الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم يقال: قد ثقل لسانه فما يكلم إخوانه، ولا يعرف جيرانه وعرق عند ذلك جبينك وتتابع أنينك، وثبت يقينك، وطمحت جفونك، وصدقت ظنونك، وتلجلج لسانك، وبكى إخوانك.
وقيل لك: هذا ابنك فلان، وهذا أخوك فلان، ومنعت من الكلام فلا تنطق، وختم على لسانك فلا ينطق، ثم حل بك القضاء، وانتزعت نفسك من الأعضاء، ثم عُرج بها إلى السماء، فاجتمع عند ذلك إخوانك، وأحضرت أكفانك، فغسلوك وكفنوك، فانقطع عوّادك واستراح حسادك، وانصرف أهلك إلى مالك، وبقيت مرتهنًا بأعمالك (1).
واعلم -رحمك الله- أن مما يعينك على التفكر في الموت ويفرغك له ويكثر اشتغالك به تذكر من مضى من إخوانك وخلَاّنك، وأصحابك وأقرانك، الذين مضوا قبلك وتقدموا أمامك، كانوا يحرصون حرصك ويسعون سعيك ويأملون أملك ويعملون في هذه الدنيا عملك، وقصت المنون أعناقهم، وقلعت أعراقهم وقصمت أصلابهم، وفجعت فيهم أهليهم وأحباءهم، فأصبحوا آية للمتوسمين وعبرة للمعتبرين (2).
فالموت قد عدل
.. ساوى بين الملك والصغير والكبير، يدخل الغرف الصغيرة .. ولا يرده حاجب القصور الكبيرة .. أفنى من ملكوا
(1) الإحياء: (3/ 225).
(2)
العاقبة: (50).
الدنيا وقضى على من لا يملكون شيئًا من الدنيا، ولكن
…
الناس في غفلاتهم
…
ورحى المنية تطحنُ
أما أصحاب القصور والدور وأصحاب المناصب الذين يغبطهم الكثير من أهل الدنيا على هذه النعمة لنرى حالهم عند الموت .. كيف يواجهونه؟ وكيف يستقبلونه؟ هل تبقى القوة والمنعة والأبهة والوجاهة أم يسقط كل ذلك ويبقى العمل؟
قال محمد بن منصور البغدادي: دخلت على عبد الله بن طاهر وهو في سكرات الموت فقلت: السلام عليكم أيها الأمير، فقال: لا تسمني أميرًا وسمني أسيرًا.
ولما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة جعل يقول: والله ولوددت أني عبد لرجل من تهامة أرعى غنيمات في جبالها ولم آلي (1).
وكان المنتصر يضطرب على نفسه عند موته فقيل له: لا بأس عليك يا أمير المؤمنين. فقال: ليس إلا هذا، لقد ذهبت الدنيا وأقبلت الآخرة (2).
وهذا التفاوت في معايش الدنيا لا يرد الموت عن العدل بين الجميع فهو بأمر الله مهلك القوى ومفني الدول .. ولكن البدار البدار .. التوبة التوبة قبل الموت .. قال شفيق بن إبراهيم: استعد إذا جاءك الموت أن لا تسأل الرجعة (3).
(1) تسلية أهل المصائب: (88).
(2)
الثبات عند الممات: (92).
(3)
الزهد للبيهقي: (239).