القول بتجزئي الاجتهاد المطلق أمكنهم ذلك، ولو في مسائل جزئية يتبعون فيها الظن وما تهوى الأنفس إذ هم في زمان من لم يخف الله فيه يفعل ما أراد ولو اتخذ من دون الله الأنداد

ص: 114

الشنعاء الشوهاء فيا غارة الله خذي واستأصلي كل مارق مبتدع مفتون سولت له نفسه استحسان القبيح واستقباح الحسن حتى رأى الحلك +بلجا اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا ولا تجعلنا عرضة لأوليائك وأحبابك وانفعنا بهم، وهذه الطائفة التي منها هذا الرجل يستسهلون التكفير بدون موجبه المعتبر عند أهل الشرع حتى كفروا من يزور القبور، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام معهم في ذلك بما يسر المطلع على كتابنا هذا.

(قوله) حتى آل بهم التعصب إلى أن أحدهم إذا ورد عليه شيء من الكتاب أو السنة الثابتة على خلافه يجتهد في دفعه بكل سبيل من التأويل البعيدة نصرة لمذهبه ولقوله.

(أقول) لا ضرر في ذلك التعصب حسبما أقرر لك، وذلك أن المقلد لا قدرة له على مدرك الأحكام من الكتاب أو السنة ولو اطلع على الناسخ والمنسوخ والعام والخاص والمطلق والمقيد وغير ذلك مما يتعلق بالكتاب والسنة لاختصاص المجتهد بتوفيق زيادة عما ذكر لم ينله غيره، فعدم قبوله لما ورد من الكتاب والسنة إنما هو من هذه الحيثية، وأما لو حصل له العلم بأن ما أورد عليه هو الحكم وأن ما عنده من حكم مذهبه ليس بالحكم الحق لوجب عليه قبوله ولو فرض أنه رده بعد حصول العلم لكفر قطعا بلا تردد، وفي هذه الحالة ليس بمقلد، وأهل هذه الطائفة الزائغة يشنشنون ويطنطنون بعبارات توهم من لم يجلس أمام الشيوخ الراسخين الغواصين على الدر في معادنه أنهم على حق، وأنهم دعاة للخير وأنهم مصلحون كما سموا أنفسهم بذلك كلا كلا ورب البيت ما هم بمحقين ولا دعاة للخير ولا مصلحين، ونقيض القضايا الثلاث هو المتحقق فيهم في الواقع ونفس الأمر يعلم الله ذلك منهم وأهل الخبرة

ص: 115

بهم.

(قوله) ثم تفاقم الأمر حتى صار الكثير منهم لا يرون الاشتغال بعلوم القرآن والحديث ويرون أن ما هم عليه هو الذي ينبغي المواظبة عليه فبدلوا بالطيب خبيثا وبالحق باطلا واشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين.

(فيه تفصيل) أما قوله: حتى صار الكثير إلى قوله: والحديث (فهو) كذلك لكن على وجه حسن ممدوح وهو أنهم لا يرون الاشتغال بهما من حيث أخذ الأحكام منهما لعجزهم عن ذلك، لما تقرر سابقا ويأتي أيضا إن شاء الله تعالى، وأما الاشتغال بهما من حيث تأييد الأحكام المقررة المأخوذة عن أئمتهم فلم ينقطع، ومن حيث التبرك بهما لاستنارة القلوب بسماعهما فلم ينقطع أيضا، ومدعي الانقطاع يكذب بالمشاهدة أعني في زمان هذا القائل، نعم قد تنازل ذلك جدا في زماننا نحن، لكن لا خصوصية لعلم الكتاب والسنة، بل تنازل أيضا الاشتغال بسائر العلوم النقلية وكثير من العلوم العقلية، بل كاد يتلاشى القسم الأول إنا لله وإنا إليه راجعون.

(وأما قوله) ويرون أن ما هم عليه إلى قوله عليه فهو كذلك وينبغي في كلامه بمعنى يجب؛ لأنه يجب على كل مكلف أن يعلم حكم ما كلف به من عبادات ومعاملات إن احتاج إلى ذلك، والأحكام قد قررت وسطرت فلا يحتاج المكلف العاجز عن الاجتهاد إلا إلى تناول الأحكام من أفواه المشايخ أو بطون الكتب المعول عليها إن كان فيه قابلية لذلك، فهم على صراط مستقيم وحق بين وطيب مأخوذ من أصول طيبة وهدي كامل وتجارتهم رابحة وما خسروا ألبتة إن عملوا بما سطر لهم، فما بدلوا طيبا بخبيث ولا حقا بباطل وما اشتروا ضلالة بهدى وربحت تجارتهم وكانوا مهتدين.

(فقوله) فبدلوا بالطيب

ص: 116

إلى قوله وما كانوا مهتدين قول أفاك أثيم ظالم لنفسه ولغيره بما ارتكبه من الجرم العظيم من وصف المسلمين بصفات الكافرين، فالله تعالى يجازي بعدله قائل هذا الكلام، وكل من أصغى إليه سمعه واستحسنه شر جزاء دنيا وأخرى.

(قوله) ثم نبغ آخرون صارت عقيدتهم في الاشتغال بعلوم الأصلين يرون أن الأولى من الاقتصار على نكت خلافية وضعوها وأشكال منطقية ألفوها.

(غير مرتبط) معناه حتى يصح الكلام معه بإثبات أو رد ولعل في العبارة سقطا.

(قوله) وقال عمر بن الخطاب: اتهموا الرأي على الدين، وقال سهل بن حبيب: اتقوا الرأي في دينكم، وقال عبد الله بن مسعود: يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم فيهدم الإسلام صدق بالنسبة لمن يقيس برأيه مع وجود النص وبالنسبة لغير المتأهل للقياس، وأما إذا استوفيت شروط القياس فلا بأس به كما تقدم وإن أراد بهذا النقل عدم التقليد فيرد عليه بنقله هو نفسه السابق عن الصحابة راجعه إن شئت، وحاصل ما تقدم له إجمالا هو أن الصحابة كانوا يقولون لمن استفتاهم: أوقع ذلك؟ فإن قال: نعم أفتوه بما عندهم من النص من الكتاب والسنة، وإذا لم يكن لديهم نص في المسألة من الكتاب أو السنة اجتهدوا له برأيهم، وإن قال: لم يقع قالوا: له دعه

إلخ ما تقدم، فيا للعجب ممن يناقض نفسه بنفسه مع كونه يشار له بالبنان عند العامة والداعي لتعظيم العامة، والطلبة الذين هم في عداد العامة لأمثال هؤلاء أحد أمور أن يكون ذا سلطة أو طلاقة لسان مع عذوبة ألفاظ أو حسن تركيب للألفاظ كتابة وإنشاء، وأعظمها إذا اجتمعت فيه الثالثة فمن حصل له واحد مما تقدم أو الكل فقوله هو القول الفصل

ص: 117

ولو كان مختل المعنى عقيم النتيجة متناقض القضايا ولو كانت أخباره كاذبة؛ لأنهم أخذوها على صيته ومدح الكثير له، وهذا النوع هو الغالب في زماننا؛ لأنهم لا يفرقون بين الغث والسمين، ولا بين ذي الورم وذي الشحم، بل عندهم كل بيضاء شحمة وكل سوداء فحمة، والواقع ليس كذلك نسأل الله تعالى أن يلهمنا وإياهم رشدنا، وأن يرجعنا وإياهم إلى الحق وإلى طريق مستقيم.

(قوله) ما عبدت الشمس والقمر إلا بالرأي إلى آخر كلامه فيه تحذير عن القياس المعبر عنه بالرأي وتشنيع عن القائلين به والآخذين به، وقد تقدم لنا بيان القياس المذموم والقياس الممدوح فلا تغفل ولا تغتر بتهويله وتقريعه فإن ارتكاب ذلك مع عدم تحرير المناط يعد سفسطة وتمويها، وشأن هذه الطائفة ارتكاب ذلك كثيرا نسأل الله تعالى أن يوفقنا وإياهم لاتباع سنن الهدى بمنه وفضله آمين.

(مبحث في الاجتهاد والتقليد) وذكر عبارة ابن حزم الموعود بها آنفا قال العلامة ابن حزم: مسألة دين الإسلام: الإسلام اللازم لكل أحد لا يؤخذ إلا من القرآن أو مما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رواية جميع الأمة عنه عليه الصلاة والسلام وهو الإجماع، وإما بنقل جماعته عنه عليه الصلاة والسلام وهو نقل الكافة وإما برواية الثقات واحد عن واحد حتى يبلغ إليه عليه السلام ولا مزيد.

(مسألة) الموقوف والمرسل لا تقوم بهما حجة، وكذلك ما لم يروه إلا من لا يوثق بدينه وبحفظه ولا يحل ترك ما جاء في القرآن أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول صاحب أو غيره، سواء كان هو راوي الحديث أو لم يكن، والمرسل هو ما كان بين أحد رواته أو بين الراوي وبين النبي صلى الله عليه وسلم من لا يعرف، والموقوف هو ما لم يبلغ به إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلى

ص: 118

أن قال: (مسألة) والواجب إذا اختلف الناس أو نازع واحد في مسألة أن يرجع إلى القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا إلى شيء غيرهما، ولا يجوز الرجوع إلى عمل أهل المدينة ولا غيرهم.

(مسألة) ولا يحل القول بالقياس في الدين ولا بالرأي؛ لأن أمر الله تعالى عند التنازع بالرد إلى كتابه وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم قد صح، فمن رد إلى قياس وإلى تعليل يدعيه أو إلى رأي فقد خالف أمر الله تعالى المعلق بالإيمان، ورد إلى غير من أمر الله تعالى بالرد إليه وفي هذا ما فيه إلى أن قال:(مسألة) ولا يحل لأحد أن يقلد أحدا لا حيا ولا ميتا، وعلى كل أحد من الاجتهاد بحسب طاقته فمن يسأل عن دينه، فإنما يريد معرفة ما ألزمه الله عز وجل في هذا الدين، ففرض عليه إن كان أجهل البرية أن يسأل عن أعلم أهل موضعه بالدين الذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فإذا دل عليه سأله فإذا أفتاه قال له: هكذا قال الله عز وجل ورسوله؟ فإن قال له: نعم، أخذ بذلك وعمل به أبدا، فإن قال له: هذا رأيي أو هذا قياس أو هذا قول فلان وذكر له صاحبا أو تابعا أو فقيها قديما أو حديثا أو سكت أو انتهره أو قال له: لا أدري فلا يحل له أن يأخذ بقوله، ولكن يسأل غيره اهـ. محل الحاجة منه وهي نبذة صغيرة من أصول الفقه ولا حاجة لنا بتتبع ما قال؛ لأن ما تقدم لنا يفيد إبطال ما قرره وسيأتي إن شاء الله تعالى ما يفيد عدم التعويل على ما قال.

(نعم) الرأي الذي يراه الحاكم صوابا من غير استناد في الشريعة إلى شيء كالقوانين المدونة الآن وقبل الآن مما لم يشهد لها الشرع بالصحة، بل ربما تكون مباينة للشرع الشريف تمام المباينة فهذا لا يقع بين أفراد المسلمين خلاف في تحريمه، بل مرتكبه

ص: 119

الأول آثم وكل من أخذ به مثله، وعلى الأول مثل ما على الآخذ بدون أن ينقص من الآخذ شيئا ودليله: ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، وأي وزر أعظم من جعل شرع جديد نعوذ بالله من غضب الله، وفي هذا القدر كفاية لمن له علم ودراية.

(في الجزء الخامس عشر) في صفحة 183 الاجتهاد والتقليد إن رعاع الفقهاء وضعفة الطلبة يخيل إليهم أن النظر في مسائل الشرع انسدت طرقه وعميت مسائله وأن الغاية القصوى عندهم أن يسأل واحد منهم عن مسألة فيقول فيها وجهان أو قولان، وقال الشافعي في القديم كذا وفي الجديد كذا وقال أبو حنيفة كذا وقال مالك كذا، ويرى أنه علم قد أبرزه وتراهم أبدا يقدحون في المجتهدين ويجادلون الطالبين ويحثون على تحصيل الأم للشافعي ولباب المحاملي وغير ذلك من الكتب المبسوطة، حتى إذا وقعت واقعة كشف الكتاب فإذا رأى المسألة مسطرة حكم بها وإن رأى مسألة أخرى فزعم أنها تشابهها حكم بحكم تلك المسألة فهم حشوية في الفروع، كما أن المشبهة حشوية في الأصول والعجب أنهم لا يقنعون بقصورهم حتى يضيقوا القصور إلى من سبق من الأئمة، ويقول بعضهم ما بقي بعد الشافعي مجتهد، ويقول آخر ما بقي بعد ابن سريج مجتهد فانظروا إلى قدح هؤلاء في الأئمة المبرزين وأنهم كانوا يقدمون على ما لا يعلمون فإن الأئمة ما زالوا في جميع الأقطار يراجعون في الفتاوى ويفتون باجتهادهم مع اختلاف أصنافهم، كالمعروفين بنشر مذهب الشافعي كأبي إسحاق صاحب المذهب وأشياخه من أئمة العراق كلهم مبرزون مفتون، وكذلك أئمة خراسان كإمام الحرمين وأشياخه وتلاميذه كأبي حامد الغزالي والكياء

ص: 120

والخوافي وكذلك أتباعهم كمحمد بن يحيي ومن كان في درجته من أصحاب الغزالي وكلهم طبقت فتاويهم وجه الأرض مع صريح من فقه الشافعي، ومن تأمل فتاويهم رأى ما ذكرناه، وكذلك الأئمة المشهورون في مذهب مالك وأبي حنيفة لم يزالوا يفتون ويجتهدون في جميع الأقطار، والمناكرة في ذلك مكابرة.

(أقول) بحول الله تعالى في شأن هذا القائل ويشاركه في الحكم الناقل من حيث إقراره على ذلك، والسكوت عنه إنه ارتكب أمورا فظيعة تزري بصاحبها وتضع مقامه بين العقلاء.

(منها) بشاعة التعبير بقوله رعاع الفقهاء مع أن الذين قال في حقهم ذلك هم ساداته بلا نزاع وهو الأحق بذلك الوصف.

(ومنها) استغرابه قولهم انسدت طرقه وعميت مسائله، ولا غرابة في ذلك أبدا حيث إنهم يريدون بقولهم: أن المجتهد المطلق الذي وظيفته البحث في طرق الاستدلال ومسالكه فقد بعد الأربعة فبفقده عطلت تلك المعاهد عن أخذ الأحكام منها لعدم المتأهل، وعبروا عن تعطيلها بقولهم انسدت وعميت ولا حرج في المجاز.

(ومنها) ازدراؤه بالأمر العظيم بالنسبة لهم وله أيضا بقوله: وإن الغاية القصوى إلى قوله: ويرى أنه علم قد أبرزه.

(أقول) إن من كان من المقلدين وأحاط بأقوال أهل مذهب أو أقوال أهل مذاهب مخالفة يستحق مدحا لا مدح يفوقه، بأنه أبرز علما ليس عند غيره من حيث الإحاطة بذلك.

(ومنها) ادعاؤه عليهم بدعوى باطلة لا يستطيع إثباتها بقوله: وتراهم يقدحون في المجتهدين ويجادلون الطالبين، فغاية ما يوجد عندهم رد دعوى مدعي الاجتهاد، وليس معه من العلم ما يصدق دعواه، كما حصل الرد لمدعي النبوة إن لم يكن

ص: 121

معه ما يؤيد نبوته.

(ومنها) استهتاره بالأمر العظيم بالنسبة للمقلد أيضا بقوله: ويحثون على تحصيل الأم للشافعي إلى قوله: حكم بها مع أن الذي لم يره هو شيئا هو المطلوب من المقلد حسبما نبين لك إن شاء الله تعالى نعوذ بالله من العمى أو التعامي عن الحق.

(ومنها) قوله: وأن رأى مسألة إلى قوله: حشوية في الأصول وهذه من قبيل ما قبلها مع قلة الحياء في التعبير فالله حسبه.

(ومنها) استعجابه مما لا سبب للعجب فيه بقوله: والعجب إلى قوله: المبرزين إذ هم معترفون بعجزهم عن مرتبة الاجتهاد المطلق، ومن اعترف بوصفه ولم يدع ما فوق مقامه كدعوى هذا القائل يمدح ولا يذم فذمه من البهتان، فقولهم: ما بقي بعد الشافعي مجتهد اجتهادا مطلقا يعنون من أصحابه فهذا حق وصدق، وليس فيه نسبه القصور لمن سبق، بل هو إخبار بالواقع وهذا الرجل ومن كان على شاكلته يطلقون كثيرا مادة الاجتهاد ويطنطنون بها في كتبهم ومحاضراتهم ودروسهم، ويوهمون بها الضعفاء الذين لا علم عندهم يميزون به أنواع المجتهدين.

(فهاك) بيان أنواع المجتهدين على سبيل الإجمال حتى يتبين لك بطلان طقطقة هؤلاء الغاوين لأمة المسلمين أنواعهم ثلاثة كما ذكرهم الجماعة.

(مجتهد مطلق) وظيفته بذل وسعه في استنباط الأحكام الفرعية الظنية من أصولها اليقينية كالكتاب والسنة والإجماع والحكم بالنسبة له وجوب الاجتهاد عليه، وحرمة التقليد، علامته المعتبرة الإحاطة بأحكام الكتاب والسنة من ناسخ ومنسوخ

إلخ، ومعرفته مواقع الإجماع؛ لئلا يخرقه، والإحاطة بأسرار اللغة العربية والمهارة فيما يحتاج إليه المستدل، انظر تمام ما يتعلق به في كتب الأصول وهذا النوع هو الذي عز وجوده بعد

ص: 122

استقرار المذاهب الأربعة وهو المراد لمن يقول: ليس بعد الشافعي مجتهد حسبما تقرر فلا غبار على قائل ذلك.

(مجتهد مذهب) وهذا مرتبته أقل من مرتبة سابقة إلا أنه قريب منه، وظيفته بذل وسعه في إخراج المسائل الجزئية الواردة عليه تحت قواعد إمامه، وله الاستدلال بالحديث مثلا على بعضها إن لم يمكنه إدراجها ولا يخرجه ذلك عن درجة التقليد، وهذا النوع كأبي يوسف ومحمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة، وكابن القاسم وأشهب من أصحاب مالك، والمزني والبويطي من أصحاب الشافعي ونحوهم من أصحاب أحمد رضي الله عنهم أجمعين وعنا بهم.

(مجتهد فتوى) وهذا النوع كثير جدا في جميع المذاهب الأربعة وظيفته ترجيح أحد القولين أو الأقوال بمرجح معتبر عندهم وتعزيز أقوال مذهبه بالأحاديث والآيات مثلا؛ لأنه يستنبط منها أحكاما، بل هو ممنوع من ذلك لقصور باعه عن ذلك حسبما أذكره لك من نصوص الأئمة أهل الدين على ذلك، ومن أهله الله للاستنباط فليس بمقلد ولا كلام لنا معه، وأما من يقول إمامي الشافعي ويستنبط الأحكام المخالفة لمذهبه فهذا يؤف ويرد ما استنبطه عليه ولا يقبل منه صرف ولا عدل حيث تعدى طوره، وعلامته سعة اطلاعه على أقوال أهل مذهبه وإحاطته بقواعد المذهب وجودة فطنته في إدراك القوى من الضعيف إلى غير ذلك مما وصفوه به والحكم بالنسبة له ولمجتهد المذهب وجوب التقليد، ومنها إيهامه الواقفين على كلامه أنه محق في كلامه، والواقع ليس كذلك حيث لم يبين ماهية المجتهد الذي يثبته هو وينفيه غيره، فإن تواردا على ذات واحدة بأن يراد به المجتهد المطلق صدقنا غيره وكذبناه لما علمت سابقا وفي حكمه مجتهد المذهب، وإن تواردا

ص: 123

على مجتهد الفتوى فلم ينفه أحد للعلم به تواترا، وكتب المذاهب مشحونة بذلك ودعواه عليهم بقوله: وأنهم كانوا يقدمون على ما لا يعلمون إلى قوله والمناكرة في ذلك مكابرة باطلة.

(لأني أقول) بعون الله تعالى إن هذا القائل والناقل ومن سار سيرهم ممن يريد المناصب العالية يرتكبون كثيرا مادة الاجتهاد من غير تمييز بين أنواعها كما تقدم، ويضيفون إلى ذلك تنقيص من نفى الاجتهاد في القرون الأخيرة ومرادهم المطلق من حيث وقوعه، وأما الجواز العقلي فلا سبيل إلى نفيه، وإنما تشبثوا بما ذكر ليتم لهم غرضهم الفاسد من ظهور العالمية التي لا يناظرون فيها، وهى دعوى الاجتهاد والاستدلال؛ لأن المقلد لا يمكنه أن يناظر مجتهدا للفرق الظاهر بينهما، وأما لو استمروا على التقليد وأفتوا في قضية بغير حكم الله، لأمكن الغير أن يرد عليهم خطأهم بنصوص أهل المذهب فيضطرون للرجوع عن الخطأ أو يقام عليهم النكير في المحافل، وانظر الفذلكة التي جعلها صاحب المنار مع من جرى بينه وبينه كلام في مسألة في آخر ورقة من المجلد الرابع عشر، وختمها بقوله: فعليه أن يعذر من يتبع نص الكتاب والسنة إذ هو أحق بأن يعذر والسلام.

(أقول) يحق لي أن أتمثل بقول القائل:

لقد هزلت حتى بدا من هزالها

كلاها وحتى سامها كل مفلس

والظن القوي عندي أن بقية المذاهب يوافقون ما قاله المالكية في شأن المقلد قال حجازي على المجموع عند قول الأمير في تضمين المفتي: المقلد إذا أخطأ في فتواه قال؛ لأنه لا يجوز له أن يفتي برأيه ويخالف نص الرواية ويقيس على أصل ثابت بالكتاب أو السنة أو الإجماع فإن هذا لا يكون للمجتهد، وأما إخراج جزئية من نصوص كلية أو إلحاق مسألة بنظيرتها مما نص

ص: 124

عليه المجتهد بعد إطلاع المقلد على مأخذه فيها أو تخريج قول من أقوال الإمام في مسألة بقياسه على قوله في مسألة أخرى تماثلها ولم يختلف قوله فيها بعد إطلاعه على المدرك فلا يمتنع على المقلد، كما قاله ابن مرزوق، وفي نوازل جنائز +الميعار من جواب لمؤلفه ردا على الإمام البقني لما استدل على عدم جواز تغطية النساء في النعش بالحرير بقوله صلى الله عليه وسلم:"كل عمل ليس عليه عملنا فهو رد"، ما نصه نص الأئمة المحققون من علمائنا رضي الله عنهم وأرضاهم على أن المقلد الصرف مثلي ومثل من اشتملت عليه هذه الأوصاف، وأكبر منا طبقة وأعلى منزلة وأطول يدا ممنوع من الاستدلال بالحديث، وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، بل ذلك عندهم من الأوليات قالوا، وإنما يستعظم عدم استدلال المقلد بذلك ويشنع القول فيه الجهال، حتى نقل أبو بكر بن خيران على تحريمه إجماع الأئمة، ونقل العلامة كنون في حاشيته على الشيخ عبد الباقي الزرقاني رحمهم الله ورحمنا بهم عند قول خليل رحمه الله فحكم بقول مقلده، قلت: قول البناني لا يحكم إلا بمشهور المذاهب

إلخ، قال المازري رحمه الله تعالى: لست ممن يحمل الناس على غير المعروف المشهور من مذهب مالك وأصحابه؛ لأن الورع قد قل والتحفظ على الديانات كذلك وكثرت الشهوات، وكثر من يدعي العلم ويتجاسر على الفتيا، ولو فتح لهم باب مخالفة المذهب لاتسع الخرق على الراقع وهتكوا حجاب هيبة المذهب وهو من المفسدات التي لا خفاء بها ا. هـ.

نقله الشيخ أبو إسحق الشاطبي في الموافقات، ثم قال: فانظر كيف لم يستجز وهو المتفق على إمامته الفتوى بغير مشهور المذهب ولا بغير ما عرف منه بناء على قاعدة مصلحة ضرورية، إذ قل الورع والديانة

ص: 125

في كثير ممن ينتصب لبث العلوم والفتوى، ولو فتح لهم هذا الباب لانفسخت عرى المذهب، بل جميع عرى المذاهب؛ لأن ما وجب للشيء وجب لمثله ا. هـ.

وذكر ابن فرحون أن المازري بلغ درجة الاجتهاد وما أفتى قط بغير المشهور وعاش 83 سنة ا. هـ.

وكذا وصفه ببلوغ درجة الاجتهاد تلميذه بالإجازة أبو الفضل عياض في كتاب الغنية ا. هـ وقد توفي المازري رحمه الله تعالى سنة 536، أقول وبالله أستعين: إذا كنت أيها الناظر في كلام هذا الإمام، وفي زمن مقاله لهذا الكلام وفي وصف أهله بما ذكره وكنت ذا بصيرة ودين خاليا من التعصب لزيد أو عمرو (1) ونظرت

(1) قوله ونظرت

إلخ، لو أدرك رحمه الله أهل زمان سنة 1340 فما كانت خشيته السابقة قاصرة على هتك حجاب مذهب أو مذاهب، بل حجاب هيبة الإسلام كله، وهاهم آخذون في ذلك بلا توقف على فتوى؛ إذ ليس غرض هؤلاء الذين أضلهم الله على علم في تأهيلهم كل طالب للاجتهاد المطلق الذي ليس لهم من معداته إلا التشدق وآلة الوزير

من آلة الدست لم يعط الوزير سوى

تحريك لحيته في حال إيماء

فهو الوزير ولا أزر يشد به

مثل العروض له بحر بلا ماء

أن يجعلوا للناس في مسائل الدين من كل ضيق فرجا، لو فرض أنه تعالى أبقى لهم في ذلك حرجا، بل مرادهم فتح باب للعامة كي تدخل منه الخاصة، فهم يحسون تحت الرغوة وفيما يحاولونه لصوص، وقضيتهم من العام المراد به الخصوص، فإذا تمكنوا من الدخول انقطعت عنهم الألسن، فساغ لهم حينئذ تعديل هذا الدين الذي أهمل تعديله الأقدمون ويزيلون عنه هذا الاستبداد الذي جعله فيه رب العباد على حسب ما يزعمون الحائل بينهم وبين ما يشتهون ويصبحون إذ ذاك في حرية، ويحصل التساوي مع جميع أهل الأديان ذكرانهم وإناثهم في كل جزئية ويستحسنه إذ ذاك حتى غير أهله الذين عندهم عليهم المعول وزالت عنه صبغة الطراز الأول النائي عن الحضارة وما شاكل هذا من سماجة العبارة، فيصبحوا بذلك أهل تقدم ومدنية ومنشأ هذا كله البلادة البهيمية حيث لم يستضعفوا إلا الدين كأنه ما كان إلا أهلك آباءهم الأولين واتبعهم الآخرين هيهات هيهات أحياء كأموات

فما تنال بغير السيف منزلة

ولا ترد صدود الخيل بالكتب

وليست تلك إلا دسائس كل خبيث النفس من الجن والإنس ولعلها مسيحية؛ لأنهم يقولون: ما دام هذا الكتاب واستناد هذا الدين إليه بين أظهرهم لا تنامون نومة هنيئة، ولكن أولئك عنها مبعدون وحيل بينهم وبين ما يشتهون

فيا دارها بالخيف إن مزارها

قريب ولكن دون ذلك أهوال

قال تعالى {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فلم يجعل حفظه لهؤلاء الرعاع كما وكل حفظ التوراة لرؤوس ذوي هلع وأطماع، حيث قال:{بما استحفظوا عليه من كتاب الله} فلذا ضيعوه وحرفوه وبدلوه ولست أرى لهؤلاء مثلا إلا الشعراء الذين اتبعهم الغاوون الذين هم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون، على أنهم ما تركوا من تقاليدهم شيئا إلا ما كان محمودا وسواء في ذلك صغيرهم وكبيرهم أنثاهم وذكرهم، ولولا خشية التطويل لذكرت لك منها كثيرا مع التفصيل ولكن لاشتهارها تركناها إذ لا يخلو منها قطر وإن اختلفت فروعها لا تختلف أصولها ولم يكتف من قلدهم في خبثهم ببقائه على أصل ما هم عليه، بل يتنوع فيه بأصناف من القبائح وشهرة وفضائح، وسرت هذه التقاليد حتى لعلماء الإسلام ومصابيح الظلام

بالملح نصلح ما يخشى تغيره

فكيف بالملح إن حلت به الغير

فالعالم إن لم يكن عصريا يجري في تعاليمه على الطريقة الأوروبوية أو الأمريكانية لم يكن من ذوي المنزلة السنية، تسليما لمن بيده الهدى {من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا}

فآجرك الإله على مريض

بعثت به إلى عيسى طبيبا

فعلى العاقل أن يريح نفسه من عناء تعب القلب في استصلاحهم

وإن عناء أن تفهم جاهلا

ويحسب جهلا أنه منك أعلم

متى يبلغ البنيان يوما تمامه

إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم

وحكمنا هذا، إنما هو على المجموع لا الجميع؛ إذ الخير لا ينقطع من هذه الأمة

ص: 126

إلى زماننا وما عليه أهله والمدة بيننا وبين وفاة المازري 801 سنة لكنا نصف أهل زماننا بأقبح وأشنع مما وصف به المازري أهل زمانه، ولم يجز لهم الفتوى

ص: 127

بغير المشهور فانظر يا أخي بين مقامه ومقام من يأمر بالاجتهاد المؤدي في زماننا إلى نقض قواعد الدين مرة فضلا عن عرى مذهب، وإن كانت عرى المذهب دينا لو أمعنت نظرك حق الإمعان ووجدت من يأمر صغار الطلبة بالاجتهاد، بل سرى ذلك إلى العامة فلا يتكلم أحد منهم إلا بقوله قال الله في كتابه وقال رسول الله كذا، ويكون الحديث أو الآية في جهة ومقصده في جهة أخرى، لأدركت بعريكتك السليمة أن هؤلاء أعداء الدين وأهله نسأل الله تعالى أن يحفظ علينا ديننا بمنه تعالى.

(فإن قلت) أن الأستاذ الشيخ محمد عبده أنكر هذا القول الذي ذكرته في شأن المقلد وتوعده بلحوق الجزاء العظيم يوم القيامة بقوله في تفسير جزء سيقول السفهاء في صفحة 89: ثم جاء من العلماء المقلدين في القرون الوسطى

ص: 128

من جعل قول المفتي للعامي بمنزلة الدليل مع قولهم بأنه لو بلغه الحديث فعمل به كان كذلك أو أولى، ثم خلف خلف أغرق في التقليد فمنعوا كل الناس من أخذ أي حكم من الكتاب أو السنة وعدوا من يحاول فهمهما زائغا، وهذا غاية الخذلان وعداوة الدين، وقد تبعه الناس في ذلك فكانوا لهم أندادا من دون الله وسيتبرأ بعضهم من بعض كما أخبر الله.

أقول: إن كلامه إذا وزنته وقابلته بما تقدم أدركت طويته إن كنت ذا بصيرة ومع ذلك هو تابع لابن حزم فلا يعول على الجميع من كان ذا علم، والشيخ المذكور لا يسلم له أهل عصره في كل ما يدعيه، إنما تبعته شرذمة سقوا معه من عين واحدة، وسلكوا طريقا غير طريق الجماعة، فتكلموا في تفسير كتاب الله وفي سنة رسول الله على الأسلوب الجديد المخترع المؤيد بالتحسين العقلي وبالآلات الكشافية فكشف ذلك الغطاء عنهم، فأحلوا ما حرم كتابا وسنة وإجماعا حسبما نذكر لك بعضا منه، وكذبوا على فقهاء المسلمين كقول صاحب المنار: لم يرد نص من الأئمة الأربعة على تحريم آلات اللهو والغناء معها كما تقدم، وازدروا بمن يجب تعظيمه شرعا وعظموا من لا يستحق التعظيم، يعرف ذلك منهم من خالطهم وكان ذا دين، وأقول أيضا: إنما حظر العلماء المقلد من أن يأخذ الأحكام من الأدلة الشرعية وألزموه باتباع أقوال إمامه خوف ضلاله في نفسه وإضلاله لغيره، فتبعهم على قولهم من كان ذا دين وكان يخاف من عقاب الله تعالى، وخالفهم في ذلك من له حظ نفساني ويرى أن الاجتهاد ممكن لكل أحد وأن من اجتهد ممن مضى رجال ونحن رجال بل نحن أولى منهم بالاجتهاد من حيث تيسر أسبابه، وضل عنهم التوفيق لمن مضى دونهم

ص: 129

والتشبث بالدين وخوف الله تعالى والعلم الحقيقي الذي أخذوه عن أهله واستمروا على تحصيله إلى أن أهلهم الله تعالى وجعلهم قدوة لغيرهم، فاهتدى بهم الجم الغفير، وأما أهل الدعوى الباطلة فلم يستنشقوا شيئا من ذلك، وإنما استزلهم واستفزهم الشيطان وزينت لهم نفوسهم أعمالهم فرأوا الباطل حقا وتفرقوا في اجتهادهم وبحثوا في كتاب الله المنزه عن فهم القاصرين وأولوه تأويل الضالين المضلين، كأستاذهم في مسألة حل الميتة وأختيها التي نشرت على صفحات الجرائد، قال العلامة إبراهيم السمنودي المنصوري في رسالته المسماة بسيف أهل العدل على نحر من نازعوا في زماننا في تحريم ربا القرض والفضل في صفحة 4 بعد أن تكلم مع الجماعة الذين يحاولون إبراز القول بتحليل بعض أنواع الربا: ولكن مباحثهم لا تزال عقيمة ولم يجسر واحد منهم على البت بالحكم مخافة أن يرمى بالكفر فهم في خطبهم يحومون حول الموضوع حوما ولا يجابهونه مجابهة، مع أن المغفور له الشيخ محمد عبده تقدمهم في هذا السبيل وأفتى على قاعدة أن الله أراد بالناس اليسر لا العسر، وأن الفائدة غير الربا وأن الربا المحرم دينا هو الربا المحرم قانونا والمحسوب جناية ا. هـ.

وبالجملة يلزمنا اتباع السواد الأعظم ومن شذ شذ إلى النار

وهل أنا إلا من غزية إن غوت

غويت وإن ترشد غزية أرشد

وأيضا فما آباؤنا بأمن منه

علينا اللائي قد مهدوا الحجورا

ولا تعترض علينا أيها القارئ بأن هذه صفة الكفار المقلدين النازل فيهم قوله تعالى {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} لأنهم اتبعوهم بزعم ظهور الحق لهم من غير برهان ونحن اتبعناهم مع البرهان الساطع الذي لا يخفى

ص: 130

إلا على أعمى البصر والبصيرة، وحاصل ما في المقام أن عمدة هذه الطائفة المبيحة للاجتهاد من غير شرط من شروطه هو ابن حزم وكان آية في العلم، لكن به نزعة أخرته عن رتبة الكاملين، وكاد مذهبه الظاهري ينتشر في المغرب بواسطة أمير ذلك الإقليم أعني الأندلس، لولا رجال كالعلامة الباجي قيضهم الله تعالى للدين الحق ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين، فأزاحوا شكوك ذلك الأمير وأوهامه وأبدلوها بحق اليقين الذي عليه عصابة المسلمين واستتب الأمر على ذلك إلى وقتنا هذا والحمد لله رب العالمين، وبعض هذه الطائفة اجتهد فأداه اجتهاده إلى أن سبب تأخر المسلمين عن الأمم الراقية هو تمسكهم بهذا الدين، فلو ألقيت هذه العوائد لارتقوا كغيرهم، لكن دعواه الاجتهاد في هذا السبب أيضا كاذبة، بل هو مقلد في ذلك غير المسلمين القائل بهذا القول كما سنذكره لك إن شاء الله تعالى، وعارضه في القول آخر وقال: يا هذا لا تقل سبب تأخر المسلمين عن منصتهم العالية التي لم يبلغها غيرهم هو تمسكهم بالدين أظنك تسمع بلفظ الدين ولم تفقه له معنى ولا عانقته ولو مرة في عمرك (1) بل سبب

(1) قوله: بل سبب تأخرهم

إلخ، هذا قول حق لا مرية فيه والعيان أقوى برهان ألا ترى أفعال المسلمين أعني منهم الجم الغفير من مأمور وأمير أغلبها منابذة للشريعة، وإن نظرت إلى التآلف فيما بينهم وجدتهم في غاية من القطيعة، وأما حالة حكامنا فقد كنا أدركنا أواخرها وأخبرنا الآباء والتواريخ عما قبلها وما كانوا عليه من الاستبداد وإهلاك الحرث والنسل والفساد فكيف مع ما ذكر يتعجب من زوال ملكهم، بل العجب من عدم حلول الخسف بهم سأل بعض قواد المأمون أحد الزهاد كم تبقى هذه الدولة فينا فقال له: ما دام بساط العدل في هذا الإيوان إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فلذا سلط الله عليهم من أزال دولتهم وأخمد صولتهم حيث لم يحسنوا تدبير العباد والبلاد

أعطيت ملكا فلم أحسن سياسيته

وكل من لا يسوس الملك يخلعه

وسأل بعض ملوك الفرس حكيما ما صلاح الملك فقال: الرفق بالرعية وأخذ الحق منها بغير عنف، والتودد إليها بالعدل وأمن السبل وإنصاف المظلوم، وهذه كلها قام بها الغربيون فتقدموا وملكوا العباد والبلاد من غير كبير عناء ولا جهاد وهذه عادة الله مع الصلح في هذه الدار ولو كان من أعداء دينه الكفار، وقيل: إن الملك يدوم مع الكفر والعدل ما لا يدوم مع الإسلام والجور، وعليه قولهم العدل إذا دام عمر والجور إذا دام دمر، وما فرقوا في ذلك بين من جرى ذلك على يديه بإسلام أو كفر عدوا أو حبيبا، بل المدار على تنظيم أهل هذه الدار، وإن كان في الآخرة ماله من نصيب قال تعالى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ، وقال تعالى:{فذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} .

وفي الإبريز أن الكفار عليهم حفظة من الملائكة يديرون أمرهم منذ نشأوا إلى أن ينقرضوا وتجرى لهم على أيدي الأولياء الأمور التي بها بقاؤهم وداوم عيشتهم، ولا يجوز لعالم الملائكة أن يتصرف فيهم بما تطيقه قوته دونهم، وكذا الولي حتى إذا كان في صف القتال، فإنما يقاتلهم بما جرت به عادة القتال اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن قتالهم بغير ما في وسعهم خروج في الحقيقة عن عالم البشر وإن مكنه الله من أن يهلك في لحظة البرق ا. هـ.

ولهذا المحققون على أن مدد الملائكة له عليه الصلاة والسلام كان لتكثير سوادهم فقط {ولو شاء الله لانتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض} وبالجملة فما دام المسلمون راتعين في دمن السقوط لا يجدون وليا ولا نصيرا سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا، وكما قال جل شأنه في بني إسرائيل {وقضينا إلى بني إسرائيل} (أي أوحينا وأعلمنا){لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا} {فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباد لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا} {ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا} {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن سألتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا} {عسى ربكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا} أي ولمن عصى من المسلمين إن لم يتوبوا ولم يرحم رب العالمين، روي أن من عصاة المسلمين من يمكث في جهنم خمسين ألف سنة اللهم أجرنا من سخطك وعقابك بجاه أحبابك

ص: 131

تأخرهم هو إهمالهم لما أمروا به ولم يبق إلا بعض اسم من المسميات ولا يعود لهم شرفهم الأثيل حتى يراجعوا ما أمروا به.

(ودليل كل منهما على دعواه) أما الأول فدليله ما ذكر في كتاب النشوء والارتقاء في صفحة 367

ص: 132

لا يصلح الإنسان مجتمعا

ما دام فيه الدين والوطن

ولم يزل من علمه خطل

يضيع فيه العقل والزمن

محلقا في الغيب مختبلا

كأنما الغيب له عطن

إلخ ما ذكر راجعه إن شئت، وأما دليل الثاني فقوله صلى الله عليه وسلم: إذا فعلت أمتي خمسة عشرة خصلة حل بها البلاء إذا كان المغنم دولا، والأمانة مغنما، والزكاة مغرما، وأطاع الرجل زوجته وعق أمه، وبر صديقه وجفا أباه، وارتفعت الأصوات في المساجد، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأكرم الرجل مخافة شره، وشربت الخمور، ولبس الحرير، واتخذت القينات والمعازف، ولعن آخر هذه الأمة أولها، فليرتقبوا عند

ص: 133

ذلك ريحا حمراء أو خسفا أو مسخا وبعض آخر إلى أن المرأة المسلمة (1) كغيرها بحيث يكون لها الحق في الوظائف والانتخاب وحبس حريتها

(1) قوله: كغيرها

إلخ، أي من نساء الغربيين ليتم التوازي بين رجالنا ونسائنا فلا يتشبه الزوج دون امرأته؛ لأن ذلك هضم لحق الضعيف المنافي للحرية، وتمام ذلك أن تكون معه في تنزهاته ليتجمل بها عند إخوانه ويشاهد محاسنها جميع معارفه وخلانه، ليبرهنوا بذلك على ذهاب غيرتهم التي جعلت علامة الإيمان كحالة من تشبهوا بهم، وروى عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد لأبيه عن مالك بن دينار قال: أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل أن قل لقومك: لا تدخلوا مداخل أعدائي، ولا تلبسوا ملابس أعدائي، ولا تركبوا مراكب أعدائي، ولا تطعموا مطاعم أعدائي، فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي، وفي مسند أحمد من حديث عبد الله بن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعلت الذلة والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم ا. هـ.

وها أنت ترى صدق هذا الوعيد على غالب أهل هذا الزمان، بل أحوالهم تزيد عن أحوال أولئك المشتبه بهم في الفظاعة، فإن المسلمة في خروجها أربت على الغربية في هذه الخصال البذية؛ لأنك لا تكاد تفرق بين العفيفة من ضدها، بل تظن الكل من ذوات الخطأ بعكس ما عليه المشتبه بهن، فتظن الكل عفيفات، وأما بنات المدارس فحالتهن بلغ فيها السيل الزبى، والحزام الطيبين كنانئن من تعليم الرجال فيها الذين كمل الله عقولهم على النساء ورحلتهم لها إلى بلدان لا يسمعون فيها إلا بأهل الإسلام، ولا سكن لهم هناك إلا بشرط الاختلاط في العائلات كي يشاركونهم في المال والبنين والبنات فزادوا على ذلك البنات

تلك المصيبة أنست ما تقدمها

وما لما حل بالإسلام سلوان

لأنهم على ما جبلهن الله عليه من نقص العقل والدين فأي علم اقتبسه منها الرجال حتى يزاحمهم عليه بات الحجال

فقر الجهول بلا عقل إلى أدب

فقر الحمار بلا رأس إلى رسن

واللوم والتنكيل، إنما يتوجه للأولياء على أنهم ربما كانوا عند الناس من الأكابر والعلماء عميت منهم البصائر وخبثت منهم السرائر، كأنما قلوبهم قدت من حجر المسن فلا تميز بين القبيح والحسن

يقضى على المرء في أيام محنته

حتى يرى حسنا ما ليس بالحسن

وأي عاقل تطمئن نفسه عند غيبة محارمه عن بصره ولو بحاجز قليل، فكيف بمن تغيب عنه اليوم الطويل من غير أن يكون له رقيب عنها ولا كفيل، وقد قال بعض ذوي المروءة.

إذا بلغ الوليد لديك عشرا

فلا يدخل على الحرم الوليد

فإن خالفتني وأضعت نصحي

فأنت وإن رزقت جحي بليد

ألا إن النساء حبال غي

بهن يضيع الشرف التليد

ومن وصية علي بن أبي طالب لابنه محمد بن الحنفية رضي الله عنهما لا تملكن المرأة من الأمر ما يجاوز نفسها، فإن المرأة ريحانة وليست بقهرمانة، فإن ذلك أدوم لحالها وأرضى لبالها، واغضض بصرها بسترك واكففها بحجابك ا. هـ.

فكيف بمن يجهزها للمدارس على ما احتوت عليه من الأبالس هذا وعند انتهائها إلى الغاية تعطى على ذلك شهادة الدراية وقد ناف إذ ذاك سنها عن العشرين فتصبح حينئذ معلمة في بلد شاسع، احتف بها كل خطر

خلا لك الجو فبيضي واصفري

وتدعي إذ ذاك من أمهات المستقبل من الزمان وتصبح تلقي الخطب في المحافل وتتناظر مع الشبيبة العصرية وتساجل:

ما للنساء وللعما

له والكتابة والخطابة

هذا لنا ولهن منا

أن يبتن على جنابة

{أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى

أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} رب لا تذر على الأرض من أمثال هؤلاء ديارا إنك أن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا

ص: 134

والضغط عليها بإبقائها في البيت ظلم وهو مما يؤخر المسلمين عن غيرهم، ولا دليل عنده إلا اتباع غير سبيل المؤمنين فعارضه آخر وقال له يا هذا أظنك

ص: 135

نائيا عن الإسلام بعيدا عن انتشاق عبيقه يا مغرور بل يا جاهل بأحكام المسلمين التي أمرهم بها ربهم على لسان نبيهم، يا هذا المرأة وظيفتها إقامة حقوق ربها وحقوق زوجها في بيتها، وليس لها حظ ولا نصيب في مخالطة الأجانب منها، حظر ذلك عليها ربها ومنعها أن تبدي زينتها إلى غير بعلها وغير محرمها، ومن جملة المصائب الحالقة إدخال البنات للمدارس وتعليمهن ما لا ينبغي أن يعلمن، ضرب الله على قلوب بعض المسلمين وطبعها طبعا محكما حتى أذهب غيرته وشهامته ومروءته التي عليها أسلافه، حتى أن بعضهم ليترك زوجته تدير القهوة أو الشاي على الزائرين له وتحادثهم وهي شابة فارهة، بل ربما ضربت لهم بعض آلات اللهو وغنت لهم، أولئك هم الضالون، أولئك هم الخاسرون الذين خسروا دينهم ومروءتهم، فالمسلمة لا يحل لها أن تراها الأنثى الكافرة وتنزل في حقها منزلة الأجنبي الذكر فكيف بتبرجها للذكور بحضور ديوثها، لعن الله من كان هذا وصفه، دليل ما قاله المعارض أخرج عبد بن حميد وابن المنذر من طريق الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس في تفسير قوله تعالى {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ} أو نسائهن الآية، قال: هن المسلمات لا تبديه ليهودية ولا

ص: 136

لنصرانية وهو النحر والقرط والوشاح وما حوله، وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي في سننه وابن المنذر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي عبيدة: أما بعد فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك، فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها، وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن المرأة عورة، فإذا خرجت استشرفها الشيطان وأقرب ما تكون من ربها وهي في قعر بيتها، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه استعينوا على النساء بالعري إن إحداهن إذا كثرت ثيابها وحسنت زينتها أعجبها الخروج، وعن عائشة مرفوعا: لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة يعني النساء وعلموهن الغزل وسورة النور، وقال الشيخ زروق لما ذكر حديث البخاري في باب العلم والعظة بالليل وفي باب لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة ما نصه: فيجب أن لا تخرج إلا فيما لا ينظر إليه الرجال من ثياب مهنتها، ومرط من المروط التي لو ألقيت إلى كلب ما بولها، أو إلى ذئب ما نيبها إن كانت ممن يؤمن بالله واليوم الآخر، وقد صارت حالهن اليوم إلى أن لا تخرج إحداهن إلا في أحسن ثيابها وتستعير من جيرانها وتستعمل الروائح الطيبة وتنغنج في مشيتها، وعليها ما لو ألقي على عود لعشق، فهي متعرضة بذلك لمقت الله وغضبه، وكذلك من أعانها على ذلك من زوج أو غيره ا. هـ.

فانظر أيها المؤمن إلى حال نساء المسلمين اليوم ووقاحتهن وازدحامهن مع الرجال في الأسواق مع استيفاء ما يلفت نظر الرجال إليهن، بل ربما تجولن في المحلات التي

ص: 137

يقل الماشي فيها أو يخرجن خارج البلد إلى البساتين ما يمكنها أن تعمل فيه ما تريد، ومع هذا كله لا ناهي عن فعلهن من حاكم أو زوج أو قريب لها إنا لله وإنا إليه راجعون.

(فذلكة في حال دعاة الاجتهاد مع غيرهم) من أهل المذاهب الأربعة وهي أجدر وأحق بواقعة الإمام سحنون مع الإمام أشهب، وذلك أنه روي أن الإمام سحنون القيرواني رحل عن بلاده القيروان من أرض إفريقية ليأخذ عن الإمام مالك بالمدينة المنورة، فلما بلغ إلى مصر نفد زاده ولم يبق معه ما يوصله إلى المدينة فسأل عن أصحاب مالك فدل على أشهب بجامع الفسطاط، فذهب إليه فوجده في درسه وهو يتلاطم علما كالبحر إذا تلاطمت أمواجه، إلا أنه وجده يقول: حدثني مالك كذا وكذا وأصاب، ثم يقول: تارة حدثني مالك كذا وكذا وأخطأ، فلما تكرر منه ذلك قام الإمام سحنون من حلقة درسه فسئل عن سبب قيامه فقال: إنما مثل هذا كمثل فرس بال في شاطئ بحر فقام العامة وقالوا: تنجس البحر، فقال لهم أهل العلم: دعوكم من هذا الهذيان فإن البحر لا يتنجس ببول فرس ولا غيره.

والله يراجعنا وإياهم إلى الطريق القويم ويجانبنا وإياهم السبيل السقيم إنه على ذلك قدير، وما كتبته وسطرته إلا تذكرة لي ولمن أراد الله به خيرا من إخواننا المؤمنين، وورد " لا تقوم الساعة حتى يسب آخر هذه الأمة أولها أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وقد وقع ما أخبر به عليه الصلاة والسلام وعلى الآل والصحب ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

(مبحث الكلام في زيارة القبور) في المجلد الرابع عشر من المنار صفحة 955 التبرك بزيارة الصالحين، كتب إلينا بعض القراء من دمشق يقول: بعد الثناء قرأت

ص: 138

في مناركم الأغر في الجزء الرابع عشر جوابكم عن الاستمداد من الأنبياء، قلتم: ومن طلب من المخلوق مددا معنويا فهو على نوعين نوع يعد شركا كطلب الزيادة في العمر، فإن هذا مما لا يطلب إلا من الله تعالى فمن طلبه من غيره فقد أشركه معه، وهذا ظاهر لا يحتاج إلى بيان، وأما الذي غمض علي فهو قولكم: ونوع لا يعد شركا؛ لأنه داخل في دائرة الأسباب وهو ما يطلبه المتصوفون من أهل العلم بزيارة الصالحين وقربهم وذكر مناقبهم وسيرتهم، وتصور أحوالهم من الزيادة في حب الخير والصلاح والتقوى، ويعبرون عن هذه الزيادة التي يجدونها في أنفسهم بالبركة والمدد، ولكنهم لا يدعونهم من دون الله ولا يفعلون ما لم يفعله السلف الصالح، وإني أرى هذا هو الشرك بدليل قولكم ما يطلبه المتصوفون من أهل العلم بزيارة الصالحين وذكر مناقبهم وسيرتهم وتصور أحوالهم، وهذا الطلب لا يكون إلا من الأموات (1).

(ومعلوم أن الاستمداد من الأموات شرك لا مرية فيه، وأما قولكم ولا يفعلون ما لا يفعله السلف ففيه أنه لم ينقل عن أحد من

(1) قوله: ومعلوم إلخ أي عند بعض العلماء العصريين بالمعنى السابق الذين استمد معهم من بحر الظلمات

بال حمار فاستبال أحمره.

قال في الإبريز: ومن آداب زائر القبور إذا أراد أن يتوسل إلى الله تعالى بولي من أوليائه في إجابة دعوته أن يتوسل إليه بولي ميت فإنه أنجح لمقصوده وأقرب لإجابة دعوته ا. هـ.

وهو معقول؛ لأنهم وصلوا المنزلة التي يتنافس فيها المتنافسون فلا تعلم نفس ما أخفي لها من قرة عين جزاء بما كانوا يعملون

فألقت عصاها واستقر بها النوى

كما فر عينا بالإياب المسافر

نعم المطلوب في كيفية التوسل اللهم بجاه فلان أعطني كذا دون العكس نحو يا سيدي فلان أعطني كذا بجاه الله

ص: 139

السلف الصالح زيارة الأموات مع ذكر المناقب، بل الأمر بالعكس كانوا يناضلون هذه البدع أشد المناضلة

إلخ * المنار يظهر أنكم فهمتم من كلمة يطلبه المتصوفون الدعاء والطلب القولي، وأننا أبحنا دعاءهم كما يدعى الله عز وجل مع علمكم بأننا نصرف معظم العمر في مقاومة أمثال هذه البدع، وغفلتم عن تصريحنا بكونكم لا يدعونهم، وعن قولنا بزيارة الصالحين وقربهم أو ذكر مناقبهم وسيرتهم وتصور أحوالهم، وهو متعلق بطلبه المراد منه بقصده وببغيه، والمعنى أن الصوفي العالم بدينه الملتزم لسيرة السلف يبتغي ويقصد من زيارة الصالحين والقرب منهم في حال حياتهم وبذكر مناقبهم وسيرتهم وتصور أحوالهم بعد مماتهم أن ينمو في نفسه حب الخير والتقوى والصلاح التي هي صفات الصالحين، وذلك أن رؤية الصالحين والقرب منهم ومشاهدة سمتهم وهديهم تؤثر في النفس وتبعث فيها القدوة، وكذلك ذكر مناقبهم وسيرتهم وتصور أحوالهم بعد موتهم، وبضد ذلك معاشرة الأشرار والفساق وقراءة أخبارهم وتصور أحوالهم في فسقهم وإسرافهم يشوق النفس إلى المعاصي ويقود إلى الاقتداء بهم؛ ولذلك صرحنا بأن هؤلاء الذين أجزنا فعلهم وبينا قصدهم يلتزمون سيرة السلف في الاستمساك بالسنة واتقاء البدعة ولا يدعون مع الله أحدا، وما كل المتصوفة هكذا ا. هـ ..

أقول: وبالله أستعين حاصل ما يؤخذ من كلام السائل المعترض والمجيب أن قصد زيارة القبور مهما كان ساكنها أعني نبيا فمن دونه تعد شركا وأن الطلب من الحي بالقول كذلك؛ لأن فيه دعاء لغير الله، وإنما ينتفع بالشق الأول بذكر سيرتهم مثلا وينتفع بالشق الثاني بالنظر إليهم، والاقتداء بفعلهم مثلا وأنه لم ينقل عن السلف

ص: 140

الصالح زيارة أهل القبور والتبرك بهم، وإنما المعروف من سيرتهم أنهم كانوا يناضلون عن هذه البدع، فالتفرقة عندهم بين الحي والميت من حيث القصد وعدمه، وأما الطلب منهما معا فيعدونه شركا بلا ريب (أقول) أيضا: أن أصل هذا المذهب لطائفة بناحية بغداد ثم انقرضت، وأصل مذهبهم من وقف على قبر زائرا له فكأنما زار صنما، ثم بعدهم نفخ في وبيصها ابن تيمية وتلقفها من بعد مدة ابن عبد الوهاب، وانتشرت وكثر دعاتها بنشر كتب ابن تيمية ونحوها مما فيه هذه العقيدة التي يلزم قائلها ومعتقدها تكفير الصحابة فمن بعدهم، بل والأنبياء حسبما أنقل لك فإن طلب زيارة القبور والتبرك بالصالحين كتب المسلمين مشحونة بذلك فراجعها، وإنما المقصود هنا تخطئتهم في اعتقادهم وإن النتيجة وخيمة عليهم من حيث ما يلزمهم حسبما يأتي إن شاء الله تعالى.

(ثم) إني بعد أن هممت بأن أجمع ما يصلح للرد على هؤلاء مما تفرق في بطون الكتب بدا لي أن أقتصر على ما رد به علامة زمانه وفريد عصره، ولو أنه فرع الشجرة الذكية وخلاصة السلالة المصطفوية العلامة أبو حفص عمر المحجوب التونسي على ابن عبد الوهاب وأنقله بالحرف؛ لما فيه من المنافع والمعاني العزيزة ومن إصابة رمية مقاتل المردود عليه ومقاتل من أفتى أثره ولا يستطيعون رد ما أورده عليهم، وكان الواجب عليهم الأوبة والمبادرة إلى التوبة، ولكن من يضلل الله فلا هادي له.

(قال) رحمه الله ونفعنا بعلومه:

بسم الله الرحمن الرحيم

صلى الله على سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} ، {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}

ص: 141

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} .

(أما بعد) هذه الفاتحة التي طلعت في سماء المفاتحة فإنك راسلتنا تزعم أنك قائم بنصرة الدين، وأنك تدعو على بصيرة لما دعا إليه سيد الأولين والآخرين وتحث على الاقتداء والاتباع وتنهى عن المخالفة والابتداع وأشرت في كتابك إلى النفرة عن الفُرقة واختلاف العباد فأضحيت كما قال الله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وقد زعمت أن الناس قد ابتدعوا في الإسلام أمورا وأشركوا بالله من الأموات جمهورا، في توسلهم بمشاهد الأولياء عند الأزمات وتشفعهم بهم في قضاء الحاجات ونذر النذور لهم والقربات، وغير ذلك من أنواع العبادات، وأن ذلك إشراك برب الأرضين والسماوات، وكفر قد استحللتم به القتال وانتهاك الحرمات، ولعمر الله لقد ضللت وأضللت وركبت مراكب الطغيان بما استحللت وشنعت وهولت، وعلى تكفير السلف والخلف عولت وها نحن نحاكمك إلى كتاب الله المحكم وإلى السنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما ما أقدمت عليه من قتال أهل الإسلام وإخافة أهل البلد الحرام والتسلط على المعتصمين بكلمتي الشهادة، وأدمتم إضرام الحرب بين

ص: 142

المسلمين وإيقاده فقد اشتريتم في ذلك حطام الدنيا بالآخرة، ووقعتم بذلك في الكبائر المتكاثرة، وفرّقتم كلمة المسلمين وخلعتم من أعناقكم ربقة الطاعة والدين، وقد قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} .

وقال عليه الصلاة والسلام: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله، وحيث كنت لكتاب الله معتمدا ولعماد السنة مستندا كيف بعد هذا ويحك تستحل دماء أقوام بهذه الكلمة ناطقون، وبرسالة النبي صلى الله عليه وسلم مصدقون، ولدعائم الإسلام ولحوزة الإيمان يحمون، ولعباد الأصنام يقاتلون، وعن التوحيد يناضلون، وكيف قذفتم بأنفسكم في مهواة الإلحاد ووقعتم في شق العصا والسعي في الأرض بالفساد.

وأما ما تلوته عليهم من تكفيرهم بزيارة الأولياء والصالحين وجعلهم واسطة بينهم وبين رب العالمين وزعمت أن ذلك شنشنة الجاهلية الماضين.

فنقول لكم: في جوابه معاذ الله أن يعبد مسلم تلك المشاهد، أو أن يأتي إليها معظما لها تعظيم العابد، أو أن يخضع لها خضوع الجاهلية للأصنام، وأن يعبدها بركوع أو سجود أو صيام ولو وقع ذلك من جاهل لانتهض إليه ولاة الأمور والعظماء وأنكره العارفون والعلماء وأوضحوا للجاهل المنهج القويم وهدوه الصراط المستقيم.

وأما ما جنحت إليه وعولت في التكفير عليه من التوجه إلى الموتى وسؤالهم النصر على العدا وقضاء الحاجات وتفريج الكربات التي لا يقدر عليها رب الأرضين والسماوات إلى

ص: 143

آخر ما ذكرته موقدا به نيران الفتنة والشتات فقد أخطأت فيه خطأ مبينا وابتغيت فيه غير الإسلام دينا فإن التوسل بالمخلوق مشروع ووارد في السنة القويمة ليس بمحظور ولا ممنوع، ومشارع الحديث الشريف بذلك مفعمة، وأدلته كثيرة محكمة تضيق المهارق (الصحف) عن استقصائها ويكل اليراع إذا كلف بإحصائها ويكفي منها توسل الصحابة والتابعين في خلافة عمر بن الخطاب أمير المؤمنين واستسقائهم عام الرمادة بالعباس واستدفاعهم به الجدب والبأس، وذلك أن الأرض أجدبت في زمن عمر رضي الله عنه وكانت الرياح تذرو ترابا كالرماد لشدة الجدب فسمي عام الرمادة لذلك فخرج عمر رضي الله عنه بالعباس بن عبد المطلب رضي الله تعالى عنه يستسقي للناس، فأخذ بضبعيه وأشخصه قائما بين يديه وقال اللهم إنا نتقرب إليك بعم نبيك فإنك تقول وقولك الحق:{وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحا} فحفظتهما لصلاح أبيهما، فاحفظ اللهم نبيك في عمه فقد دنونا به إليك مستغفرين، ثم أقبل على الناس فقال استغفروا ربكم إنه كان غفارا والعباس عيناه تنضحان وهو يقول: اللهم أنت الراعي لا تهمل الضالة، ولا تدع الكسير بدار مضيعة، فقد ضرع الصغير ورق الكبير وارتفعت الشكوى وأنت تعلم السر وأخفى، اللهم فأغثهم بغياثك قبل أن يقنطوا فيهلكوا وأنه لا ييأس من رحمتك إلا القوم الكافرون، اللهم فأغثهم بغياثك فقد تقرب بي القوم إليك لمكانتي من نبيك عليه السلام فنشأ تطرير من سحاب وقال الناس ترون ترون ثم تراكمت وماست فيها ريح ثم هرت ودرت حتى قلعوا الحذاء وقلصوا المآزر

ص: 144

وخاضوا الماء إلى الركب وعاد الناس يتمسحون بردائه ويقولون: هنيئا لك ساقي الحرمين فأمرع الله به الجنان وأخصب البلاد ورحم العباد.

(فأخبرني) يا أخا العرب هل تكفر بهذا التوسل عمر بن الخطاب أمير المؤمنين وتكفر معه سائر من حضر من الصحابة والتابعين؛ لكونهم جعلوا بينهم وبين الله واسطة من الناس وتشفعوا إليه بالعباس؟ وهل أشركوا بهذا الصنيع مع الله غيره؟ وما منهم من أنهضته للدين القويم غيرة، كلا والله وأقسم بالله وتالله بل مكفرهم هو الكافر والحائد عن سبيلهم هو المنافق الفاجر، وهم أهدى سبيلا وأقوم قيلا، وقد قال عليه الصلاة والسلام: اقتدوا بمن بعدي أبي بكر وعمر وإذا قدحت في هؤلاء الجمع من الصحابة الذين منهم عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وغيرهما فمن أين وصل إليك هذا الدين ومن رواه مبلغا لك عن سيد المرسلين، ثم ما تصنع يا هذا في الحديث الآخر الذي رواه مسلم في صحيحه مرفوعا للنبي صلى الله عليه وسلم: في أويس وأنه أخبر به عليه الصلاة والسلام وهو من أعلام النبوة وأمر عمر بطلب الاستغفار منه وأنه طلب منه ذلك واستغفر له وقد قال تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} فالزائر للأولياء والصالحين إما أن يدعو الله لحاجته ويتوسل بسر ذلك الولي في إنجاح بغيته كفعل عمر في الاستسقاء، أو يستمد من المزور الشفاعة له وإمداده بالدعاء له كما في حديث أويس القرني؛ إذ الأولياء والعلماء كالشهداء أحياء في قبورهم، وإنما انتقلوا من دار الفناء إلى دار البقاء فأي حرج بعد هذا يا أيها القائم للدين في زيارة الأولياء والصالحين وأي منكر تقوم بتغييره

ص: 145

وتقتحم شق العصا وإضرام سعيره، ولعلك من المبتدعة الذين ينكرون أنواعا كثيرة من الشفاعة ولا يثبتونها إلا لأهل الطاعة كما أنه يلوح من كتابك إنكار كرامات الأولياء وعدم نفع الدعاء وكلها عقائد عن السنة زائغة وعن الطريق المستقيم رائغة، وقولكم أن ما قلتموه لا يخالف فيه أحد من المسلمين افتراء وَمَيْن وإلحاد في الدين؛ لأن أهل السنة والجماعة يثبتون لغير الأنبياء الشفاعة كالعلماء والصلحاء وآحاد المؤمنين، فمنهم من يشفع للقبيلة ومنهم من يشفع للفئام أي الجماعة من الناس كما ورد، وورد أيضا أن أويس القرني يشفع في مثل ربيعة ومضر، وأما المعتزلة فإنهم منعوا شفاعة غير النبي صلى الله عليه وسلم ولم يثبتوا للنبي صلى الله عليه وسلم إلا الشفاعة العظمى من هول الموقف والشفاعة للمؤمنين المطيعين والتائبين في رفع الدرجات، ولم يثبتوا الشفاعة لأهل الكبائر الذين لم يتوبوا في النجاة من النار بناء على مذهبهم الفاسد في التكفير بالذنوب، وأنه يجب عليها التعذيب، وأما ما جنحت إليه من هدم ما بني على مشاهد الأولياء من القباب من غير تفرقة بين العامر والخراب فهي الداهية الدهياء والعظيمة العظمى من الظلم التي أضلك الله بها على علم، وأقعدك منها في المقعد المقيم، وأقامك على مطية العذاب الأليم {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها أولئك ما كان لهم أن يدخلوها ألا خائفين لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} وكأنك سمعت في المحاضر بعض الأحاديث الواردة في النهي عن البناء على المقابر فتلقفته مجملا من غير بيان وأخذته جزافا من غير كيل ولا ميزان وجعلت ذلك وليجة إلى ما تقلدته

ص: 146

من العسف والطغيان في هدم ما على قبور الأولياء والصلحاء من البنيان، ولو فاوضت الأئمة واستهديت هداة الأمة الذين خاضوا من الشريعة لججها واقتحموا ثبجها وعالجوا غمارها وركبو تيارها، لأخبروك بأن محل ذلك الزجر ومطلع ذلك الفجر في البناء على مقابر المسلمين المعدة لدفن عامتهم لا على التعيين؛ لما فيه من التحجير على بقية المستحقين ونبش عظام السابقين، وأما ما يبنيه المسلمون أو الكفار في أملاكهم المملوكة لهم ليصلوا بمن يدفن هناك حبلهم فلا حرج يلحقهم ولا حرمة ترهقهم، فكما لا تحجير عليهم في بناء أملاكهم دورا وحوانيت ومساجد، كذلك لا حرج عليهم في جعلها قبابا أو مقامات أو مشاهد، ثم ليتك إذ تلقفت هذا منهم ووعيته عنهم أن تعيد عليهم بالسؤال وتشرح لهم نازلة الحال، وهل يجوز بعد النزول والوقوع هدم ما بني منها على الوجه الممنوع؟ وهل هذا التخريب محظور أو مشروع، فإذا أجابوك بأنه من معارك الأنظار ومحل اختلاف العلماء النظار، وإن منهم من يقول ببقائه على حاله رعيا للحائز في إتلاف ماله، وأن له شبهة في الحملة تحميه وفي البناء منفعة للزائر تقيه وتطيب نفسه عن حقه وترضيه، ومنهم من شدد النكير وأبى إلا الهدم والتغيير، فإذا تحقق عندك هذا فكيف تقدم هذا الإقدام وتخوض مزالق الإقدام وتطلق العنان في هدم كل مقام من غير مراعاة إلى أي عهد في الدين ولا ذمام، فإذا انفتحت لك هذه الأبواب نظرت بنظر آخر ليس فيه ارتياب، وهو أن المنكر الذي اقتضى نظرك تغييره ليس متفقا عليه عند أهل البصيرة، وأنه من مدارك الاجتهاد، وأنه قد سقط عنك القيام فيه والانتقاد، ثم بعد الوصول لهذا المقام أعد نظرا في إيقاد نار الحرب بين أهل الإسلام

ص: 147

واستباحة المسجد الحرام وإخافة أهل الحرمين الشريفين والاستهداف لإصابة لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فيتضح لك أنك غيرت المنكر في زعمك، وبحسب اعتقادك وفهمك بجملة كثيرة من المناكر، وطائفة عديدة من الكبائر آذيت بها نفسك والمسلمين واتبعت غير سبيل المؤمنين وتعرضت فيها لأذية الأولياء والصالحين، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام في حديث رواه البخاري الإمام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل قال من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، فكفى بالتعرض لحرب الله خطرا وقدفا في العطب وضررا، وأما إنكار زيارة القبور فأي حرج فيها ومحظور، وأي ذميمة تطرقها وتعروها مع ثبوت حديث كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإن هذا الحديث ناسخ لما ورد من النهي عن زيارتها، وماح لها في أول الإسلام من حماية الأمة من أسباب ضلالتها لقرب عهدها بجاهليتها وعبادة أصنامها وآلهتها، وكيف تمنع من زيارتها والنبي صلى الله عليه وسلم شرعها وسام رياضها وارتبعها، فقد ثبت من حديث عائشة أم المؤمنين أنه عليه الصلاة والسلام زار بقيع الغرقد واستغفر فيه لموتى المسلمين وثبت أيضا أنه زار قبر أمه آمنة بنت وهب واستغفر لها، وأخذ بذلك الصحابة والتابعون ودرج عليه العلماء والسلف الماضون، فقد ثبت في الأحاديث المروية عن أئمة الهدى ونجوم الاقتداء أن فاطمة سيدة نساء العالمين زارت عمها.

(هو على المجاز وإلا فهو عم أبيها) سيد الشهداء وذهبت من المدينة لجبل أحد ولم ينكره من الصحابة أحد، وهم إذ ذاك بالمدينة متوافرون وعلى إقامة الدين متناصرون أفتجعل هؤلاء مبتدعين وأنهم سكتوا عن الابتداع في الدين كلا والله، بل يجب

ص: 148

علينا اتباعهم ومن أدلة الشريعة إجماعهم وقد مضت على ذلك العلماء في جميع الأقطار وانتدبوا بأنفسهم للاستمداد من قبور الصلحاء وقضاء الأوطار، وخلدوا ذلك في كتبهم ومؤلفاتهم وسطروه في دواوينهم وتعليقاتهم، وقسموا ما تلخص لديهم بالأدلة الشرعية من الأحكام، وذلك أن الزيارة إن كانت للاتعاظ والاعتبار فلا فرق في جوازها بين قبور المسلمين والكفار، وإن كانت للترحم والاستغفار من الزائر فلا منع فيها إلا في حق الكافر، فإن الشريعة أخبرت بعدم غفران كفره وعليه حملوا قوله تعالى {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} وإن كانت الزيارة لاستمداد الزائر من المزور وتوخي المكان الذي فضله مشهور والدعاء عند قبره لأمر من الأمور، فلا حرج فيه ولا محظور، بل هو مندوب مرغب فيه وأنه مما تشد الرحال إليه، وأما النهي الوارد في شد المطي لغير المساجد الثلاثة، فإنما هو بالنسبة لنذر الصلاة فيها فإنه لا يختلف صواب الصلاة لديها، وأما المزارات فتختلف في التصريف مقاماتها وتتفاوت في ذلك كراماتها وذلك السر في الاستمداد والإمداد لا تطلع عليه، وضرب بسور له باب بينك وبين الوصول إليه، وقد أوضح ذلك حجة الإسلام ومن شهد له بالصديقية العظمى الأولياء العظام، وبين أن الاستمداد شفاعة وأنها لا تكون إلا بانصراف الهمة من الزائر حتى يستولي ذكر الشفيع على الخاطر، وهو سبب منبه لروح ذلك الشفيع والمزور وموجب لمعرفة ما قصده الزائر في أمر من الأمور، وكما تؤثر مشاهدة الحي في حضوره بالبال فكذا تؤثر مشاهدة تربته التي هي حجاب القالب والمثال ولا قدرة للزائر على نفس ذلك الإحضار

ص: 149

عند غيبة تربة المزور عن الأبصار

ولكن للعيان لطيف معنى

لذا سأل المعاينة الكليم

وأما إدماجكم لقبور الأنبياء في أثناء النكير والتضليل لزائرها والتكفير فهو الذي أحفظ عليكم الصدور وأترع حياض الكراهة والنفور وسدد إليكم سهام الاعتراض وأوقد شواظ التغيظ والارتماض فقل لي يا أخا العرب هل قمت لنصر الدين أم لنقض عراه؟ وهل أنت مصدق بالوحي لنبيه أم قائل إن هو إلا إفك افتراه؟ وما تصنع بعد اللتيا والتي في حديث من زار قبري وجبت له شفاعتي؟ أخبرني هل تضلل سليمان بن داود عليهما السلام في بنائه على قبر الخليل ومن معه من أنبياء بني إسرائيل؟ وما تقول ويحك في الحديث الذي رواه جهابذة الرواة وصححه المحدثون الثقات، وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال: لما أسري بي إلى بيت المقدس مر بي جبريل عليه السلام على قبر إبراهيم عليه السلام فقال: انزل هنا فصل ركعتين فإن ههنا قبر أبيك إبراهيم عليه السلام، وعنه صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر أنه قال: من لم يمكنه زيارتي فليزر قبر أبي إبراهيم الخليل عليه السلام، فأين تذهب يا هذا بعد هذا؟ وهل تجد لنفسك مدخلا ومعاذا؟ وهل أبقيت بعد تضليك جميع الأنبياء ملاذا؟ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، وأما تلميحكم للأحاديث التي تتلقفونها ولا تحسنون فهمها ولا تعرفونها فهمتم بسبب ذلك في أودية الضلالة، ولم تشموا فيها إلا بروق الجهالة، وسلكتم شعابها من غير خبير ونحوتم أبوابها بلا تدبر ولا تدبير، فإن حديث لا تتخذوا قبري مسجدا محمله عند البخاري

ص: 150

على جعله للصلاة متعبدا حفظا للتوحيد وحماية للجاهل من العبيد؛ لأن المصلي للقبلة يصير كأنه مصل إليه فحمى صلى الله عليه وسلم حمى ذلك عن الوقوع فيه، وأما قصده للزيارة والاستشفاع والاستمداد ببركته، وانتفاع وقصد المسلمين إياه من سائر البقاع فما يسعنا إلا الاتباع، وكذلك ما لوحت به إلى حديث لا تشد الرحال فإنك أخطأت في الاستشهاد به لنازلة الحال وذلك أن الحصر في حق المساجد دون سائر المشاهد، وكذلك ما لمحت إليه من حديث تعظيم القبر لإسراجه؛ فإنك أخطأت فيه وأضحى منهاجه مع بهرجة نقده في رواجه، وبحمله على فرض صحته على فعل ذلك للتعظيم المجرد عن انتفاع الزائرين، وأما إذا كان القصد به انتفاع اللائذين والمقيمين فهو جائز بلا مين، وأما ما تدعونه في ذبح الذبائح والنذور وتبالغون في شأنها التغيير والنكير وتصف ألسنتكم الكذب وتثيرون في شأنها الهرج والشغب، فكون الذبائح مما أهل به لغير الله مكابرة للعيان وقذف بالإفك والبهتان، فإنا بلونا أحوال أولئك الناذرين فلم نر أحدا منهم يسمي عند ذبحها اسم ولي أو أحد من الصالحين، ولا يلطخ الضرائح بدماء تلك الذبائح ولا يأتون بفعل من الأفعال الحاكمة على تحريم الذبيحة والإهلال، وأما نذرها لتلك المزارات فليس على أنها من باب الديانات ولا أن من لم يفعل ذلك يكون ناقص الدين في العادات، وإنما يقصدون بذلك مقاصد الرقي والنشر والانتفاع في الدنيا بسر في التصدق بها استتر ولم يدر منها إلا ما اشتهر، والواجب علينا وعليكم الرجوع في حكم نذرها إلى العلماء الأعلام المتضلعين من دراية الأحكام المقيمين لفسطاطها المسرجين لنبراسها الناقبين عن أساسها ومن لديهم

ص: 151

محك عسجدها ونحاسها، فإن كنتم للحق تقيمون ولا تقعدوا بكل صراط توعدون فإنهم يهدونك السبيل ويفتونك في هذه المسألة بالتفصيل، وأن هذا الناذر إن نذر تلك الذبائح للولي المعين بلفظ الهدى أو البدنة فقد جاء بالسيئة مكان الحسنة، ولكن ما رأينا من خلع في هذا المحظور سنه ولا من اهتصر فنه، وإن نذر تلك الذبائح لمحل الزيارة بغير هاته العبارة وكان من الذبائح التي تقبل ولا تكون هدايا فهل يلزمه أن يسعى به لذلك المزار سعيا أو لا يلزمه إلا التصدق في موضعه؟ رعيا خلاف في مذهب مالك شهير قرره العلماء النحارير، وإن كان ذلك النذر مما لا يصلح إهداؤه فالقاصد للفقراء اللائذين بمحل الشيخ يلزمه بعثه وإنهاؤه والقاصد للولي في نذره وتشرعه لا يلزمه إلا التصدق في موضعه، وإذا اتضح لديك الحال فأي داعية للحرب والقتال، وهل يتميز المشروع من هذه الصور من المحظور إلا بالنيات التي لا يعلمها إلا العالم بما في الصدور، والله تعالى إنما كلفنا بالظاهر ووكل إليه أمر السرائر ولم يقيض بالخواطر نقيبا ولا جعل عليها مهيمنا من الولاة ولا رقيبا، وإذا التزمت أن تسد الذريعة بالمنع من المشروع خوفا من الوقوع في الممنوع فالتزم هذا الالتزام في سائر العبادات الواقعة في الإسلام التي لا تفرق فيها بين المسلم والكافر، إلا لما انطوت عليه الضمائر فإن المصلي بالمسجد يحتمل أن يقصد عبادة الحجارة بمثل احتمال صاحب الذبائح والزيارة، والصائم يحتمل أن يقصد مقصدا دنيويا أو معبودا جاهليا، والمحرم بحج أو بعمرة يحتمل أن ينوي ما يوجب كفره، وإذا وصلت إلى هذا الالتزام نقضت سائر دعائم الإسلام والتبس أهل الكفر بأهل الإيمان وأفضى الحال إلى هدم جميع

ص: 152

الأركان واستبحت دماء جميع المسلمين وهدمت صلواتهم ومساجدهم وصوامعهم أجمعين؛ فانظر يا أيها الإنسان ما هذا الهذيان وكيف لعب بك الشيطان، وماذا أوقعك فيه من الخسران، فارجع عن هذا الضلال المبين، وقل ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، وأما ما جلبتم من الأحاديث الواردة في تغيير النبي صلى الله عليه وسلم للقبور، وأنه أمر علي بن أبي طالب رضي الله عنه بطمسها وتسويتها فقد أخطأتم الطريق في فهمها ولم يأتكم نبأ عليها، ولو سألتم عن ذلك ذويه لأخبروكم بأن محله طمس ما كانت الجاهلية عليه، وذلك أنه كانت عادتهم أنه إذا مات عظيم من عظمائهم بنوا على القبر بناء مشرفا كأطم من آطامهم مباهاة وفخرا وتعاظما وكبرا، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم من يمحو من الجاهلية آثارها ويطمس مباهاتها وفخرها وإلا فلو كان كما ذكرتم لكان حكم التسنيم كحكم ما أنكرتم، وإذا استبان لكم واتضح لديكم تغلبت الحجة التي أتيتم بها عليكم وكيف تجعلون تلك الأحاديث حجة قاضية على وجوب كون القبور ضاحية والفرق ظاهر بين البناء على القبور وحفر القبور تحت البناء، فالأول فعل الجاهلية الوارد فيه ما ورد، والثاني هو الذي يعوزكم فيه المستند ولا يوافقكم على تعميم النفي أحد، وأما ما فزعتم فيه إلى التهديد وقرعتم فيه بآيات الحديد، وذكرتم أن من لم يجب بالحجة والبيان دعوناه بالسيف والسنان، فاعلم يا هذا أنا لسنا ممن يعبد الله على حرف ولا ممن يفر عن نصرة دينه من الزحف ولا ممن يظن بربه الظنون أو يتزحزح عن الوثوق بقوله تعالى {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ} ولا ممن يميل عن

ص: 153

الاعتصام بالله سرا وعلنا أو يشك في قوله تعالى {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} ولا بنا من وهو ولا فشل ولا ضعف في النكاية ولا كسل ننتصر للدين ونحمي حماه وما النصر إلا من عند الله، وأما ما جال في أنفسكم ودار في رءوسكم ومدت إليه يد الطمع وسولته الأماني والخدع من أنكم من الفئة الذين هم ومن حالفهم لا يضرهم من خالفهم، وإنكم من الطائفة الظاهرين على الحق، وأن هذه المناقب تساق لكم وتحق، فكلا وحاشا أن يكون لكم في هذه المناقب من نصيب، أو أن يصير إليكم إرثها بفرض أو تعصيب، فإن هذا الحديث وإن كان واردا صحيحا إلا أنكم لم توفوا طرقه تنقيحا فإن في بعض رواياته زيادة وهم بالمغرب، وهي تحجبكم عن إدراك هذه المناقب وتبعدكم عنها بعد المشارق والمغارب، فانفض يديك مما ليس إليك ولا تمدن عينيك إلى من حرمت عليك فإنكاح الثريا من سهيل أمكن من هذا المستحيل، أما أهل هذه الأصقاع والذين بأيديهم مقاليد هذه البقاع فهم أجدر من أن يكونوا من إخوانها وتمتد أيديهم إلى أخواتها لصحة عقائدهم السنية واتباعهم سبيل الشريعة المحمدية ونبذهم للابتداع في الدين وانقيادهم للاجتماع وسبيل المؤمنين، وقد أنبأتنا في هذا الكتاب وأعربت في طي الخطاب عن عقائد المبتدعة الزائغين عن السنة المتبعة الراكبين مراكب الاعتساف الراغبين عن جمع الكلمة والائتلاف، فالنصيحة النصيحة إن تنزع لباس العقائد الفاسدة وتتسربل بالعقائد الصحيحة وترجع إلى الله وتؤمن بلقاه ولا تكفر أحدا بذنب اجتناه، فإن تبتم فهو خير لكم وإن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله، وزبدة الجواب وفذلكة الحساب

ص: 154

إنك إن قفوت يا أخا العرب نصحك وأسوت بالتوبة جرحك وأدملت بالإنابة قرحك فمرحبا بأخ الصلاح والفلاح وحيهل بالمؤازر على الطاعة والنجاح وجمع الكلمة والسماح، وأما أن أطلت في لجة الغواية سبحك وشيدت في الفتنة صرحك واختلت عارض رمحك فإن بني عمك فيهم رماح وما منهم إلا من يتقلد الصفاح ويجيل في الحروب فائز القداح، والله تعالى يسدد سهام الأمة الساعية فيما يحبه ويرضاه ويخمد إضرام الفئة الباغية حتى تفيء إلى أمر الله ا. هـ.

وبما سطرناه لك تعلم أن (1) هذه الطائفة تنفخ في غير ضرم وتستسمن ذا ورم

يا باري القوس بريا لست تحسنه

لا تظلمنها وأعط القوس باريها

خل الطريق لمن يبني المنار به

وابرز ببزة حيث اضطرك القدر

(أقول) وعلى الله أتوكل أن الحق أحق أن يقال ويتبع يجب على كل فرد فرد من أفراد المسلمين أن يتنبه لمعالم دينه ويشد المآزر في اقتفاء سلفه الصالح ويعض على ذلك بالنواجذ ويتبرأ مما أحدث في العصور الأخيرة مما لم يشهد الشرع الشريف باستحسانه ولا طلبه، بل ربما نص المتقدمون على منعه، بل ربما أجمعوا على عدم تعاطيه وتناوله وتساهل فيه بعض المتأخرين جهلا منهم بالحكم الشرعي في ذلك أو رقة ديانة إرضاء للعامة ولنذكر نبذة

(1) قوله هذه الطائفة

إلخ، أي الوهابية ومن كان على منوالها وهي منسوبة لمحمد بن عبد الوهاب المردود عليه برسالة المحجوب، وكان مبدأ انتشارها حدود سنة 1210 في أرض نجد وأصل عقيدتهم منع الاستمداد بالأموات فأخذوا يهدمون ما بني على القبور من القباب واستولوا على كربلا والمدينة وقطعوا الطريق على الحجاج ولم تزل منتشرة في البلاد إلى الآن

ص: 155

من الأمور المحظورة سواء كانت متعلقة بالزيارة أم لا منها إيقاد المصابيح نهارا في أضرحة الأولياء أو في المساجد في المواسم كما يقع عندنا بتونس وفي المسجد الأموي بدمشق الشام، أو في مقامات الأولياء ليلا، ولا ساكن بها ينتفع به ومنع ما تقدم لا خلاف فيه لكونه إسرافا محضا، ومنها اجتماع الرجال والنساء في المساجد مختلطين أو في المقابر في المواسم أو في مقامات الأولياء والنساء على غاية من الزينة والطيب وتبرج الجاهلية الأولى، ومنها تعدد الجماعات في المساجد التي لها إمام راتب؛ إذ لم يكن معهودا في سلف الأمة، وإنما حدث في القرن السادس أو السابع بمكة ثم المدينة ثم انتشر في بعض الجهات وهذا التعدد (1) موجب

(1) قوله موجب

إلخ، قال الحافظ ابن عبد البر: أصل المنع في هذه المسألة خوف الاختلاف على الأئمة وردع أهل البدع؛ ليتركوا إظهار بدعتهم لأنهم كانوا يرغبون عن صلاة الإمام ثم يأتون بعده فيجمعون بإمامهم، ومحصل ما يتعلق بهذا المبحث هو أن تعدد الجماعة عند إقامة الصلاة بأن أقام هذا بموضع من المسجد وهذا بموضع آخر منه سواء كان التعدد بنص الواقف أو لا، فهذا لا نزاع في حرمته بإجماع المسلمين ولم يقل بجوازه أحد منهم من صحت عقيدته ولا من فسدت لتأديته للتخليط ولمخالفته للأحاديث الصحيحة، وإجماع الأمة من زمنه صلى الله عليه وسلم إلى زمن حدوث هذه البدعة في القرن السادس وكذا حضور جماعتين أو أكثر في مسجد واحد ثم تقام الصلاة فيتقدم الإمام الراتب فيصلي، وأولئك عكوف من غير ضرورة تدعوهم لذلك، بل مشتغلون بنحو النوافل أو العلم أو الحديث حتى انقضت صلاة الأول، ثم يقوم الذي يليه وتبقى الجماعة الأخرى على نحو ما ذكر كما في الحرمين، فالأئمة مجمعون أيضا على أن هذه الصلاة لا تجوز وإفتاء بعضهم بالجواز محتجا بأن مواضعهم كمساجد متعددة خصوصا وقد قرره ولي الأمر

مخالف لقوله تعالى {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} وقوله تعالى {مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} وقوله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي هذا مما يدل على الوحدة في كل، وتقرير ولي الأمر خلاف الإجماع لا يلتفت إليه ولم يأذن الشارع بتعدد الجماعة في حال القتال الذي يعظم فيه الخوف ويشتد الهول وتتخالف فيه السيوف، بل أمر بقسم القوم وصلاتهم بإمام واحد متعاقبين، وألف المانعون في هذه النازلة تآليف عظيمة محتوية على أدلة كثيرة شنعوا فيها على المجيزين غاية التشنيع حتى رجعوا عن أقوالهم انظر الحطاب، وأما الذي فيه الخلاف بين الأئمة فذاك في مسجد له إمام راتب، فأقيمت الصلاة فيه ثم بعد فراغها جاءه جماعة أخرى فأرادوا إقامة تلك الصلاة جماعة فمذهب مالك أن الراتب إذا صلى في وقته المعتاد بدون تقدم عنه ولا تأخر يكره لغيره أن يصلي جماعة أخرى قبله أو بعده ولو أذن له الراتب في ذلك، وإذا جاء الراتب بعده فله أن يصلي جماعة، وأما إذا تقدم الراتب أو تأخر عن وقته وتضرر الناس بانتظاره فيجوز لهم الجمع بعده أو قبله ولا يجمع هو بعدهم، هذا هو مشهور مذهب مالك ومقابله المنع أو الجواز، بل مذهب مالك يحرم حال الصلاة مكث من لا يصلي مع الإمام الراتب في المسجد، بل إما أن يصلي وإما أن يخرج، وأما مذهب أبي حنيفة والشافعي وأشهب من المالكية فجواز الإعادة بعد الراتب بلا كراهة لقوله عليه الصلاة والسلام في رجل دخل المسجد وقد فاتته إحدى صلاتي العشاء معه واستقبل القبلة ليصلي: ألا رجل يتصدق على هذا فيصلي معه فقام رجل ممن كان صلى مع النبي فصلى معه، وأجاب المالكية بأن هذه واقعة حال محتملة لا تنهض حجة على عدم الكراهة ا. هـ ملخصا من منح الجليل لخاتمة المحققين شيخ مشايخنا الشيخ عليش ومن غيره.

وبما حررناه لك تعلم أن ما يشاع عن ألسنة كثير من الشافعية من نسبة جواز التعدد مطلقا حتى فيما تقدم منعه لمذهب الشافعي لا مستند له، وإنما هو على حد ما قيل

يقولون أقوالا ولا يعرفونها

إذا قيل هاتوا حققوا لم يحققوا

ص: 156

لتفرق الكلمة التي أمر الشارع بجمعها وحج الإمام ابن عرفة التونسي ولم يصل جماعة في الحرم المكي نظرا لتعدد الجماعة وكان حجه في القرن الثامن، في المجموع الثالث والعشرين بعد المائتين من مكتبة الشيخ

ص: 157

عبد العزيز الوزير بالمدينة المنورة رسالة لأحد أكابر الحنفية سماها غاية التحقيق ونهاية التدقيق في مسائل ابتلي بها أهل الحرمين ذكر فيها منع تعدد الجماعات إلى أن قال: وأشنع ما يكون ذلك في التراويح بالمسجدين؛ لأنهم يصلونها معا فلهذا لم يزل علماء الحق ينكرون ذلك سلفا وخلفا؛ لما فيه من المناكر التي لا تخفى إلا على من غلب عليه الهوى نسأل الله إزالة البدع والمنكرات وإظهار السنة والحسنات، ومنها ما أحدثوه من رفع الأصوات قبل خروج الخطيب وبعده قبل الشروع في الخطبة، وكذا ما يفعلونه بعد الصلوات من رفع الأصوات وقبل إقامة الصلاة من قولهم إلى روح المصطفى وعلى نية الشفاء كل هذا لا سلف لهم فيه، بل نصوص الشريعة بعدم رفع الأصوات في المساجد إلا لخطيب أو إمام يسمع المصلين أو مدرس على قدر الحاجة، ومنها الانحناء عند زيارة الأحياء أو الأموات، ومنها تقبيل الأرض أمام المزور، أو تقبيل عتبته إن كان مشهدا ومنها التمسح وإلصاق الظهر والبطن بمشاهد الأنبياء والأولياء، وغير ذلك مما يفعلونه ويقصدون بذلك التبرك، وليس التبرك إلا بفعل ما ورد عن الشارع في الدر المنظم لابن حجر: لا يجوز أن يطاف بقبره صلى الله عليه وسلم كما نقله النووي رحمه الله تعالى عن أطباق العلماء، وبوجه بأنهم كما أجمعوا على تحريم الصلاة لقبره صلى الله عليه وسلم إعظاما له كذلك أجمعوا

ص: 158

على حرمة الطواف بقبره؛ لأن الطواف بمنزلة الصلاة كما في الحديث الصحيح إلا في مسائل ليست هذه منها قال الحليمي وغيره: من أئمتنا وغيرهم يكره إلصاق الظهر والبطن بجدار القبر المكرم ا. هـ.

قال العلامة ابن حجر: وكان القياس تحريمها، لكن لما كان من شأن ذلك عند فاعله أنه لا يفعله إلا لقصد التبرك به جهلا بما يليق من الأدب اقتضى ذلك رفع الحرمة عنهم وإثبات الكراهة ولا عبرة بذلك القصد في نفي الكراهة أيضا زجرا لهم عن التهجم عليه بما لم يؤذن لهم فيه، ومن ثم تعين على كل أحد أن لا يعظمه إلا بما أذن الله لأمته في جنسه مما يليق بالبشر، فإن مجاوزة ذلك تفضي إلى الكفر والعياذ بالله، بل مجاوزة الوارد من حيث هو ربما تؤدي إلى محذور انظر تمام كلامه تستفد كثيرا، وفي الإحياء للعلامة الغزالي: مس الشاهد وتقبيلها عادة اليهود والنصارى، وقال الزعفراني: وضع اليد على القبر ومسه وتقبيله من البدع التي تنكر شرعا، وروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه رأى رجلا وضع يده على القبر المكرم فنهاه، وقال: ما كنا نعرف هذا ولا يلتفت إلى بعض من يترخص في مثل هذا لما علمت من كلام من يوثق بعلمهم ودينهم والله الهادي إلى سواء السبيل، وفي الدر المنظم أيضا يكره الانحناء للقبر الشريف وأقبح منه تقبيل الأرض، ذكره ابن جماعة ولفظه: قال العلماء: إن ذلك من البدع أي القبيحة، ويظن من لا علم له أنه من شعار التعظيم وأقبح منه تقبيل الأرض له؛ لأنه لم يفعله السلف الصالح والخير كله في اتباعهم، ومن خطر بباله أن تقبيل الأرض أبلغ في البركة فهو من جهالته وغفلته؛ لأن البركة إنما هي فيما وافق الشرع وأقوال السلف وعملهم، وليس عجبي ممن جهل ذلك فارتكبه،

ص: 159

بل عجبي ممن أفتى بتحسينه مع علمه أي لو تأمل قبحه ومخالفته لعمل السلف، واستشهد لذلك بالشعر قال السيد ولقد شاهدت بعض جهال القضاة فعل ذلك بحضرة المنلا وزاد بوضع الجبهة كهيئة الساجد فتبعه العوام ا. هـ.

وقال العلامة خليل المالكي في مناسكه وليحذر مما يفعله بعضهم من طوافه بقبره عليه الصلاة والسلام وكذلك تمسحهم بالبناء ويلقون عليه مناديلهم وثيابهم، وذلك كله من البدع؛ لأن التبرك إنما يكون بالاتباع له عليه السلام، وما كانت عبادة الأصنام إلا من هذا الباب ولأجل ذلك كره علماؤنا التمسح بجدار الكعبة أو بجدار المسجد والتقبيل للمصحف وتعظيم المصحف قراءته والعمل بما فيه لا تقبيله ولا القيام له كما يفعله بعضهم في زماننا، والمسجد تعظيمه الصلاة فيه واحترامه لا التمسح بجدرانه، وكذلك الورقة يجدها الإنسان مطروحة فيها اسم من أسمائه تعالى أو نبي أو غير ذلك ترفيعها إزالتها من موضع المهنة لا تقبيلها، وكذلك الولي تعظيمه اتباعه لا تقبيل يده ا. هـ.

وقال العلامة سيدي علي النووي صاحب غيث النفع بعد أن ذكر أشياء مخالفة للشرع تفعل في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم: ومن هذا المعنى التمسح بجدار الكعبة وتقبيلها وبالمصحف الشريف ويبالغ بعض العوام حتى يفعل ذلك بالمساجد وقبور الأولياء، وليس هذا كله بتعظيم شرعي، بل التعظيم الشرعي للكعبة الطواف بها والصلاة إليها والنظر إليها، وتعظيم المصحف قراءته والعمل بما فيه، وتعظيم المسجد تعميره بالصلاة وأنواع العبادات، وتعظيم الولي الاقتداء بما كان عليه والتضرع إلى الله تعالى في الترحم عليه ورفع

ص: 160

درجته ا. هـ. (1) وأعظم البلايا على هذه الأمة هو ترك تعلمهم ما أمروا بتعلمه حتى يعملوا على وفق العلم، وزادوا على هذا الخطر العظيم تعليمهم

(1) قوله وأعظم

إلخ، هو كما قال ولن يزال الأمر في إدبار وسقوط، وعلى قدر الصعود يكون الهبوط ولا بد من تحقق وقوع الوارد في يوم ما، ومن قبض العلم يقبض العلماء والذي قدمه الشيخ حفظه الله نقطة من بحر في جنب الواقع من البدع؛ لأن الدنيا آن ارتحالها، وهي لا تقوم إلا على لكع بن لكع، بل ما ذكره هو معدود الآن عند عامة من عنده شيء من التمسك بالدين من ابتداع أهل الهدى، ولذا لم يحم حول ساحل بحر أهل الردى، وفي جواهر الشعراني عن شيخه سيدي علي الخواص أن انتهاء سير شمس الشريعة وسلطان العمل بها على نقطة مركزها إلى سنة 460 من الهجرة فذاك وقت استواؤها، ثم مالت بعد ذلك شيئا فشيئا إلى الزوال حتى وصلت أرض العلم والجدل من غير عمل، ولا تزال الشريعة ظاهرة يحكم بها إلى ثلاثين سنة من القرن الحادي عشر، ثم يختل نظامها الأكبر وتكون كعقد انقطع سلكه فترفع الرحمة، وتفقد علوم الشريعة والحقيقة بقبض أصحابها وينتشر الظلم والجور حتى في خواص الناس، وتكثر الدعاوى بغير حق حتى في خواصنا ويخرجون بنفوسهم لدعوة الحق إلى غير الحق كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة، بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفا منشرة كلا بل لا يخافون الآخرة، وكيف يخاف من صمت أذناه وعميت عيناه بحلول الشيطان ووساوس الحرمان حتى صار لا يسمع قول الحق على لسان رسول الحق {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين} وكيف يدعي الوصول من هو عن عبوديته الكاملة مفصول، وكيف يدعي اتصال من هو على الحقيقة في انفصال ا. هـ.

فانظر وفقني الله وإياك وتولى هداي وهداك في ما قاله هذا على أهل زمان سنة 1030 فكيف بنا أهل زمان سنة 1340 مع تأخرنا عنهم 310 سنة على ما نحن عليه من الخطر المحدق بنا والأهوال ولذا لا تؤثر فيهم معاول

الإنذار والوعيد ومن يطمع في إلانة ما برد من الحديد

لقد أسمعت لو ناديت حيا

ولكن لا حياة لمن تنادي

ونار لو نفخت بها أضاءت

ولكن أنت تنفخ في الرماد

فالاحتجاج على من رسخ من أهله في الضلال بنحو يلزمكم نقض قواعد الفروع أو الأصول؛ لأن الله قال كذا أو كذا قال الرسول مع قوله لك: دليلي قول المسيو فلان ما أراه معهم إلا من قبيل العبث والفضول؛ لأنهم ليس لهم من صبغة أهل الإسلام إلا التلفظ بالشهادتين والسلام، ولذا كثيرا ما يحتج علينا المسيحيون بأننا لم نركم خالفتمونا في شيء مما حرمه عليكم شرعكم كما تزعمون، فإن قال قائلهم: يكفينا النطق بالشهادتين الدال على التصديق والإيمان قلنا لهم الإيمان كشجرة سقيها بالأعمال الصالحة كي ترسخ عروقها في الثرى وتزكو الثمرة والظلال عن الأغصان، وإلا فمن يضمن بقاء شجرة بدون سقي ولا ري؛ إذ لا بد في يوم ما أن لا يبقى على وجه الأرض منها شيء، وهي في كل حين عرضة لكل عطب.

إذا العود لم يثمر وإن كان شعبة

من المثمرات اعتده الناس للحطب

فاستدعاء هؤلاء للوقوف على الحدود الذي جاء بها عليه الصلاة والسلام، إنما هو نعيق وراء الأنعام ولعل آية {يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم} هذا هو زمانها الموعود الذي رواه جلة الصحابة رضي الله عنهم كابن مسعود حين سألوه عليه الصلاة والسلام عنها فقال: لهم ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر حتى إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك نفسك ودع أمر العوام، وإن من ورائكم أياما الصبر فيهن كقبض على الجمر للعامل منهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله، وما أرى الآن شيئا مفقودا من هذه الخصال كما جزم بذلك من قال

هذا الزمان الذي كنا نحاذره

في قول كعب وفي قول ابن مسعود

دهر به الحق مردوده بأجمعه

والظلم والبغي فيه غير مردود

أعمى أصم من الأزمان ملتبس

فيه لإبليس تصويب وتصعيد

إن دام هذا ولم يحدث له غير

لم يبك ميت ولم يفرح بمولود

ويؤيد ما ذكره العيان فإنه أقوى برهان، وها نحن بيننا وبين السلامة مراحل إذا مسينا في لجة يم المهلكات والغموم دون الساحل فناد نداء المضطر في الظلمات لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين فعسي أن تحفك العناية ويصدق عليك فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجي المؤمنين، اللهم إنا نتوسل إليك بحبيبك إنسان عين الوجود والسبب في كل موجود صلى الله عليه وسلم وعلى آله والأصحاب أن لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، وارزقنا التوفيق للأعمال الصالحة مع الإخلاص وأمنا يوم الفزع الأكبر فلا نؤخذ بالأقدام والنواصي، وإلى هنا تذييل الأجوبة الكافية عن الأسئلة الشامية كان المنتهى وذلك في ضحوة اليوم الذي بين يوم بدء الخلق والانتهاء، سادس عشر جمادى الأولى من سنة ألف وثلاثمائة وأربعين من هجرة من أرسله الله رحمة للعالمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وذلك بجوار الرياض الأزهرية من الديار المصرية بقلم الراجي من الله له ولأحبابه مع السلامة نيل الأماني في دار التهاني أبي القاسم بن محمد باري التجاني

يا ناظرا في الكتاب بعدي

مجتنيا من ثمار جهدي

بي افتقار إلى دعاء

تهديه لي في ظلام لحدي

ص: 161

أبناءهم علوما ليست من الدين في شيء، بل اعتبار نتيجة من تعاطاها المروق من الدين ومنابذة أهله فتفرقوا أيدي سبا لا يلوى أحدهم على

ص: 161

الآخر بل كل يسب الآخر ويضلله ويصغر عقله وما هو عليه وتعاطى من لا علم عنده أنواع العبادات والمعاملات تعاطيا غير جائز شرعا حيث قرروا أنه لا يجوز لأحد أن يقدم على فعل شيء حتى يعلم حكم الله فيه ولو بالسؤال، فعبادة الكثير ومعاملة الجم الغفير فاسدة شرعا مضحكة للشيطان مغضبة للرحمن حيث خالفوا ما أمرهم به على لسان

ص: 162

رسوله عظيم القدر صلى الله عليه وسلم بقوله: طلب العلم فريضة على كل مسلم، وفي رواية ومسلمة أو كما قال عليه الصلاة والسلام وبهذا الترك اختل نظام هذه الأمة لجريان عادة الله تعالى في كل أمة حادث عن قانونها ودستورها الذي أسسه الله تعالى لها على لسان رسولها الذي أرسل إليها حيث صار المعظم من هذه الأمة صفر اليدين من العلم، وغير المعظم نوعان، نوع عنده شيء من العلم إلا أنه شابه بعقائد إما مكفرة أو مفسقة فعثوا في الأرض فسادا بدس ما هم عليه للعامة وتزيين ذلك لهم، مظهرين نصحهم وتنقيص من عداهم والنوع الآخر عنده علم خالص لم يخالطه شائبة نقص إلا أنه أقل مما قبله، ولفساد أهل الزمان كاد أن لا يعرف إنا لله وإنا إليه راجعون، ثم سعى هذا الفريق أعني فاسد العقيدة في إغواء هذه الأمة بفتاويهم الباطلة شرعا، يدرك بطلانها من عنده مبادئ الدين، ولكن بثوها لأناس أفئدتهم من العلم خراب وهم إلى الشر أهدى من القطا وإلى الخير أضل من الغراب فقبلوها منهم وأثنوا عليهم خيرا، ومدحوهم وجعلوهم أئمة يقتدى بهم منها لبس البرنيطة وأكل الميتة وتحليل الربا قليله وكثيره عند بعضهم وقليله عند بعض منهم آخر واستندوا لذلك بمستندات لا تسمن ولا تغني من جوع عند الله تعالى وعند علماء الدين، واستحلوا القمار المسمى عندهم يا نصيب إذا كان يصرف ما تحصل منه في البر وإلا فلا يجوز، وينبغي أن يستفهم من هؤلاء هل هذا المبيح خاص بالميسر أو عام في كل محظور كالخمر والزنا والغصب والسرقة إذا أريد صرف ما يتحصل من ذلك في أنواع البر، فإن قالوا خاص سئلوا عن الفرق بين المحظورات

ص: 164

ولا فرق؛ فيلزمهم التحكم، وهو باطل عند جميع العقلاء، وإن قالوا عام سئلوا أيضا لذلك مستند من الشارع خصص المحظورات بما ذكرتم وهو صرف ما يتحصل منها في أنواع البر كما خصص حظر الميتة بالاضطرار إليها والخمر بالغصة، فإن قالوا: نعم قلنا لهم هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين، ولا برهان لهم البتة وهم كاذبون إن ادعوه، وإن قالوا: لا مستند لنا من الشرع، وإنما هو شيء استحسنته عقولنا وثمرته ظاهرة لدينا، قلنا لهم: خالفتم قاعدة من قواعد الدين يعرفها الصالح والطالح وهي درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، وبنتم عن الدين، وبارزتم رب العالمين، حيث أبحتم ما حرمه عليكم باليقين فبؤتم بإثمكم وإثم الأريسيين الذين اتبعوكم، فيلزمكم إن كنتم من قبل مؤمنين أن تتنصلوا من ذلك وتعلنوه لدى الكافة، وترجعوا إلى رب العالمين؛ وإلا فالويل لكم والدمار والعار يلحقكم يوم القيامة هو أشد عار، ويا أيها المؤمنون اطلبوا ما كلفكم به رب العالمين، واعملوا به تنالكم سعادة الدارين، وتخلصوا من ربقة الغاوين شياطين الإنس والجن في الدين وبذلك يرجع إليكم شرفكم الأثيل وترتقوا منصة هي أعلى من القلب والإكليل، وتنقطع رغبة الغير فيكم وتنالوا منتهى العز المطلوب لديكم، وهنا انتهى ما يسره من بني السماء بغير عمد وزينها بالنجوم الراجمة لكل معاند، فسد متبع آراء الكافرين منابذ لما عليه كافة المؤمنين ثم أني أعترف بعجزي وقصوري لدى أهل المعرفة والبيان، وأطلب منهم الصفح عما وجدوه فيما كتبته من الخطأ والنسيان؛ لأن ذلك وصف لازب لكل إنسان لم يحفظ من قبل مالك الأمر والشأن وأحمد الله تعالى على إتمام ذلك وأطلب من الله أن ينفعني به وكل

ص: 165

من تلقاه بقلب سليم، إنه رؤف رحيم، وأصلي وأسلم على من هو رحمة للعالمين الذي لولاه ما تبين لبس من يقين، وعلى آله وأصحابه الذين شادوا من بعده قواعد الدين، وجاهدوا كل من أراد الخروج قيد شبر عن سبيل المؤمنين، وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وكان الفراغ من ذلك ضحوة اليوم الذي بدأ الله فيه الخلق الموافق لستة وعشرين من ذي الحجة الحرام عام ألف وثلاثمائة وسبعة وثلاثين هجرية على صاحبها أزكى الصلاة وأعطر السلام والتحية من ربنا بارئ البرية.

ص: 166