المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الملحق الخامس: هل يلتزم رسم المصحف العثماني - رسم المصحف العثماني وأوهام المستشرقين في قراءات القرآن الكريم

[عبد الفتاح شلبي]

الفصل: ‌الملحق الخامس: هل يلتزم رسم المصحف العثماني

‌الملحق الخامس: هل يلتزم رسم المصحف العثماني

؟

هذا سؤال أجاب عنه بعض العلماء بالإيجاب، موجبين التزام الرسم العثماني الذي جاء في المصحف الإمام، ورأوا أنه لا بد من اتباعه والتقيد به.

وهناك فريق آخر رأى أنه يجوز كتابة المصحف بالرسوم الإملائية المعروفة للناس.

ولزيادة الشرح والإيضاح، أقول: إن الفريق الأول يرى -مثلًا- وجوب كتابة الكلمات الآتية كما وردت برسمها الآتي في المصحف الإمام:

"ولا تقولن لشايء إني فاعل ذلك غدًا"1 بالكهف2.

"وأصحب لئيكة"3 في سورة ص4.

"وإيتائ ذي القربى"5 في النحل6.

"بأييكم المفتون"7 في سورة "ن"8.

"والسماء بنينها بأييد"9 بالذاريات10.

"سأوريكم ءايتي فلا تستعجلون"11 بالأنبياء12.

"ولأوضعوا خللكم"13 في براءة14.

يرى هذا الفريق التزام هذا الرسم، ويسوقون حججًا لما يرون؛ منها أن للرسم العثماني أسرارًا، فزيادة الياء -مثلًا- في رسم كلمة "أييد" من قوله تعالى:{والسماء بنينها بأييد} يفسرها ما جاء في البرهان للزركشي: "إنما

1 شرح تلخيص الفوائد: 56.

2 آية: 23.

3 شرح تلخيص الفوائد: 75.

4 آية: 13.

5 شرح تلخيص الفوائد: 68.

6 آية: 90.

7 شرح تلخيص الفوائد: 68.

8 آية: 6.

9 شرح تلخيص الفوائد: 68.

10 آية: 47.

11 شرح تلخيص الفوائد: 70.

12 آية: 37.

13 شرح تلخيص الفوائد: 29.

14 آية: 47.

ص: 103

كتبت "بأييد" بياءين فرقًا بين "الأيد" الذي هو القوة، وبين الأيدي "جمع""يد". ولا شك أن القوة التي بنى الله بها السماء هي أحق بالثبوت في الوجود من الأيدي، فزيدت الياء لاختصاص اللفظة بمعنى أظهر

"1.

وزيادة الألف في: "لَأَاْذْبَحَنَّهُ"2 "وَلَأَوْضَعُوا خِللَكُمْ"3 للتنبيه على أن المؤخر أشد في الوجود من المقدم عليه لفظًا؛ فالذبح أشد من العذاب4، والإيضاع أشد فسادًا من زيادة الخبال5.

وحذف الواو من قوله: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ} {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} 7 للدلالة على سرعة وقوع الفعل وسهولته على الفاعل، وشدة قبول المنفعل المتأثر به في الوجود8.

- فعدم التزام الرسم عند هذا الفريق يضيع لمح هذه الأسرار، إلى أن هذا الرسم توفيقي، وما دام كذلك فلا تجوز مخالفته.

- ويستشهد هذا الفريق كذلك بقول إمامين جليلين من أئمة المذاهب: فقد سئل الإمام مالك: هل يكتب المصحف على ما أحدث الناس من الهجاء؟ فقال: لا، إلا على الكتبة الأولى.

والإمام أحمد بن حنبل يقول: "تحرم مخالفة خط عثمان في ياء أو ألف أو واو أو غيره"9.

- ويقول هذا الفريق: إن الرسم العثماني يدل على القراءات المتنوعة في الكلمة الواحدة، ولتوضيح رأيهم هذا أسوق المثل الآتي:

رسمت: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ} 10 هكذا: "يكاد السموات ييفطران" من غير ضبط ولا نقط، فهي برسمها هكذا تحتمل قراءة نافع والكسائي بالياء:"يكاد السموات".

1 البرهان في علوم القرآن للزركشي: 1/ 387.

2 سورة النمل: آية: 21.

3 سورة التوبة: آية 47.

4 في قوله: {لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا} .

5 في قوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} ، وانظر البرهان 1/ 381.

6 سورة الإسراء: آية 11.

7 سورة الشورى: آية 24.

8 مناهل العرفان: 368.

9 المحكم: 15.

10 سورة مريم: آية 90، والشورى: آية 5.

ص: 104

كما تحتمل قراءة الباقين من السبعة بالتاء: {تَكَادُ} ، وقراءة حفص والكسائي:"تتفطّرن" بالتاء، وفتح الطاء مشددة.

وقراءة الباقين بالنون وكسر الطاء مخففة1.

ويمضي هذا الفريق المحافظ إلى آخر الشوط، فيكره نقط المصاحف، ورووا عن الإمام مالك أنه قال:"جردوا القرآن، ولا تخلطوه بشيء". أو قال: "ولا تخلطوا به ما ليس منه، إني أخاف أن يزيدوا في الحروف وينقصوا"2.

كما كره هذا الفريق -كذلك- ذكر أسماء السور، ورسم فواتح السور، وعدد آيها، قال أبو بكر السراج: قلت لأبي رزين: أأكتب في مصحفي سورة كذا وكذا؟

قال: إني أخاف أن ينشأ قوم لا يعرفونه، فيظنوا أنه من القرآن. كما كره بعضهم أن يذكر خاتمة سورة كذا3 وكرهوا التعشير4، والتفصيل5، وكان عبد الله بن مسعود يحك التعشير من المصحف6.

وقد أُثيرت هذه المسألة في زماننا، وكان للجنة الفتوى بالأزهر إسهام فيها؛ إذ رأت الوقوف عند المأثور من كتابة المصحف وهجائه، واحتجت لما رأته: "بأن القرآن كتب في عهد النبي برسم كتبت به مصاحف عثمان. واستمر المصحف مكتوبًا بهذا الرسم في عهد الصحابة والتابعين وتابعي التابعين والأئمة المجتهدين في عصورهم المختلفة، ولم ينقل عن أحد من هؤلاء جميعًا أنه رأى تغيير هجاء المصحف عما رسم به أولًا إلى تلك القواعد التي حدثت في عهد ازدهار التأليف في البصرة والكوفة

"7.

ورأى حفني ناصف -عليه رحمة الله- وجوب المحافظة على الرسم العثماني؛ "لمعرفة القراءة المقبولة والمردودة، وفي المحافظة احتياط شديد لبقاء القرآن على أصله لفظًا وكتابة، فلا يفتح فيه باب الاستحسان"8.

1 التيسير: 150.

2 المحكم: 10، 11.

3 المحكم: 17.

4 التعشير: وضع علامة بعد كل عشر آيات من القرآن.

5 التفصيل: تفصيل ما جاء موجزًا في القرآن، وذلك بإثبات المحذوف إيجازًا بين الكلم "المحكم: 15".

6 المحكم: 14.

7 انظر مجلة الرسالة: العدد 216، سنة 1937.

8 ملخص من مجلة المقتطف: يوليو "تموز" سنة 1933م.

ص: 105

هذا مجمل لما رآه الفريق المحافظ المتحفظ.

ولمخالف هذا الفريق أن يقول: إنه لا سر في زيادة الألف في "لأاذبحنه" والياء في "بأييد"

إلخ، بل إن ما قاله الفريق المحافظ من الأسرار في ذلك ضرب من التكلف في التأويل، وإلا فما السر في زيادة الألف في "ملاقوا ربهم""بنوا إسرائيل""أولوا الألباب" وزيادة الياء في "نبإي المرسلين""آناءي الليل"

إن ما في الرسم العثماني من زيادات، أو حذف لم يكن توقيفا أوحي به من الله على رسوله

ولو كان كذلك لآمنا به وحرصنا عليه، بل إن هذا الفريق ليذهب إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فيرى أن هذا الرسم بما فيه من زيادات أو حذف أو غيرها هو خطأ من الكتاب.

"فقد كان الخط العربي لأول الإسلام غير بالغ إلى الغاية من الإحكام والإتقان والاجادة، ولا إلى التوسط لمكان العرب من البداوة والتوحش وبعدهم عن الصنائع، وانظر ما وقع لأجل ذلك في رسمهم المصحف حيث رسمه الصحابة بخطوطهم، وكانت غير مستحكمة في الإجادة، فخالف الكثير من رسومهم ما اقتضته رسوم صناعة الخط عند أهلها"1.

ثم إذا كان الفريق المحافظ يرى التزام الرسم العثماني؛ احتياطًا لبقاء القرآن على أصله لفظًا وكتابة، فإن للفريق الآخر أن يقول:

إننا نرى رسم المصحف بالإملاء المعاصر؛ حتى يقرأ القرآن صحيحًا، ويحفظ صحيحًا

إن الطلبة في المدارس

والمتعبدين -من غير توقيف- بتلاوة القرآن من عامة الناس إذا قرءوا القرآن مرسومًا بالرسم العثماني، فإنهم يقعون في الخطأ والتحريف.

أما إذا قرءوه مرسومًا بالرسم الذي تعارف عليه الناس؛ فإن ألسنتهم تسلم من التحريف والتبديل

وخذ مثلًا الآيات الكريمة الآتية برسمها العثماني:

1 مقدمة ابن خلدون ص419، ط مصطفى محمد.

ص: 106

"من نّبإِيْ المرسلين"1.

"من تلقائ نفسي"2.

"بأييكم المفتون"3.

"لا يايْئَس من روح الله"4.

"ونئا بجانبه"5.

إن القارئ الذي تعوّد قراءة الصحف والمجلات في زماننا بالرسم الإملائي، إذا أراد أن يقرأ الآيات السابقة -ولم يكن لها حافظًا- فإن قراءته ستتخالف مع التنزيل الموحى به من عند الله.

والحق أن كلا من الفريقين يريد بما ذهب إليه الحفاظ على كتاب الله، وصونه من التغيير: من أراد التزام الرسم العثماني، ومن أراد التحرر منه في بعض الحالات، ولكل وجهة هو موليها

وكل يستبق الخيرات

والرأي عندي:

كتابة القرآن للعامة بالرسم الإملائي الذي يتعارف عليه الناس؛ ولكن ليس معنى ذلك إهمال الرسم العثماني؛ بل يبقى أثرًا عن أسلافنا الصالحين، يدرسه المتوفرون على البحث العلمي، ويقرؤه الحافظون لكتاب الله الذين يأمنون التغيير والتحريف.

وللتدليل على هذا الرأي أقول:

إن كل دعوة لإضافة أي جديد للرسم العثماني كانت تتلقى بالتحرج أولًا؛ ولكنها على الرغم من ذلك أخذت طريقها إلى الرسم؛ إيمانًا من القائمين بها بأن فيها بيانًا وتوضيحًا

لقد كان المصحف خاليًا من النقط، ولما اتجه بعضهم إلى نقطه رأينا من

1 سورة الأنعام: آية 34.

2 سورة يونس: آية 15.

3 سورة القلم: آية 6.

4 سورة يوسف: آية 87.

5 الإسراء: آية 83.

ص: 107

يقف دون ذلك، ويقول: جردوا القرآن ولا تخلطوه بشيء، ثم كان أن ترخص العلماء فيه، وقالوا: العجم نور الكتاب، وإنه لا بأس به ما لم تبغوا1.

وبدأ أبو الأسود بالنقط في الحركات والتنوين لا غير

وجعل الخليل بن أحمد الهمز والتشديد والروم والإشمام، ووقف الناس في ذلك أثرهما؛ واتبعوا فيه سنتهما2.

وقال خلف بن هشام البزار: "كنت أحضر بين يدي الكسائي وهو يقرأ على الناس، وينقطون مصاحفهم بقراءته عليهم"3.

ثم تدرجوا في النقط والتخميس والتعشير

وكان البادئون هم الصحابة وأكابر التابعين4، ثم أحدثوا النقط الثلاث عند منتهى الآي، ثم أحدثوا الفواتح والخواتم5.

وها نحن أولاء نرى المصاحف قد تغيرت أنواع الخط فيها: فمن كوفي غير منقوط إلى خط النسخ الشرقي أو المغربي

كما رقمت آياتها، ووضعت علامات لأوائل الأجزاء، والأحزاب، والأرباع، والوقف، والوصل، وما لا ينطق به في الوصل ولا في الوقف، والإدغام، والإظهار، والإخفاء، والمد الزائد، ومواضع السجدات، وعلامات الإمالة، والإشمام، والتسهيل6....

وكان الغرض من كل هذه الزيادات التيسير، وصيانة القرآن الكريم من اللحن والتصحيف، وأداءه أداء فيه ضبط وتحقيق.. فإذا رأى فريق التزام الرسم العثماني حفاظًا على كتاب الله، فإننا نرى عدم التقيد بالرسم العثماني في الميدان التعليمي، وللقارئين -من غير توقيف- المتعبدين غير الحافظين؛ صيانة للقرآن من التغيير والتحريف. وفيما يلي نماذج لرسوم بعض المصاحف.

أقول هذا، والنفس أميل إلى الاحتفاظ بالرسم العثماني على كل حال.

ولدينا التسجيلات القرآنية تغني، وتحفظ من الوقوع في الخطأ، والله أعلم.

1 المحكم: 12.

2 المحكم: 6.

3 المصدر السابق: 13.

4 النظر المحكم، ص2، 3.

5 انظر المحكم ص2، 17.

6 انظر خاتمة المصحف الأميري المطبوع سنة 1343هـ. وقد يقال: إن هذه المستحدثات ليست من رسم المصحف. وأقول: إنها تجتمع مع رسم المصحف في أنها تبين طريقة الأداء، وفي أن الهدف من إضافتها هو الهدف نفسه الذي نبغيه من كتابة المصحف بالرسم الإملائي المعتاد.

ص: 108

مصحف بالخط المغربي، وفيه علامات الإمالة: نقطة تحت الحرف الممال وعلى يمينه.

ص: 112

رسم آخر لمصحف مغربي فيه علامات الإمالة: نقطة تحت الحرف الممال وعلى يمينه، وليس فيه علامة الفصل بين الآيات. ثم انظر طريقة رسم فواصل الآيات: تلظى، تولى، الأشقى.... إلخ.

ص: 113

وزارة التربية والتعليم بمصر، ورسم المصحف:

وقد رأت وزارة التربية والتعليم أخيرًا أن يكتب ما يرد في الكتب المدرسية بالرسم الإملائي المعروف. كما رأينا ما يعرض في "التليفزيون" من آي الذكر الحكيم مكتوبًا بما تعارف عليه الناس في زماننا من رسم إملائي وبالخط الرقعي، وبحواشٍ تفسر الكلمات التي قد تغمض على العامة من الناظرين والسامعين، بل كتب للمكفوفين بالرسم البارز على طريقة "بريل" ولم يعترض على هذا علماؤنا والقائمون منا على سدانة هذا الدين.

ويؤيد ما ذهبت الوزارة إليه بما قال سلطان العلماء العز بن عبد السلام: "لا تجوز كتابة المصحف الآن على الرسم الأول باصطلاح الأئمة؛ لئلا يوقع في تغيير من الجهال، ولكن لا ينبغي إجراء هذا على إطلاقه؛ لئلا يؤدي إلى دروس العلم، وشيء قد أحكمته القدماء لا يترك مراعاة لجهل الجاهلين، ولن تخلو الأرض من قائم لله بحجة"1.

تكفل الله بحفظ كتابه:

والله من قبل، ومن بعد قد تكفل بحفظ كتابه المبين، فقال وهو خير القائلين:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} .

1 البرهان في علوم القرآن للزركشي: ص379.

ص: 116