المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

لقد كانت أهداف التبشير الصليبي - بعد الحروب الصليبية - - الإستشراق وجهوده وأهدافه في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته

[عبد المنعم محمد حسنين]

الفصل: لقد كانت أهداف التبشير الصليبي - بعد الحروب الصليبية -

لقد كانت أهداف التبشير الصليبي - بعد الحروب الصليبية - التشويش على الدعوة الإسلامية؛ لكسب مواقع جديدة من أرض المسلمين، فلما عجز المبشرون عن بلوغ أهدافهم حاول قادتهم من المستشرقين أن يشوشوا على دعوة الإسلام بإلقاء الأباطيل والمفتريات في ساحة شريعته الغراء، خصوصا بعد أن انتشر الإلحاد في أوربا وأمريكا، بعد أن كشف العلم الحديث للمسحيين ما في دينهم من أمور لا يقبلها العقل، كالتثليث الذي يجعل الإله الواحد ثلاثة: أب وابن وروح قدس.

فخشي المبشرون الصليبيون أن يطلّ الإسلام بوجهه المُشرق على أوربا وأمريكا؛ فيجد قلوبا مهيأة له وعقولا متجاوبة معه؛ فشجع رجال الكنيسة حركة الاستشراق، وحمى المستعمرون هذه الحركة؛ فكثر عدد المستشرقين الذين يتصلون اتصالا مباشرا بالكنيسة ليشوشوا على الدعوة الإسلامية لإضعاف سلطان الدين على نفوس المسلمين، فيقلّ عزمهم في محاربة الاستعمار وطرده من بلادهم؛ فتحقق بذلك أهداف الاستشراق في خدمة الصليبيين والمستعمرين، لكن الله بالغ أمره {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} 1.

1 سورة الصف: آية 8.

ص: 88

‌محاولة إغراق المسلمين بالتيارات الفكرية المضللة

‌1- المادية

2_

محاولة إغراق المسلمين بالتيارات الفكرية المضللة:

ومن الوسائل التي يستعملها الاستشراق في التشويش على دعوة الإسلام محاولة إغراق المسلمين بالتيارات الفكرية المضللة، وتصدير هذه التيارات إلى أقطار المسلمين؛ لتضليل الشباب وصرفهم عن دينهم، والتشويش على دعوة الإسلام التي تتفق مع فطرة الله التي فطرهم عليها، وأهم هذه التيارات الفكرية المضللة ما يلي:

أ_ المادية:

يتّسم العصر الحديث بتحكم المادية في تفكير الناس وفي سلوكهم، والمادية تنكر المشاعر الإنسانية التي يعمل الدين على غرسها وتنميتها في النفوس؛ من الرحمة والمودة والعطف والإيثار، وكل ما يشيع في كيان الإنسان من عواطف إنسانية نحو أهله وقرابته ومجتمعه والإنسانية كلها.

وأخطر ما في المادية أنها تتملّق شهوات الناس، وتأتي إليهم من الجانب الضعيف فيهم، حيث تميل النفوس دائما إلى العاجل من كل محبوب ومرغوب عندها، وقد بيّن الله جل وعلا طبيعة النفس البشرية في كتابه الكريم فقال تعالى:

ص: 88

{كَلَاّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الآخِرَةَ} 1 وقال جلّ شأنه: {إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} 2.

وقد حاول أعداء الإسلام أن يستغلوا هذا الميل إلى المادية في تضليل شباب المسلمين عن حقيقة دينهم، واستفاد الاستشراق في التشويش على الدعوة الإسلامية من أقوال الصوفية الذين ينتسبون إلى الإسلام؛ فالصوفية يروّجون أن الزهد في متاع الدنيا دليل الاتباع الصحيح للدين، وهذا زعم باطل، ولكن المستشرقين استفادوا منه في إغراق شباب المسلمين بتيار المادية ليشوشوا على الدعوة الإسلامية ويشككوا في مقررات الإسلام.

إن المادية تنكر على الدين الدعوة إلى الإيمان بما وراء الحسّ؛ من الإيمان بالله وملائكته واليوم الآخر والحساب والجنة والنار، وكل ما لا يقع في مجال المدركات الحسية التي هي عمدة العقل المادي في الحكم على الأشياء وقبولها أو رفضها، أي أن المادية تغرق الناس في الشهوات ليتخذوا من حبّها دينا وينصرفوا عن دين الحق.

فينبغي على الدعاة الذين يتصدَّون لردّ هذه الدعوة المضلّلة أن يبينوا للشباب - بخاصة - أن الإسلام حينما يدعو الناس إلى الإيمان بالحياة الآخرة لا يحرمهم شيئا من طيبات الحياة الدنيا، بل إنه يطلق كل قوى الخير فيهم؛ ليعملوا جادين في كل ميدان من ميادين الحياة وليقطفوا كل طيب من ثمرات عملهم وجهدهم.

إن الإسلام لم يحرم على الناس شيئا من طيبات الحياة الدنيا؛ فالله جلّ وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} 3، كما يقول سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} 4، ويقول عز وجل:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} 5، ويقول تعالى:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} 6. إن الله دعا الناس إلى

1 سورة القيامة آية 20-21.

2 سورة الإنسان آية 27.

3 البقرة آية 132.

4 المائدة آية 87.

5 الأعراف آية 32.

6 النحل آية 97.

ص: 89

العمل الطيب، ووعدهم بالجزاء الحسن في الدنيا والآخرة؛ ولذلك أطلق الإسلام كل قوة من قوى الإنسان الخيرة، ولم يقف حائلا دون أية رغبة من رغبات الإنسان الشريفة؛ فإذا رسم الإسلام للإنسان حدودا لا يتعداها، وإذا وضع على طريق مسيرته في الحياة معالم لا يخرج عنها فما ذلك إلا لضمان سلامة الإنسان في تلك المسيرة، ووقايته من شهوات نفسه التي تقوده إلى الهلاك، أو تلبسه الشقاء الدائم في حياته قبل آخرته، فمن رحمة الله تعالى بعباده أن أخذهم بأدب هذه الشريعة الغرّاء، وأنْ حرم عليهم الخبائث التي تفسد عقولهم وقلوبهم، وتغتال معالم الإنسانية فيهم، وتنزلهم إلى عالم الحيوان الذي تريد المادية إنزالهم إليه.

ص: 90

ب_ الوجودية:

تقوم الوجودية على دعوة خادعة، وهي أن يجرد الإنسان نفسه بالتحلل من كل ما يربطه بالمجتمع من نظم وقواعد وعادات وتقاليد، وأن يطلق نفسه على هواها تهيم في كل واد، وترعى كل ما يصادفها على طريقها من غير وعي أو تفكير أو تقدير لما يأخذ أو يدع من أمور، ومن غير تقيّد بشيء ما؛ فلا دين ولا بيت ولا زوجة ولا وطن.

إن الوجودية - في الواقع - آخر تيار فكري أوجدته المادية الحديثة؛ فهي دعوة إلى عزل الإنسان عن عالمه الروحي، وجعله جسدا حيوانيا، ولا يجد في كيانه شيئا من العواطف والمشاعر الإنسانية، يقول بول سارتر زعيم الوجودية المعاصرة:"إن ما ينبغي أن تكون عليه حياة الوجودي هو توديع ما يسميه الجبناء وجدانا وضميرا، والاستجابة إلى داعي الحيوانية وتلبية كل ما تدعو إليه شهواته، ونبذ كل التقاليد والتعاليم الاجتماعية، وتحطيم القيود التي ابتدعتها الأديان"1.

إن الوجودية تفسد طبيعة الإنسان وتدمّر عقله وقلبه وروحه، وتحوله إلى حيوان بلا عقل ولا قلب ولا روح؛ فهي دعوة خبيثة انتشرت في ربوع أوربا وأمريكا نتيجة لموجة الانحلال عن المسيحية التي انتابت هذه البلاد، وقد حرّكت أصابع الصهيونية تلك الدعوة، وأخذ اليهود يروّجونها لإشاعة الانحلال والفوضى في المجتمعات الأوربية والأمريكية، ثم حاولوا تصديرها إلى بلاد المسلمين بواسطة

1 وليم جيمس: إرادة الاعتقاد ص 121 ترجمة الدكتور محمود حب الله.

ص: 90

شباب المسلمين الذين يذهبون إلى بلاد الغرب طلبا للعلم، وهم يوهمون شبابنا بأنها دعوة إلى التحرّر، ويلعب المستشرقون دورا كبيرا في تضليل شباب المسلمين بهذه الدعوة؛ ليتحرروا من الدين ومن العقل ومن الإنسانية، وليصيروا كالأنعام؛ فلا يخشى خطرهم على الاستعمار في أي شكل من أشكاله؛ فتتحقق بذلك أهداف الاستعمار والاستشراق في محاربة الإسلام والتشويش على دعوته.

فيجب أن نحذر شباب المسلمين من هذه الدعوة الخطيرة، ونزوّدهم دائما بزاد كاف من العلم بأمور دينهم؛ ليعصمهم هذا الزاد من الزلل والتأثر بما يروجه أعداء الإسلام من دعوات ضالة مضللة، يتخذونها وسيلة لمحاربة الإسلام ودعوته التي تخرج الناس من الظلمات إلى النور، وتجعل الإنسان أفضل المخلوقات.

ص: 91

ج_ العلمانية:

ومن الوسائل التي يشوّش بها الاستشراق على الدعوة الإسلامية إفهام بعض أدعياء العلم من الذين ينتسبون إلى الإسلام بأنه يجب الفصل بين العلم والدين، وهو ما يسمونه (العلمانية) ، وهي دعوة من الدعوات الخادعة المضللة لأنها مشتقة من العلم.

والحقيقة أن العلمانية التي يدعو إليها المستشرقون - ويعنون بها العلم المنعزل عن الدين - حركة ظهرت في أوربا نتيجة للصراع العنيف الذي نشب بين رجال العلم والكنيسة التي كانت بسلطانها القوي في القرون الوسطى متحكّمة في العقل الأوربي؛ فلا يقبل فكر أو رأي لا يكون مصدره الكنيسة ورجال الدين فيها، وكان من السلطان الديني للكنيسة أنها تملك حقّ الغفران للعصاة ومرتكبي الكبائر من المسيحيين، كما أن لها في أتباعها حقّ الحرمان والطرد من ملكوت الله ومن ساحة رحمته.

وقد انتهى هذا الصراع بين العلم والكنيسة بانفصال كل منهما عن الآخر؛ فالعلم له رجاله، ولهم في مجال العلم أن يقولوا ما يشاءون دون أن يكون للكنيسة حق مؤاخذتهم، وللكنيسة رجالها الذين يقولون ما يشاءون في أمور الدين دون أن يكون للعلم وعلمائه موقف معهم.

وإذا قام هذا الصراع بين العلم والدين في المسيحية - لأن الكنيسة صادرت كل كلمة يقولها العلم، وعزلت الدين عن الدنيا، فأخذ العلم وجهة غير وجهة الدين - فإنه لا مجال أبدا لأن يقوم مثل هذا الصراع بين العلم والدين في رحاب الإسلام؛

ص: 91