الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرابعة: قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} سورة القيامة، الآية:26.
وقال تعالى يصف مشهد الموت بتفصيل عجيب وتصوير متتابع لهذا الحدث العظيم: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} سورة القيامة، الآيات: 26 - 30.
وقال تعالى، في أصدق وصف وأحسن تعبير:{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} سورة ق، الآيتان: 19، 20.
وما أدراك -يا أخي- ما هذا المجيء لسكرات الموت
؟ مجيءٌ لا مناص عنه ولا مهرب، لا تجدي معه حيلةٌ ولا تنفع معه وسيلة، إنه بداية نهايتك من هذه الدنيا وانقطاعك عنها، والإقبال على الآخرة ودخول معبرها، وترك ما وراءك من الأموال والقصور، والأهل والدور.
إنها -والله- ساعة مهولة ذات كربٍ شديد وما بعدها إلا وعدٌ أو وعيد، لو تفكرت في حلولها وأنت في نعيم وهناء لتكدرت حياتك ولهانت الدنيا عندك، وصغر عظيمها في عينك، ولتبدل فرحك حزنًا، وسعادتك كدرًا .. كيف لا؟ وأنت تفارق المال والولد، والأحباب والأصحاب إلى دار الجزاء والحساب، أهوالٌ تهون عندها أهوال .. حتى تنتهي في رحلة طويلة شاقة إلى أحد
الفريقين {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} سورة الشورى، الآية:7.
قال الحكيم بن نوح بعض إخوانه: اتكأ مالك بن دينار ليلة من أول الليل إلى آخره لم يسجد فيها ولم يركع فيها، ونحن معه في البحر، فلما أصبحنا قلت له: يا مالك، لقد طالت ليلتك لا مصليًا ولا داعيًا، قال: فبكى، ثم قال: لو يعلم الخلائق ماذا يستقبلون غدًا ما لذوا بعيش أبدًا، إني -والله- لما رأيت الليل وهوله وشدة سواده، ذكرت به الموقف وشدة الأمر هنالك، وكل امريء يومئذٍ تهمُّه نفسه، لا يغني والد عن ولد ولا مولود هو جازٍ عن والده شيئًا، ثم شهق شهقة فلم يزل يضطرب ما شاء الله، ثم هدأ، فحمل عليَّ أصحابنا في المركب، وقالوا: أنت تعلم أنه لا يحمل الذِّكر فلم تهيجه؟ قال: فكنت بعد ذلك لا أكاد أذكر له شيئًا (1).
إنه التذكر الدائم والوجل المستمر من ساعة الاحتضار وما بعدها والاستعداد لها بالعمل الصالح والتوبة النصوح .. إنه استعداد الأخيار ومبادرة الصالحين.
ونحن في هذا الزمان نضيع أعمارنا وننفق أوقاتنا فيما لا طائل من ورائه .. ولا فائدة من بعده بل إننا فرحون مستبشرون بذلك .. أرأيت كيف يضيع يومك وتنفق عمرك؟ !
أما الحسن فحين مر برجل يضحك، سأله: يابن أخي .. هل
(1) حلية الأولياء (1/ 18).
جزت الصراط؟ فقال الرجل: لا، قال: فهل علمت إلى الجنة تصير أم إلى النار؟ فقال: لا، قال: ففيم الضحك؟ ! عافاك الله والأمر هول، فما رُؤي الرجل ضاحكًا حتى مات (1).
أخي الحبيب:
أي سفر أطول من هذا السفر؟ وأي زاد تحتاج؟ إنه -أيها الحبيب- زاد الآخرة {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} .
أما الموت الذي لم نذقه بعد فلا نَعرفُ ألمه وشدته إلا حين يقع .. فكل منا سيمر بتلك اللحظات العصيبة والدقائق الرهيبة
…
الأنفاس مشدودة، والعين حائرة كسيرة
…
إنها لحظة الاحتضار.
وحين تفتح عينك وملك الموت واقف على رأسك .. تُفكر في ماذا تلك اللحظات؟ !
ونحن لم نذق الموت بَعُد .. ألمه وغُصَصه وكُربه .. ما هي؟
لحظاتُ لنرى حال من سبقنا إلى ذلك فهذا عمر بن العاص لما احتضر سأله ابنه عن صفة الموت فقال: والله لكأن جنبي في تخت ولكأني أتنفس من سَم إبرَهَ، وكأن غصن شوك يجر به قدمي إلى هامتي (2).
وسأل عمر رضي الله عنه كعبًا فقال: أخبرني عن الموت؟
قال: يا أمير المؤمنين، هو مثل شجرة كثيرة الشوك في جوف
(1) الحسن البصري: (69).
(2)
جامع العلوم: (449).