المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وسألني بعض الأصحاب أن أنظم له مثل هذا فقلت واستغفر - ديوان الصبابة

[ابن أبي حجلة]

فهرس الكتاب

- ‌المقدمة

- ‌بسم الله الرحمن الرحيم

- ‌الفصل الأول

- ‌رسم العشق ورسمه وما قيل في اسمه

- ‌الفصل الثاني

- ‌أسبابه وعلاماته

- ‌الفصل الثالث

- ‌مراتبه وأسمائه

- ‌الفصل الرابع

- ‌مدحه وذمه

- ‌الفصل الخامس

- ‌اختلاف الناس فيه هل هو اضطراري أو اختياري

- ‌الباب الأول

- ‌ذكر الحسن والجمال

- ‌وما قيل فيهما من تفصيلي وإجمالي

- ‌فصل

- ‌الباب الثاني

- ‌ذكر المحبين الظرفاء من الملوك والخلفاء

- ‌الباب الثالث

- ‌ذكر من عشق على السماع

- ‌ووقع مع الحبيب في النزاع

- ‌فصل

- ‌ذكر ما ينخرط في سلك العشق

- ‌على السماع والشهاه على الغائب

- ‌الباب الرابع

- ‌ذكر من نظر أول نظرة

- ‌فاحترق من خد الحبيب بجمرة

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌ذكر سحر الجفون ونبل العيون

- ‌وصف العيون الضيقة وغيرها

- ‌الباب الخامس

- ‌ذكر تغير الألوان عند العيان

- ‌من صفرة وجل وحمرة

- ‌خجل وما في معنى ذلك من عقد اللسان وسحر البيان

- ‌فصل

- ‌التفضيل بين البيض والسود

- ‌والسمر ذوات النهود

- ‌فصل

- ‌ذكر ما يعتري الحب

- ‌من اصفرار لونه عند رؤية محبوبه

- ‌وخفقان قلبه وطيران عقله

- ‌الباب السادس

- ‌ذكر الغيرة

- ‌وما فيها من الحيرة وقرع من ديك الجن

- ‌الباب السابع

- ‌إفشاء السر

- ‌والكتمان عند عدم الإمكان

- ‌الباب الثامن

- ‌مغالطة الحبيب

- ‌واستعطافه وتلافي غيظه وانحرافه

- ‌الباب التاسع

- ‌الرسل والرسائل

- ‌والتلطف في الوسائل

- ‌الباب العاشر

- ‌الاحتيال على طيف الخيال

- ‌وغير ذلك مما قيل فيه

- ‌على اختلاف معانيه

- ‌ الباب الحادي عشر

- ‌قصر الليل وطوله

- ‌وخضاب شفقه ونصوله وما في معنى ذلك

- ‌الباب الثاني عشر

- ‌ قلة عقل العذول

- ‌وما عنده من كثرة الفضول

- ‌الباب الثالث عشر

- ‌ذكر الإشارة إلى الوصل والزيارة

- ‌فصل

- ‌نم الطيب على الحبيب

- ‌فصل

- ‌الباب الرابع عشر

- ‌الرقيب النمام

- ‌والواشي الكثير الكلام

- ‌فصل

- ‌النمام والواشي

- ‌وما أظرف ما سمعت في ذلك

- ‌الباب الخامس عشر

- ‌العتاب عند اجتماع الأحباب

- ‌وما في معنى ذلك من الرضى والعفو

- ‌ فصل في العفو والرضى

- ‌ والصفح عما مضى

- ‌الباب السادس عشر

- ‌إغاثة العاشق المسكين

- ‌إذا وصلت العظم السكين

- ‌الباب السابع عشر

- ‌ذكر دواء علة الجوى

- ‌فصل

- ‌الباب الثامن عشر

- ‌تعنت المعشوق

- ‌على الصب المشوق وغير ذلك من أقسام الهجر

- ‌وصبر القابض فيه على الجمر

- ‌الباب التاسع عشر

- ‌الدعاء على المحبوب

- ‌وما فيه من الفقه المقلوب

- ‌الباب العشرون

- ‌الخضوع وانسكاب الدموع

- ‌الباب الحادي والعشرون

- ‌الوعد والأماني

- ‌وما فيهما من راحة المعاني

- ‌الباب الثاني والعشرون

- ‌الرضا من المحبوب بأيسر مطلوب

- ‌الباب الثالث والعشرون

- ‌اختلاط الأشباح

- ‌اختلاط الماء بالراح

- ‌الباب الرابع والعشرون

- ‌عود المحب كالخلال وطيف الخيال

- ‌وما في معنى ذلك

- ‌من رقة خصر الحبيب وتشبيه الردف بالكثيب

- ‌الباب الخامس والعشرون

- ‌ذكر ما يكابده الأحباب من الأمور الصعاب

- ‌وغير ذلك مما يقاسونه من تحمل المشاق وألم الفراق

- ‌الباب السادس والعشرون

- ‌طيب ذكر الحبيب

- ‌الباب السابع والعشرون

- ‌طرف يسير من المقاطع الرائقة

- ‌والأغزال الفائقة

- ‌مما اشتمل على ورد الخدود ورمان النهود وغير ذلك

- ‌الباب الثامن والعشرون

- ‌ذكر طرف يسير من أخبار المطربين

- ‌المجيدين من الرجال

- ‌وذوات الحجال وما في معنى ذلك من ذلك مولا تهم ووصف آلاتهم

- ‌الباب التاسع والعشرون

- ‌ذكر من ابتلى من أهل الزمان بحب النساء والغلمان

- ‌فصل

- ‌النظر إلى وجه الأمرد

- ‌ذكر الحافظ محمد بن ناصر

- ‌الباب الثلاثون

- ‌ذكر من اتصف بالعفاف

- ‌وبأحسن الأوصاف

- ‌ومنهم شهيد

- ‌ومنهم قتيل

الفصل: وسألني بعض الأصحاب أن أنظم له مثل هذا فقلت واستغفر

وسألني بعض الأصحاب أن أنظم له مثل هذا فقلت واستغفر الله وأتوب إليه.

تأخرت لحيضها

قلت لها تقدمي

هذا عصبي

يدخل معك في الدم

وقال بعض مشايخ العصر:

وكنت إذا رأيت ولو عجوزاً

بيادر بالقيام على الحرارة

فأصبح لا يقوم لبدر تم

كأن النحس قد ولى الوزارة

وقلت أنا:

يا

إن مر الحبيب مسلما

وأشار نحوك دون كل الناس

فانهض لخدمته ولأنك أحمقا

ما في وقوفك ساعة من بأس

وقلت أيضاً واستغفر الله العظيم من كل ذنب.

ولما وفى في الصيام الحب أنشدني

وقال: اشترط ما شئت واحتكم فالأمر أمرك ما عندي مخالفة إن صمت صمنا وإن أفطرت لم نصم وحكى قاضي القضاة شمس الدين ابن خلكان بعد أن رد قول بعضهم.

ولقد قال لي صديقي لما

أن رآني أضرني الإفلاس

قم تسكع بذا العمود فهذا

...يرجى بمثله ويرأس

قلت قد كان ذا ولكن دهري

أهله كلهم لئام خساس

أين من كان عندهم يرفع

...وعلى الراحتين ثم يباس

أين من كان عالماً بمقاد

ير

الكبار مات الناس

فقال قيل أن الأمير فخر الدين ابن الشيخ رأى هذه الأبيات مكتوبة على ظهر كتاب بخط شرف الدين ابن قيم الشام فكتب تحتها من خلف مثلك ما مات وقال آخر:

زعموا أنني خسرت عليها

ليت شعري من أين تلك الخسارة

من مغل من ضيعتي من قماشي

من بقايا أموال تلك التجارة

حضرتني فقام

إذ ذا

ك يحاكى بقطينة أو خيارة

وقال آخر:

ويحك يا

أما تستحي

تخجلني ما بين جلاسي

تطلع من طوقي كذا عامداً

تنكس العمة عن رأسي

وقال ابن مطروح:

سألت من أمر ضنى

في قبلة تشفي الألم

فقال لالا أبداً

قلت له نعم نعم

فقال غصباً قلت لا

إلا سماحا وكرم

قال فسر أقلت لا

إلا على رأس علم

قال فخذها بالرضا

مني حلالاً وابتسم

فلا تسل عما جرى

واستغفر الله ونم

‌الباب الثلاثون

‌ذكر من اتصف بالعفاف

‌وبأحسن الأوصاف

ص: 88

أقول هذا باب عقدناه لذكر أكثر المحبين ميلاً وأظهرهم دليلاً وأحسنهم سيرة وأزكاهم سريرة وأعفهم مع القدرة ولا سيما بنو عذرة الذين هم أشد الناس غراماً وأعظمهم هياماً فلذلك قلت وقول العشق مع العفة في بني عذرة كثير والمقتول منهم عشقاً جم غفير فإن ذكر أحدهم بالعفة فجميل جميل الصفات صادق العزمات وسنورد من أخباره في هذا المقام ما يصدق هذه الدعوى ويحقق أن التسلي بالمحبوب عن غيره ضرب من السلوى فمن ذلك ما حكاه محمد بن جعفر الأهوازي قال مرض جميل بمصر مرضه الذي مات فيه فدخل عليه العباس بن سهل فقال له جميل ما تقول في رجل لم يشرب الخمر قط ولم يزن ولم يقتل النفس ولم يسرق يشهد أن لا إله إلا الله قلت أظنه قد نجا وأرجو له الجنة فمن هذا الرجل قال أنا فقلت له ما أحسبك سلمت وأنت منذ عشرن سنة تسبب ببثينة فقال أني لفي أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا فلا نالتني شفاعة محمد يوم القيامة إن كنت وضعت يدي عليها لريبة قط فما قمنا حتى مات سنة اثنتين وثمانين من الهجرة ومن غريب ما حكاه الزبير من أخبار جمل أن بثينة المذكورة من بني عذرة وبنو عذرة قبيلة مشهورة بالعشق في قبائل العرب وإليهم ينسب الهوى العذري لأنهم أشد سائر خلق الله عشقاً قال سعيد بن عقبة لأعرابي ممن أنت قال من قوم إذا عشقوا ماتوا قال عذري ورب الكعبة ثم قال ولم ذلك قال لأن في نسائنا صباحة وفي فتياتنا عفة وقال رجل لعروة بن جزام يا هذا بالله أصحيح ما يقال عنكم أنكم أرق الناس قلوباً قال نعم والله لقد تركت ثلاثين شاباً في الحي قد خامرهم الموت ما لهم داء إلا الحب وقال رجل من بني قزارة لرجل من بني عذرة تعدون موتكم بالحب مزية وفضيلة وإنما ذلك ضعف بنيه وضيق روية ورق وخور تجدونه فيكم يا بني عذرة فقال له والله لو رأيتم النواظر الدعج من فوقها الحواجب الزج من تحتها المباسم الفلج والشفاه السمر تفتر عن الثنيايا الغر لا تخذتموها اللات والعزى ثم أنشد:

تتبعت مرمى الوحش حتى رميتني

من النيل لا بالطائشات الخواطف

ضعائف يقتلن الرجال بلا دم

فيا عجباً للقاتلات الضعائف

وقيل بعضهم ما كنت صانعاً لو ظفرت بمن تحب فقال أحل الخمار وأحرم ما وراء الأزار وأظهر للحب ما يرضي الرب وقال الحافظ أبو محمد الاموي أن امرأة يثق بها حدثته أن فتى علقها وعلقته وشاع أمرهما فاجتمعا يوماً خاليين فقال لها هلمي نحقق ما يقال فينا فقالت لا والله لا كان هذا أبداً وأنا أقرأ " الإخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين " وقيل لبعضهم وقد طال عشقه لجارية من قومه ما أنت صانع إن ظفرت بها ولا يراكما إلا الله قال والله لا جعلته أهون الناظرين لا أفعل بها خالياً إلا ما أفعله بحضرة أهلها حنين طويل ولحظ من بعيد وأترك ما يكره الرب ويفسد الحب وقيل لآخر ما كنت صانعاً لو ظفرت بمحبوتك فقال ضمها ولثهما وعصيان الشيطان في أثمها ولا أفسد عشق عشرين سنة بلذة ساعة تفني ويبقى حسابها إني إن فعلت هذا اللئيم ولم يلدني كريم قلت وممن اتصف من العفاف بأحسن الأوصاف من الخلفاء هرون الرشيد وذلك أنه عشق جارية فلما راودها عن نفسها قالت إن أباك ألم بي فتركها وشغف بها حتى كاد يخرج عى وجهه فكان ينشد:

أرى ماء وبي عطش شديد

ولكن لا سبيل إلى الورد

ص: 89

فقال له القاضي أو كلما قالت جارية شيئاً تصدق قولها فقال الرشيد ما فوق الخلافة مرتبة فانظر ما أحسن عفة الجارية وامتناع هرون الرشيد مع شدة شغفه بها ودخل عليه منصور بن عمار فاستدناه حتى ألصق ركبتيه بركبتيه فقال له منصور يا أمير المؤمنين تواضعك في شرفك أحب إلينا من شرفك فقال عظني فقال من عف في جماله وواسى من ماله وعدل في سلطانه كتبه الله من الأبرار فبكى الرشيد وقال زدني فقال لو طلبت شربة ماء فلم تجدها إلا بنصف الدنيا أكنت تشتريها به قال نعم قال فلو تعسرت عليك بعد شربها أكنت تشتري خروجها بالنصف الآخر قال نعم قال قبح الله دنيا تشترى بشربة ماء وبولة. وحكى عن السلطان ملك شاه السلجوقي أنه حضر بين يديه مغنية فأعجب بها واستطاب غناءها فهم بها فقالت يا سلطان العالم إني أغار على هذا الوجه المليح الجميل أن يعذب بالنار وإن الحلال أيسر وبينه وبين الحرام كلمة فقال صدقت واستدعى القاضي وتزوجها وأقامت في عصمته حتى مات رحمه الله. وحكى سهيل أكبر خدم السلطان نور الدين الشهيد أن السلطان المذكور اشترى مملوكاً بخمسمائة دينار وخلعة وبغلة وكان جميل الصورة وسلمه إلي وكنت قد ربيت السلطان فقلت في نفسي إنا لله وإنا إليه راجعون هذا ما اشتري مملوكاً قط بخمسين ديناراً فلم أشتري هذا بخمسمائة دينار ثم تركني أياماً وقال أحضره مع المماليك يقف في الخدمة كل يوم فلما كان بعد أيام قال أحضره بعد العشاء إلى الخيمة ونم أنت وأياه على باب البرج فقلت في نفسي هذا الشيخ في زمان شبابه ما ارتكب كبيرة ولما كبر سنه يقع فيها والله لا قتلته قبل أن يقع في المعصية فأخذت كتارة فأصلحتها وجئت بالمملوك وأنا في قلق فسهرت عامة الليل ونور الدين في أعلى البرج ثم غلبتني عيني فنمت ثم استيقظت فوقعت يدي على وجه الغلام فإذا به مثل الجمرة وعليه حما شديدة فرجعت به إلى خيمتي وأحضرت الطبيب فمات وقت الظهر فغسلته وكفنته ودفنته فدعاني نور الدين في اليوم الثاني وقال يا سهيل إن بعض الظن أثم فاستحيت فقال قد عرفت حالي وأنت ربيتني هل عثرت لي على زلة قلت حاشا لله قال فلم حملت الكتارة وحدثتك نفسك بالسوء ما أنا معصوم لما رأيت المملوك وقع في قلبي منه مثل النار فقلت أشتريه لعله يذهب عني ما أنا فيه فلم يذهب فقالت لي نفسي أريد كل يوم أن أراه فأمرتك بإحضاره فقالت أريد أن تحضره إلى البرج بالليل فأمرتك بإحضاره فلما حضر ما تركتني النفس أنام وبقينا في حرب إلى السحر فهممت أن أصعده إلى عندي فتداركني الله برحمته فكشفت رأسي وقلت إلهي عبدك محمود المجاهد في سبيلك الذاب عن دين نبيك صلى الله عليه وسلم الذي عمر المساجد والمدارس والربط يختم أعماله بمثل هذا فسمعت هاتفاً يقول قد كفيناك يا محمود فعلمت أنه قد حدث به حدث وأما أنت فجزاك الله عني خيراً والله أن أقتل عندي أهون من المعصية ثم أحسن إلي. وحكى عن فاطمة بنت الخثعمي أنها دعت عبد الله بن عبد المطلب والد النبي صلى الله عليه وسلم نفسها للنور الذي رأته بين عينيه فأبى وقال:

أما الحرام فالممات دونه

والحل لا حل فأستبينه

فكيف بالأمر الذي تبغينه

يحمي الكريم عرضه ودينه

قلت قصة عبد الله مع فاطمة هذه مثل قولهم في المثل واحد يشتهي التين وآخر يقطفه فحاله معها كحال توبة مع ليلى الأخيلية وهو ما حكى أنه راودها عن نفسها فنفرت منه وأنشدت:

وذي حاجة قلنا له لا تبح بها

فليس إليها ما حييت سبيل

لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه

وأنت لأخرى صاحب وخليل

فكانت كما قيل:

جننا بليلى وهي جنت بغيرنا

وأخرى بنا مجنونة ما نريدها

ومثل قول الآخر:

علقتها عرضاً وعلقت رجلاً

غيري وعلق أخرى غيرها الرجل

ص: 90

وممن اتصف بالعفاف من ذوي الغرام الإمام ابن الإمام محمد بن داود الظاهري وله في ذلك حكايات مشهورة وهذا موضع إيرادها ونشر أبرادها فمن ذلك قوله لكل شيء زكاة وزكاة الوجه الحسن إمكان أهل العفة من النظر إليه. وحكى محبوبه محمد وقيل اسمه وهب بن جامع الصيدلاني أنه دخل على أمير المؤمنين فسأله عن ابن داود هل رأيت منه ما تكره فقال لا يا أمير المؤمنين إلا إني بت عنده ليلة فكان يكشف عن وجهي ثم يقول اللهم أنت تعلم أني أحبه وإني أراقبك فيه قال فما بلغ من رعايتك له فقلك دخلت الحمام فلما خرجت نظرت في المرآة فاستحسنت صورتي فوق ما عهدت فغطيت وجهي وآليت أن لا ينظر أحد إلى وجهي قبله وبادرت إليه فلما رآني مغطى الوجه خاف أن يكون لحقني آفة فقال ما الخبر فقلت رأيت الساعة وجهي في المرآة فأحببت أن لا يراه أحد قبلك فغشى عليه قال الليث بن سكرة كان محمد بن واسع يتفق على محمد بن داود وما عرف فيما مضى من الزمان معشوق ينفق على عاشقه ويتقرب إلى قلبه بأنواع البر إلا هذا مع ما هو فيه من الصيانة وحسن الديانة فالحمد لله الذي رأينا في زماننا من يتخلق بأخلاق الناس ولهذا العاشق مع هذا المعشوق حكاية غريبة أضربت عنها خوف الإطالة وكان محمد بن داود قد وضع كتاب الزهرة لأجل محبوبه محمد بن جامع المذكور وهو مجموع أدب أتى فيه بكل غريبة ونادرة وشعر أنيق وقال في أوله وكيف تنكرت من تغير الزمان وأنت أحد مغيريه ومن جفاء الإخوان وأنت المقدم فيه ومن عجيب ما تأتي به الأيام ظالم يتظلم وغابن يتندم ومطاع يستظهر وغالب يستنصر ومن كلامه ما انفككت من هوى منذ دخلت الكتاب وبدأت في كتاب الزهرة وأنا في الكتاب ونظر أبي في أكثره.

ومن ألطف ما حكى عنه أنه التقى هو وأبو العباس بن سريج في مجلس أبي الحسن بن عيسى الوزير فتناظرا في مسئلة من الإيلاء فقال له ابن سريج أنت بقولك من كثرت لحظاته جامت حسراته أحذق من أن تتكلم في الفقه فقال له محمد بن داود إن قلت ذلك فإني أقول:

أنزه في روض المحاسن مقلتي

وأمنع نفسي أن تنال محرما

وأحمل من ثقل الهوى ما لو أنه

يصعب على الصخر الأصم تهدما

وينطق طرفي عن مترجم خاطري

فلولا اختلاسي رده لتكلما

رأيت الهوى دعوى من الناس كلهم

فلست أرى حباً صحيحاً مسلما

فقال له ابن سريج فيم تفتخر علي ولو شئت لقلت:

ومساهر بالغنج من لحظاته

قد بت أمنعه لذيذ سناته

شفقاً بحسن حديثه وعتابه

وأكرر اللحظات في وجناته

حتى إذا الصبح لاح عموده

ولي بخاتم ربه وبراته

فقال محمد احفظ عليه أيها الوزير ما أقر به من الاجتماع حتى يقيم البينة بشاهدي عدل على البراءة فقال له ابن سريج يلزمني في هذا ما يلزمك في قولك:

أنزه في روض المحاسن مقلتي

وأمنع نفسي أن تنال محرما

قال فضحك الوزير وقال لقد جمعتما علماً وفهماً وظرفاً ولطفاً ومن لطيف ما يحكى عن محمد أيضاً ما حكاه أبو القاسم الصائغ قال: قال لي محمد بن داود ما دخلت جامع المدينة مما يلي باب خراسان منذ عشرين سنة قلت ولم قال لأني دخلت ذات يوم فرأيت غلامين من أحسن الناس وجهاً يتعاتبان فلما رأيان تفرقا فآليت أن لا أدخل من باب كنت فيه السبب في الفرقة بين المتحابين ودخل عليه ثعلب فقال له أسمعنا شيئاً من صبوتك فأنشد:

سقى الله أياماً لنا ولياليا

لهن بأكناف الشباب ملاعب

إذا العيش غض والزمان بغرة

وشاهد آفات المحبين غائب

ومن شعره:

لكل امرئ ضيف يسر به بقربه

ومالي سوى الأحزان والهم من ضيف

يقول خليلي كيف صبرك بعدنا

فقلت وهل صبر فيسئل عن كيف

ص: 91

وقال ابن السراج في كتاب مصار العشاق وعن أبي عبد الله ابراهيم ابن محمد بن عرفة النجوي قال دخلت على محمد بن داود الظاهري في مرضه الذي مات فيه فقلت كيف نجدك فقال حب من تعلم أورثني ما ترى قلت له ما منعك عن الاستمتاع به مع القدرة عليه فقال الاستمتاع على وجهين أحدهما النظر المباح والثاني اللذة المحظورة فإنه منعني منها ما حدثني أبي قال حدثني سويد بن سعيد قال حدثنا علي بن مسهر عن أبي يحيى العقاف عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي ص أنه قال " من عشق وكتم وعفه وصبر غفر الله ذنبه وأدخله الجنة " ثم أنشد:

؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ أنظر إلى السحر يجري في لواحظه

وأنظر إلى دعج في طرفه الساجي

وانظر إلى شعرات فوق عارضه

كأنهن نمال دب في عاج

وأنشدنا لنفسه:

ما لهم أنكروا سواداً بخديه

ولم ينكروا سواد العيون

إن يكن عيب خده بذر الشعر

فعيب العيون شعر الجفون

فقلت له نقيت القياس في الفقه وأثبته في الشعر فقال غلبة الهوى وملكة النفس دعوا إليه. ومات في ليلته رحمه الله قلت وقد اختلف الناس في قوله عليه الصلاة والسلام من عشق وكتم وعف الحديث فقال وقد اختلف الناس في قوله عليه الصلاة والسلام من عشق وكتم وعف الحديث فقال بعضهم كتم عشقه عن الناس وقال بعضهم كتم اسم محبوبه وقال الحصري أحب فكتم ووصل فعف وهجر فمات فهو شهيد وقال عثمان بن زكريا المؤدب أحد رواة الحديث عن سويد كتم محبوبه أنه يحبه قال الشيخ الإمام العلامة الحافظ علاء الدين أبو عبد الله مغلطاي في كتابه الواضح المبين هذا حديث اسناده صحيح وإن كان جماعة من العلماء أعلوه بما ليس بعلة يرد بها يعني قوله صلى الله عليه وسلم من عشق فكتم الحديث. ونقل في كتابه المذكور أيضاً أن هذا الحديث سنده كالشمس لا مرية في صحته ولا لبس قلت ولهذا عد جماعة من الفقهاء ميت العشق من الشهداء أخذا بهذا الحديث منهم الرافعي وغيره فبعضم اشترط الشروط المذكورة وبعضهم أطلق كالشيخ محيي الدين النووي فإنه أطلق ولم يشترط شيئاً فقال والميت عشقاً والميتة طلقاً يعني من الشهداء هذا مع شدته في الدين وعدم مساهلته في هذه الأشياء وما أحسن قول ابن الأثير دمع العاشق ودم القتيل متساويان في التشبيه والتمثيل إلا أن بينهما بوناً لأنهما يختلفان لوناً وقال الإمام العلامة أبو الوليد الناجي:

إذا مات المحب جوى وعشقا

فتلك شهادة يا صاح حقا

زواه لنا ثقاة عن ثقاة

إلى الحبر بن عباس ترقى

وقال عبد الكريم القشيري:

إن المحب إذاتوفي صابراً

كانت منازله مع الشهداء

يرويه أقوام غدو في صدقهم

علماً وناهيكم بهذا الداء

وقال الحسن بن هاني:

ولقد كنا روينا

عن سعيد عن قتادة

عن سعيد بن المسيب

إن سعد بن عباده

قال من مات محباً

كان من أهل الشهادة

وقال بن رواحة الحموي وأحسن ماشاء:

لاموا عليك وما دروا

إن الهوى سبب السعادة

إن كان وصل فالمنى

أو كان هجر فالشهادة

إنه عكس قوله هذا فقال:

يا قلب دع عنك الهوى واسترح

ما أنت فيه حامداً أمرا

أضعت دنياي بهجرانه

إن نلت وصلاً ضاعت الأخرى

وقال آخر:

خليلي هل خبرتما أو سمعتما

بأن قتيل الغانيات شهيد

وقلت كأني حاضر أخاطبه:

نعم قد سمعنا أن من كتم الهوى

وعف إلى أن مات فهو شهيد

فخذ عن مقال أنت فيه مذبذب

فذلك ما قد كنت عنه تحيد

سياق الذي يرويه ركب ذوي الهوى

به كل يوم سائق وشهيد

يطوفون بالأحباب خلف بيوتهم

فمنهم قيام حولها وقعود

بعومون في بحر المدامع عندما

تميل بهم سفن الهوى وتميد

أتبكي دوين العام من عام منهم

وقد حد حولاً للبكاء لبيد

قلت وقد انقضى الكلام على هذه الأبواب المحكمة العقود النقية النقود المجبورة الكسور العالية القصور مشتملاً كل باب منها على بيت قصيد وبحر مديد.

ص: 92

يسقي ثمر غروسها ويروي المجدب من طروسها.

بعينين نجلاوين لو رقرقتهما

لنوء الثريا لاستهل سحابها

ومنا بقي إلا ذكر مصارع العشاق وأخبار من أصبح من المحبين ميتاً بالأشواق.

إن لم أمت في هوى الأجفان والمقل

فوا حيائي من العشاق واخجلي

ما أطيب الموت في عشق الملاح كذا

لا سيما بسيوف الأعين النجل

يا صاحبي إذا ما مت بينكما

دون الشهيين ورد الخد والقبل

فاستغفرا لي وقولا عاشق غزل

قضى صريع القدود الهيف والمقل

وقال بلدينا محمد بن العفيف التلمساني رحمه الله:

للعاشقين بأحكام الغرام رضا

فلا تكن يا فتى بالعذل معترضا

روحي الفداء لأحبابي وإن نقضوا

عهد الوفا للذي للعهد ما نقضا

قف واستمع راحماً أخبار من قتلوا

فمات في حبهم لم يبلغ الغرضا

رأى فحب فرام الوصل فامتنعوا

فسام صبراً فأعيا نيله فقضى

وقال جرير:

إن العيون التي في طرفها حور

قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به

وهن أضعف خلق الله أركانا

وقال آخر:

ما زال يهوى المقلا

قلبي إلى أن قتلا

الحمد لله الذي

مات وما قيل سلا

وقال آخر:

ترى المحبين صرعى في ديارهم

كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا

قوم إذا هجروا من بعد ما وصلوا

ماتوا فإن عاد من يهوونه بعثوا

وقال محمد الواعظ:

دعا لومي فلومكما معاد

وقتل العاشقين له معاد

ولو قتل الهوى أهل التصابي

لما ماتوا ولو ردوا لعادوا

خاتمة الكتاب في ذكر من مات من حبه وقدم على به من صغير وكبير وغني وفقير على اختلاف ضروبهم وتباين مطلوبهم ولأجل ذكرهم أسست قواعد هذا الكتاب ودخلت فيه من باب وخرجت من باب لأتوصل منه إلى ذكر من ساقه الهجر إلى السياق وتحمل من العشق ما لا طاقة له به من الباب إلى الطاق ومن هنا أشرع في ذكر مصارعهم وعرض بضائعهم إذ منهم الخاسر والرابح والصالح والطالح فمنمهم شقي وسعيد ومنهم قتيل وشهيد.

وحكى أبو الفرج بن الجوزي قال ذكر لي شيخنا أبو الحسن علي بن عبد الله أن رجلاً عشق نصرانية حتى غلب على عقله فحمل إلى البيمارستان وكان له صديق يترسل بينهما فلما زاد به الأمر ونزل به الموت قال لصديقه قد قرب الأجل ولم ألق فلانة في الدنيا وأخشى أن أموت على الإسلام ولا ألقاها فتنصر فمات فمضى صديقه إلى النصرانية فوجدها عليلة فقالت أنا ما ألقيت صاحبي في الدنيا وأريد أن ألقاه في الآخرى وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ثم ماتت قلت لم أسمع بأغرب من هذه الحكاية ولا أعظم من هذه النكاية قد سبق على صاحبها الكتاب وضرب بينه وبين محبوبته بسور له باب فابتلى من فراق محبوبته ودينه بداءين ودارت عليه دائرة السوء في الدارين وكيف لا وقد ورد بكسادة في الحب دار البوار وأصبح بكفره وإسلامها على شفى جرف هار.

سارت مشرقة وسرت مغربا

شتان بين مشرق ومغرب

ذكرت بهذه الحكاية قول عبد الوهاب الأزدي يرثي حبيب له نصرانياً وأحسن ما شاء حيث قال:

أخي بوداد لا أخي بديانة

ورب أخ في الود مثل نسيب

وقالوا أتبكي اليوم من ليس صاحبا

غداً إن هذا فعل غير لبيب

فقلت لهم هذا أو أن تلهفي

وشدة إعوالي وفرط نحيبي

ومن أين لي أبكي حبيباً فقدته

إذا خاب منه في المعاد نصيبي

ص: 93