المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

كيف استوى؟ فأطرق مالك فأخذته الرُّحَضَاء ثم رفع رأسه فقال: - رسائل السنة والشيعة لرشيد رضا - جـ ١

[محمد رشيد رضا]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة المعتني:

- ‌تاريخ التشيع ومذاهب الشيعة

- ‌أقوال العلماء الشيعة وساستهم في المنار

- ‌تعصب صاحب مجلة العرفان

- ‌زعيم الرافضة وعدو السنة

- ‌الطريقة النقشبندية

- ‌سعينا للتأليف بين الوهابية والشيعة

- ‌ ليس بين مذهب الزيدية ومذهب السنة من البُعْد كما بين الروافض وأهل السنة

- ‌ نبأ عقد المؤتمر الإسلامي في الرياض عاصمة نجد

- ‌ما يدعيه فقهاء الشيعة الجامدين، من تلقي الدين والفتوى من سرداب سامرا

- ‌تفاوت موقف الشيعة الاثنى عشرية من قضية الاجتهاد

- ‌ كلام المؤلف السيد رشيد رضا عن شخصية الشريف حسين

- ‌الفرق بين السني والشيعي

- ‌ حقيقة الفقه الشيعي أو ما يسمى بـ (المذهب الجعفري)

- ‌ المهدي يأتي بأمر جديد وقرآن جديد

- ‌ الإجماع عند الشيعة

- ‌رد السيد الآلوسي على حصون العاملي الرافضي

- ‌جميع القبائل الذين ترفضوا هم أعدى الناس لدولة الإسلام

- ‌بغض الروافض لبعض أهل البيت

- ‌جعفر ابنا موسى الكاظم

- ‌ إبراهيم بن جعفر

- ‌زعم الرافضة تحريف القرآن

- ‌الكتب المعتمدة عند الشيعة الإمامية:

- ‌لم لم يعترض الأئمة على ما فيها من موضوعات

- ‌زرارة بن أعين

- ‌ رقعة علي بن الحسين بن موسى بن مابويه القمي

- ‌ رجَّحوا التوقيع على المروي بالإسناد الصحيح لدى التعارض

- ‌طعن الشيخ محسن في الوهابية:

- ‌ندب الحسين وسب الصحابة

- ‌يقولون: إن الأئمة يوحى إليهم

- ‌يقولون بالرجعة

- ‌طعن العاملي في الوهابية وابن تيمية

- ‌ من عجائب الأيام وفكاهاتها المضحكة قوماً، المبكية

- ‌بيان تَقَوُّلِ العاملي على ابن تيمية والوهابية

- ‌ الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: (وأما القول بأنّا نكفر بالعموم

- ‌كان أبو الحسن الأشعري من المعتزلة المتأولين ثم رجع عن أشهر قواعد الاعتزال

- ‌الإمام الغزالي

- ‌ مبتدعة التأويل يقيسون الخالق على المخلوق

- ‌نتيجة ما تقدم في إبطال زعم الرافضي

- ‌د بن

- ‌نموذج من نقول في الطعن على ابن تيمية

الفصل: كيف استوى؟ فأطرق مالك فأخذته الرُّحَضَاء ثم رفع رأسه فقال:

كيف استوى؟ فأطرق مالك فأخذته الرُّحَضَاء ثم رفع رأسه فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) كما وصف به نفسه، ولا يقال كيف، وكيف عنه مرفوع، وما أراك إلا صاحب بدعة أخرجوه، ومن طريق يحيى بن يحيى عن مالك نحو المنقول عن أم سلمة لكن قال فيه: والإقرار به واجب، والسؤال عنه بدعة. (1)

وأخرج البيهقي من طريق أبي داود الطيالسي قال: كان سفيان الثوري وشعبة وحما‌

‌د بن

زيد وحماد بن سلمة وشريك وأبو عوانة لا [يحددون](2) ولا يشبهون ويروون هذه الأحاديث ولا يقولون (كيف) قال أبو داود وهو قولنا، قال البيهقي: وعلى هذا مضى أكابرنا. (3)

وأسند اللالكائي [3 / 432] عن محمد بن الحسن الشيباني قال: اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على الإيمان بالقرآن وبالأحاديث التي جاء بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب من غير تشبيه ولا تفسير (4) ، فمن فسر شيئًا منها وقال بقول جهم فقد خرج عما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وفارق الجماعة؛ لأنه وصف الرب بصفة لا شيء.

ومن طريق الوليد بن مسلم: سألت الأوزاعيّ ومالكا والثوري والليث بن سعد عن

(1) أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات ص408، ولصابوني في اعتقاد أهل الحديث ص 45، وهذا الأثر مشهور مستفيض لا تكاد تخلو منه كتب أهل السنة في المعتقد، وهذا الجواب من الإمام مالك وغيره من الأئمة رضي الله عنهم شافٍ، عامّ في جميع مسائل الصفات، فمن سأل عن قوله:{إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأرَى} كيف يسمع ويرى؟، أجيب بهذا الجواب بعينه، فقيل له: السمع والبصر معلوم، والكيف غير معقول، وكذلك من سأل عن العلم، والحياة، والقدرة، والإرادة، والنزول، والغضب، والرضى، والرحمة، والضحك، وغير ذلك، فمعانيها كلها مفهومة، وأما كيفيتها فغير معقولة؛ إذ تعقُّل الكيفية فرع العلم بكيفية الذات وكنهها، فإذا كان ذلك غير معقول للبشر، فكيف يعقل لهم كيفية الصفات؟!

كما أن هذا الكلام فيه أنَّ نفس الاستواء معلوم، وأنَّ كيفية الاستواء مجهولة، وهذا بعينه قول أهل الإثبات، وأما نفاة الاستواء فما يثبتون استواء حتى تجهل كيفيته، خاصة عند المفوضة من الأشاعرة وأمثالهم أنَّ الاستواء مجهول غير معلوم، وإذا كان الاستواء مجهولاً لم يحتج أن يُقال: الكيف مجهول، لا سيما إذا كان الاستواء منتفياً، فالمنتفي المعدوم لا كيفية له حتى يُقال: هي مجهولة أو معلومة، وكلام مالك صريح في إثبات الاستواء، وأنَّه معلوم، وأنَّ له كيفية، لكن تلك الكيفية مجهولة لنا لا نعلمها نحن. انظر: مجموع الفتاوى (5 / 181) .

(2)

في مصادر التخريج: ((ولا يحدون)) ونفي الحد الذي ذكره السلف هنا حق، لكن حدث بعدهم من أدخل في عموم نفيه حقا وباطلا، فيحتاج إلى بيان ذلك، وهو: أن السلف متفقون على أن البشر لا يعلمون لله حدا، وأنهم لا يحدون شيئا من صفاته، ومرادهم أن الله يتعالى عن أن يحيط أحد بحده، فهذا الحد المنفي.

وأما الحد بمعنى أنه متميز عن خلقه منفصل عنهم مباين لهم، فهو الحد المُثبَت، سئل عبد الله بن المبارك: بم نعرف ربنا؟ قال: بأنه على العرش، بائن من خلقه، قيل: بحد؟ قال: بحد. وأقره الإمام أحمد، انظر: السنة لعبد الله بن أحمد 1 / 175، الإبانة لابن بطة (1 / 159، 161) .

ومن المعلوم أن الحد يقال على ما ينفصل به الشيء ويتميز به عن غيره، والله تعالى غير حال في خلقه، ولا قائم بهم، بل هو القيوم القائم بنفسه، المقيم لما سواه. فالحد بهذا المعنى لا يجوز أن يكون فيه منازعة في نفس الأمر أصلا. انظر: بيان تلبيس الجهمية (3 / 7 - 52 ط: مجمع الملك فهد) ، شرح الطحاوية لابن أبي العز، فتاوى الشيخ ابن عثيمين (7 / 193) وقال رحمه الله:((وبذلك تعرف أن نفي الحد وإثباته على وجه الإطلاق لا ينبغي، على أن السلامة هي أن يقال: إن الحد لا يضاف إلى الله إطلاقاً لا على سبيل وجه النفي ولا على وجه الإثبات، لكن معناه يستفصل فيه، ويثبت الحق منه ويبطل الباطل، والله أعلم)) .

(3)

أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (3 / 3) وفي الأسماء والصفات (2 /334 ط: الحاشدي) .

(4)

للسلف عدة نصوص تبين التفسير المنفي هنا، فمنها ما قال أبو عبيد:((إذا قيل كيف وضع قدمه؟ وكيف ضحك؟ قلنا: لا يفسر هذا)) ، وقال سفيان بن عيينة:((كل ما وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره، لا كيف ولا مثل)) ، وقال الأثرم:((قلت لأبي عبد الله: حدث محدث وأنا عنده بحديث ((يضع الرحمن فيها قدمه..)) وعنده غلام فأقبل على الغلام فقال: إن لهذا تفسيرا. فقال أبو عبد الله: انظر إليه، كما تقول الجهمية سواء)) ، وسئل أبو زرعة الرازي عن تفسير {الرحمن على العرش استوى} فغضب وقال: تفسيره كما تقرأ، هو على عرشه وعلمه في كل مكان)) . انظر: الصفات للدارقطني ص 40، 41، إبطال التأويلات ص 75، مجموع الفتاوى 5 / 50 - 51، العلو للذهبي (1 / 177، 188، 251، 264 ط: أضواء السلف) .

ص: 91

الأحاديث التي فيها الصفة فقالوا: (أَمِرُّوهَا كما جاءت بلا كيف) . (1)

(وأخرج ابن أبي حاتم في مناقب الشافعي عن يونس بن عبد الأعلى سمعت الشافعي يقول: لله أسماء وصفات لا يسع أحدًا ردُّهَا ومن خالف بعد ثبوت الحجة عليه فقد كفر، وأما قبل قيام الحجة فإنه يعذر بالجهل؛ لأن علم ذلك لا يُدْرَك بالعقل ولا الرَّوِيَّة والفكر، فنثبت هذه الصفات وننفي عنه التشبيه كما نفى عن نفسه فقال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) .

وأسند البيهقي [2 / 307] بسند صحيح عن أحمد بن أبي الحواري عن سفيان بن عيينة قال: (كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه)(2) .

ومن طريق أبي بكر الضبعي قال: مذهب أهل السنة في قوله {الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى} (طه: 5) قال: بلا كيف. (3)

والآثار فيه عن السلف كثيرة، وهذه طريقة الشافعي وأحمد بن حنبل وقال الترمذي في الجامع عقب حديث [برقم: 3298] أبي هريرة في النزول: ((وهو على العرش كما وصف به نفسه في كتابه)) كذا قال غير واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبهه من الصفات.

وقال في باب فضل الصدقة [حديث: 662] : ((قد ثبتت هذه

(1) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة (3 / 503، 527) ، والبيهقي في الأسماء والصفات (2 / 377) .

(2)

وأخرجه عنه اللالكائي (3 / 431) بلفظ: ((كل ما وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره، لا كيف ولا مثل)) . وقال قوام السنة أبو القاسم الأصبهاني عن قول ابن عيينة فقراءته تفسيره: ((أي هو هو على ظاهره لا يجوز صرفه إلى المجاز بنوع من التأويل)) قال الحافظ الذهبي: ((وكما قال سفيان وغيره: قراءتها تفسيرها. يعني أنها بينة واضحة في اللغة لا يبتغى بها مضائق التأويل والتحريف)) . وانظر: العلو للذهبي (1 / 251، 263) .

(3)

الأسماء والصفات للبيهقي (2 / 308) .

ص: 92

الروايات فنؤمن بها ولا نتوهم ولا يقال (كيف) ، كذا جاء عن مالك وابن عيينة وابن المبارك أنهم أَمَرُّوهَا بلا كيف (1) ، وهذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية فأنكروها وقالوا: هذا تشبيه، وقال إسحاق بن راهويه: إنما يكون التشبيه لو قيل: يد كيد وسمع كسمع (2)) ) .

وقال في تفسير المائدة [3045]((قال الأئمة: نؤمن بهذا الحديث من غير تفسير، منهم الثوري ومالك وابن عيينة وابن المبارك)) .

وقال ابن عبد البر [التمهيد 7 / 145 ط: المغرب، بتصرف] : ((أهل السنة مجمعون على الإقرار بهذه الصفات الواردة في الكتاب والسنة ولم يكيفوا شيئًا منها، وأما الجهمية والمعتزلة والخوارج (3) فقالوا: من أقر بها فهو مشبه، فسماهم من أقر بها معطلة)) . (4)

(وقال إمام الحرمين في الرسالة النظامية [ص 32-34] : اختلفت مسالك العلماء في هذه الظواهر، فرأى بعضهم تأويلها، والتزم ذلك في آي الكتاب وما يصح من السنن وذهب أئمة السلف إلى الانكفاف

(1) إن قول السلف: ((أمروها بلا كيف)) أو ((أمروها كما جاءت)) يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه؛ فلو كانت دلالتها منتفية، كما يقول المفوضة من الأشاعرة وغيرهم، لكان الواجب أن يقال ما معناه: أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد؛ أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، كما هو قول المفوضة من الأشاعرة، وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت، ولا يقال حينئذ بلا كيف؛ إذ نفي الكيف عما ليس بثابت يعتبر من لغو القول. انظر: مجموع الفتاوى (5 / 41 - 42)

(2)

المراد بالتشبيه الذي يُنفى ويُذم أصحابه عند أهل السنة: أن يثبت لله تعالى في ذاته أو صفاته من الخصائص مثل ما يثبت للمخلوق من تلك الخصائص، كما قال ابن البنا الحنبلي رحمه الله في المختار في أصول السنة ص 81:((المشبهة والمجسمة هم الذين يجعلون صفات الله عز وجل مثل صفات المخلوقين. . قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل: المشبهة تقول بصر كبصري ويد كيدي ومن قال هذا فقد شبه الله تعالى بخلقه)) . وانظر: مجموع الفتاوى (6 / 35 - 36) ، بيان تلبيس الجهمية (1 / 378، 387 ط: المَجْمَع) ، فتح رب البرية في تلخيص الحموية لابن عثيمين (4 / 9 ضمن مجموع فتاوى ورسائل الشيخ رحمه الله .

(3)

أي: ومثلهم الشيعة فإنهم أخذوا التأويل عن الجهمية والمعتزلة. (ر)

(4)

العبارة منقولة بتصرف، وعبارة ابن عبد البر هي:(أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز، إلا أنهم لا يكيفون شيئا من ذلك ولا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج فكلهم ينكرها ولا يحمل شيئا منها على الحقيقة ويزعمون أن من أقر بها مشبه) . اهـ التمهيد 7 / 145 ط: المغرب.

والمقصود بـ (الظاهر) هنا كما يقول الحافظ الذهبي في السير 19 / 488: بأن (نُمِرَّه على ما جاء، ونفهم منه دلالة الخطاب كما يليق به تعالى، ولا نقول: له تأويل يخالف ذلك) . اهـ

ص: 93

عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الله تعالى، والذي نرتضيه رأيًا وندين الله به عقيدة اتباع سلف الأمة للدليل القاطع على أن إجماع الأمة حجة فلو كان تأويل هذه الظواهر حتمًا لأوشك أن يكون اهتمامهم به فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصر الصحابة والتابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك هو الوجه المتبع اهـ. (1)

وقد تقدم النقل عن أهل العصر الثالث، وهم فقهاء الأمصار كالثوري

والأوزاعي ومالك والليث ومن عاصرهم وكذا من أخذ عنهم من الأئمة فكيف لا يُوثَق بما اتفق عليه أهل القرون الثلاثة وهم خير القرون بشهادة صاحب الشريعة.

فهذا بعض نصوص أئمة أهل السنة من علماء السلف قبل وجود ابن تيمية بعدة قرون.

وإننا ننقل بعض ما قاله ابن تيمية نفسه في العقيدة الحموية نفسها التي زعم الرافضي أنه خالف فيها جميع المسلمين بإثبات الصفات الواردة بغير تأويل؛ ليظهر للناس مقدار جرأته على الكذب في سبيل إثبات الرفض والتعطيل،

(1) انظر: الرسالة النظامية ص 32-34. وقال الخطابي رحمه الله: (فأما ما سألت عنه من الكلام في الصفات وما جاء منها في الكتاب والسنن الصحيحة: فإن مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظاهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها) ، وقال الخطيب البغدادي رحمه الله: (أما الكلام في الصفات فأما ما روي منها في السنن الصحاح فمذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها) . اهـ انظر: العلو للذهبي (2 / 237، 254)

ص: 94

ولإزاغة المسلمين عن الكتاب والسنة بالإفك والتضليل، قال شيخ الإسلام كما في (ص 427 وما بعدها من مجموعة الرسائل الكبرى المطبوعة بمصر) بعد سرد بعض النصوص وأقوال أهل السنة والمبتدعة فيها ما نصه:

(ثم القول الشامل في جميع هذا الباب أن يوصف الله بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله وبما وصفه به السابقون الأولون لا يتجاوز القرآن والحديث) اهـ.

(قال الإمام أحمد رضي الله عنه: لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله لا يتجاوز القرآن والحديث)، ونعلم أن ما وصف الله به من ذلك هو حق ليس فيه لغز ولا أحاجي بل معناه يُعْرَف من حيث يعرف مقصود المتكلم بكلامه وهو سبحانه مع ذلك {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} (الشورى: 11) في نفسه المقدسة المذكورة بأسمائه وصفاته ولا في أفعاله

ص: 95

وكل ما أوجب نقصًا أو حدوثًا فإن الله منزه عنه حقيقة، وأنه سبحانه مستحق للكمال الذي لا غاية فوقه وممتنع عليه الحدوث لامتناع العدم عليه واستلزام الحدوث سابقة العدم ولافتقار المُحْدَث إلى مُحْدِث ولوجوب وجوده بنفسه سبحانه وتعالى.

(ومذهب السلف بين التعطيل وبين التمثيل فلا يمثلون صفات الله بصفات خلقه كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله فيعطلوا أسماءه الحسنى، وصفاته العليا، ويحرفوا الكلم عن مواضعه ويلحدوا في أسماء الله وآياته، وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع بين التعطيل والتمثيل) .

(وأما المعطلون فإنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات فقد جمعوا بين التمثيل والتعطيل، مثَّلوا أولاً وعطَّلوا آخرًا، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاته، وتعطيل ما يستحقه هو سبحانه من الأسماء

ص: 96

والصفات اللائقة بالله سبحانه وتعالى، فإنه إذا قال القائل: لو كان الله فوق العرش للزم أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويًا وكل ذلك مُحَال، ونحو ذلك من الكلام، فإنه لم يفهم من كون الله على العرش إلا ما يثبت لأي جسم كان على أي جسم كان، وهذا اللازم تابع لهذا المفهوم، أما استواء يليق بجلال ويختص به فلا يلزمه شيء من اللوازم الثلاثة كما يلزم سائر الأجسام، وصار هذا مثل قول الممثل:

إذا كان للعالم صانع فإما أن يكون جوهرًا أو عرضًا؛ إذ لا يُعْقَل موجود إلا هذان، أو قوله إذا كان مستويًا على العرش فهو مماثل لاستواء الإنسان على السرير أو الفلك إذ لا يعلم الاستواء إلا هكذا، فإن كلاهما مثَّل وكلاهما عطَّل حقيقة ما وصف الله به نفسه، وامتاز الأول بتعطيل كل مسمى للاستواء الحقيقي، وامتاز الثاني بإثبات استواء هو من خصائص المخلوقين) .

(والقول الفاصل هو ما عليه الأمة الوسط من أن الله مستوٍ على عرشه استواء يليق بجلاله ويختص به، فكما أنه موصوف

ص: 97

بأنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير، وأنه سميع بصير، ونحو ذلك، ولا يجوز أن نثبت للعلم والقدرة خصائص الأعراض التي لعلم المخلوقين وقدرهم، فكذلك هو سبحانه فوق العرش ولا نثبت لفوقيته خصائص فوقية المخلوق على المخلوق ولوازمها) .

(واعلم أن ليس في العقل الصريح ولا في النقل الصحيح ما يوجب مخالفة الطريقة السلفية أصلاً، لكن هذا الموضع لا يتسع للجواب عن الشبهات الورادة عن الحق فمن كان في قلبه شبهة وأحب حلها فذلك سهل يسير) .

(ثم المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة من المتأولين هذا الباب في أمر مريج، فإن من ينكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها وأنه مضطر فيها إلى التأويل، ومن يحيل أن لله علمًا وقدرة، وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول: إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل، بل من ينكر حقيقة حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقي في الجنة يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل، ومن يزعم أن الله ليس فوق

ص: 98

العرش يزعم أن العقل أحال ذلك وأنه مضطر إلى التأويل.

(ويكفيك دليلاً على فساد قول هؤلاء أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل، بل منهم مَن يزعم أن العقل جوز أو أوجب ما يدعي الآخر أن العقل أحاله) .

(يا ليت شعري بأي عقل يوزن الكتاب والسنة فرضي الله عن مالك بن أنس الإمام حيث قال: (أَوَكُلَّمَا جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم لجدل هذا؟) وكل من هؤلاء مخصوم بمثل ما خُصِمَ به الآخر وهو من وجوه:

(أحدها) : بيان أن العقل لا يحيل ذلك.

(والثاني) : أن النصوص الورادة لا تحتمل التأويل.

(والثالث) : أن عامة هذه الأمور قد علم أن الرسول جاء بها بالاضطرار كما أنه جاء بالصلوات الخمس وصوم شهر رمضان، فالتأويل الذي يحيلها عن هذا بمنزلة تأويلات القرامطة والباطنية في الحج والعمرة والصوم والصلاة وسائر ما جاءت به النبوات، على أن

ص: 99

الأساطين من هؤلاء الفحول معترفون بأن العقل لا سبيل له إلى اليقين في عامة المطالب الإلهية، وإذا كان هكذا فالواجب تلقي علم ذلك من النبوات على ما هو عليه، ونحن نذكر من ألفاظ السلف بأعيانها وألفاظ من نقل مذهبهم بحسب ما يحتمله هذا الموضع ما يعلم به مذهبهم) .

ثم شرع بعد هذا في أقوال أئمة السلف في ذلك بنصوصها، وحسبنا الخلاصة التي نقلناها منها عن شرح البخاري للحافظ ابن حجر، فهي تلقم الرافضي الحجر، وتبين لأهل السنة ولذي العقل والإخلاص من الشيعة كذبه وافتراءه، وهذا التحقيق من شيخ الإسلام في مسألة الصفات الجامع بين العقل والنقل يهدم كل شبهات المبتدعة والمتكلمين المخالفة لها، ومزاعم من رماه بالتجسيم والتشبيه.

ص: 100