الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَأحْسن صورته جعله أجوف جسداً فخاراً إِلَى أَن بَقِي من يَوْم الْجُمُعَة سَاعَة وَاحِدَة من النَّهَار الَّذِي مِقْدَاره ألف سنة مِمَّا تَعدونَ تِلْكَ السَّاعَة مقدارها من سني الدُّنْيَا ثَلَاث وَثَمَانُونَ سنة وَأَرْبَعَة أشهر
(آدم وحواء)
اشتقاق آدم قيل من الأدمة وَهِي نوع سَمُرَة وَقيل من أَدِيم الأَرْض فَإِذا سمى بِهِ ثمَّ نكر صرف وَقيل اسْم الأَرْض الرَّابِعَة أَدِيم وَخلق آدم مِنْهَا فَلذَلِك قيل خلق من أَدِيم الأَرْض وَقيل أَدِيم الأَرْض أدنى الأَرْض الرَّابِعَة إِلَى اعْتِدَال لِأَنَّهُ خلق وسط من الْمَلَائِكَة وَأَن الله تَعَالَى خلقه من أَنْوَاع متضادة وطبائع مُخْتَلفَة لِأَنَّهُ من تُرَاب الأَرْض فجَاء فِيهِ من كل شَيْء فِيهَا فعيناه من ملحها وأذناه من مرها وشفته وَلسَانه وفوه من عذبها ويداه وَرجلَاهُ من حزنها وصدره من سهلها وبطنه وإبطاه من حمئها ومفاصله من حرهَا ولينها وعروقه وأعضاؤه وعظامه من صخرها وَكَانَ سكان الأَرْض قبله الْجِنّ وَقيل الْجِنّ والبن وَقيل الطم والرم وَلما أهلكهم الله وَجعل آدم بدلهم فَقَالَت الْمَلَائِكَة مَا قَالَت فَقَالَ تَعَالَى {إِنّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} الْبَقَرَة 30 وَعَن الْجواد أَن الله خلق آدم وَكَانَ جسده طيناً وَبَقِي أَرْبَعِينَ سنة ملقى تمر بِهِ الْمَلَائِكَة وَتقول لأمر مَا خلقت وَكَانَ إِبْلِيس يدْخل من فِيهِ وَيخرج من دبره فَلذَلِك صَار مافي جَوف ابْن آدم منتناً خبيثاً وَفِي المروج تَركه حَتَّى أنتن وَتغَير أَرْبَعِينَ سنة وَذَلِكَ قَوْله {من حمإ مسنون} الْحجر 28 يَقُول منتن وصوره ثمَّ تَركه بِلَا روح من صلصال كالفخار حَتَّى أَتَى عَلَيْهِ مائَة وَعِشْرُونَ سنة وَقيل أَرْبَعُونَ سنة وَهِي قَوْله تَعَالَى {هَلْ أَتَى على الْإِنْسَان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمّ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} الْإِنْسَان 1 فَكَانَت الْمَلَائِكَة تمر بِهِ فزعين مِنْهُ وَكَانَ أَشَّدهم فَزعًا إِبْلِيس كَانَ يمر بِهِ فيضربه بِرجلِهِ فَيظْهر لَهُ صَوت صلصلة كظهوره من الفخار وَيدخل من فِيهِ وَيخرج من دبره وَيَقُول لأمر مَا خلقت ثمَّ نفخ فِيهِ الرّوح يَوْم
الْجُمُعَة السَّادِس من نيسان قَالَ كَعْب إِن روح آدم لَيست كأرواح الْمَلَائِكَة وَلَا غَيرهَا من الْأَرْوَاح فَضلهَا الله تَعَالَى بقوله {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ ساجدين} الْحجر 29 فَأمر روحه أَن يغمسها فِي جَمِيع الْأَنْوَار ثمَّ أمرهَا أَن تدخل فِي جَسَد آدم من أَنفه فَقَالَت مَكَان ضيق فنوديت ادخلي كرها واخرجي كرها فَدخلت فِي مَنْخرَيْهِ ثمَّ ارْتَفَعت فِي خياشيمه ووصلت إِلَى دماغه وَمَاجَتْ فِي رَأسه فأبصر وَسمع وشم وتنفس وَصَارَ بَين عَيْنَيْهِ كالغرة الْبَيْضَاء يتلألأ فَهُوَ نور رَسُول الله
وَقيل دخلت من اليافوخ إِلَى عَيْنَيْهِ فَفَتحهَا وَجعل ينظر لنَفسِهِ حَيا فَرَأى فِي سرادق الْعَرْش مَكْتُوب لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله وَلم يقدر على الْكَلَام فَصَارَت الرّوح إِلَى أُذُنَيْهِ فَسمع تَسْبِيح الْمَلَائِكَة ثمَّ جعلت تمر فِي جسده ودماغه وَالْمَلَائِكَة تنظر إِلَيْهِ وَأَن الرّوح انفلتت نازلة إِلَى عُنُقه ثمَّ إِلَى صَدره وجوفه وَتَفَرَّقَتْ فِي جَمِيع أَعْضَائِهِ وعصبه وعروقه فَأمر آدم يَده على رَأسه وَوَجهه فعطس وَقيل إِن الرّوح لما وصلت إِلَى الخياشيم عطس فَلَمَّا لحقت اللِّسَان قَالَ بلغَة عَرَبِيَّة فصيحة وَهِي لُغَة أهل الْجنَّة الْحَمد لله فناداه الرب يَرْحَمك الله رَبك يَا أَبَا مُحَمَّد لهَذَا خلقتك وَهَذَا لَك ولولدك وَلكُل من قَالَ قَوْلك وَلم تزل الرّوح تجْرِي فِي جسده إِلَى أَن وصلت رُكْبَتَيْهِ فاستعجل ليقوم فَسقط فَقَالَ تَعَالَى {وَكَانَ الْإِنْسَان عَجُولاً} الْإِسْرَاء 11 وَلما بلغت السَّاقَيْن والقدمين اسْتَوَى جَالِسا وَقَامَ على قَدَمَيْهِ فِي يَوْم الْجُمُعَة عِنْد زَوَال الشَّمْس فَنَظَرت الْمَلَائِكَة إِلَيْهِ كَأَنَّهُ الْفضة الْبَيْضَاء فَسَقَطت كلهَا سجوداً كَمَا أَمرهم الله تَعَالَى إِلَّا إِبْلِيس فَأبى أَن يكون مَعَ الساجدين فَقَالَ الله تَعَالَى مَا مَنعك أَن تسْجد لآدَم فعصيتني وَكنت لي طَائِعا تنكر على الْجِنّ الْعِصْيَان وَأَنت تجتهد فِي عبادتي وَسَأَلتنِي أرفعك إِلَى سماواتي وأبحتك الولوج من سَمَاء إِلَى سَمَاء وأنزلتك مَعَ الْمَلَائِكَة إِلَى الأَرْض حَتَّى أخلوا الْجِنّ الَّذين أَنْت مِنْهُم فَمَا مَنعك أَلا تكون مَعَ الساجدين كَمَا أَمرتك وَخفت أَن تكون دون آدم فِي الْفضل فَرَجَعت إِلَى أصلك الأول وعصيت كقومك ونقضت عهدي وميثاقي فبعداً لَك وَسُحْقًا فَقَالَ إِبْلِيس (أَنَاْ خَيْرٌ مِنْهُ
خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} الْأَعْرَاف 12 وَالنَّار خير من الطين وَأَنا كنت أطؤه وَهُوَ تُرَاب وَأَنا عبدتك قبله فَقَالَ لَهُ {فَاخْرُجْ مِنْهَا} الْحجر 34 يَعْنِي من السَّمَوَات أَو من الرَّحْمَة أَو الْجنَّة {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} الْحجر 34 وَلما قَامَ آدم أمره الله تَعَالَى أَن يمْضِي إِلَى الْمَلَائِكَة فَيَقُول لَهُم السَّلَام عَلَيْكُم وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته فَفعل وَكَانَ من ردهم عَلَيْهِ وَعَلَيْك السَّلَام وَرَحْمَة الله وَبَرَكَاته فَقَالَ الله تَعَالَى هَذِه تحيتك وتحية ولدك إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَهِي تَحِيَّة أهل الْجنَّة ثمَّ قَالَ الله تَعَالَى أَنْتُم قُلْتُمْ قبل أَن انفخ فِيهِ الرّوح لم نر خلقا اكر على الله وَلَا أعلم منا فأنبئوني بأسماء هَؤُلَاءِ إِن كُنْتُم صَادِقين بعد أَن كشف عَن ملكوته لتنظر الْمَلَائِكَة وآدَم إِلَى مَا فِي السَّمَوَات وَالْأَرْض وَمَا بَينهمَا وَأذن لأمم الْبَحْر فطفت فَوق المَاء فَقَالُوا لَا علم لنا إِلَّا مَا علمتنا فأبان الله فضل آدم على جَمِيع خلقه بِمَا خصّه من الْعلم بمعاني الْأَسْمَاء قيل علمه جَمِيع خلقه وَقيل علمه جَمِيع الْأَسْمَاء والصناعات وَعمارَة الأَرْض والأطعمة والأدوية واستخراج الْمَعَادِن وغرس الْأَشْجَار ومنافعها وَجَمِيع مَا يتَعَلَّق بعمارة الدّين وَالدُّنْيَا وَقيل علمه أَسمَاء الْأَشْيَاء كلهَا مَا خلق وَمَا لم يخلق بِجَمِيعِ اللُّغَات الَّتِي يتَكَلَّم بهَا وَلَده بعده فَأخذ عَنهُ وَلَده اللُّغَات فَلَمَّا تفَرقُوا تكلم كل قوم بِلِسَان ألفوه وتطاول الزَّمَان على مَا خَالف ذَلِك فنسوه وَسُئِلَ الصَّادِق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ عَن قَوْله تَعَالَى {وَعلم آدم الأَسْمَاءَ كُلَّهَا} الْبَقَرَة 31 فَقَالَ الْأَرْضين وَالْجِبَال والشعاب والأودية ثمَّ نظر إِلَى بِسَاط تَحْتَهُ فَقَالَ وَهَذَا الْبسَاط مِمَّا علمه وَقيل علمه ألقاب الْأَشْيَاء وخواصها وَهُوَ أَن الْفرس يصلح لماذا وَالْحمار لماذا إِلَى غير ذَلِك وَهَذَا أبلغ لِأَن مَعَاني الْأَشْيَاء لَا تَتَغَيَّر بِتَغَيُّر الْأَزْمَان بِخِلَاف الألقاب ثمَّ اخْتلف فِي تَعْلِيمه فَقيل أودع قلبه مَعْرفَتهَا وفتق لِسَانه بهَا فَكَانَ يتَكَلَّم بهَا وَكَانَ ذَلِك معجزاً لَهُ عليه السلام ناقضاً للْعَادَة فَقَالَ يَا آدم أنبئهم بِأَسْمَائِهِمْ فَعَن ابْن عَبَّاس أَنه تكلم بسبعين لِسَانا أحْسنهَا الْعَرَبيَّة ثمَّ أَمر الْمَلَائِكَة
لتحمله على أكتافها ليَكُون عَالِيا عَلَيْهَا وَيَقُولُونَ قدوس قدوس واصطفت الْمَلَائِكَة عشْرين ألف صف وَأعْطى آدم من الصَّوْت مَا بَلغهُمْ وَوضع لَهُ مِنْبَر الْكَرَامَة وَعَلِيهِ ثِيَاب من السندس الْأَخْضَر وَعَلِيهِ ضفيرتان مرصعتان بالجوهر محشوتان مسكاً وعنبراً من فرقه إِلَى قَدَمَيْهِ على رَأسه تَاج من الذَّهَب لَهُ أَرْبَعَة أَرْكَان فِي كل ركن درة يغلب ضوءها الشَّمْس وَفِي أَصَابِعه خَوَاتِم الْكَرَامَة فانتصب قَائِما وَسلم فأجابته الْمَلَائِكَة فَصَارَ ذَلِك سنة ثمَّ خطب فَقَالَ الْحَمد لله الَّذِي لم يزل فَصَارَ سنة أَيْضا ثمَّ ذكر علم السَّمَوَات وَالْأَرضين وَمَا بَينهمَا بعد أَن أثنى على الله بِمَا هُوَ أَهله فَجعل يُخْبِرهُمْ باسم كل شَيْء من الْبر وَالْبَحْر حَتَّى الذّرة والبعوضة فتعجبت الْمَلَائِكَة من علمه وسبحت وقدست فَقَالَ الله تَعَالَى {ألم أقل لكم إِنِّي أعلم غيب السَّمَاوَات وَالأَرْضِ} الْبَقَرَة 33 ثمَّ نزل من منبره وَقد زَاده الله من نوره أضعافاً وَفِي ذَلِك دلَالَة على ارْتِفَاع قدر آدم عَلَيْهِم وَعَن أبي عبد الله أَنه قَالَ سجدت الْمَلَائِكَة لآدَم وَوَضَعُوا جباههم على الأَرْض وَعنهُ أَنه لما أَمر إِبْلِيس بِالسُّجُود فَقَالَ يَا رب وَعزَّتك إِن أعفيتني من السُّجُود لآدَم لأعبدنك عبَادَة مَا عَبدك أحد قطّ مثلهَا فَقَالَ لَهُ الله تَعَالَى إِنِّي أحب أَن أطَاع من حَيْثُ أُرِيد وَفِي المروج قَالَ يَا رب أَنا خير مِنْهُ خلقتني من نَار وخلقته من طين وَالنَّار اشرف من الطين وَأَنا الَّذِي كنت مُخْتَلفا فِي الأَرْض وَأَنا الملبس بالريش والموشح بِالنورِ والمتوج بالكرامة وَأَنا الَّذِي عبدتك فِي سمائك وأرضك فَقَالَ لَهُ {اخرُج مِنْهَا} الْآيَة الْأَعْرَاف 18 فَسَأَلَهُ المهلة إِلَى يَوْم يبعثون قَالَ بَعضهم فَعِنْدَ ذَلِك تَغَيَّرت خلقته وَنظرت الْمَلَائِكَة إِلَى سوء منظره فَوَثَبت عَلَيْهِ بحرابها يلعنونه وَيَقُولُونَ رجيم رجيم مَلْعُون مَلْعُون فَأول من طعنه جِبْرِيل ثمَّ الْمَلَائِكَة من جَمِيع النواحي وَهُوَ هارب بَين أَيْديهم حَتَّى ألقوه فِي الْبَحْر الْمَسْجُور واضطربت الْمَلَائِكَة وارتجت السَّمَوَات من جراءات إِبْلِيس فِي مُخَالفَة أَمر الله تَعَالَى وَقد كَانَ السُّجُود لله وَالطَّاعَة لآدَم وَلَكِن ظن لَعنه الله أَن التَّفَاضُل بالأصول فَأَخْطَأَ فِي الْقيَاس على أَن الطين الَّذِي خلق مِنْهُ آدم أنور من النَّار
وَالنَّار من الشّجر وَالشَّجر من الطين فَغَضب عَلَيْهِ فَسَأَلَهُ الِانْتِظَار فَأَجَابَهُ وَسُئِلَ الْعَالم عَن السَّبَب فِي إجَابَته فَقَالَ إِنَّه لما أهبط إِلَى الأَرْض يحكم فِيهَا فَغير وَبدل غضب عَلَيْهِ فَسجدَ لَهُ سَجْدَة أَرْبَعَة آلَاف سنة فَجعل الله تِلْكَ السَّجْدَة سَببا للإجابة فِي النظرة إِلَى يَوْم الْوَقْت الْمَعْلُوم ثمَّ إِن الله مسح ظهر آدم فَأخْرج ذُريَّته كَهَيئَةِ الذَّر بَيْضَاء وسوداء ذُكُورا وإناثاً تَاما وناقصاً صَحِيحا وسقيماً على مَا هُوَ خَالِقهَا ثمَّ قَالَ لَهُ هَذِه ذريتك فَقَالَ يَا رب أَلا سويت بَينهم وعافيت الْجَمِيع فَقَالَ إِنِّي أحب أَن أشكر وَأَنا أعلم بخلقي فَنظر آدم إِلَى طَائِفَة من ذُريَّته تتلألأ وُجُوههم فَقَالَ يَا رب من هَؤُلَاءِ الَّذين علت أنوارهم على غَيرهم فَقَالَ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاء من ذريتك فَقَالَ يَا رب كم عَددهمْ قَالَ مائَة ألف نَبِي وَأَرْبَعَة وَعِشْرُونَ ألف نَبِي مِنْهُم ثَلَاثمِائَة وَخَمْسَة عشر مرسلون أَنْت أَوَّلهمْ وَمُحَمّد ابْنك حَبِيبِي آخِرهم وَهُوَ صَاحب النُّور الْعَظِيم الَّذِي فِي أسارير وَجهك وَهُوَ خَاتم الْأَنْبِيَاء وأشرفهم شَرِيعَة وأفضلهم أمة ولولاه مَا خلقتك وَلَا خلقت جنَّة وَلَا نَارا وَلَا أَرضًا وَلَا سَمَاء فأمن آدم فَقَالَ الله تَعَالَى قد زدتك فضلا وكرامة وكنيتك بِهِ أَنْت أَبُو مُحَمَّد فاعرف مَنْزِلَته مني وَإِذا أردْت حَاجَة فاسألني بِحقِّهِ أقضها لَك وَهُوَ أول من تَنْشَق عَنهُ الأَرْض وَأول شَافِع وَأول مُشَفع وَأول قارع لأبواب الْجنَّة وَأول من يدخلهَا وَقد شرفتك بِهِ وَهُوَ النُّور الَّذِي فِي أسارير وَجهك ينْتَقل مِنْك إِلَى زَوجك حَوَّاء فَإِذا رَأَيْته انْتقل فَاعْلَم أَنِّي نقلته من ظهرك إِلَى وسأنقله من بطن إِلَى ظهر وَمن ظهر إِلَى بطن إِلَى أَن يَأْتِي زَمَانه وَلَا أنقله إِلَّا فِي الأصلاب الزكية والأرحام الطاهرة فَإِذا رَأَيْته انْتقل إِلَى ولدك فَخذ عَلَيْهِ الْعَهْد والميثاق أَلا يَضَعهُ إِلَّا فِي أطهر النسوان وَأَنا الْمُتَوَلِي لذَلِك إِلَى حِين مولده ثمَّ أَمر الله ذَلِك الذَّر أَن يقومُوا عَن يَمِين آدم وشماله فَقَالَ الله اختر إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فَاخْتَارَ الْيَمين وهم الْأَنْبِيَاء والمرسلون لما رأى من أنوارهم وَأخْبرهُ بِأَسْمَائِهِمْ نَبيا نَبيا ورسولاً رَسُولا وعرفه أَعْمَالهم وشرائعهم وَمَا يلقون من المهم ثمَّ قَالَ الله تَعَالَى هَؤُلَاءِ ذريتك آخذ ميثاقهم أَن يعبدوني وَلَا يشركوا بِي شَيْئا وَعلي أَرْزَاقهم قَالَ نعم فَقَالَ الله تَعَالَى من
ربكُم فَقَالُوا إلهاماً أَنْت رَبنَا وخالقنا فَقَالَ الله يَا آدم اشْهَدْ واشهدوا يَا ملائكتي وَأشْهد أَنا وكفي بِي شَهِيدا لِئَلَّا يَقُولُوا يَوْم الْقِيَامَة إِنَّا كُنَّا عَن هَذَا غافلين ثمَّ ردهم إِلَى ظهر آدم وَقد أَخذ عَلَيْهِم الْعَهْد والميثاق ثمَّ قَالَ الله تَعَالَى يَا آدم قد كشف عَن بَصرك فأريتك جَمِيع خلقي وَلم يخف عَلَيْك شَيْء فَهَل رَأَيْت لَك فيهم شَبِيها فَقَالَ لَا يَا رب لقد فضلتني فلك الْحَمد كثيرا فَاجْعَلْ لي زوجا مني أسكن إِلَيْهَا وآنس بهَا نسبحك ونقدسك جَمِيعًا فَقَالَ تَعَالَى إِنِّي فَاعل ذَلِك وتنسلان خلقا خلقته فِي ظهرك ولي فِي ذَلِك تَدْبِير وَأَنا على كل شَيْء قدير فَعَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما لما اخْرُج إِبْلِيس من الْجنَّة بَقِي آدم وَحده فاستوحش فخلقت لَهُ حَوَّاء ليسكن إِلَيْهَا وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى ألْقى عَلَيْهِ النّوم وَذَلِكَ فِي أول نعسة نعس فَنَامَ فَأخذ مِنْهُ ضلعاً وَخلق مِنْهُ حَوَّاء وَهُوَ أول ضلعه الْقصير الْأَيْسَر مِمَّا يَلِي قلبه ثمَّ أرَاهُ فِي مَنَامه بقدرته كَيفَ خلقهَا وَهِي أول رُؤْيا رَآهَا ثمَّ انتبه فَإِذا عِنْد رَأسه امْرَأَة جالسة أشبه بِهِ خلقا ووجهاً إِلَّا أَنه أعظم فِي الطول والجسم وَالْحسن وَالْجمال فَقَالَ الله تَعَالَى هَذِه مثلك وَمن جنسك وَهِي زَوجك فأنس بهَا وَسكن إِلَيْهَا وَفِي حَدِيث ابْن عَبَّاس فَسَأَلَهَا من أَنْت قَالَت امْرَأَة قَالَ لم خلقت قَالَت لتسكن إِلَيّ فَقَالَت الْمَلَائِكَة مَا اسْمهَا يَا آدم قَالَ حَوَّاء قَالُوا وَلم سميت حَوَّاء قَالَ لِأَنَّهَا خلقت من شَيْء حَيّ فَعندهَا قَالَ الله تَعَالَى {اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ} الْبَقَرَة 35 وَسميت امْرَأَة لِأَنَّهَا خلقت من الْمَرْء يَعْنِي آدم وسمى النِّسَاء نسَاء لِأَنَّهُ لم يكن لآدَم أنيس غير حَوَّاء وَفِي كتاب النُّبُوَّة خلق الله آدم من الطين وَخلق حَوَّاء من آدم فهمة الرِّجَال المَاء والطين وهمة النِّسَاء الرِّجَال وَفِي حَدِيث بَدْء النَّسْل عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد قيل فَإِن أُنَاسًا يَقُولُونَ إِن حَوَّاء خلقت من ضلعه الْأَيْسَر فَقَالَ تَعَالَى الله عَن ذَلِك ألم يكن لله من الْقُدْرَة مَا يخلق لآدَم زَوْجَة من غير خلقه وَيبقى لمتكلم أهل الشِّيعَة سَبِيلا إِلَى قَوْله إِن آدم كَانَ
ينْكح بعضه بَعْضًا ثمَّ ذكر نزُول نزله ومنزله وَقيل إِن معنى كَونهَا أخذت من ضلع آدم أَن المُرَاد الضلع الحسابي فَإِنَّهَا ضلع من أضلاع آدم كَمَا هُوَ مُقَرر فِي علم الأوفاق قَالَ بعض المغاربة فِي كَلَامه على وفْق زحل هَذَا فَإِن جملَة أعداد حُرُوف الوفق خَمْسَة وَأَرْبَعُونَ هِيَ مَجْمُوع قَوْلك آدم لِأَن كل ضلع مِنْهُ وكل ب ط د ز وَج وَا ح شطر من أشطاره جملَته خَمْسَة عشر وَهُوَ جملَة اسْم حَوَّاء قَالَ وَله مُنَاسبَة ظَاهِرَة من حَيْثُ إِن حَوَّاء خلقت من ضلع آدم وَقد ظهر مَعَ هَذَا اسْم حَوَّاء فِي الوفق فِي السطر الثَّالِث وَهُوَ واح بِتَقْدِيم وَتَأْخِير وَسمعت عَن بعض عُلَمَاء عصرنا أَن المُرَاد بِكَوْنِهَا أخذت من ضلعه هَذَا الْمَعْنى قلت أذكر فِي هَذَا القَوْل بَيْتا فِي مَعْنَاهُ وَهُوَ
(مَنْ كانَ آدم جُملاً فِي سنِّنهِ
…
هَجَرتهُ حوَّاءُ السنينَ مِنَ الدِّمَا)
وَهُوَ مِمَّا يطارح بِهِ الأدباء فَفِيهِ نوع رقة يدريها من طبعه فِيهِ دقة انْتهى وَعَن وهب أَن الله خلق حَوَّاء من فضل طِينَة آدم على صورته وَفِي رِوَايَة أَنَّهَا كَانَت فِي طول آدم وَحسنه وَلها سَبْعمِائة ضفيرة مرصعة بالياقوت محشوة بالمسك وَكَانَت متوجة على صُورَة آدم غير أَنَّهَا أرق مِنْهُ جلدا وأخفى صَوتا وأدعج عينا وأملح ثغراً وألطف بناناً وألين كفا وروى أَنه لما ابتدع لَهُ خلق حَوَّاء وَقد ألْقى عَلَيْهِ السبات جعلهَا فِي مَوضِع النقرة الَّتِي بَين وركيه لكَي تكون الْمَرْأَة تبعا للرجل فَأَقْبَلت تتحرك فانتبه لتحركها فَلَمَّا انتبه نوديت أَن تنحى عَنهُ فَلَمَّا نظر إِلَيْهَا نظر إِلَى خلق حسن يشبه صورته غير أَنَّهَا أُنْثَى فكلمها وكلمته بلغته فَقَالَ لَهَا من أَنْت فَقَالَت أَنا خلق خلقني الله تَعَالَى كَمَا ترى فَقَالَ آدم عِنْد ذَلِك يَا رب مَا هَذَا الْخلق الْحسن الَّذِي قد آنستني قربه وَالنَّظَر إِلَيْهِ فَقَالَ الله تَعَالَى يَا آدم هَذِه أمتِي حَوَّاء فتحت أَن تكون مَعَك فتؤنسك وتحدثك وَتَكون تَابِعَة لأمرك فَقَالَ نعم يَا رب لَك عَليّ
بذلك الْحَمد وَالشُّكْر مَا بقيت قَالَ فاخطبها إِلَيّ فَإِنَّهَا أُنْثَى وَقد تصلح لَك زَوْجَة للشهوة وَألقى الله تَعَالَى عَلَيْهِ الشَّهْوَة وَقد علمه قبل ذَلِك الْمعرفَة لكل شَيْء فَقَالَ يَا رب إِنِّي أخطبها إِلَيْك فَمَا رضاك لذَلِك قَالَ مرضاتي أَن تعلمهَا معالم ديني قَالَ تذلك لَك يَا رب إِن شِئْت ذَلِك لي فَقَالَ قد شِئْت ذَلِك وَقد زوجتكها فَضمهَا إِلَيْك فَقَالَ لَهَا آدم إِلَيّ فأقبلي فَقَالَت بل أَنْت فَأمره الله تَعَالَى إِن يقوم إِلَيْهَا فَقَامَ وَلَوْلَا ذَلِك لَكَانَ النِّسَاء يقمن إِلَى الرِّجَال وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد أَنه فضل من طِينَة آدم فضلَة فخلق الله مِنْهَا النَّخْلَة فَلذَلِك إِذا قطع رَأسهَا لم تنْبت وتحتاج إِلَى اللقَاح وَهِي أول شَيْء اهتز على وَجه الأَرْض وَعَن ابْن عَبَّاس بَقِي من طِينَة آدم شَيْء فحلقه فجَاء مِنْهُ الْجَرَاد وَقيل إِن حَوَّاء خلقت من قبل أَن يدْخل آدم الْجنَّة ثمَّ أدخلا مَعًا فَعَن كَعْب أَن الله خلق الميمون لآدَم قبل خلقه بِأَلف عَام من الكافور والمسك والزعفران ومزج بِمَاء الْحَيَوَان وَله عرفان من المرجان وناصيته من الْيَاقُوت وحوافره من الزبرجد بسرج من زبرجد ولجام من ياقوت وَله أَجْنِحَة من ألوان الْجَوْهَر فَاسْتَوَى على ظَهره وَخلق لحواء نَاقَة اسْتَقَرَّتْ عَلَيْهَا وَسَار إِلَى الْجنَّة وحواء من وَرَائه وَلم يبْق فِيهَا طَائِر وَلَا شَجَرَة إِلَّا وتثنى على آدم وَإِذا فِي وسط الْجنَّة سَرِير لَهُ سَبْعمِائة قَائِمَة عَلَيْهِ فرش من السندس والإستبرق وَبَين الْفرش كُثْبَان العنبر والمسك فَجَلَسَا عَلَيْهِ وَكَانَ آدم ينزل عَن السرير فَيَمْشِي وحواء خَلفه تسحب ضفائرها وَالْمَلَائِكَة تنثر عَلَيْهِمَا من نثار الْجنَّة حَتَّى يرجعان قَالَ الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سعيد وَألقى الله فِي قلب آدم محبَّة حَوَّاء والشغف بهَا فَجعل يرد بَصَره عَنْهَا وَكَانَ لَوْنهَا كلون اللؤلؤة الْبَيْضَاء الصافية رقيقَة الْبشرَة رخيمة الْكَلَام لينَة الْأَطْرَاف قد طهرت وقدست وكسيت نورا وبهجةً وجمالاً ودلالاً وكمالاً وتوجت وقرطت وسورت ودملجت وكللت غدائرها بِاللُّؤْلُؤِ وَكَانَ الله تَعَالَى قد كساها وكسا آدم من قبلهَا عوضا من الْجلد لباساً من الظفر الَّذِي بَقِي فِي أَطْرَاف الْأَصَابِع أبقاه الله لَهُ زِينَة على أَطْرَاف أناملهم يتوارثونه عَنهُ فَكَانَ لباسهما حِينَئِذٍ وَكَانَ لَهُ نور سَاطِع كَاللُّؤْلُؤِ الْأَبْيَض لَا يتدنس وَلَا يبْلى
وَكَانَ آدم أجمل من حَوَّاء طوله سِتُّونَ ذِرَاعا وَوَجهه كالدر الممازج الْيَاقُوت الْأَحْمَر بِشعر أسود أَجْعَد على بياضه وَله عينان كحلاوان وأنف أقنى وفم أَسْنَانه كالدر المنظوم وشفتان حمراوتان وبطن كبطن الْقبَاطِي وعرقه يفوح كالمسك وَلَا يتَغَيَّر مِنْهُ ذَلِك على طول الْمدَّة إِلَى أَن مَاتَ وَكَانَ كلما ازْدَادَ إِلَيْهَا نظرا ازْدَادَ لَهَا محبَّة فَأوحى الله إِلَيْهِ إِنِّي مَا خلقتها مِنْك إِلَّا لَك زوجا وإلفاً فأزوجكها بعهدي وميثاقي حَتَّى أسكنكما جنتي وَدَار كَرَامَتِي على أَن تطيعاني وَلَا تخالفا أَمْرِي فَقَالَ يَا رب أَنا فَاعل ذَلِك وممتثل أَمرك وَمَا تشرطه عَليّ فَأمر الله جِبْرِيل أَن يكون الْخَاطِب وَرب الْعَالمين الْوَلِيّ وَالْمَلَائِكَة الشُّهُود فَخَطب جِبْرِيل وَزوج الله حَوَّاء بِآدَم وَقَالَ لَهُ هَات صدَاق أمتِي قَالَ وَمَا هُوَ قَالَ سبحني ألف تَسْبِيحَة على نفس وَاحِد فسبح خَمْسمِائَة وَانْقطع فَقَالَ هَذَا معجل الصَدَاق والخمسمائة مُؤَجّلَة فَلهَذَا جعل فِي الْمهْر الْمُعَجل والمؤجل فَلَمَّا زوجه الله بهَا أَمر رضوَان يزخرف الْجنَّة لعرسه وَأَن يوضع لآدَم مِنْبَر من النُّور فعلاه آدم وحواء إِلَى جَانِبه وألبسهما من حلل الْجنَّة وتوجهما وَأمر الخزنة أَن تنثر عَلَيْهِمَا اللُّؤْلُؤ والمسك وَأمر الْمَلَائِكَة بالتقاط نثار آدم تبركاً بِهِ وَأمر رضوَان يخرج لَهُ فرسا من خُيُول الْجنَّة فَأخْرج لَهُ فرسا من الكافور لَهُ جَنَاحَانِ أخضران منظومان بالدر والياقوت عَلَيْهِ سرج من الْجنَّة ولجام من النُّور فَرَكبهُ فَلَمَّا اسْتَوَى فِي ظَهره جمح وَكَانَ جمحه تسبيحاً وتقديساً فألهم الله آدم إِن قَالَ {سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقرِنِينَ} الزخرف 13 ثمَّ أخرج لحواء نَاقَة من نُوق الْجنَّة من العنبر الْأَشْهب عَلَيْهِ هودج اللُّؤْلُؤ وقبة من الْيَاقُوت الْأَحْمَر قد غشيت بالإستبرق وخطامها وكورها من اللُّؤْلُؤ الرطب الْأَبْيَض فَلَمَّا اسْتَوَت حَوَّاء فِي وسط الْقبَّة أسبلت عَلَيْهَا الستور وَأمر الْمَلَائِكَة أَن يزفوهما إِلَى الْجنَّة ويمشوا بَين أَيْدِيهِمَا ووراءهما وحولهما يهللون وَيُكَبِّرُونَ فطافت الْمَلَائِكَة بفرس آدم وناقة حَوَّاء وهما يخترقان صوف الْمَلَائِكَة فِي طرق السَّمَوَات وَلَا يَمرونَ بملأ إِلَّا سلمُوا عَلَيْهِمَا ورحبوا بهما وَقَالُوا هَنِيئًا لَك يَا آدم بِمَا أَعْطَاك وزوجك حَوَّاء طُوبَى لَك يَا آدم وبعداً لإبليس عَدوك حَتَّى انتهيا إِلَى بَاب الْجنَّة أَمر الله تَعَالَى للْمَلَائكَة إِن يوقفوهما حَتَّى يَأْمُرهُ وينهاه ويحذره عدوه فأوقفوه فمما قَالَ هَذِه
جنتي أبحتك إِيَّاهَا وجعلتها مسكنا لَك ولزوجك {وَكُلَا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تقرَبَا هَذِه الشَّجَرَة فتكونا من الظَّالِمين} الْبَقَرَة 35 وَأمر الله بإبليس فَوقف بَين يَدي آدم وَقَالَ لَهُ {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجَنَّةِ فَتَشْقَى إِنَّ لَك أَلَاّ تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} الْآيَة طه 117 118 احفظ وصيتي وَكن بَاقِيا على عهدي وَترك معصيتي وَقد أبحتك الْجنَّة كلهَا إِلَّا هَذِه الشَّجَرَة فإياك أَن تَقربهَا فَتكون ظَالِما لنَفسك وَمَتى أكلتها خَالَفت أَمْرِي وأخرجتك من جواري فَقَالَ آدم قد سَمِعت وَلَا أعصى لَك أمرا وَلَا أقبل من عدوي صرفا وَلَا نصرا فَأَي شَجَرَة هِيَ حَتَّى أعرفهَا وأتجنبها فَأمر الله رضوَان فأوقفه عَلَيْهَا وَقَالَ لَهُ ولحواء احذرا أَن يغويكما عدوكما فَإِنَّهُ حَرِيص على إخراجكما من الْجنَّة فإياكما أَن تطيعاه فَإِن أكلتما بَدَت سوءاتكما وَغَضب عَلَيْكُمَا رَبكُمَا فَعرف آدم الشَّجَرَة وَعرف موضعهَا وَاخْتلف فِي الشَّجَرَة فَقيل شَجَرَة البطم وَهُوَ الْقَمْح وَكَانَت الْحبَّة مِنْهَا كالكلوة من الْبَعِير أحلى من الْعَسَل وألين من الزّبد وَهِي الفوم بالعبرانية وَكَانَ لون حبها كلون الثَّلج وَقيل إِنَّهَا التينة وَقيل أَنَّهَا الكرمة وَقيل شَجَرَة الْخلد الَّتِي كَانَت الْمَلَائِكَة تَأْكُل مِنْهَا وَقيل شَجَرَة الكافور وَعَن ابْن بابويه بِإِسْنَادِهِ يرفعهُ إِلَى عبد السَّلَام بن صَالح الْهَرَوِيّ قَالَ قلت للرضا عليه السلام أخبرنَا عَن الشَّجَرَة الَّتِي أكل مِنْهَا آدم وحواء عليهما السلام مَا كَانَت فقد اخْتلف النَّاس فِيهَا فَقَالَ يَا أَبَا الصَّلْت إِنَّمَا الشَّجَرَة
بِالْجنَّةِ تحمل أنواعاً فَكَانَت شَجَرَة الْحِنْطَة وفيهَا عِنَب وَلَيْسَت كشجرة الدُّنْيَا وترجل آدم عَن الْفرس وحواء عَن النَّاقة وأقبلا يأكلان من ثمار الْجنَّة ويشربان من أنهارها مَا أحبا لَبَنًا أَو مَاء أَو خمرًا والأغصان تميل عَلَيْهِمَا ليأخذا مِنْهَا فَإِذا أخذا أنبت الله مَوضِع الْمَأْخُوذ خيرا مِنْهُ ويأكلان من الطير مَا أَرَادَا مشوياً ومطبوخاً وَكلما أكلا عضوا أنبت الله مَكَانَهُ فَإِذا اكتفيا انتفض الطَّائِر طيراً كَمَا كَانَ بِإِذن الله تَعَالَى فيرفرف بجناحه عَلَيْهِمَا وَيَقُول بِصَوْت مطرب الْحَمد لله الَّذِي جعلني طَعَاما لأوليائه ثمَّ يأتيهما غلْمَان مخلدون فيضعون بَين أَيْدِيهِمَا مَوَائِد الدّرّ والياقوت عَلَيْهَا الْأَطْعِمَة والفواكه ويحفون مجلسهما بالطيب والرياحين والأشربة فَيَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ والغلمان على رءوسهما بأكواب الذَّهَب وأباريق الْفضة وقوارير الْيَاقُوت فِيهَا أَنْوَاع الْأَشْرِبَة وَالدَّوَاب وَالطير وَغير ذَلِك يسلمُونَ عَلَيْهِمَا ويهنئونهما بالنعيم وَيَقُولُونَ فضل الله آدم على جَمِيع خلقه وَكَانَ الله ألبس آدم خَاتمًا من النُّور وَقَالَ هَذَا خَاتم الْعِزّ خلقته لَك فَلَا تنس فِيهِ عهدي وَإِن نَسِيته خلعته عَنْك وألبسته من لَا ينسى عهدي وأورثه خلافتي فَقَالَ يَا رب من هَذَا الَّذِي تورثه خلافتك فَقَالَ لَهُ ولدك سُلَيْمَان أجعله نَبيا ملكا على سَائِر ولدك وعَلى سَائِر الْجِنّ وَكَانَ فِي إِصْبَع آدم لَهُ نور عَظِيم كَالشَّمْسِ فَلَمَّا نسى الْعَهْد طَار الْخَاتم من إصبعه حَتَّى استجار بِرُكْن من أَرْكَان الْعَرْش وَقَالَ يَا رب هَذَا آدم رفضني وَأَنت قد طهرتني فَقَالَ لَهُ اسْتَقر فلك الْأمان فَكَانَ هُنَالك حَتَّى وهبه الله لِسُلَيْمَان عليه السلام وَلم يزل آدم فِي الْجنَّة وحواء وإبليس يتجسس عَن أخبارهما وَيسْأل كل من خرج من الْجنَّة عَنْهُمَا وَلَا يقدر أَن يدخلهَا لِأَن خدامها كَانَت تطرده وتعلمه إِن آدم وزوجه مقيمان فِي نعيم الْجنَّة فَكَانَ يتَقَدَّم إِلَى بَاب الْجنَّة فيقف على قَدَمَيْهِ مسبلاً جناحيه يسبح ربه ويقدسه بِصَوْت شجي ودواب الْجنَّة وطيرها ووحشها تأنس بِصَوْتِهِ وتقف تسمع مِنْهُ ويسألونه أَن يسألهم حَاجَة وَكَانَ الطاوس رَئِيس طيور الْجنَّة رَأسه من درة بَيْضَاء وَعَيناهُ ياقوتتان صفراوان وجناحاه من جَوْهَر مُخْتَلف الألوان تراصيعه وعنقه من لجين قد كلل بالياقوت
الْأَحْمَر وَرجلَاهُ من جَوْهَر مُخْتَلف الألوان فِي الصَّبْغ والأنوار ومنقاره من زبرجد أَخْضَر وَكَانَ إِذا نشر ذَنبه وصفق بجناحيه وغرد بِصَوْتِهِ يطرب كل من سَمعه وَكَانَت الْحَيَّة سيدة دَوَاب الْجنَّة لَهَا أَربع قَوَائِم سَمَاوِيَّة الْبَطن خضراء الظّهْر بَيْضَاء الْعُنُق حَمْرَاء الرَّأْس رقشاء الذوائب لَهَا بصيص وَنور يتلألأ فَكَانَت هِيَ والطاوس أَكثر من اغْترَّ بإبليس وافتتن بِصَوْتِهِ وتسبيحه وَكَانَ يَقُول لَهما عِنْدِي الِاسْم الْأَعْظَم الَّذِي لَا يَدعُوهُ بِهِ أحد إِلَّا أُجِيب وَإِنِّي خَائِف عَلَيْكُمَا أَن تخرجا من داركما هَذِه فَلَو تعلمتماه ودعوتما الله بِهِ لأجاب دعاءكما فَقَالَا أَيهَا الْملك علمنَا إِيَّاه لندعو بِهِ أَن يخلدنا الله فِي الْجنَّة فَقَالَ لَا أعلمكما إِلَّا أَن تدخلاني الْجنَّة من حَيْثُ لَا يعلم رضوَان وَلَا الخزنة والولدان فَقَالَا وَمن أَيْن نقدر على ذَلِك فَقَالَ للحية تدخليني فِي وبرك ويسترني الطاوس بجناحه فتدخلاني وَلَا يشْعر بكما أحد وأعلمكما الِاسْم الْأَعْظَم ففعلا مَعَه ذَلِك حَتَّى دخلا بِهِ فَلَمَّا دَخلهَا نكص على عَقِبَيْهِ وَخرج عَنْهُمَا فَلم يرياه وَقصد إِبْلِيس آدم فأغواه وَقد ورد هَذَا من طَرِيق النبط وَقيل إِن إِبْلِيس كَانَ يسْأَل دَوَاب الْجنَّة وطيرها أَن يدخلوه ليكلم آدم فَلَا يجيبونه وَكَانَت حَوَّاء قد أنست بالحية وأحبتها وَكَانَت الْحَيَّة تجىء إِلَيْهَا فِي كل يَوْم تسلم عَلَيْهَا وَتخرج إِلَى بَاب الْجنَّة فتقف هُنَاكَ وَإِن إِبْلِيس لَعنه الله طلب من الطاوس الدُّخُول فَقَالَ لَهُ لَو أَن الْحَيَّة أخذتك فِي حنكها وَبَين وبرها وَأَنا أسترك بجناحي لبلغت مرادك فَهِيَ مِمَّن يأنس إِلَيْهَا آدم وحواء فَقَالَ إِبْلِيس إِن فعلت لأشكرنك عمري كُله فَأتى الطاوس إِلَى الْحَيَّة وكلمها فَقَالَت أَخَاف أَن أطْرد من الْجنَّة كَمَا طرد هُوَ وأكون فِي سخط الله فَقَالَ لَهَا كلميه ليعلم أَنِّي كلمتك فَجَاءَت مَعَ الطاوس إِلَى بَاب الْجنَّة من حَيْثُ تنظر إِلَى إِبْلِيس وَينظر إِلَيْهَا فكلمها إِبْلِيس بتذلل ومسكنة فرحمته لما رَأَتْ من بكائه وَقَالَت أَخَاف أَن أكون فِي سخط الله كَأَنْت فَقَالَ لَهَا أَنْت لست مثلي لِأَنَّك لم تؤمري بِشَيْء فخالفت كَمَا خَالَفت أَنا أمره فِي السُّجُود وَإِذا أدخلتني فِي وبر صدرك وحنكك فأكلم آدم وحواء وترديني إِلَى مَكَاني فأجابته
وَكَانَ الطاوس يحض الْحَيَّة على أَن تفعل فَأَخَذته فِي وبرها مختفياً وأوقفته وَانْطَلَقت إِلَيْهِمَا وَقَالَت لَهما الطير والوحش وَالدَّوَاب بعثوني إلَيْكُمَا للتبرك بكما فَأقبل آدم وحواء نَحْو بَاب الْجنَّة فسبقتهما ووقفت مَعَ الطاوس وَأخذت إِبْلِيس فِي صَدره والطاوس إِلَى جنبها يخفي إِبْلِيس وَأَقْبل آدم ووقف على بَاب الْجنَّة وَأَقْبل إِبْلِيس يكلم آدم من حنك الْحَيَّة وهما يظنان أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تكلمها فَقَالَ إِبْلِيس لَعنه الله أَلَيْسَ الله أَبَاحَ لَكمَا الْجنَّة تأكلان من ثمارها قَالَا بلَى إِلَّا أَنه قد نَهَانَا عَن شَجَرَة وَاحِدَة فَقَالَ صدقتما تِلْكَ شَجَرَة الْخلد والحياة وَمن أكل مِنْهَا عرف الْخَيْر وَالشَّر وعاش أبدا لم يمت وخلد فِي الْجنَّة وَمَا نهاكما إِلَّا أَن تَكُونَا ملكَيْنِ أَو تَكُونَا من الخالدين فَقَالَا وهما يظنان أَنه الْحَيَّة أحقاً مَا تَقُولِينَ أيتها الْحَيَّة فَقَالَ إِبْلِيس حَقًا أَقُول وَكرر الْقسم بِاللَّه إِنَّه لَهما لمن الناصحين فَقَالَ آدم كَيفَ نَأْكُل مَا نَهَانَا الله عَنهُ وأوعدنا إِن أكلنَا الْبعد عَن جواره وَقد أَبَاحَ لنا مَا فِيهِ الْكِفَايَة فَأقبل على حَوَّاء وَقد اشْتغل آدم عَن كَلَامه بِالسَّلَامِ على الطُّيُور وَجعل إِبْلِيس يحلف لَهَا وَيَقُول أقبلي مني وكلي وأطعمي آدم لتكونا مخلدين وَهِي تظن أَنَّهَا الْحَيَّة فَأَقْبَلت على آدم وَسَأَلته أَن يَأْكُل فَقَالَ يَا حَوَّاء أنسيت عهد الله إِلَيْك وإلي فِي هَذِه الشَّجَرَة فَرَجَعت عَن قَوْلهَا وَكَانَت كلما ذكرت لآدَم زجرها فانصرفا وحواء تود لَو أَن آدم طاوعها فتجره إِلَى الشَّجَرَة فيأبى فَقَالَ إِبْلِيس للحية هَل لَك أَن تعاوديني كرة أُخْرَى فأكلمهما فَفعلت فَلَمَّا دخلت بِهِ الْجنَّة وقفت فصفر صفيراً أطرب بِهِ أهل الْجنَّة وَيسمع آدم وحواء فامتلآ سُرُورًا فَلَمَّا علم أَنه أطربهما ناح نياحةً أَحْزَن بهَا آدم وحواء فَقَالَا لَهُ وَقد نسيا {وَلَقَد عهدنا إِلَى آدم مِن قَبْلُ فَنَسِيَ} طه 115 وَقد خرج من صدر الْحَيَّة مَالك بعد إِن أطربت عهِدت إِلَى الْحزن وَالْجنَّة لَا حزن فِيهَا وَلَا نياحة فَقَالَ صفرت وأطربت حِين سَمِعت أنكما فِي سرُور ثمَّ ذكرت أنكما تخرجان إِلَى دَار الغموم فنحت حزنا عَلَيْكُمَا فتنفس آدم عليه السلام الصعداء فَقَالَ إِبْلِيس الْآن ظَفرت بِهِ وَتَركه وَمضى فاتبعته حَوَّاء مستوقفة لَهُ وَقد طمع فِيهَا بانفرادها عَن آدم فَقَالَت يَا عبد الله هَل عنْدك حِيلَة فِي الخلود فِي الْجنَّة فَقَالَ نعم فأصغت إِلَيْهِ فَقَالَ إِنَّك ستخرجين إِلَى دَار المذلة والتعب وَعِنْدِي لَك أَمَان من ذَلِك الشَّجَرَة الَّتِي
نهيتما عَنْهَا لَو أكلتما مِنْهَا لخلدتما أبدا وَكَانَت سَمِعت مِنْهُ هَذَا الْكَلَام وَهُوَ فِي صدر الْحَيَّة مرّة أُخْرَى فَقَالَت هَذَا هُوَ الْحق وَقد أعلمتني بِهِ الْحَيَّة فَوَافَقَ كَلَامهَا كلامك وتمت عَلَيْهَا وسوسته وَصَحَّ عِنْدهَا قَوْله وَقَالَت لَهُ قدم نصيحتك إِلَى آدم كَمَا قدمتها إِلَيّ فَقَالَ أَخَاف أَلا يقبل مني فَقَالَت أَنا أعينك عَلَيْهِ فوسوس إِلَيْهِ أَي ألْقى فِي قلبه النَّصِيحَة فَاسْتَشَارَ آدم حَوَّاء فَأَشَارَتْ عَلَيْهِ بِالْأَكْلِ مِنْهَا ففر آدم فَكَانَت تلْحقهُ وترده ليَأْكُل مِنْهَا وَجعل إِبْلِيس يَأْكُل مِنْهَا ويلتفت إِلَيْهِمَا فَتقدم آدم إِلَيْهِ وَأقسم عَلَيْهِ أَن يصدقهُ مَا هَذِه الشَّجَرَة فَقَالَ إِبْلِيس لَوْلَا مَا أَقْسَمت عَليّ لما أعلمتك هَذِه شَجَرَة الْخلد الَّتِي من أكل مِنْهَا خلد فِي الْجنَّة فذاقا مِنْهَا بِأَن تناولا شَيْئا قَلِيلا من ثَمَرهَا على خوف شَدِيد وَقيل إِن حَوَّاء جنت وأكلت وأطعمت آدم وَقيل قطعت ثَلَاثَة فدميت موَاضعهَا ودمعت فَقيل لَهَا يَا حَوَّاء كَمَا أدمعت الشَّجَرَة فَكَذَلِك تدمعين على مصائبك وَلَا تصبرين على الْبكاء وكما آدميتها كَذَلِك تدمين فعوقبت بِالْحيضِ فِي كل شهر فَقَالَ إِبْلِيس للحية أخرجيني فقد بلغت مرادي فَأَخْرَجته كَمَا أدخلته إِلَيْهَا والطاوس مَعهَا وَهُوَ يلومها وإبليس وَاقِف ينظر إِلَيْهِمَا وَيسمع مشاجرتهما ويضحك فَرحا بِمَا تمّ لَهُ على آدم وحواء وَكَانَ الملعون علم أَن من أكل مِنْهَا بَدَت عَوْرَته وَمن بَدَت عَوْرَته أخرج من الْجنَّة فَكلما أكلا تقلص عَنْهُمَا لباسهما وَظهر لكه وَاحِد مِنْهُمَا عَورَة صَاحبه وطفقا يخصفان عَلَيْهِمَا من ورق الْجنَّة حَتَّى صَار كَالثَّوْبِ وَقيل إِن آدم استتر بورق التِّين وحواء بورق الموز وَفِي كتاب الْوَصِيَّة استترا بورق الموز فروى أَن آدم تنَاول ورقتين فضم طرفيهما واتزر بِإِحْدَاهُمَا وارتدى بِالْأُخْرَى فعورة الرجل مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة وخصفت حَوَّاء أوراقاً غطت بهَا جَمِيع بدنهَا إِلَّا وَجههَا ويديها فَصَارَت عَورَة الْمَرْأَة جَمِيع بدنهَا إِلَّا الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ وَعَن ابْن عَبَّاس مَا ذاق آدم من تِلْكَ السنابل سنبلةً وَاحِدَة حَتَّى طَار التَّاج عَن رَأسه وعرى عَن لِبَاسه وَكَذَلِكَ حَوَّاء نزعت خواتمها وَزينتهَا وانتقضت ذوائبها من
الْجَوْهَر وَصَاح آدم صَيْحَة فَلم يبْق أحد فِي الْجنَّة إِلَّا ناداه يَا عاصي يَا عاصي أهكذا كَانَ الْعَهْد بَيْنك وَبَين رَبك وانتفضت عَنهُ الْأَشْجَار ونادته يَا عاصي وآدَم يُنَادي الْأمان الْأمان وحواء تروم ستر نَفسهَا بشعرها فَلَا تقدر والنداء عَلَيْهَا يَا عاصية فَقَعَدت وَوضعت رَأسهَا على ركبتيها حَتَّى لَا يَرَاهَا أحد فَأتى جِبْرِيل فَأخذ بناصيته فَقَالَ أَيهَا الْملك ارْفُقْ بِي فَقَالَ لَا أرْفق بعاص فاضطرب آدم وارتعد حَتَّى ذهب كَلَامه ونوديت حَوَّاء من فعل بك هَذَا فَقَالَت غرني عدوي وَمَا كنت أَظن أحدا يحلف بك كَاذِبًا فَقيل لَهَا اخْرُجِي مغرورة فقد جعلتك نَاقِصَة الْعقل وَالدّين وَالْمِيرَاث وجعلتك أسيرة أَيَّام حياتك وحرمتك الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة وَالسَّلَام والتحية وقضيت عَلَيْك بالطمث وَجهد الْحَبل والولادة والطلق ولتكوني أَكثر حزنا وجزعاً وَأَقل صبرا فَلَمَّا خرجت إِلَى بَاب الْجنَّة فَإِذا هِيَ بِآدَم فصاحبت صَيْحَة عَظِيمَة يَا لَهَا حسرة وَقَالَت دَعْنِي يَا جِبْرِيل أنظر إِلَى الْجنَّة وَجعلت تلْتَفت بحسرة واكتئاب ثمَّ أَتَى بالطاوس مقطعاً ريشه من طعن الْمَلَائِكَة وَجِبْرِيل يَقُول لَهُ اخْرُج من الْجنَّة أبدا فَإنَّك مشئوم أبدا وَكَذَلِكَ الْحَيَّة وَقد صَارَت ممسوخةً مَمْنُوعَة من النُّطْق مشقوقة اللِّسَان وَالْمَلَائِكَة تَقول لَهَا لَا رَحِمك الله وَلَا رحم الله من يَرْحَمك وبرز آدم إِلَى السَّمَوَات وحجبت حَوَّاء عَنهُ فَلم يرهَا وَعَن الْحجر أَن آدم ولى هَارِبا حَيَاء من الله وَهُوَ يَقُول أهلكتني يَا حَوَّاء وَهَلَكت فَجَلَست حَوَّاء إِلَى الأَرْض وتجللت بشعرها وَرفعت رَأسهَا إِلَى الْعَرْش فتوارثت ذَلِك بناتها مِنْهَا عِنْد المصائب يرفعن رؤوسهن إِلَى السَّمَاء صارخات ونكس آدم رَأسه حَيَاء من ربه هَارِبا فِي الْجنَّة فتوارث ذَلِك مِنْهُ بنوه إِذا أصَاب أحدا مُصِيبَة نكس رَأسه إِلَى الأَرْض وَرُبمَا بحثها بِأُصْبُعَيْهِ فَأَتَاهُ النداء من الْجِهَات أَلَسْت فَارًّا مني يَا آدم فَقَالَ يَا رب وَأَيْنَ أفر مِنْك وَإِن لم تغْفر لي وترحمني أكن من الخاسرين وَلما مر آدم فِي الْجنَّة يعدو علقت شَجَرَة من الْجنَّة بِشعرِهِ فأوقفته وكلمته فِي رَأسه فَلَمَّا خرج من الْجنَّة أخرجت تِلْكَ الشَّجَرَة مَعَه قيل إِنَّهَا شَجَرَة العليق سميت بذلك لِأَنَّهَا تعلّقت بِآدَم فَهِيَ لَا تنْبت إِلَّا فِي السباخ وَلم ينْتَفع مِنْهَا بِشَيْء
وَهَذِه الْجنَّة جنَّة من جنَّات السَّمَاء لَا جنَّة الْخلد لِأَن تِلْكَ لَا يَنْقَطِع أكلهَا وَلَا تَكْلِيف فِيهَا وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد إِن الْجنَّة الَّتِي أخرج مِنْهَا آدم جنَّة من جنَّات الدُّنْيَا تطلع فِيهَا الشَّمْس وَالْقَمَر وَلَو كَانَت من جنَّات الْخلد لم يخرج مِنْهَا أبدا وَقيل هِيَ الأَرْض وَقَوله {اهبطو} الْبَقَرَة 36 لَا يدل على كَونهَا فِي السَّمَاء كَقَوْلِه تَعَالَى {اهبطوا مصر} الْبَقَرَة 61 فَقَالَ الله تَعَالَى لآدَم وحواء {أَلَم أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ} الْأَعْرَاف 22 قَالَ آدم يَا رب حَوَّاء أطعمتني قَالَت حَوَّاء يَا رب الْحَيَّة قَالَت إِنَّهَا شَجَرَة الْخلد قَالَ الله للحية لم قلت ذَلِك قَالَت يَا رب بل إِبْلِيس قَالَ لَهما قَالَ الله تَعَالَى {اهبطوا بَعْضكُم لبَعض عَدُوٌّ وَلَكُمْ فيِ الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَعٌ إِلَى حِينٍ} الْبَقَرَة 36 فَلهَذَا الْعَدَاوَة بَينهم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَفرق بَين العداوتين فَإِن عَدَاوَة آدم إِيمَان وعداوة إِبْلِيس عصيان فالعداوة ناشئة بَين الذريتين وإبليس خفير الْحَيَّة وَابْن آدم يروم قَتلهَا ليخفر ذمَّته والحية دائبة تُرِيدُ أَن تلسعه قَالَ رَسُول الله
اقْتُلُوا الْحَيَّة حَيْثُ رأيتموها وأخفروا ذمَّة الشَّيْطَان ثمَّ قَالَ الله لآدَم يَا آدم مَا أسْرع مَا نسيت عهدي اخْرُج من جواري فَلَا يجاورني من عَصَانِي فَأن آدم أنة وَزفر زفرَة كَاد أَيْن يَمُوت أسفا وَأمر الله تَعَالَى جِبْرِيل أَن يَأْخُذ بعضدي آدم ويسوقه وحواء خَلفه لَهَا زفير وشهيق فَأخذ بِيَدِهِ ليخرجه فَقَالَ اللَّهُمَّ بِحَق مُحَمَّد وَعلي وَفَاطِمَة وَالْحسن وَالْحُسَيْن تب عَليّ فَأوحى الله إِلَيْهِ اهبط إِلَى الأَرْض حَتَّى أَتُوب عَلَيْك فِيهَا فهبط وأهبط مَعَه من الْجنَّة بذر كل شَيْء من الثمرات فَلَمَّا اسْتَوَى على الأَرْض مد بَصَره فَرَأى إِبْلِيس قد سبقه إِلَى الأَرْض وبإسنادنا عَن ابْن بابويه يرفعهُ إِلَى عبد الرَّحْمَن بن زيد بن أسلم عَن أَبِيه عَن جده عَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه قَالَ قَالَ رَسُول الله
لما أكل آدم من الشَّجَرَة رفع رَأسه إِلَى السَّمَاء فَقَالَ أَسأَلك بِحَق مُحَمَّد إِلَّا رحمتني
فَأوحى الله إِلَيْهِ وَمن مُحَمَّد فَقَالَ تبَارك اسْمك لما خلقتني رفعت رَأْسِي إِلَى عرشك فَإِذا فِيهِ مَكْتُوب لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله فَعلمت أَنه لَيْسَ أحد اعظم عِنْد قدرا مِمَّن جعلت اسْمه مَعَ اسْمك فَأوحى الله إِلَيْهِ يَا آدم إِنَّه لآخر النَّبِيين من ذريتك فلولا مُحَمَّد مَا خلقتك وروى أَن آدم لما أهبط لم يصعد إِلَى شَجَرَة إِلَّا صعد إِبْلِيس حياله شَجَرَة مثلهَا فَرفع آدم يَده وَقَالَ يَا رب إِنَّك تعلم أَنِّي لم أطقه وَأَنا فِي جوارك وَقد أهبطته إِلَى الأَرْض معي فَلَا طَاقَة لي بِهِ فَأوحى الله إِلَيْهِ يَا آدم السَّيئَة مِنْك وَمن ولدك سَيِّئَة والحسنة عشر أَمْثَالهَا إِلَى سَبْعمِائة قَالَ يَا رب زِدْنِي فَأوحى الله إِلَيْهِ لَا يَأْتِي من ولدك بِمثل الْجبَال من الذُّنُوب تَائِبًا مِنْهَا إِلَّا غفرت لَهُ قَالَ يَا رب زِدْنِي فَأوحى الله إِلَيْهِ أَغفر الذُّنُوب وَلَا أُبَالِي قَالَ حسبي قَالَ إِبْلِيس قد حلت بَين وَبَينه ومنعتني مِنْهُ فَأوحى الله إِلَيْهِ لَا يُولد لَهُ ولد إِلَّا ولد لَك ولدان قَالَ يَا رب زِدْنِي فَأوحى الله إِلَيْهِ تجْرِي مجْرى الدَّم قَالَ يَا رب زِدْنِي فَأوحى الله إِلَيْهِ {يَعِدُهُمْ وَيُمَنّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَان إِلَاّ غُرُوراً} النِّسَاء 120 قَالَ حسبي فَصَارَ ضداً لآدَم ولولده مُنْذُ ذَلِك الْيَوْم فأخرجهما وابتلاهما بالتكليف وَالْمَشَقَّة وسلبهما ثِيَاب الْجنَّة لِأَن إنعامه عَلَيْهِم كَانَ تفضلاً فَلهُ مَنعه تشديداً للبلوى والامتحان كَمَا يفقر بعد الْغنى وَيُمِيت بعد الْإِحْيَاء ويسقم بعد الصِّحَّة ثمَّ قَالَ الله تَعَالَى للحية أَنْت الَّتِي خفرك عدوي فَإِن آدم وبنيه يخفرون ذمَّته فِيك حَيْثُ وجدوك وَلَا ينفعك إِبْلِيس شَيْئا ثمَّ مسح قَوَائِمهَا وَقَالَ لَهَا قد أذهبت جمالك وَجعلت رزقك فِي التُّرَاب قَالَت لَا بل أَمْشِي على بَطْني كالحوت فِي المَاء فَقَالَ الله تَعَالَى وتتكلمين أَيْضا فشق لسانها وأخرسها عَن الْكَلَام فَهِيَ تسمع وتبصر وَلَا تقدر على الْكَلَام وَلَيْسَ شَيْء من الْبَهَائِم وَالدَّوَاب إِلَّا يكلم بعضه بَعْضًا إِلَّا الْحَيَّة وَقَالَ للطاوس أما أَنْت فَكنت احسن الطُّيُور فلأزيلن جمالكم ولأجعلنك
لَا تطير فسمح جماله وأزال إكليله وشقق رجلَيْهِ وأزال حلته وَحسن نغمته فَإِذا نظر إِلَى رجلَيْهِ يَصِيح أسفا وَانْزِلْ الله تَعَالَى آدم بِالْهِنْدِ الْهِنْد على جَزِيرَة سرنديب على جبل الرهون وَعَلِيهِ الْوَرق الَّذِي خصفه فيبس فذرته الرّيح فِي بِلَاد الْهِنْد فَيُقَال إِن عِلّة الطّيب بِتِلْكَ الْبِلَاد من ذَلِك الْوَرق وَلذَلِك خصت تِلْكَ الْبِلَاد بِالْعودِ والقرنفل وَسَائِر أَنْوَاع الطّيب وَكَذَلِكَ الْجَبَل لمعت عَلَيْهِ اليواقيت فَكَانَ مِنْهُ الماس وَفِي بحره أَنْوَاع الْجَوَاهِر وَقيل أهبط على جبل يُقَال لَهُ وَاسم يشرف على وَاد يُقَال لَهُ سرنديب وَعَن جَعْفَر بن مُحَمَّد أهبط على الصَّفَا وحواء على الْمَرْوَة وَكَانَت امتشطت حَوَّاء فِي الْجنَّة فَلَمَّا صَارَت إِلَى الأَرْض حلت ضفيرتها فانتثر مِنْهَا الْعطر الَّذِي كَانَت امتشطت بِهِ فِي الْجنَّة فطارت بِهِ الرّيح فَأَلْقَت أَكْثَره فِي الْهِنْد فَلذَلِك صَار الْعطر بِالْهِنْدِ وَفِي الْعِلَل أَنَّهَا حلت عقيصتها فَأرْسل الله على مَا كَانَ فِيهَا من الطّيب ريحًا تهب بِهِ فِي الْمشرق وَالْمغْرب وَفِي رِوَايَة أَن الصَّفَا سمى بذلك لِأَن الْمُصْطَفى هَبَط عَلَيْهِ وَسميت الْمَرْوَة لِأَن الْمَرْأَة اهبطت عَلَيْهِ وهما جبلان عَن يَمِيني الْكَعْبَة وشمالها وَعَن وهب اهبط آدم على جبل فِي شَرْقي أَرض الْهِنْد يُقَال لَهُ وَاسم وأهبط حَوَّاء بجدة وَإِنَّمَا سميت جدة لِأَن جِبْرِيل قَالَ لَهما تفارقتما جدا وأهبط إِبْلِيس بِمَيْسَان وأهبطت الْحَيَّة بأصفهان والطاوس ببراري عدن وَجعل
بَعضهم عدوا لبَعض إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَعَن كَعْب أهبط آدم بِالْهِنْدِ على جبل يُقَال لَهُ نود وحواء بجدة وإبليس برستاق ميسَان والحية بأصفهان والطاوس بالبحر ثمَّ أمره الله تَعَالَى أَن يسير إِلَى مَكَّة فطوى لَهُ الأَرْض فَصَارَ على كل مفازة يمر بهَا خطْوَة وَلم يَقع قدمه فِي شَيْء من الأَرْض إِلَّا صَار عمراناً وَكَانَ جِبْرِيل يأتيهما بأرزاقهما من الْجنَّة ثمَّ احْتبسَ الرزق عَنْهُمَا فَاشْتَدَّ جوعهما فَنزلَا إِلَى الْوَادي فَالْتَقَيَا وأكلا من ثَمَر الْأَرَاك وروى من الْحِنْطَة والطحين والعجين وَالْخبْز وَأخرج مَعَه حِين خرج من الْجنَّة صرة من الْحِنْطَة بعد أَن اسْتَأْذن ربه أَن يتزود مِنْهَا أَي من الْجنَّة فَقَالَ لَهُ خُذ من الشَّجَرَة الَّتِي أكلتما مِنْهَا فَهِيَ غذاؤكما وغذاء نسلكما إِلَى يَوْم الْقِيَامَة كَمَا عصيتماني فَأخذ الصرة وَثَلَاثِينَ قَضِيبًا من الشّجر مودعة أَصْنَاف الثِّمَار من شجر الْجنَّة مِنْهَا عشرَة لَهَا قشر وَهِي الْجَوْز واللوز والبندق والفستق والخشخاش والسايلوط والنارنج والموز والبلوط وَالرُّمَّان وَعشرَة ذَات نوى وَهِي الخوخ والمشمش والإجاص وَالرّطب والعبير أَو النبق والزعرور والعناب والمقل والقراصيا وَمِنْهَا عشرَة لَا قشر لَهَا وَهِي التفاح والسفرجل وَالْعِنَب والكمثرى والتين والتوت والأترج والقثاء وَالْخيَار والبطيخ وَعَن وهب أول مَا علم بهبوط آدم النسْر فألفه وَبكى مَعَه وَكَانَ على سَاحل الْبَحْر ينْتَظر حوتاً ليؤنسه فَلَمَّا ظهر الْحُوت من المَاء أخبرهُ النسْر أَنه رأى خلقا عَظِيما يقوم وَيقْعد وَيَجِيء وَيذْهب فَقَالَ الْحُوت إِن كَانَ مَا تَقول حَقًا فقد جَاءَ مَا لَيْسَ مِنْهُ مفر لَا فِي الْبر وَلَا فِي الْبَحْر وَفِي رِوَايَة أَنه قَالَ يستخرجني من بحري ويستخرجك من برك فَأخْرج آدم من الْجنَّة فِي آخر السَّاعَة الثَّانِيَة عشرَة من يَوْم الْجُمُعَة وَأنزل إِلَى الأَرْض فِي أول سَاعَة من لَيْلَة السبت فَكَانَ مقَامه فِي الْجنَّة مُنْذُ دَخلهَا إِلَى أَن أخرجه مِنْهَا سَاعَة وَاحِدَة من سَاعَات الْيَوْم الَّذِي مِقْدَاره ألف سنة مِقْدَار تِلْكَ
السَّاعَة من سني الدُّنْيَا ثَلَاث وَثَمَانُونَ سنة وَأَرْبَعَة اشهر وَبَقِي مصورا طينا فخار صلصالاً على بَاب الْجنَّة خمس سَاعَات إِلَى انفخ فِيهِ الرّوح وأهبط على الْجَبَل عِنْد غرُوب الشَّمْس من يَوْم الْجُمُعَة وَأول سَاعَة من لَيْلَة السبت وَألقى الله السبات على كل حَيّ تِلْكَ اللَّيْلَة إِلَّا الْمَلَائِكَة فَإِنَّهَا لَا تنام فَبَقيَ آدم على الْجَبَل حائراً مُنْفَردا ينظر يَمِينا وَشمَالًا لَا يرى شَيْئا إِلَّا السَّمَاء والنجوم وَمَا كَانَ أبصرهَا فَرَأى وَحْشَة وظلام الْأُفق وَكَانَ أول لَيْلَة من نيسان فَبكى بكاء شَدِيدا حَتَّى أصبح صباح السبت وَجَاء نور النَّهَار فسبح الله وَكبره وَكَذَلِكَ حَوَّاء وَقَالا هَذَا من النُّور الَّذِي نعرفه فِي الْجنَّة إِلَّا أَنه لَيْسَ بذلك وَلما طلعت الشَّمْس بحرها خافا أَن يكون عذَابا فازداد بكاؤهما فأعلمها جِبْرِيل أَنه هَذِه الشَّمْس وَأَنه لَا ضَرُورَة فِيهَا فسكنا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَنظر آدم إِلَى الْجبَال والأودية وَالْأَشْجَار والأنهار فَبكى وَقَالَ أَيْن هَذَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ من الْجنَّة وَلما طلع النَّهَار أَلْقَت حَوَّاء الطّيب والجواهر وَوضعت يَديهَا على رَأسهَا صارخة من الوحشة فَاتخذ ذَلِك بناتها سنة فِي المصائب وَإِن آدم لَوْلَا تَأْخِير أَجله لمات خوفًا من الوحشة فَأوحى الله إِلَى جِبْرِيل أَن قل لَهُ هَذَا كُله بخطيئتكما إِذا لم تطيعا أَمْرِي بعد أَن حذرتكما من عدوكما وسأجمع بَيْنك وَبَين زَوجك فتب إِلَيّ وادعني واستغفرني أَسْتَجِب لَك وأغفر لَك وَأَنا الغفور الرَّحِيم فَأعلمهُ جِبْرِيل وَصعد إِلَى السَّمَاء فَقَالَ يَا جِبْرِيل أتتركني فريدا ووحيدا فَقَالَ لَهُ بذلك أَمرنِي رَبِّي وَعَن النَّبِي
أَن آدم هَبَط إِلَى الأَرْض مسوداً فضجت الْمَلَائِكَة إِلَى الله تَعَالَى فَأمره الله تَعَالَى أَن يَصُوم الْأَيَّام الْبيض فَلَمَّا صَامَ الثَّالِث عشر ذهب ثلث السوَاد فَمَا صَامَ الرَّابِع عشر ذهب ثُلُثَاهُ فَلَمَّا صَامَ الْخَامِس عشر ابيض كُله ثمَّ ناداه مُنَاد يَا آدم هَذِه الْأَيَّام لَك ولولدك من صامها فِي كل شهر فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْر وروى أَن جِبْرِيل قَالَ يَا آدم حياك الله وبياك فَقَالَ أما حياك فأعرفه فَمَا
بياك قَالَ أضْحكك فَسجدَ آدم وَرفع رَأسه وَقَالَ رب زِدْنِي جمالاً فَأصْبح وَله لحية سَوْدَاء كالحمم فَضرب بِيَدِهِ إِلَيْهَا وَقَالَ يَا رب مَا هَذَا فَقَالَ هَذِه اللِّحْيَة زينتك بهَا وذكران ولدك إِلَى يَوْم الْقِيَامَة قَالَ ابْن بابويه فِي الْعِلَل وَهَذَا الْخَبَر صَحِيح وَفِي قَوْله تَعَالَى {فَتلقى آدم من ربه كَلِمَات فَتابَ عَلَيْهِ} الْبَقَرَة 37 قَالَ الحائني فِي الحقيبة فقد روينَا بإسنادنا الْمُتَقَدّم عَن ابْن بابويه قَالَ أخبرنَا أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بن الْحسن بن أَحْمد بن الْوَلِيد عَن مُحَمَّد بن الْحسن الصفار عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عِيسَى عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أبي نصر عَن أبان بن عُثْمَان وَعَن مُحَمَّد بن مُسلم عَن أبي جَعْفَر قَالَ الْكَلِمَات الَّتِي تلقاهن آدم من ربه فَتَابَ عَلَيْهِ قَالَ اللَّهُمَّ لَا إِلَه إِلَّا أَنْت سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِك عملت سوءا وظلمت نَفسِي فَاغْفِر لي إِنَّك أَنْت خير الغافرين وَمن كتاب القضايا فِي وَصِيَّة النَّبِي
لعَلي رِوَايَة مُحَمَّد بن زُرَيْق عَن سَلمَة ابْن الوضاح الأسواني عَن مُحَمَّد بن خَلاد الْكُوفِي عَن عَطِيَّة عَن وهب عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن عَليّ عَن أَبِيه عَن عبد الله بن عَبَّاس رضي الله عنهما عَن عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه قَالَ أَوْصَانِي رَسُول الله
بِوَصِيَّة وَمر فِيهَا إِلَى أَن قَالَ قَالَ عَليّ أَرَأَيْت قَول الله فِي كِتَابه {فَتَلَقَّى آدم من ربه كَلِمَات} الْبَقَرَة 37 مَا تِلْكَ الْكَلِمَات قَالَ يَا عَليّ إِن الله تبارك وتعالى أهبط أَدَم بِالْهِنْدِ وحواء بجدة والملعون إِبْلِيس بِمَيْسَان والحية بأصبهان وَلم يكن فِي الْجنَّة شَيْء أحسن من الْحَيَّة وَكَانَت من دَوَاب الْجنَّة وَكَانَ لَهَا خلق كخلق الْبَعِير وقوائم كقوائمه وعنق كعنقه فَأتى إِبْلِيس فَقَالَ أيتها الْحَيَّة احمليني على ظهرك حَتَّى تدخليني الْجنَّة فَقَالَت إِنَّه لَا يَنْبَغِي لأحد أَن يركبني إِلَى يَوْم الْقِيَامَة قَالَ إِنِّي أتمثل ريحًا فَأدْخل فِي شدقك وَلَا تحمليني فَفعلت فَلَمَّا دخل الْجنَّة آغوى آدم ونزعه فَغَضب الله على الْحَيَّة فَقطع قَوَائِمهَا وَجعلهَا تمشي على بَطنهَا وَجعل رزقها فِي التُّرَاب وَقَالَ لَا يرحم الله من يَرْحَمك وَغَضب على الطاوس وَلم يكن فِي الْجنَّة أحسن من الْحَيَّة والطاوس فقبح الله من الطاوس رجلَيْهِ لِأَنَّهُ
هُوَ الَّذِي دلّ إِبْلِيس على الشَّجَرَة وَأخْبرهُ بهَا فَأَقَامَ آدم فِي الْهِنْد مائَة سنة وَاضِعا يَده على أم رَأسه ينوح على نَفسه بالعبرانية فَبعث الله جِبْرِيل فَقَالَ لَهُ يَا آدم إِن الرب يُقْرِئك السَّلَام وَيَقُول أَلَيْسَ أَنا الَّذِي خلقتك بيَدي ونفخت فِيك من روحي وأسجدت لَك ملائكتي وأسكنتك جنتي وزوجتك حَوَّاء أمتِي وحذرتك عدوي فعصيتني وأطعت عدوي فَمَا هَذَا الْبكاء وَأَنا أعلم مَا بَكَيْت لَهُ فَقَالَ يَا جِبْرِيل كَيفَ لَا أبْكِي وَقد أخرجت من جوَار رَبِّي إِلَى دَار الْبلَاء وَدَار السغب وَالنّصب قَالَ جِبْرِيل يَا آدم قل هَذِه الْكَلِمَات قَالَ يَا جِبْرِيل يَا حَبِيبِي وَمَا أَقُول قَالَ قل سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك لَا إِلَه إِلَّا أَنْت وَحدك لَا شريك لَك عملت سوءا وظلمت نَفسِي فارحمني إِنَّك أَنْت أرْحم الرَّاحِمِينَ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك لَا إِلَه إِلَّا أَنْت وَحدك لَا شريك لَك عملت سوءا وظلمت نَفسِي تب عَليّ إِنَّك أَنْت التواب الرَّحِيم وَكَانَ آدم بِالْهِنْدِ وحواء بجدة وعَلى شقّ الْبَحْر قَائِمَة قد تمعط شعرهَا وَتَلَبَّدَ على وَجههَا وقشفت من الشَّمْس فَرفعت يَديهَا إِلَى السَّمَاء دَاعِيَة باكية حزينة على مَا حل بهَا قائلة إلهي أمتك حَوَّاء متضرعة إِلَيْك ضَعِيفَة حيرانة قد أحاطت بهَا خطيئتها وأوبقها سوء فعلهَا إلهي وَقد طَالَتْ عَليّ وحشتي وعظمت مصيبتي وَذَلِكَ كَانَ لتفريطي وإضاعتي مَا أَمرتنِي بِهِ وَقد أَخْبرنِي بديع فطرتك آدم قريني الَّذِي خلقتني مِنْهُ أَن النُّور الَّذِي فِي أسارير وَجهه نور ولد من أَوْلَاده اسْمه مُحَمَّد وَبِه كنيته بِأبي مُحَمَّد أَنَّك لَا تسْأَل بِهِ إِلَّا أجبْت وَأَنَّك من أَجله خلقتني وخلقت السَّمَوَات وَالْأَرْض وبرأت البرايا فبحقه عَلَيْك وبموضعه مِنْك إِلَّا مَا رحمت ضعْفي ولهفي وتبت عَليّ وغفرت لي وجمعت بيني وَبَين آدم صفيك حَتَّى أرَاهُ وَاعْلَم مَا هُوَ فِيهِ فانك غَفُور رَحِيم اللَّهُمَّ إِنِّي عملت سوءا وظلمت نَفسِي فَاغْفِر لي وَتب عَليّ واعصمني إِنَّه لَا يغْفر الذُّنُوب إِلَّا أَنْت وَأَنت التواب الرَّحِيم وَعَن ابْن عَبَّاس بَكت حَوَّاء فأنبت الله من دموعها القرنفل والأفاويه وَبقيت شاخصة ببصرها إِلَى السَّمَاء وَوضعت يَديهَا على رَأسهَا فورث بناتها ذَلِك وحملت الرّيح صَوت آدم بالكلمات الَّتِي علمه إِيَّاهَا جِبْرِيل عَلَيْهِ السَّلَام
فاستبشرت وَقَالَت كَلِمَات لم أسمع بِمِثْلِهَا قد جعلهَا الله تَوْبَة وارتفع دعاؤهما فِي وَقت وَاحِد وخرقت أصواتهما الْحجب حِجَابا حِجَابا وكل مَلأ من الْمَلَائِكَة دَعَا لَهما من سَمَاء إِلَى سَمَاء إِلَى تَحت الْعَرْش فَأجَاب الله دعاءهما وَأوحى إِلَى حَوَّاء إِنِّي قد غفرت لَك ولآدم خطيئتكما وتبت عَلَيْكُمَا وَأَنا التواب الرَّحِيم فتقدمي إِلَى مَكَّة وصومي شهر رَمَضَان كَمَا صَامَ آدم فصامت وَالْمَلَائِكَة فِي كل لَيْلَة تأتيها بفطرها من الرطب وَقيل إِن النَّخْلَة عِنْدهَا فِي الْحجاز نزلت وَمِنْهَا كَانَ يحمل إِلَى آدم كل لَيْلَة فَلهَذَا الْحجاز بلد النّخل وَلما تمّ شهر رَمَضَان قَالَ آدم كنت أنظر إِلَى ملائكتك يطوفون بِبَيْت تَحت عرشك ويسبحون حوله فآنس بهم وَقد اشْتهيت أَن لَو كَانَ فِي الأَرْض مثله أَطُوف بِهِ وأسجد حوله فَأوحى الله إِلَيْهِ يَا آدم أَنا الَّذِي ألهمتك أَن تَقول ذَلِك لما سبق فِي علمي من عمَارَة بَيت فِي الأَرْض لَك ولولدك أظهر مَكَانَهُ وَأعظم ذكره وشأنه حِيَال ذَلِك الْبَيْت الَّذِي رَأَيْته تَحت عَرْشِي أبوئ مَكَانَهُ لولد من ولدك يبنيه وَيرْفَع قَوَاعِده ويجعله حجا لولدك إِلَى يَوْم الْقِيَامَة يأْتونَ إِلَيْهِ من كل فج عميق يريدونه وَقد أثقلت الْخَطَايَا ظُهُورهمْ فَأغْفِر لَهُم كل خَطِيئَة فسر إِلَيْهِ أبوئك مَكَانَهُ فيعظم ذكره وشأنه فَمن يلوذ بِهِ صَادِقا فَهُوَ ضَيْفِي فَأَنا أكْرم الأكرمين فتأهب آدم للمسير وَأرْسل الله إِلَيْهِ جِبْرِيل بعصا من آس الْجنَّة يتَوَكَّأ عَلَيْهَا فِي مسيره وَتَكون لَهُ عوناً على خطواته فَلَمَّا رَآهَا آدم بَكَى وَقبلهَا ووضعها على عَيْنَيْهِ وَوَجهه وَقَالَ يَا جِبْرِيل أَتَرَى رَبِّي يُعِيدنِي إِلَى الْجنَّة فَقَالَ يَا آدم مَا تَابَ عَلَيْك إِلَّا وَهُوَ رادك إِلَيْهَا فَلَا تيأس من رَحْمَة الله فَأخذ الْعَصَا بِيَدِهِ وَشد عَلَيْهِ مَا بَقِي من الْوَرق وَقد نسفت الرّيح أَكْثَره بِالْهِنْدِ وناداه الْجَبَل يَا صفوة الله كنت آنس بك وأفتخر على جبال الأَرْض فَإلَى أَيْن ترحل عني فَقَالَ آدم بِأَمْر رَبِّي هَبَطت عَلَيْك وبأمره ارتحلت عَنْك فَبكى الْجَبَل بكاء شَدِيدا لفراقه فَبَارك فِيهِ آدم وشرفه بنبات من أطيب الشّجر وأكثرها مَنْفَعَة وَسَار آدم وَجِبْرِيل يهديه الطَّرِيق والعصا بِيَدِهِ يطوي المفاوز والقفار والبحار فَكَانَت بَين الخطوة والخطوة قفراً سبسباً لَا عمَارَة فِيهَا وَفِي مَوَاضِع عَصَاهُ بساتين
حول تِلْكَ الْمَدِينَة وَهَكَذَا يكون إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وَلم يزل يسير حَتَّى وصل إِلَى جدة فَوجدَ أثر حَوَّاء لِأَنَّهُ شم رَائِحَة الْوَرق الَّذِي كَانَ عَلَيْهَا فسميت جدة لذَلِك وَقَالَ يَا حَوَّاء أَترَانِي أنظر إِلَيْك نظرة فنادته الْجبَال الَّتِي مرت عَلَيْهَا تيَسّر فِي أَثَرهَا تدركها إِن شَاءَ الله تَعَالَى فَسَار إِلَى قرن فَأمره جِبْرِيل فَأحْرم ولبى بِلَا مخيط تشيبها بالورق الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ وَأنزل الله الْبَيْت الْمَعْمُور فاوقفه فِي الْهَوَاء بِحَيْثُ يرَاهُ فيعرفه حِيَال المهاة الْبَيْضَاء الَّتِي هِيَ مَوضِع الْبَيْت وَمِنْهَا دحيت الأَرْض وَهِي أم الْقرى فَأوحى الله إِلَيْهِ أَن كن محرما فَطُفْ بالبقعة الْمُبَارَكَة وصل عِنْدهَا واسألني جَمِيع حَاجَتك وَأَنا مُجيب الدُّعَاء فَأحْرم ولبى وَدخل الْحرم وَنظر إِلَى الْبَيْت الْمَعْمُور فِي الْهَوَاء وناداه الله ائْتِ الربوة الْحَمْرَاء الَّتِي فِي وسط المهاة الْبَيْضَاء فَطُفْ حولهَا سبعا ثمَّ صل عِنْدهَا رَكْعَتَيْنِ فَهِيَ بقْعَة بَيْتِي الْحَرَام فَفعل وأنبع الله زَمْزَم الَّتِي أخرجهَا بعد ذَلِك إِسْمَاعِيل فَشرب وَتَوَضَّأ وَأنْبت الله لَهُ الموز فَكَانَ يَأْكُل مِنْهُ وَأخْبرهُ بمَكَان حَوَّاء فَلَمَّا رَأَتْهُ جَاءَت إِلَيْهِ تبْكي فبشرها جِبْرِيل بِالتَّوْبَةِ وَالْمَغْفِرَة فسجدت شكرا لله تَعَالَى وتطهرت وتوضأت فأهلت بِعُمْرَة وأحرمت ولبت وأتى بهَا جِبْرِيل إِلَى جَمِيع مواقفها وَجمع جِبْرِيل بَينهمَا فِي جمع فَسمى بذلك لاجتماعهما فِيهِ وَقيل بل تعارفا بِعَرَفَات فبادرت إِلَيْهِ وتعانقا وبكيا ثمَّ أخرجهُمَا من الْحرم إِلَى الْجَبَل وأتى بِظَبْيٍ من الْبَريَّة فذبحه وسلخه ودبغ جلده وكسا بِهِ حَوَّاء فَصَارَت السّنة أَن تكسو الرِّجَال النِّسَاء وَبَقِي آدم إِلَى أَن اسْتهلّ ذُو الْحجَّة وَأَوْقفهُ جِبْرِيل على أَعْلَام الْجَبَل وَعلمه مَنَاسِك الْحَج وَالْوُقُوف بمنى وَالدُّعَاء وَالطّواف حول الْبَيْت إِلَى تَمام الْحجَّة الْحَرَام وَأنزل الله إِلَيْهِ كَبْشًا فذبحه فَسَالَ دَمه واضطرت فَفَزعَ آدم وارتعد لِأَنَّهُ لم يكن أبْصر موت شَيْء فضمه جِبْرِيل إِلَى صَدره وَقَالَ لَهُ اطمئن هَذَا قرْبَان يقبل الله بِهِ نسكك وَيغْفر ذَنْبك وَيكون سنة لبنيك من بعْدك ثمَّ أمره جِبْرِيل فسلخه وَأخرج كرشه فنفض مَا فِيهِ وغسله جَمِيعه ثمَّ أمره أَن يُعِيد إِلَى جَوف الكرش مَا أخرجه مِنْهُ وَأَن يشق الْجلد ويبسط على وَجه الأَرْض
وَالصُّوف مِمَّا يَلِي الأَرْض وَأَن يضع الْكَبْش المسلوخ على الْجلد وَأَن يقصر من شعر حَوَّاء فَفعل وامر حَوَّاء فَأخذت بالمدية فحلقت رَأسه وَجعل يَدْعُو وحواء خَلفه تؤمن على دُعَائِهِ فَلَمَّا فرغ من دُعَائِهِ جَاءَت نَار بَيْضَاء من السَّمَاء لَيْسَ لَهَا دُخان وَلَا لَهب فَأخذت الكرش وَجلده وصوفه وَمَا كَانَ فِيهِ ثمَّ ارْتَفَعت بِهِ إِلَى السَّمَاء فَأوحى الله إِلَيْهِ إِنِّي قد قبلت قربانك وأعطيتك جَمِيع مَا سَأَلت وَأَنا ذُو الْفضل الْعَظِيم وَكَذَا أفعل بِمن قصد بَيْتِي بعْدك فِي هَذَا الشَّهْر لَا أقبل هَذَا فِي غَيره ليَكُون ميقاتاً مَعْلُوما فتمم حجه وَرمى بالجمار غيظاً لإبليس ورجماً فَلَمَّا فرغ من حجه أَخذ جِبْرِيل بيد آدم وحواء وَجَاء بهما إِلَى سَاحل الْبَحْر مِمَّا يَلِي جدة وَقَالَ إِن الله أحل لَك جَمِيع مَا فِي هَذَا الْبَحْر صغر ذَلِك أَو كبر أَيهَا السّمك أقبل بِإِذن الله فَجَاءَت أصنافاً فَقَالَ لَهُ خُذ مَا تُرِيدُ فَأخذ سمكتين عظيمتين وَعلمه فَجمع حطباً وقرع المدية بِالْحجرِ فَخرج نَار وشواهما فَقَالَ آدم الْحَمد لله الَّذِي جعل لنا من هَذَا طَعَاما ثمَّ انصرفا إِلَى مَكَّة وودعهما جِبْرِيل وَبَقِي آدم وحواء لَيْسَ لَهما ثَالِث فعادا إِلَى الْحرم فسكناه وَعَن أبي نصر عَن إِبْرَاهِيم بن مُحرز عَن أبي حَمْزَة عَن أبي جَعْفَر قَالَ إِن آدم نزل من الْهِنْد فَبنى الله تَعَالَى الْبَيْت وَأمره أَن يَأْتِيهِ وَيَطوف بِهِ أسبوعاً وَقضى مَنَاسِكه كَمَا أَمر الله تَعَالَى فَقبل تَوْبَته وَغفر لَهُ فَقَالَ آدم يَا رب ولذريتي من بعدِي فَقَالَ نعم من آمن بِي وبرسلي وَفِي رِوَايَة عبد الحميد بن أبي الديلم عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد أَن آدم اعتزل حَوَّاء حَتَّى فرق بَينهمَا فَكَانَ يَأْتِيهَا نَهَارا فيتحدث عِنْدهَا فَإِذا كَانَ اللَّيْل خشى أَن تغلبه نَفسه فَرجع فَمَكثَ بذلك مَا شَاءَ الله ثمَّ أرسل إِلَيْهِ جِبْرِيل فَقَالَ السَّلَام عَلَيْك يَا آدم الصابر لبليته إِن الله بَعَثَنِي إِلَيْك لأعلمك الْمَنَاسِك الَّتِي يُرِيد الله أَن يَتُوب عَلَيْك بهَا وَأخذ بِيَدِهِ مُنْطَلقًا حَتَّى أَتَى مَكَان الْبَيْت فَنزل غمام من السَّمَاء فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل يَا آدم خطّ برجلك حَيْثُ أظلك الْغَمَام فَإِنَّهُ قبْلَة لَك وَلآخر عقب من ذريتك فَخط آدم هُنَاكَ بِرجلِهِ فَانْطَلق بِهِ إِلَى منى فَأرَاهُ مَسْجِد منى فَخط بِرجلِهِ بعد مَا خطّ مَوضِع الْمَسْجِد الْحَرَام وَبعد مَا خطّ الْبَيْت
ثمَّ انْطلق إِلَى عَرَفَات فَأَقَامَ على الْمُعَرّف ثمَّ أمره عِنْد غرُوب الشَّمْس أَن يَقُول {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} الْأَعْرَاف 23 سبعا ليَكُون سنة فِي وَلَده معترفين بِذُنُوبِهِمْ هُنَاكَ ثمَّ أمره فَأَفَاضَ من عَرَفَات ثمَّ انْتهى إِلَى جمع فَبَاتَ ليلته بهَا وَجمع فِيهَا بَين الصَّلَاتَيْنِ فِي وَقت الْعَتَمَة فِي ذَلِك الْموضع إِلَى ثلث اللَّيْل وَأمره إِذا طلعت الشَّمْس أَن يسْأَل الله التَّوْبَة وَالْمَغْفِرَة سبع مَرَّات ليَكُون سنة فِي وَلَده فَمن لم يدْرك عَرَفَات فَأدْرك جمعا فقد أدْرك حجه وأفاض من جمع إِلَى منى ضحوة فَأمره إِن يقر إِلَى الله قرباناً ليتقبل الله مِنْهُ وَيكون سنة فِي وَلَده فَقرب قرباناً فَتقبل مِنْهُ قربانه فَأرْسل الله نَارا من السَّمَاء فقبضته فَقَالَ جِبْرِيل يَا آدم ارمه بِسبع حَصَيَات فَفعل فَذهب فَقَالَ جِبْرِيل إِنَّك لن ترَاهُ بعد مقامك هَذَا أبدا ثمَّ انْطلق بِهِ إِلَى الْبَيْت فَأمره أَن يطوف سبع مَرَّات فَفعل فَقَالَ جِبْرِيل حلت لَك زَوجتك وَعَن مُعَاوِيَة بن عمار عَن أبي عبد الله قَالَ لما أَفَاضَ آدم من عَرَفَات تَلَقَّتْهُ الْمَلَائِكَة فَقَالَت لَهُ بر حجك يَا آدم أما إِنَّا قد حجَجنَا هَذَا الْبَيْت قبلك بألفي عَام وَفِي حَدِيث وهب بن مُنَبّه الْيَمَانِيّ أَن آدم بَكَى على الْجنَّة مِائَتي سنة فَعَزاهُ الله بخيمة من خيام الْجنَّة فوضعها لَهُ بِمَكَّة فِي مَوضِع الْكَعْبَة وَتلك الْخَيْمَة من ياقوتة حَمْرَاء لَهَا بَابَانِ شَرْقي وَغَرْبِيٌّ من ذهب منظومتان مُعَلّق فِيهَا ثَلَاثَة قناديل من تبر الْجنَّة تلتهب نورا وَأنزل الرُّكْن وَهُوَ ياقوتة بَيْضَاء من ياقوت الْجنَّة وَكَانَ كرسياً لآدَم عليه السلام يجلس عَلَيْهِ وَإِن خيمة آدم لم تزل فِي مَكَانهَا حَتَّى قَبضه الله تَعَالَى ثمَّ رَفعهَا إِلَيْهِ وَبنى بَنو آدم موضعهَا بَيْتا من الْحِجَارَة والطين وَلم يزل معموراً وَأعْتق من الْغَرق وَلم يغرقه المَاء حَتَّى ابتعث الله إِبْرَاهِيم وَذكر وهب أَن ابْن عَبَّاس أخبرهُ إِن جِبْرِيل وقف على النَّبِي
وَعَلِيهِ عِصَابَة خضراء قد علاها الْغُبَار فَقَالَ رَسُول الله
مَا هَذَا الْغُبَار قَالَ إِن الْمَلَائِكَة أمرت بزيارة الْبَيْت فازدحمت فَهَذَا الْغُبَار مِمَّا تثيره الْمَلَائِكَة بأجنحتها
وَعَن عبد الله بن سيابة عَن أبي عبد الله قَالَ طَاف آدم بِالْبَيْتِ مائَة عَام مَا ينظر إِلَى حَوَّاء وَلَقَد بَكَى على الْجنَّة حَتَّى صَار على خديه مثل النهرين العظيمين من الدُّمُوع ثمَّ أَتَاهُ جِبْرِيل فَقَالَ حياك الله وبياك فَلَمَّا أَن قَالَ حياك تبلجح وَجهه فَرحا وَلما قَالَ بياك ضحك وَمعنى بياك أضْحكك قَالَ وَلَقَد قَامَ على بَاب الْكَعْبَة وثيابه جُلُود الْإِبِل وَالْبَقر فَقَالَ اللَّهُمَّ أَقلنِي عثرتي وأعدني إِلَى الدَّار الَّتِي أخرجتني مِنْهَا فَقَالَ الله جلّ ثَنَاؤُهُ وَقد أقلتك عثرتك وسأعيدك إِلَى الدَّار الَّتِي أخرجتك مِنْهَا وَعَن أبي جَعْفَر قَالَ قَالَ رَسُول الله
إِن الله حِين أهبط آدم من الْجنَّة أمره أَن يحرث بِيَدِهِ فيأكل من كدها بعد نعيم الْجنَّة فَجعل يحار ويبكي على الْجنَّة مِائَتي سنة ثمَّ إِنَّه سجد لله سَجْدَة فَلم يرفع رَأسه ثَلَاثَة أَيَّام بلياليها فَقيل جَاءَ جِبْرِيل بالحب على قدر بيض النعامة أَبيض من الزّبد وَأحلى من الْعَسَل وبثورين من ثيران الفردوس وبالحديد فَقَالَ مَالِي ولهذه الْحبَّة الَّتِي أخرجتني من الْجنَّة فَقَالَ جِبْرِيل هَذَا غذاؤك وغذاء أولادك فِي الدُّنْيَا فعقد النير على أرقابهما وحرث وبذر ووقف من التَّعَب فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل اصبر إِلَى أَوَان حَصَاده فاجمعه وادرسه وأذره وَأخرج حَقه يَوْم حَصَاده ثمَّ اطحنه واعجنه واخبزه وَكله بعد عرق الجبين قَالَ كَعْب فَمَا زَالَ الْحبّ زاكياً فِي عصر آدم وشيث إِلَى زمن إِدْرِيس كفر النَّاس فنقص إِلَى مِقْدَار بيض الدَّجَاج وَفِي زمن عِيسَى نقص إِلَى مِقْدَار بيض الْحمام لقَولهم فِيهِ وَفِي أمه مَا قَالُوا فَلَمَّا قتلوا يحيى عَاد إِلَى قدر الحمص ثمَّ صَار إِلَى مَا ترى وَعَن ابْن أبي عُمَيْر عَن هِشَام بن سَالم عَن أبي عبد الله قَالَ لما بَكَى آدم على الْجنَّة وَكَانَ رَأسه فِي بَاب من أَبْوَاب الْجنَّة كَانَ يتَأَذَّى بالشمس فحط من قامته وَقيل إِنَّه لما أهبط إِلَى الأَرْض وَأكل من الطَّعَام وجد فِي بَطْنه ثقلاً فَشكى ذَلِك إِلَى جِبْرِيل فَقَالَ يَا آدم فتنح فنحاه فأحدث وَخرج مِنْهُ الثّقل وَفِي كتاب المبتدا أَن الله أَمر آدم أَن يتَّخذ لحواء منزلا خَارج الْحرم لَا تدخله إِلَى أَوَان الْحَج فَفعل وَكَانَ الْجِنّ أعوانا لَهَا رجَالًا ونساءا بعد أَن نفر آدم مِنْهُم لأَنهم قَبيلَة إِبْلِيس لَعنه الله فَأَمنهُ الله مِنْهُم لأَنهم الْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَن حملت حَوَّاء
بشيث وانتقل نور رَسُول الله
إِلَيْهَا فَأمر الله بِدُخُولِهَا إِلَى الْحرم كَرَامَة لرَسُول الله
وذلل الله لَهُ الْحَيَوَان الْمُحَلّل فِيمَا يحْتَاج إِلَيْهِ من ركُوب وَغَيره وأعانه على ذَلِك الْجِنّ الْمُؤْمِنُونَ فَكَانَ يشرب من أَلْبَانهَا ويكتسي من أصوافها وَيَأْكُل من لحومها هُوَ وحواء وَأنزل الله لَهُ سنداناً ومطرقة وكلبتين وَأمره أَن يَأْخُذ الْحَدِيد من الْمَعَادِن فيصنع آلَة الْحَرْث والحصاد وَمَا يحْتَاج إِلَيْهِ واستعان على ذَلِك بالجن وَكَانَت الأَرْض فِي ذَلِك الزَّمَان أخرجت معادنها من سَائِر مَا فِيهِ مَنْفَعَة وَأرْسل إِلَى الرِّيَاح والسحاب فارتاع آدم وحواء لِأَنَّهُمَا لم يَكُونَا رَأيا سحاباً وَلَا سمعا رعداً وَلَا رَأيا برقاً فخافا غضب الله لِأَنَّهُ حَال بَينهمَا وَبَين السَّمَاء وَالشَّمْس فَأوحى الله إِلَيْهِ إِن هَذِه سَحَابَة رَحْمَتي لتروي الأَرْض لتحرث وتبذر فتنبت أضعافاً مضاعفة فَيكون مِنْهَا غذاؤك أَنْت وولدك فَلَمَّا نزل الْمَطَر شربا واغتسلا وَأنزل الله إِلَيْهِ جَمِيع أَنْوَاع الْحُبُوب المأكولة وَعلمه كَيفَ يحرث وَالْجِنّ تعاونه فأخصبت الأَرْض وأينع الشّجر فِي شهر وَاحِد وأقبلا يجنيان ويأكلان وعلمته الْجِنّ كَيفَ يدرس ويذري فَلَمَّا صفا حبه ذاقه فَلم يجد لَهُ لَذَّة فَقَالَ لحواء يُوشك لهَذَا عمل غير هَذَا فَقَط الْجِنّ حِجَارَة وعلموه كَيفَ يطحن ويعجن ويخبز ويؤكل فَأوقد جِبْرِيل لَهما نَارا فِي تنور من الْحِجَارَة وَأمره أَن يَأْخُذ من ملح الأَرْض وسمسها ويخلط فِي الْعَجِين فَصَارَت السّنة فِي الطَّعَام الْبدَاءَة بالملح فأكلا وشبعا وَقَالا كُنَّا فِي الْجنَّة فِي رَاحَة من هَذَا مَا أردناه حضر بَين أَيْدِينَا ثمَّ وجدا فِي بطونهما ثقلاً ومغصاً شَدِيدا فاضطربا حَتَّى بكيا فأتاهما جِبْرِيل فَقَالَ لَهما امشيا إِلَى سيف الْبَحْر وَكَانَ قَرِيبا وَقَالَ لآدَم اجْلِسْ بَين حجرين وأفض بقبلك ودبرك إِلَى الأَرْض ليذْهب مَا تَجدهُ ثمَّ تطهر بِالْمَاءِ وَتفعل حَوَّاء كَذَلِك وَانْصَرف عَنْهُمَا فَفعل آدم فَتحَرك بَطْنه وجاش وَوجد ألماً شَدِيدا حَتَّى بَكَى وانفتق قبله وَدبره وَخرج الْبَوْل وَالْغَائِط فَوجدَ رَائِحَة كريهة واستراح وَكَذَلِكَ حَوَّاء ثمَّ تطهرا بِالْمَاءِ وانصرفا فشكرا الله كثيرا وعجبا مِمَّا خرج مِنْهُمَا وَلما كَانَ من الْغَد جاعا فتركا الْأكل خيفةً فَأوحى الله إِلَى آدم أَنه أبرك الثَّمر
وأنفعه وَأَكْثَره مَنْفَعَة فَجَمعه وعصره بمعاونة الْجِنّ ثمَّ أكل من الزَّيْت فَوجدَ لَهُ لَذَّة فَقَالَ لحواء إِنَّه لطيب وَلَكِن بعد التَّعَب وَالنّصب الشَّديد وصنعت لَهُ الْجِنّ المغرفة والفأس والمنشار وَالَّذِي لَا بُد مِنْهُ لبني آدم وعملن المرادن لحواء للغزل فَنسجَتْ لآدَم ثوبا من الْقطن وَكسَاء من الصُّوف ثمَّ لَهَا مثل ذَلِك وفرشا وغطاءا ودثاراً من الْبرد فمكثا بذلك مَا شَاءَ الله فَإِذا جَاءَ أَوَان الْحَج حجا وَأنزل الله على آدم الْخَيْمَة الَّتِي تقدم ذكرهَا فِي حَدِيث وهب وَلم يزل هَذَا دأبه مَا شَاءَ الله تَعَالَى وَأما كَيْفيَّة التناسل فَفِي كتاب المبتدا أَن آدم لم يكن يطَأ حَوَّاء مُنْذُ هبطا إِلَى الأَرْض وَلَا خطر بِقَلْبِه وَلَا بقلبها ذكره حَيَاء من الله تَعَالَى فَأوحى الله إِلَيْهِ يَا آدم مَا هَذَا الْجزع وَأَنت صفوتي وَأَبُو الْمُصْطَفى رَسُولي وَمن قبله من الْأَنْبِيَاء فأبشر بنعمتي وكرامتي أَنْت وحواء زَوجتك أمتِي فألم بهَا فبشر حَوَّاء فسجدت شكرا لله تَعَالَى وَسَأَلَ آدم ربه عَن دوِي كَانَ يسمعهُ فِي ظَهره إِذا سبح وَعَن لمعان النُّور الَّذِي فِي وَجهه فَأخْبرهُ الله أَن هَذَا نور ابْنك مُحَمَّد والدوي الَّذِي تسمعه تسبيحه وَإِنِّي سأنقله من صلبك إِلَى حَوَّاء وَأَجْعَل نوره فِي وَجههَا حَتَّى يخرج فِي وَجه ولد لَكمَا مبارك أجعَل فِي ذُريَّته الْكتاب وَالْحكمَة وأعطيه الْبَطْش وَالْقُوَّة وأخصه بالشرف والفضيلة بعْدك فَإِذا انْتقل إِلَى حَوَّاء فَلَا يخفى عَلَيْك فَلَا تلم بهَا عِنْد حملهَا بِهِ حَتَّى تلده طَاهِرا مطهراً وَإِنِّي أحفظه من الشَّيَاطِين والمردة الملاعين فَإِذا انْتقل إِلَيْهَا فَمُرْهَا بِدُخُول الْحرم إجلالاً للنور الَّذِي مَعهَا فَإِذا وَضعته وَكبر فأبشر بِالْخَيرِ وسلني بِحقِّهِ كل مَا تُرِيدُ وزوجه أطهر النسوان وَخذ عَلَيْهِ الْعَهْد بِحِفْظ هَذَا النُّور وَأَن يَأْخُذ على وَلَده كَمَا أخذت أَنا عَلَيْك وَأَنا الْحَافِظ لَهُ بعيني الَّتِي لَا تنام وَكَانَ آدم بعد هَذَا الْعَهْد لَا يقرب حَوَّاء حَتَّى تتطهر وتغتسل هِيَ وجاءها الْحيض سَبْعَة أَيَّام فَإِذا كَانَ وَقت الصَّلَاة سبحت وَكَبرت وَلما انْقَطع اغْتَسَلت ثمَّ بَاشر حَوَّاء فَحملت مِنْهُ وَبَان وَثقل عَلَيْهَا وَتغَير لَوْنهَا وانتفخ بَطنهَا وتحرك الْجَنِين وسفران الْجِنّ حولهَا يقلن لَهَا هَكَذَا الْحَبل وستلدين كَمَا ولدنَا نَحن
فَلَمَّا كَانَ الشَّهْر التَّاسِع أَصَابَهَا من شدته مَا لم يصب أُنْثَى حَتَّى يَبِسَتْ يَديهَا ورجليها وَوَقعت لَا حَرَكَة بهَا وَنسَاء الْجِنّ يبْكين رَحْمَة لَهَا وآدَم يَدْعُو وَيَقُول يَا رب وَعدك وَعدك يَا من لَا يخلف الميعاد فَأذن الله تَعَالَى بخلاصها وَولدت وَلدين ذكرا وَأُنْثَى وسال لَبنهَا وَأمر الله آدم أَن يأمرها بِقطع سررها وسمت الذّكر قابيل وَالْأُنْثَى إقليميا وهما ينشآن فِي الْيَوْم كالشهر وَفِي الشَّهْر كالسنة وآدَم منعزل عَنْهَا فِي مُدَّة الرَّضَاع فَأوحى الله إِلَيْهِ إِنِّي لم أحرم عَلَيْك زَوجك فِي رضاعها فَهِيَ حَلَال لَك وَإِنَّمَا نهيتك عَن ذَلِك عِنْدَمَا ترى نور مُحَمَّد قد انْتقل إِلَيْهَا أما فِي الْحمل بِغَيْرِهِ فَهِيَ حَلَال فَلَا تنعزل عَنْهَا فبشرها بذلك وَأَرَادَ الْإِلْمَام بهَا فَقَالَت يَا صفوة الله مَا تذكر مَا قاسيته فِي مخاضي فَأوحى الله إِلَيْهِ إِن الَّذِي قاسته أول مرّة لَا يُصِيبهَا مثله وَلَا عشر عشره وَإِنَّمَا وَقع ذَلِك أول مرّة لتخفف عَنْهَا الذُّنُوب الَّتِي تقدّمت لَهَا فِي معاونتها إِبْلِيس على الْأكل من الشَّجَرَة فَفَرِحت وَطَابَتْ بذلك نَفسهَا وَعَن عمَارَة بن زيد الْأنْصَارِيّ أَن آدم وَاقع حَوَّاء فَحملت بِأول بطن كَانَ بعد مائَة سنة ثمَّ وَاقعهَا فَحملت أَيْضا بهابيل وتؤمته ليوثا فَلم تلق فيهمَا مَا لقِيت فِي أول بطن فأرضعتهما وفطمتهما ثمَّ حملت بِبَطن ثَالِث فَولدت توأمين وَأَوْلَادهَا يكبرُونَ ويمشون بَين يَديهَا والنور لَا ينْتَقل عَن وَجه آدم وحواء تَلد فِي كل تِسْعَة أشهر وَلدين ذكرا وَأُنْثَى فَسمى الذّكر قاين وَقيل قابيل وسمى الْأُنْثَى ليوذا ثمَّ عاودا الغشيان فاشتملت على ذكر وَأُنْثَى فَسمى الذّكر هابيل وَالْأُنْثَى إقليميا فزوج أُخْت قاين لهابيل وَأُخْت هابيل لقاين إِلَى أَن كثر النَّسْل وَولدت حَوَّاء لآدَم خَمْسمِائَة بطن بِأَلف ذكر وَأُنْثَى وبإسنادنا الْمُتَقَدّم عَن ابْن بابويه عَن أَبِيه عَن مُحَمَّد بن يحيى الْعَطَّار عَن الْحُسَيْن بن الْحسن بن أبان عَن مُحَمَّد بن أورمة عَن النَّوْفَلِي عَن عَليّ بن دَاوُد اليعقوبي عَن مقَاتل بن مقَاتل عَمَّن سمع زُرَارَة يَقُول سُئِلَ أَبُو عبد الله عَن بَدْء النَّسْل من آدم كَيفَ كَانَ فَإِن نَاسا عندنَا يَقُولُونَ إِن الله تَعَالَى أوحى إِلَى آدم أَن يُزَوّج بَنَاته من بنيه وَإِن هَذَا الْخلق كُله أَصله من الْأُخوة وَالْأَخَوَات فَمنع أَبُو عبد الله من ذَلِك وَقَالَ نبئت أَن بعض الْبَهَائِم نكرت لَهُ أُخْته فَلَمَّا نزا عَلَيْهَا
وَنزل ثمَّ علم أَنَّهَا أُخْته عزم على غرموله بِأَسْنَانِهِ حَتَّى قطعه فَخر مَيتا وَفِي حَدِيث آخر تنكرت لَهُ أمه فَفعل هَذَا بِعَيْنِه فَكيف الْإِنْسَان فِي فَضله وَعلمه غير إِن جيلا من هَذِه الْأمة الَّذين يرَوْنَ أَنهم رَغِبُوا عَن علم أهل بيوتات أَنْبِيَائهمْ فَأَخَذُوهُ من حَيْثُ لم يؤمروا بِأَخْذِهِ فصاروا إِلَى مَا ترَوْنَ من الضلال وَحقا أَقُول مَا أَرَادَ من يَقُول هَذَا إِلَّا تَقْوِيَة لحجج الْمَجُوس ثمَّ أنشأ يحدثنا كَيفَ كَانَ بَدْء النَّسْل فَقَالَ إِن آدم صلوَات الله عَلَيْهِ ولد لَهُ سَبْعُونَ بَطنا فَلَمَّا قتل قابيل هابيل جزع جزعاً شَدِيدا قطعه عَن إتْيَان النِّسَاء فَبَقيَ لَا يَسْتَطِيع أَن يغشى حَوَّاء خَمْسمِائَة سنة ثمَّ وهب الله لَهُ شَيْئا وَهُوَ هبة الله وَهُوَ أول وَصِيّ أوصى إِلَيْهِ من بني آدم فِي الأَرْض ثمَّ وَرَاءه بعده يافث فَلَمَّا أدْركَا وَأَرَادَ الله إِن يبلغ بالنيل مَا ترَوْنَ أنزل بعد الْعَصْر فِي يَوْم خَمِيس حوراوين من الْجنَّة اسْمهَا نزلة ومنزلة فَأمره الله أَن يُزَوّجهَا شيثاً وَأَن يُزَوّج منزلَة من يافث فزوجهما مِنْهُمَا فَولدت لشيث غُلَاما وليافث جَارِيَة فَأمر الله آدم حِين أدْركَا أَن يُزَوّج بنت يافث من ابْن شِيث فَفعل فولد للصفوة من النَّبِيين وَالْمُرْسلِينَ من نسلهما ومعاذ الله أَن يكون ذَلِك على مَا قَالُوهُ من الْإِخْوَة وَالْأَخَوَات ومناكحتهما والْحَدِيث طَوِيل وَفِي علل الشَّرَائِع وَالْأَحْكَام عَن الباقر مُحَمَّد بن عَليّ أَن أحد ابْني آدم تزوج الْحَوْرَاء وَتزَوج الآخر من الْجِنّ فولدتا جَمِيعًا فَمَا كَانَ فِي النَّاس من جمال وَحسن خلق فَمن حوراء وَمَا كَانَ من سوء خلق فَمن بنت الجان وَأنكر تَزْوِيج بنيه من بَنَاته وروى الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سعيد الحجري فِي كتاب مبتدا الْخلق إِن قابيل أكبر أَوْلَاد آدم وَأَنه لما مضى من عمره وتؤمته عشرُون سنة ولهابيل وَأُخْته تسع عشرَة سنة فوض أَمر الْحَرْث إِلَى قابيل وَأمر الْغنم والرعي إِلَى هابيل وَكَانَ قابيل مُولَعا باللهو واللعب وهابيل يكثر الشُّكْر وَالتَّسْبِيح ويأتيى إِلَى إخْوَته وَأَبِيهِ بالسمن وَاللَّبن والجبن وَكَانَت أمه وَإِخْوَته يحبونه ويقدمونه على قابيل وَكَانَ يحسده لذَلِك وَأَوْلَاد حَوَّاء بَعضهم مَعَ قابيل فِي الْحَرْث وَبَعْضهمْ مَعَ هابيل فِي
الرَّعْي وَأَن الله أوحى إِلَى آدم أَن زوج ذكران بَيْنك بإناثهم وَلَا يحل لأحد من بني بنيك أَن ينْكح أُخْته وَخَالف بَين ذكر كل بطن وأنثاه فَأول مَا أَرَادَ أَن يمتثل أَمر الله فِي ولديه هابيل وقابيل لِأَنَّهُمَا أكبر أَوْلَاده فَأَرَادَ زواج قابيل لتوءمة هابيل ليوذا ولهابيل توءمة قابيل إقليميا فَأبى قابيل حسداً لِأَخِيهِ وَقَالَ لِأَبِيهِ أَنا أولى بأختي هِيَ أحب إِلَيّ من أُخْت هابيل وَامْتنع أَن يسلم أُخْته إِلَى هابيل فَقَالَ آدم أَخَاف عَلَيْك إِن عصيت رَبك أَن تقع فِيمَا وقعنا فِيهِ فأقسم أَلا يتْرك لَهُ أُخْته إِلَّا ببرهان من الله فَقَالَ آدم اذْهَبَا فقربا قرباناً إِلَى الله وليقف كل وَاحِد وَبَين يَدَيْهِ قربانه وَليكن أفضل مَا عنْدكُمْ وأطهره وأطيبه فَإِن الله لَا يقبل إِلَّا الطّيب فأيكما قبل قربانه فَهُوَ أَحَق بإقليميا فَقَالَ هابيل لِأَبِيهِ أَنا رَاض بِكُل مَا حكمت قربت أَو لَا تقبل مني أَو لَا وَقَالَ قابيل نقرب فَخَرَجَا إِلَى جبل من جبال مَكَّة وَقيل إِلَى منى ثمَّ قرب كل وَاحِد مِنْهُمَا قرباه فَكَانَ قرْبَان هابيل من أبكار غنمه وأسمنها بسماحة نفس وقربان قابيل قمحاً لم يبلغ وَأَكْثَره زيوان وَفِي كتاب الْوَصِيَّة عمد إِلَى شَرّ مَا كَانَ لَهُ من الطَّعَام والعصير فقربه وَعَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ قرب قابيل من زرعه مَا لم ينق وَقَامَ هابيل يَدْعُو الله وقابيل يُغني ويلهو وَإِذا رأى هابيل يُصَلِّي يضْحك وَيَقُول أَظن صَلَاتك لتخدع آدم ليزوجك بأختي لَئِن تقبل قربانك لأَقْتُلَنك فَتَركه هابيل وَانْصَرف ليعلم أَبَاهُ فَلحقه قابيل قبل عقبَة حراء دون جبل ثبير وَقيل فِي مَوضِع آخر غَيره وَفِي مروج الذَّهَب يُقَال إِنَّه اغتاله فِي بَريَّة وَيُقَال إِن ذَلِك كَانَ بِأَرْض الشَّام من بِلَاد دمشق فَوَثَبَ إِلَيْهِ يعضه بفمه طَالبا مَوته فَلَا يرَاهُ يَمُوت ويضربه بِيَدِهِ فتمثل لَهُ إِبْلِيس على صُورَة بعض إخْوَته وَقد اصطاد ظَبْيًا ثمَّ أَخذ حبلاً فقمطه بِهِ وألقاه على جنبه وَأخذ حجرين فَضرب أَحدهمَا بِالْآخرِ فَانْكَسَرت من أَحدهمَا شظية لَهَا حرف حد فَأَخذهَا فشحطها على حلق الظبي فذبحه ثمَّ احتلمه وَمضى لسبيله وقابيل يرَاهُ فَأخذ حجرا فشدخ بِهِ رَأسه وَقيل كَسره وذبحه بِبَعْضِه فَمَاتَ فَلَمَّا قَتله وسال دَمه وَرَآهُ يضطرب لخُرُوج روحه عقبته الندامة وتبرأ مِنْهُ
الشَّيْطَان ونخر إِبْلِيس نخرة أَجَابَتْهُ مردته من كل أَوب وَاتخذ ذَلِك عيداً وَهُوَ الْيَوْم الَّذِي اتخذته الْمَجُوس عيداً لَهُم وَلما قَتله فتحت الأَرْض فاها لتبتلع دَمه فزجرت وَقيل لَهَا أشربت دَمًا سفك بِغَيْر حق ظلما لَئِن عدت لمثل ذَلِك لألعننك سبع لعنات فأقسمت أَلا تبلع دَمًا وَأَن قابيل ارتعشت يَدَاهُ حِين قتل أَخَاهُ وَبَقِي حائراً مبهوتاً ينظر إِلَيْهِ مَيتا ملقى على وَجهه الأَرْض وَعَن وهب لما أَرَادَ قابيل أَن يقتل أَخَاهُ هابيل لم يدر كَيفَ يصنع فَعمد إِبْلِيس إِلَى طَائِر فرضخ رَأسه بِحجر فَقتله فتعلم قابيل فساعة قَتله أرعش جسده وَلم يعلم مَا يصنع فَأقبل غراب يهوي على الْحجر الَّذِي دمغ أَخَاهُ فَجعل يمسح الدَّم بمنقاره وَأَقْبل غراب آخر حَتَّى وَقع بَين يَدَيْهِ فَوَثَبَ الأول على الثَّانِي فَقتله ثمَّ هز بمنقاره فواراه فتعلم قابيل وَعَن الصفار عَن مُحَمَّد بن أبي الْحُسَيْن بن أبي الْخطاب عَن مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل بن جَابر وَعبد الْكَرِيم بن عَمْرو بن عبد الحميد بن أبي الديلم عَن أبي عبد الله أَن الله بعث إِلَيْهِ جِبْرِيل فأجنه فَقَالَ قابيل {يَا ويلتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ} الْمَائِدَة 31 يَعْنِي بِهِ مثل هَذَا الْغُرَاب الَّذِي لَا أعرفهُ جَاءَ وَدفن آخر وَلم أهتد لذَلِك وَيُقَال إِنَّه حمله على عَاتِقه إِلَى أَبِيه وَأمه فعلما أَنه هُوَ الَّذِي قَتله فَقَالَ لَهُ آدم يَا وَيلك قتلت أَخَاك حَيْثُ تقبل قربانه عَلَيْك لعنة الله ولعنة الْمَلَائِكَة وَأَقْبَلت حَوَّاء تنوح وتصرخ فَلَمَّا رأى قابيل ذَلِك توارى عَنْهُمَا ينوح على نَفسه وَسُوء فعله فَمن نياحته ويلي وَمن لَهُ مثل ويلي اسْتَوْجَبت لقَتله سخط رَبِّي ويلي قتلت هابيل شقيقي وَابْن أبي وَأمي وَمن كَانَ مستقره فِي صلب أبي فيا شقوتي وويلي وَمن لَهُ مثل ويلي اسْتَوْجَبت لقَتله سخط رَبِّي فَيُقَال إِنَّه حمله على عَاتِقه وَهُوَ يبكي وينوح من وَاد إِلَى وَاد وَمن جبل إِلَى جبل حَتَّى أنتن وجاف وسال عَلَيْهِ صديده فَأَلْقَاهُ إِلَى الأَرْض ووقف ينظر إِلَيْهِ نَادِما فَبعث الله غراباً كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَيُقَال إِن إِبْلِيس كَانَ رمى أنثاه بِحجر فَقَتلهَا فَلَمَّا رَآهَا الْغُرَاب تَعب وَصَاح
ونتف ريشه حزنا ثمَّ بحث الأَرْض برجليه ومنقاره حَتَّى دَفنهَا وَوضع الْحجر الَّذِي شدخ بِهِ إِبْلِيس رَأسهَا على الْموضع الَّذِي دَفنهَا فِيهِ ثمَّ صرخَ صرخات وناح نوحات وصفق بجناحيه وطار فَقَالَ قابيل {يَوَيْلَتَي أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَاب فأواري سَوْءَةَ أَخِي} الْمَائِدَة 31 كَمَا وارى أنثاه فحفر لَهُ حَتَّى واراه فِي الحفرة وطمر عَلَيْهِ التُّرَاب فَهُوَ أول ميت دفن فِي الأَرْض ثمَّ تَركه وَرجع وَلم يقدر يَقع فِي عين أَبِيه وَأبْعد عَن آدم وَعَن مَكَّة وَفِي رِوَايَة أَنه لما رَجَعَ إِلَى آدم فَقَالَ لَهُ يَا قابيل أَيْن هابيل قَالَ مَا أَدْرِي وَمَا بعثتني رَاعيا لَهُ فَانْطَلق فَوجدَ هابيل مقتولاً فَقَالَ لعنت من أَرض كَمَا قبلت دم هابيل فَبكى آدم على هابيل أَرْبَعِينَ لَيْلَة ثمَّ إِن آدم سَأَلَ ربه أَن يهب لَهُ ولدا فولد لَهُ غُلَام فَسَماهُ هبة الله لِأَن الله عز وجل وهبه لَهُ فَأَحبهُ آدم حبا شَدِيدا والْحَدِيث طَوِيل وروى أَنه لم يوار سوءة أَخِيه وَانْطَلق هَارِبا حَتَّى أَتَى وَاديا من أَوديَة الْيمن فِي شَرْقي عدن فكمن فِيهِ زَمَانا وَبلغ آدم مَا صنع قابيل بهابيل فَوَجَدَهُ قَتِيلا قلت هَذَا يُخَالف مَا قبله الْمَنْقُول عَن كتاب العرائس أَن قابيل وضع هابيل فِي جراب وَحمله على عَاتِقه حَتَّى أروح وأنتن وَفِيه وفى إِبْلِيس {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَاّنَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} فصلت 29 لِأَن قابيل أول من سنّ الْقَتْل فَلَا يقتل مقتول إِلَى يَوْم الْقِيَامَة إِلَّا كَانَ شَرِيكه فِيهِ وَسُئِلَ جَعْفَر الصَّادِق بن مُحَمَّد الباقر عَن هَذِه الْآيَة فَقَالَ هما هما وَإِن آدم حزن على هابيل حزنا شَدِيدا وبكاه ورثاه بِهَذِهِ الأبيات وَهِي أول شعر قيل فِي الأَرْض
(تَغَيَّرت الْبِلَاد وَمَنْ عَلَيْهَا
…
فوَجهُ الأرضِ مُغبَرُّ قبيحُ)
(تغيَّر كلُّ ذِي طعمٍ ولونٍ
…
وقلَّ بشاشَةَ الوجهُ الصَّبيحُ)
(وبُدِّل نبتها أثلاً وخمطاً
…
بجنَّاتٍ من الفردوس فِيحُ)
(وجاورنا عَدو لَيْسَ يُغنى
…
لعينٌ لَا يموتُ فنستريحُ)
(فيا هابيلٌ إِن تُقتَلْ فإنِّى
…
عليكَ اليومَ مكتئبٌ قريحُ)
(بكَتْ عَيْني وحقَّ لَهَا بُكاها
…
ودمعُ العينِ مُنسكبٌ يسيحُ)
(فأورثَ فِي الضَّمِير لهيبَ نارٍ
…
مُقيمٌ فِيهِ هابيلُ الذّبيحُ)
(رماهُ أَخُوهُ ذُو الفَجَراتِ ظُلماً
…
وبغياً مِنْهُ قابيلُ الشحيحُ)
(فيَلعنهُ الإلهُ بِمَا جناهُ
…
وصعَّر خدّه وَله القُبوحُ)
فَيُقَال إِن إِبْلِيس لَعنه الله أَجَابَهُ بقوله // (من الوافر) //
(تَنحَّ عَن الْبِلَاد وساكنيها
…
فَفِي الفردوسِ ضاقَ بك الفسيحُ)
(وكنتَ بهَا وزوجكَ فِي رَخاَءٍ
…
من الدّنيا وعيشُكَ مستريحُ)
(فَمَا انفكَّت مُكايدتي ومَكري
…
إِلَى أَن فاتَكَ الثمنُ الربيحُ)
(فلولا نعمةُ الجبَّارِ أَضحَى
…
بكفكَ من جنانِ الْخلد ريحُ)
(أَهاجَكَ آدم الدهرُ الكدوحُ
…
فدمعكَ هاطلٌ هَتِنٌ يسيحُ)
(وجاءتكَ المصائبُ عادياتٍ
…
وسوفَ عَلَيْك ترجعُ أَو تروحُ)
(فَلَا تبْكي فإنكَ غيرُ خالٍ
…
من الأحزان مَا صحبتكَ روحُ)
(وعندك بُغيتي ولديكَ ثأْري
…
وولدكَ بعد موتكَ لَا أُريحُ)
قَالَ عمَارَة بن زيد لما هرب قابيل أرسل الله إِلَيْهِ ملكا فَقَالَ لَهُ أَيْن أَخُوك هابيل فَقَالَ مَا كنت عَلَيْهِ رقيباً فَقَالَ لَهُ الْملك إِن الله يَقُول لَك إِن صَوت أَخِيك لينادي من الأَرْض أَنَّك قتلته فَمن الْآن أَنْت مَلْعُون وَإِذا عملت بِيَدِك حرثاً فَإِن الأَرْض لَا تعطيك شَيْئا أبدا وَلَا تزَال فَزعًا تائهاً فِي الأَرْض أبدا وَإنَّهُ سيقتل خِيَار ولدك وَيكون موتك أسفا على من قتل من ذريتك ثمَّ انْصَرف الْملك عَنهُ فَقَالَ لقد عظمت مصيبتي من أَيْن يغفرها لي رَبِّي ثمَّ إِنَّه سلط الله عَلَيْهِ الْفَزع من كل شَيْء لَو مر بِهِ الذُّبَاب توهم أَنه يقْتله وَكَانَ طول عمره حَزينًا خَائفًا وإبليس مَعَه فِي شَرْقي عدن وَبَقِي آدم مائَة سنة حَزينًا لَا يضْحك فَأوحى الله إِلَيْهِ يَا آدم إِن الله يعزيك ويأمرك بِالصبرِ ليوجب لَك الْأجر فَلَا تكبرن عَلَيْك مُصِيبَة قابيل فقد وَجَبت عَلَيْهِ اللَّعْنَة وهابيل أجعله قَائِد الشُّهَدَاء يَوْم الْقِيَامَة إِلَى الْجنَّة وقابيل قرين إِبْلِيس فِي
النَّار فتعز أَنْت وحواء وقولا إِنَّا لله وَأَنا إِلَيْهِ رَاجِعُون وَأَنا واهب لَك ولدا صديقا نَبيا فِي ذُريَّته الْملك والنبوة إِلَى يَوْم الْقِيَامَة وعلامته أَن يُولد وَحده فَإِذا ولد فسمه شيثا هبة الله فَضَحِك آدم عليه السلام وَخرج من الْحرم فبشر حَوَّاء بذلك ثمَّ إِن قابيل استحوذ عَلَيْهِ الشَّيْطَان وَحمل أُخْته إقليميا إِلَى صحارى عدن فنكحها خلافًا لِأَبِيهِ وربه فَأتى مِنْهَا بأولاد انتشروا فِي الأَرْض ونكح بَعضهم بَعْضًا من أم وَأُخْت وعمة وَخَالَة وأطاعوا إِبْلِيس فَكَانُوا حزبه وآدَم ينْهَى بنيه أَن يقربُوا الأَرْض الَّتِي هم فِيهَا فَكَانُوا لَا يقربونهم وَلَا يجاورونهم وَأما وَفَاة آدم عليه السلام فقد روى الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سعيد رحمه الله أَن الله سُبْحَانَهُ أَمر آدم أَن يتَقَدَّم إِلَى شِيث بِالْوَصِيَّةِ وَأخذ الْعَهْد عَلَيْهِ والميثاق بِأَنَّهُ خَلِيفَته على بنيه وَألا يضع النُّور الَّذِي فِي جَبهته إِلَّا فِي الطاهرات من النِّسَاء فَسجدَ آدم شكرا لله تَعَالَى وَأخذ على وَلَده الْعَهْد والميثاق بذلك وَأمره أَنه إِذا انْتقل النُّور إِلَى وَلَده أَن يَأْخُذ عَلَيْهِ الْعَهْد كَذَلِك ثمَّ إِنَّه جمع أَوْلَاده وأشهدهم على شِيث وأعلمهم أَنه وَصِيّه وَأمرهمْ بِطَاعَتِهِ وَعدم مَعْصِيَته وحذرهم بني قابيل اللعين فَإِنَّهُم مَعَ إِبْلِيس وَجُنُوده عَدو لي وعدو لكم ثمَّ قَالَ وأمكم حَوَّاء أشفقوا عَلَيْهَا وتحننوا على إخوتكم والطفوا بأولادكم وَلَا تؤثروا شَيْئا على طَاعَة ربكُم وحجوا واقضوا مَنَاسِككُم كَمَا رَأَيْتُمُونِي أَقْْضِي وقربوا القربان لِتَعْلَمُوا رضَا الله عَنْكُم فَلَمَّا غمره الوجع وَالْمَلَائِكَة تعوده وتسأل عَنهُ وَقد أحدق بِهِ بنوه وحواء عِنْد رَأسه لَا ترقأ لَهَا عِبْرَة لفراقه فَلَمَّا مَاتَ علم جِبْرِيل ابْنه شِيث غسله وتكفينه وَالصَّلَاة عَلَيْهِ وَأما مدفنه فَفِيهِ خلاف بَين الْأُمَم فَقَالَ قوم من أهل الْكتاب دفن فِي مَشَارِق الفردوس وَقل عَليّ بن أبي طَالب دفن بِمَكَّة وَعَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما دفن فِي غَار بجبل أبي قبيس يُقَال لَهُ غَار الْكَنْز وَقيل بمنى عِنْد مَنَارَة مَسْجِد الْخيف قَالَه الذَّهَبِيّ فِي تَارِيخ دوَل الْإِسْلَام وعمره ألف سنة
وَفِي مُخْتَصر ربيع الْأَبْرَار لِابْنِ سلكويه أَن آدم لما احْتضرَ قَالَ لِابْنِهِ أوصيك أَن تطلي جَسَدِي بدهن وَمر ولبان مِمَّا أهبط عَلَيْهِ من الْجنَّة فَإِنَّهُ إِذْ طلي بِهِ الْمَيِّت لم ينْفَصل شَيْء من عِظَامه حَتَّى ببعثه الله تَعَالَى وأوصيك أَن يكون مَعَك دهن وَمر حَيْثُمَا ذهبت فَإِن الشَّيْطَان لَا يقربك وَأَن تجْعَل جَسَدِي فِي تَابُوت وتجعلني فِي مفازة فِي وسط الأَرْض وَمَات يَوْم الْجُمُعَة وَصلى عَلَيْهِ فِي السَّاعَة الَّتِي أخرج فِيهَا من الْجنَّة لست لَيَال خلون من نيسان وعمره تِسْعمائَة وَسِتُّونَ سنة أَو ألف وَقيل إِنَّه مَاتَ عَن أَرْبَعِينَ ألفا من وَلَده وَولد وَلَده وَفِي مروج الذَّهَب للمسعودي توفّي عَن ألفي ألف من وَلَده وَولد وَلَده وناحوا عَلَيْهِ مائَة وَأَرْبَعين يَوْمًا وَفِي كتاب الْوَصِيَّة ثمَّ حمل نوح جسده زمن الطوفان فِي السَّفِينَة وَجعله فاصلاً حاجزاً بَين الذُّكُور وَالْإِنَاث من كل نوع كَمَا سَيَأْتِي عِنْد ذكر نوح عليه الصلاة والسلام وَأما حَوَّاء فَعَن وهب أَنَّهَا لم تعرف بِمَوْت آدم حَتَّى سَمِعت بكاء الوحوش وَالطير فَقَامَتْ فزعة وصاحت صَيْحَة شَدِيدَة فَأقبل إِلَيْهَا جِبْرِيل وصبرها فَلم تصبر دون أَن لطمت وَجههَا ودقت صدرها فورث ذَلِك بناتها إِلَى يَوْم الْقِيَامَة ثمَّ إِنَّهَا لَزِمت قبر آدم أَرْبَعِينَ يَوْمًا لَا تطعم الزَّاد وَلَا الرقاد فَأَخْبرهَا جِبْرِيل باقتراب أجلهَا فشهقت شهقة عَظِيمَة ومرضت مَرضا شَدِيدا وَهَبَطَ ملك الْمَوْت فَسَقَاهَا شراب الْمَوْت ففارقت الدُّنْيَا وَفِي كتاب المبتدا أَنه لما مَاتَ آدم جزعت عَلَيْهِ حَوَّاء جزعاً شَدِيدا وَلم تنم لَيْلًا وَلَا نَهَارا وَلم تَأْكُل إِلَّا مَا يسد رمقها وَلم تمس طيبا وَلَا توسدت بوسادة وَكَانَت تخرج فِي كل ثَلَاث سَاعَات إِلَى قبر آدم فِي بناتها تبكيه فَأرْسل الله إِلَيْهَا جِبْرِيل سلاها وأمرها بِالصبرِ فسجدت شكرا لله تَعَالَى وَلم تلبث بعد ذَلِك إِلَّا قَلِيلا ذكر أَنَّهَا عاشت بعده سِتَّة أشهر وَأَنَّهَا لما حضرتها الْوَفَاة شدد الله عَلَيْهَا النزاع ليكفر بذلك خطيئتها وَيرْفَع درجتها ودعت أكبر بناتها وَهِي فهوائيل
وَكَانَت تشبهها فِي جمَالهَا وكمالها وَقَالَت لَهَا يَا بنية إِنِّي احسن بِالْمَوْتِ الَّذِي أَخذ أَبَاك وَقد اضْطربَ جسمي وطار نومي وخفق فُؤَادِي خمري رَأْسِي وشدي عَليّ ثِيَابِي وطهري بَيْتِي ومصلاي ومحرابي وفراشي وَمَا حَولي فيوشك أَن يحضرني رسل رَبِّي وَرُبمَا غلب من هول مَا ينزل بِي فيتغير عَقْلِي وينكشف بعض بدني فَلَا تغفلي عني وَلَا تفتري عَن ذكر الله عِنْد رَأْسِي فَإِذا أَنا مت فغمضي عَيْني وشدي لحيي إِلَى رَأْسِي وسجيني بثوبي وخمري رَأْسِي ووجهي واستقبلي بِهِ قبْلَة رَبِّي ومددي أعضائي أَي بنية أحس روحي من كل عرق تجذب وَمن كل عظم تنتزع وَنَفْسِي كَأَنَّمَا تخرج من سم الْخياط وَكَأَنِّي بَين السَّمَاء وَالْأَرْض وَإِذا خرجت روحي فتولي أَنْت غسْلي بِالْمَاءِ والسدر وترا وكفنيني فِي أطهر أثوابي وذري عَليّ شَيْئا من الطّيب الَّذِي لَا لون لَهُ وَعَلَيْك بِالدُّعَاءِ عِنْد موتِي وَعَلَيْك بِحِفْظ بعلك وَرَحْمَة ولدك والتحنن على إخْوَتك وَقلة الْمُخَالفَة لَهُم وَالله خليفتي عَلَيْك ثمَّ تَوَجَّهت إِلَى الْقبْلَة وبكت وَقَالَت الهي أمتك وَأم نبيك مُحَمَّد
إِلَّا مَا هونت على أمتك سَكَرَات الْمَوْت يَا رب وَالْحيَاء مِنْك يَمْنعنِي أَن أَسأَلك مَا سَأَلَك آدم عِنْد مَوته من ريحَان الْجنَّة وثمارها فَبَكَتْ الْمَلَائِكَة لَهَا وَسَأَلت الله أَن يهون عَلَيْهَا الْمَوْت فَقَالَ أَنا أرْحم بأمتي مِنْكُم وَأَنا أرْحم الرَّاحِمِينَ وَأوحى الله إِلَى رضوَان أَن يخرج من حور الْجنَّة عشرَة بريحان وثمار ويبشرنها بِالرِّضَا وَالْمَغْفِرَة وَالْعود إِلَى الْجنان فخرجن بأيديهن أطباق الذَّهَب والياقوت مخمرة بمناديل من الإستبرق من ثمار الْجنَّة ورياحينها ويبشرنها بِالْجنَّةِ فَوَضَعته على عينهَا وشمته وبكت وَقَالَت أَلَيْسَ رَبِّي رَاضِيا عني فَقُلْنَ بلَى يَا حَوَّاء وَأَنت صائرة إِلَى الْجنَّة حَيْثُ صَار آدم فَخفف عَن حَوَّاء بِهَذِهِ الْبشَارَة وَهَبَطَ ملك الْمَوْت وَأمره الله أَن يسهل عَلَيْهِ فَمَاتَتْ حَوَّاء صلوَات الله عَلَيْهَا فبكين بناتها وفهوائيل فعلت مَا أَمَرتهَا وَأنزل الله كفناً وخيوطاً من الْجنَّة فكفنتها فِيهِ فهوائيل وأعلمت إخوتها فصلى عَلَيْهَا ابْنهَا شِيث كَمَا صلى على أَبِيه آدم ثمَّ دَفنهَا بِالْقربِ مِنْهُ وَكَانَ مَوتهَا يَوْم الْجُمُعَة وبكت عَلَيْهِمَا السَّمَاء وَالْأَرْض وَجَاء إِبْلِيس لَعنه الله إِلَى قبريهما وَبكى عَلَيْهِمَا مَلِيًّا وانتحب ثمَّ قَالَ يرثيهما بِهَذِهِ الأبيات // (من
مجزوء الْكَامِل) //
(قد مُتما وسبقتُماني
…
وحلَلتُما دارَ الأمانِ)
(وبقيتُ بعدكما على
…
سَنَنِ المذلَّةِ والهَوانِ)
(متفرداً بِغوايةِ الثقلَيْن
…
من إنسٍ وَجَانِ)
(ومطيَّتي موقوفةٌ
…
بينَ التلهُّبِ والأمَان)
(إِذا مَا بَقيتُ ومتُّما
…
فإليكما أَمداً رِهاني)
وَفِي إِبْلِيس وآدَم والحية والطاوس وحواء يَقُول عدي بن زيد قصيدة يذكر فِيهَا بَدْء الْخلق إِلَى أَن وصل إِلَى قصَّة آدم وحواء عليهما السلام فَقَالَ // (من الْبَسِيط) //
(سعى الرجيمُ إِلَى حوَّا بوَسوَسةٍ
…
غَوتْ بهَا وغوى مَعهَا أَبُو الْبشر)
(خلقان من مارجٍ إنشاءُ خلقته
…
وآخرٌ من تُرَاب الأَرْض والمَدر)
(أنشاهما ليطيعاهُ فخالفهُ
…
إِبْلِيس عَن أمره للحَين والقدَرِ)
(فأبلَسَِ الله إبليساً وأسكنهُ
…
دَارا من الخُلد بَين الرَّوْض والشجرِ)
(فاغتاظَ إِبْلِيس من بَغي ومِن حسدٍ
…
فاحتال للحَية الرّقطاء وَالطير)
(فأدخلاهُ بأيمانٍ مؤكدةٍ
…
أعطاهما بيمينٍ كاذبٍ غدر)
(هناكَ سرَّ إِلَى حوَّا بوسوَسةٍ
…
أردتُ بغرّتها مَعهَا أَخا القَدَر)
(فأُهبطوا بمعاصيهم وكلّهم
…
فَانِي المحلِّ فقيدُ الْعين والأَثرِ)
(فأَهبط الله إبليساً وأوعده
…
نَارا تلهبُ بالتّسعير والشَرَرِ)
(وأَنزلَ اللهُ للطاوسِ رحمتَهُ
…
من صَوته وَرمى رجلَيْهِ بالنُّكرِ)
(وأَعقَبَ الحيةَ الحسناءَ حِين عَصَتْ
…
مسح القوائم بعد السّعي كالبقرِ)
(وأَعقبَ الله حَوَّا بالّذي فعلت
…
بالطَّمث والطّلق وَالْأَحْزَان والفِكرِ)
وَلما مَاتَ آدم وحواء طمع إِبْلِيس فِي بَينهمَا وَجَاء إِلَى شِيث فَسلم عَلَيْهِ وَكَلمه كلَاما اظهر فِيهِ النَّدَم على مَا فعله بِأَبِيهِ وَأمه مَا فعل وَأَن يكون عونه على أَوْلَاد قابيل فلعنه شِيث وطرده وتهدده بِأَنَّهُ يَدْعُو عَلَيْهِ وَإِن كَانَ منْظرًا فَخرج إِبْلِيس من بَين يَدَيْهِ خَائفًا أَن يَدْعُو عَلَيْهِ فيجتمع عَلَيْهِ خزي الدُّنْيَا وَعَذَاب الْآخِرَة فولى آيساً مِنْهُ وَقَامَ شِيث فِي بنيه وَإِخْوَته خَطِيبًا وأعلمهم مَا أَرَادَ إِبْلِيس وحذرهم مِنْهُ وَمن أَوْلَاد قابيل قَالَ فَإِنَّهُم أعداؤكم فِي الدّين وحزب إِبْلِيس فَجعل بَعضهم يحذر
بَعْضًا من مُخَالطَة بني قابيل والتحرز مِمَّا نَهَاهُم الله عَنهُ وَلما أيس إِبْلِيس من شِيث رَجَعَ إِلَى قابيل وزين لَهُ أَلا يمْنَع ذكرا من إخْوَته وَبنَاته ليكْثر النَّسْل وَأَن يبيحهم الشّركَة الْوَاحِد والاثنين وَالثَّلَاثَة فِي الْوَاحِدَة وَلَا يمنعهُم مُرَادهم فَقبل قابيل قَوْله واشترك الْجَمَاعَة فِي الْوَاحِدَة وَمَا من ولد إِلَّا وإبليس لَهُ فِيهِ شركَة وَكَانَ لإبليس أَوْلَاد فاختلطوا مَعَهم وتربوا جَمِيعًا تذنيب عَن مقَاتل قَالَ قلت لأبي عبد الله كم كَانَ طول آدم عليه الصلاة والسلام حِين أهبط إِلَى الأَرْض وحواء كم كَانَ طولهَا فَقَالَ وجدنَا فِي كتاب عَليّ رضي الله عنه أَن الله تَعَالَى لما أهبط آدم وَزَوجته من الْجنَّة كَانَت رِجْلَاهُ على ثنية الصَّفَا وَرَأسه دون أفق السَّمَاء وَأَنه شكى إِلَى الله مَا يُصِيبهُ من حر الشَّمْس فصير طوله سبعين ذِرَاعا بذراعه وَجعل طول حَوَّاء خمْسا وَثَلَاثِينَ ذِرَاعا وَفِي العرائس كَانَ يمشي بَين الْجبَال والمفاوز فَكل مَوضِع أصَاب قدمه صَار قَرْيَة وكل مَوضِع اسْتَقر فِيهِ صَار مَدِينَة وكل مَوضِع صلى فِيهِ صَار مَسْجِدا وَلما مضى من الدُّنْيَا خَمْسمِائَة عَام كثر وَلَده وَولد وَلَده فَأرْسل الله إِلَيْهِ يحكم فيهم بِمَا انْزِلْ الله عَلَيْهِ وَهُوَ خَمْسُونَ صَلَاة فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة وَالزَّكَاة وَالصَّوْم والاغتسال من الْجَنَابَة فَحكم بذلك حَتَّى توفاه الله تَعَالَى وَلما أهبط نزل مَعَه خَمْسَة أَشْيَاء أَحدهَا الْعَصَا وَهِي من آس الْجنَّة وَسبب ذَلِك أَنه كَانَ يَأْكُل الْحِنْطَة فَبَقيت بَقِيَّة فِي أَسْنَانه فَأخذ عوداً بعد أَن احْتَاجَ إِلَى التَّخْلِيل فَبَقيَ فِي يَده يَتَخَلَّل بِهِ فأهبط وَهُوَ مَعَه وتوارثه أبناؤه إِلَى أَن وصل إِلَى مُوسَى فَصَارَ معْجزَة لَهُ فَهُوَ عَصا مُوسَى وَثَانِيها خَاتم كَانَ مَعَه فَلَمَّا سَقَطت عَنهُ الْحلَل وَذهب تاجه عَن رَأسه أَخذه فَجعله فِي فِيهِ فتوارثه الذُّرِّيَّة إِلَى أَن وصل إِلَى سيدنَا سُلَيْمَان بن دَاوُد فَصَارَ آيَة ملكه وثالثهما الْحجر الْأسود وَكَانَ من جَوَاهِر الْجنَّة قَصده أهل الْجنَّة حِين نزل فَأَخذه فتمسك بِهِ فَصَارَ حجرا فأهبط وَهُوَ مَعَه فَأمر بجعله ركنا من أَرْكَان الْكَعْبَة وَرَابِعهَا قِطْعَة من عود من شجر لم يبك عَلَيْهِ فَوَثَبَ فَحرق بالنَّار فَاعْتَذر فَجعل مِنْهُ الطّيب
وخامسها ورق التِّين وارى هُوَ وحواء بِهِ سوءاتهما فَلَمَّا تناثر ذَلِك بعد بنيه وعريا فِي الدُّنْيَا شكا آدم إِلَى جِبْرِيل العري فَجَاءَهُ بِشَاة من الْجنَّة لَهَا صوف كثير وَقَالَ لَهُ قل لحواء تغزل من هَذَا الصُّوف وتنسج فَمِنْهُ لباسك ولباسها فغزلت ونسجت وَلما كَانَت حَوَّاء سَببا لأكل آدم من الْقَمْح وعريه جعل عَلَيْهَا أَن تغزل وتكسوه وَلما ثقل عَلَيْهَا ذَلِك الْعَمَل جعل نَفَقَتهَا عَلَيْهِ وَلما ثقل عَلَيْهِ جعل حَظّ الزَّوْج فِي الْمِيرَاث ضعف حَظّ الزَّوْجَة كَذَا فِي المدارك قَالَ الْعَلامَة ابْن الضياء فِي الْبَحْر العميق أهبط آدم من بَاب التَّوْبَة وحواء من بَاب الرَّحْمَة وإبليس من بَاب اللَّعْنَة والطاوس من بَاب الْغَضَب والحية من بَاب السخط وأهبط بَين الظّهْر وَالْعصر من بَاب من سَمَاء الدُّنْيَا يُقَال لَهُ بَاب المبزم حذاء الْبَيْت الْمَعْمُور وَقيل من بَاب الْمِعْرَاج وَكَانَ مكثه فِي الْجنَّة نصف يَوْم من أَيَّام الْآخِرَة وَخَمْسمِائة عَام على سرنديب اسْم جبل بِالْهِنْدِ وَقيل على الجودي وَمكث عَلَيْهِ يبكي مائَة عَام حَتَّى نبت العشب من دُمُوعه وَكَانَ رَأسه يمس السَّحَاب فصلع فتوارثت الصلع ذُريَّته وَحط قامته إِلَى سِتِّينَ ذِرَاعا بذراعه ثمَّ ذكر مَا يسْتَدلّ بِهِ على قدر ذراعه الْمُسْتَدلّ بِهِ على معرفَة طول قامته بذراعه فَقَالَ قدم عَلَيْهَا حَاجا عَام سِتّ عشرَة رجل شرِيف دلوالي وَذكر أَنه دخل بِلَاد سرنديب وَأَن أَهلهَا كفار وَأَنه صعد جبل سرنديب وَكَانَ صُعُوده فِيهِ من المنارة وقدرها بل أَعلَى يصعد إِلَى أَعلَى هَذَا الْجَبَل بسلاسل من حَدِيد يضع الْإِنْسَان فِيهَا رجله وَيتَعَلَّق إِلَى أَن يصعد إِلَى أَعْلَاهُ وَأَنه لَا يُمكن صُعُوده إِلَّا على هَذِه الصّفة قَالَ وَفَوق هَذَا الْجَبَل أَيْضا جبل صَغِير فِيهِ أثر قدم أَبينَا آدم عليه السلام غائصاً فِي الْحجر على سمت الْقبْلَة بِحَيْثُ إِن الْقَائِم عَلَيْهِ يسْتَقْبل الْقبْلَة وَله
خمس أَصَابِع وَذكر أَنه قَاس طول قدمه وَعرضه وَطول إبهامه بمنديل كَانَ مَعَه وَعلم على ذَلِك عَلَامَات قَالَ الْعَلامَة ابْن الضياء الْمَذْكُور فَرَأَيْت هَذَا المنديل مَعَه فقست طول قدمه من رَأس الْإِبْهَام إِلَى آخر الْعقب فَكَانَت ثَلَاثَة أَذْرع وثلثي ذِرَاع وَطول إبهامه إِلَى الْمفصل شبر وَعرض الْقدَم ثَلَاثَة أشبار وَأَرْبع أَصَابِع كل ذَلِك بِذِرَاع الْحَدِيد وَذكر ذَلِك السَّيِّد أَنه لم ير إِلَّا قدماً وَاحِدًا وَأَن تَحْتَهُ غديراً فِي صَخْرَة ممتلئاً مَاء أحلى من الْعَسَل وَله عينان تجريان إِحْدَاهمَا عَن يَمِين الْقدَم وَالْأُخْرَى عَن يسَاره ينصبان إِلَى أَسْفَل الْجَبَل ثمَّ إِلَى الْبَحْر ومسيل مَاء الْعَينَيْنِ بشم وتراب الْعين الْيَمين سيلان وَذكر أَن الْمَطَر لَا يزَال على هَذَا الْجَبَل فِي كل يَوْم من أَيَّام السّنة لَا يَنْقَطِع أصلا وَلكنه فِي بعض الْأَيَّام رشاش بِغَيْر جود انْتهى كَلَام ابْن الضياء فِي بحره وَوجه حُصُول الْفَائِدَة بِمِقْدَار طول آدم يُؤْخَذ من معرفتنا لطول قدمه إِذا الْمَعْلُوم أَن مِقْدَار الْقدَم شبر وَأَن الشبر نصف ذِرَاع صَاحبه فشبران مِنْهُ هما مِقْدَار الذِّرَاع مِنْهُ من الْمفصل إِلَى رُءُوس أَصَابِع الْيَد فَيكون طول ذِرَاع آدم عليه السلام سَبْعَة أَذْرع وَثلث ذِرَاع بِذِرَاع الْحَدِيد فَحَيْثُ كَانَ طوله سِتِّينَ ذِرَاعا بذارع نَفسه فَيكون أَرْبَعمِائَة وَأَرْبَعين ذِرَاعا بِذِرَاع الْحَدِيد وَهَذِه فَائِدَة قل أَن تُوجد فَللَّه الْحَمد فَائِدَة فِي بَيَان زمَان خلق آدم عليه السلام قَالَ فِي الفتوحات المكية انْتهى خلق المولدات من الجمادات والنباتات والحيوانات بانتهاء إِحْدَى وَسبعين ألفا قَالَ بعض من تكلم على ذَلِك مُرَاد الشَّيْخ أَن مُدَّة خلق الْإِنْسَان من الأفلاك وَالدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَالْجنَّة وَالنَّار كلهَا فِي هَذِه الْمدَّة قَالَ فَلَمَّا خلق الله الْفلك الأول دَار دورة غير مَعْلُومَة الِانْتِهَاء لغير الله تَعَالَى لِأَنَّهُ لَيْسَ فَوْقه شَيْء مَحْدُود من الأجرام يقطع فِيهِ وَإِلَّا كَانَ خلق فِي جَوْفه شَيْء متميز الْحَرَكَة فدار أَربع وَخمسين ألف سنة من السّنة الْمَذْكُورَة وَهِي الإحدى وَالسبْعين ألف سنة فخلق الدُّنْيَا على انْتِهَاء أَربع وَخمسين ألف سنة ثمَّ بعد 9000 سنة خلق الْآخِرَة أَي الْجنَّة وَالنَّار فَكَانَت بعد مُضِيّ ثَلَاث وَسِتِّينَ ألف سنة من الْمَاضِي من 71000 ثمَّ لما وصل الْوَقْت الْمعِين فِي علمه تَعَالَى لإيجاد هَذَا الْخَلِيفَة بعد أَن مضى من عمر الدُّنْيَا سَبْعَة عشر ألف سنة وَمن الْآخِرَة ثَمَانِيَة الْألف
سنة أَمر الله بعض مَلَائكَته أَن يَأْتِيهِ بقبضة من كل أَجنَاس تربة الأَرْض فَأَتَاهُ بهَا إِلَى آخر الْخلق وَهُوَ مَعْلُوم انْتهى وبالاختصار فخلق المولدات إِحْدَى وَسَبْعُونَ ألفا فالفلك هُوَ الأول ثمَّ بعد أَربع وَخمسين ألف سنة خلق الدُّنْيَا ثمَّ بعد ثَلَاث وَسِتِّينَ ألفا خلق الْآخِرَة ثمَّ بعد وَاحِد وَسبعين ألف سنة خلق آدم فخلقه بعد مُضِيّ إِحْدَى وَسبعين ألف سنة من الْعَالم الطبيعي وَهَذَا ملخص كَلَامه فِي الفتوحات فِي الْبَاب السَّابِع والمائتين مِنْهَا وَبِالْإِسْنَادِ الْمُتَقَدّم عَن ابْن بابويه قَالَ حَدثنَا أَبُو الْحسن عَليّ بن عبد الله بن أَحْمد الأسواري حَدثنَا مُحَمَّد عَن مُحَمَّد بن مَيْمُون عَن الْحسن عَن أبي بن كَعْب قَالَ قَالَ رَسُول الله
إِن أَبَاكُم كَانَ طوَالًا كالنخلة السحوق سِتِّينَ ذِرَاعا وَفِي كتاب نقش الخواتيم اتخذ آدم خَاتمًا مَكْتُوبًا عَلَيْهِ لَا إِلَه إِلَّا الله مُحَمَّد رَسُول الله عَليّ ولي الله وَالْجُمْهُور يُخَالف هَذَا وَسُئِلَ أَمِير الْمُؤمنِينَ عَن خلق الشّعير مِم فَقَالَ إِن الله أَمر آدم إِن ازرع مهما اخْتَرْت لنَفسك وجاءه جِبْرِيل بقبضة من الْجنَّة من الْحِنْطَة فَقبض آدم على قَبْضَة وحواء على قَبْضَة فَقَالَ آدم لَا تزرعي أَنْت فَلم تقبل فزرع آدم جَاءَ حِنْطَة وَزرع حَوَّاء جَاءَ شعير تَكْمِيل فِيهِ تَعْلِيل ذكر الشَّيْخ الْجَلِيل عماد الْإِسْلَام مُحي الدّين أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن عَليّ الْمَعْرُوف بِابْن عَرَبِيّ قدس الله سره فِي كتاب فصوص الحكم أَن الله أوجد الْعَالم كُله وجود شبح مسوى لَا روح فِيهِ وَكَانَ كمرآة غير مجلوة فَكَانَ آدم عين جلاء تِلْكَ الْمرْآة وروح تِلْكَ الصُّورَة الَّتِي هِيَ صُورَة الْعَالم
الْمعبر عَنْهَا فِي اصْطِلَاح الْقَوْم بالإنسان الْكَبِير فَكَانَت الْمَلَائِكَة كالقوى الروحانية والحسية الَّتِي هِيَ النشأة الإنسانية قَالَ الشَّارِح الإِمَام عبد الرَّزَّاق بن أبي الْغَنَائِم الفاسي رَحمَه الله تَعَالَى فَكَانَت القوى الروحانية النفسانية مَلَائِكَة وجود الْإِنْسَان لِأَن قوى الْعَالم اجْتمعت فِيهِ بأسرها فالإنسان عَالم صَغِير والعالم إِنْسَان كَبِير بِوُجُود الْإِنْسَان فِيهِ لِأَن أحدية جَمِيع الْمَوْجُود الَّتِي ناسب بهَا الْعَالم الحضرة الإلهية لم تُوجد فِي جَمِيع أَجْزَائِهِ إِلَّا فِي الْإِنْسَان وَكَانَ الْإِنْسَان مُخْتَصرا من الحضرة الإلهية وَلِهَذَا قَالَ إِن الله خلق آدم على صورته وَيُسمى هَذَا الْمَذْكُور إنْسَانا وَخَلِيفَة فَأَما الإنسانية فَلِأَن نشأته تحوي الْحَقَائِق كلهَا وَجَمِيع مَرَاتِب الْوُجُود العلوية والسفلية بأحدية الْجمع الَّذِي ناسب بهَا حَقِيقَة الْحَقَائِق وَهِي الجمعية الْمَذْكُورَة إِذْ لَا شَيْء فِي النشأتين إِلَّا وَهُوَ مَوْجُود فِيهِ أَي لَا مرتبَة فِي الْوُجُود إِلَّا وَشَيْء مِنْهَا فِيهِ فَنَاسَبَ الْكل وَأنس بِهِ فَسمى إنْسَانا لِأَنَّهُ عَالم صَغِير والعالم يُسمى إنْسَانا كَبِيرا بِاعْتِبَار آخر وَهُوَ أَنه يلْحق بِمَنْزِلَة مَا إِنْسَان الْعين من الْعين الَّذِي بِهِ يكون النّظر وَهُوَ الْمعبر عَنهُ بالبصر لِأَن الله تَعَالَى نظر بِهِ إِلَى الْخلق فَرَحِمهمْ فَلهَذَا سمى إنْسَانا أَيْضا فتم الْعَالم ووجوده بمظهريته لأسمائه تَعَالَى كلهَا قَالَ الشَّيْخ فَهُوَ من الْعَالم كقص الْخَاتم من الْخَاتم وَهُوَ مَحل النقش والعلامة الَّتِي يخْتم الْملك بهَا خزائنه وَشبه الْعَالم بالخاتم لِأَنَّهُ خلقه وَمن حَيْثُ إِن الْإِنْسَان من جملَة أَجزَاء الْعَالم انتقش بنقوش الْعُلُوم الَّتِي فِي الحضرة الإلهية وَحمل سر أَسْمَائِهِ وَصِفَاته وَختم بِهِ الْعَالم بأسره فشبهه بالفص من الْخَاتم وَسَماهُ خَليفَة لأجل هَذَا لِأَن نقش اسْمه الْأَعْظَم وَهُوَ الذَّات مَعَ الْأَسْمَاء كلهَا منقوش فِي قلبه الَّذِي هُوَ فص الْخَاتم فيحفظ بِهِ خزانَة الْعَالم بِجَمِيعِ مَا فِيهِ على النظام الْمَعْلُوم والنسق المضبوط لِأَنَّهُ الْحَافِظ خلقه لِأَن الْإِنْسَان الْكَامِل هُوَ الْحَافِظ خلق الله بالحكمة الأحدية والواحدية لأسمائه الْبَالِغَة الَّتِي هِيَ نقش قلبه وَهِي الْعَدَالَة أَعنِي صُورَة الْوحدَة فِي عَالم الْكَثْرَة الَّذِي هُوَ خزانَة القوابل والآلات كلهَا كَمَا يحفظ الْخَتْم الخزائن مَا دَامَ ختم الْملك عَلَيْهَا لَا يَجْسُر أحد على فتحهَا إِلَّا بِإِذْنِهِ فَلَا يزَال الْعَالم مَحْفُوظًا مَا دَامَ فِيهِ هَذَا الْإِنْسَان الْكَامِل وَلَو لم يكن آدم كَذَلِك لم يكن خَليفَة لِأَن الْخَلِيفَة يجب أَن يعلم مُرَاد المتخلف وَينفذ أمره وَلَو
لم يعلم بِجَمِيعِ صِفَاته لم يُمكنهُ إِنْفَاذ أمره وَإِن لم يكن فِيهِ جَمِيع مَا تطلبه الرعايا من الْأَسْمَاء الَّتِي يَرث الْحق بهَا جَمِيع من فِي الْعَالم من النَّاس وَالدَّوَاب والأنعام وَغَيرهَا فَلَيْسَ بخليفة عَلَيْهِم فَمَا صحت الْخلَافَة إِلَّا للْإنْسَان الْكَامِل فاستحقاق آدم الْخلَافَة إِنَّمَا يكون بالصورتين إنْشَاء صورته الظَّاهِرَة من حقائق الْعَالم وَصورته الباطنية قَالَ الشَّارِح قدس سره حَيْثُ جمع فِيهِ الْحَقَائِق الكونية فَلم يبْق فِي صور الْعَالم وَقواهُ شَيْء إِلَّا وَفِيه نَظِيره وإنشاء صورته الْبَاطِنَة على صورته تَعَالَى فانه سميع بَصِير عَالم فَيكون متصفاً بِالصِّفَاتِ الإلهية متسمياً بأسمائه وَلذَلِك قَالَ كنت سَمعه وبصره مَا قَالَ كنت عينه وَأذنه فَفرق بَين الصُّورَتَيْنِ صُورَة الْعَالم وَصُورَة الْحق وكما كَانَ الْحق فِي آدم ظَاهرا بصورته كَذَلِك فِي كل مَوْجُود لَكِن لَيْسَ لشَيْء من الْعَالم مَجْمُوع مَا للخليفة فَإِن قلت فَمَا معنى قَول النَّبِي
خلق الله آدم على صورته وَهَذَا يَقْتَضِي التجسيم فَالْجَوَاب أَن الْهَاء فِي صورته رَاجِعَة إِلَى آدم ردا على من يَقُول كَانَ آدم عَظِيم الجثة طَوِيل الْقَامَة رَأسه قريب من السَّمَاء كَمَا فِي بعض الْأَخْبَار فَكَانَ الْمَعْنى أَن الله خلقه على الصُّورَة الَّتِي قبض عَلَيْهَا لم تَتَغَيَّر بِزِيَادَة وَلَا نُقْصَان وَوجه ثَان وَهُوَ أَن هَذَا الْكَلَام خرج على سَبَب مَعْرُوف لِأَن الزُّهْرِيّ روى عَن الْحسن أَنه كَانَ يَقُول مر رَسُول الله
بِرَجُل من الْأَنْصَار وَهُوَ يضْرب وَجه غُلَام لَهُ وَهُوَ يَقُول قبح الله وَجهك وَوجه من تشبه فَقَالَ النَّبِي
بئْسَمَا قلت فَإِن الله خلق آدم على صورته يَعْنِي صُورَة الْمَضْرُوب وَذكر السَّيِّد المرتضى رضي الله عنه فِي التَّنْزِيه جواباتٍ أخر لَا نطول بذكرها وَمَا أَوْمَأ إِلَيْهِ الشَّيْخ قدس سره أدق طَريقَة وَأحسن معنى وَمن تَأمل غرائب خلقَة آدم وَمَا احتوت عَلَيْهِ من إحكام التَّرْكِيب على مَا ذكره المشرحون علم أَن بارئه وَاحِد لَا ثَانِي لَهُ // (من المتقارب) //
(وَفِي كلّ شيءٍ لَهُ آيةٌ
…
تدلُّ على أنّه واحدُ)
ودفنت حَوَّاء إِلَى جَانب آدم رَأسهَا إِلَى رَأسه ورجلاها عِنْد رجلَيْهِ قلت كَذَا ذكر عَن وهب وَأكْثر الروَاة على أَنَّهَا دفنت بجدة بِالْمحل الْمَعْرُوف بهَا قابيل عَلَيْهِ اللَّعْنَة كَانَ آخر هَلَاك نَسْله فِي زمن الطوفان وَكَانُوا أَعدَاء لأَوْلَاد شِيث عليه السلام وَلم يبْق الطوفان مِنْهُم أحدا زَوجته إقليميا أُخْته وَكَانَ أكبر أَوْلَاده شوهل رزقه الله من الْجمال وَالْحسن مَا لم يرْزق أحدا من ولد آدم وَكَذَا توءمته وَاسْمهَا نوهة وَكَانَ تسلم جَمِيع أُمُور أَبِيه وَذَلِكَ أَن قابيل لما قتل أَخَاهُ دَعَا عَلَيْهِ آدم وحواء فذهل عقله فَكَانَ لَا يعي قولا وَلَا يفقه شَيْئا فتلاعب بِهِ إِبْلِيس وَقَالَ لَهُ إِن أَبَاك آدم وأمك حَوَّاء قد مَاتَا وَمَا بَقِي من يقوم مقَامه والرأي أَن تغزو أَخَاك وَمن مَعَه قبل أَن يغزوكم فَلم يبْق لَك مِنْهُ مَخَافَة وَلَا سِيمَا ومعنا عنق بنت أَبِيك آدم وَقد علمت قوتها وَطَاعَة الْجِنّ لَهَا بِمَا مَعهَا من السحر فَأرْسل قابيل ابْنه شوهل وَأمره بِطَاعَة إِبْلِيس فِيمَا يُشِير إِلَيْهِ فِي قتال شِيث ثمَّ أرسل إِلَى عنق فبادرت إِلَيْهِ بالمردة وَلم يكن سلَاح إِلَّا السكاكين على مِثَال الَّتِي ذبح بهَا آدم قربانه فَأَخَذُوهَا وشدوا أزرهم وَسَارُوا نَحْو شِيث وَأوحى الله إِلَى شِيث يُعلمهُ ووعده بالنصر عَلَيْهِم فَجمع شِيث إخْوَته وبنيه فأعدوا لَهُم وَأخذُوا عصيهم وسكاكينهم وجلسوا ينتظرون حَتَّى قرب بَنو قابيل وإبليس ومردته وَهُوَ الْملك على الْجِنّ وعنق الْمُقدمَة على المردة والسحرة فَأمر شِيث بِالْخرُوجِ إِلَيْهِم فشدوا عَلَيْهِم أزرهم وَأخذُوا مديهم بأيمانهم وعصيهم وَخَرجُوا إِلَى ملتقاهم وَكَانَ أول قتال جرى بَين بني آدم مِمَّا يَلِي الطَّائِف وَأخرج شِيث الصُّحُف وتوسل إِلَى الله بهَا وَإِخْوَته يُؤمنُونَ على دُعَائِهِ وبرزت بَنو قابيل لِلْقِتَالِ وشبت الْحَرْب بَينهم وشيث كَارِه وَأنزل الله عَلَيْهِ النَّصْر وَكلما عملت السَّحَرَة شَيْئا أبْطلهُ الله تَعَالَى فَلَمَّا صَار وَقت الظّهْر توسل شِيث إِلَى الله تَعَالَى بأنوار مُحَمَّد
فَأمر الله جِبْرِيل أَن ينزل وَمَعَهُ من الْمَلَائِكَة مدد فَلَمَّا رأى إِبْلِيس ذَلِك قَالَ لمردته اتْرُكُوا بني آدم بَعضهم لبَعض فَلَا قدرَة لكم على الْمَلَائِكَة ثمَّ غاص فِي الأَرْض هَارِبا وَبَنوهُ خَلفه وَقتلت الْمَلَائِكَة مِنْهُم بحرابها مَا لَا يُحْصى وَانْهَزَمَ ولد قابيل لانهزام الْجِنّ وَقتل مِنْهُم الْمُؤْمِنُونَ خلقا كثيرا وهرب الْبَاقُونَ
وَعرض شِيث على الأسرى الْإِيمَان فَأَبَوا فَأمر بِقَتْلِهِم وَلم يبْق مِنْهُم أحدا ورد الله كيد إِبْلِيس فِي نَحره وَغلب جند الله وَرجع شوهل وَقد خلص من الْقَتْل إِلَى أَبِيه بِمن سلم مَعَه وأعلمه بِمن قتل من أَوْلَاده فَحزن قابيل وَمَات أسفا وحزناً وحسرةً وندامة كَمَا أعلمهُ الْملك فَلَمَّا هلك قابيل فَرح إِبْلِيس بِمَوْتِهِ وَكَانَ قد اختفى مِنْهُ لِئَلَّا يوبخه على رَأْيه ومشورته وهربه وَعلم أَنه بِمَوْتِهِ يتَمَكَّن من بنيه فأظهر الْحزن وَقَالَ لَا تدفنوه وَأَنا أصنع لكم تمثالاً من الْحِجَارَة فأدخلوه فِيهِ واجعلوه فِي بَيت من بُيُوتكُمْ فَإِذا أَرَادَ أحدكُم إِن يرَاهُ إِلَيْهِ وَيسلم عَلَيْهِ فتكونون كأنكم لم تفقدوه حِيلَة واستدراجاً مِنْهُ لعبادة الْأَصْنَام فنحت لَهُم حجرا من البلور وصور فِيهِ صورته وَجعله مجوفاً قطعتين تلتصق إِحْدَاهمَا فِي الْأُخْرَى وَأمرهمْ أَن يدخلوه فِي ذَلِك التمثال وَأمر أَلا يدْخل عَلَيْهِ أحد إِلَّا بِأَمْر شوهل وَأَن كل من يدْخل إِلَيْهِ يسْجد لَهُ ثَلَاث سَجدَات وَيقبل يَده وَجعله عيداً فِي كل سنة مثل الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ فَإِذا كَانَ ذَلِك الْيَوْم يدْخلُونَ أَفْوَاجًا أَفْوَاجًا وَقد رفع غشاؤه وَهُوَ من وَرَاء البلور كَأَنَّهُ حَيّ وَإِذا خلا بِهِ شوهل يخاطبه إِبْلِيس على لِسَان الصَّنَم فيظن شوهل أَنه قابيل وَلَا يكلم سواهُ ووكل إِبْلِيس بالصنم مارداً يسمع حوائج من يدْخل إِلَيْهِ فَيَجِيء بهَا إِلَى إِبْلِيس يَوْمًا بِيَوْم فَإِذا كَانَ اللَّيْل أرَاهُ فِي مَنَامه مَا يفعل فِي الَّذِي أَرَادَ استدراجاً لكفرهم وهم لَا يَشْعُرُونَ فبقوا على ذَلِك مُدَّة وَقد بلغ إِبْلِيس مِنْهُم مُرَاده وَقد روينَا عَن مُحَمَّد بن مُوسَى المتَوَكل عَن عبد الله بن جَعْفَر عَن أَحْمد بن مُحَمَّد بن عِيسَى عَن الْحسن بن مَحْجُوب عَن مُحَمَّد بن النُّعْمَان الْأَحول عَن يزِيد بن مُعَاوِيَة قَالَ سَمِعت أَبَا جَعْفَر يَقُول فِي مَسْجِد النَّبِي
إِن إِبْلِيس اللعين أول مَا صور صُورَة على مِثَال آدم ليفتن بِهِ النَّاس ويضلهم عَن عبَادَة الله تَعَالَى وَكَانَ ود فِي ولد قابيل وَكَانَ خَليفَة قابيل على وَلَده وعَلى من بحضرتهم فِي سفح الْجَبَل يعظمونه ويسودونه فَلَمَّا أَن مَاتَ جزع عَلَيْهِ إخْوَته وَخلف عَلَيْهِم ابْنا يُقَال لَهُ سواع فَلم يغن غناء أَبِيه مِنْهُم فَأَتَاهُم إِبْلِيس فِي صُورَة شيخ فَقَالَ قد بَلغنِي مَا أصبْتُم بِهِ من موت ود عظيمكم فَهَل لكم أَن أصور لكم على مِثَال ود صُورَة تستريحون إِلَيْهَا وتأنسون بهَا فَقَالُوا افْعَل فَعمد الْخَبيث إِلَى الآنك فأذابه
حَتَّى صَار مثل المَاء ثمَّ صور لَهُم صُورَة مثل ود فِي بَيته فتدافعوا على الصُّورَة يلثمونها ويضعون خدودهم عَلَيْهَا ويسجدون إِلَيْهَا وَأحب سواع أَن يكون التَّعْظِيم وَالسُّجُود لَهُ فَوَثَبَ على صُورَة ود فحكها حَتَّى لم يدع مِنْهَا شَيْئا وهموا بقتل سواع فوعظهم وَقَالَ أَنا أقوم لكم بِمَا كَانَ يقوم بِهِ ود وَأَنا ابْنه فَإِن قتلتموني لم يكن لكم رَئِيس فمالوا إِلَى سواع بالتعظيم وَالطَّاعَة ثمَّ لم يلبث سواع أَن مَاتَ وَخلف ابْنا يُقَال لَهُ يَغُوث فجزعوا على سواع فَأَتَاهُم إِبْلِيس وَقَالَ أَنا الَّذِي صورت لكم صُورَة ود فَهَل لكم أَن أجعَل لكم مِثَال سواع على وَجه لَا يَسْتَطِيع أحد ان يُغَيِّرهُ قَالُوا فافعل فَعمد إِلَى عود من شجر الْخلاف فنجره ونصبه لَهُم فِي منزل سواع وَإِنَّمَا سمى ذَلِك الْعود خلافًا لِأَن إِبْلِيس عمل مِنْهُ صُورَة سواع على خلاف صُورَة ود فسجدوا لَهُ وعظموه وَقَالُوا ليغوث مَا نأمنك على هَذَا الصَّنَم أَن تكيده كَمَا كَاد أَبوك مِثَال ود فوضعوا على الْبَيْت حراساً وحجاباً ثمَّ كَانُوا يأْتونَ الصَّنَم فِي يَوْم وَاحِد ويعظمونه أَشد مِمَّا كَانُوا يعظمون سواعاً فَلَمَّا رآى ذَلِك يَغُوث قتل الحراس والحجاب لَيْلًا وَجعل الصَّنَم رميماً فَلَمَّا بَلغهُمْ ذَلِك اقْبَلُوا ليقتلوه فتوارها مِنْهُم فطلبوه ورأسوه وعظموه ثمَّ مَاتَ وَخلف ابْنا يُقَال لَهُ يعوق فَأَتَاهُم إِبْلِيس فَقَالَ قد بَلغنِي موت يَغُوث وَأَنا جَاعل لكم مِثَاله فِي شَيْء لَا يقدر أحد أَن يُغَيِّرهُ قَالُوا فافعل فَعمد الْخَبيث إِلَى حجر جزع أَبيض فنقره بالحديد حَتَّى صور لَهُم مِثَال يَغُوث فعظموه أَشد مِمَّا مضى وبنوا عَلَيْهِ بَيْتا من الْحجر وتبايعوا أَلا يفتحوا بَاب ذَلِك الْبَيْت إِلَّا فِي رَأس كل سنة وَسميت الْبيعَة حِينَئِذٍ لأَنهم تبايعوا وتعاقدوا عَلَيْهِ فَاشْتَدَّ ذَلِك على يعوق فَعمد إِلَى ريطة وحلفاء فألقاها فِي الْحَائِط بالنَّار لَيْلًا فَأصْبح الْقَوْم وَقد احْتَرَقَ الْبَيْت والصنم والحرس وَارْفض الصَّنَم ملقى فجزعوا وهموا بقتل يعوق فَقَالَ لَهُم إِن قتلتم رئيسكم فَسدتْ أُمُوركُم فَلم يلبث أَن مَاتَ يعوق وَخلف ابْنا يُقَال لَهُ نسر فَأَتَاهُم إِبْلِيس فَقَالَ لَهُم بَلغنِي موت عظيمكم فَأَنا جَاعل لكم مِثَال يعوق فِي شَيْء لَا يبْلى فَقَالُوا افْعَل فَعمد إِلَى الذَّهَب وأوقد عَلَيْهِ النَّار حَتَّى صَار كَالْمَاءِ وَعمل مِثَالا من الطين على صُورَة يعوق ثمَّ أفرغ الذَّهَب فِيهِ ثمَّ نَصبه لَهُم فِي ديرهم وَاشْتَدَّ ذَلِك على نسر وَلم يقدر على دُخُول ذَلِك الدَّيْر فانحاز عَنْهُم فِي قَرْيَة قريبَة من إخْوَته يعْبدُونَ نسراً وَالْآخرُونَ يعْبدُونَ الصَّنَم حَتَّى مَاتَ نسر وَظَهَرت نبوة
إِدْرِيس عليه السلام فَبَلغهُ حَال الْقَوْم وَأَنَّهُمْ يعْبدُونَ صنماً على مِثَال يعوق وَأَن نسراً كَانَ يعبد من دون الله فَسَار إِلَيْهِم بِمن مَعَه حَتَّى نزل مَدِينَة نسر وهم فِيهَا وَهَزَمَهُمْ وَقتل من قتل وهرب من هرب فَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَاد وَأمر بالصنم فَحمل وَألقى فِي الْبَحْر فاتخذت كل فرقة مِنْهُم صنماً وسموها بأسمائها فَلم يزَالُوا بعد ذَلِك قرنا بعد قرن لَا يعْرفُونَ إِلَّا تِلْكَ الْأَسْمَاء ثمَّ ظَهرت بنوة نوح عليه السلام فَدَعَاهُمْ إِلَى عبَادَة الله تَعَالَى وَحده وَترك مَا كَانُوا يعْبدُونَ من الْأَصْنَام فَقَالَ بَعضهم {لَا تذرن آلِهَتكُم وَلَا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلَا سُوَاعاً وَلَا يَغُوثَ ويعوق ونسرا} نوح 23 فعلى هَذَا كَانَت بسب أَوْلَاد قابيل لعنة الله عبَادَة الْأَصْنَام وَفِي الْعِلَل أَن أصل عبَادَة النيرَان قابيل لَعنه الله فَإِنَّهُ لما لم يتَقَبَّل الله مِنْهُ قربانه أَتَاهُ إِبْلِيس وَقَالَ لَهُ إِنَّمَا قبلت النَّار قرْبَان أَخِيك لِأَنَّهُ يَعْبُدهَا فَقَالَ وَأَنا أعبد نَارا أُخْرَى فَبنى بيُوت النَّار وَلم يَرث مِنْهُ وَلَده إِلَّا عبَادَة النيرَان وَهُوَ أول من بنى للنار بيُوت وَعَن ابْن بابويه عَن مُحَمَّد بن عَليّ ماجيلويه عَن مُحَمَّد بن يحيى الْعَطَّار عَن الْحُسَيْن بن الْحسن بن أبان عَن ابْن أرومة عَن عمر بن عُثْمَان عَن العبقري عَن أَسْبَاط عَن رجل حَدثهُ عَن عَليّ بن الْحُسَيْن أَن طاوساً قَالَ فِي الْمَسْجِد الْحَرَام أول دم وَقع على وَجه الأَرْض دم هابيل حِين قَتله قابيل وَهُوَ يَوْمئِذٍ قتل ربع النَّاس فَقَالَ زين العابدين لَيْسَ كَمَا قَالَ إِن أول دم وَقع على الأَرْض دم حَوَّاء حِين حَاضَت يَوْمئِذٍ فَقتل سدس النَّاس كَانَ يَوْمئِذٍ آدم وحواء وقابيل وهابيل وأختاهما بنتين كَانَتَا ثمَّ قَالَ هَل تَدْرُونَ مَا صنع بقابيل فَقَالَ الْقَوْم لَا نَدْرِي فَقَالَ وكل الله بِهِ ملكَيْنِ يطلعانه مَعَ الشَّمْس إِذا طلعت ويغربان بِهِ إِذا غربت وينضحانه بِالْمَاءِ الْحَار فِي حر الشَّمْس حَتَّى تقوم السَّاعَة وَبِهَذَا الْإِسْنَاد عَن ابْن أرومة عَن الْحسن بن عَليّ عَن ابْن أبي بكير عَن أبي جَعْفَر إِن بِالْمَدِينَةِ لرجلاً أَتَى الْمَكَان الَّذِي فِيهِ ابْن آدم فَرَآهُ معقولاً مَعَ عشرَة موكلين بِهِ يستقبلون بِوَجْهِهِ الشَّمْس حَيْثُ مَا دارت فِي الصَّيف ويوقدون حوله النَّار فَإِذا كَانَ الشتَاء يصبون عَلَيْهِ المَاء الْبَارِد وَكلما هلك رجل من الْعشْرَة
أخرج أهل الْقرْيَة رجلا فَقَالَ لَهُ يَا عبد الله مَا قصتك لأي شَيْء ابْتليت بِهَذَا فَقَالَ لقد سَأَلتنِي عَن مَسْأَلَة مَا سَأَلَني أحد عَنْهَا قبلك أَنْت أَكيس النَّاس وَإنَّك لأحمق النَّاس وَبِهَذَا الْإِسْنَاد عَن ابْن أرومة عَن عبد الله بن مُحَمَّد عَن حَمَّاد بن عُثْمَان عَن أبي عبد الله قَالَ كَانَت الوحوش وَالطير وَالسِّبَاع وكل شَيْء خلقه الله مختلطاً بعضه بِبَعْض فَلَمَّا قتل ابْن آدم أَخَاهُ نفرت وفزعت فَذَهَبت كل شَيْء إِلَى شكله هابيل صَاحب القربان الْمَقْتُول زوج أُخْت قابيل لَعنه الله وَكَانَ آدم عليه السلام قسم مَاله بَينهمَا فَجعل هابيل راعي غنم وَجعل قابيل حراثاً وَكَانَ آدم أَمر بتابوت ثمَّ جعل فِيهِ علمه والأسماء وَالْوَصِيَّة ثمَّ دَفعه إِلَى وَصِيَّة شِيث وَقَالَ إِذا حضرتك الْوَفَاة وأحسست بذلك من نَفسك فالتمس خير ولدك وَأَكْثَرهم لَك صُحْبَة وأفضلهم فأوص إِلَيْهِ بِمَا أوصيت بِهِ إِلَيْك وَلما مَاتَ آدم وحواء طمع إِبْلِيس فِي بَينهمَا وَجَاء إِلَى شِيث فَسلم عَلَيْهِ وَكَلمه كلَاما أظهر فِيهِ النَّدَم على فعله بِأَبِيهِ وَأمه مَا فعل وَأَن يكون عونه على أَوْلَاد قابيل فلعنه شِيث وطرده وتهدده بِأَن يَدْعُو عَلَيْهِ وَإِن كَانَ منْظرًا فَخرج إِبْلِيس آيساً مِنْهُ وَقَامَ شِيث فِي بنيه وَإِخْوَته خَطِيبًا وأعلمهم مَا أَرَادَ إِبْلِيس وحذرهم مِنْهُ وَمن أَوْلَاد قابيل قَالَ فَإِنَّهُم أعداؤكم فِي الدّين فَجعل بَعضهم يحذر
بَعْضًا من مُخَالطَة بني قابيل كَمَا تقدم ذكر ذَلِك فَلَمَّا يُبِيح لَهُم أيس إِبْلِيس من شِيث رَجَعَ إِلَى قابيل وزين لَهُ أَلا يمْنَع ذكرا من إخْوَته وَبَنَات أَخِيه ليكْثر النَّسْل وَأَن يبيحهم شركَة الْوَاحِد والاثنين وَالثَّلَاثَة فِي الْوَاحِدَة وَلَا يمنعهُم مُرَادهم فَقبل قابيل قَوْله واشتركت الْجَمَاعَة فِي الْوَاحِدَة وَمَا من ولد إِلَّا وإبليس فِيهِ شركَة وَكَانَ لإبليس أَوْلَاد فاختلطوا مَعَهم وتربوا جَمِيعًا وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى وشيث هُوَ الَّذِي بنى الْكَعْبَة بالطين وَالْحِجَارَة على مَحل خيمة آدم الَّتِي كَانَت من الْجنَّة وَأنزل الله عَلَيْهِ خمسين صحيفَة لخمس لَيَال خلون من رَمَضَان وَكَانَ مُدَّة عمره تِسْعمائَة واثنتي عشرَة سنة وَكَانَت تنزل صحيفَة بعد صحيفَة بِالْأَمر بعد الْأَمر وأعلمه أَن عِنْد انْقِضَاء نُزُولهَا يكون انْقِضَاء عمره وَأَن آخر صحيفَة الْوَصِيَّة لوَلَده
أنوش فَلَمَّا اسْتَوْفَاهُ علم أَن عمره قد نفذ وَلما حَضرته الْوَفَاة أوحى الله إِلَيْهِ أَن يستودع التابوت وَالِاسْم الْأَعْظَم ابْنه أنوش وَمَعْنَاهُ الصَّادِق ابْن نزلة فَأحْضرهُ وَسلم إِلَيْهِ التابوت وعهود الْأَنْبِيَاء وَأمره بِمثل مَا كَانَ أمره بِهِ آدم بِهِ من وضع النُّور المحمدي فِي أطهر النِّسَاء وَقَالَ إِن أدْركْت نبوة نوح فَسلم إِلَيْهِ الْعلم والتابوت فَأَقَامَ أنوش بعد شِيث بِكُل مَا أَمر بِهِ أَبوهُ شِيث وَتزَوج نعم وَكَانَت من أشبه النِّسَاء بحواء فَلَمَّا بنى بهَا حملت بِالنورِ ففرح أنوش وَولدت لَهُ قينان والنور فِي وَجهه كَالْكَوْكَبِ الدُّرِّي وَأَوْلَاد قابيل فِي تمردهم قد لَقِي مِنْهُم أنوش تعباً كثيرا ثمَّ مَاتَ أنوش وَله من الْعُمر تِسْعمائَة وَخَمْسُونَ سنة وَله إخْوَة وَبَنَات انقرضوا جَمِيعًا وقينان صَاحب النُّور مَحْفُوظ من إِبْلِيس وَجُنُوده تزيد أنواره فِي كل يَوْم وَبَرَكَاته على بني أَبِيه وأعمامه وهم فِي جِهَاد مَعَ بني قابيل أفْضى الْملك فيهم إِلَى ابْنه طهمورث ثمَّ قَامَ قينان وَمَعْنَاهُ المستولي فَقَامَ مقَام أَبِيه وَتزَوج عيطول وَولد لَهُ مهيائيل وَمَعْنَاهُ الممدوح وَلما كبر وَعلمه أَبوهُ أنوش الصُّحُف الَّتِي لِأَبِيهِ آدم وشيث وَجَمِيع مَا علمه أَبوهُ من قبل فَخرج أفْصح أهل زَمَانه وأشجعهم وأكملهم براعةً وفضلاً والنور المحمدي فِي وَجهه يزْدَاد كل يَوْم إشراقاً حَتَّى صَار لَهُ خَمْسُونَ سنة وَظهر ملك عوج بن عنق فطغى وأفسد فِي الأَرْض وَاشْتَدَّ الْأَمر وَتزَوج عيطول فولد لَهُ مِنْهَا مهيائيل بن قينان بن أنوش وَلما حضرت الْوَفَاة قينان مَاتَ فِي تموز وعمره تِسْعمائَة وَعِشْرُونَ سنة فَقَامَ بِالْأَمر بعده ابْنه مهيائيل بن قينان بن أنوش بن شِيث بن آدم عليه الصلاة والسلام وَتَوَلَّى النّظر فِي أَمر بني آدم بعد أَبِيه وعاش ثَمَانمِائَة سنة وخمساً وَتِسْعين سنة هُوَ أول من بنى المدن واستخرج الْمَعَادِن وَبنى مَدِينَة بابل ثمَّ ولد لمهيائيل يرد وَيُقَال يارد وَمَعْنَاهُ الضَّابِط فَقَامَ مقَام أَبِيه وَفِي زَمَنه عملت الْأَصْنَام وَرجع من رَجَعَ عَن الْإِسْلَام من أَوْلَاد شِيث مَعَ أَوْلَاد قابيل ثمَّ ولد ليرد أَخْنُوخ بِهَمْزَة وحذفها وَالْمَشْهُور أَنه بخائين معجمتين وَقيل الأولى حاء مُهْملَة وَهُوَ النَّبِي إِدْرِيس عليه السلام وَهُوَ هرمس الهرامس المثلث بِالنُّبُوَّةِ وَالْحكمَة وَالْملك أمه ادينا بنت ابيال سمى إِدْرِيس لِكَثْرَة درسه
صحف آدم وشيث وَالْجُمْهُور على أَنه أول نَبِي بعث بعد آدم بِمِائَتي سنة وَنزل عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ صحيفَة وَهُوَ أول من خاط الثِّيَاب ولبسها وَكَانُوا من قبل يلبسُونَ جُلُود الْبَقر فَأرْسلهُ الله إِلَى قومه وَبني أَبِيه وَبني قابيل وَهُوَ أول من خطّ بالقلم وَهُوَ الَّذِي بنى الأهرام بِمصْر وَقيل بناهما دومع بن الزبان ابْن فِرْعَوْن يُوسُف وَقيل سوريد وَقيل غير ذَلِك وعَلى ذكر الأهرام قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ وَمن عجائب الهرمين أَن سمك كل وَاحِد مِنْهُمَا أَرْبَعمِائَة ذِرَاع وهما من الرخام والمرمر مَكْتُوب فيهمَا أَنا بنيتهما بملكي فَمن يَدعِي قُوَّة فِي ملكه فليهدمهما فَإِن الْهدم أيسر من الْبناء وَكَانَ الْمَأْمُون العباسي لما دخل الديار المصرية أَرَادَ هدمهما فَلم يقدر على ذَلِك فاجتهد وَأنْفق أَمْوَالًا عَظِيمَة حَتَّى فتح فِي أَحدهمَا طَاقَة صَغِيرَة فَوجدَ خلف الطَّاقَة من الْأَمْوَال قدر الَّذِي أنفقهُ وكتاباً فِيهِ قد علمنَا أَنَّك تَأتي فِي عصر كَذَا وتروم الْهدم وَلَا تَسْتَطِيع أَكثر من ذَلِك فَجعلنَا لَك مَا أنفقت فَلَا تتعب فَأَنْشد الْمَأْمُون فِي ذَلِك // (من الْكَامِل) //
(أَنظُر إِلَى الهرمين واسمَع مِنْهُمَا
…
مَا يرويان عَن الزّمان الغَابرِ)
(لَو ينطقان لخبَّرانا بالّذي
…
فَعَل الزمانُ بأَولٍ وبآخرِ)
وَهِي عدَّة أهرام إِلَّا إِن أكبرها هرمان اثْنَان وَقد ذكرتهما الشُّعَرَاء قَدِيما وحديثاً فِي موارد الْوَعْظ تَارَة والغزل أُخْرَى وَغَيرهمَا قَالَ أَبُو الطّيب // (من الْكَامِل) //
(أَين الّذي الهَرَمانِ من بُنيانِهِ
…
مَا قومهُ مَا يومُهُ مَا المَصرع)
(تتخلَّفُ الآثارُ عَن سكَّانها
…
حينا فيدركُهاَ الفناءُ فتَتْبعُ)
وَقَالَ آخر // (من الزّجر) //
(مصرُ الّتي من حُسنها
…
قد قيل فِيهَا إِرَمُ)
(لمّا جَفَت عُشَّاقها
…
بدا عَلَيْهَا الهَرم)
وَقَالَ آخر وَفِيه تورية ظريفة // (من الْبَسِيط) //
(قَالُوا علا نيلُ مصر فِي زِيَادَته
…
حتّى لقد بَلغَ الأهرامَ حينَ طَما)
(فقلتُ هَذَا عجيبٌ فِي دياركمُ
…
أَنَّ ابنَ ستَّةَ عشرٍ يبلُغُ الهرَما)
وَأحسن مَا سَمِعت فِي وصفهما قَول عمَارَة اليمني شَاعِر الدولة العبيدية حَيْثُ يَقُول // (من الطَّوِيل) //
(خليليَّ مَا تَحت السّماء بنيَّةٌ
…
تماثلُ فِي إتقانها هَرمي مصرِ)
(بناءٌ يخَاف الدّهر مِنْهُ وكلُّ مَا
…
على ظاهرِ الدّنيا يخافُ من الدهرِ)
(تنزَّهَ طرفِي فِي بديعِ بنائها
…
وَلم يتنزَّه فِي المُرادِ بهَا فِكري)
رَجَعَ وَعَن جَعْفَر الصَّادِق بن مُحَمَّد الباقر إِذا دخلت الْكُوفَة فَائت مَسْجِد السهلة فصل واسأل الله حَاجَتك لدينك ودنياك فَإِن مَسْجِد السهلة بَيت إِدْرِيس عليه السلام الَّذِي كَانَ يخيط فِيهِ وَيُصلي وَمن دَعَا فِيهِ بِمَا أحب قضى الله لَهُ حَوَائِجه وأجير من مَكْرُوه الدُّنْيَا قَالَ فِي تَارِيخ الْخَمِيس وَفِي لباب التَّأْوِيل لما ولد لإدريس ابْنه متوشلخ وَمضى من عمره ثَلَاثمِائَة وَخمْس وَسِتُّونَ سنة رفع إِلَى السَّمَاء قَالَ تَعَالَى {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} مَرْيَم 57 كَانَ رَفعه إِلَى السَّمَاء الرَّابِعَة على مَا قَالَه كَعْب الْأَحْبَار وَغَيره أَنه سَار ذَات يَوْم فِي حَاجَة فَأَصَابَهُ حر الشَّمْس فَقَالَ يَا رب إِنِّي مشيت يَوْمًا فَكيف من يحملهَا على خَمْسمِائَة عَام فِي يَوْم وَاحِد اللَّهُمَّ خفف عَنهُ من حرهَا وثقلها فَأصْبح الْملك وَوجد من خفَّة الشَّمْس وحرها مَا لَا يعْهَد فَسَأَلَ الله عَن سَبَب ذَلِك فَقَالَ تَعَالَى عَبدِي إِدْرِيس سَأَلَني أَن أخفف عَنْك حملهَا وحرها وثقلها فأجبته فَقَالَ يَا رب اجْمَعْ بيني وَبَينه وَاجعَل بيني وَبَينه خلة فَأذن لَهُ حَتَّى أَتَى إِلَى إِدْرِيس فَقَالَ لَهُ اشفع لي إِلَى ملك الْمَوْت ليؤخر أَجلي فأزداد شكرا وَعبادَة فَقَالَ الْملك لَا يُؤَخر الله نفسا إِذا جَاءَ أجلهَا وَأَنا مكلمه فرفعه إِلَى السَّمَاء وَوَضعه عِنْد مطلع الشَّمْس ثمَّ أَتَى إِلَى ملك الْمَوْت فَقَالَ لَهُ لي إِلَيْك حَاجَة صديق لي من بني آدم يستشفع بِي إِلَيْك لتؤخر أَجله فَقَالَ ملك الْمَوْت لَيْسَ ذَلِك إِلَيّ وَلَكِن إِن أَحْبَبْت أعلمته بأجله فَيقدم لنَفسِهِ قَالَ نعم فَنظر فِي ديوانه فَقَالَ إِنَّك كَلَّمتنِي فِي إِنْسَان مَا أرَاهُ يَمُوت أبدا قَالَ فَكيف ذَلِك قَالَ لَا
أَجِدهُ يَمُوت إِلَّا عِنْد مطلع الشَّمْس قَالَ الْملك أَنا أَتَيْتُك وَتركته هُنَاكَ قَالَ انْطلق فَمَا أَرَاك تَجدهُ إِلَّا مَيتا فَانْطَلق الْملك فَوَجَدَهُ مَيتا وَقَالَ وهب كَانَ يرفع لإدريس كل يَوْم من الْعِبَادَة مثل مَا يرفع لجَمِيع أهل الأَرْض فَعجب مِنْهُ الْمَلَائِكَة وحبب إِلَيْهِم واشتاق ملك الْمَوْت إِلَى لقيَاهُ فاستأن ربه فَأذن لَهُ فَأَتَاهُ زَائِرًا فَقَالَ لَهُ إِدْرِيس يَا ملك الْمَوْت أذقني الْمَوْت ورد عَليّ روحي بعد ذَلِك لأجتهد فِي الْعِبَادَة فَقَالَ لَهُ لَو علمت كرب الْمَوْت لما تمنيته فَقَالَ لِأَزْدَادَ بذلك جدا إِلَى جدي فَقَالَ لَهُ ملك الْمَوْت الْمَوْت والحياة بِإِذن الله فسل رَبك مَا تريده فَأوحى الله إِلَيْهِ نوله مَا طلب وهون عَلَيْهِ ذَلِك فَإِذا بلغت روحه خياشيمه وَعَيْنَيْهِ فَلَا تنزعها واتركه سَاعَة وَاحِدَة ثمَّ أعد روحه إِلَى جسده فَاسْتقْبل نزع روحه فِي سَاعَة وَاحِدَة بِرِفْق حَتَّى بلغ بهَا خياشيمه وَعَيْنَيْهِ فَصَارَ بِمَنْزِلَة الْمَيِّت سَاعَة فذاق الْمَوْت ثمَّ أطلق روحه إِلَى جسده وَبَقِي يَوْمه وَلَيْلَته لَا يقدر أَن يَتَحَرَّك وَولده متوشلخ وَجَمِيع قومه يَبْكُونَ وَقد أيسوا مِنْهُ ثمَّ أَفَاق وَقد أوهنه ذَلِك فَلَمَّا كَانَ فِي بعض الْأَيَّام زَارَهُ ملك الْمَوْت وَكَانَت الْمَلَائِكَة من زمن آدم عليه السلام تجَالس مؤمني بني آدم وتخالطهم وتصافحهم وتكلمهم إِلَى زمن نوح لصلاح الزَّمَان وَأَهله وَذكر فِي كتاب حقيبة الْأَسْرَار وجهينة الْأَخْبَار أَن الْملك الْمُوكل بالشمس لما اسْتَأْذن ربه فِي زِيَارَة إِدْرِيس فهبط عَلَيْهِ قَالَ لإدريس يَا نَبِي الله هَبَطت لأكافئك فسلني حَاجَتك فَسَأَلَهُ أَن يعرفهُ الْفلك ودورانه ومنازل الشَّمْس وَالْقَمَر ومطالعها وَمَغَارِبهَا وسيرها ولبثها وحسابها فَقَالَ سَوف أَسْتَأْذن رَبِّي فَأمره الله أَن يُعلمهُ جَمِيع ذَلِك ويطلعه على سره فَلذَلِك كَانَ إِدْرِيس أعلم أهل الأَرْض بالنجوم وجريان الأفلاك وَوضع كتبا كتبهَا بِيَدِهِ وَهُوَ أول من اتخذ الْآلَات لجَرَيَان الأفلاك وَقدر السَّاعَات والدقائق والدرج وَمَا هُوَ أدق من ذَلِك من الثواني والثوالث وَإِلَى الْآن من كتبه لمع فِي أَيدي النَّاس ثمَّ إِن إِدْرِيس سَأَلَ ملك الشَّمْس عَن أَجله فَقَالَ لَهُ الْملك مَالِي بذلك من علم فَسَأَلَ لَهُ ملك الْمَوْت عَن أَجله إِلَى آخر مَا تقدم ذكره عَن تَارِيخ الْخَمِيس فَلَمَّا أَفَاق قَالَ لَهُ يَا ملك الْمَوْت أدخلني النَّار لِأَزْدَادَ رهبة فَفعل بِإِذن ربه
ثمَّ قَالَ أدخلني الْجنَّة فَفعل بِإِذن ربه ثمَّ قَالَ لَهُ اخْرُج لتعود إِلَى مقرك فَتعلق بشجرة وَقَالَ لَا أخرج فَبعث الله إِلَيْهِمَا ملكا حكما فَقَالَ لَهُ ملك الْمَوْت بِحَضْرَة مَالك أَلا تخرج قَالَ لَا قَالَ وَلم قَالَ لِأَن الله تَعَالَى قَالَ {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} آل عمرَان 185 وَقد ذقته وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن مِنكُمْ إِلَاّ وَارِدُهَا} مَرْيَم 71 وَقد وردتها وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا هُم مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} الْحجر 48 فلست بِخَارِج فَأوحى الله إِلَى ملك الْمَوْت بإذني دخل وبإذني لَا يخرج انْتهى فَائِدَة أَرْبَعَة من الْأَنْبِيَاء أَحيَاء اثْنَان فِي السَّمَاء إِدْرِيس وَعِيسَى عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام وَاثْنَانِ فِي الأَرْض الْخضر وإلياس على القَوْل بنبوته متوشلخ خلف أَبَاهُ إِدْرِيس بعد رَفعه سالكاً طَرِيقه وعاش سِتّمائَة وَسِتِّينَ سنة وَقد تزوج وَولد لمك وَلم يزل متوشلخ يدبر أَمر الله تَعَالَى ويستحفظ مَا استودع على منهاج آبَائِهِ يهدي إِلَيّ الْحق وَإِلَى صِرَاط مُسْتَقِيم وَنهى عَن صُحْبَة بني قابيل فخالفه من قومه جمَاعَة أضاعوا الدّين فلقي مِنْهُم تعباً عَظِيما وَلما رفع إِدْرِيس طمع إِبْلِيس فِي الْمُؤمنِينَ فأطاعوه وتأهب متوشلخ لِلْحَجِّ وتخلف عَنهُ من كَانَ فِي قلبه مرض فَلَمَّا أَخذ فِي الْمَنَاسِك أقبل إِبْلِيس إِلَى بني قابيل فَقَالَ لَهُم إِن إِدْرِيس مَاتَ ومتوشلخ لَا رجال مَعَه إِلَّا قَلِيل فَإِن أردتم أَخذ الثأر ونصرة آلِهَتكُم فَهَذَا الْيَوْم الَّذِي كنت أعدكم بِهِ فَاجْتمعُوا إِلَى ملكهم ماهيل بن جاشم فَقَالُوا أَيهَا الْملك قد علمت مَا قد أسره أَوْلَاد شِيث وَمَا اقْتُلُوهُ من آبَائِنَا وإخواننا وَكُنَّا نهابهم لمقام إِدْرِيس والآن ابْنه متوشلخ غُلَام غر لَا معرفَة لَهُ بالحروب وَهُوَ غَائِب عَن ديار بني أَبِيه فِي مَكَّة ودياره خَالِيَة فِيهَا ذراريه وَأَهله مَعَ من اسر مِنْهَا فَلَو سرت بِنَا إِلَيْهِم لأخذ الثأر واستنقذت الأسرى فاستعبدنا ذَرَارِيهمْ كَمَا فعلوا بِنَا فَسمع ماهيل كَلَامهم وأطمعته نَفسه فِيمَا قَالُوا وتأهبوا للمسير فَجَاءَهُمْ إِبْلِيس فِي صُورَة شيخ كَبِير السن فَاجْتمعُوا يسألونه كم لَهُ من الْعُمر فَزعم أَنه من ولد قابيل تفرد فِي بعض الجزائر فعظموه وسألهم فعرفوه بعزمهم فَبكى على كبر سنه وَقَالَ فَمن يتَوَلَّى الْآن على أَمر شِيث فَقَالُوا غُلَام لَا معرفَة لَهُ بِالْحَرْبِ اسْمه متوشلخ بن إِدْرِيس قَالَ سَمِعت بِهِ فَمَا فعل قَالُوا مَاتَ
يَعْنِي إِدْرِيس وَبَقِي مَعَه طَائِفَة قَليلَة وَالْبَاقُونَ مَعنا وَقد سَارُوا ليحجوا وَتركُوا من سبوا منا فِي منَازِل إِدْرِيس فَرَأَيْنَا أَن ننتهز الفرصة ونفعل بهم مَا فعلوا بِنَا قَالَ لَهُم نعم مَا رَأَيْتُمْ وَلَكِن مَا يؤمنكم إِن يسمع متلوشخ بذلك فيكر رَاجعا وَيُقَاتل عَن أهاليه الْقِتَال الشَّديد وَإِنِّي أرى لكم رَأيا إِن قبلتم نصحي فَقَالُوا لَهُ قل نسْمع قَالَ من الرَّأْي أَن تتفرقوا فرْقَتَيْن وتجعلوا أبطالكم وَمن تَتَّقُون بِهِ فِي الَّذين يَسِيرُونَ إِلَى الْحرم فيشغلون متوشلخ عَن الْمَجِيء إِلَى أَهله وتسير الْفرْقَة الْأُخْرَى لأخذ الذَّرَارِي فَلَيْسَ عِنْدهم من يمْنَع فصدقوه وانتخبوا الْأَبْطَال لمَكَّة وملكهم ماهيل فِي أوائلهم وَقدم ابْنه مخوائيل على الْفرْقَة الْأُخْرَى وَأمره بِالْمَسِيرِ إِلَى منَازِل الْمُؤمنِينَ بسبي وَيضْرب وَلَا يطلع أحدا على أمره وَسَار ماهيل إِلَى مَكَّة وَابْنه مخوائيل إِلَى الذَّرَارِي ومتوشلخ لما فرغ من مَنَاسِكه رأى فِي مَنَامه كَأَن الأَرْض صَارَت نَارا من حَولهمْ مضرمة وانه كلما أَرَادَ الْخُرُوج مِنْهَا لم يجد سَبِيلا غير أَنَّهَا لَا ضَرَر عَلَيْهِ مِنْهَا فَأخْبرهُ الْمُؤمنِينَ فَسَأَلُوهُ تَأْوِيلهَا فَقَالَ سنلقي أمرا يصدنا فِي طريقنا عَن قصدنا وتضيق الأَرْض بِنَا إِلَّا أَنِّي أَرْجُو الْفرج من الله تَعَالَى فَقَالُوا فوضنا أمرنَا إِلَى الله تَعَالَى واستعنا بِهِ فَمَا سَارُوا إِلَّا قَلِيلا حَتَّى أشرفوا على ماهيل فِي بني قابيل بِمَجْمُوع عَظِيمَة فَقَالَ متوشلخ هَذَا وَالله تَأْوِيل رُؤْيَايَ فَمَا أَنْتُم فاعلون قَالُوا لَيْسَ إِلَّا قِتَالهمْ حَتَّى يحكم الله بَيْننَا فنزلوا بإزائهم ذَلِك الْيَوْم وَبَاتُوا فَفِي الصُّبْح زحف ماهيل بِأَصْحَابِهِ إِلَى متوشلخ فضعفت أنفس الْمُؤمنِينَ فَقَالَ متوشلخ لَا تنظروا إِلَى كثرتهم وقلتكم فَإِن الله يخذلهم وينصركم فَقَالُوا إِنَّهُم جَاءُونَا على أهبة وعدة وَنحن حجاج على غير أهبة فَقَالَ اصْبِرُوا وَاعْلَمُوا أَن الله لم يزل ناصركم وناصر آبائكم بذلك وَعدكُم وَهُوَ لَا يخلف الميعاد وابتدرهم بَنو قابيل بِالْقِتَالِ فاقتتلا قتالاً شَدِيدا إِلَى اللَّيْل فحال الظلام بَينهم وَقتل من أَوْلَاد قابيل عَالم كثير وَلم يتقل من أَصْحَاب متوشلخ غير رجل وَاحِد فَقَالَ متوشلخ ألم أخْبركُم أَن الله ناصركم وَألقى الله فِي قلب ماهيل وَقَومه الرعب وَقَالَ بَعضهم لبَعض قد علمْتُم مَا كَانَ منا بالْأَمْس مَعَ هَذِه الشرذمة القليلة الْعدَد وَالْعدَد ونخاف إِن شب الْحَرْب بَيْننَا أَن تكون علينا الدائرة فيفنونا وَإِن انهزمنا كَانَ عاراً علينا ويلحقون بإخواننا فِي دِيَارهمْ فينالون مِنْهُم مُرَادهم فَقَالَ ماهيل
لَيْسَ لنا إِلَّا الْقِتَال إِلَى أَن نعلم أَن إِخْوَاننَا وصلوا إِلَى مطلوبهم وَكَانَ شيعمة ملك الْجِنّ الْمُؤمن حج تِلْكَ السّنة مَعَ متوشلخ وَطَائِفَة من الْجِنّ الْمُؤمنِينَ فَلَمَّا كَانَ صباح ذَلِك الْيَوْم إِذا هم بِابْن أخي شيعمة واسْمه سهلب جَاءَهُ صَارِخًا وَأخْبرهمْ بِمَا جرى من مخوائيل بن ماهيل على الذَّرَارِي والأهل وَأَنه تَركهم فِي أضيق حَال فَلَمَّا سَمعه شيعمة صَاح صَيْحَة عَظِيمَة فِي بنيه وَقَومه وَمن مَعَه فَاجْتمعُوا إِلَيْهِ فَقَالَ يَا وَيحكم أعينوني وأعينوا أصحابكم ثمَّ سَار فِي قومه إِلَى منَازِل الْمُؤمنِينَ مغيثاً فَلَمَّا رَآهُ إِبْلِيس خافه وانزوى عَنهُ وَأما متوشلخ فَإِنَّهُ لما أعلمهُ شيعمة بِمَا جرى على قومه بَكَى بكاء شَدِيدا وضج بِالدُّعَاءِ إِلَى الله سبحانه وتعالى مَعَ الْمُؤمنِينَ وَقَالَ إِن الدُّعَاء خير نَافِع وَقد حيل بَيْننَا وَبَين قَومنَا وَلم يبْق لنا غير الدُّعَاء إِلَى الله تَعَالَى فَقَالَ متوشلخ نعم مَا رَأَيْتُمْ وأشرتم ثمَّ جمع قومه وتوسل إِلَى الله تَعَالَى بِمُحَمد
وساعدهم سَائِر الْمَخْلُوقَات وَالْمَلَائِكَة وَالسَّمَوَات كل يسْأَل فِي هَلَاك أعدائهم بني قابيل فهبط جِبْرِيل فِي مَلأ من الْمَلَائِكَة فِي أَيْديهم الحراب وَقد أحط أَصْحَاب ماهيل بذراري الْمُؤمنِينَ وإبليس يَقُول لَا مَانع لَهُم سوى شيعمة وَنحن لَهُ فَلَمَّا رأى إِبْلِيس الْمَلَائِكَة هرب ولحقه بعده جنده فَأمر جِبْرِيل بقتل من لحقوه مِنْهُم فصاح جِبْرِيل فيهم صَيْحَة عَظِيمَة وَقَعُوا على وُجُوههم مِنْهَا صعقين فَمَاتَ مِنْهُم الثُّلُث ومسخ الله الثُّلُث الثَّانِي فيلة فَهُوَ أول مسخ وَقع فِي بني آدم وَالثلث الثَّالِث صعقوا فَلَمَّا أفاقوا نظرُوا إِلَى الفيلة ففزعوا وَلم يَكُونُوا رأوها قبل ذَلِك فَوَلوا منهزمين إِلَى دِيَارهمْ فاتبعتهم الفيلة حسداً لَهُم إِذْ مسخوا دونهم فقتلت أَكثر من بَقِي مِنْهُم وَرجع الْبَاقُونَ إِلَى مَنَازِلهمْ فَلَمَّا رَآهُمْ الَّذين تخلفوا مِنْهُم ارتاعوا وَلم يعلمُوا كَيفَ الْخَبَر فَاقْتَحَمت عَلَيْهِم الفيلة الْبيُوت وَكسرت كل مَا مرت بِهِ فظنهم المقيمون فِي الديار وحوشا فمانعوهم عَن الدُّخُول فحميت صُدُور الفيلة فَكَانَ الْفِيل يقتل وَلَده وأخاه وَزَوجته وأباه ويعلوهم بِرجلِهِ وَيَأْخُذ الْوَاحِد مِنْهُم بمشفره
فيرفعه إِلَى الْهَوَاء ثمَّ يلقيه إِلَى الأَرْض وَلم يزَالُوا كَذَلِك أَيَّامًا حَتَّى وصل إِلَيْهِم من كَانُوا شاهدوا مسخهم فأعلموهم الْخَبَر وَقَالُوا نَحن بَقِيَّة الثُّلُث الثَّالِث الَّذين نَجوا من الْمَوْت وَالْمَسْخ وأكثرنا هلك جوعا وعطشاً فصدقوهم وَقصد كل فيل منزله وَاجْتمعَ أَهله حوله يَبْكُونَ والفيلة تضرب الأَرْض بأنفسها وَأما ماهيل فَإِنَّهُ قلق قلقاً عَظِيما وَطَالَ عَلَيْهِ مصابرته لمتوشلخ ليمسكه عَن اللحاق بقَوْمه وَأرْسل رجلا ليَأْتِيه بِخَبَر ابْنه مخوائيل الَّذِي أرْسلهُ لذراري الْمُؤمنِينَ فِي مَنَازِلهمْ ومتوشلخ لَا يعلم بِمَا جرى وَأرْسل إِلَيْهِ أَوْلَاد شيعمة بِمَا حل بمخوائيل بن ماهيل فَلَمَّا جَاءَهُ البشير كبر الْمُؤْمِنُونَ تَكْبِيرَة وَاحِدَة ارتاع مِنْهَا ماهيل وَمن مَعَه وَلم يعلمُوا مَا الْخَبَر فَجَاءَهُ الرَّسُول وَأخْبرهُ بالمسخ والهلاك وانقلاب البَاقِينَ إِلَى الديار بعد أَن مَاتَ أَكْثَرهم جوعا وعطشاً فخافوا أَن يحل بهم مثل ذَلِك فَوَلوا على أَعْقَابهم هاربين فَتَبِعهُمْ متوشلخ وَقتل مِنْهُم خلقا كثيرا وَأخذ أَمْوَالهم وسلاحهم وتقطعوا فِي الأَرْض فهلكوا وَوصل أقلهم إِلَى أَهْليهمْ فلقيتهم الفيلة فأنكروها وَقَالُوا كَيفَ يكونُونَ إِخْوَاننَا وَمَا هم إِلَّا من وَحش الْبر جَاءُوا يُرِيدُونَ دِيَارنَا لما غبنا عَنْهُم ثمَّ ناوشوهم الْحَرْب والفيلة تخضع لَهُم لَعَلَّهُم يراجعون بصائرهم ويعرفون أَنهم مِنْهُم فَأَبَوا إِلَّا هلاكهم فَلَمَّا رَأَتْ الفيلة ذَلِك تضافروا عَلَيْهِم فَقتلُوا أَكْثَرهم وَأَقَامُوا ثَلَاثَة أَيَّام يقتتلون قد سلط الله بَعضهم على بعض وَلَا يقتل فيل وَاحِد حَتَّى يقتل جمَاعَة مِنْهُم حَتَّى تفانوا وَقتلت الفيلة عَن آخرهَا وَلما هَلَكُوا فَرح إِبْلِيس بذلك وَبلغ مِنْهُم مُرَاده وَلم يَجْسُر أَن يتَعَرَّض للْمُؤْمِنين خوفًا أَن تحل بِهِ نقمة من الله وَلم يكن بعد ذَلِك بَينهم قتال وَلَا حَرْب إِلَى أَن جَاءَ الطوفان فأهلكهم الله بكفرهم وَرجع متوشلخ بِمن مَعَه من الْمُؤمنِينَ إِلَى دِيَارهمْ سَالِمين منصورين فَرَأَوْا أَهَالِيهمْ على حَال السَّلامَة فانعزل بِمن مَعَه من الْمُؤمنِينَ إِلَى دِيَارهمْ سَالِمين منصورين إِلَى جبل يُقَال لَهُ راسخ وَكَانَ جبلا حصيناً كثير الشّجر والخيرات فاتخذوه مسكنا وَتركُوا المدن الَّتِي كَانُوا فِيهَا وأعرضوا عَن التَّعَرُّض لمن بَقِي من ولد قابيل وانبث ولد قابيل فِي الأَرْض وانتشروا إِلَى الْبَحْر مِمَّا يَلِي الشمَال والجنوب وعبدوا الْأَصْنَام ونكحوا الْأُمَّهَات وَالْأَخَوَات وَالْبَنَات وإبليس يعدهم ويمنيهم وَمَا
يعدهم الشَّيْطَان إِلَّا غرُورًا وَلم تزل هَذِه أفعالهم إِلَى زمن نوح عليه السلام وَلما استوطن متوشلخ الْجَبَل أنفذ وَصِيَّة أَبِيه إِدْرِيس وخطب شلجم بنت جندل وَكَانَت من أَوْلَاد شِيث وَكَانَت أجمل النِّسَاء وأكملهن عقلا وفضلاً فَدخل عَلَيْهَا واعملها بِالنورِ المحمدي وَأقَام مَعهَا مُدَّة وَولد لَهُ أَوْلَاد كَثِيرَة والنور لم ينْقل من وَجهه فَتزَوج بعْدهَا صَدُوقًا أُخْتهَا فَلم ينْتَقل النُّور إِلَيْهَا وَلم يزل يتَزَوَّج امْرَأَة بعد أُخْرَى إِلَى خمس عشرَة امْرَأَة مَا مِنْهُنَّ إِلَّا ويرزق أَوْلَادًا مِنْهَا فأسمك عَن التَّزْوِيج لينْظر مَا يكون وَكَانَ لَهُ ابْن عَم قد قتل قتال فِي إِدْرِيس لبني قابيل وَله ابْنه صَبِيه رباهها إِدْرِيس وَعلمهَا الْكتب وكتبتها وكفلها بعد إِدْرِيس متوشلخ وَاسْمهَا شملة فرأته وَمَا هم عَلَيْهِ من الْهم لأجل حبس النُّور فَسَأَلته فأعلمها فَقَالَت يَا ابْن الْعم إِذا أَرَادَ الله نقل النُّور عَنْك اخْتَار لَهُ من بَنَات عمك فَلَا تغتم فَألْقى الله فِي قلبه أَنَّهَا هِيَ فَقَالَ لَهَا يَا شملة هَل لَك أَن تَكُونِي أَنْت الَّتِي أرجوها لهَذَا النُّور فخجلت وَوَلَّتْ مستحية فأحضر جمَاعَة من وُجُوه قومه وخطبها وَتَزَوجهَا فَحملت مِنْهُ من أول لَيْلَة وأصبحت والنور فِي غرتها فَسجدَ لله شكرا وبشرها بذلك فَفَرِحت وتممت أشهرها فَولدت غُلَاما والنور فِي جَبهته فَسَماهُ لمك ورباه أحسن تربية وَعلمه الْكِتَابَة والصحف وَبَانَتْ عَلَيْهِ دَلَائِل السؤدد حَتَّى إِذا بلغ من الْعُمر أَرْبَعِينَ سنة حضرت متوشلخ الْمنية خَمْسمِائَة سنة إِلَّا اثْنَي عشر فأقعده بَين يَدَيْهِ وأوصاه بِوَصِيَّة أَبِيه وعهد إِلَيْهِ فِي النُّور وَأخذ عَلَيْهِ الْمِيثَاق إِلَّا يعضه إِلَّا فِي أطهر النِّسَاء من بني أَبِيه وأعمامه فَأخذ ذَلِك لمك بِالْقبُولِ وَضمن ذَلِك لَهُ من نَفسه وَمَات متوشلخ فسلك بِهِ لمك مَسْلَك آبَائِهِ وأجداده فِي التغسيل والتكفين وَالصَّلَاة عَلَيْهِ وَدَفنه سنة من تقدم آبَائِهِ عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ فِي بَحر الْأَنْسَاب لمك بلام مَفْتُوحَة وَمِيم سَاكِنة وكاف وَقيل اسْمه لامك وَكَانَ رجلا أشقر قد أعْطى قُوَّة وبطشاً فَتزَوج امْرَأَة يُقَال لَهَا فيسوس بنت بركائيل وَقيل إِنَّه خرج يَوْمًا إِلَى الْبَريَّة فَإِذا بِامْرَأَة فِي نِهَايَة الْجمال ترعى غنما فَسَأَلَهَا عَن اسْمهَا فَقَالَت أَنا فيسوس بنت الحيد بن عتويل بن لامك بن قابيل بن آدم عليه السلام فَقَالَ لَهَا كم سنك فَقَالَت مائَة سنة وَعشر سِنِين وَكَانَت تبلغ الْمَرْأَة مِائَتي سنة فَمضى إِلَى أَبِيهَا وَتزَوج بهَا وَلما تمت أشهرها
وضعت غُلَاما والنور فِي جَبهته فَسَماهُ نوحًا وَفَرح بِهِ فَرحا شَدِيدا وَكَانَ لمك يضْرب بِيَدِهِ إِلَى أعظم شَجَرَة فيقلعها من أَصْلهَا وَأَقْبل بعد دفن أَبِيه متوشلخ على درس الصُّحُف وَالْعَمَل بِمَا فِيهَا وَوعظ قومه وهم أقل من مائَة واحتاجوا إِلَى أَوْلَاد قابيل وَكَانَ الرجل مِنْهُم ينزل إِلَى أَوْلَاد أَبِيه فيعطفون عَلَيْهِ ويأمرونه بِالدُّخُولِ فِي دينهم وَالنُّزُول من الْجَبَل فيأبى الْمُؤْمِنُونَ وَيَقُولُونَ إِن كُنْتُم ترعون الرَّحِم بَيْننَا فافعلوا وَلَا تردونا عَن دين آبَائِنَا ولمك ينهاهم عَن ذَلِك فَيَقُولُونَ إِنَّا جِيَاع فَيَقُول لَو لم تخضعوا لهَؤُلَاء الْمُرْتَدين مِنْكُم لرزقكم الله كم يرْزق الطير فَاصْبِرُوا تؤجروا وَلما ولد نوح عليه السلام رأى إِبْلِيس لَيْلَة وِلَادَته الْمَلَائِكَة نزلت من السَّمَاء ودارت بِالْجَبَلِ فَعلم أَن نور رَسُول الله
انْتقل فَسَأَلَ فَقيل إِن لمك رزق ولدا والنور انْتقل إِلَيْهِ فطمع أَن يصل إِلَيْهِ فَلم يقدر فَجعل يعْطف على كل من ارْتَدَّ من ولد أَبِيه وَبني قابيل كيداً مِنْهُ وَكَانَ بَنو قابيل قد أنسوا من الْجَبَل حَتَّى لم يبْق بَيت من الْمُؤمنِينَ بِهِ إِلَّا دخله بَنو قابيل وَكلما عرضوا على لمك النُّزُول إِلَى مَنَازِلهمْ أبي وَنَفر خوفًا على ابْنه نوح وَكَانَ يخفيه عَنْهُم وَلَا يظهره وَأدْخلهُ إِلَى مغارة فِي الْجَبَل وَأمه مَعَه والصحف الَّتِي لِآبَائِهِ عِنْدهَا احتفاظاً بهَا واحترازاً على مَا فِيهَا من إِبْلِيس وَبني قابيل وَعلمه أَبوهُ لمك جَمِيع مَا علمه أَبوهُ متوشلخ وأوصاه بِوَصِيَّة آبَائِهِ وَأخذ عَلَيْهِ الْعهْدَة والميثاق كَمَا أَخذه عَلَيْهِ أَبوهُ واجتهد نوح فِي الْعِبَادَة فِي تِلْكَ المغارة وَلَا يتْركهُ أَبوهُ يخرج مِنْهَا وَلَا أحدا يدْخل عَلَيْهِ فَلَمَّا بلغ من الْعُمر خمْسا وَثَلَاثِينَ سنة مرض أَبوهُ لمك فَلَمَّا أحس بِالْمَوْتِ جدد الْوَصِيَّة وحذره إِبْلِيس وَبني قابيل وَسلمهُ الِاسْم الْأَعْظَم والتابوت ومواريث الْأَنْبِيَاء وَمَات وعمره تِسْعمائَة وتسع وَسَبْعُونَ سنة وَفِي مروج الذَّهَب تِسْعمائَة وَاثْنَانِ وَثَلَاثُونَ سنة فَقَامَ بِالْأَمر بعده نوح عليه الصلاة والسلام وَهُوَ أول أولي الْعَزْم وَشَيخ الْمُرْسلين وَالْأَب الثَّانِي وَصَاحب الْفلك وآدَم الثَّانِي لِأَنَّهُ لَا عقب إِلَّا مِنْهُ وَله إخْوَة درجوا جَمِيعًا والعقب من نوح وَحده
ولد عليه السلام بعد موت آدم فِي الْألف الأولى وَبعث فِي الْألف الثَّانِيَة وَهُوَ ابْن أَرْبَعمِائَة سنة ولبث فِي قومه {أَلْفَ سَنَةٍ إِلَاّ خَمْسِينَ عَاماً} كَمَا فِي الْآيَة الشَّرِيفَة العنكبوت 14 واسْمه قبل عبد الْأَعْلَى وَإِنَّمَا سمي نوحًا لِأَنَّهُ بَكَى على قومه خَمْسمِائَة عَام وَفِي رِوَايَة اسْمه عبد الْملك وَفِي أُخْرَى عبد الْغفار وَفِي أُخْرَى عبد الْجَبَّار وَهُوَ أول نَبِي بعد إِدْرِيس وَكَانَ نجاراً ألهمه الله ذَلِك فَعمل أبواباً لِأَنَّهُ خَافَ على الصُّحُف من بني قابيل فَعمل بَابا على المغارة الَّتِي هِيَ فِيهَا وأوثقه وقفل عَلَيْهِ احتفاظاً بهَا وَكَانَ لَا يَأْخُذ على النجارة أجرا وَكَانَ بَنو قابيل يعْرفُونَ مَحَله ويعظمونه وَإِذا أَرَادَ أحد مِنْهُم الْجُلُوس عِنْده انتهره وَإِذا جلس إِلَيْهِ أحد من قومه الْمُرْتَدين وعظه وَكَانَ مَعْرُوفا بَينهم وَعَن وهب إِن نوحًا كَانَ إِلَى الأدمة مَا هُوَ دَقِيق الْوَجْه رَأسه طَوِيل عَظِيم الْعَينَيْنِ دَقِيق السَّاقَيْن كثير لحم الفخذين ضخم السُّرَّة طَوِيل اللِّحْيَة عريضاً طَويلا جسيماً فَبَعثه الله وَهُوَ ابْن أَرْبَعمِائَة سنة وَخمسين سنة فَلبث فيهم الْمدَّة الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن يَدعُوهُم إِلَى الله تَعَالَى فَلَا يزدادون إِلَّا طغياناً وَمضى ثَلَاثَة قُرُون من قومه فَكَانَ الرجل يَأْتِي بِابْنِهِ وَهُوَ صَغِير فيوقفه على رَأس نوح عليه السلام وَيَقُول لَهُ يَا بني إِن بقيت بعدِي فَلَا تُطِع هَذَا ثمَّ لما دعاهم سرا فَلم يُجِيبُوهُ أيده الله بِروح الْقُدس وَأمره بِإِظْهَار الدعْوَة وَالْملك يَوْمئِذٍ فِي بني راسب وَأهل مَمْلَكَته وعوج بن عنق وَقيل كَانَ لَهُم ملك يُقَال لَهُ درمسيل بن عوبيل بن لامك بن جنح بن قابيل وَكَانَ جباراً عاتياً يعبد هُوَ وَقَومه الْأَصْنَام قوم إِدْرِيس الْخَمْسَة ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ثمَّ كَثُرُوا حَتَّى صَار لَهُم ألف صنم وَسَبْعمائة صنم فَدَعَاهُمْ نوح عَلَانيَة فَلم يُجِيبُوهُ فَلم يزل يَدعُوهُم تِسْعمائَة سنة وَخمسين كلما مر مِنْهُم قرن اتبعهُ قرن على مَذْهَب آبَائِهِم وآمن بِهِ بعض ولد شِيث فَقَالُوا لَهُ أنؤمن لَك واتبعك الأرذلون يُعَيِّرُونَهُ بقلة الْأَمْوَال وَأَنَّهُمْ لَا عز لَهُم وَلَا سُلْطَان ثمَّ إِنَّه نزل إِلَى بني قابيل من الْجَبَل فِي يَوْم عيد لَهُم وهم عكوف على أصنامهم فَوقف على نشز عَال من الأَرْض يشرف عَلَيْهِم وَوضع إصبعه فِي أُذُنَيْهِ وَرفع صَوته
وَكَانَ جَهورِي الصَّوْت فَقَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَلَا معبود سواهُ {اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُم مِن ذُنُوبِكُمْ} الْآيَة نوح 3 4 يَا قوم إِنِّي مُرْسل إِلَيْكُم فَإِن اسْتَقَمْتُمْ استقام أَمركُم وَإِن أعرضتم أَتَاكُم وعيده حَتَّى لم يبْق أحد مِنْكُم على وَجه الأَرْض ويدخلنكم النَّار وَبئسَ الْمصير وَمَا قلت لكم هَذَا إِلَّا بِأَمْر رَبِّي فَإِن تقبلُوا ترشدوا وَإِن تَتَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَاف عَلَيْكُم عَذَاب يَوْم عَظِيم فَوَقَعت الْأَصْنَام على وجوهها فَآمن كل من كَانَ مُؤمنا على عهد أَبِيه لمك وَقيل أول من آمن امْرَأَة اسْمهَا عَمُود فَتَزَوجهَا وأولدها ساماً وياماً وحاماً ثمَّ امْرَأَة من قومه اسْمهَا وَاهِلَة فأولدها يافث وكنعان ثمَّ ارْتَدَّت وعادت إِلَى دينهَا الأول وَلما رَأَوْا مَا حل بالأصنام وَثبُوا إِلَيْهِ وَقَالُوا إِنَّا لنراك فِي ضلال مُبين أما رضيت بالمشاركة حَتَّى تَدعِي أَنَّك رَسُول الله إِلَيْنَا وَنحن نعلم أَنَّك فِي الطَّرِيقَة الْمَحْمُود مُنْذُ كنت صَغِيرا وَقد اعتراك جُنُون {إِنْ هُوَ إِلَاّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} الْآيَات الْمُؤْمِنُونَ 25 فسبوه وهموا بِهِ فَمنع دونه الْمُؤْمِنُونَ وَأخذت الحمية أَقَاربه فِي النّسَب فخاف الرؤساء أَن تقع بَينهم فتْنَة فَتَرَكُوهُ فَأوحى الله إِلَيْهِ أَن اصبر عَلَيْهِم فَرجع نوح إِلَى مَوْضِعه وَبَقِي قومه الَّذين ارْتَدُّوا يَقُولُونَ مَا نَعْرِف نوحًا مُنْذُ نَشأ إِلَّا صَادِقا وَإِنَّا نظن أَن الَّذِي جَاءَ بِهِ حق فسحبهم بَنو قابيل على وُجُوههم وأعلموا الدرمسيل وَهُوَ ملكهم بِمَا قَالُوهُ فَقَالَ إِن نوحًا من أشرف قومه حسباً وَأكْرمهمْ أما وَأَبا وَقَومه وَإِن دخلُوا فِي دينكُمْ لَا يرضون بأذيته وأخاف أَن تتفرق كلمتكم وَيَقَع بأسكم بَيْنكُم ونوح لَا خوف عَلَيْكُم مِنْهُ فَاصْبِرُوا عَلَيْهِ وداروا أَهله فَأَجَابُوهُ بِالسَّمْعِ وَالطَّاعَة وَكَانَت شَرِيعَته التَّوْحِيد وخلع الأنداد والفطرة وَالصَّلَاة وَصِيَام شهر رَمَضَان وَالْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر فَأرْسل إِلَيْهِ الْملك رجلا اسْمه العملس وَكَانَ فصيحاً فَاضلا فِي جمَاعَة من الرؤساء فَقَالَ لَهُ يَا نوح أَنا رَسُول وناصح لَك أَلا تتعرض إِلَى سبّ آلِهَتهم وتسفيه أحلامهم فقد صَبَرُوا عَلَيْك وحملوك على الْجُنُون وَقد أغريب الضُّعَفَاء وآباؤك كَانُوا أقوى مِنْك بَأْسا وَكَانُوا يعدونهم الْعَذَاب فَمَا أَصَابَهُم شَيْء وماتوا أعزاء فاتركهم وَأَنت وَدينك فَقَالَ لَهُ نوح أما قَوْمك الَّذين مَاتُوا وَلم يصبهم شَيْء فَإِنِّي لم أدركهم (إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَاّ
عَلَى رَبّي} الشُّعَرَاء 113 وَأما الَّذين معي ف {مَا أَنَاْ بِطَارِدِ المُؤْمِنِينَ} الْآيَة الشُّعَرَاء 114 فَقَالَ لَهُ يَا نوح إِن كنت قلت هَذَا لفقرك فنجمع لَك مَالا ونقدمك علينا فَقَالَ {وَمَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا على رب الْعَالمين} الشُّعَرَاء 109 فَقَالُوا {لَئِن لم تَنْتَهِ يَا نوح لَتكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} الشُّعَرَاء 116 فَقَالَ توكلت على الله رَبِّي وربكم وَلست براجع عَمَّا دعوتكم إِلَيْهِ لَيْلًا وَنَهَارًا سرا وجهاراً حَتَّى يحكم الله بيني وَبَيْنكُم وَهُوَ خير الْحَاكِمين ثمَّ تَركهم وَانْصَرف ثمَّ عَاد إِلَيْهِم بعد مُدَّة فِي عيد آخر ووقف على نشز عَال وَفعل بهم مثل الأول فَقَالُوا {يَا نوح قد جادلتنا فَأَكْثَرت جدالنا} الْآيَة إِلَى {الصَّادِقين} هود 32 وَإِن أَبيت قتلناك وَمَا زَالَ يَدعُوهُم فيكذبونه ويضربونه إِلَى إِن مَاتَ الجيل الأول وَنَشَأ أبناؤهم على ذَلِك وانقرض الجيل الثَّانِي وَجَاء الجيل الثَّالِث ونوح يعْذر وينذر فَلَمَّا طَال الْأَمر قَالُوا يَا نوح أما لميعادك من آخر وَجَاء رجل مِنْهُم وَابْنه على عَاتِقه فَقَالَ لِابْنِهِ إِن عِشْت بعدِي فَلَا تسمع من هَذَا الْمَجْنُون فَقَالَ الصَّبِي أنزلني عَن عاتقك فأنزله فَأخذ الصَّبِي حجرا وَضرب بِهِ رَأس نوح عليه السلام فَشَجَّهُ وسال دَمه فَصَبر واحتسب وَكَانُوا يعْجبُونَ من شدَّة صبره وَفِي بعض الْأَيَّام ضربوه وداسوا بَطْنه فَلَمَّا أَفَاق لم يقدر على النهوض فَشَكا إِلَى ربه فَأوحى إِلَيْهِ أَن يَدْعُو عَلَيْهِم بعد أَن ضربوه أوجع ضرب وخنقوه حَتَّى غشي عَلَيْهِ وتركوه كالميت فَقَالَ اللَّهُمَّ أَنْت الْعَالم بِمَا يفعل بِي عِبَادك اللَّهُمَّ اهدهم وصبرني عَلَيْهِم فَأوحى الله إِلَيْهِ إِنَّه لم يبْق فِي أصلاب الرِّجَال مُؤمن وَلَا مُؤمنَة وَإنَّهُ لن يُؤمن من قَوْمك إِلَّا من قد آمن فَلَا تبتئس بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ أَي لَا تحزن عَلَيْهِم فَقَالَ إِنَّمَا كنت أَصْبِر طَمَعا فِي إِيمَانهم فَإِذا كَانَ سبق القَوْل بِأَنَّهُم لن يُؤمنُوا رب لَا تذر على الأَرْض من الْكَافرين ديارًا فَلَمَّا سمع قومه دعاءه خَافُوا إِجَابَة الدعْوَة وَقَالُوا تدعوا علينا وَأَنت بَين أظهرنَا إِذا كَانَ هَذَا مِنْك فَاخْرُج عَنَّا وَلَا تجاورنا لَا أَنْت وَلَا من مَعَك فَقَالَ إِن آمنتم بِاللَّه سَأَلته الرِّضَا عَنْكُم وَالْعَفو عَمَّا سلف وَإِن أَبَيْتُم لَيْسَ لكم عِنْدِي إِلَّا الدُّعَاء فضربوه حَتَّى كسروا رجله الْيُمْنَى وضربوا الَّذين مَعَه حَتَّى وَقَعُوا كالموتى مصرعين وجروا بأرجلهم وَلم يزَالُوا ثَلَاثَة أَيَّام لَا يَسْتَطِيعُونَ حَرَكَة
وَفِي ربيع الْأَبْرَار للزمخشري روى الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس كَانَ نوح يضْرب فِي قومه ثمَّ يلف فِي الْبَلَد ثمَّ يلقِي فِي بَيته فيرون أَنه مَاتَ فَيخرج فيدعوهم إِلَى الله فَلَمَّا قَامَ نوح قَالَ إِنَّه قد أوحى إِلَيّ أَنه ينزل بكم الْقَحْط ويعقم نِسَاؤُكُمْ وَقد أجل الله لكم أَََجَلًا لَا يزِيد وَلَا ينقص وَإنَّهُ بعد أَرْبَعِينَ سنة من يومكم هَذَا يأتيكم الطوفان مَاء يغرقكم ويغرق الأَرْض كلهَا حَتَّى لَا يبْقى مِنْكُم أحدا فَلَا تلوموا إِلَّا أَنفسكُم فَقَالُوا قد سمعنَا هَذَا مِنْك من قديم الزَّمَان وزدت الْيَوْم زِيَادَة مَا سَمعهَا مِنْك آبَاؤُنَا وَهِي ضربك أَََجَلًا أَرْبَعِينَ سنة فَإِن آمنا بك وأطعنا وَإِلَّا جَاءَنَا طوفان مَاء من السَّمَاء فأغرقنا وَجَمِيع من فِي الأَرْض إِلَّا من آمن بك وَإِنَّا ننتظرك إِلَى هَذَا الْأَجَل فَإِذا تمت أَرْبَعُونَ سنة وَلم نر شَيْئا حل لنا قَتلك فَانْصَرف عَنْهُم فَأمره الله أَن يغْرس شَجَرَة فغرسها فعظمت وَذَهَبت كل مَذْهَب ثمَّ أمره أَن يقطعهَا بعد مَا غرسها بِأَرْبَعِينَ سنة فيتخذ مِنْهَا سفينة روى الشَّيْخ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن سعيد بِإِسْنَادِهِ أَنه غرس الساج وَعَن ابْن عَبَّاس قَالَت الحواريون لعيسى بن مَرْيَم لَو أَحييت لنا رجلا شهد السَّفِينَة فحدثنا عَنْهَا فَأتى كثيباً من تُرَاب فَأخذ كفا مِنْهُ وَقَالَ هَذَا قبر حام ابْن نوح عليه السلام فَضرب الْكَثِيب بعصاه وَقَالَ قُم بِإِذن الله فَإِذا هُوَ قَائِم ينفض التُّرَاب عَنهُ رَأسه وَقد شَاب فَقَالَ لَهُ عِيسَى عليه السلام هَكَذَا هَلَكت قَالَ لَا مت وَأَنا شَاب ولكنني ظَنَنْت أَنَّهَا السَّاعَة فشبت قَالَ حَدثنَا عَن السَّفِينَة فَقَالَ كَانَ طولهَا ألف ذِرَاع ومائتي ذِرَاع وعرضها سِتّمائَة ذِرَاع وَكَانَت ثَلَاث طَبَقَات طبقَة فِيهَا الدَّوَابّ والوحوش وطبقة فِيهَا الْإِنْس وطبقة فِيهَا الطير وَعلمه جِبْرِيل كَيفَ يديرها وَجعل يقطع الْخشب وَيضْرب الْحَدِيد ويهيئ مُدَّة الْفلك من القار وَغَيره وَأمره أَن يطليها بالقار من داخلها وخارجها وَتمّ عَملهَا فِي سنتَيْن وشاركه فِي عَملهَا سَام وَحَام وَيَافث ويام وَكَانَ كلما عمل شَيْئا أفْسدهُ قومه لَيْلًا فَدَعَا عَلَيْهِم فَابْتَلَاهُمْ الله بالعشا فَكَانُوا لَا يرَوْنَ شَيْئا
وَفِي تَارِيخ الْخَمِيس وحياة الْحَيَوَان قَالَ نوح يَا رب أَمرتنِي أَن أصنع الْفلك ولي أَيَّام فِي صناعتها كل مَا صَنعته بِالنَّهَارِ يُفْسِدهُ قومِي بِاللَّيْلِ فَأوحى الله إِلَيْهِ يَا نوح خُذ كَلْبا يحرسها بِاللَّيْلِ وَفِي الْكَشَّاف لما كَانَ نوح يقطع الْخشب وَيضْرب الْحَدِيد ويهيئ مَا يحْتَاج إِلَيْهِ الْفلك من القير وَغَيره جعل قومه يَمرونَ عَلَيْهِ فِي عمله وَيَقُولُونَ يَا نوح صرت نجاراً بعد النُّبُوَّة وَكَانُوا يأْتونَ لَيْلًا لما يعمله نَهَارا فيفسدونه فيسخرون مِنْهُ وَيَقُولُونَ تتَّخذ بَيْتا تسير بِهِ على المَاء فَأَيْنَ المَاء الَّذِي يحمل هَذَا الْبَيْت لقد خرف نوح فَيَقُول {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} الْآيَة هود 38 وَلم يزل هَذَا دأبه حَتَّى فرغ فَجَاءَت على شكل لم ير مثله وَقَومه يخرجُون إِلَيْهَا أَفْوَاجًا أَفْوَاجًا يتعجبون ثمَّ أوحى الله إِلَيْهِ عِنْدَمَا بَقِي من الْأَرْبَعين السّنة سَبْعَة أَيَّام أَن يُنَادي بالسُّرْيَانيَّة أَن يجْتَمع إِلَيْهِ جَمِيع الْحَيَوَان فَلم يبْق حَيَوَان إِلَّا حضر مَا خلا الفأر والسنور فَإِنَّهُمَا لم يخلقا بعد وَإِنَّمَا خلقا فِي السَّفِينَة كَمَا يذكر على الْأَثر فَحمل فِيهَا من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ فَلَمَّا شكا إِلَيْهِ أهل السَّفِينَة سرقين الدَّوَابّ بعد أَن ركبُوا فِيهَا مسح جبين الْخِنْزِير فعطس فَسقط من أَنفه زوج فأر فَأتى على السرقين ثمَّ شكوا إِلَيْهِ أَذَى الفأر فَمسح بَين عَيْني الْأسد فعطس فَسقط من أَنفه زوج فأر فَأتى على السرقين ثمَّ شكوا إِلَيْهِ أَذَى الفأر فَمسح بَين عَيْني الْأسد فعطس فَسقط من أَنفه زوج سنور فاختفى الفأر وَفِي تَفْسِير الْهَرَوِيّ أَنه لم يحمل الْحَيَّة وَالْعَقْرَب حَتَّى ضمنا أَنَّهُمَا لن يضرا أحدا ذكر نوحًا عليه السلام فَمن قَرَأَ {سَلام على نوح فِي الْعَالمين} الصافات 79 عِنْد خوف ضررهما لن يضراه وَلم يحمل نوح عليه السلام إِلَّا مَا يتوالد ويبيض أما مَا يتَوَلَّد من الطين من الحشرات كالبق والبعوض وَمَا يتَوَلَّد من العفونات كالدود والذباب فَلم يحمل مِنْهَا شَيْئا وَأمر الله الرِّيَاح الْأَرْبَع أَن تحْشر إِلَى نوح جَمِيع مَا يحمل فِي السَّفِينَة فَأَقْبَلت الْمَخْلُوقَات أَفْوَاجًا أَفْوَاجًا حَتَّى وقفت على أَمَام الْفلك فَقَالَ قومه هَذِه زِيَادَة فِي السحر وَجعل يضْرب بِيَدِهِ على الزَّوْجَيْنِ فَتَقَع يمناه على الذّكر ويسراه على الْأُنْثَى
حَتَّى أكمل الْعدَد وَانْصَرف الْبَاقُونَ فِي اللَّيْل هَذَا فِي أول يَوْم من السَّبْعَة الْأَيَّام الْبَاقِيَة من الْأَرْبَعين سنة الْمَوْعُود بِالْعَذَابِ بعد مضيها وَفِي الْيَوْم الثَّانِي حشرت إِلَيْهِ الوحوش فَأخذ من كل زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ كالحيوانات فِي الْيَوْم الأول وَقَومه ينظرُونَ ويتعجبون من تزاحم الوحوش عَلَيْهِ إِلَى آخر النَّهَار وَفِي الْيَوْم الثَّالِث أَتَت الْبَهَائِم وَفِي الْيَوْم الرَّابِع أَمر بِحمْل النَّبَات الَّذِي يقتات بِهِ بَنو آدم وَمن جَمِيع الشّجر والحبوب وقوت جَمِيع مَا فِي السَّفِينَة وَأمره الله أَن يضع تابوتاً من شجر الشمشار فَيحمل فِيهِ جَسَد آدم عليه السلام ويجعله حاجزاً فِي الْفلك بَين الرجل وَالنِّسَاء فِي الطَّبَقَة الأولى وَجعل السبَاع وَالدَّوَاب فِي الطَّبَقَة السُّفْلى وَألقى الله الْحمى على الْأسد فاشتغل بِنَفسِهِ عَن الدَّوَابّ وَجعل الطير والوحوش فِي الثَّانِيَة وأطبق عَلَيْهَا وَجعل الْعليا لبني آدم وَقَالَ فِي مروج الذَّهَب أول مَا حمل نوح عليه السلام من الطير الدرة وَآخر مَا حمل الْحمار فَتَلَكَّأَ وَدخل صَدره وَتعلق إِبْلِيس بِذَنبِهِ فَجعل نوح عليه السلام يَقُول وَيحك ادخل فينكص حَتَّى قَالَ ادخل وَلَو كَانَ الشَّيْطَان مَعَك تحمله زلت على لِسَانه فَلَمَّا قَالَ ذَلِك خلى الشَّيْطَان سَبيله فَدخل وَدخل مَعَه فَقَالَ نوح مَا أدْخلك يَا عَدو الله فَقَالَ ألم تقل ادخل وَلَو كَانَ الشَّيْطَان مَعَك فَقَالَ اخْرُج يَا عَدو الله عني فَقَالَ لَا بُد لَك أَن تحملنِي فَكَانَ على مَا يَزْعمُونَ على ظهر السَّفِينَة وَنهى نوح عليه السلام أَن يَقع ذكر على أنثاه فغشى الْكَلْب الكلبة فوشى بهما الهر فَأنْكر فَدَعَا نوح ربه إِن كَانَ الهر صَادِقا أَن يمسك ذكر الْكَلْب فِي الكلبة فَفعل فأمسكته الكلبة فَشَكا الْكَلْب إِلَى نوح فضيحة الهر إِيَّاه فَدَعَا نوح على الهر فافتضح بالصراخ قَالَ فِي حقيبة الْأَسْرَار وَلما كَانَ الْيَوْم السَّابِع آخر الميعاد أوحى الله إِلَيْهِ أَن يركب السَّفِينَة إِذا فار التَّنور بِالْمَاءِ وَهُوَ التَّنور الَّذِي فِي بَيت ابْنك سَام فجَاء نوح إِلَى بَيت ابْنه فَقَالَ لزوجة ابْنه وَاسْمهَا رَحْمَة وَكَانَت أحب نسَاء بنيه وَهِي تخبز خبْزًا يرَوْنَ أَن يحملوه فِي السَّفِينَة يَا رَحْمَة إِن آيَة الطوفان من هَذَا التَّنور
فَإِذا رَأَيْت المَاء فار مِنْهُ فأسرعي إِلَى الْفلك وَكَانَ التَّنور من حجر أسود وَرثهُ نوح من أَبِيه وَورثه أَبوهُ من جده من لدن آدم عليه السلام وَكَانَت حَوَّاء تخبز فِيهِ وَكَانُوا يتوارثونه تبركاً بِهِ وَكَانَ من عمل آدم عليه السلام وَقيل كَانَ فِي دَار نوح عليه السلام يَعْنِي ورده من أَرض الشَّام وَلما أصبح فِي الْيَوْم السَّابِع وَلم يبْق لَهُ شَيْء يحْتَاج إِلَيْهِ وَإِن رَحْمَة فرغت من خبزها وَهِي تخرج آخر رغيف وَالنَّار يضرم جمرها إِذْ بدرها المَاء من تَحت الْحجر وبقدرة الله تَعَالَى فار وَلم يدْخل نوح السَّفِينَة كل مَا أَرَادَ فَأَخْبَرته ابْنَته أَن التَّنور فار فَقَامَ عليه السلام إِلَى المَاء فختمه فَوقف حَتَّى أَدخل السَّفِينَة مَا أَرَادَ ثمَّ فض الْخَتْم وكشف الطَّبَق ففار المَاء وفاض فَقَالَ نوح عليه السلام لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم هلك وَالله قومِي فَأوحى الله إِلَيْهِ لَا تحزن على هلاكهم فاركب الْفلك وَمن مَعَك من الْمُؤمنِينَ وَمَا آمن مَعَه إِلَّا قَلِيل ثَمَانُون نفسا مِنْهُم أَوْلَاده الثَّلَاثَة سَام وَحَام وَيَافث وَالأَصَح أَن أَوْلَاده زِيَادَة على الثَّمَانِينَ لما سَيَأْتِي فأسرع نوح إِلَى منزل رَحْمَة فَإِذا المَاء قد مَلأ الْمنزل وَيخرج من أبوابه كالنهر وَله غليان ونشيش مَا يمر بِشَيْء إِلَّا أغرقه وَأحرقهُ فأسرع إِلَى الْفلك ونادى بِالْمُؤْمِنِينَ النجَاة النجَاة وَقَومه يتعجبون من استعجاله فِي الرّكُوب وَإِذا الصُّرَاخ فِي بُيُوتهم وأسواقهم واضطربت النَّاس وَارْتَفَعت الزمات وَالْمَاء يتزايد ويغلي ونوح على بَاب الْفلك قد شمر عَن ساعديه وَأخذ المجذاف ليدفع بِهِ السَّفِينَة فِي المَاء والمؤمنون يَبْكُونَ من هول مَا عاينوا وَكَانَ دُخُول السَّفِينَة لعشر مضين من رَجَب فَدخل الْفلك وغطاه عَلَيْهِ وعَلى من مَعَه وَفتح الله أَبْوَاب السَّمَاء بالمطر من غير سَحَاب فَنزل بعير كيل وطغى على الْخزَّان وأخرجت الأَرْض ماءها وانفجرت الْجبَال كل نقطة من السَّمَاء عين فِي الأَرْض فَكَانَ نبع من تَحت أَقْدَامهم وحوانيتهم وَبُيُوتهمْ وَلَا يَقع على بَيت إِلَّا
هدمة وَلَا على شَيْء إِلَّا أحرقه وَلَوْلَا أَن الله أمره أَلا يضر السَّفِينَة لأحرقها بحرارته وملوحته وَوَقع الصُّرَاخ وغدوا إِلَى نوح فَإِذا هُوَ وَمن مَعَه فِي السَّفِينَة والمطر يفتح خنادق وَلَا يُصِيب السَّفِينَة ونوح وَأَوْلَاده يَبْكُونَ على قَومهمْ وخوفاً من الْعَذَاب وَالْمَلَائِكَة تَقول لَهُم لَا تبكوا بعدا للْقَوْم الظَّالِمين وَركب ملكهم واسْمه الدرمسيل كَمَا تقدم فِي عبيده وحشمه نَحْو السَّفِينَة فَأحرق المَاء أَرجُلهم وَقد انقلبت الأَرْض بالصراخ وَرَأى المَاء لَا يُصِيب السَّفِينَة فصح عِنْده أَنه أَمر الله تَعَالَى وتفرق من كَانَ حوله من النَّاس وهم يُنَادُونَهُ أَيهَا الْملك قتل المَاء أكثرنا فَنَادَى يَا نوح مَا هَذَا فَقَالَ يَا عَدو الله وَلم يكن قَالَ لَهُ ذَلِك أبدا لِأَنَّهُ كَانَ يرفق بِهِ ويداريه هَذَا الَّذِي كنت أَنْذَرْتُكُمْ بِهِ فَبَيْنَمَا هُوَ يكلمهُ إِذْ نبع المَاء من تَحت حوافر فرسه فولى هَارِبا وَلم يُؤمن فغرق فِي مَوْضِعه وأمهل الله عَلَيْهِم بَقِيَّة يومهم وطفت السَّفِينَة على وَجه المَاء فأطبقها وهم ينظرُونَ إِلَيْهِ فتسنموا الْجبَال والروابي وَلم يكن فيهم صبي إِلَّا وَاحِد كَانَت أمه تحبه حبا شَدِيدا فَخرجت بِهِ إِلَى الْجَبَل حَتَّى بلغت ثلثه فبلغها المَاء فَصَعدت إِلَى ثُلثَيْهِ فبلغها المَاء فاستوت على الْجَبَل فَلَمَّا بلغ المَاء رقبَتهَا رفعته بِيَدِهَا حَتَّى ذهب بهم المَاء فَلَو رحم الله مِنْهُم أحدا لرحم تِلْكَ الْمَرْأَة ودعا نوح ابْنه كنعان وَقيل اسْمه يام فَأبى وَقَالَ سآوي إِلَى جبل يعصمني من المَاء يَعْنِي بِهِ النجف جبلا لم يكن على وَجه الأَرْض أعظم مِنْهُ ارتفاعاً فَأوحى الله إِلَيْهِ أيعتصم بك منى فتقطع الْجَبَل وَصَارَ رملاً دَقِيقًا وانخفض مَكَانَهُ فَصَارَ بعد أَن نضب المَاء بحراً فَسمى ذَلِك الْبَحْر نى ثمَّ جف بعد ذَلِك فَقيل ني جف فخففه النَّاس نجف كَذَا أوردهُ فِي الْعِلَل صَاحب مروج الذَّهَب الْعَلامَة المَسْعُودِيّ وَلما ركب نوح السَّفِينَة وَمن مَعَه من الْكُوفَة قَالَ {ارْكَبُواْ فِيهَا بِسم الله مجْراهَا وَمرْسَاهَا} هود 41 فَقيل إِن المَاء ارْتَفع على أَعلَى جبل فِي الأَرْض أَرْبَعِينَ ذِرَاعا ووكل الله بالسفينة سبعين ملكا يحفظونها ودوى المَاء كالرعد القاصف والسفينة تشقه شقاً عنيفاً ونوح يُنَادي الْعَفو الْعَفو يَا الله وأظلم الجو وَأَتَاهُ جِبْرِيل بلؤلؤة تطلع من مشرق السَّفِينَة فيعلمون بهَا الشرق والغرب والقبلة وَالشمَال وتمشى فِي سقف السَّفِينَة طول النَّهَار لمعْرِفَة السَّاعَات فَإِذا وصلت إِلَى
الْمغرب طفىء نورها وَتصير لَيْلًا على هَيْئَة الْقَمَر فِي زِيَادَته ونقصانه أول الشَّهْر هِلَال وتزداد حَتَّى تصير بَدْرًا ثمَّ تنقص كَذَلِك حَتَّى تصير هلالاً وَلم تزل السَّفِينَة تَطوف الأَرْض إِلَى مَوضِع الْكَعْبَة فطافت أسبوعاً ثمَّ عَادَتْ إِلَى جدة وَطلبت الْحَبَشَة ثمَّ عَادَتْ إِلَى الرّوم إِلَى جبال الأَرْض المقدسة جَارِيَة لَا تفتر شَرق الأَرْض وغربها إِلَى مُدَّة سِتَّة أشهر روى أَن نوحًا عليه السلام نَام فِي السَّفِينَة فَهبت ريح فَانْكَشَفَتْ عَوْرَته فَضَحِك حام وَيَافث فزجرهما سَام وستره فانتبه وَسَأَلَ سَام فَأخْبرهُ فَقَالَ اللَّهُمَّ غير مَا فِي صلب حام حَتَّى لَا يُولد لَهُ إِلَّا السودَان وَغير مَا فِي صلب يافث وَاجعَل ذريتهما خولاً لذرية سَام فَجَمِيع السودَان والحبش والهند والسند من حام وَجَمِيع التّرْك والصين والصقالبة ويأجوج وَمَأْجُوج من يافث ابْن نوح وَجَمِيع الْعَرَب والعجم وَالروم وَفَارِس من سَام بن نوح عليه السلام ثمَّ إِن المَاء بعد سِتَّة أشهر جعل ينقص فَأول مَا ظهر جبل أبي قبيس بِمَكَّة فَأوحى الله إِلَى الْجبَال إِنِّي مرسٍ على أحدكُم السَّفِينَة فتطاولت وشمخت إِلَّا الجودى جبل بالموصل كَانَ من أكبر الْجبَال وأعلاها فتواضع لله وَقَالَ أَنا أقل من أَن ترسوا السَّفِينَة عَليّ فَأمر الله الْمَلَائِكَة بوضعها عَلَيْهِ عَاشر الْمحرم وَيُقَال إِن الجودى من جبال الْجنَّة ثمَّ إِن الأَرْض بلعت ماءها وَأَرَادَ مَاء السَّمَاء النُّزُول مَعَه فَأَبت الأَرْض فَصَارَ بحاراً وأنهاراً وَهُوَ المروى عَن أهل الْبَيْت وَفِي كتاب الْوَصِيَّة صَار بحراً حول الدُّنْيَا فماء الْبَحْر الْمَوْجُود الْآن من بَقِيَّة ذَلِك المَاء وَهُوَ مَاء سخط ألم تره يغرق فَيهْلك إِلَى الْآن وَالْعِيَاذ بِاللَّه تَعَالَى فأرست على الجودى شهرا إِلَّا أَنهم لم يعرفوا على أَي شَيْء أرست وانجاب السَّحَاب وطلعت الشَّمْس وَفتح نوح بَاب السَّفِينَة فَدخل الضَّوْء وَبَان فِي السَّمَاء قَوس قزَح فَكَانَ ذَلِك آيَة بَينه وَبَين الله تَعَالَى أَنه أَمَان من الْغَرق قيل كَانَ عَلَيْهِ وتر وَسَهْم فَنزع الْوتر والسهم عَلامَة للأمان فَكبر نوح وَمن
مَعَه وانفضت الطُّيُور وتحركت الوحوش فَأرْسل نوح عليه السلام الْغُرَاب لينْظر هَل بَقِي من المَاء على وَجه الأَرْض شَيْء واستنظره سَبْعَة أَيَّام فَلم يعد واشتغل بِأَكْل جيفة دَابَّة غرقت بالطوفان وَنسي مَا توجه إِلَيْهِ فلعنه نوح عليه السلام وَقَالَ اللَّهُمَّ قتر رزقه وبغضه إِلَى بني آدم وَقَيده فِي مَشْيه وَحشِي لَا يسْتَأْنس مبغوض فِي بني آدم ثمَّ بعث الْحَمَامَة وانتظرها فَلم تَجِد فِي الأَرْض قراراً فوقفت على شَجَرَة الزَّيْتُون بِأَرْض سبأ وحملت ورقة زيتون بمنقارها وَرجعت إِلَيْهِ ثمَّ بعثها بعد أَيَّام فَأَتَت وَادي الْحرم فَأول مَا نضب المَاء عَن مَوضِع الْكَعْبَة فخضبت رِجْلَيْهَا وتطوقت بطينتها وَكَانَت حَمْرَاء فَرَجَعت فِي أسْرع وَقت فَقَالَت يَا نَبِي الله قد نضب المَاء عَن الأَرْض وَقيل إِنَّهَا انْطَلَقت إِلَى الْمشرق وَالْمغْرب وعادت مسرعة وَقَالَت يَا نَبِي الله هَلَكت الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وَأما المَاء فَلم أر إِلَّا بِبِلَاد الْهِنْد وَلم يبْق على وَجه الأَرْض إِلَّا الزَّيْتُون فَإِنَّهُ أَخْضَر لم يتَغَيَّر فَبَارك فِي شجر الزَّيْتُون ودعا للحمامة اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا أبرك الطُّيُور وأزكاها وآنسها ببني آدم وأكثرها فراخا وَجَمعهَا بطوق عوضا عَن هَذَا الطين الْأَحْمَر واخضب رِجْلَيْهَا فَاسْتَجَاب الله دعاءه وفيهَا يَقُول الشَّاعِر من قصيدة // (من الوافر) //
(فأرسَلَها نبيُّ الله نوحٌ
…
لتنظرَ هَل عفَا ربُّ السماءِ)
(فآَبَت وهيَ قد صُبغت بماءٍ
…
وَفِي أعناقِها طينُ البَراَءِ)
(وَفِي منقارها ورقٌ قليلٌ
…
أَقامَتهُ على صدْقِ الوفاءِ)
(فأكرمَها رسولُ اللهِ نوحٌ
…
وأكثَر فِي المَقالةِ بالدُّعاءِ)
(وطوَّقها وسَروَلَها إلهٌ
…
تَعَالَى ربُّنا ذُو الكبرياءِ)
(فكُن لله خالقنا مُطيعًا
…
فجنَّةُ ربّنا للأتقياءِ)
ذكرت بقوله وطوقها وسرولها قَول الشَّاعِر فِيهَا // (من الْخَفِيف) //
(زَعَمُوا أنَّ للحمامةِ حُزنا
…
فأَراها فِي الحُزن ليستْ هُنالك)
(خضَبت كفَّها وطوَّقت الجيدَ وغنَّتْ وَمَا الحزين كَذَلِك
…
)
وَأقَام نوح عليه السلام ينْتَظر الْأَمر من ربه ثَلَاثِينَ يَوْمًا وَقد اخضر الْجَبَل وَنبت العشب فَأوحى الله إِلَيْهِ {اهبط بِسَلام مِنَّا} الْآيَة هود 48 فَنزل
من السَّفِينَة بِمن مَعَه فَرَأى الْعِظَام قد تَفَرَّقت من المَاء الْحَار فهاله ذَلِك وَاشْتَدَّ حزنه فَأوحى الله إِلَيْهِ هَذَا أثر دعوتك أما إِنِّي آلَيْت على نَفسِي أَلا أعذب خلقي بِمثل هَذَا أبدا وَأمره بِأَكْل الْعِنَب الْأَبْيَض فَأَكله فَأذْهب الله عَنهُ الْحزن وَكَانَ ذَلِك لخاصية فِيهِ وَنزل نوح فِي الأَرْض وَمَعَهُ ثَمَانُون نفسا من ذكر وَأُنْثَى غير أَوْلَاده الثَّلَاثَة سَام وَحَام وَيَافث فَسمى ذَلِك الْمحل قَرْيَة الثَّمَانِينَ وَهِي قَرْيَة من نواحي جَزِيرَة ابْن عمر عِنْد الجودى فَهِيَ أول قَرْيَة بنيت بعد الطوفان سميت بِعَدَد الَّذين خَرجُوا من السَّفِينَة وإليها ينْسب الإِمَام أَبُو الْقَاسِم عمر بن ثَابت الثمانيني النَّحْوِيّ قَالَ فِي معالم التَّنْزِيل وَعقد نوح فِي وسط الْجَامِع قبَّة فَأدْخل إِلَيْهَا أَهله وَولده وَالْمُؤمنِينَ إِلَى أَن مصر الْأَمْصَار وأسكن أَوْلَاده الْبلدَانِ فسميت الْكُوفَة قبَّة الْإِسْلَام بِسَبَب تِلْكَ الْقبَّة ثمَّ إِن نوحًا اسْتخْلف ابْنه يافث وَأخذ ساماً وحجا وَأخذ مَعَه الرُّكْن وَالْمقَام وأودعاه جبل أبي قبيس وَلما رَجَعَ قسم الأَرْض بَين بنيه الثَّلَاثَة فَأعْطى حاماً الْمغرب والسواحل وَأعْطى يافث الْمشرق إِلَى مطلع الشَّمْس وَأعْطى ساماً الشَّام واليمن وَلما صَار لسام أَرْبَعمِائَة سنة انْتقل النُّور المحمدي إِلَى زَوجته فَلَمَّا كملت أشهرها رزقت أرفخشد فَأحْسن تَرْبِيَته وَأوحى الله إِلَى نوح إِن نبوتك قد انْقَضتْ فَاجْعَلْ الِاسْم الْأَعْظَم ومواريث الْأَنْبِيَاء عِنْد سَام فَإِنِّي لَا أترك الأَرْض بِغَيْر عَالم يكون حجَّة لي على خلقي وَبشر الْمُؤمنِينَ بِأَن الله سيفرج عَنْهُم بِنَبِي اسْمه هود يهْلك من كفر بِهِ بِالرِّيحِ فَمن أدْركهُ فليؤمن بِهِ فَدَعَا ساماً وَسلم إِلَيْهِ مَوَارِيث الْأَنْبِيَاء وَأمره وَنَهَاهُ وروى عَن سعد بن عبد الله عَن ابْن إِبْرَاهِيم بن هَاشم عَن عَليّ بن الحكم عَن بعض أَصْحَاب أهل الْبَيْت عَن أبي عبد الله قَالَ عَاشَ نوح ألفي سنة وَخَمْسمِائة عَام ثمَّ جَاءَهُ ملك الْمَوْت وَهُوَ فِي الشَّمْس فَقَالَ السَّلَام عَلَيْك فَرد نوح عليه السلام وَقَالَ مَا جَاءَ بك قَالَ جِئْت لأقبض روحك قَالَ فَدَعْنِي أَدخل من الشَّمْس إِلَى الظل فَقَالَ لَهُ نعم فتحول فَقبض روحه فجهزه ابْنه كَمَا أوصاه وَصلى عَلَيْهِ هُوَ وَإِخْوَته ودفنوه فِي الْموضع الَّذِي مَاتَ فِيهِ قَالَ بعض المؤرخين
دفن بحضرموت وَقيل بِمَكَّة وروى أَن قَبره بِظهْر الْكُوفَة قَالَ فِي الْأنس الْجَلِيل تَارِيخ الْقُدس والخليل إِن قَبره بكرك نوح وَبَين نوح وآدَم عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام عشرَة آبَاء وَمن السنين ألفا سنة ومائتان وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ وَكَانَ أقل أَعمار قوم نوح ثَلَاثمِائَة سنة قَالَ المَسْعُودِيّ فِي المروج إِن عقب من كَانَ مَعَ نوح فِي السَّفِينَة دثر بالوباء فنسل الخليقة مِنْهُ وَحده يَعْنِي من أبنائه الثَّلَاثَة سَام وَحَام وَيَافث قَالَ تَعَالَى {وَجَعَلْنَا ذُرّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} الصافات 77 فَهُوَ أَبُو الْأَنْبِيَاء وَكَانَت رسَالَته عَامَّة وَلما قبض قَامَ بعده ابْنه سَام بِأَمْر الله تَعَالَى وآمن بِهِ شيعَة نوح عليه السلام وَلما انْقَضتْ أَيَّامه أوحى الله إِلَيْهِ أَن يستودع الِاسْم الْأَعْظَم وميراث الْأَنْبِيَاء ابْنه أرفخشد فَدَعَاهُ وَأوصى إِلَيْهِ بِمَا أوصاه بِهِ نوح عليه السلام وَمَات وعمره سِتّمائَة سنة وَله من الْأَوْلَاد إرم وأرفخشد وفلوج وياشور وَالْأسود وَغَيرهم وَمن ذُرِّيَّة سَام النَّبِي صَالح عليه السلام وَهُوَ صَالح بن عبيد بن عَابِر بن إرم ابْن سَام وَمن ذُريَّته أَصْبَهَان بن فلوج بن سَام وَمن ذُريَّته فَارس ونبط ابْنا ياشور بن سَام وَمِنْهُم عَاص وَعبيد ابْنا عوص بن إرم بن سَام وَمِنْهُم بوان بن إيران بن الْأسود بن سَام وَهُوَ صَاحب الشّعب شعب بوان وَهُوَ عدَّة قرى ومياه مُتَّصِلَة وَعَلَيْهَا الْأَشْجَار حَتَّى غطت تِلْكَ الْقرى فَلَا يَرَاهَا الْإِنْسَان حَتَّى يدخلهَا قَالَ أَبُو الطّيب أَحْمد بن الْحُسَيْن المتنبي فِيهِ // (من الوافر) //
(مَغَابي الشِّعْبِ طيبا فِي المَغَابي
…
بمنزلةِ الربيعِ من الزمانِ)
وَقَالَ آخر // (من الرجز) //
(شِعْبُ بَوَّانَ قرارُ الذاهبِ
…
فثَمَّ تُكفى راحةُ النَّوائبِ)
وَقَالَ آخر // (من الطَّوِيل) //
(إِذا أَشرفَ المكروبُ من رأسِ تَلعَةٍ
…
على شِعبِ بوَّانَ استراحَ من الكَربِ)
وَهُوَ أحد جنان الدُّنْيَا الْأَرْبَعَة غوطة دمشق ونهر الأُبلة وصفد سَمَرْقَنْد وَشعب بوان وَمِنْهُم كرمان بِالْفَتْح وَالْكَسْر بن فلوج بن سَام وَمِنْهُم لُقْمَان الْحَكِيم بن عَاد الْأُخْرَى ابْن شَدَّاد باني إرم ذَات الْعِمَاد أخي شَدِيد بن عَاد الأولى بن عوص بن إرم بن سَام وَأما يافث بن نوح فَلهُ من الْأَوْلَاد بوبان ويأجوج وَمَأْجُوج وناويل والخزر والفرنج والصقالبة وقبرس وقسطنطين وكرم وكرد وتاريس وكادي إِلَى اثْنَيْنِ وَعشْرين قَبيلَة خرج من هَذِه الْقَبَائِل ثَمَانمِائَة قَبيلَة خرج مِنْهَا أُمَم لَا تعد وَلَا تحصى اسْتَخْلَفَهُ أَبوهُ نوح على الْمُؤمنِينَ لما أَخذ بيد ابْنه سَام وَتوجه إِلَى الْكَعْبَة وَختم السَّفِينَة وأوصاه بهَا وَقَالَ لَهُ يَا بني اسْتَوْصِ بأخيك حام وَوَلِهَ بعض أمورك وَأحسن إِلَيْهِ فَقَالَ سَام يَا أَبَت لَا أقطع أمرا دونه فشكره نوح عليه السلام على ذَلِك وَجعل لَهُ الْمشرق ودعا لَهُ بِأَن يكون الْملك فِي وَلَده وَحَضَرت يافث الْوَفَاة فأوصى إِلَى أَخِيه سَام ببنيه فَمَاتَ وَدَفنه سَام وَحَام وحزنا عَلَيْهِ وَكَانَ عمره خَمْسمِائَة وَخمسين سنة وَأما حام فَقَالَ وهب بن مُنَبّه كَانَ رجلا أَبيض حسن الصُّورَة وَالْوَجْه فَغير الله لَونه وألوان ذُريَّته بدعوة أَبِيه نوح عليه السلام عَلَيْهِ فَمِنْهُ جَمِيع السودَان من النّوبَة والبربر والزنج والحبشة والقبط وَمن ذُريَّته مصر بن بيصر بن حام وَهُوَ الَّذِي سميت الْبِلَاد الْمَعْرُوفَة مصر باسمه وَمن ذُريَّته أَيْضا الْهِنْد والسند ابْنا حام وَكَيْفِيَّة دُعَاء نوح عليه السلام عَلَيْهِ أَن قَالَ مَلْعُون حام عبيد لإخوته ثمَّ قَالَ مبارك سَام وَيكثر الله يافثاً فِي مسكن سَام وَفِي كتاب المبتدا قَالَ عبد الله بن سَلام إِن حاماً لم يطَأ زَوجته لِأَن أَبَاهُ قَالَ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ غير مَا فِي صلب حام حَتَّى لَا يُولد لَهُ إِلَّا السودَان مُدَّة حَيَاة نوح خوفًا من دَعوته حَتَّى مَاتَ فطال ذَلِك عَلَيْهِ ثمَّ إِنَّه جَامع زَوجته فَلَمَّا حملت ولدت لَهُ غُلَاما أسودا وَمَعَهُ جَارِيَة سَوْدَاء فَسمى الْغُلَام كوشاً فَلَمَّا رأى سوادهما فزع وَجَاء إخْوَته وَقَالَ إِنِّي رَأَيْت خلقا لم أر مثله فَسَأَلت زَوْجَتي لَا يكون قربهَا
شَيْطَان فَقَالَت مَا قربني أحد غَيْرك فَقَالَا لَهُ هَذِه دَعْوَة أَبِيك نوح فَاغْتَمَّ لذَلِك ثمَّ أمسك عَن وَطئهَا دهراً طَويلا ثمَّ وَاقعهَا فَحملت وَولدت وَلدين أسودين فهم حام أَن يجب نَفسه فمنعاه ثمَّ طَال عَلَيْهِ الْأَمر ثمَّ وَاقعهَا فَولدت غُلَاما وَجَارِيَة أسودين فَسمى الْغُلَام كنعان ثمَّ مَاتَ حام وَأوصى إِلَى سَام فدفنه إِلَى جَانب أَخِيه يافث وَكَانَ عمره حِينَئِذٍ خَمْسمِائَة وَسبعين سنة وَمن ذُرِّيَّة حام جَمِيع السودَان وَالْحَبْس كَمَا تقدم والهند والسند وهما ابْنا يرقن بن يقضن بن حام قَالَ الْعَلامَة المَسْعُودِيّ فِي المروج يُقَال إِن هَذَا الِاسْم يَعْنِي الْهِنْد مَأْخُوذ من التهنيد وَهُوَ لُغَة سلب الْعقل من الْمحبَّة والعشق والهوى قد هندته النِّسَاء فَهُوَ مهند أَي سلبته عقله وَلذَلِك كثر فِي النِّسَاء اسْم هِنْد ثمَّ استطرد فَقَالَ وَيُقَال إِن أهل بلد الْهِنْد أَكثر الْبلدَانِ جهلا بِالدّينِ وأصحها عقلا فِي أُمُور الدُّنْيَا مثل الْحساب والصنائع وهم ابتدعوا الْجَبْر والمقابلة ونصبوا الأحرف التِّسْعَة وَمِنْهُم صصه وَاضع الشطرنج وقصة تمنيه على الْملك فِي مُقَابلَة وَضعه لَهُ بالتضعيف أعجب من وَضعه قلت فِي ذكرى وُرُود حَدِيث فِيهَا هُوَ الْهِنْد بِلَاد الله الْغَفْلَة عَن ذكر الله أَو كَمَا قَالَ
قَالَ المَسْعُودِيّ ويحكى أَن الزِّنَى وَالْفساد بِبَلَد الْهِنْد أَكثر مِنْهُ من كل بلد من بلدان الدُّنْيَا لقَوْل الفلاسفة إِن شَهْوَة النِّكَاح إِنَّمَا تكون أَكْثَرهَا فِيمَا يقطعهُ الخاتن والخافضة من ذكر الْغُلَام وَفرج الْجَارِيَة فَلَمَّا كَانَت الْهِنْد لَا تستعمله لَا فِي الذّكر وَلَا فِي الْأُنْثَى كثر عِنْدهم الزِّنَى لِكَثْرَة الشبق فِي الرِّجَال وَالنِّسَاء لِلْعِلَّةِ الْمَذْكُورَة وَكَذَلِكَ كل بلد حَاله فِي ترك الْخِتَان حَال الْهِنْد وَلَيْسَ فِي الْهِنْد شَيْء من النّخل وَلَا من الْكَرم وَلَا يعرفونهما إِلَّا بِالْوَصْفِ أَو يجلب إِلَيْهَا وَمن جهل أهل الْهِنْد أَن أحدهم يَبِيع رَأس نَفسه فيقطعه بِيَدِهِ على أَن يعود حَيا بعد ثَلَاثَة أَيَّام وَمن ذَلِك أَن أحدهم يطْرَح نَفسه فِي النَّار بِحَضْرَة أَبِيه وأخيه وَابْنه وأقاربه فَلَا يمنعهُ مِنْهُم أحد ويغبطونه على ذَلِك ويحمدونه وعجائب من مثل هَذِه
الْأَفْعَال تأباها الْبَهَائِم وتفر إِلَى الْحَيَاة خوفًا من الْمَوْت ذكر هَذَا أَبُو الْفَتْح أَحْمد بن الْمطرف فِي كتاب التَّرْتِيب فَلت وَرَأَيْت فِي مروج الذَّهَب مَا نَصه الْهِنْد تعذب أَنْفسهَا بالنَّار وَقد تيقنت أَن مَا ينالها من النعم فِي الْمُسْتَقْبل مُؤَجّلا هُوَ مَا أسلفته وعذبت بِهِ أَنْفسهَا فِي هَذِه الدَّار معجلا وَمِنْهُم من يسير إِلَى الْملك فيستأذنه فِي إحراقه نَفسه ثمَّ يدار بِهِ فِي الْأَسْوَاق وَقد أججت لَهُ نَار عَظِيمَة وَقد وكل بهَا نَاس لإيقادها فيسير فِي الْأَسْوَاق والشوارع قدامه الطبول والصنوج وعَلى بدنه أَنْوَاع من الْحَرِير قد مزقها على جسده وَحَوله إخْوَته وَأَهله وقرابته وعَلى رَأسه إكليل من الريحان وَقد قشر جلدَة رَأسه الْعليا وَقد وضع مَكَانهَا الْجَمْر وَقد عمل عَلَيْهِ الكبريت والسندروس فيسير وهامته تحترق وروائح دماغه تفوح وَهُوَ يتبختر ويمضغ التنبل وَحب الفوفل إِلَى أَن يَنْتَهِي على تِلْكَ الْحَالة إِلَى النَّار وَقد صَارَت كَالتَّلِّ الْعَظِيم قَالَ وَلَقَد حضرت بِبِلَاد من الْهِنْد يُقَال لَهَا صيمور فَرَأَيْت فَتى من فتيانهم وَقد طيف بِهِ على مَا ذكرنَا فَلَمَّا دنا من النَّار أَخذ الخنجر فَوَضعه على فُؤَاده فشقه ثمَّ أَدخل يَده الشمَال فَقبض على كبده فجذب مِنْهَا قِطْعَة وَهُوَ يتَكَلَّم قُم قطعهَا بالخنجر وَدفعهَا إِلَى بعض إخوانه تهاوناً بِالْمَوْتِ وَلَذَّة بالنقلة ثمَّ أَهْوى بِنَفسِهِ فِي النَّار فسبحان مقسم الْعُقُول لَا إِلَه غَيره أَقُول ذكرت بقول المَسْعُودِيّ الْهِنْد تعذب أَنْفسهَا إِلَى آخر مَا ذكره قَول القَاضِي نَاصح الدّين أبي بكر أَحْمد بن الأرجاني قَاضِي تستر الشَّاعِر الْمَشْهُور فِي وصف الشمعة حَيْثُ يَقُول // (من الْبَسِيط) //
(صفراءُ هنديَّةٌ فِي اللونِ إِن نُعتَتْ
…
والقدُّ والدينِ إِن أَتمَمْتَ تشبيهَا)
(فالهندُ تقتلُ بالنيرانِ أَنْفسهَا
…
وَعِنْدهَا أنّها إذْ ذَاك تُحييها)
وَهَذَانِ البيتان لَهُ من قصيدة يمدح بهَا قَاضِي الْقُضَاة بِفَارِس طَاهِر بن مُحَمَّد صدرها بِوَصْف الشمعة بِمَا لم يسْبق إِلَى مثله فِي سالف الْأَعْصَار وَلم يشق لَهُ إِلَى غابر الزَّمن غُبَار وَهِي طَوِيلَة مَشْهُورَة
قَالَ وَمن قلَّة عُقُولهمْ وسفاهة أحلامهم المغالاة فِي اللّعب بالشطرنج بِمَا فِيهِ ذهَاب المَال بل النَّفس والأغلب على استعمالهم اتِّخَاذه من العاج يجْعَلُونَ كل قِطْعَة كالشبر فِي عرض ذَلِك وَإِذا لعبوا بهَا قَامَ الْوَاحِد على قومه والأغلب عَلَيْهِم فِي اللّعب الْقمَار على الثِّيَاب وَالْمَال والجواهر وَرُبمَا نفذ مَا عِنْد أحدهم فيلعب على قطع عُضْو من أَعْضَائِهِ وَيجْعَل إِلَى جَانِبه قدرا صَغِيرا من النّحاس على نَار فَحم فِيهَا دهن لحم أَحْمَر فيغلي ذَلِك الدّهن وَهُوَ دهن مدمل للجرح ماسك للدم فَإِذا قمر وَقطعت أعضاؤه وَاحِدًا بعد وَاحِد غمس يَده فِي ذَلِك الدّهن فاندمل ثمَّ عَاد إِلَى اللّعب وَرُبمَا توجه عَلَيْهِ اللّعب فِي قطع جَمِيع أَصَابِعه وكفه وذراعه وزنده وكل ذَلِك يسْتَعْمل لَهُ الكي بذلك الدّهن وَهُوَ دهن أَحْمَر عَجِيب يعْمل من أخلاط وعقاقير بِأَرْض الْهِنْد قَالَ وَمَا ذَكرْنَاهُ عَنْهُم مستفيض عَن فعلهم ثمَّ قَالَ والهند تتَّخذ الفيلة وتتناتج فِي أَرضهم وَلها بهَا آفَة عَظِيمَة من حَيَوَان يعرف بالزبرق وَهُوَ دَابَّة أَصْغَر من الفهد أَحْمَر ذُو زغب لَهُ عينان براقتان عَجِيب سريع الوثبة يبلغ فِي وثبته الثَّلَاثِينَ وَالْأَرْبَعِينَ وَالْخمسين ذِرَاعا وَأكْثر فَإِذا أشرف على الفيلة رش عَلَيْهَا بَوْله بِذَنبِهِ فيحرقها وَرُبمَا لحق الْإِنْسَان فَقتله وَرُبمَا تعلق الْخَائِف من النَّاس مِنْهَا بأكبر مَا يكون من شجر الساج فَإِذا عجز عَنهُ لطىء بِالْأَرْضِ ووثب فَإِن لم يلْحق فِي وثبته رش بَوْله إِلَى أَعلَى الشَّجَرَة فَإِذا لم يصبهُ وضع رَأسه فِي الأَرْض وَصَاح صياحاً عجيباً غيظاً فَيخرج من فِيهِ قطع دم وَيَمُوت من سَاعَته وَأي مَوضِع من الشَّجَرَة أَصَابَهُ شَيْء من بَوْله أحرقه ومرارة هَذَا الْحَيَوَان ومذاكيره سم سَاعَة تدخره الْمُلُوك وتسقي بِهِ السِّلَاح فَيقْتل من أدنى جراحه من سَاعَته ومذاكيره كمذاكير كلاب المَاء الَّتِي يخرج مِنْهَا الجندبادستر وكلب المَاء هَذَا أَيْضا مَشْهُور عِنْد الصيادلة بِبِلَاد الْهِنْد وَهُوَ فَارسي
مُعرب وَإِنَّمَا هُوَ كند وَتَفْسِيره الخصية وَالدَّابَّة الْمُتَقَدّم ذكرهَا وَهِي الزبرق لَا تأوي إِلَى مَوضِع يكون فِيهِ النوشان وَهُوَ الكركدن وتهرب مِنْهُ كَمَا يهرب مِنْهَا الْفِيل سُبْحَانَ الله أبدان مسلطة على أبدان والفيلة تهرب من السنور وَلَا تقف لَهَا أَلْبَتَّة وَلَو ضربت وَقد أخذت مُلُوك ملوكاً بتخلية السنانير بَين أَيدي الفيلة فَفرُّوا وكسروا والفيلة لَا تنْتج وَلَا تتوالد إِلَّا بِأَرْض الزنج والهند وتتخذ الزنج الدرق من جلده وَأذنه وخرطومه أَنفه ويوصل بِهِ الطَّعَام وَالشرَاب إِلَى جَوْفه وَهُوَ شَيْء بَين الغضروف وَاللَّحم والعصب وَبِه يُقَاتل وَمِنْه يَصِيح وكل حَيَوَان ذِي لِسَان فَأصل لِسَانه إِلَى دَاخل وطرفه إِلَى خَارج إِلَّا الْفِيل فبالعكس والهند تزْعم أَنه لَوْلَا ذَلِك لتكلم إِذا كلم لحدة فطنته وَقد قيل أحذق الْحَيَوَانَات وأفطنها بعد بني آدم القرد والفيل وَقد أهْدى للمتوكل العباسي قرد صائغ وفيل خياط ذكر هَذَا الْعَلامَة السُّيُوطِيّ وَيظْهر من جباه الفيلة ورءوسها عرق كالمسك وَالطّيب تراعي ذَلِك الطّيب أهل الْهِنْد فِي الْقَلِيل من الزَّمَان الَّذِي يكون فِيهِ فتأخذه وَتحمل عَلَيْهِ بعض أدهان طيبَة فَيكون أغْلى طيبها والمستظرف عِنْدهَا الَّذِي يَسْتَعْمِلهُ الْمُلُوك والخواص لضروب من الْمَنَافِع مِنْهَا طيب الرَّائِحَة الَّتِي تفوق سَائِر الروائح الطّيبَة وَمِنْهَا مَا يُؤثر فِي الْإِنْسَان عِنْد شمه من ظُهُور الشبق فِي الرِّجَال وَالنِّسَاء والطرب والنشاط والأريحية وَكثير من فتاك الْهِنْد تستعمله عِنْد اللِّقَاء فِي الحروب لِأَنَّهُ يشجع الْقلب وَيُقَوِّي النَّفس ويحث على الْإِقْدَام وَأكْثر مَا يظْهر هَذَا الْعرق من الفيلة عِنْد اغتلامها وهيجانها وَإِذا كَانَ ذَلِك مِنْهَا تهرب سواسها ورعاتها عَنْهَا وَلَا تفرق بَين من تعرف وَبَين غَيره من النَّاس وَظُهُور هَذَا الْعرق مِنْهَا فِي وَقت من السّنة لَا دَائِما وَإِذا واجه الكركدن حَال هيجانه لَا يهرب من الكركدن بل يهرب مِنْهُ الكركدن حِينَئِذٍ لِأَن الْفِيل عِنْد ذَلِك سَكرَان لَا يعقل وَلَا يُمَيّز وَإِذا ند عَنهُ ذَلِك الْفَصْل واسترجع عَاد إِلَى بَلَده على
مسيرَة شهر أَو أَكثر وَهُوَ فِي سكره فَيبقى عليلاً نَحْو مُدَّة هيجانه وَلَا يكون هَذَا الْعرق إِلَّا فِي الفحول من الفيلة وَذَوي الجرأة والإقدام مِنْهَا ثمَّ قَالَ وَأما السَّنَد فَإِنَّهُم جيل معروفون فِي بِلَادهمْ يُقَال سَنَد فلَان إِلَى الْجَبَل إِذا ارْتَفع سموا بذلك لارْتِفَاع فِي أَرضهم والسند كالرابية من الأَرْض وَالْجمع سنود وأسناد والإسناد مصدر أسندت الحَدِيث إِلَى فلَان أَي رفته إِلَيْهِ وَيُقَال للناقة الموثقة الْخلق سناد والسناد عيب من عُيُوب القوافي فَرجع فَقَامَ أرفخشد مقَام أَبِيه سَام أحسن قيام وَتزَوج فولد لَهُ شالغ بشين مُعْجمَة وَألف وَلَام مَفْتُوحَة وغين مُعْجمَة وَيُقَال بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة وَمَعْنَاهُ الْوَكِيل أمه شبروما بنت سيدوك فاستودعه أَبوهُ أرفخشد النُّور وَالْحكمَة ومواريث الْأَنْبِيَاء وَمَات أرفخشد وَمَعْنَاهُ مِصْبَاح مضيء وَله من الْعُمر أَرْبَعمِائَة سنة وَخمْس وَسِتُّونَ سنة فَقَامَ بِأَمْر أَبِيه والمؤمنون مَعَه قَلِيلُونَ لِأَن إِبْلِيس جعل يغوي بني آدم لما مَاتَ أرفخشد بِكُل طَرِيق وَإِذا نزل وَاحِد من بني سَام إِلَى بني يافث وَحَام وَرَأى مَا هم فِيهِ من اللَّذَّات وَالشرَاب وَالزِّنَا وأنواع الطَّرب افْتتن بذلك فهجروا بِلَادهمْ وتتبعوا الْقَوْم وَصَارَ الرجل يجذب من بني أَبِيه وهم كل يَوْم ينقصُونَ وَتمّ لإبليس مُرَاده وَلم يبْق من شالغ إِلَّا قَلِيل من بني أَبِيه لَا طَاقَة لَهُم ببني يافث وَحَام وَاشْتَدَّ كفرهم أَكثر مِمَّا كَانَ عَلَيْهِ بَنو قابيل اللعين إِلَّا أَنهم لَا يتقاتلون وَلَا يَغْزُو بَعضهم بَعْضًا وَلَا يتَعَرَّض كافرهم لمؤمنهم واختطوا الأَرْض وملئوها عرضا وطولاً وَشَكتْ الأَرْض إِلَى الله مِنْهُم وَتزَوج شالغ وَولد لَهُ عَابِر وَهُوَ هود عليه السلام وَمعنى شالغ الرَّسُول وشالغ وَبَنُو أَبِيه قد سكنوا الْموضع الَّذِي نزل فِيهِ نوح لِئَلَّا يضايقوا بني حام وَيَافث وَقد رَضوا مِنْهُم بالمتاركة وَكَانَ بَنو يافث قدمُوا عَلَيْهِم رجلا مِنْهُم وملكوه اسْمه خامر بن يافث وَكثر بغيهم وإبليس نكر بَعضهم على بعض وَلم يزَالُوا على ذَلِك طول عمر شالغ إِلَى أَن حَضرته الْوَفَاة فَأمر أَن يستودع الِاسْم الْأَعْظَم وَالْحكم والنور ابْنه عَابِر وَهُوَ هود النَّبِي عليه السلام فَدَعَا وَأوصى إِلَيْهِ وَأخذ عَلَيْهِ الْعَهْد فِي النُّور المحمدي وَقبض شالغ وعمره أَرْبَعمِائَة سنة فسلك بِهِ مَسْلَك آبَائِهِ وَدَفنه إِلَى جَانب أَبِيه فاضطربوا بعد
موت شالخ وتباغضوا وَفِي زَمَنه ملك عَاد بن عوص بن إرم بن سَام بن نوح الَّذِي تنْسب إِلَيْهِ الْقَبِيلَة كَانَ رجلا خياراً شَدِيد الْخلق يعبد الْقَمَر رأى من صلبه أَرْبَعَة آلَاف ولد مِنْهُم شَدِيد وَشَدَّاد وعلوان وَكَانَت بِلَاده مُتَّصِلَة بِالْيمن وَهِي بِلَاد الْأَحْقَاف وسنجار وَالدَّم والدهناء ويبرين إِلَى عمان وحضرموت وَكَانَ يُقَال الْعقبَة عَاد كَمَا يُقَال لبني تَمِيم تَمِيم ثمَّ يُقَال للأولين مِنْهُم عَاد الأولى وإرم تَسْمِيَة لَهُم باسم جدهم وَلمن بعدهمْ عَاد الْأَخِيرَة قَالَ تَعَالَى {وانه اهلك عَاد الأُولَى} النَّجْم 50 وَكَانُوا أعْطوا من الْخلق وَالْقُوَّة مالم يُعْط أحد من بني آدم قبلهم وَلَا بعدهمْ وَلذَلِك تجبروا فسموا جبارين واحتقروا من سواهُم من الْخلق من ولد يافث وَحَام وهم الَّذين ملكوا سَائِر الأقاليم وَكَانَ على أَوْلَاد سَام بِبَابِل كيومرث بن أميم بن لاوذ بن سَام بن نوح وَهُوَ أول ملك بِبَابِل وَقسم عَاد الأَرْض بَين ولديه شَدِيد وَشَدَّاد فَهَلَك شَدِيد وَكَانَ أظلم وأطغى من أَبِيه عَاد وَمَات عَاد وَله من الْعُمر ألف وَمِائَتَا سنة فَرجع الْملك إِلَى شَدَّاد بن عَاد وَقوم هَذَا هم عَاد الثَّانِيَة وهم الَّذين قَالُوا {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} فصلت 15 روى أَن الرجل مِنْهُم كَانَ يحمل الصَّخْرَة على الْحَيّ فيهلكهم وَكَانَ طول الرجل مِنْهُم مائَة وَعشْرين ذِرَاعا بذراعهم وَعرضه سِتُّونَ ذِرَاعا وَكَانَ أحدهم يضْرب الْجَبَل الصَّغِير فيقطعه وَكَانُوا يسلخون الْعمد من الْجبَال فيجعلون طول العملد مثل طول الْجَبَل الَّذِي يسلخونه من أَسْفَله إِلَى أَعْلَاهُ ثمَّ ينصبون الْعمد فيبنون فَوْقهَا الْقُصُور وَأَرَادَ شَدَّاد ملك الأَرْض كلهَا فَوجه إِلَى بني يافث وَبني حام وَبَقِيَّة بني سَام من أهل بَيته وَقَومه ثَلَاثَة نفر مَعَ كل وَاحِد مِنْهُم عشرَة آلَاف من الْجَبَابِرَة من ولد عَاد وَوجه إِلَى أَوْلَاد سَام الَّذين بِبَابِل ابْن أَخِيه الضَّحَّاك بن علوان بن عَاد وَهُوَ الَّذِي تسميه الْعَجم ايراسف وَلما جَاءَهُم هرب مِنْهُ ملكهم جمشيد لعلمه أَن لَا طَاقَة لَهُ بِقِتَال الْجَبَابِرَة الَّذين مَعَه فَطَلَبه الضَّحَّاك حَتَّى ظفر بِهِ فامتلخ أمعاءه ونشره بمنشار وَملك أرضه ومملكته وَمِنْهُم كَانَت الْجَبَابِرَة بِالشَّام الَّذين يُقَال لَهُم الكنعانيون وَوجه إِلَى ديار حام ابْن عَمه الْوَلِيد بن عمليق وَبِه سمى العمالقة وَهُوَ ابْن دومع ابْن عوص بن إرم بن سَام بن نوح وَكَانَ على بني حام ملكة يُقَال لَهَا بطريا أُخْت
حوريا الَّتِي بنى لَهَا جُبَير المؤتفكي العملاقي مَدِينَة الْإسْكَنْدَريَّة فوصل الْوَلِيد بن عمليق إِلَيْهَا وَاسْتولى وَغلب على ملكهَا وقتلها وَملك مصر وَعمر عمرا طَويلا وَهُوَ الَّذِي بنى الأهرام على أحد الْأَقْوَال وَلما مَاتَ ولي مصر ابْنه الريان بن الْوَلِيد بن عمليق وَوجه إِلَى ولد يافث ابْن أَخِيه غَانِم بن علوان أَخا الضَّحَّاك بن علوان وَكَانَ ملك يافث قبراسيات بن ترك بن يافث بن نوح فغلبه غَانِم وَاسْتولى على ملكه وأرضه وَلم يزل شَدَّاد ملكا إِلَى أَن بنى الْمَدِينَة وأخذته الصَّيْحَة عِنْد إِرَادَة دُخُولهَا فَتَوَلّى بعده رجل يُقَال لَهُ الخلجان بن عتيد آخر عَاد بن عوص بن إرم بن سَام بن نوح وانتقلوا من دِيَارهمْ إِلَى الْأَحْقَاف من عمان إِلَى حَضرمَوْت فَزعًا مِمَّا أصَاب قَومهمْ من الصَّيْحَة وقصة بِنَاء الْمَدِينَة وصفهَا مَذْكُور مَشْهُور لَا نطول بِذكرِهِ قَالَ ابْن بابويه وجدت فِي كتاب المعمر بن عُثْمَان أَنه ذكر عَن هِشَام بن سعيد الرّحال قَالَ وجدنَا بالإسكندرية حجرا مَكْتُوبًا فِيهِ أَنا شَدَّاد بن عَاد وَأَنا الَّذِي شيدت الْعِمَاد الَّتِي لم يخلق مثلهَا فِي الْبِلَاد وجندت الأجناد وسددت بساعدي السوَاد فبنيتها إِذْ لَا شيب وَلَا موت وَإِذا الْحِجَارَة مثل الطين فِي اللين وكنزت كنزاً فِي الْبَحْر لم يُخرجهُ أحد حَتَّى أمة مُحَمَّد
ثمَّ تزوج شالخ مرْجَانَة وَقيل معلب بنت عوليم فَولدت لَهُ عَابِر بِعَين مُهْملَة وباء مُوَحدَة مَفْتُوحَة وَكَانَ أشبه ولد آدم بِآدَم فَلَمَّا وَضعته سَمِعت النداء والأصوات من كل مَكَان هَذَا نور مُحَمَّد
يكسر كل صنم وَيقتل كل من طَغى وَكفر فَخرج عَابِر أكمل قومه جمالاً وَقد أرسل بنبوة خَاصَّة وَمن حَدِيثه أَنه لماء أهلك الله شداداً وغيبت عَنْهُم الْمَدِينَة وطلبوها فَلم يجدوها ولوا عَلَيْهِم أَخا عَاد واسْمه الخلجان بن عوص بن إرم بن سَام بن نوح كَمَا تقدم وانتقلوا من تِلْكَ الديار فَزعًا مِمَّا أصَاب قَومهمْ إِلَى الْأَحْقَاف والأحقاف رمال مَا بَين عمان إِلَى حَضرمَوْت وَمضى لَهُم سنُون لَا يدينون بدين وَلَا يعْرفُونَ الله وملكوا الأَرْض كلهَا وقهروا أَهلهَا بقوتهم وَبَقِي الْوُلَاة الثَّلَاثَة الْمُتَقَدّم ذكرهم مَعَ من مَعَهم بِمصْر وَغَيرهَا كَمَا هم قد ملكوا الْبِلَاد بعد شَدَّاد وقطن هَؤُلَاءِ بالأحقاف وَكَانُوا إِحْدَى عشرَة قَبيلَة العتود والجلود وصداء
ودقل وزمر وشود وزمل وَحمد والصمود وجاهد ومناف فَجَاءَهُمْ إِبْلِيس فِي صُورَة شيخ يرتعد وَزعم أَنه من أَوْلَاد شِيث وَأَنه كَانَ على سيف الْبَحْر مِمَّا يَلِي جدة قد انْفَرد لعبادة ربه وسألهم مَا الَّذِي وأقعكم إِلَى هَذِه الْأَحْقَاف والرمل وَغَيرهَا أخصب وَأحسن فحدثوه حَدِيث هَلَاك عَاد وَالْمَدينَة فَضَحِك وَقَالَ هَل سَمِعْتُمْ أحدا فِي الأَرْض لَا رب لَهُ قَالُوا لَا قَالَ لَو كَانَ مَعَه رب يبعده وَيسْجد لَهُ مَا أَصَابَهُ شَيْء كَمَا كَانَ مَعَ آبَائِهِ الْأَوَّلين وَهَا هُوَ معي يحفظني ويرعاني وَأخرج لَهُم صنماً لطيفاً من الذَّهَب الْأَحْمَر عَيناهُ من الْيَاقُوت الْأَزْرَق فَوَضعه وَسجد لَهُ وَقد وكل ماردا كلما سجد لَهُ قَالَ لَهُ المارد ارْفَعْ رَأسك وسلني مَا بدا لَك فَلَمَّا سمعُوا ذَلِك قَالُوا هَذَا هُوَ الْحق وَنحن لَا إِلَه لنا وسنشاور ملكنا الخلجان فنحت لَهُم إِبْلِيس حجرا وَأمرهمْ أَن يبنوا لَهُ بَيْتا ويمنعوه فِيهِ فَفَعَلُوا ووكل بِهِ مارداً وَقَالَ لَهُم اجعلوا هَذَا الْيَوْم عيداً تذبحون عِنْده وتتقربون إِلَيْهِ بالقرابين يخاطبكم بِجَمِيعِ مَا تُرِيدُونَ فسجدوا لَهُ فخاطبهم المارد بقوله يَا أهل عَاد لَو كَانَ هَذَا الْفِعْل مِنْكُم قَدِيما مَا كنت أهلكت ملككم شَدَّاد والآن قد عَفَوْت عَنْكُم فاستقيموا على عبادتي أؤمنكم من كل سوء وأخصب بِلَادكُمْ وَسَماهُ لَهُم الهناة فَصَارَ صنم الخلجان وَهُوَ أول صنم اتخدته عَاد فاتخذت كل قَبيلَة مِنْهُم صنماً سموهُ باسم سيد قبيلتهم وَلم يزَالُوا كَذَلِك عاكفين على عبَادَة الْأَصْنَام حَتَّى أذن الله فِي هلاكهم ثمَّ إِن الله جعل يُتَابع لهود المنامات حَتَّى إِذا أعلمهُ فِي نَومه أَنه مرسله إِلَى قومه وَقد ألهمه عِبَادَته وَشرح صَدره لقبُول ذَلِك وَبلغ أَرْبَعِينَ سنة أرسل الله إِلَيْهِ جِبْرِيل فَقَالَ لَهُ إِن الله أَرْسلنِي إِلَيْك بأنك الَّذِي ألهمك بَين قَوْمك توحيده واختارك لرسالته فاشدد حيازيمك وَانْطَلق إِلَى عَاد قَوْمك برسالة رَبك فأنذرهم بآياته وخوفهم عِقَابه فَقَالَ هود السّمع وَالطَّاعَة لأمر رَبِّي ثمَّ قَامَ فَشد وَسطه وَأخذ عَصَاهُ فِي يَده وأتى قومه فِي ناديهم وأبلغهم رسَالَته وَأَنْذرهُمْ عَذَابه وَأَن يعبدوا الله وَلَا يشركوا بِهِ شَيْئا وَأَن يرفضوا هَذِه الْأَصْنَام الَّتِي اتَّخَذُوهَا الهة
وَقَالَ لَهُم {يَا قوم اعبدوا اللَّهَ مَا لَكُم مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُم إِلَّا مفترون يَا قوم لَا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَاّ على الَّذِي فطرني أَفلا تعقلون وَيَا قوم اسْتَغْفرُوا ربكُم} إِلَى قَوْله {صِرَاط مُسْتَقِيمٍ} الْآيَات هود 50 56 قَالَ بعض الْأَعْلَام فَكَذبُوهُ وَقَالُوا {قَالُواْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تكن من الواعظين} الشُّعَرَاء 136 ثمَّ إِنَّهُم بطشوا بِهِ وخنقوه وتركوه كالميت فَبَقيَ يَوْمه وَلَيْلَته مغشياً عَلَيْهِ فَلَمَّا أَفَاق قَالَ رب قد علمت مَا فعل بِي قومِي ثمَّ أعَاد عَلَيْهِم القَوْل فَقَالُوا يَا هود اترك عَنَّا مَا تَقول فَإِن بطشنا بك الثَّانِيَة نسيت الأولى فَقَالَ ارْجعُوا إِلَى الله وتوبوا إِلَيْهِ وَأوحى الله إِلَيْهِ يَا هود قد أبلغت بِهِ فَارْجِع عَنْهُم يَوْمك ذَلِك فَإِن لَهُم وقتا آخذهم فِيهِ أَخذ عَزِيز مقتدر ثمَّ لما رأى قومه وعظه وتحذيره آمن رُؤَسَاء قبيلته ففت فِي أَعْضَاء سائرها فَجعل الله يهْدِيهم بقوله حَتَّى حصل مَعَه ثَلَاث قبائل فَأمره الله بمحاربتهم فحاربهم فَكَانَت الْحَرْب بَينهم سجالاً وَلما رَأَوْا أَن لَا طَاقَة لَهُم بقتاله وَمن مَعَه أَجمعُوا أَن يستغيثوا بعوج بن عنق على هود وَمن مَعَه فيكفيهم أمره فأجابهم وأتى فَأوحى الله إِلَى هود إِنِّي مخفيك أَنْت وَمن مَعَك عَن أَعينهم فَلَا يرونك تقَاتلهمْ كَمَا تحب وهم لَا يصلونَ إِلَيْك فَأعْلم هود الْمُؤمنِينَ فَزَادَهُم إِيمَانًا وَإِذ انجر الْكَلَام إِلَى ذكر عوج بن عنق فلنذكره وَأمه قَالَ فِي القامون عوج ابْن عنق ولد فِي منزل آدم عليه السلام وعاش إِلَى زمن مُوسَى ويحكى عَن خلقه شناعة انْتهى وَأمه عنق بنت آدم لصلبه وَقيل اسْمهَا عنَاق بِأَلف قبل الْقَاف وَهِي أول بغي على وَجه الأَرْض من ولد آدم وعملت السحر وجاهرت بِالْمَعَاصِي وَخلق الله لَهَا عشْرين إصبعاً فِي كل يَد طول كل إِصْبَع ذراعان بذراعها فِي كل إِصْبَع ظفران حديدان كالمنجلين العظيمين وَكَانَت مساحة مجلسها من الأَرْض جريباً فَلَمَّا بَغت خلق الله لَهَا أسوداً كالفيلة وذئاباً كَالْإِبِلِ ونسوراً كالحمر فسلطهم عَلَيْهَا فَقَتَلُوهَا وأكلوها وَفِي كتاب المبتدا أَن حَوَّاء حملت بعنق وَحدهَا فِي بطن وَلم تحمل ولدا وَاحِدًا إِلَّا شِيث وَهَذِه المشؤمة فرأت فِي منامها كَأَن حَيَّة لَهَا رَأس عَظِيم خرجت
مِنْهَا وَكَأَنَّهَا طارت سَاعَة وَوَقعت على الأَرْض فشرقت وغربت وَأَنَّهَا لم تقصد لوجه من الْوُجُوه إِلَّا اشتعل نَارا ودخاناً وقصت رؤياها على آدم فَقَالَ أحسبك اشْتَمَلت على ولد نسْأَل الله السَّلامَة من شَره فَكَادَتْ أَن تَمُوت حَوَّاء فِي وَضعهَا وَنظرت إِلَيْهَا على غير صُورَة بنيها وَذَلِكَ أَن الله أشنع صورتهَا وَعظم خلقهَا وَأَصَح مَا جَاءَ فِي صفتهَا مَا رُوِيَ عَن عَليّ بن أبي طَالب كرم الله وَجهه أَنه خطب فَذكر الجبارين وَذكر عوجا ابْنهَا فوصفها وَهُوَ على الْمِنْبَر فَقَالَ إِن أول بغي على وَجه الأَرْض عنق بنت آدم خلقهَا الله خلقا لم يخلق أحدا من بني آدم مثلهَا وَذَلِكَ أَنه كَانَ لَهَا فِي كل يَد عشرُون إصبعاً فِي كل إِصْبَع ظفران كالمنجلين ومجلسهما من الأَرْض قدر جريب وَكَانَ ضوء وَجههَا كلهب النَّار وَإِن الله لما أخرجهَا إِلَى الدُّنْيَا وَرَآهَا آدم وحواء ارتاع مِنْهَا وَقَالَ بئْسَمَا ولدت يَا حَوَّاء فَقَالَت يَا صفوة الله هَل لي وَلَك فِي قدرَة الله اعْتِرَاض وَكَانَ لَا يكفيها لبن حَوَّاء فتحلب لَهَا الْإِبِل والأغنام وَلم تكفها وتشب فِي الْيَوْم كَغَيْرِهَا فِي الشَّهْر وَفِي الشَّهْر كَغَيْرِهَا فِي السّنة فَمَا آن فطامها إِلَّا وَقد غلظ أمرهَا وَكثر شَرها على بني أَبِيهَا وسمتها حَوَّاء عنق وَهِي بِالْعَرَبِيَّةِ المسؤمة وَجعلت تؤذي إخوتها وَمَتى مَا علقت بِأحد خرقت ثِيَابه وأدمته وَكسرت كل مَا تقع يَدهَا عَلَيْهِ وَزَاد شَرها وَكَانَت إِذا نهتها حَوَّاء عَن شَيْء لَا تعْمل غَيره وَإِذا هَمت أَن تمنعها خافتها على نَفسهَا لعظم خلقهَا لِأَنَّهُ مَا فِي بني آدم أعظم من خلقهَا وَجعل إخوتها يهابونها وَلَا يأوون موضعا تكون فِيهِ وآدَم يشنؤها فَلَمَّا رَأَتْ مِنْهُم ذَلِك كَانَت تخرج إِلَى الصَّحرَاء وتطلب الْبر وتحتال على الوحوش وَالطير فتأكلها وَلما رَآهَا إِبْلِيس اسْتحْسنَ صورتهَا فتصور لَهَا فِي صُورَة تقاربها وجاءها وَهِي خَالِيَة بِنَفسِهَا فحياها فأجابته وَقَالَت لَهُ من أَنْت فَإِنِّي لم أرك قبل هَذَا فَقَالَ صدقت يَا عنق أَنا من ولد قابيل أَخِيك الَّذِي هرب من أَبِيه فَمَا يمنعك أَن تَأْتِينَا فِي مَنَازلنَا فَإِن أَبَاك وأمك يشنؤك وَلَا خير عِنْدهم فسارت مَعَه إِلَى عِنْد قابيل وَولده فَلم تمنع من جاءها عَن نَفسهَا حَتَّى حملت بعوج وَأَرَادَ الله أَن يَجعله حَدِيثا فِي الأَرْض فولدته أعظم مِنْهَا فَقَالَ لَهَا إِبْلِيس يَا عنق هَل لَك أَن أجعلك ملكة الْجِنّ مثل مَا كَانَ أَبوك ملك الْإِنْس فَقَالَت وَكَيف ذَاك فَقَالَ إِن الله أعلم أَبَاك الِاسْم الَّذِي
كَانَ إِذا دعِي بِهِ أجَاب فَكَتبهُ لأمك حَوَّاء وَهُوَ فِي عضدها فِي كتاب من الْفضة علقته عَلَيْهَا حرْزا مني وَمن وَلَدي فَلَا سَبِيل لنا عَلَيْهَا فَإِن قدرت أَن تأخذيه وتهربي بِهِ إِلَى عِنْد قابيل ثمَّ إِنَّك تدعين بِهِ فِيمَا أردْت فَإِنَّهُ يكون وتملكين الْجِنّ وَأول من يطيعك أَنا وجندي وَكَانَ الْكتاب فِي يَد حَوَّاء لَا يفارقها فَعَادَت عنق ورصدتها حَتَّى حَاضَت وأزالته من يَدهَا فسرقته وَخرجت بِهِ إِلَى الْبر فَقَالَ لَهَا إِبْلِيس قد ملكت مَا تحبين فادعي بِمَا شِئْت فَقَالَت اللَّهُمَّ إِنِّي أَسأَلك بِحَق هَذَا الِاسْم أَلا تجْعَل لأبي وَأمي عَليّ سَبِيلا وسخر لي إِبْلِيس وَجُنُوده فِيمَا أحب وَأُرِيد فَقَالَ لَهَا إِبْلِيس مرينا بِأَمْرك فَأَمَرته أَن يحملهَا إِلَى بني قابيل فَلَمَّا رأوها عجبوا من خلقهَا وأعلموا قابيل عَن حاليها فأعلمته وأعلمه إِبْلِيس بِالِاسْمِ الْأَعْظَم فَقَالَ لَهُ قابيل هَل لَك من حِيلَة نَأْخُذهُ مِنْهَا فَنحْن أَحَق بِهِ فَقَالَ لَهُ إِبْلِيس رفقا لِئَلَّا تشعر بذلك فتهلكنا وَكَانَت أَي شَيْء أَرَادَتْهُ يحضرهُ لَهَا إِبْلِيس فَأول مَا عمل لَهَا الْخمر فَشَرِبت مَعَ بني قابيل تَدْعُو لنَفسهَا من استحسنته وإبليس يجْتَهد فِي تَحْصِيل الِاسْم الْأَعْظَم وَلما أَن زنت وحاضت وشربت وَلم تفارق الِاسْم الْأَعْظَم فِي أَيَّام حَيْضهَا بدله الله بِالسحرِ فَرفع عَنْهَا فَكَانَت إِذا أَرَادَت الْعَمَل لَا يتم لَهَا فَعلم إِبْلِيس أَن الله رَفعه عَنْهَا إجلالاً لَهُ وَأَن الَّذِي بَقِي مَعهَا هُوَ السحر فَسَأَلَهَا فِيهِ فَأَخْرَجته إِلَيْهِ ثِقَة بمودته فَعمل إِبْلِيس بِهِ وانتشر السحر فِي بني قابيل وَغلب عَلَيْهِم إِبْلِيس واستعبدهم وَأخرج لَهُم المزامير والعيدان وَجَمِيع الملاهي وعنق لَا ترد يَد لامس وحملت بعوج وَلم تعلم مِمَّن حملت بِهِ فَلذَلِك نسب إِلَيْهَا فربته حَتَّى عظم وَقَوي وَبَقِي يطوف الأَرْض جبلا جبلا وَلم يُسَلِّطهُ الله على أحد من خلقه إِلَى زمن مُوسَى عليه السلام فَأَرَادَ أَن يَرْمِي عسكره بِالْجَبَلِ فَجعله الله طوقاً فِي عُنُقه وَقَتله مُوسَى عليه السلام كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبا قلت وَمن كَانَت هَذِه أمه فَغير عَجِيب أَن يكون عدوا للأنبياء وَقد قيل إِنَّه مَا زَالَ يفتك بالأنبياء وَيقتل إِلَى أَن هلك لَعنه الله تَعَالَى وأغار على الْأَنْبِيَاء حَتَّى قتل ثَمَانمِائَة وَأَرْبَعَة ع شَرّ نَبيا وروى أَنه جَاءَ إِلَى نوح مستغيثاً ليحمله فِي السَّفِينَة فخافه نوح فَقَالَ لَهُ عوج لَا بَأْس عَلَيْك يَا نوح مني دَعْنِي أَمْشِي مَعَ سفينتك فَإِنِّي أعلم أَن سفينتك لَا تسعني وَلَا تحملنِي فَأوحى الله إِلَى نوح ذَر عوجا وَلَا
تخف مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا قدرَة لَهُ عَلَيْك فَقَالَ لَهُ نوح ضع يدك على مؤخرة السَّفِينَة فَإِن الله قد أَمرنِي بذلك فَبلغ المَاء رُكْبَتَيْهِ وَفِي رِوَايَة مَا بلغ نصف سَاقيه وَكَانَ لَا يأوي إِلَى المدن وَلَا تسعه إِلَّا الصحارى وكهوف أعدهَا لنَفسِهِ تكنه من الأمطار وحر الشَّمْس سُئِلَ عوج مَا أعجب مَا رَأَيْت قَالَ كنت أخوض الْبَحْر دَائِما إِلَى ساقي أَو إِلَى ركبتي أَو إِلَى حقوي أَو إِلَى صَدْرِي فبلغت موضعا وَوضعت فِيهِ رجْلي فَلم أبلغ قراره فَرَجَعت هَارِبا فاعترضتني حَيَّة فأخذتها بيَدي ورفعتها حَتَّى ظهر بَيَاض إبطي وَلم يظْهر لَهَا رَأس وَلَا ذَنْب وعثر على نقباء مُوسَى الاثنى عشر حِين أرسلهم إِلَى أرِيحَا بلد الجبارين عيُونا فَأَخذهُم فِي كمه مَعَ فَاكِهَة كَانَ حملهَا من بُسْتَان فنثرهم بَين يَدي الْملك فردهم الْملك إِلَى مُوسَى ليعلموه بِمَا عاينوه قَالَ فِي الْأنس الْجَلِيل تَارِيخ الْقُدس والخليل كَانَ طول عوج ثَلَاثَة آلَاف وثلاثمائة وَثَلَاثِينَ ذِرَاعا وَثلث ذِرَاع وَكَانَ يحتجز السَّحَاب وَيشْرب مِنْهُ وَكَانَ يضْرب بِيَدِهِ فَيَأْخُذ الْحُوت من قاع الْبَحْر ثمَّ يرفعهُ إِلَى السَّمَاء فيشويه بِعَين الشَّمْس فيأكله انْتهى رَجعْنَا إِلَى استغاثة قوم هود الْكَافرين بعوج على هود وَقَومه الْمُؤمنِينَ اسْتَغَاثُوا بِهِ وضمنوا لَهُ إِن كفاهم هودا وَمن مَعَه أَن يفرضوا لَهُ فرضا يكون عَلَيْهِم وعَلى بنيهم أبدا وَكَانَ عوج أعظم خلقه من عَاد كَانَ أعظمهم يصل إِلَى ركبته أَو إِلَى وَسطه وَكَانَ إِذا جَاع قصد إِلَى مَدِينَة من المدن فيأتهيم بحزمة حطب يَضَعهَا على بَاب الْمَدِينَة فتسد بَابهَا وَتَعْلُو على السُّور فَإِذا رَأَوْا الْحَطب علمُوا أَنه جَاع لِأَنَّهُ جعل ذَلِك عَلامَة لجوعه وَمَنْفَعَة لَهُم فيكفيهم ذَلِك الْحَطب طول سنتهمْ فَيجْمَعُونَ لَهُ من كل منزل مِمَّا يَأْكُلُون على أقدارهم فيضعونه لَهُ فِي الصَّحرَاء فَيَأْخذهُ وينصرف وَهَذَا كَانَ دأبه فَلَمَّا قدم بالحطب إِلَى قوم هود الْكَافرين شكوا إِلَيْهِ أَمر هود وَقَومه الْمُؤمنِينَ وسألوه أَن يعينهم عَلَيْهِ فَقَالَ لَهُم أروني عسكره أكفيكم أمره فوعدوه يَوْمًا بِعَيْنِه لِيُقَاتِلُوا فِيهِ هوداً وَقَومه حَتَّى إِذا كَانَ ذَلِك الْيَوْم يداهم هوداً عليه السلام بِالْقِتَالِ وَكَانَ هود إِذا شَاءَ ظهر لَهُم بِمن مَعَه فيقاتلهم وَإِن شَاءَ يغيب بِمن مَعَه فَلَا يرونه صرفا من الله لبصرهم عَن رُؤْيَته فَأَتَاهُم عوج فَلَمَّا أبصره قوم هود ارتاعوا فَقَالَ لَهُم هود لَا ترتاعوا وَأخْبرهمْ بِصَرْف الله أبصار أعدائه عَنْهُم فَلَا
يرونهم فازدادوا إِيمَانًا كَمَا تقدم ذكر ذَلِك ثمَّ اختفى هود بِمن مَعَه فأبصر عوج قوم هود عليه السلام الْكَافرين فَقطع من الْجَبَل قِطْعَة على قدر الْعَسْكَر على عَاتِقه فألقاها على الْعَسْكَر فَقتل كل من وَقعت عَلَيْهِ وَكلما انفلت وَاحِد مِنْهُم أَخذ كفا من تُرَاب فدفنه فِيهِ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك صَاح الْبَاقُونَ يَا عوج نَحن أَصْحَابك قتلتنا وَتركت هودا فَقَالَ إِنَّمَا جِئتُكُمْ لأهْلك لكم عسكراً وَلم أجد غير هَذَا فَقَالُوا إِن هوداً سحر اعيننان فيرونا وَنحن لَا نراهم وَإِنَّمَا جِئْنَا بك لتَكون عوناً لنا وَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك فَانْصَرف عَنَّا فتركهم وَانْصَرف وَكَذَلِكَ أَرَادَ أَن يعْمل بِقوم مُوسَى فِي التيه فَإِنَّهُ وقف على عَسْكَرهمْ وهم لَا يعشرُونَ وَكَانَ فرسخين فِي فرسخين فَقطع من الْجَبَل قِطْعَة ليطقبها عَلَيْهِم فَأرْسل الله تَعَالَى هدهداً فِي منقاره حجر مذرب من ججر السامور فَضرب وسط الْحجر بِالْحجرِ فَوَقع فِي عُنُقه وَأخْبر الله مُوسَى فَخرج بعصاه إِلَيْهِ وَكَانَ طول مُوسَى عشرَة أَذْرع وَعَصَاهُ مثلهَا ونزا من الأَرْض مثلهَا وضربه على أَسْفَل كَعبه فَقتله ذكر ذَلِك ابْن فضل الله فِي إمْلَائِهِ وعمره ثَلَاثَة آلَاف وسِتمِائَة سنة قلت قَالَ الْعَلامَة شمس الدّين بن الْقيم فِي كِتَابه الْمُسَمّى بالمنار المنيف فِي الصَّحِيح والضعيف كلَاما يبين فِيهِ بطلَان قصَّة عوج إِلَى أَن قَالَ وَلَا ريب أَن هَذَا وَأَمْثَاله من وضع زنادقة أهل الْكتاب الَّذين قصدُوا الِاسْتِهْزَاء والسخرية بالرسل وأتباعهم انْتهى وَقَالَ الْحَافِظ عماد الدّين بن كثير فِي كِتَابه الْمُسَمّى بالبداية وَالنِّهَايَة فِي قصَّة عوج ابْن عنق جَمِيع مَا يحكون عَنهُ هذيان لَا أصل لَهُ وَهُوَ من مختلقات زناديق أهل الْكتاب وَلم يكن قطّ على عهد نوح وَلم يسلم من الْكفَّار أحدا انْتهى وَقَالَ الْعَلامَة جلال الدّين السُّيُوطِيّ رَحمَه الله تَعَالَى فِي آخر جَوَاب عَن سُؤَاله عَنهُ وَالْأَقْرَب فِي أمره أَنه كَانَ من بَقِيَّة عَاد وَأَنه كَانَ لَهُ طول فِي الْجُمْلَة مائَة ذِرَاع أَو اشبه ذَلِك لَا هَذَا الْقدر الْمَذْكُور وَأَن مُوسَى عليه السلام قَتله بعصاه
حذف هَذَا الْقدر الَّذِي يحْتَمل قبُوله انْتهى يَعْنِي بذلك مَا رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخ فِي كتاب العظمة قَالَ حَدثنَا إِسْحَاق بن جميل حَدثنَا أَبُو هِشَام الرِّفَاعِي حَدثنَا أَبُو بكر بن عَيَّاش حَدثنَا الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس قَالَ كَانَ أقصر قوم عَاد سبعين ذراعان وأطولهم مائَة ذِرَاع انْتهى ثمَّ إِن هوداً دَعَا على قومه أَن يبتليهم الله بالخوف والجوع فَأمْسك الله عَنْهُم الْقطر فَهَلَكت مَوَاشِيهمْ وجفت أَشْجَارهم واغبرت أَرضهم وَكَانَت بِلَاد رمل فأسرع الْقَحْط والجفاف إِلَيْهَا فَلَمَّا أحسوا بِالْهَلَاكِ اجْتَمعُوا وَقَالُوا قد كَانَ هود يخوفنا ونكذبه أَتَرَوْنَ أَن نأتي إِلَيْهِ فنسأله أَن يسْأَل ربه فيسقينا أَو نتركه ونتوجه إِلَى مَكَّة فنستسقي كَمَا كَانَ يفعل آبَاؤُنَا فأوفدوا إِلَى مَكَّة وَفْدًا يستسقون لَهُم وهم قيل بن عقير ونعيم بن هزال ومرثد بن مسعد بن عفير كَانَ مرْثَد مُؤمنا يكتم إيمَانه وجلهم بن الْحصين ابْن خَال مُعَاوِيَة بن بكر ولقمان بن عَاد وَأَصْحَاب النسور فَانْطَلق كل رجل مِنْهُم مَعَ قوم من رهطه حَتَّى بلغ عَددهمْ تسعين رجلا فنزلوا بِمَكَّة على مُعَاوِيَة بن بكر وَكَانُوا أَخْوَاله وأصهاره فأكرمهم وَأَقَامُوا عِنْده شهرا يشربون الْخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان فَلَمَّا رأى مُعَاوِيَة بن بكر مكثهم وَقد بَعثهمْ الْقَوْم يتغوثون لَهُم شقّ عَلَيْهِ ذَلِك وصعب عَلَيْهِ واستحيا أَن يَأْمُرهُم بِالْخرُوجِ فيظنون أَنه ثقل عَلَيْهِ مكانهم عِنْده فَشَكا إِلَى قينتيه فَقَالَتَا اعْمَلْ شعرًا تغنيهم بِهِ لَعَلَّه يخرجهم وَيذكرهُمْ مَا جَاءُوا لَهُ من طلب السقيا فَقَالَ مُعَاوِيَة شعرًا فتغنتا بِهِ وَهُوَ قَوْله // (من الوافر) //
(أَلا يَا قيلُ ويحكَ قُم فهَيْنِمْ
…
لعلَّ الله يُصبحُنا غَماما)
(فيسقي أرضَ عادٍ إنَّ عاداً
…
قد أَمسوْا لَا يُبينُون الكلاما)
(وَقد كَانَت نساؤهمُ بخيرٍ
…
فقد أمست نساؤهمُ أَيامى)
(وإنّ الوحشَ يأتيهمْ جهاراً
…
وَلَا يخْشَى لعاديٍّ سهاما)
(وأنتمْ هَهُنَا فِيمَا اشتهيتم
…
نهاركم وليلكمُ تَمامًا)
(فقُبِّح وفدكم من وفدِ قومٍ
…
وَلَا لُقُّوا التّحيّة والسّلاما)
فَقَالَ بَعضهم لقد صدقت الْمُغنيَة إِنَّمَا بعثكم قومكم تستسقون لَهُم فَقَالَ لَهُم مرْثَد الْمُؤمن وَالله لَا تَقول بدعائكم وَلَكِن بِطَاعَة نَبِيكُم هود وَأظْهر حِينَئِذٍ إيمَانه فَقَالُوا يَا مرْثَد لَا تقدم مَعنا فَإنَّك قد اتبعت دين هود فَتخلف مرْثَد وَمَعَهُ لُقْمَان فَمَضَوْا واستسقوا فَرفعت لَهُم ثَلَاث سحائب حَمْرَاء وبيضاء وسوداء ونادى مُنَاد يَا قيل اختر لقَوْمك فَقَالَ اخْتَرْت السَّوْدَاء فَكَانَ فِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {قَالُواْ هَذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} الْأَحْقَاف 24 {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَال وَثَمَانِية أَيَّامٍ حُسُوماً} الحاقة 7 فَدخلت بَينهم فصرعتهم فَهَرَبُوا إِلَى الْبيُوت فَكَانَت تلقع الْبَيْت من أساسه فَتضْرب بِهِ الْبَيْت الآخر فتطحنهما مَعًا وَتحمل الْإِبِل وَالنِّسَاء وَالرِّجَال وتقلع الشّجر من أُصُولهَا فَقَالَ سَبْعَة من عَاد رَأْسهمْ الخلجان وَهُوَ ملكهم وأعظمهم جسماً قومُوا نقف على شَفير الْوَادي وَكَانُوا قد زووا أَهَالِيهمْ فِي شعب ذَلِك الْوَادي فَترد الرّيح فوقفوا وكشفوا عَن صُدُورهمْ وَقَالُوا من أَشد منا قُوَّة فصرعتهم الرّيح وتركتهم كَمَا قَالَ تَعَالَى {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} الحاقة 7 وَلم يبْق إِلَى الخلجان وَحده فَتقدم إِلَى الْجَبَل وَهُوَ يبكي وَأخذ بِجَانِب مِنْهُ فهزه فاهتز فِي يَده فَعرض هود عَلَيْهِ التَّوْبَة فَأبى فَجَاءَتْهُ الرّيح فَدخلت تَحت قَدَمَيْهِ وَأمْسك بِالْجَبَلِ فَرَفَعته هُوَ والجبل فِي يَده قد شدّ عَلَيْهِ من أَصله إِلَى الْهَوَاء ثمَّ قلبه الرّيح على أم رَأسه وَلم يبْق من عَاد وَاحِد وَاعْتَزل هود وَمن مَعَه قومه الْمُؤمنِينَ فِي حَظِيرَة وَمَا يصيبهم مِنْهَا إِلَّا مَا يلين جُلُودهمْ ثمَّ أرسل الله عَلَيْهِم طيوراً سُودًا فنقلتهم كلهم إِلَى الْبَحْر {فَأَصْبحُوا لَا يرى إِلَّا مساكنهم} الْأَحْقَاف 25 ثمَّ تقدم هود وَمن آمن مَعَه من دِيَارهمْ الَّتِي سخط الله عَلَيْهِم فِيهَا إِلَى الشحر فسكنوا هُنَالك وَلما مَاتَ هود عليه السلام قبر بِمَكَّة وَقيل بحضرموت وَهُوَ الصَّحِيح عِنْد الْكَثِيب الْأَحْمَر وقبره مَعْرُوف هُنَالك وروى ابْن إِسْحَاق أَن أَبَا سُفْيَان صَخْر بن حَرْب بن أُميَّة وَعبد الله بن زيد أَقبلَا من
الشَّام فَلَمَّا وصلا إِلَى وَادي الْقرى لقيهمَا رجل من عَاد فَقَالَ أَطْعمُونِي فَجعل يلف كل مَا قدم إِلَيْهِ لفاً ثمَّ قَالَ احْمِلُونِي فضاقوا بِهِ ذرعاً وكرهوا صحبته فأطعمه عبد الله بن زيد وَحمله على بعير فَجعل يسحب رُكْبَتَيْهِ لطولهما فَلَمَّا انْتهى إِلَى وَادي العقيق قَالَ العادي لعبد الله إِنَّك حَملتنِي وأطعمتني فَأحب أَن أكافئك فاتبعني وَلَا تلْتَفت فَتَبِعَهُ إِلَى الْوَادي فَقَالَ انْظُر إِلَى مسْقط ظِلِّي فاحفر عِنْده فَانْطَلق عبد الله وحفر فَإِذا صَخْرَة عَظِيمَة فَقَالَ اقلعها فَلم يطق فَرَفعهَا العادي بِأُصْبُعِهِ وَانْحَدَرَ وَعبد الله مَعَه إِلَى سرب فِي الأَرْض فَإِذا سراج يزهر وَإِذا برجلَيْن من قوم عَاد ميتين فَقَالَ لَهُ العادي إِن هذَيْن صَاحِبَايَ فَإِذا مت فضمني إِلَيْهِمَا وَاحْتمل من المَال حَاجَتك ثمَّ اخْرُج وضع الصَّخْرَة على السرب وَلَا تلْتَفت حَتَّى تخرج من الشّعب وَعمد العادي إِلَى ريشة قد نتف جانبيها نَحوا من ذِرَاع فَأدْخلهَا فخارةً فِيهَا شبه القطران ثمَّ أخرجهَا فَأدْخلهَا منخره ثمَّ غمسها الثَّانِيَة فَأدْخلهَا منخره الآخر ثمَّ صَاح صحية كَاد عبد الله يهْلك مِنْهَا وَمَات العادي فضمه عبد الله إِلَى صَاحِبيهِ وَاحْتمل من المَال حَاجته وَوضع الصَّخْرَة على السرب بعد جهد جهيد وَمضى فَكَانَ أَكثر قُرَيْش مَالا انْتهى قَالَ المَسْعُودِيّ وَقد كَانَ فِي ملك النمرود بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح عليه السلام هيجان الرّيح الَّتِي أسقطت صرح النمرود وَفِي إقليم بابل من ارْض الْعرَاق فَبَاتَ النَّاس ولسانهم سرياني فَلَمَّا أَصْبحُوا تَفَرَّقت لغاتهم على اثْنَيْنِ وَسبعين لِسَانا فَسمى الْموضع بابل لتبلبل الْأَلْسِنَة بِهِ فَصَارَ من كَانَ من ولد سَام بن نوح تِسْعَة عشر لِسَانا وَفِي ولد حام سِتَّة عشر لِسَانا وَفِي ولد يافث سَبْعَة وَثَلَاثُونَ لِسَانا وَكَانَ من تكلم بِالْعَرَبِيَّةِ يعرب وجرهم وَعَاد وجديس وطسم وَعبيد وَثَمُود وعملاق ووبار وَعبد ضخم فَسَار يعرب بن قحطان بن عَابِر وَهُوَ هود عليه السلام ابْن شالخ بن أرفخشد بن سَام بن نوح بِمن تبعه من وَلَده وَولد وَلَده وَهُوَ يَقُول // (من الرجز) //
(أَنا ابْن قَحطان الهُمامِ الأنبلِ
…
يَا قوم سِيرُوا فِي الرّعيل الأولِ)
(نَحْو يَمِين الشّرق فِي تمهُّل
…
أَنا البديِّ بِاللِّسَانِ المُنهل)
(ذِي الْمنطق البيِّنِ غير المُشكلِ
…
)
فَحل بِالْيمن وَسَار بعده عَاد بن عوص بن إرم بن سَام بن نوح بولده وَمن تبعه فَحل بالأحقاف من بِلَاد عمان إِلَى حَضرمَوْت واليمن وتفرق هَؤُلَاءِ فِي الأَرْض وانقرضوا وملكهم جيرون بن سعيد بن عَاد وَحل بِدِمَشْق فمصر مصرها وَجمع عمد الرخام والمرمر وشيد بنيانها وَهَذَا الْموضع فِي وقتنا سوق من أسواقها بِبَاب الْمَسْجِد يعرف بِبَاب جيرون وَسَار بعد عَاد ثَمُود بن عَابِر بن شالخ بن أرفخشد بن سَام بن نوح وَمن تبعه من وَلَده وَغَيرهم فنزلوا الْحجر بَين الشَّام وَمَكَّة إِلَى قرح وَسَار طسم وجديس بن عَابِر بن شالخ بن أرفخشد بن سَام بن نوح فنزلوا الْيَمَامَة وَسَار عملاق بن لاوذ بن إرم بن سَام بن نوح فنزلوا أكناف الْحرم والتهائم وَمِنْهُم من سَار إِلَى مصر وَالْمغْرب وَقد ذكر أَن هَؤُلَاءِ بعض فَرَاعِنَة مصر وَبَعض النَّاس ألحق العمالقة بعيص بن إِسْحَاق بن إِبْرَاهِيم عليه السلام ثمَّ سَار وبار بن أميم بن لاوذ بن إرم بن سَام فَنزل أَرض وبار الأَرْض الْمَعْرُوفَة برمل عالج فبغوا فِي الأَرْض فَأَصَابَتْهُمْ نقمة فهلكوا جَمِيعًا قَالَ الشّعْر // (من مخلع الْبَسِيط) //
(ومرَّ دهرٌ على وَبَار
…
فهَلَكت جهرةً وَبَارُ)
ثمَّ سَار عبد ضخم بن إرم بن سَام بن نوح فنزلوا الطَّائِف فهلكوا بِبَعْض غوائل الدَّهْر ورثوا فيهم يَقُول الْأَزْدِيّ // (من المنسرح) //
(وعبدُ ضخمٍ إِذا نسبْتَهم]
…
أَبيض وجهٍ الحِجا مَعَ النسبِ)
(وابتدعوا منطقاً بخطّهم
…
فبيَّن الخطّ صحّة الْعَرَب)
وَذكر أَنهم أول من كتب بِالْعَرَبِيَّةِ وَوضع الأحرف أَب ث وَسَار جرهم بن قحطان واسْمه يقطان بن قحطان وجرهم لقب لَهُ وطافوا الْبِلَاد حَتَّى نزلُوا بِمَكَّة
وَسَار أميم بن لاوذ بن إرم بن سَام فَحل بِأَرْض فَارس وَنصب كيومرث بن أميم ملكا عَلَيْهِم وَسَار عبيل بن عوص بن إرم بن سَام بن نوح عليه السلام فِي وَلَده وَمن تبعه فنزلوا بِالْجُحْفَةِ بَين مَكَّة وَالْمَدينَة فهلكوا بالسيل فَسمى الموضح بِالْجُحْفَةِ لإجحافه عَلَيْهِم وَكَانَ يثرب بن قامة بن مهلئل بن إرم بن عبيل نزل بِالْمَدِينَةِ فسميت باسمه فَهَلَك أُولَئِكَ بِبَعْض غوائل الدَّهْر وأقصدتهم سهامه فَقَالَ بعض وَلَده مِمَّن رثاهم شعر // (من الْخَفِيف) //
(عينُ جودي على عَيبلٍ وَهل يرجعُ
…
مَا فاتَ فيضها بانسجام)
(عمّروا يثرباً وَلَيْسَ بهَا سَفرٌ
…
وَلَا سارحٌ وَلَا ذُو سَنَام)
(غرسوا لينها ببحرٍ معينٍ
…
ثمّ حفُّوا الفسيلَ بالآجام)
قَالَ فِي حقيبة الْأَسْرَار وَكَانَ فِي ولد سَام بن نوح رجل يُقَال لَهُ بواط بن لاوذ كَانَ على دين آبَائِهِ لم يُشْرك وَله أَوْلَاد كثير ضلوا وَكَانَ يُحِبهُمْ وَلَا يقدر أَن يفارقهم وَكَانَ قد أفهمهُ الله تَعَالَى جَمِيع اللُّغَات فَلَمَّا قوي اضطرابهم خَافَ أَن يقتتلوا ويفتن بَعضهم بَعْضًا وَكَانُوا قد أهلهم للعربية لأَنهم من أَوْلَاد سَام بن نوح فَقَالَ لَهُم اعقدوا لي لِوَاء وَرَايَة أرفعها للنَّاس وَأفهم كل طَائِفَة مَا أَقُول لَهُم فعقدوا لَهُ لِوَاء على رمح طَوِيل فرفعه بِيَدِهِ ثمَّ جَاءَ فأركزه فِي وسط الْقَوْم وَأَشَارَ إِلَيْهِم بِيَدِهِ أَن اجْتَمعُوا واسمعوا فَاجْتمع الْقَوْم حوله وأنصتوا فَجعل يلْتَفت إِلَى قوم بعد قوم ويكلمهم كلا بِلِسَانِهِ فَلَمَّا سمعُوا ذَلِك مِنْهُ فرحوا وَقَالُوا يَا فلَان مَا هَذَا الَّذِي جرى علينا وَكَانُوا يعْرفُونَ عقله وَعلمه فَقَالَ لكل قوم بلسانهم هَذِه عُقُوبَة عاقبكم الله بهَا بِسَبَب كفركم وعصيانكم وترككم طَاعَة ربكُم كَمَا فعل بِمن كَانَ قبلكُمْ من الطوفان حَتَّى لم يبْق أحدا وَلَوْلَا أَن الله وعد أَبَاكُم نوحًا أَلا يهْلك أحدا بعد الطوفان بِعَذَاب عَام لسلط عَلَيْكُم عذَابا يهلككم بِهِ وَلَكِن عاقبكم باخْتلَاف أَلْسِنَتكُم وَتغَير لغاتكم وَفِي ذَلِك عِبْرَة لكم فَقَالُوا صدقت يَا شَيخنَا فأشر علينا مَا نصْنَع فألهمه الله تَعَالَى أَن قَالَ تفَرقُوا فِي الْبِلَاد وليأخذ كل رجل مِنْكُم طائفته وَأهل بَيته وَمن هُوَ على لِسَانه وينحاز إِلَى جِهَة من الأَرْض يسكنونها وَلَا
يدْخل عَلَيْهِ أحد غَيره فاستدعى ألوية وعقدها وَدفع كل لِوَاء إِلَى رَئِيس مِنْهُم بِلِسَانِهِ على حِدة فَجعل أَوْلَاد يافث مَعَ اخْتِلَاف لغاتهم فرقة وَلَهُم لِوَاء وَقَالَ عَلَيْكُم بمهب الشمَال وَلكم من المجرة إِلَى مُنْتَهَاهَا وَدفع لِوَاء إِلَى بني حام وَقَالَ أَنْتُم عَلَيْكُم بمهب الْجنُوب وَلكم من مطلع سُهَيْل إِلَى مُنْتَهَاهَا وَهُوَ الْمغرب فافترق هَؤُلَاءِ من الْمشرق وَهَؤُلَاء من الْمغرب وَعقد لِوَاء ثَالِثا لبني سَام وَقَالَ عَلَيْكُم بمهب الدبور وَلكم من بَنَات نعش إِلَى مطلع سُهَيْل ثمَّ قَالَ وَأما أَنا فَإِنِّي بَاقٍ هَهُنَا على هَذَا اللِّوَاء مَعَ فالغ وَذَوِيهِ ولي وَلَهُم مهب الصِّبَا فَمن أَرَادَ مِنْكُم أَن يُقيم معي فَلْيفْعَل وانحاز بِمن مَعَه إِلَى فالغ بن عَابِر وَتَفَرَّقَتْ الْأُمَم إِلَى الْمَوَاضِع الْمَذْكُورَة وَبَقِي فالغ بن عَابِر فِي مَوْضِعه وَكَفاهُ الله شَرّ الْكفَّار من بني يافث وَحَام وشتت الله شملهم وَلما هدم الله بِنَاء ملكهم بَقِي فالغ وَمن مَعَه من الْمُؤمنِينَ بقرية الثَّمَانِينَ وَلم يُفَارق قُبُور آبَائِهِ وَكَانَ قد تزوج عَابِر فولد لَهُ فالغ وَهُوَ عَمُود النّسَب المحمدي وَإِلَى عَابِر ترجع الْعَرَب قيسيها ويمنيها فَمن وَلَده قحطان بن عَابِر وجرهم بن قحطان واسْمه يقطان وجرهم لقبه قَالَ الْعَلامَة المَسْعُودِيّ فِي كِتَابه الْمُسَمّى مروج الذَّهَب ومعادن الْجَوْهَر الصَّحِيح الَّذِي عَلَيْهِ أَكثر أهل الْعلم والقدماء من كهلان وحمير وَالْعُلَمَاء مِنْهُم أَن قحطان بن عَابِر وَهُوَ هود بن شالخ بن أرفخشد بن نوح عليهم السلام وَعَلِيهِ قَول أبي الطّيب من قصيدة يمدح بهَا // (من الطَّوِيل) //
(إِلَى الثَّمر الحُلو الَّذِي طيِّئٌ لَهُ
…
فروعٌ وقحطانُ بن هودٍ لَهُ أصلُ)
ولعابر الَّذِي هُوَ هود عليه السلام أَوْلَاد مِنْهُم فالغ وَهُوَ عَمُود النّسَب المحمدي وقحطان وملكان وَقيل إِن ملكان هُوَ ابْن قحطان لَا أَخُوهُ وَهُوَ يَعْنِي ملكان وَالِد الْخضر عليه السلام وَولد لقحطان أحد وَثَلَاثُونَ ولد ذكرا فولد قحطان يعرب بن قحطان وَولد يعرب يشجب بن يعرب وَولد يشجب عبد شمس وَيُقَال عبد الْملك وَهُوَ سبأ ابْن يشجب وَسمي سبأ لِأَنَّهُ أول من سبا السبايا فولد سبأ رجلَيْنِ حمير بن سبأ
وكهلان بن سبأ فالعقب الْبَاقِي من هذَيْن الرجلَيْن وَلَو كُنَّا بصدد ذكر مُطلق الْأَنْسَاب لذكرنا من فروع أنسابهم وفنون أخبارهم كثيرا إِلَّا أَنا قصدنا ذكر العدنانية لَا القحطانية لمَكَان نسبه عليه الصلاة والسلام وَأم فالغ ميثا وَقيل عُرْوَة بنت صفّين وَكَانَ مِنْهُ الْجَبَابِرَة وانقرضوا جَمِيعًا وَلم يعقب فالغ إِلَّا من ابْنه أرغو وَقَامَ بِالْأَمر بعد أَبِيه عَابِر وَكَانَ عمره مِائَتي سنة فَلَمَّا حَضرته الْوَفَاة أوحى الله إِلَيْهِ أَن يستودع النُّور وَالِاسْم الْأَعْظَم ابْنه أرغو كَمَا سَيَأْتِي وَمن حَدِيث فالغ بن عَابِر مَا ذكره صَاحب كتاب المبتدا أَن الله تَعَالَى لما أَرَادَ أَن ينْقل النُّور إِلَى فالغ اخْتَار أَبوهُ امْرَأَة من قومه فَلَمَّا انْتقل النُّور إِلَيْهَا شكر الله تَعَالَى فَلَمَّا تمّ حملهَا وَوَضَعته رباه أحسن تربية وَعلمه الصُّحُف فَلَمَّا بلغ من عمره ثَمَانِينَ سنة مَاتَ أَبوهُ فالغ بعد أَن أَخذ عَلَيْهِ الْعَهْد فِي النُّور فسلك بِهِ مَسْلَك آبَائِهِ وَدَفنه إِلَى جَانب أَبِيه وَقد اضْطربَ قومه وافترقوا وتباغضوا وَمَا اتَّفقُوا على فالغ وَلَا أطاعوه وبنوا لَهُم مَدِينَة بابل ليسكنوا فِيهَا وَكَانَ طولهَا عشرَة فراسخ فِي عرض سِتَّة فراسخ واجتخع فِيهَا بَنو حام وَبَنُو يافث وَبَنُو سَام جَمِيعهم وفالغ وَمن مَعَه من الْمُؤمنِينَ قَلِيلُونَ فَلم يسكنوا مَعَهم وَلَا قربوا موضعا هم فِيهِ بل كَانُوا فِي قَرْيَة الثَّمَانِينَ الَّتِي نزل بهَا نوح عليه السلام وَأقَام أُولَئِكَ عَلَيْهِم ملكا يجمعهُمْ اسْمه جامر بن يافث وَهُوَ أَبُو فَارس الَّذِي سميت بِهِ الْفرس فَاجْتمعُوا إِلَيْهِ وَقَالُوا أَيهَا الْملك لم يبْق على وَجه الأَرْض من يخالفك إِلَّا فالغ وَمن مَعَه وهم قَلِيلُونَ فَلَو غزوناهم وتركناهم لنا عبيدا أَو يدْخلُونَ فِي ديننَا فَقَالَ افعلوا مَا بدا لكم وأرفدهم من بني حام وَيَافث بعسكر عَظِيم وَولى عَلَيْهِم رجلا اسْمه شودب بن جرجان بن حام وَأمرهمْ أَن يستأصلوهم وَأَن يأتوه بفالغ أَسِيرًا وَقد كَانَ جامر بن يافث قد بنى لَهُ مَدِينَة يسكنهَا خوفًا من الطوفان أَن يعود لِأَنَّهُ كَانَ يحدث بِأَمْر الطوفان وَأَنه لم ينج مِنْهُ أحد وَأَن المَاء ارْتَفع فَوق الْجبَال فَأَرَادَ أَن يعلي الْبناء أَكثر مِمَّا كَانَ الطوفان لحقه حَتَّى إِذا عَاد سما هُوَ وَقَومه فِي أعاليه فَلَمَّا أكمل بناءه سَمَّاهُ المجدل وَكَانَ وَطوله فِي الْهَوَاء خَمْسَة آلَاف ذِرَاع وَعرضه ألفا وَخَمْسمِائة ذِرَاع فَلَمَّا فرغ مِنْهُ عزم على تجهيز الْعَسْكَر لغزو فالغ فَبَاتُوا تِلْكَ اللَّيْلَة وهم أجمع مَا كَانُوا وملكهم مَعَهم إِذْ أَصْبحُوا بِالْغَدَاةِ وَقد تبلبلت ألسنتهم وَهدم الله بنيانهم من
الْقَوَاعِد فَخر عَلَيْهِم السّقف من فَوْقهم وأهلكهم الله وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {فَأتى الله ببنيانهم مَنّ الْقَوَاعِدِ} الْآيَة النَّحْل 26 فاشتغلوا بِأَنْفسِهِم عَن فالغ وَمن مَعَه وَأصْبح كل قوم يَتَكَلَّمُونَ بلغَة لَا يعرفهَا الْقَوْم الْآخرُونَ فحاروا واضطربوا وَلم تفهم طَائِفَة مَا تَقول الْأُخْرَى فانحازوا فرقا كل فرقة تَتَكَلَّم بِلِسَان فَكَانَ للرجل ينحاز وَأهل بَيته مَعَه يَتَكَلَّمُونَ بلغَة وَاحِدَة يفهم بَعضهم بَعْضًا فَإِذا خالطهم أحد من غَيرهم لَا يفهمون قَوْله وَلَا يفهم قَوْلهم وانحازت طَائِفَة مِنْهُم ألهمها الله الْعَرَبيَّة فتكلموا بهَا فاولئك الَّذين يُقَال لعهم الْعَرَب وهم العرباء من خُصُوص بني سَام بن نوح فَمنهمْ عَاد وعبيل وَثَمُود وجديس وطسم وعمليق وأميم وَعبد ضخم ووبار ويثرب وجرهم كَمَا تقدم ذكر ذَلِك قَرِيبا فَهَؤُلَاءِ من بني سَام كلهم تكلمُوا بِالْعَرَبِيَّةِ بإلهام لَهُم من الله تَعَالَى فَنزلت بَنو سَام المجدل سرة الأَرْض وَهُوَ مَا بَين ساتيدما إِلَى الْبَحْر وَمَا بَين الْيمن إِلَى الشَّام وَجعل الله النُّبُوَّة وَالْكتاب وَالْجمال والأدمة وَالْبَيَاض فيهم وَنزل حام مجْرى الْجنُوب وَالدبور وَيُقَال لتِلْك النَّاحِيَة الداروم وَجعل الله فيهم أدمة وبياضاً قَلِيلا فعمر بِلَادهمْ وَسَمَّاهُمْ وَرفع عَنْهُم الطَّاعُون وَجعل فِي أَرضهم الأثل والأراك وَالْعشر والمغاث وَالنَّخْل وخزن الشَّمْس وَالْقَمَر فِي سمائهم وَنزل بَنو يافث الصفون مجْرى الشمَال وَالصبَا وَفِيهِمْ الْحمرَة والشقرة فأخلى الله لَهُم أَرضهم فاستدبروها وأخلى سماءهم فَلَيْسَ يجْرِي فَوْقهم شَيْء من النُّجُوم السَّبْعَة الْجَارِيَة لأَنهم صَارُوا تَحت بَنَات نعش والجدي والفرقدين وابتلوا بالطاعون وَلَحِقت عبيل وعتيد بِموضع يثرب والعماليق بِصَنْعَاء ثمَّ انحدر بَعضهم إِلَى يثرب فأخرجوا مِنْهَا عتيداً فنزلوا بِالْجُحْفَةِ وَلَحِقت ثَمُود بِالْحجرِ ومايليه فهلكوا ثمَّ لحقت طسم وجديس بِالْيَمَامَةِ فهلكوا وَلَحِقت أميم بِأَرْض وبار فهلكوا بهَا وَهِي بَين الْيَمَامَة وهجر وَلَا يصل إِلَيْهَا الْيَوْم أحد غلبت عَلَيْهَا الْجِنّ وَإِنَّمَا سميت وبار بوبار بن أميم
وَكَانَت الشَّام يُقَال لَهَا أَرض بني كنعان ثمَّ جَاءَ بَنو إِسْرَائِيل فَقتلُوا بهَا وَنَفَوْا باقيهم عَنْهَا ذكر هَذَا صَاحب كتاب حقيبة الْأَسْرَار وَهُوَ فِيهِ قَلِيل مُخَالفَة فِي الْبَعْض لما ذكره صَاحب مروج الذَّهَب فَمَا فِي المروج أَحَق إِلَيْهِ بالعروج وَاخْتلف أهل التَّارِيخ فِيمَن كَانَ ملكهم بعد فَارس بن لاوذ بن إرم بن سَام بن نوح صَاحب المجدل فَقيل هُوَ كيومرث بن لاوذ بن أميم بن إرم بن سَام بن نوح وَمعنى كيومرث حَيّ نَاطِق ميت وَقيل لوا عَلَيْهِم هوشنك بيشداد وَمَعْنَاهُ الدّين الْحَاكِم فَأخذ قومه بِعبَادة الله وَترك الْأَوْثَان وَقَامَ فيهم خَطِيبًا فَحَذَّرَهُمْ سخط الله تَعَالَى وَمَا فعل بِقوم نوح وَصَاحب المجدل وَقَالَ قد بَقِيتُمْ يَا بني سَام فِي موضعكم ونبيكم فالغ صَاحب النُّور وَقد وليتكُمْ الْآن فَمن دَان بدين فالغ وَقَالَ بِشَرِيعَتِهِ فَأَنا مِنْهُ وَهُوَ مني وَله الْأَمْن والمراعاة وَالْإِحْسَان وَمن أبي وَجحد الرَّحْمَن قتلته وَلَو كَانَ أخي أَو ابْني فاستقيموا أستقم لكم وَاتَّقوا الله واعبدوه فَاتَّبعُوهُ ودانوا بدين الله وسلكوا شرائع نوح عليه السلام وَكثر عَددهمْ وأخصبت بِلَادهمْ وفالغ فيهم وهوشنك يُوَجه إِلَيْهِ فِي كل وَقت مَا يحْتَاج إِلَيْهِ هُوَ وَالَّذين مَعَه وَعمر هوشنك الأَرْض وهندس الْمِيَاه وأجراها إِلَى العمائر وَأمر بقتل السبَاع وَاسْتِعْمَال جلودها مدبوغة وَهُوَ أول من ذبح الْبَقر وَالْغنم والوحش وَأكل لحومها وَبنى الْمَدَائِن وَلما بنى مَدِينَة السوس سَمَّاهَا بِلِسَانِهِ الشوش أَي الْحَسَنَة ثمَّ بنى مَدِينَة تستر سَمَّاهَا بِلِسَانِهِ شوشتر أَي هَذِه أحسن وَهُوَ أول من اتخذ السجون وسجن النَّاس فِيهَا وَكَانَ ملكه أَرْبَعِينَ سنة وعمره يَوْم مَوته سَبْعمِائة سنة واشهر ثمَّ ملك بعد طهمورث بن هماد فَسَار سيرته وسلك طَرِيقَته وَبنى مرو وآمد وقلعة سارس بأصفهان وَكَانَ ملكه ثَلَاثِينَ سنة وعمره يَوْم مَاتَ سِتّمائَة سنة وَفِي زَمَانه ولد لفالغ ابْنه أرغو وَإِلَيْهِ انْتقل النُّور فَأخذ بِهِ فالغ طَريقَة آبَائِهِ وأجداده من تَعْلِيم الصُّحُف وَدين الله تَعَالَى وَمَات فالغ فِي زمن جمشيد وَهُوَ أَخُو طهمورث وَمَعْنَاهُ السَّيِّد الشجاع وَهُوَ الَّذِي جند الأجناد وَجعل النَّاس خمس طَبَقَات مقاتلة ونساك وَكتب وصناع وخدام وَهُوَ أول من أثار علم الطِّبّ وطبع السيوف وصبغ الثِّيَاب بالألوان الْمُخْتَلفَة وَاتخذ السراويلات وَبنى إصطخر
وهمذان وطوس وَكَانَ مُدَّة ملكه سِتّمائَة وَسِتَّة عشرَة سنة وَهُوَ الَّذِي جَاءَ فِي أَيَّامه الضَّحَّاك بن علوان بن عَاد أرْسلهُ إِلَيْهِ شَدَّاد بن عَاد فهرب مِنْهُ جمشيد فَقتله الضَّحَّاك واستوثق لَهُ الْأَمر وَغير عبَادَة الله وَشرع نوح وطغى وتجبر وَطلب أرغو بن فالغ صَاحب النُّور المحمدي فَمَنعه الله مِنْهُ واختفى هُوَ وَمن مَعَه وَالضَّحَّاك فِي طلبه وَكَانَ أرغو يُسمى العابد وَهُوَ بِهَمْزَة مَفْتُوحَة فغين مُعْجمَة مَضْمُومَة وَكَانَ من جبابرة تملكوا وانقرضوا وَلَا عقب لَهُ إِلَّا من ساروغ عَاشَ أرغو مِائَتي سنة وَثَلَاثِينَ وَقَامَ بعده وَلَده ساروغ وَمن حَدِيث أرغو على مَا فِي كتاب المبتدا أَن الضَّحَّاك بن علوان طلبه وَأَنه اختفى مِنْهُ بِمن مَعَه وَهُوَ فِي طلبه فَقيل إِنَّه هرب ببنيه والعصابة القليلة الَّتِي مَعَه إِلَى أَن دخل إِلَى ديار بني يافث وَهُنَاكَ مَاتَ رَحمَه الله تَعَالَى وَقد ولد لَهُ ساروغ وَنور مُحَمَّد
قد انْتقل إِلَيْهِ وَهُوَ الَّذِي خرج بعد موت أَبِيه فالغ إِلَى ديار يافث وَذَلِكَ أَنه سكن مغارة فِي بعض جبال تِلْكَ الأَرْض وابتنى هُنَاكَ قبَّة من الرصاص وَهِي بَاقِيَة إِلَى الْآن وَذَلِكَ أَن الله تَعَالَى دله على معادن تِلْكَ الأَرْض كلهَا فاستخرج الرصاص وَعمل مِنْهُ قبَّة وَأمر وَلَده أَن يدفنوه فِيهَا وَقد وصل إِلَى هَذِه الْقبَّة رجل من الْعَرَب من حمير فِي زمن مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان فِي وقْعَة كَانَت بَينه وَبَين الرّوم وَالرجل يعرف بِعَبْد الله بن عمر الحيراني وَكَانَ عَالما بأيام الْعَرَب ووقائعهم حَافِظًا لأشعارهم فَلَمَّا وَقعت الْوَاقِعَة بَين مُعَاوِيَة وَملك الرّوم أسر مَعَ جملَة من الْمُسلمين فَلَمَّا جَاءَ عيد الشعانين جلس الْملك للنَّاس وَكَانَ اليعد ثَلَاثَة أَيَّام فَأول يَوْم يطعم أهل بَيته ورؤساء الرّوم وَالثَّانِي رُؤَسَاء بَلَده وَغَيرهم من أَصْحَاب الْأَمْوَال وَالثَّالِث الغرباء وَالْمَسَاكِين وَهُوَ فِي الثَّلَاثَة الْأَيَّام جَالس على سَرِيره والأطعمة تنقل بَين يَدَيْهِ وبطارقته من حوله وَهُوَ ينظر إِلَى النَّاس فَإِذا فرغ من عيده قضى الْحَوَائِج وَأطلق الأسرى وَأحسن إِلَى الْفُقَرَاء فَلَمَّا جَاءَ الْيَوْم الثَّالِث قَالَ فأخرجت فِي الأسرى لم آكل غير أَنِّي جعلت أتأمل فِي الْملك فرآني لَا أكل فَقَالَ خُذُوا هَذَا الْمُسلم فاعزلوه فِي ذَوي الْحَاجَات فَفَعَلُوا ثمَّ أَمر بإصلاح شأني وتغيير حَالي وأحضرني وقربني وَقَالَ من أَنْت فقد انكرك أَمرك يَوْم الطَّعَام فَقلت أَيهَا الْملك مَا رَأَيْته مِنْك أحب إِلَيّ من الطَّعَام فَقَالَ لَا شكّ
أَنَّك مُمَيّز عَارِف عَاقل فكساني وحملني على دَابَّة فَكَانَ كثيرا مَا يسألني عَن أَيَّام الْعَرَب ووقائعها فَأخْبرهُ فيطرب وَكَانَ فصيحاً بِالْعَرَبِيَّةِ عَالما باللغة وَكَانَ هُوَ يحدثني بِأَحَادِيث بني إِسْرَائِيل وَالْفرس وَالروم وَأَمْسِكْنِي عِنْده وأحبني وَكَانَ أهل دولته يتوسلون بِي فِي حوائجهم وَكَانَ يَخْلُو بِي ويسألني عَن الدّين وَالْإِسْلَام وَصفَة النَّبِي وأخباره وقصته فَأخْبرهُ فَقَالَ لي يَوْمًا أُرِيد السّفر إِلَى مَوضِع أهمني وَتَكون معي فَقلت إِلَى أَيْن قَالَ إِلَى قبَّة من رصاص بنيت فِي أول الزَّمَان لأنظر إِلَيْهَا بَيْننَا وَبَينهَا مفازة أَرْبَعَة أشهر وَإِن كَانَ لَا حِيلَة فِيهَا لِأَنَّهَا مطبقة لَا يعرف لَهَا بَاب فَسَار وَمَعَهُ بطارقة من جماعته وَعبيد نَحْو مائَة فِي مفازة غير مسكونة وَلَا معمورة حَتَّى انتهينا إِلَى قبَّة عالية من الرصاص على مِقْدَار نصف جريب فطفنا بهَا فَإِذا هِيَ قبَّة لَا بَاب لَهَا فَقَالَ الْملك أَرَأَيْت فَقلت نعم قَالَ إِنَّه كَانَ على قلبِي مِنْهَا أَمر عَظِيم وَلم أزل حَتَّى وصلت إِلَيْهَا فَكيف الاستعلام بِمَا فِي بَاطِنهَا فَقلت أَيهَا الْملك إِنَّهَا من الرصاص وَلَو أردْت حرقها وَكسرهَا لفَعَلت فِي أقل مُدَّة فَتَبَسَّمَ وَقَالَ هَذَا غير خَافَ عَليّ غير أَنه فِي أم الْكتاب الَّذِي قَرَأت فِيهِ حَدِيثهَا أَنه من أرادها بِسوء هلك من سَاعَته وَقد تعرض لَهَا جمَاعَة فماتوا فإياك أَن تنطق بِمثل هَذَا فتهلك السَّاعَة فتعجبت من كَلَامه ثمَّ ألهمني الله أَن قلت للْملك إِن أَنْت أَذِنت لي أَيهَا الْملك أَن أستفتح فأقرأ الْقُرْآن الَّذِي أنزل على نَبينَا مُحَمَّد
فَإِن يَك مَانع من الْجِنّ دونهَا فَإِنَّهُ يدحض ويهرب وَإِن يَك غير ذَلِك عَرفْنَاهُ فَقَالَ وَالله مَا جِئْت بك لغير هَذَا فَبَدَأت الْقِرَاءَة واستفتحت مُعْلنا صوتي وَأَنا أَطُوف حولهَا وَالْملك معي وَكنت قد بدأت بِأول الْقُرْآن فَلم أزل أَقرَأ سُورَة بعد سُورَة حَتَّى انْتَهَيْت إِلَى سُورَة الرَّعْد قَرَأت هَذِه الْآيَة {وَلَوْ أَنَّ قُرْءَاناً سُيّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} الْآيَة الرَّعْد 31 فَظهر لنا بَابهَا فسر الْملك بذلك فَدخلت وَأَنا أَقرَأ وَدخل الْملك معي وَإِذا فِي وَسطهَا قبر عَظِيم عَلَيْهِ رخامة مزبور فِيهَا خطّ فَلم أعرف أقرؤه فنقلته حَتَّى رَجعْنَا فَطلب الْملك من يَقْرَؤُهُ فَأتى بِرَجُل فقرأه لنا فَإِذا فِيهِ مَكْتُوب أَنا أرغو بن فالغ ابْن عَابِر بن شالخ بن أرفخشد بن سَام بن نوح وَتَحْت هَذَا مَكْتُوب أَبْيَات شعر وَهِي // (من الْخَفِيف) //
(أَنا أرغو بن فَالِغ المُعتاص
…
من ظلام الْإِشْرَاك بالإخلاص)
(كنت بِاللَّه مُؤمنا رب إِدْرِيس
…
ونوحٍ ومؤمناً بِالْقصاصِ)
(قَائِلا لَا إِلَه إلاّ الله
…
إلهي وَمن إِلَيْهِ مناصي)
(فَأَرَادَ الضّحّاك ذُو الْكفْر منى
…
أَن أضاهيه بالعميى والحِياص)
(فَتركت الْبِلَاد طرا واخليت
…
لَهُ عَن محلّتي وعراصي)
(وسكنت الكهوف دهراً طَويلا
…
خَائفًا هَارِبا من أهل الْمعاصِي)
(لأنال الْخَلَاص فِي دَار ملكٍ
…
يَوْم تعنو إِلَى إلهي النواصي)
(وبنيت الَّذِي ترَوْنَ بعون الله
…
ذِي المنّ من صفاح الرصاص)
(وَأمرت الْبَنِينَ أَن يقبروني
…
جوفها فِي ملاحفي وقماصي)
(سَوف يَأْتِي بعدِي بدهرٍ رسولٌ
…
من بني هَاشم الذُرى والأقاصي)
(عابدٌ قانتٌ رءوفٌ رحيمٌ
…
باليتامى والبائسين الخماص)
(لَيْتَني عمّرت حتّى أرَاهُ
…
لأنال الحبا وَفضل الْخَواص)
وَإِنَّمَا سقنا هَذَا دَلِيلا على صِحَة الرِّوَايَة فِي هرب أرغو بن فالغ صَاحب نور رَسُول الله
من الضَّحَّاك لَعنه الله وَأَنه بَقِي فِي ذَلِك الْموضع مَا شَاءَ الله تَعَالَى وَمَعَهُ جمَاعَة مِمَّن آمن بِاللَّه وَزَوجته ملكة بنت براكيل وَولد لَهُ ساروع بن أرغوا هُنَالك وَعَمله جَمِيع مَا علمه من أَب بعد أَب من لدن آدم عليه السلام ثمَّ مَاتَ أرغو وَدفن بالقبة الْمَذْكُورَة وَكَانَ قد وصّى وَلَده ساروع أَن يدفنه بهَا فَفعل وَلم يزل ساروع هُنَالك بعد موت أَبِيه أرغو حَتَّى هلك الضَّحَّاك بن علوان لَعنه الله أَخذه أفريدون فأوثقه وصيره بجبال دنباوند والعجم تزْعم أَنه موثوق بالحديد إِلَى الْيَوْم يعذب هُنَاكَ قد أَطَالَ الله عمره وَلما هلك رَجَعَ ساروع بن أرغو فِي زمَان أفريدون وَكَانَ فِي ديار بكر وَمَا والاها مَحْفُوظًا مكرما بِنور رَسُول الله
هَكَذَا قَرَّرَهُ صَاحب كتاب المبتدا وساروع بسين مَفْتُوحَة مُهْملَة وَألف بعْدهَا وَرَاء مُهْملَة وَعين مُهْملَة سمى بِهِ لِأَنَّهُ كَانَ يُسَارع للحرب وَكَانَ ملكا كَبِيرا مَعَ النُّبُوَّة أمه عُرْوَة بنت كوعل وَله أعقاب وعشائر وَأَوْلَاد وذرية جبابرة وَكلهمْ هَلَكُوا وَكَانَ عمره مائَة وَثَلَاثِينَ سنة وَلما حَضرته الْوَفَاة أوحى الله إِلَيْهِ أَن استودع الِاسْم الْأَعْظَم والنور ابْنك ناحور فَفعل وَأوصى إِلَيْهِ
فَقَامَ بعده ناحور وَابْنه نعْمَان أولد سارة زوج الْخَلِيل إِبْرَاهِيم وَأم إِسْحَاق وَقيل إِنَّهَا بنت ناحور وناحور بالنُّون والحاء غير الْمُعْجَمَة تَفْسِيره النَّهَار الْقَائِم بِأَمْر الله بعد أَبِيه قَالَ فِي كتاب الْوَصِيَّة فَمن آمن بِهِ كَانَ مُؤمنا وَمن جحد بولايتهم كَانَ كَافِرًا وَمن جهل أَمرهم كَانَ ضَالًّا ثمَّ أوحى الله إِلَى ناحور استودع الِاسْم الْأَعْظَم تارحاً ابْنك فَفعل وَتوفى ناحور وَهُوَ ابْن مائَة وَأَرْبَعين سنة وَقَامَ بعده وَلَده تارح بتاء مثناة فَوق وَألف وَرَاء مُهْملَة وحاء كَذَلِك مُهْملَة وَهُوَ أزر فِي قَول وَقيل أزر عَمه وَهُوَ الْملك ابْن ناحور بن ساروع بن أرغو بن فالغ بن عَابِر بن شالخ بن أرفخشد بن سَام بن نوح وَمن غير عَمُود النّسَب هاران وَكَانَ عمره مِائَتي سنة وَكَانَ حجاراً يصنع أصنام قومه الَّتِي كَانُوا يعبدونها وَهُوَ أَبُو إِبْرَاهِيم وَفِي كتاب الْوَصِيَّة عَن الْعَالم أَنه قَالَ كَانَ آزر جدا لإِبْرَاهِيم لأمه وَكَانَ منجماً للنمرود وَهُوَ ابْن طهماسفان وَفِي منهاج الطالبين كَانَ فِي زمن إِبْرَاهِيم نمْرُود بن كوش بن كنعان بن شَدَّاد وَقيل نمْرُود بن كنعان ملك الْمَشَارِق والمغارب وَهُوَ الَّذِي حَاج إِبْرَاهِيم فِي ربه وَكَانَ فِي ارْض بابل اخره منجموه أَن مولودا يُولد فِي قريتك هَذِه يُفَارق دينكُمْ وَيكسر أصنامكم فِي شهر كَذَا من سنة كَذَا فَلَمَّا دخلت السّنة الْمَذْكُورَة بعث نمْرُود إِلَى كل امْرَأَة حُبْلَى فِي قريته فحبسها إِلَّا امْرَأَة آزر ازما بنت شمر فَإِنَّهُ لم يعلم بحملها فَكَانَ لَا يُولد غُلَام فِي ذَلِك الشَّهْر من تِلْكَ السّنة إِلَّا أَمر بذَبْحه فَلَمَّا وجدت أم إِبْرَاهِيم الطلق خرجت إِلَى مغارة كَانَت قَرِيبا مِنْهَا فَولدت فِيهَا إِبْرَاهِيم وأصلحت من شَأْنه مَا جرت بِهِ الْعَادة ثمَّ سدت عَلَيْهِ فَم المغارة وعادت إِلَى بَيتهَا وَكَانَت تطالعه فِي المغارة لتنظر مَا يفعل فتجده حَيا يمص إبهامه وَقيل إِنَّه كَانَ يغتذى من ابهاهه وَقيل إِن الله جعل رزق إِبْرَاهِيم فِي أَطْرَافه وَكَانَ كلما مص من أَصَابِعه جعل الله لَهُ فِيهَا رزقا
وَكَانَ آزر سَأَلَ أم إِبْرَاهِيم عَن حملهَا فَقَالَت ولدت غُلَاما وَمَات وصدقها وتربى إِبْرَاهِيم فِي المغارة وَكَانَ الْيَوْم على إِبْرَاهِيم كالشهر والشهر كالسنة على غَيره فَلم يلبث إِبْرَاهِيم فِيمَا ذكر إِلَّا خَمْسَة عشرَة شهرا إِلَّا قَالَ لأمه أخرجيني أنظر فَأَخْرَجته فتفكر فِي خلق السَّمَوَات وَالْأَرْض ثمَّ نظر فِي السَّمَاء فَرَأى كوكباً كَمَا قَالَ الله تَعَالَى وَسَيَأْتِي الْكَلَام على تَمام قصَّة إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ وعَلى نَبينَا الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ الإِمَام أَبُو إِسْحَاق أَحْمد بن مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم الثَّعْلَبِيّ فِي كتاب العرائس لما نجى الله خَلِيله من نَار النمرود وَمن آمن بِهِ خرج مُهَاجرا إِلَى ربه وَتزَوج ابْنة عَمه سارة ابْنة هاران وَبِه سميت الْبَلدة الْمَشْهُورَة الَّتِي يُقَال لَهَا حران بقلب الْهَاء حاء فَخرج يلْتَمس الْفِرَار بِدِينِهِ والأمان على نَفسه وَمن آمن مَعَه فَقدم إِلَى مصر وَبهَا فِرْعَوْن من الفراعنة الأول وَكَانَت سارة من أحسن النِّسَاء وَكَانَت لَا تعصى إِبْرَاهِيم وَبِذَلِك أكرمها الله تَعَالَى فَأتى إِبْلِيس إِلَى فِرْعَوْن وَقَالَ إِن هَهُنَا رجلا مَعَه امْرَأَة من أحسن النِّسَاء فَأرْسل الْجَبَّار إِلَى إِبْرَاهِيم عليه السلام وَقَالَ مَا هَذِه الْمَرْأَة مِنْك فَقَالَ هِيَ أُخْتِي وَخَافَ إِن قَالَ امْرَأَتي أَن يقْتله فَقَالَ زينها وأرسلها إِلَيّ فَرجع إِبْرَاهِيم إِلَى سارة وَقَالَ لَهَا إِن هَذَا الْجَبَّار قد سَأَلَني عَنْك فَأَخْبَرته أَنَّك أُخْتِي فَلَا تكذبِينِي عِنْده فَإنَّك أُخْتِي فِي كتاب الله فَإِنَّهُ لَيْسَ مُسلم فِي هَذِه الأَرْض غَيْرِي وَغَيْرك ثمَّ أَقبلت سارة إِلَى الْجَبَّار وَقَامَ إِبْرَاهِيم يُصَلِّي وَقد رفع الله الْحجاب بَينه وَبَين سارة ينظر إِلَيْهَا مُنْذُ فارقته إِلَى أَن عَادَتْ إِكْرَاما لَهُ وتطييباً لِقَلْبِهِ فَلَمَّا دخلت سارة على الْجَبَّار وَرَآهَا دهش من حسنا وَلم يملك نَفسه أَن مده يَده إِلَيْهَا فيبست يَده على صدرها فَلَمَّا رأى ذَلِك عظم أمره وَقَالَ لَهَا سَلِي رَبك أَن يُطلق يَدي فَإِنِّي وَالله لَا أوذيك فَقَالَت سارة اللَّهُمَّ إِن كَانَ صَادِقا فِيمَا يَقُول فَأطلق يَده فَأطلق الله يَده فوهب لَهَا هَاجر وَهِي امْرَأَة قبطية جميلَة وردهَا إِلَى إِبْرَاهِيم فَأَقْبَلت إِلَيْهِ فَلَمَّا أحس بهَا انْفَتَلَ من صلَاته فَقَالَت كفى الله كيد الْفَاجِر ووهبني هَاجر وَقد وهبتها لَك لَعَلَّ الله يرزقك مِنْهَا ولدا وَكَانَت سارة قد منعت الْوَلَد حِين أَيِست فَوَقع إِبْرَاهِيم على هَاجر فَحملت بِإِسْمَاعِيل عَلَيْهِ
السَّلَام وَأقَام إِبْرَاهِيم بِنَاحِيَة من أَرض فلسطين بَين الرملة وايليا وَهُوَ يضيف من يَأْته وَقد أوسع الله عَلَيْهِ وَبسط لَهُ فِي الرزق وَكَانَ لوط بن هاران بن تارح ابْن أخي إِبْرَاهِيم عليه الصلاة والسلام وَفِي الْكَشَّاف وَكَانَ لوط ابْن أُخْت إِبْرَاهِيم عليه الصلاة والسلام وَهُوَ أول من آمن لَهُ يَوْم النَّار وَكَانَ مَعَه فِي هجرته وَهُوَ النَّبِي الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن الْمَبْعُوث إِلَى سدوم وَسَائِر الْقرى الْخمس المؤتفكة وَهِي سدوم وعمورا وَحَصُورًا وصابورا وَفِي الْكَشَّاف صيعة وصبور وعمواء ومي وسدوم وَهِي الْعُظْمَى وَذكر أَن سدوم جَمِيع مَا أَقَامَت عامرة إِحْدَى وَخمسين سنة قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ قرى قوم لوط كَانَت خمْسا أهلك الله أَرْبعا بِأَهْلِهَا وَبقيت وَاحِدَة وَهِي بِلَاد بَين تخوم الْحجاز مِمَّا يَلِي الْأُرْدُن وبلاد فلسطين إِلَّا أَن ذَلِك فِي حيّز الشَّام خراب لَا أنيس بِهِ وَلَا حسيس قَالَ الثَّعْلَبِيّ فِي العرائس وَإِنَّمَا سمى لوط لِأَن حبه ليط بقلب إِبْرَاهِيم أَي تعلق ولصق فَكَانَ إِبْرَاهِيم عليه السلام يُحِبهُ حبا شَدِيدا وَهَاجَر مَعَه إِلَى مصر وَعَاد إِلَى الشَّام فَأرْسلهُ الله إِلَى أهل سدوم الْقرْيَة الَّتِي قيل فِيهَا أجور من قَاضِي سدوم وَكَانُوا أهل كفر وفاحشة فَقَالَ لَهُم لوط أتقطعون السَّبِيل وتأتون فِي ناديكم الْمُنكر وَكَانَ قطعهم السَّبِيل إتْيَان الْفَاحِشَة بِمن ورد عَلَيْهِم إِذا مر عَلَيْهِم الْمَار أمسكوه وفعلوا بِهِ اللواط وَفِي ناديهم الْمُنكر نِكَاح بَعضهم بَعْضًا وَعَن عَائِشَة كَانُوا يتحابقون فِي الْمجَالِس وَعَن ابْن عَبَّاس الْمُنكر هُوَ الْحَذف بالعصى وَالرَّمْي بالبنادق والفرقعة
للأصابع ومضغ العلك والسواك بَين النَّاس وَحل الْإِزَار والسباب وَالْفُحْش فِي المزاح وَقيل السخرية بِمن مر بهم وَقيل المجاهرة فِي ناديهم بذلك الْعَمَل يرتكبونها معالنين بهَا لَا يسْتَتر بَعضهم من بعض خلاعةً ومجانةً وانهماكاً فِي الْمعْصِيَة وَقَالُوا لم يثر ذكر على ذكر قبل قوم لوط فَقَالَ لوط {أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ من الْعَالمين وتذرون مَا خلق لكم ربكُم من أزواجكم} الشُّعَرَاء 165 166 يَعْنِي وجدكم تختصون بِهَذِهِ الْفَاحِشَة والعالمون على هَذَا القَوْل كل مَا ينْكح من الْحَيَوَان قَالَ فِي الْكَشَّاف وَمن أزواجكم يصلح أَن يكون بَيَانا لما خلق وَأَن يكون للتَّبْعِيض وَيُرَاد بِمَا خلق الْعُضْو الْمُبَاح مِنْهُنَّ وَفِي قِرَاءَة ابْن مَسْعُود مَا أصلح لكم ربكُم من أزواجكم وَكَانُوا يَفْعَلُونَ مثل ذَلِك بنسائهم فَكَذبُوهُ فَلم يزدهم وعظه إِلَّا تمادياً فَسَأَلَ الله فيهم فَأرْسل الله الْمَلَائِكَة بقلب سدوم والمؤتفكات فَجعلُوا طريقهم على إِبْرَاهِيم عليه السلام فَمَا لبث أَن جَاءَ بعجل حنيذ فَلم يَأْكُلُوا فأوجس مِنْهُم خيفة فَقَالَت لَهُم زَوجته سارة مالكم تمتنعون من طَعَام نَبِي الله فبشروها بِإسْحَاق وَمن وَرَاء إِسْحَاق يَعْقُوب وَكَانَت سارة يَوْمئِذٍ ابْنة تسعين سنة وَإِبْرَاهِيم ابْن مائَة وَعشْرين سنة فَقَالَت (ءَأَلِدُ وَأَناْ عَجُوزٌ} إِلَى آخر الْآيَتَيْنِ هود 72 {فَلَمَّا ذهب عَن إِبْرَاهِيم الْوَرع} هود 74 قَالَ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَي الْكبر إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق} إِبْرَاهِيم 39 وسألهم فِيمَا أَتَوا فَقَالُوا أَتَيْنَا بِهَلَاك قوم لوط قَالَ إِبْرَاهِيم يَا جِبْرِيل إِن كَانَ فِيهَا خَمْسُونَ بَيْتا من الْمُسلمين أتهلكهم فَقَالَ لَا فَقَالَ إِبْرَاهِيم وَأَرْبَعُونَ قَالَ لَا قَالَ وَثَلَاثُونَ قَالَ لَا قَالَ وَعشرَة قَالَ لَا قَالَ وَوَاحِد قَالَ لَا {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لننجينه واهله إِلَّا امراته كَانَت من الغابرين} العنكبوت 32 فَلَمَّا وصلت الْمَلَائِكَة إِلَى لوط وهم فِي صُورَة مرد حسان الْوُجُوه رَأَوْهُ تَحت الْبَلَد يسْقِي زرعا لَهُ وَكَانَ زارعاً فَقَالُوا لَهُ هَل من قرى عنْدك اللَّيْلَة فَقَالَ إِن أهل هَذِه الْقرْيَة لعنهم الله قوم سوء ينْكحُونَ الرِّجَال
وَيَأْخُذُونَ الْأَمْوَال فَمَا أَنْتُم قَالُوا نَحن عبيد وَكَانَ آخر النَّهَار فتركهم وَذهب إِلَى الْبَلَد وَقَالَ لامْرَأَته إِن كتمت عَليّ اللَّيْلَة فِي ضيوف عِنْدِي عَفَوْت عَمَّا مضى مِنْك وَكَانَت إِذا جَاءَهُ ضيف لَيْلًا توقد فَوق السَّطْح وَإِن جَاءَهُ نَهَارا تدخن عَلامَة بَينهَا وَبَين قَومهَا فوعدته الكتمان فغدا بهم وَقَالَ لَا تَمْشُوا إِلَّا فِي ظلّ الْحَائِط فَقَالُوا أمرنَا سيدنَا أَلا نسلك إِلَّا وسط الجادة فَلَمَّا وصلوا أوقدت النَّار على السَّطْح فَجَاءُوا إِلَيْهِ يهرعون كَمَا حكى الله تَعَالَى عَنْهُم ذَلِك وَقَالُوا لَهُ يَا لوط {أولم ننهك عَن الْعَالمين} الْحجر 70 فَقَالَ {يَا قوم هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} هود 78 يَعْنِي بِالتَّزْوِيجِ لأكابركم {فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} هود 78 فَكَانَ من جوابهم قَوْلهم {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَناتِكَ} إِلَى آخِره هود 79 فناشدهم الرَّحِم وهم على العناد فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل افْتَحْ لَهُم فَقَالَ {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَو آوي إِلَى ركن شَدِيد} هود 80 وَقَول من أَنْت قَالَ جِبْرِيل قَالَ بِمَاذَا أتيت قَالَ بهلاكهم قَالَ مَتى قَالَ {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ} هود 81 فاستبطأ لوط ذَلِك فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل عليه السلام {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} هود 81 فَضرب جِبْرِيل بجناحه فَأعمى كل من فِي الْمَدِينَة وَكَانَ فيهم عَابِد وعالم فَكَانَ العابد يَقُول لَهُم نَدْعُو عَلَيْهِ والعالم يُحَذرهُمْ وينهاهم عَن مُخَالفَته فَذَهَبُوا إِلَى العابد ليدعو فَدَعَا فَلم يستجب لَهُ فَذَهَبُوا إِلَى الْعَالم فَقَالَ لَهُم احْفَظُوا لوطا فَإِنَّهُ مادام فِيكُم لم ينزل عَلَيْكُم الْعَذَاب فأحاطوا بداره جَمِيعًا وَكَانَ جِبْرِيل أمره أَن يطالع لَيْلًا فَلَمَّا جَاءَ عِنْده الصُّبْح رَآهُ بَاقِيا فِي مَكَانَهُ فَقَالَ لم لَا تطلع فَاعْتَذر بِشدَّة اجْتِمَاعهم على دَاره وَأَنه لَا يُمكنهُ ذَلِك فَضرب جِبْرِيل الأَرْض بقضيب فانفتح سردات فِيهِ قضيب من نور إِلَى ظَاهر الْبَلَد فَقَالَ اتبعهُ {وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَاّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها مَا أَصَابَهُمْ} هود 81 فَخَرجُوا مُسْرِعين فتبعتهم امْرَأَته فَسمِعت من خلفهَا هدة فالتفتت فَسَقَطت عَلَيْهَا صَخْرَة فأهلكتها وَفِي الْكَشَّاف قيل إِنَّهَا هَلَكت مَعَ من خرج من الْقرْيَة بِمَا أَمر عَلَيْهِم من الْحِجَارَة لكَونهَا راضية ومحرشة والراضي بالمعصية فِي حكم العَاصِي
وَأما الأمطار فَعَن قَتَادَة أمطر الله على شَدَّاد الْقَوْم حِجَارَة من السَّمَاء فأهلكتهم قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ الحاصب لقوم لوط وَهِي ريح عاصف فِيهَا حَصْبَاء وَقيل ملك كَانَ يرميهم قَالَ الشريف أَبُو مُحَمَّد هَارُون المأموني لما سَمِعت الصَّوْت امْرَأَة لوط قَالَت واقوماه فأدركها حجر فَقَتلهَا لأَنهم كَانُوا قد أمطر الله عَلَيْهِم حِجَارَة من سجيل فَهَلَكت مَعَ الْقَوْم فَلَمَّا كَانَ الصُّبْح اقتلع جِبْرَائِيل أَرضهم سدوم وقراها بِمن فِيهَا وَكَانَ فِيهَا أَرْبَعَة الْألف ألف فَرَفعهَا من سبع أَرضين حَتَّى بلغ بهَا السَّمَاء وَسمع أهل السَّمَاء بنبح كلابهم وصياح ديكتهم وَلم يكفأ لَهُم إِنَاء وَلم ينتبه لَهُم نَائِم ثمَّ قَلبهَا فَعجل عاليها سافلها وأمطر الله الْحِجَارَة على من لم يكن بالقرى فأهلكهم وَكَانَ ذَلِك بعد مُضِيّ تسع وَتِسْعين سنة من عمر إِبْرَاهِيم عليه السلام وَعَن أبي جَعْفَر مُحَمَّد بن عَليّ الباقر رضي الله عنهم أَن قوم لوط كَانُوا من أفضل قوم خلقهمْ الله تَعَالَى وَكَانَ من فَضلهمْ أَنهم إِذا خَرجُوا للْعَمَل خَرجُوا بأجمعهم وَبَقِي النِّسَاء خَلفهم فحسدهم إِبْلِيس على عِبَادَتهم فَكَانُوا إِذا رجعُوا خرب إِبْلِيس مَا يعْملُونَ فرصدوه فَإِذا الَّذِي يخرب مَتَاعهمْ غُلَام حسن فَاجْتمع رَأْيهمْ على قَتله وبيتوه عِنْد رجل مِنْهُم فَلَمَّا كَانَ اللَّيْل صَاح فَقَالَ لَهُ الرجل مَالك فَقَالَ كَانَ أبي ينومني على بَطْني فَلم يزل بذلك الرجل حَتَّى علمه يعْمل بِنَفسِهِ فأولاً علمه إِبْلِيس وَالثَّانيَِة علمه هُوَ ثمَّ انْسَلَّ اللعين ففر مِنْهُم فَجعل الرجل يحدث بِمَا فعل لغلام فَأَعْجَبَهُمْ فوضعوا أَيْديهم فِيهِ حَتَّى اكْتفى الرِّجَال بِالرِّجَالِ فَجعلُوا يرصدون مار الطَّرِيق يَفْعَلُونَ بِهِ حَتَّى تنكب النَّاس مدينتهم ثمَّ تركُوا نِسَاءَهُمْ وَأَقْبلُوا على الغلمان فَلَمَّا رأى إِبْلِيس أَنه قد أحكم أمره فِي الرِّجَال أَتَى إِلَى النِّسَاء وصير نَفسه امْرَأَة وَقَالَ إِن رجالكم يفعل بَعضهم بِبَعْض قَالُوا نعم وَلُوط بَعضهم حَتَّى اسْتغنى النِّسَاء بِالنسَاء فَلَمَّا كملت عَلَيْهِم الْحجَّة أرسل الله جِبْرَائِيل وَمِيكَائِيل وإسرافيل فِي زِيّ غلْمَان
عَلَيْهِم أقبية فَمروا بلوط وَهُوَ يحدث إِلَى آخر مَا تقدم وَأما قبر لوط فَهُوَ فِي قَرْيَة تسمى كفر بريك عِنْد مَسْجِد الْخَلِيل عليه السلام بِنَحْوِ فَرسَخ وَنقل أَن فِي المغارة الغريبة تَحت الْمَسْجِد الْعَتِيق سِتِّينَ نَبيا مِنْهُم عشرُون مُرْسلا وَهَذَا الْمَكَان مَشْهُور بِالْفَضْلِ ويزار على فَرسَخ من حرا جبل صَغِير مشرف على بحيرة زغر وبموضع قريات لوط مَسْجِد بناه أَبُو بكر مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل الصاحي فِيهِ مرقد إِبْرَاهِيم عليه السلام قد غاص فِي الصخر بِنَحْوِ ذِرَاع يُقَال إِن إِبْرَاهِيم عليه السلام لما رأى قريات قوم لوط فِي الْهَوَاء وقف أَو رقد ثمَّ قَالَ أشهد أَن هَذَا هُوَ الْحق الْيَقِين فَلذَلِك سمى مَسْجِد الْيَقِين وَكَانَ بِنَاء هَذَا الْمَسْجِد فِي شهر شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وثلاثمائة وبظاهر الْمَسْجِد مغارة بهَا قبر فَاطِمَة بنت الْحسن بن عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنهم وَعند قبرها رخامة مَكْتُوب عَلَيْهَا بالكوفي // (من الْبَسِيط) //
(أسكنت من كَانَ بالأحشاء مسكنهُ
…
بالرّغم منّي بَين التّرب وَالْحجر)
(أفديك فاطمةٌ ممّا رُميت بِهِ
…
بنت الأئمّة بنت الأنجم الزّهر)
ولنعد إِلَى تَمام قصَّة إِبْرَاهِيم عليه السلام إِذْ قصَّة لوط وَقعت فِي الْبَين لاتصالها بهَا اتِّصَال السّمع بِالْعينِ لما أوجس إِبْرَاهِيم عليه السلام من الْمَلَائِكَة خيفة حِين لم يأكولا مَا قدمه لَهُم {قَالُواْ لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ} أَي وَالْحَال أَن امْرَأَته أَي إِبْرَاهِيم ابْنة عَمه سارة {قَائِمَةٌ} تخدمهم {فَضَحِكَتْ} هود 71 تَعَجبا أَن يكون لَهَا ولد بعد بُلُوغ تسعين عَاما فالضحك على حَقِيقَته الْمَعْرُوفَة وَقَالَ مُجَاهِد وَيُمكن ضحِكت حَاضَت تَقول الْعَرَب ضحِكت الأرنب إِذا حَاضَت قَالَ السّديّ فَحملت سارة بِإسْحَاق وَكَانَت هَاجر قد وَقع عَلَيْهَا إِبْرَاهِيم عليه السلام بعد أَن وهبتها لَهُ سارة فَحملت بِإِسْمَاعِيل فَوَضَعَتَا فشب الغلامان فتسابقا فَسبق إِسْمَاعِيل فَأَخذه إِبْرَاهِيم وَأَجْلسهُ فِي حجره وأجلس إِسْحَاق إِلَى
جَانِبه فَغضِبت سارة وَقَالَت عَمَدت إِلَى ابْن الْأمة فأجلسته إِلَى حجرك وعمدت إِلَى ابْني فأجلسته إِلَى جَانِبك وَأَخذهَا مَا يَأْخُذ النِّسَاء من الْغيرَة فَحَلَفت لتقطعن مِنْهَا ثَلَاثَة أَعْضَاء أَو تغيرن خلقتها ثمَّ ثاب إِلَيْهَا عقلهَا فتحيرت فِي يَمِينهَا فَقَالَ إِبْرَاهِيم اخفضيها واثقبي أذنيها فَفعلت وحلت من يَمِينهَا فَصَارَ ذَلِك سنة فِي النِّسَاء والخفاض للنِّسَاء كالختان للرِّجَال ثمَّ إِنَّه تهارش إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق كَمَا يتهارش الصّبيان فَغضِبت سارة على هَاجر وَحلفت أَلا تساكنها فِي بلد وَاحِد وَطلبت من إِبْرَاهِيم على نَبينَا وَعَلِيهِ السَّلَام وعَلى سَائِر الْأَنْبِيَاء أَن يعزلها عَنْهَا فَأوحى إِلَى إِبْرَاهِيم أَن يَأْتِي بهاجر وَابْنهَا إِلَى مَكَّة فَذهب بهَا حَتَّى قدم مَكَّة وَهِي إِذْ ذَاك عضاه وَسلم وَمَوْضِع الْبَيْت ربوة حَمْرَاء فَعمد بهَا إِلَى الْحجر بِكَسْر الْحَاء فأنزلها فِيهِ وأمرها أَن تتَّخذ فِيهِ عَرِيشًا ثمَّ انْصَرف فتبعته هَاجر فَقَالَت الله أَمرك بِهَذَا قَالَ نعم قَالَت إِذن لَا يضيعنا فَرَجَعت عَنهُ وَكَانَ مَعهَا مَاء فِي شن فنفد فعطشت وعطش ابْنهَا فَنَظَرت إِلَى الْجَبَل فَلم تَرَ دَاعيا وَلَا مجيباً فَصَعدت على الصَّفَا ثمَّ هَبَطت إِلَى الْمَرْوَة وعينها من وَلَدهَا حَتَّى نزلت فِي الْوَادي فغابت عَنهُ فهرولت حَتَّى صعدت الْجَانِب الآخر فرأته فاستمرت إِلَى أَن صعدت الْمَرْوَة فَمَا رَأَتْ أحدا فترددت كَذَلِك سبعا فَعَادَت إِلَى وَلَدهَا وَقد نزل جِبْرِيل عليه السلام فَضرب بجناحه الأَرْض فنبع المَاء فَرَجَعت هَاجر إِلَيْهِ وحسبته عَن السيلان وَهِي تَقول زم زم تكررها فسميت زَمْزَم لذَلِك وَفِي لفظ النُّبُوَّة لَوْلَا انها اعجلت لكَانَتْ عينا معنيا فَشَرِبت وأرضعت ابْنهَا وَقَالَ لَهَا جِبْرِيل لَا تخافي الضَّيْعَة فَإِن هَهُنَا بَيْتا لله يبنيه هَذَا الْغُلَام وَأَبوهُ وَركب إِبْرَاهِيم منصرفاً من يَوْمه وَكَانَ ذَلِك بِوَحْي الله تَعَالَى قَالُوا ثمَّ مرت رفْقَة من جرهم تُرِيدُ الشَّام فَرَأَوْا طيراً تحوم على جبل أبي قبيس فَقَالُوا إِن هَذَا الطير يحوم على مَاء فتبعوه فأشرفوا على بِئْر زَمْزَم فَقَالُوا لهاجر إِن شِئْت نزلنَا مَعَك وَالْمَاء ماؤك فَأَذنت لَهُم فنزلوا مَعهَا فهم أول من سكن مَكَّة على هَذِه الرِّوَايَة لَكِن الْأَصَح أَن العمالقة أول من سكنها كَمَا ذكر ذَلِك
فِي تَرْتِيب من بني الْبَيْت عبد اللَّطِيف بن أبي كثير بقوله // (من الطَّوِيل) //
(بنى الْكَعْبَة الغرّاء عشرٌ ذكرتهم
…
ورتّبتهم حسب الّذي أخر الثّقه)
(ملائكةُ الرّحمن آدم وَابْنه
…
كَذَاك خَلِيل الله ثمّ العمالقة)
(وجُرْهُمُ يتلوهم قصيٌّ قريشُهم
…
كَذَا ابْن زبيرٍ ثمّ حجاجُ لاحقه)
وَزَاد بَعضهم فَقَالَ // (من الطَّوِيل) //
(وَمن بعد عَام الْأَرْبَعين لقد بنى
…
مرادٌ حماه اللهُ من كل طارقه)
وَقد ذكر الأرزقي من خبر العمالقة مَا يَقْتَضِي سبقهمْ فِي سُكْنى مَكَّة لجرهم فَإِنَّهُ روى بِسَنَدِهِ إِلَى سيدنَا عبد الله بن الْعَبَّاس رضي الله عنهما أَنه قَالَ كَانَ بِمَكَّة حَتَّى يُقَال لَهُم العماليق من نسل عمليق بن لاوذ بن سَام بن نوح وَكَانُوا فِي عز وثروة كَانَت لَهُم خيل وإبل وماشية تسْعَى حول مَكَّة وَكَانَت العضاه ملتفة وَالْأَرْض مبقلة وَكَانُوا فِي عَيْش رخيٍّ فبغوا فِي الأَرْض وأسرفوا على أنفسهم وأظهروا الظُّلم والإلحاد وَتركُوا شكر الله تَعَالَى وَكَانُوا يكرون الظل ويبيعون المَاء فسلبوا النِّعْمَة وأخرجهم الله من مَكَّة بِأَن سلط الله عَلَيْهِم النَّمْل حَتَّى خَرجُوا من الْحرم ثمَّ ساقهم الجدب حَتَّى الحقهم بمساقط رُءُوس ابئهم بِبِلَاد الْيمن فَتَفَرَّقُوا وهلكوا انْتهى وَلما نزلُوا على زَمْزَم أهدوا إِلَيْهَا عشرا من الْغنم فَيُقَال إِن جَمِيع أَغْنَام بني إِسْمَاعِيل من نسل تِلْكَ الْعشْرَة وَتوفيت هَاجر أم إِسْمَاعِيل وقبرها فِي الْحجر فَتزَوج إِسْمَاعِيل من جرهم فَتكلم بلسانهم فَيُقَال لبني إِسْمَاعِيل الْعَرَب المستعربة وَيُقَال لجرهم وقحطان الْعَرَب العاربة وَيُقَال لطسم وجديس وعبيل الْعَرَب البائدة لأَنهم بادوا وهلكوا جَمِيعًا قَالَ الْعَلامَة المَسْعُودِيّ فِي مروجه بَنو نزار تنكر تعلم إِسْمَاعِيل الْعَرَبيَّة من جرهم وتدعي أَن الله تَعَالَى علمه ههذ اللُّغَة قَالُوا ولغة جرهم غير هَذِه اللُّغَة وَنحن نؤيد ذَلِك فقد وجدنَا لُغَة بني قحطان تخَالف لُغَة بني نزار وَذَلِكَ يَقْتَضِي إبِْطَال قَول من قَالَ إِن إِسْمَاعِيل أعرب بلغَة جرهم انْتهى مَا قَالَه المَسْعُودِيّ قَالَ التقي الفاسي رحمه الله قَالَ ابْن هِشَام بعد أَن ذكر أَن قبرها وقبر ابْنهَا جعلا فِي الْحجر عِنْد الْكَعْبَة مَا نَصه تَقول الْعَرَب هَاجر وآجر فيبدلوا الْألف
من الْهَاء كَمَا قَالُوا فِي هراق المَاء وأراق المَاء وَهَاجَر من أهل مصر وَقَالَ حَدثنَا عبد الله بن وهب عَن عبد الله بن لَهِيعَة عَن عمر مولى غفرة أَن رَسُول الله
قَالَ الله الله فِي أهل الذِّمَّة أهل الدرة السود السحم الجعاد فَإِن لَهُم نسبا وصهراً قَالَ عمر مولى غفرة نسبهم لِأَن أم إِسْمَاعِيل مِنْهُم وصهرهم أَن رَسُول الله
تسرى فيهم قَالَ ابْن لَهِيعَة أم إِسْمَاعِيل هَاجر من قَرْيَة كَانَت أَمَام الفرما من مصر والفرما مَدِينَة تنْسب إِلَى صَاحبهَا الَّذِي بناها وَهُوَ الفرما بن فيلفوس وَقيل ابْن فيلبس وَمَعْنَاهُ محب الْفرس انْتهى وَقَالَ الْعَلامَة أَبُو الْقَاسِم السُّهيْلي فِي الرَّوْض الْأنف كَانَت هَاجر لملك الْأُرْدُن واسْمه صارون فِيمَا ذكره القتيبي دَفعهَا إِلَى سارة حِين أَخذ سارة من إِبْرَاهِيم إعجاباً مِنْهُ بجمالها فصرع مَكَانَهُ لما أَرَادَ الدنو إِلَيْهَا فَقَالَ ادعِي الله أَن يُطلقنِي الحَدِيث كَمَا تقدم ذكر ذَلِك وَهَذَا الحَدِيث مَشْهُور فِي الصِّحَاح فأرسلها وأخدمها بهاجر فوهبتها سارة لإِبْرَاهِيم وَكَانَت هَاجر قبل ذَلِك بنت ملك من مُلُوك القبط بِمصْر والقبط أَوْلَاد قبط بن مصر بن بيصر بن حام بن نوح عليه السلام وَذكر من حَدِيث سيف بن عمر أَن عَمْرو بن الْعَاصِ حِين حاصر مصر قَالَ لأَهْلهَا إِن نَبينَا عليه الصلاة والسلام قد وعدنا بِفَتْحِهَا وَقد أمرنَا أَن نستوصي بِأَهْلِهَا خيرا فَإِن لَهُم نسبا وصهرا فَقَالُوا هَذَا انسب لَا يحفظ حَقه إِلَّا نَبِي لِأَنَّهُ نسب بعيد وَصدق كَانَت أمكُم امْرَأَة لملك من مُلُوكنَا فحاربنا أهل عين الشَّمْس فَكَانَت لَهُم علينا دولة فَقتلُوا الْملك واحتملوها فَمن هُنَالك تصيرت إِلَى أبيكم إِبْرَاهِيم
قلت وَقَول السدى فِيمَا تقدم إِن سَبَب إِخْرَاج إِبْرَاهِيم هَاجر إِلَى الْحرم إِنَّمَا كَانَ بِسَبَب غضب سارة على هَاجر حِين تسابق الغلامان وَسبق إِسْمَاعِيل إِسْحَاق ولإقعاد إِبْرَاهِيم عليه السلام إِسْمَاعِيل فِي حجره وإقعاد إِسْحَاق إِلَى جَانِبه وَقَول سارة عَمَدت إِلَى ابْن الْأمة فأجلسته فِي حجرك إِلَى آخِره لَيْسَ بِصَحِيح وَكَذَا قَوْله تهارش إِسْمَاعِيل وَإِسْحَاق كَمَا يتهارش الصّبيان فَغضِبت لَيْسَ بِصَحِيح بل الصَّحِيح أَن سَبَب إخْرَاجهَا مَحْض الْغيرَة كَمَا رَأَيْته فِي غَالب كتب السّير ثمَّ إِنَّه ذكر أَن إِسْمَاعِيل كَانَ طفْلا إِذا ذَاك لَا يهارش وَلَا يسابق انْتهى وَذكر النَّوَوِيّ والسهيلي أَنَّهَا مَاتَت وَسن وَلَدهَا إِسْمَاعِيل عشرُون سنة وروى الْأَزْرَقِيّ عَن ابْن إِسْحَاق أَن إِبْرَاهِيم لما أَمر بِبِنَاء الْبَيْت أقبل من أرمينية على الْبراق حَتَّى انْتهى إِلَى مَكَّة وَبهَا إِسْمَاعِيل وعمره يَوْمئِذٍ عشرُون سنة وَقد توفيت أمه قبل ذَلِك وَهَذَا يَقْتَضِي أَن أمه توفيت وسنه دون عشْرين لِأَنَّهَا مَاتَت قبل قدوم إِبْرَاهِيم وَقدم إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل ابْن عشْرين سنة ثمَّ إِن إِبْرَاهِيم عليه السلام اسْتَأْذن سارة فِي زِيَارَة ابْنه وَأمه فَأَذنت لَهُ واشترطت أَلا ينزل عِنْدهَا فَقدم إِبْرَاهِيم عليه السلام وَقد مَاتَت هَاجر فَأتى بِبَيْت إِسْمَاعِيل فَوجدَ امْرَأَته فَقَالَ لَهَا أَيْن صَاحبك فَقَالَت ذهب يتصيد وَكَانَ إِسْمَاعِيل يخرج من الْحرم إِلَى الْحل فيصيد مَا يتعيش بِهِ فَقَالَ لَهَا هَل عنْدك ضِيَافَة من طَعَام أَو شراب قَالَت لَيْسَ عِنْدِي شَيْء فَقَالَ لَهَا إِذا جَاءَ زَوجك فَأَقْرئِيهِ مني السَّلَام وَقَوْلِي لَهُ غير عتبَة بَيْتك وَذهب إِبْرَاهِيم عليه السلام فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيل عليه السلام قَالَت لَهُ جَاءَنِي رجل شيخ صفة كَذَا وَكَذَا أَقْرَأَك السَّلَام وَقَالَ غير عتبَة بَيْتك فَقَالَ لَهَا الحقي بأهلك وَتزَوج غَيرهَا فَمَكثَ إِبْرَاهِيم مُدَّة ثمَّ اسْتَأْذن فِي الزِّيَارَة فجَاء إِلَى مَكَّة وَقدم على منزل إِسْمَاعِيل فَوَجَدَهُ غَائِبا فِي الصَّيْد كَذَلِك فَقَالَ لامْرَأَته أَيْن ذهب صَاحبك قَالَت ذهب يتصيد ورحبت بِهِ وَقَالَت لَهُ اجْلِسْ يَرْحَمك الله وجاءته بِلَحْم وَلبن وَمَاء فَأكل وَشرب وَقَالَت لَهُ يَا عَم هَلُمَّ حَتَّى أغسل رَأسك وأزيل شعثك وَجَاءَت بِحجر قيل هُوَ حجر الْمقَام الَّذِي بنى عَلَيْهِ الْكَعْبَة بعد فَجَلَسَ عَلَيْهِ فغاصت رِجْلَاهُ فِي الْحجر فغسلت شقَّه الْأَيْمن ثمَّ الْأَيْسَر ثمَّ أفاضت المَاء على رَأسه وبدنه إِلَى أَن فرغت فَتوجه من
عِنْدهَا وَقَالَ لَهَا إِذا جَاءَ صَاحبك فَأَقْرئِيهِ مني السَّلَام وَقَوْلِي لَهُ قد استقامت عتبَة بَيْتك فالزمها فَلَمَّا جَاءَ إِسْمَاعِيل وجد رَائِحَة أَبِيه فَقَالَ لَهَا هَل جَاءَك أحد قَالَت نعم جَاءَنِي شيخ من أحسن النَّاس وَجها وأطيبهم ريحًا فأضفته وسقيته وغسلته وَهَذَا مَوضِع قَدَمَيْهِ وَحين توجه قَالَ لي أقرئي صَاحبك مني السَّلَام وَقَالَ كَذَا وَكَذَا قَالَ إِسْمَاعِيل نعم أَمرنِي أَن أثبت مَعَك وَقبل مَوضِع قدمي أَبِيه من الْحجر وَحفظه يتبرك بِهِ إِلَى أَن بنى فِيمَا بعد إِبْرَاهِيم عليه السلام الْكَعْبَة ثمَّ بعد ذَلِك قدم إِبْرَاهِيم عليه الصلاة والسلام إِلَى مَكَّة وَبنى الْكَعْبَة الشَّرِيفَة فَلَمَّا فرغ من بنائها أمره الله أَن يُؤذن فِي النَّاس بِالْحَجِّ فَقَالَ يَا رب وَمَا عَسى أَن يبلغ مدى صوتي فَقَالَ تَعَالَى عَلَيْك النداء وعلينا الْبَلَاغ فَصَعدَ على جبل ثبير وَقيل فِي الْحجُون وَقيل على ظهر الْكَعْبَة ونادى يَا عباد الله إِن ربكُم قد بنى بَيْتا وأمركم أَن تحجوه فحجوا وأجيبوا دَاعِي الله فَأَسْمع صَوته جَمِيع من فِي الدُّنْيَا سيول مِمَّن وَمن هُوَ فِي أصلاب الرِّجَال وأرحام الْأُمَّهَات فَأَجَابَهُ من سبق فِي علم الله أَنه سيحج لبيْك ليبك وَكَانَ حج من حج بِعَدَد تلبيته السَّابِقَة إِن خمْسا فَخمس أَو عشرا فعشر أَو أقل أَو أَكثر فبحسبه فسبحان الْقَدِير على كل شَيْء لَا إِلَه إِلَّا غَيره قَالَ فِي الْأَعْلَام روى كَعْب الْأَحْبَار عَن رجال قَالُوا لما رأى إِبْرَاهِيم فِي الْمَنَام أَنه يذبح ابْنه وَتحقّق أَنه أَمر ربه قَالَ لِابْنِهِ يَا بني خُذ المدية وَالْحَبل وَانْطَلق بِنَا إِلَى هَذَا الشّعب لنحتطب لأهلنا فَأخذ الْمَدِينَة وَالْحَبل وَتبع وَالِده فتمثل الشَّيْطَان رجلا فَأتى أم الْغُلَام فَقَالَ أَتَدْرِينَ أَيْن ذهب إِبْرَاهِيم بابنك قَالَت ذهب ليحتطب لنا من هَذَا الشّعب فَقَالَ لَهَا الشَّيْطَان لَا وَالله مَا ذهب إِلَّا ليذبحه قَالَت كلا هُوَ أشْفق مني عَلَيْهِ وَأَشد حبا قَالَ إِنَّه يزْعم أَن الله أمره بذلك قَالَت فَإِن كَانَ الله أمره بذلك فليطع أمره فَخرج الشَّيْطَان حَتَّى أدْرك الابْن على أثر أَبِيه وَهُوَ يمشي فَقَالَ يَا غُلَام أَتَدْرِي أَيْن يذهب بك أَبوك قَالَ نحتطب
لأهلنا من هَذَا الشّعب قَالَ كلا زعم أَن الله أمره بذبحك فَقَالَ الْغُلَام فَلْيفْعَل مَا أمره الله بِهِ وسمعاً وَطَاعَة لأمر الله تَعَالَى فَأقبل الشَّيْطَان على إِبْرَاهِيم فَقَالَ أَيْن تُرِيدُ أَيهَا الشَّيْخ بِهَذَا الْغُلَام قَالَ أُرِيد هَذَا الشّعب لحَاجَة لي فِيهِ فَقَالَ لَهُ إِنِّي أرى الشَّيْطَان خدعك بِهَذَا الْمَنَام الَّذِي رَأَيْته وَأَنَّك تذبح ولدك وفلذة كبدك فتندم بعد حَيْثُ لَا ينفعك النَّدَم فَعرفهُ إِبْرَاهِيم عليه الصلاة والسلام وَقَالَ إِلَيْك عني يَا مَلْعُون وَالله لأمضين لأمر رَبِّي فنكص إِبْلِيس على عَقِبَيْهِ بخزيه وغيظه وَلم ينل من إِبْرَاهِيم شَيْئا وَيُقَال إِن مَوَاضِع الْجمار الثَّلَاث هِيَ مَوَاقِف الشَّيْطَان الَّتِي رجمه إِسْمَاعِيل فِيهَا لما اعْتَرَضَهُ للغواية بَقِي الرَّجْم إِلَيْهَا سنة فِي شرعنا دحضاً للشَّيْطَان فَلَمَّا خلا بِهِ إِبْرَاهِيم فِي الشّعب وَيُقَال كَانَ ذَلِك فِي ثبير قلت الْمَشْهُور فِي ثبير أَنه المطل على مَسْجِد الْخيف والمنحر الْمَشْهُور فِي سفحه وَتَصِح الرِّوَايَة فَإِن الْمُقَابل يُقَال لَهُ ثبير رم نَص عَلَيْهِ الْعَلامَة الفاسي وَغَيره وعدها سَبْعَة أثبرة وَبَينهَا انْتهى وَلما خلا بِهِ فِي الشّعب قَالَ لَهُ {يَا بني إِنّي أَرَى فِي الْمَنَامِ} الْآيَة الصافات 102 فَحدثت أَن إِسْمَاعِيل قَالَ لَهُ عِنْد ذَلِك يَا أبتاه إِذا أردْت ذبحي فاشدد وثاقي لَا يصيبك من دمي فينقص أجري فَإِن الْمَوْت شَدِيد وَلَا آمن أَن أَضْطَرِب عِنْده إِذا وجدت مَسّه واستحد شفرتك حَتَّى تجهز عَليّ فَإِن أَنْت أضجعتني فَاكْفِنِي على وَجْهي وَلَا تضجعني لشقي فَإِنِّي أخْشَى إِن نظرت إِلَى وَجْهي أَن تدركك الرأفة فتحول بَيْنك وَبَين أَمر رَبك وَأَن ترد قَمِيصِي إِلَى أُمِّي فَعَسَى أَن يكون إسلاء لَهَا مَا بَقِي فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم نعم العون أَنْت يَا بني على أَمر الله فَيُقَال إِنَّه ربطه بالحبل كَمَا أمره فأوثقه ثمَّ حد شفرته ثمَّ تله للجبين أَي صرعه إِلَى الأَرْض وَاتَّقَى النّظر إِلَى وَجهه ثمَّ أَدخل الشَّفْرَة حلقه فقبلها جِبْرِيل عليه السلام فِي يَده ثمَّ اجتذبها إِلَيْهِ {وناديته أَن يَا إِبْرَاهِيم قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} الْآيَة الصافات 105 فَهَذِهِ ذبيحتك فدَاء لابنك فاذبحها دونه وَأَتَاهُ بكبش من الْجنَّة قَالَ العاكهي ذكر أهل الْكتاب وَكثير من الْعلمَاء أَن الْكَبْش الَّذِي فدى بِهِ
إِسْمَاعِيل هُوَ الْكَبْش المقتبل من قرْبَان ابْني آدم قابيل وهابيل حِين قربا قرباناً وَهُوَ الَّذِي قربه هابيل كَمَا فِي الْآيَة الشَّرِيفَة روى ذَلِك بِسَنَدِهِ عَن ابْن عَبَّاس فَانْظُر رَحِمك الله إِلَى طَاعَة هَذَا الْوَالِد لأمر الله تَعَالَى من ذبح قُرَّة عينه وَقطعَة كبده وَإِلَى طَاعَة هَذَا الْوَلَد لأمر وَالِده وانقياده لذَلِك رَاضِيا مستسلماً باذلاً روحه لله تَعَالَى وَانْظُر إِلَى هَذِه الوالدة الشفيقة الرحمية وإطاعتها لأمر الله تَعَالَى وَأمر زَوجهَا انْتهى ثمَّ ولد لإسماعيل عليه السلام من زَوجته آسِيَة بنت مضاض بن عَمْرو الجرهمي اثْنَا عشر رجلا مِنْهُم نابت أَو نبت وقيدار ويطور قَالَ ابْن هِشَام فِي السِّيرَة حَدثنَا زِيَاد بن عبد الله البكائي عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق المطلبي قَالَ ولد لإسماعيل بن إِبْرَاهِيم اثْنَا عشر رجلا نابت وقيدار وأدبيل ومبسام ومسمع وماشي ودوما وأذر وتيماء ويطور ونبش وقيذما كلهم من آسِيَة وَقيل رعلة بنت مضاض بن عَمْرو الجرهمي وَكَانَ أكبرهم نابت وَقَالَ السُّهيْلي أكبرهم قيدار وَرَأَيْت للبكرى مَا هُوَ صِيحَ أَن دومة الجندل الْبَلَد الْمَعْرُوفَة بلد أكيدر الَّتِي غَزَاهَا خَالِد بن الْوَلِيد عرفت بدوما بن إِسْمَاعِيل وَكَانَ نزلها فَلَعَلَّ ذَلِك مغير مِنْهُ وَذكر أَن الطّور سمى بيطور بن إِسْمَاعِيل النَّبِي عليه الصلاة والسلام وَلَعَلَّه مَحْذُوف الْيَاء إِن كَانَ يَصح مَا قَالَه وَأما الَّذِي قَالَه أهل التَّفْسِير فِي الطّور فَهُوَ كل جبل ينْبت الشّجر فَإِن لم ينْبت شَيْئا فَلَيْسَ بطور وَفِي كتاب التيجان قَالَ وهب حَدثنِي ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما أَن
إِبْرَاهِيم الْخَلِيل صلى الله على نَبينَا وَعَلِيهِ وعَلى سَائِر النَّبِيين وَسلم دخل ذَات يَوْم وعَلى عُنُقه قيدار بن إِسْمَاعِيل صَغِيرا فجَاء إِلَيْهِ يَعْقُوب وعيص ابْنا ابْنه إِسْحَاق فَأَخذهُمَا إِلَى صَدره فَنزلت رجل قيدار الْيُمْنَى على رَأس يَعْقُوب وَرجله الْيُسْرَى على رَأس عيص فَغضِبت أمهما فَقَالَ لَهَا إِبْرَاهِيم عليه الصلاة والسلام لَا تغضبي فَإِن أرجل أَوْلَاد هَذَا الَّذِي على عنقِي على رُؤُوس هَؤُلَاءِ بِمُحَمد
انْتهى وَخبر ابْن عَبَّاس هَذَا يدل على أَن نسب عدنان يرجع إِلَى قيدار بن إِسْمَاعِيل وَهُوَ الَّذِي رَجحه السُّهيْلي وجماعات لَا إِلَى نابت بن إِسْمَاعِيل وعاش إِسْمَاعِيل مائَة وَثَلَاثِينَ عَاما وَمَات وَدفن بِالْحجرِ مَعَ أمه وعمود النّسَب المحمدي قيدار وَكَانَ هُوَ الْملك فِي زَمَانه بعد إِسْمَاعِيل وَكَانَ هُوَ صَاحب إبل إِسْمَاعِيل وَهُوَ معنى قيدار ثمَّ ولد لقيدار زيد وَهُوَ الهميسع ثمَّ ولد للهميسع أدد ثمَّ ولد لأدد أد ثمَّ ولد لأد عدنان قَالَ الْعَلامَة أَبُو الْقَاسِم السُّهيْلي فِي شَرحه لسيرة ابْن هِشَام الْمُسَمّى بالروض الْأنف قَالَ القتيبي وَمَا فَوق عدنان إِلَى إِسْمَاعِيل من الْأَسْمَاء مُضْطَرب فِيهِ فَالَّذِي صَحَّ عَن رَسُول الله
أَنه انتسب إِلَى عدنان لم يتجاوزه بل قد روى من طَرِيق ابْن عَبَّاس أَنه لما بلغ عدنان قَالَ كذب النسابون مرَّتَيْنِ أَو ثَلَاثًا وروى عَن عمر رضي الله عنه أَنه قَالَ إِنَّمَا ننسب إِلَى عدنان وَمَا فَوق ذَلِك لَا نَدْرِي مَا هُوَ وَأَصَح شَيْء يرْوى فِيمَا فَوق عدنان إِلَى إِسْمَاعِيل مَا ذكره الدولابي أَبُو بشر من طَرِيق مُوسَى بن يَعْقُوب عَن عبد الله بن وهب بن زَمعَة الزمعِي عَن عتمه عَن أم سَلمَة زوج النَّبِي
عَن النَّبِي
أَنه قَالَ معد بن عدنان بن أدد بن زند بالنُّون بن اليرى بن أعراق الثرى قَالَت أم سَلمَة فزند هُوَ الهميسع واليرى هُوَ نبت وأعراق الثرى هُوَ إِسْمَاعِيل لِأَنَّهُ ابْن إِبْرَاهِيم وَإِبْرَاهِيم عَلَيْهِ
السَّلَام لم تَأْكُله النَّار كَمَا أَن النَّار لَا تَأْكُل الثرى وَأَصْحَاب الْأَخْبَار لَا يَخْتَلِفُونَ فِي بعد الْمدَّة بَين عدنان وَإِسْمَاعِيل ويستحيل فِي الْعَادة أَن يكون بَينهمَا أَرْبَعَة آبَاء أَو سَبْعَة كَا ذكره ابْن إِسْحَاق أَو عشرَة أَو عشرُون فَإِن الْمدَّة أطول من ذَلِك كُله وَذَلِكَ أَن معد بن عدنان كَانَ فِي مُدَّة بخت نصر ابْن اثْنَتَيْ عشرَة سنة وَذكر أَن الله تَعَالَى أوحى فِي ذَلِك الزَّمَان إِلَى إرميا بن حلقيا أَن اذْهَبْ إِلَى بخت نصر فَأعلمهُ أَنِّي قد سلطته على الْعَرَب واحمل معداً على الْبراق كَيْلا تصيبه النقمَة فيهم فَإِنِّي مستخرج من صلبه نَبيا كَرِيمًا أختم بِهِ الرُّسُل
فَاحْتمل معداً على الْبراق إِلَى أَرض الشَّام فَنَشَأَ فِي بن إِسْرَائِيل وَتزَوج امْرَأَة هُنَاكَ اسْمهَا معانة بنت جوشن من بني ريث بن جرهم وَيُقَال إِن اسْمهَا ناعمة وَبَينه وَبَين إِبْرَاهِيم فِي ذَلِك النّسَب نَحْو من أَرْبَعِينَ جدا وَقد ذكرهم كلهم أَبُو الْحسن المَسْعُودِيّ على اضْطِرَاب فِي الْأَسْمَاء وتغيير فِي الْأَلْفَاظ وَلذَلِك وَالله أعلم اعْرِض النَّبِي
عَن رفع نسب عدنان إِلَى إِسْمَاعِيل لما فِيهِ من التَّخْلِيط والتغيير للألفاظ وعواصة تِلْكَ الْأَسْمَاء مَعَ قلَّة الْفَائِدَة فِي تَحْصِيلهَا ثمَّ ولد لعدنان ابْنَانِ معد وَهُوَ عَمُود النّسَب المحمدي وعك وَكَانَ رُجُوع معد إِلَى أَرض الْحجاز بعد مَا رفع الله بأسه عَن الْعَرَب وَرجعت بقاياهم الَّتِي كَانَت فِي الشواهق إِلَى محالهم ومياههم بعد أَن دوخ بِلَادهمْ بخت نصر وَخرب الْمَعْمُور واستأصل أهل حُضُور وهم الَّذين ذكرهم الله تَعَالَى فِي قَوْله {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} الْآيَة الْأَنْبِيَاء 11 وَذَلِكَ لقتلهم شُعَيْب بن ذِي مهدم أرْسلهُ الله إِلَيْهِم وقبره بصر جبل بِالْيمن وَلَيْسَ بشعيب الأول صَاحب مَدين وَكَذَلِكَ أهل عدن قتلوا نَبيا لَهُم اسْمه حَنْظَلَة بن صَفْوَان فَكَانَ سطوة الله بالعرب لذَلِك نَعُوذ بِاللَّه من غَضَبه وأليم عِقَابه واشتقاق عدنان من عدن بِالْمَكَانِ إِذا أَقَامَ بِهِ ولعدنان ابْنَانِ آخرَانِ عكك وَعَمْرو واشتقاق معد فِيهِ ثَلَاثَة أَقْوَال أقربها من الْمعد بِسُكُون الْعين وَهُوَ الْقُوَّة ثمَّ ولد لمعد نزار وقضاعة وقنص وإياد لَكِن الْمَشْهُور فِي قضاعة أَنه من
القحطانية لَا العدنانية شَاهد ذَلِك قَول الشَّاعِر // (من الرجز) //
(نَحن بَنو الشّيخ الهجان الْأَزْهَر
…
قُضاعة بن مَالك بن حِمير)
إِلَّا أَن يكون كَذَلِك سمى ونزار هُوَ عَمُود النّسَب المحمدي وَهُوَ اسْم نقل من النزر وَهُوَ الْقَلِيل وَكَانَ معد حِين ولد لَهُ نذال وَنظر إِلَى نور النُّبُوَّة الَّذِي كَانَ ينْتَقل فِي الأصلاب إِلَى عبد الله فَرح فَرحا شَدِيدا وَنحر جزائر كَثِيرَة وَأطْعم وَقَالَ إِن هَذَا كُله نزر لحق هَذَا الْمَوْلُود وَقيل سَبَب التَّسْمِيَة قَول كسْرَى الأول حِين وَفد إِلَيْهِ أَي ابْن كسى فَضَائِل بيسار وجسم نزار فَالله أعلم أيا كَانَ ذَلِك ثمَّ ولد لنزار أَرْبَعَة مُضر وَهُوَ عَمُود النّسَب المحمدي وَرَبِيعَة وإياد وأنمار وَمُضر هُوَ أول من سنّ للْعَرَب حداء الْإِبِل وَكَانَ أحسن النَّاس صَوتا وَفِي الحَدِيث لَا تسبوا مُضر وَلَا ربيعَة فَإِنَّهُمَا كَانَا مُؤمنين ذكره الزبير بن أبي بكر قَالَ صَاحب تَارِيخ الْخَمِيس توفى نزار عَن بنيه الْأَرْبَعَة وهم مُضر وَرَبِيعَة وإياد وأنمار تخالفوا فِي قسْمَة مخلفه وَكَانَ قد قَالَ لَهُم إِن اختلفتم فِي ذَلِك فَعَلَيْكُم بالأفعى الجرهمي وَكَانَ بِنَجْرَان فَذَهَبُوا إِلَيْهِ وَكَانَ ذَا رَأْي وحنكة فَلَمَّا كَانُوا بأثناء الطَّرِيق إِذا هم بأثر بعير فَقَالَ مُضر هَذَا الْبَعِير أَزور وَقَالَ ربيعَة وأعور وَقَالَ إياد وأبتر وَقَالَ أَنْمَار وشرود ثمَّ سَارُوا فوجدوا صَاحب الْبَعِير يَطْلُبهُ فِي الشعاب والدحال فَقَالُوا لَهُ بعيرك أَزور فَقَالَ نعم قَالُوا فأبتر قَالَ نعم قَالُوا وأعور قَالَ نعم قَالُوا وشرود قَالَ نعم فَلم يشك الرجل أَنهم غرماؤه فلازمهم إِلَى أَن وصلوا إِلَى الأفعى الجرهمي فَقَالَ صَاحب الْبَعِير لَا ادعك أَيهَا الشَّيْخ أَو تحكم بَين وَبَين هَؤُلَاءِ اللُّصُوص ذهب بعير لي فالتمسته فَإِذا وَصفه عِنْد هَؤُلَاءِ الرِّجَال فهم الفعلة فَسَأَلَهُمْ الأفعى عَن الْبَعِير فَأَقْسَمُوا أَنهم لم يرَوا الْبَعِير وَلَا علم لَهُم بِهِ وَإِنَّمَا قُلْنَا مَا قُلْنَاهُ بالذكاء والفطنة وفقال مُضر أما أَنا فَرَأَيْت إِحْدَى يَدَيْهِ ثَابِتَة الْوَطْأَة صَحِيحَة الْأَثر وَرَأَيْت الْأُخْرَى غير ثَابِتَة الْوَطْأَة فَاسِدَة الْأَثر فَعمِلت أَنه أَزور لاعتماده على إِحْدَى يَدَيْهِ بِشدَّة فأثرت
فِي الأَرْض تَأْثِيرا ظَاهرا وَالْأُخْرَى بِخِلَافِهَا وَقَالَ ربيعَة علمت أَنه اعور لِأَنِّي رَأَيْت رعيه فِي الفلاة لجِهَة وَاحِدَة وَقَالَ إياد رَأَيْت مبركه فَنَظَرت إِلَى روثه مجتمعاً تَحت الْمخْرج فَعلمت أَنه أَبتر وَلَو كَانَ ذيالاً لمصع بِهِ يمنة ويسرة وَقَالَ أَنْمَار رَأَيْته بَيْنَمَا هُوَ فِي قطعه مخصبة إِذْ تَركهَا وتجاوزها إِلَى قِطْعَة أُخْرَى دونهَا فَعلمت أَنه شرود يذكر الطّلب فيدع المرعى الخصيب حذاراً فَقَالَ الأفعى للرجل التمس بعيرك فليسوا بِأَصْحَابِهِ ثمَّ ذكرُوا للأفعى مخلف أَبِيهِم نزار وَأَخْبرُوهُ بأَمْره إيَّاهُم بِالرِّضَا بقسمته بَينهم فَقَالَ الْقبَّة الْحَمْرَاء وَمَا اشببهها فَهُوَ لمضر فَقيل لأولاده مُضر الْحَمْرَاء وَالْفرس الخضراء وَمَا اشبهها من سلَاح واثاث فَهُوَ لِرَبِيعَة فَقيل ربيعَة الْفرس والناقة الصَّفْرَاء وَمَا أشبههَا من الْبَقر وَالْغنم لإياد فَقيل لأولاده إياد النعم وَمَا فضل من نقد وأثاث وَسلَاح لأنمار فَقيل لأولاده أَنْمَار الْفضل وَكَانَ الأفعى قد أضافهم ثَلَاثَة أَيَّام ذبح لَهُم الذَّبَائِح وسقاهم الْخمر وَقد دس إِلَيْهِم من يُوصل إِلَيْهِ خبرهم غير عَالمين بِهِ فمما سمع مِنْهُم قَول مُضر مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ لَحْمًا قطّ إِلَّا أَنه غذى بِلَبن كلبة وَقَالَ ربيعَة مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ خمرًا قطّ إِلَّا أَن كرمتها نَبتَت على قبر وَقَالَ إياد مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ خبْزًا قطّ إِلَّا أَن الَّتِي عجنته حَائِض وَقَالَ أَنْمَار مَا رَأَيْت كَالْيَوْمِ رجلا سرياً قطّ لَوْلَا أَنه ينْسب إِلَى غير أَبِيه فَذهب الرجل إِلَيْهِ فَأخْبرهُ بقَوْلهمْ فَكلم خدمه عَن الشَّاة الَّتِي ذبحوها لَهُم فَقَالُوا كَانَت تدجن عندنَا فَولدت كلبة لنا فارتضعت هَذِه الشَّاة مِنْهَا فَجَاءَت اسمن الْغنم فاختزناها لفرط سمنها ثمَّ سَأَلَ صَاحب حانته عَن الْخمر فَقَالَ هِيَ من كرمة على قبر أَبِيك أغذى الْكَرم عنباً ثمَّ سَأَلَ العاجنة فَوَجَدَهَا حَائِضًا ثمَّ دخل على أمه فَسَأَلَهَا وتهددها على الْجحْد وأمنها على الصدْق فَقَالَت إِن أَبَاك الْملك المطاع فِي قومه لم يرْزق ولدا فَخَشِيت ضيَاع الْملك فمكنت الخباز من نَفسِي فَوَقع عَليّ فَأتيت بك فَخرج إِلَى الْقَوْم وسألهم بِمَ علمْتُم ذَلِك فَقَالَ مُضر رَأَيْت اللَّحْم فَوق الشَّحْم فَعلمت أَنه غذى بِلَبن كلبة فَكَذَلِك لُحُوم الْكلاب فَوق شحومها وَقَالَ ربيعَة إِن الْخمر تحدث أنسا فَرَأَيْت من هَذِه حزنا فَعلمت أَنَّهَا اكْتسبت من ثرى الْقَبْر حزنا وَقَالَ إياد علمت أَن العاجنة حَائِض لِأَنِّي رَأَيْت الخبزة غير مسغسغ بَاطِنهَا فِي الثَّرِيد بل ظَاهرهَا وَقَالَ أَنْمَار
رَأَيْتُك قدمت لنا الطَّعَام وَلم تحضر مَعنا عَلَيْهِ لغير شاغل فَعلمت أَن هَذَا من لؤم الْآبَاء وَمن أنتسب إِلَيْهِ كريم لَا لئيم فَقضيت بذلك عَلَيْك فَقَالَ الأفعى ارحلوا فَمَا أَنْتُم إِلَّا شياطين فَرَجَعُوا إِلَى مَنَازِلهمْ فَلَمَّا ضوت الرُّعَاة بإبلهم وتعشوا قَامَ مُضر يوصى رُعَاة الْإِبِل وَفِي يَد أَنْمَار عظم يتعرقه فدحى بِهِ فِي ظلمَة اللَّيْل وَهُوَ لَا يبصر فَأصَاب عين أَخِيه مُضر ففقأها وَصَاح مُضر عَيْني عَيْني وَاضِعا يَده عَلَيْهَا وتشاغل بِهِ أَخَوَاهُ فَركب أَنْمَار بَعِيرًا من كرائم الْإِبِل فلحق بديار الْيمن وَولد لَهُ بجيلة وخثعم فَكَانَ هَذَا هُوَ السَّبَب لسكناه الْيمن وتدير بنيه إِيَّاهَا والمنشأ للِاخْتِلَاف فِي نِسْبَة أَنْمَار وإدخاله فِي نسب الْيمن وَالصَّحِيح مَا ذكرنَا وَثمّ ولد لمضر ابْنَانِ إلْيَاس وَقيس غيلَان بِالْمُعْجَمَةِ وَقيل بِالْمُهْمَلَةِ وَقيل إِن قيسا ابْن إلْيَاس لَا أَخ لَهُ وَفِي اشتقاق إلْيَاس أَقْوَال مِنْهَا أَنه من الألس وَهُوَ اخْتِلَاط الْعقل وَمِنْهَا أَنه من الألس وَهُوَ الخديعة وَثَالِثهَا وَهُوَ الأرحج أَنه من قَوْلهم رجل أَلَيْسَ إِذا كَانَ شجاعاً لَا يفتر قَالَ العجاج // (من الرجز) //
(أليسَ عنْ حوبائِه سَخيّ
…
)
وإلياس عَمُود النّسَب المحمدي ثمَّ تزوج بخندف وَاسْمهَا ليلى أَو سلمى بنت حلوان بن الحاف بن قاضعة فولد لَهُ مِنْهَا ثَلَاثَة أَوْلَاد عَمْرو وعامر وَعُمَيْر فنشبوا وشبوا فِي حَيَاة والديهم فاعترضت ذَات يَوْم أرنب فِي إبل إلْيَاس فنفرت فَخرج عَمْرو وعامر وأبوهما إلْيَاس فَأدْرك عَمْرو الْإِبِل فَردهَا فلقب مدركة وَلحق عَامر الأرنب فذبحها وطبخها فلقب طابخة وَأما عُمَيْر فَلم يخرج من الْبَيْت وانقمع فِيهِ أَي أَقَامَ فلقب قمعة فَلَمَّا أقبل هُوَ وابناه عَمْرو وعامر إِذا بأمهما سملى تمشي فَقَالَ لَهَا إِلَى أَيْن تخندفين فَقَالَت مازلت أخندف فِي أثركم فلقبت خندفاً ثمَّ أطْلقُوا هَذَا اللَّفْظ على الْقَبِيلَة كَمَا هُوَ الْمُعْتَاد فِي إِطْلَاق اسْم جد الْقَبِيلَة عَلَيْهَا نَفسهَا قَالَت هِنْد ابْنة عتبَة بن ربيعَة بن عبد شمس بن عبد
منَاف بن قصي ترثي أَبَاهَا حِين قتل يَوْم بدر // (من التقارب) //
(أيا عين بكّى بدمع سرِب
…
على خير خندف لم ينقلبِ)
(تداعى لَهُ رهطه غدْوَة
…
بَنو هاشمٍ وبهو المطلبِ)
(يُذيقونه حدَّ أسيافهم
…
يجرّونه عَارِيا قد سُلب)
ذكره ابْن هِشَام فِي سيرته والخندف مشْيَة فِيهَا تممد وَتعطف بِنَوْع بطر وإسراع ثمَّ ولد لمدركة خُزَيْمَة تَصْغِير وَاحِدَة الخزم وَهُوَ مثل الدوم يتَّخذ من سعفه الحبال وتصنع من أسافله خلايا للنحل وَله ثَمَر لَا يَأْكُلهُ النَّاس وَلَكِن تتأنفه الْغرْبَان وتستطيبه ثمَّ ولد لخزينة كنَانَة ثمَّ تزوج كنَانَة برة بنة مر أُخْت تَمِيم بن مر ذكره ابْن قتية فِي كتاب المعارف فأولدها النَّضر ثمَّ تزوج النَّضر هنداً بنت عدوان بن عَمْرو بن قيس عيلان فأولدها مَالِكًا ثمَّ تزوج مَالك جندلة بنت الْحَارِث الجرهمي فأولدها فهرا وَهَذَا قيل هُوَ لقب لَهُ والفهر من الْحِجَارَة الطَّوِيلَة وَمَا يمْلَأ الْكَفّ وَأما اسْمه فقريش وَقيل بل اسْمه فهر ولقبه قُرَيْش أَقُول قَالَ فِي بَحر الْأَنْسَاب فَمَا فَوق فهر إِلَى النَّضر لَا يكون قرشياً وَمَا دونه قرشي وَقيل إِن قُريْشًا لقب للنضر فعلى هَذَا مَا فَوق فهر إِلَى النَّضر قرشي وَهُوَ الَّذِي رَجحه النَّوَوِيّ تبعا لكثيرين واشتقاق قُرَيْش من التقرش وَهُوَ التكسب لأَنهم أَرْبَاب تِجَارَة واكتساب وَقيل من التقريش وَهُوَ التجميع لتجمعهم وتحيزهم بِمَكَّة ونواحيها وَيُقَال مِنْهُ اشتاق القرش للمعاملة الْمَعْرُوفَة لِأَنَّهُ قِطْعَة من الْفضة مجتمعة هَذَا إِن كَانَ اللَّفْظ فِيهِ بِالْقَافِ فَإِن كَانَ بالغين كَمَا قد يسمع فَلَا اشتقاق وَقيل من القرش اسْم دَابَّة شَدِيدَة بالبحر قَالَ أَبُو أُميَّة الجُمَحِي // (من الْخَفِيف) //
(وقُريشٌ هِيَ الَّتِي تسكن الْبَحْر
…
بهَا سُميت قريشٌ قريشنا)
(تأكلُ الغث والسمين وَلَا تتركُ
…
مِنْهَا لذِي الجناحين ريشا)
(هَكَذَا فِي الْوُجُود حيّ قريشٌ
…
يَأْكُلُون الْأَنَام أكلا كريشا)
(سلطت بالعلو فِي لجة الْبَحْر
…
على سَائِر البحور جيوشا)
(وَلَهُم آخر الزماني نبيٌ
…
يكثر الْقَتْل فيهم والخموشا)
ثمَّ ولد لفهر غَالب ثمَّ ولد لغالب لؤَي قَالَ السُّهيْلي فِي روضه وَهُوَ تَصْغِير اللأي وَهُوَ الثور الوحشي وَأنْشد // (من الْكَامِل) //
(يعتادُ أُدحيةً بَقينَ بقفرةٍ
…
مَيثاءَ يسكنهَا اللأّي والفرقد)
وَقَالَ بَعضهم اللأي الْبَقَرَة الوحشية قَالَ وَسمعت أَعْرَابِيًا يَقُول لآك هَذِه بكم وَأنْشد فِي وصف فلاة // (من الطَّوِيل) //
(كَظهر الّلأي لَو تبتغي ريّةً بهَا
…
نَهَارا لأعيت فِي بطُون الشّواجن)
والشواجن شعب الْجبَال والرية مقلوب ورية من روى الزند وَهِي الحراق الَّذِي يشعل بِهِ الشرر من الزِّنَاد ثمَّ ولد للؤي كَعْب أمه سلمى بنت محَارب وَهَذَا كَعْب أول من سمى يَوْم الْجُمُعَة وَكَانَ يُسمى يَوْم الْعرُوبَة فَكَانَت قُرَيْش تَجْتَمِع إِلَيْهِ فِي هَذَا الْيَوْم فيخطبهم وَيذكرهُمْ بمبعث النَّبِي
وَيُعلمهُم أَنه من وَلَده وَيَأْمُرهُمْ باتباعه وَالْإِيمَان بِهِ وينشد قَوْله // (من الْبَسِيط) //
(يَا لَيْتَني شاهدٌ فحواء دَعوته
…
إِذا قريشٌ تبغّى الحقّ خذلانا)
وَقد ذكر الْمَاوَرْدِيّ هَذَا الْخَبَر عَن كَعْب فِي كتاب الْأَحْكَام السُّلْطَانِيَّة وَكَعب إِمَّا مَنْقُول من الكعب الَّذِي هُوَ قِطْعَة من السّمن أَو من كَعْب الْقدَم وَهُوَ عِنْدِي أشبه لقَولهم فِي وصف الشجاع ثَبت ثُبُوت الكعب وَجَاء فِي خبر عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أَنه كَانَ يُصَلِّي عِنْد الْحجر وحجارة المنجنيق تمر بَين أُذُنَيْهِ وَهُوَ لَا يلْتَفت إِلَيْهَا كَأَنَّهُ كَعْب راتب أَي ثَابت
ثمَّ ولد لكعب مرّة وعدية وَمرَّة عَمُود النّسَب وَهُوَ مَنْقُول من وصف الحنظلة والعلقمة وَكَثِيرًا مَا يسمون حَنْظَلَة وعلقمة وَعِكْرِمَة وَهِي شدَّة ظلمَة اللَّيْل وَمرَّة قَالَ بَعضهم أَحْسبهُ مَنْقُولًا من النَّبَات لِأَن أَبَا حنيفَة ذكر أَن الْمرة بقلة تقلع فتؤكل بالخل وَالزَّيْت يشبه وَرقهَا ورق الهندباء أمه وحشية بنت شَيبَان بن محَارب بن فهر ثمَّ ولد لمرة كلاب بن مرّة وتيم بن مرّة ويقظة بن مرّة عَمُود النّسَب المحمدي كلاب بن مرّة أمه نعم بنت ثَعْلَبَة بن مَالك بن كنَانَة من أَزْد الشراة وَهُوَ إِمَّا مَنْقُول من الْمصدر الَّذِي هُوَ معنى المكالبة نَحْو كالبت الْعَدو مُكَالَبَة وكلاباً وَإِمَّا من الْكلاب جمع كلب لأَنهم يُرِيدُونَ الْكَثْرَة كَمَا سموا سِبَاع وأنمار وَقد قيل لأبي الدقيس الْأَعرَابِي لم تسمون أبناءكم بشر الْأَسْمَاء نَحْو كلب وذئب وَسنَان وعبيدكم بِأَحْسَن الْأَسْمَاء نَحْو مَرْزُوق ورباح فَقَالَ إِنَّا نسمي أبناءنا لعدونا وعبيدنا لأنفسنا يُرِيد أَن الْأَبْنَاء عدَّة للأعداء وسهام فِي نحورهم فَاخْتَارُوا لَهُم هَذِه الْأَسْمَاء ثمَّ ولد لكلاب قصي واسْمه زيد وَهُوَ تَصْغِير قصى وَهُوَ الْبعيد لِأَنَّهُ بعد عَن قومه كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه وَهُوَ وَأَخُوهُ زهرَة بن كلاب من فَاطِمَة بنت عَمْرو بن سعد بن سبل الَّذِي يَقُول فِيهِ الشَّاعِر وَكَانَ أَشْجَع أهل زَمَانه // (من الرمل) //
(لَا أرى فِي النّاس شخصا وَاحِدًا
…
فاعلموا ذَاك كسعد بن سَبل)
(فارسٌ أضبط فِيهِ عسرة
…
فَإِذا مَا عاين الْقرن نزل)
(فارسٌ يستدرج الْخَيل كَمَا
…
يدرج الحرّ الْقطَامِي الحجل)
قَالَ الْأَزْرَقِيّ وزهرة أكبرهما فَتزَوج ربيعَة بن حرَام أمهما الْمَذْكُورَة وزهرة رجل بَالغ وقصي فطيم أَو فِي سنّ الفطيم فاحتملهما ربيعَة إِلَى بِلَاده من أَرض عذرة من مشارف الشَّام وتخلف زهرَة فِي قومه فَولدت فَاطِمَة لِرَبِيعَة رزاح بن ربيعَة وَكَانَ أَخا قصي من أمه ولربيعة بن حرَام من امْرَأَة أُخْرَى ثَلَاثَة بَنِينَ حسن ومحمود وجلهمة بَنو ربيعَة فَبَيْنَمَا قصى بن كلاب فِي أَرض قضاعة لَا ينتمي إِلَّا إِلَى ربيعَة بن حرَام إِذْ وَقع بَينه وَبَين رجل من قضاعة شَيْء وَكَانَ قصي قد بلغ فَقَالَ لَهُ
الْقُضَاعِي بعد أَن عيره بالغربة أَلا تلْحق بنسبك وقومك فَإنَّك لست منا فَمضى إِلَى أمه وَقد وجد فِي نَفسه مِمَّا قَالَ لَهُ الْقُضَاعِي فَسَأَلَهَا عَمَّا قَالَ فَقَالَت لَهُ أَنْت وَالله يَا بني خير مِنْهُ وَأكْرم أَنْت ابْن كلاب بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي وقومك عِنْد الْبَيْت الْحَرَام وَمَا حوله فأجمع قصي الْخُرُوج إِلَى قومه واللحاق بهم وَكره الغربة فِي أَرض قضاعة فَقَالَت لَهُ أمه يَا بني لَا تعجل بِالْخرُوجِ حَتَّى يدْخل علينا الشَّهْر الْحَرَام فَتخرج فِي حَاج الْعَرَب فَإِنِّي أخْشَى عَلَيْك فَأَقَامَ قصي حَتَّى دخل الشَّهْر الْحَرَام وَخرج فِي حَاج قضاعة حَتَّى قدم مَكَّة فَعرف قومه فَضله وقدموه واكرموه وَكَانَت خُزَاعَة متسولية على الْبَيْت وعَلى مَكَّة وقريش حُلُول وصرم وبيوتات مُتَفَرِّقَة فِي قَومهمْ من بني كنَانَة فَكَانَت خُزَاعَة تتوارث ذَلِك بَينهم كَابِرًا عَن كَابر حَتَّى كَانَ آخِرهم حليل بن حبشية فَخَطب قصي إِلَى حليل بن حبشية الْخُزَاعِيّ ابْنَته حبى فَعرف حليل نسبه فَزَوجهُ فَأتى مِنْهَا بأَرْبعَة بَنِينَ عبد الدَّار وَعبد منَاف وَعبد الْعُزَّى وَعبد قصي فَكثر أَوْلَاد قصي وَأَوْلَاد أَوْلَاده وَكَثُرت أَمْوَالهم وَعظم شرفهم وَكَانَ حليل يَلِي أَمر الْبَيْت وَمَكَّة فَأَقَامَ قصي حَتَّى ولدت لَهُ حبى عبد الدَّار وَهُوَ أكبر أَوْلَاده وَعبد منَاف وَعبد الْعُزَّى وَعبد قصي وَكَانَ حليل يفتح الْبَيْت فَإِذا اعتل أعْطى ابْنَته حبى الْمِفْتَاح ففتحته فَإِذا اعتلت أَعْطَتْ الْمِفْتَاح زَوجهَا قصياً أَو بعض أَوْلَادهَا وَكَانَ قصي يعْمل فِي حيازته إِلَيْهِ وَقطع ذكر خُزَاعَة مَعَه فَلَمَّا حضرت حليلاً الْوَفَاة نظر إِلَى قصي وَإِلَى مَا انْتَشَر لَهُ من الْوَلَد من ابْنَته حبى فَرَأى أَن يَجْعَلهَا فِي ولد ابْنَته فَدَعَا قصياً فَجعل لَهُ ولَايَة الْبَيْت وَسلم إِلَيْهِ الْمِفْتَاح وَقَالَ يكون عِنْد حبى فَلَمَّا هلك حليل أَبَت خُزَاعَة أَن تَدعه وَذَاكَ وَأخذُوا الْمِفْتَاح من حبى فَمشى قصي إِلَى رجال من قومه من قُرَيْش وَبني كنَانَة فَدَعَاهُمْ إِلَى الْقيام فِي ذَلِك مَعَه وَأَن ينصروه ويعضدوه فَأَجَابُوهُ إِلَى النُّصْرَة وَأرْسل قصي إِلَى أَخِيه لأمه رزاح بن ربيعَة وَهُوَ بِبِلَاد قومه من قضاعة يَدعُوهُ إِلَى نصرته ويعمله مَا حَالَتْ خُزَاعَة بَينه وَبَين ولَايَة الْبَيْت الْمُوصى لَهُ من حليل بن حبشية الْخُزَاعِيّ الْمَذْكُور ويسأله الْخُرُوج فَقَامَ رزاح فِي قومه فَأَجَابُوهُ إِلَى ذَلِك فَخرج رزاح بن ربيعَة وَمَعَهُ إخْوَته من أَبِيه حسن ومحمود وجلهمة بَنو ربيعَة بن حرَام فِيمَن مَعَهم من قضاعة مُجْتَمعين لنصر قصي وَالْقِيَام مَعَه
فَلَمَّا اجْتمع النَّاس بِمَكَّة خَرجُوا إِلَى الْحَج فوقفوا بِعَرَفَة وبجمع مَعَ أَخِيه رزاح من قضاعة وفلما كَانَ آخر أَيَّام منى أرْسلت قضاعة إِلَى خُزَاعَة يَسْأَلُونَهُمْ أَن يسلمُوا إِلَى قصي مَا جعله لَهُ حليل وعظموا عَلَيْهِم الْقِتَال فِي الْحرم وذكروهم عَاقِبَة الظُّلم وَالْبَغي بِمَكَّة وذكروهم بِمَا كَانَت فِيهِ جرهم وَمَا آلت إِلَيْهِ فَأَبت خُزَاعَة أَن يسلمُوا ذَلِك فَاقْتَتلُوا بمفضى مأزمي منى من قبليها فَسمى ذَلِك الْمَكَان بالمفجر لما فجر وَسَفك فِيهِ من الدِّمَاء واقتتلوا قتالاً شَدِيدا حَتَّى كثرت الْقَتْلَى بَين الْفَرِيقَيْنِ وفشت فيهم الْجِرَاحَات وحاج الْعَرَب من مُضر واليمن مستكفون ينظرُونَ إِلَى قِتَالهمْ ثمَّ تداعوا إِلَى الصُّلْح فَدخلت قبائل الْعَرَب بَينهم وعظموا على الْفَرِيقَيْنِ سفك الدِّمَاء والفجور فِي الْحرم فَاصْطَلَحُوا على أَن يحكموا بَينهم عَمْرو بن عَوْف بن كَعْب وَكَانَ رجلا شريفاً فَقَالَ لَهُم مَوْعدكُمْ فنَاء الْكَعْبَة غَدا فَاجْتمع النَّاس وعدوا الْقَتْلَى فَكَانَت فِي خُزَاعَة أَكثر مِنْهَا فِي قُرَيْش وكنانة فَلَمَّا اجْتمع النَّاس بِفنَاء الْكَعْبَة قَامَ عَمْرو بن عَوْف فَقَالَ أَلا إِنِّي قد شدخت مَا بَيْنكُم من دم تَحت قدمي هَاتين فَلَا تباعة لأحد على أحد فِي دم وَإِنِّي قد حكمت لقصي بحجابة الْبَيْت وَولَايَة أَمر مَكَّة دون خُزَاعَة لما كَانَ جعل لَهُ حليل وَأَن يخلي بَينه وَبَين ذَلِك وَألا تخرج خُزَاعَة من مساكنها من مَكَّة وأطرافها فَسلمت خُزَاعَة لقصي ذَلِك وَمن ذَلِك الْيَوْم سمى عَمْرو الشداخ وَجمع قصي قُريْشًا بِمَكَّة فَسمى مجمعا قَالَ الشَّاعِر // (من الطَّوِيل) //
(أَبوكم قصيٌّ كَانَ يدعى مجمّعاً
…
بِهِ جمّع الله الْقَبَائِل من فِهِر)
(وَأَنْتُم بَنو زيدٍ وزيدٌ أبوكم
…
بِهِ زيدت الْبَطْحَاء فخراً على فَخر)
(هم نزلوها والمياه قليلةٌ
…
وَلَيْسَ بهَا إلاّ كهول بني عَمْرو)
يَعْنِي كهول خُزَاعَة واستمرت خُزَاعَة مقيمى بِمَكَّة على رباعهم وسكناهم لم يحركوا وَلم يخرجُوا مِنْهَا فَلم يزَالُوا على ذَلِك حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَام فهم الْآن على قريب مِنْهَا وَقَالَ قصي يكشر أَخَاهُ رزاح بن ربيعَة // (من الوافر) //
(أَنا ابْن العاصمين بني لؤيٍّ
…
بمكّة مولدِي وَبهَا ربيتُ)
(لي الْبَطْحَاء قد علمتْ معدٌّ
…
ومروتها رضيت بهَا رضيت)
(وفيهَا كَانَت الْآبَاء قبلي
…
فَمَا سويت أُخيّ وَمَا سويت)
(رزاحٌ ناصري وَبِه أُسامي
…
فلست أَخَاف ضيماً مَا حييت)
وَفِي قَول إِن حليلاً أوصى بمفتاح الْكَعْبَة لابنته حبى فَقَالَت لَا أقدر على السدَانَة فَجعل ذَلِك إِلَى ابْن غبشان رجل من خُزَاعَة وَكَانَ سكيراً فأعوزه فِي بعض الْأَيَّام مَا يَأْخُذ بِهِ الْخمر فَبَاعَ مِفْتَاح الْبَيْت بزق خمرٍ فَاشْتَرَاهُ قصي فَصَارَ فِي الْمثل أخسر من صَفْقَة أبي غبشان وَقَالَ الشَّاعِر // (من الوافر) //
(أَبُو غبشان أظلم من قصيٍّ
…
وأظلم من بني فهر خُزَاعَة)
(فَلَا تحلوا قصيّاً فِي شراه
…
ولوموا شيخكم إِذْ كَانَ بَاعه)
وَقَالَ الآخر يهجو خُزَاعَة // (من الوافر) //
(إِذا افتخرتْ خزاعةُ من قديم
…
وجدنَا فخرها شرب الْخُمُور)
(وباعت كعبة الرّحمن جَهرا
…
بزقِّ بئس مفتخر الْفُجُور)
فَلَمَّا صَار الْمِفْتَاح إِلَى قصي تناكرت لَهُ خُزَاعَة وَكثر كَلَامهَا عَلَيْهِ وَمنعُوا من إِمْضَاء ذَلِك فأجمع على حربهم فحاربهم وأخرجهم من مَكَّة هَكَذَا فِي بعض الرويات لَكِن الرِّوَايَة الأولى أَكثر طرقاً وأتقن رُوَاة فولى قصي أَمر الْبَيْت وَمَكَّة وَجمع قومه فملكوه على أنفسهم وَكَانُوا يحترمون أَن يسكنوا مَكَّة ويعظمونها أَن يبنوا فِيهَا بَيْتا مَعَ بَيت الله تَعَالَى وَكَانُوا يكونُونَ بِمَكَّة نَهَارا فَإِذا أَمْسوا خَرجُوا مِنْهَا إِلَى الْحل وَلَا يسْتَحلُّونَ الْجَنَابَة بِمَكَّة فَلَمَّا جمع قصي على قومه الْيَد بنى الْكَعْبَة ثمَّ أذن لَهُم أَن يبنوا بُيُوتًا بهَا وَأَن يسكنوا وَقَالَ لَهُم إِن سكنتم الْحرم حول الْبَيْت هابتكم الْعَرَب وَلم تستحل قتالكم وَلَا يَسْتَطِيع أحد إخراجكم فَقَالُوا لَهُ أَنْت سيدنَا ورأينا لرأيك تبع فَجَمعهُمْ حول الْبَيْت وَفِي ذَلِك يَقُول الْقَائِل // (من الطَّوِيل) //
(أبوكم قصيٌّ كَانَ يدعى مجمّعاً
…
بِهِ جمّع الله الْقَبَائِل من فهر)
(وَأَنْتُم بَنو زيدٍ وزيدٌ أبوكم
…
بِهِ زيدت الْبَطْحَاء فخراً على فَخر)
وَابْتِدَاء هُوَ فَبنى دَار الندوة والندوة فِي اللُّغَة الِاجْتِمَاع وَمِنْه النادي للمكان الْمُجْتَمع فِيهِ وَكَانُوا يَجْتَمعُونَ فِيهَا للمشورة وَغَيرهَا من الْمُهِمَّات فَلَا تنْكح امْرَأَة
وَلَا يتَزَوَّج زوج من قُرَيْش إِلَّا فِيهَا وَلَا تدرع جَارِيَة إِذا بلغت أَن تدرع من قُرَيْش إِلَّا فِي دَاره ليشق عَلَيْهَا فِيهَا درعها ثمَّ تدرعه فتنطلق إِلَى أَهلهَا ويدخلها كل قُرَيْش وَمن غير قُرَيْش لَا يدخلهَا إِلَّا من بلغ الْأَرْبَعين فَمَا فَوق وَبنى الْكَعْبَة وَقسم جهاتها بَين طوائف قُرَيْش فبنوا دُورهمْ حولهَا من جهاتها الْأَرْبَع وَتركُوا للطَّواف مِقْدَارًا يُقَال إِنَّه المفروش الْآن حول الْبَيْت بِالْحجرِ والرخام الْمُسَمّى بالمطاف الشريف وشرعوا أَبْوَاب بُيُوتهم إِلَى نَحْو الْبَيْت الشريف وَتركُوا بَين كل بَيْتَيْنِ طَرِيقا ينفذ مِنْهَا إِلَى المطاف إِلَى أَن زَاد عمر رضي الله عنه فِي الْمَسْجِد وَتَبعهُ عُثْمَان وتبعهما غَيرهمَا ورتب قُريْشًا على منازلها فِي النّسَب بِمَكَّة فَجعل الأبطحي من قُرَيْش هُوَ من كَانَ من قُرَيْش الأباطح وَجعل الظَّاهِرِيّ مِنْهُم من كَانَ من قُرَيْش الظَّوَاهِر فقريش البطاح قبائل بني عبد منَاف بَنو عبد الدَّار بَنو أَسد بن عبد الْعُزَّى بن قصي بَنو زهرَة بن كلاب بَنو مَخْزُوم بن يقظة بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بَنو تيم بن مرّة بَنو جمع بَنو سهم بَنو عدي بن كَعْب وَهَؤُلَاء الثَّلَاث الْقَبَائِل مَعَ بني مَخْزُوم يسمون لعقة الدَّم بَنو حسل بن عَامر بن لؤَي فَهَؤُلَاءِ قُرَيْش الأباطح أحد عشر قَبيلَة وَأما قُرَيْش الظَّوَاهِر فهم أَربع قبائل بَنو محَارب بن فهر بَنو الْحَارِث بن فهر بَنو الأدرم بن غَالب بن فهر بَنو معيص بن عَامر بن لؤَي وَفِي ذَلِك يَقُول ذكران مولى بني عبد الدَّار مُخَاطبا للضحاك بن فهر بن عَامر بن قيس الفِهري الظَّاهِرِيّ // (من الطَّوِيل) //
(تطاولت للضّحّاك حتّى رددتّه
…
إِلَى حسبٍ فِي قومه متقاصر)
(فَلَو شهدتني من قريشٍ عصابةٌ
…
قُرَيْش البطاح لَا قُرَيْش الظّواهر)
(ولكنّهم غَابُوا وأصبحت شَاهدا
…
فقبّحت من حامي ذمار وناصر)
(فريقان مِنْهُم ساكنٌ بطن يثربٍ
…
وَمِنْهُم فريقٌ ساكنٌ بالمشاعر)
وَأما الأحلاف من قُرَيْش فَخمس قبائل بَنو عبد الدَّار بَنو سهم بَنو جمح بَنو عدي بَنو مَخْزُوم وَأما المطيبون الَّذين تحالفوا وغمسوا أَيْديهم فِي الطّيب فَسمى حلف المطيبين
بَنو عبد منَاف بَنو أَسد بَنو عبد الْعُزَّى بَنو تيم بَنو الْحَارِث بن لؤَي خمس قبائل أَيْضا قَالَ عمر بن أبي ربيعَة المَخْزُومِي من قصيدة // (من الْخَفِيف) //
(وَلها فِي المطيّبين جدودٌ
…
ثمّ نَالَتْ ذوائب الأحلاف)
(انها بَين عَامر بن لؤَي
…
حِين تَدعهُمْ وَبَين عبد منَاف)
وروى الْحسن الْأَثْرَم عَن هِشَام بن مُحَمَّد بن السَّائِب الْكَلْبِيّ قَالَ كَانَت قُرَيْش الظَّوَاهِر يغيرون على بني كنَانَة يغيرهم عَمْرو بن ود العامري إِلَّا أَن بني الْحَارِث بن فَهُوَ دخلت بعد ذَلِك مَكَّة فهم من البطاح وهم يَد مَعَ المطيبين فِي حلفهم الَّذِي كَانُوا عقدوه قَالَ وَأما قُرَيْش العازبة فَإِنَّهُم ولد سامة بن لؤَي بن غَالب بن فهر بن مَالك بن النَّضر بن كنَانَة بن خُزَيْمَة بن مدركة بن إلْيَاس بن مُضر وَقد ذكر الفاكهي سَبَب تسميتهم بذلك فَقَالَ حَدثنَا الزبير بن أبي بكر قَالَ وَأما ولد سامة بن لؤَي وهم قُرَيْش العازبة وَإِنَّمَا سموهم العازبة لأَنهم عزبوا عَن قَومهمْ فنسبوا إِلَى أمّهم نَاجِية بنت حزم بن زبان وَهُوَ علاف وَكَانَ أول من اتخذ الرّحال العلافية فنسبت إِلَيْهِ وَاسم نَاجِية ليلى وَإِنَّمَا سميت ليلى نَاجِية لِأَنَّهَا صَارَت فِي مفازة فعطشت فاستسقت سامة بن لؤَي فَقَالَ لَهَا بَين يَديك وَهُوَ يريها السراب حَتَّى جَاءَت المَاء فَشَرِبت فنجت فَسَمت نَاجِية قَالَ وَأما قُرَيْش العائذة فهم بَنو خُزَيْمَة بن لؤَي بن غَالب بن فهر بن مَالك بن النَّضر وَسبب تسميتهم بذلك ذكرهَا الزبير أَيْضا فَقَالَ وَإِنَّمَا قيل لخزيمة بن لؤَي عائذة لِأَن عبيد بن خُزَيْمَة تزوج عائذة بنت الْخمس بن قُحَافَة بن خثعم فَولدت لَهُ مَالِكًا وتيماً فسموا عائذة باسم أمهما قَالَ الزبير وَكَانَت الْعَرَب تنفس قُريْشًا وَتعير أهل الْحرم مِنْهَا بالْمقَام بِالْحرم فأسموها العصب وَفِي قُرَيْش رَهْط يُقَال لَهُم الأجربان وهم بنوا بغيض بن عَامر بن لؤَي وَبَنُو محاب بن فهر وَكَانَ هَذَانِ الرهطان متحالفين وَكَانَا يدعيان الأجربين لبأسهما وقهرهما من ناوأهما فهما الأجربان من أهل تهَامَة وَمن أهل نجد رهطان كَذَلِك يُقَال لَهما الأجربان هما عبس وذبيان
وَلما ذكرت بِنَاء قصي الْكَعْبَة الشَّرِيفَة أَحْبَبْت ذكر بِنَاء قُرَيْش وَابْن الزبير وَالْحجاج اياهما متمماً للفائدة فَقلت ثمَّ بنت قُرَيْش الْكَعْبَة قَالَ خَاتِمَة الْحفاظ والمحدثين مَوْلَانَا الشَّيْخ مُحَمَّد الصَّالِحِي فِي كِتَابه الْمُسَمّى سبل الرشاد فِي سيرة خير الْعباد سَببه أَن امْرَأَة جمرت الْكَعْبَة فعلقت شرارة من مجمرها فِي ثِيَاب الْكَعْبَة فَأحرق الشرار أخشابها وأحرق قَرْني كَبْش إِسْمَاعِيل وَكَانَا معلقين بهَا ظَاهِرين ودخلها سيل عَظِيم فصدع جدرانها بعد توهنها بالنَّار فَأَجْمعُوا على هدمها وبنائها فَلَمَّا غدوا على هدمها خرجت لَهُم تِلْكَ الْحَيَّة الَّتِي كَانَت تحرس الْجب سَوْدَاء الظّهْر بَيْضَاء الْبَطن رَأسهَا كرأس الجدي فمنعتهم فَلَمَّا رأو ذَلِك اعتزلوا عِنْد مقَام الْخَلِيل فَقَالَ لَهُم الْوَلِيد بن الْمُغيرَة يَا قوم ألستم تُرِيدُونَ بهدمها الْإِصْلَاح قَالُوا بلَى قَالَ فَإِن الله لَا يهْلك المصلحين وَلَكِن لَا تدْخلُوا فِي بنائها إِلَّا طيب أَمْوَالكُم لَا تدْخلُوا فِيهِ مَال رَبًّا وَلَا ميسر وَلَا مهر بغي فَإِن الله لَا يقبل إِلَّا طيبا فَفَعَلُوا ثمَّ وقفُوا عِنْد الْمقَام سَاعَة يدعونَ فَقَالُوا اللَّهُمَّ إِن كَانَ لَك فِي هدمها رضَا فاشغل عَنَّا هَذَا الثعبان فَأقبل طَائِر من جو السَّمَاء كَهَيئَةِ الْعقَاب أسود الظّهْر أَبيض الْبَطن أصفر الرجلَيْن والحية على الْجِدَار فاغرة فاها فَأخذ برأسها وطار بهها إِلَى أجياد الصَّغِير فَقَالُوا نرجوا أَن يكون رَبنَا قد رَضِي عَمَلكُمْ فاهدموا فهابت قُرَيْش الْهدم فَقَالَ الْوَلِيد أَنا ابدأؤكم فَإِنِّي شيخ فَإِن أصابني أَمر كَانَ قد دنا أَجلي فعلاه بالعتلة يهدم فتزعزع تَحت رجلَيْهِ حجر فَقَالَ اللَّهُمَّ لم نرع إِنَّمَا أردنَا الْإِصْلَاح فهدم يَوْمه أجمع وَقَالَت قُرَيْش نَخَاف أَن ينزل بِهِ إِذا أَمْسَى شَيْء فَلَمَّا أَمْسَى لم ير بَأْسا فَأصْبح غادياً على عمله فهدمت قُرَيْش مَعَه حَتَّى بلغُوا الأساس الَّذِي وَضعته الْمَلَائِكَة وَهُوَ مَا رفع عَلَيْهِ الْخَلِيل الْقَوَاعِد فَأدْخل الْوَلِيد العتلة فانفلقت فلقَة فَأَخذهَا وهب بن عُمَيْر ففرت من يَده وعادت لمحلها وَبَرقَتْ من تحتهَا برقة كَادَت تخطف الْأَبْصَار ورجفت مَكَّة بأسرها فَعِنْدَ ذَلِك أَمْسكُوا ثمَّ لما عمروا وَقلت عَلَيْهِم النَّفَقَة أَجمعُوا على أَن يقصروا عَن الْقَوَاعِد ويحجروا على مَا قصروا من بِنَاء الْبَيْت بجدار يُطَاف من وَرَائه وَقدر مَا أَبقوا فِيهِ من الْبَيْت سِتَّة أَذْرع وشبر وَقَالَ ارْفَعُوا بَابهَا حَتَّى لَا
تدْخلهَا السُّيُول وَلَا يرقى إِلَيْهَا إِلَّا بسلم وَلَا يدخلهَا إِلَّا من أردتم فبنوا أَرْبَعَة أَذْرع ثمَّ كسوها وبنوها حَتَّى بلغ ارتفاعها ثَمَانِيَة عشر ذِرَاعا زادوا تِسْعَة أَذْرع على بِنَاء الْخَلِيل وبنوها مدماكاً من حجر ومدماكاً من خشب وَجعلُوا سقفها مسطحًا وأقاموه على سِتّ دعائم فِي صفّين وبنوا دَرَجَة من بَطنهَا من خشب فِي الرُّكْن الشَّامي وزوقوها وصوروا الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة وَالشَّجر وَجعلُوا لَهَا بَابا وَاحِدًا وكسوها الحبرات اليمانية قَالَ ابْن هِشَام لما اقتسمت قُرَيْش جَوَانِب الْبَيْت للعمارة كَانَ شقّ الْبَيْت لبني زهرَة وَبني عبد منَاف وَمَا بَين الرُّكْن الْأسود واليماني لبني مَخْزُوم وَمن انْضَمَّ إِلَيْهِم من قُرَيْش وَظهر الْكَعْبَة لبني جمح وَبني سهم وشق الْحجر لبني عبد الْعُزَّى وَبني عدي وَبني كَعْب وأحضروا الْحِجَارَة وَكَانَ رَسُول الله
ينْقل مَعَهم الْحِجَارَة وَهُوَ ابْن خمس وَثَلَاثِينَ سنة على الصَّحِيح حَتَّى انْتهى الْهدم إِلَى حِجَارَة خضر كأسنمة الْإِبِل فضربوها بِالْمِعْوَلِ فَخرج برق كَاد أَن يخطف الْأَبْصَار فَانْتَهوا عِنْد ذَلِك الأساس ثمَّ بنوها حَتَّى بلغ الْبُنيان مَوضِع الرُّكْن فاختصم الْقَبَائِل كل قَبيلَة تُرِيدُ أَن ترفعه إِلَى مَوْضِعه وكادوا يقتتلون على ذَلِك فَقَالَ لَهُم أَبُو أُميَّة بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عَمْرو بن مَخْزُوم وَكَانَ شريفاً مُطَاعًا اجعلوا الحكم بَيْنكُم لأوّل من يدْخل من بَاب الصَّفَا فقبلوا ذَلِك مِنْهُ وَكَانَ أول دَاخل رَسُول الله
فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا هَذَا الْأمين أقبل وَكَانَ يُسمى فِي الْجَاهِلِيَّة الْأمين لأمانته وَصدقه فَقَالُوا جَمِيعًا رَضِينَا بِحكمِهِ ثمَّ قصوا عَلَيْهِ قصتهم فَقَالَ
هَلُمَّ إِلَيّ ثوبا فَأتى بِهِ فَوضع الرُّكْن فِيهِ ثمَّ قَالَ لتأْخذ كل قَبيلَة بِطرف من هَذَا الثَّوْب فَحَمله من أَرْبَعَة أَطْرَاف الثَّوْب أَرْبَعَة من وُجُوه الْقَبَائِل وأشرافها وزعمائها ورفعوه إِلَى محاذاة مَوْضِعه فتناوله رَسُول الله
من الثَّوْب وَوَضعه بِيَدِهِ الشَّرِيفَة فِي مَحَله فَكَانَ الْأَشْرَاف والزعماء خدما لَهُ
وَفِي ذَلِك يَقُول هُبَيْرَة بن أبي وهب المَخْزُومِي // (من الطَّوِيل) //
(تشاجرت الْأَحْيَاء فِي فصل خطّةٍ
…
جرت طيرهم بالنّحس من بعد أسعد)
(تراموا بهَا بالبغض بعد مودّةٍ
…
وأوقد نَارا بَينهم شرّ موقد)
(فلمّا رَأينَا الْأَمر قد حَان جدّه
…
وَلم يبْق شيءٌ غير سلّ المهنّد)
(رَضِينَا وَقُلْنَا الْعدْل أَو طالعٍ
…
يَجِيء من الْبَطْحَاء من غير موعد)
(ففاجأنا هَذَا الْأمين محمّدٌ
…
فَقُلْنَا رَضِينَا بالأمين محمّد)
(بِخَير قريشٍ كلّها أَمر دِيمَة
…
وفى الْيَوْم مَعَ مَا يحدث الله فِي غَد)
(فجَاء بأمرٍ لم ير النّاس مثله
…
أعمّ وأرضى فِي العواقب والبدي)
(أَخذنَا بأطراف الرّداء وكلّنا
…
لَهُ حصّةٌ من رَفعه قَبْضَة الْيَد)
(فَقَالَ ارْفَعُوا حتّى إِذا مَا علت بِهِ
…
أكفّهم والى بِهِ خير مُسْند)
(وكلٌّ رَضِينَا فعله وصنيعه
…
فأعظم بِهِ من رأى هادٍ ومهتد)
(وَتلك يدٌ مِنْهُ علينا عظيمةٌ
…
يروح بهَا هَذَا الزّمان وَيَغْتَدِي)
انْتَهَت أَقُول طالما بحثت عَن أهل الزعامة والرياسة من الْأَرْبَعَة الآخذين بِطرف الرِّدَاء حَتَّى ظَفرت بِأَسْمَائِهِمْ على التَّعْيِين فِي مروج الذَّهَب للمسعودي وهم عتبَة بن ربيعَة بن أُميَّة بن عبد شمس بن عبد منَاف بن قصي وَالْأسود بن عبد الْمطلب بن أَسد بن عبد الْعُزَّى بن قصي وَأَبُو حُذَيْفَة بن الْمُغيرَة بن عَمْرو بن مَخْزُوم بن يقظة بن مرّة بن كَعْب وَقيس بن عدي السَّهْمِي وَأما بِنَاء عبد الله بن الزبير لَهَا قَالَ فِي المسامرة روينَا من حَدِيث الْأَزْرَقِيّ قَالَ
جلس رجال من قُرَيْش بِالْمَسْجِدِ الْحَرَام حويطب بن عبد الْعُزَّى ومخرمة بن نَوْفَل فتذاكروا بِنَاء قُرَيْش الْكَعْبَة وَمَا هاجهم إِلَى ذَلِك فَذكرُوا مَا تقدم ذكره آنِفا وَذكروا كَيفَ كَانَ بناؤها قبل ذَلِك فَقَالُوا كَانَت الْكَعْبَة مَبْنِيَّة برضم يَابِس لَيْسَ بمدر وَكَانَ بَابهَا بِالْأَرْضِ وَلم يكن لَهَا سقف وَالْكِسْوَة إِنَّمَا تدلى على الْجِدَار من خَارج ترْبط من أَعلَى الْجِدَار من بَاطِنهَا بصخور عِظَام وَكَانَ عَن يَمِين الدَّاخِل لَهَا جب يوضع فِيهِ مَا يهدى إِلَيْهَا من مَال وَغَيره وَلما سرقت جرهم مِنْهُ بعث الله تَعَالَى حَيَّة تحرسه فَلم تزل حارسة لما فِيهِ خَمْسمِائَة سنة حَتَّى أَخذهَا الْعقَاب حِين أَرَادَت قُرَيْش تجديدها فَمَنعهُمْ كَمَا تقدم ذكر ذَلِك وَذكروا بِنَاء عبد الله بن الزبير فَقَالُوا لما أَبْطَأَ عبد الله بن الزبير عَن بيعَة يزِيد وتخلف وخشي مِنْهُ لحق بِالْحرم ليمتنع بِهِ وَجَمِيع موَالِيه وَجعل يظْهر عيب يزِيد وَعدم صلاحيته للخلافة لما هُوَ عَلَيْهِ من الفسوق ويثبط النَّاس عَنهُ فَبلغ يزِيد ذَلِك فآلى أَلا يُؤْتى بِهِ إِلَّا مغلولاً وَأرْسل إِلَيْهِ رجلا من أهل الشَّام فِي خيل يعظم عَلَيْهِ الْفِتْنَة فَقَالَ لَا يسْتَحل الْحرم بسببك فَإِنَّهُ غير تاكك وَلَا تقوى عَلَيْهِ وَقد أقسم أَلا يُؤْتى بك إِلَّا مغلولاً وَقد صنع لَك غلاً من فضَّة وتلبس فَوْقه الثِّيَاب وتبر قسم أَمِير الْمُؤمنِينَ فَالصُّلْح خير عاقبته وأجمل بك وَبِه فاستمهله أَيَّامًا وشاور أمه أَسمَاء فَأَبت أَن يذهب مغلولاً وَقَالَت يَا بني عش كَرِيمًا أَو مت كَرِيمًا وَلَا تمكن صبيان بني أُميَّة فتلعب بك فالموت أجمل بك من هَذَا فَامْتنعَ فِي موَالِيه وَمن يألف من أهل بَيته وَأهل مَكَّة وَغَيرهم فَكَانَ يُقَال لَهُم الزبيرية فَبَيْنَمَا يزِيد على تعبئة الجيوش إِلَيْهِ إِذْ أَتَى يزِيد الْخَبَر بِمَا فعل أهل الْمَدِينَة بعماله وبمن بِالْمَدِينَةِ من بني أُميَّة وإخراجهم إيَّاهُم مِنْهَا مَا عدا من كَانَ من ولد عُثْمَان بن عَفَّان فَجهز إِلَيْهِم مُسلم بن عقبَة المري وَكَانَ مَرِيضا فِي بَطْنه بِالْمَاءِ الْأَصْفَر فأباح الْمَدِينَة وَفعل مَا سَيذكرُهُ عَنهُ فِي وقْعَة الْحرَّة ثمَّ سَار إِلَى مَكَّة يُرِيد ابْن الزبير فَمَاتَ بالمشلل وَولي الْحصين بن نمير بِوَصِيَّة إِلَيْهِ من يزِيد فوصل إِلَى مَكَّة وَقَاتل بهَا ابْن الزبير أَيَّامًا وَنصب المنجنيق على جبل أبي قبيس وَمُقَابِله وَجمع ابْن الزبير من مَعَه وتحصن بهم فِي الْمَسْجِد وَضربت خيام يَسْتَظِلُّونَ بهَا من الشَّمْس فَكَانَ يرميهم بالنفط والمنجنيق فتصيب الْحِجَارَة الْكَعْبَة حَتَّى تخرقت كسوتها عَلَيْهَا وَصَارَت
كَأَنَّهَا جُيُوب النِّسَاء وأوهن رمي المنجنيق الْكَعْبَة واحترقت من رمي النفط وَهِي مَبْنِيَّة بِنَاء قُرَيْش السَّابِق مدماك حجر وَآخر من خشب الساج وَقيل كَانَ احتراقها من نَار اوقدها رجل من جمَاعَة ابْن الزبير فِي بعض تِلْكَ الْخيام مِمَّا يَلِي الصَّفَا بَين الرُّكْن الْيَمَانِيّ وَالْحجر الْأسود وَالْمَسْجِد يَوْمئِذٍ ضيق خُصُوصا من تِلْكَ الْجِهَة فطارت شرارة إِلَى خيمة مِنْهَا فاحترقت كسْوَة الْكَعْبَة ثمَّ مِنْهَا إِلَى الْخشب الَّذِي بَين الْبناء وَكَانَ احتراقها يَوْم السب ثَالِث ربيع الأول من سنة 64 وتصدع الْحجر الْأسود فعضفت جدران الْكَعْبَة حَتَّى إِنَّهَا يَقع عَلَيْهَا الْحمام فتتناثر حجارتها فَفَزعَ لذَلِك أهل مَكَّة وَالشَّام جَمِيعًا فورد الْخَبَر بنعي يزِيد هِلَال ربيع الآخر وَأَنه توفّي لأَرْبَع خلت من ربيع الآخر مِنْهَا فَأرْسل ابْن الزبير إِلَى الْحصين بن نمير رجَالًا من قُرَيْش فكلموه وأعظموا عَلَيْهِ مَا أصَاب الْكَعْبَة مِنْهُم وَقَالُوا لَهُ قد توفّي أَمِير الْمُؤمنِينَ فعلى مَاذَا تقَاتل ارْجع إِلَى الشَّام حَتَّى تنظر مَاذَا يجْتَمع عَلَيْهِ أَمر صَاحبك يعنون مُعَاوِيَة بن يزِيد فَلم يزَالُوا بِهِ حَتَّى رَجَعَ إِلَى الشَّام وَكَانَ رُجُوعه لخمس من ربيع الآخر من السّنة الْمَذْكُورَة ثمَّ شاور ابْن الزبير النَّاس فِي هدم الْكَعْبَة فَأَشَارَ عَلَيْهِ نَاس غير كثير بهدمها وَقَالَ لَهُ ابْن عَبَّاس دعها على مَا اقرها عَلَيْهِ رَسُول الله
فَإِنِّي أخْشَى أَن يَأْتِي بعْدك من يَهْدِمهَا فَلَا تزَال كَذَلِك فيتهاون بحرمتها وَلَكِن ارممها فَقَالَ ابْن الزبير مَا يرضى أحدكُم أَن يرقع بَيت أَبِيه وَأمه كَيفَ أرقع بَيت الله وَأَنا أنظر إِلَيْهِ على مَا ترَوْنَ من الوهن وَكَانَ مِمَّن أَشَارَ عَلَيْهِ بالهدم جَابر بن عبد الله الْأنْصَارِيّ وَعبيد بن عُمَيْر وَعبد الله بن صَفْوَان بن أُميَّة وَكَانَ يحب أَن يكون هُوَ الَّذِي يردهَا كَمَا قَالَ عليه الصلاة والسلام على قَوَاعِد إِبْرَاهِيم فَلَمَّا أَرَادَ الْهدم خرج أهل مَكَّة إِلَى منى خوفًا من نزُول عَذَاب فَأمر بالهدم فَمَا اجترأ أحد على ذَلِك أحد فَلَمَّا رأى خوفهم علاها وَأخذ بِالْمِعْوَلِ وَجعل يَهْدِمهَا وَيَرْمِي أحجارها فَلَمَّا رَأَوْا أَن لَا بَأْس عَلَيْهِ اجترءوا فهدموا مَعَه وأصعد ابْن الزبير فَوْقهَا عبيدا من الْحَبَش يهدمون رَجَاء إِن يكون فيهم الْحَبَش الَّذِي قَالَ فِيهِ عليه الصلاة والسلام إِنَّه يخرب الْكَعْبَة ذُو السويقتين من الْحَبَشَة فَهَدمهَا وَالنَّاس
مَعَه حَتَّى ألصقها بِالْأَرْضِ من جوانبها الْأَرْبَعَة وَكَانَ ابْتِدَاء الْهدم النّصْف من جمادي الْآخِرَة من السّنة الْمَذْكُورَة أَعنِي سنة أَربع وَسِتِّينَ من الْهِجْرَة وَلم يقرب ابْن عَبَّاس من حِين هدمت حَتَّى فرغ مِنْهَا وَأرْسل لِأَبْنِ الزبير يَقُول لَا تدع النَّاس تغير الْقبْلَة انصب لَهُم حول الْكَعْبَة الْخشب وَاجعَل عَلَيْهِ السّتْر يطوف النَّاس من وَرَائه وَيصلونَ إِلَيْهِ فَفعل وَقَالَ ابْن الزبير سَمِعت عَائِشَة رضي الله عنها تَقول قَالَ رَسُول الله
لي إِن قَوْمك استقصروا فِي بِنَاء الْبَيْت لما عجزت عَنْهُم النَّفَقَة فتركوا مِنْهَا أذرعاً وَلَوْلَا حَدَاثَة قَوْمك بجاهلية لهدمت الْكَعْبَة وَأخذت مَا تركُوا مِنْهَا وَجعلت لَهَا بَابَيْنِ مَوْضُوعَيْنِ بِالْأَرْضِ شرقياً يدْخل مِنْهُ وغربياً يخرج مِنْهُ وَهل تدرين لم كَانَ قَوْمك رفعوا الْبَاب قلت لَا قَالَ تعززاً لِئَلَّا يدخلهَا إِلَّا من أَرَادوا فَكَانَ الرجل إِذا كَرهُوا أَن يدخلهَا يَدعُونَهُ يرتقي حَتَّى إِذا كَاد أَن يدخلهَا دفعوه فَسقط فَإِن بدا لقَوْمك فَهَلُمَّ أريك مَا تركُوا فِي الْحجر مِنْهَا فأراها قَرِيبا من سبع أَذْرع ثمَّ نزل بِالْحفرِ إِلَى أَن انْتهى إِلَى أساس إِبْرَاهِيم فَوَجَدَهُ دَاخِلا فِي الْحجر نَحوا من سِتَّة أَذْرع وشبر فَإِذا أحجاره دَاخل بَعْضهَا فِي بعض فَأدْخل عبد الله بن مُطِيع العتلة فِي ركن فتحركت الْأَركان كلهَا ورجفت مَكَّة وَخَافَ النَّاس وَنَدم من أَشَارَ بالهدم فَقَالَ ابْن الزبير اشْهَدُوا وَأَرَادَ أَن يبنيها بالورس فَقيل لَهُ إِن الورس يذهب لَكِن ابْنهَا بالقصة فوصفت لَهُ قصَّة صنعاء فَبعث بأربعمائة دِينَار فَأخذت لَهُ وَسَأَلَ عَن مَحل أَخذ قُرَيْش الْحِجَارَة فَأخْبر فَنقل لَهُ قدر مَا يحْتَاج ثمَّ وضع الْبناء على ذَلِك الأساس وَوضع حذاء بَاب الْكَعْبَة على مدماك على الشاذروان وَجعل الْبَاب الآخر بإزائه فِي ظهرهَا وَكَانَ قد جعل الْحجر فِي ديباجة وَأدْخلهُ فِي تَابُوت وقفل عَلَيْهِ وَوَضعه عِنْده فِي دَار الندوة وَجعل مَا كَانَ من حلية فِي خزانَة الْكَعْبَة فِي دَار شيبَة بن عُثْمَان فَلَمَّا بلغ الْبُنيان مَوضِع الْحجر نقر فِي حجرين من المدماك الْأَعْلَى وطوق بَينهمَا وَأمر ابْنه عباداً وَجبير بن شيبَة بن عُثْمَان أَن يجْعَلُوا الرُّكْن فِي ثوب وَقَالَ إِذا دخلت الصَّلَاة فاحملوه وضعوه فِي مَحَله
وَأَنا أطيل الصَّلَاة فَإِذا فَرَغْتُمْ فكبروا حَتَّى أخفف وَكَانَ ذَلِك فِي صَلَاة الظّهْر فِي حر الشَّمْس فَلَمَّا أُقِيمَت الصَّلَاة خرجا بِهِ من دَار الندوة وشقا الصُّفُوف حَتَّى دخلا بِهِ السّتْر الَّذِي دون الْبناء فَوَضعه عباد بن عبد الله بن الزبير وأعانه جُبَير بن شيبَة فَلَمَّا أقراه مَوْضِعه وطوقا عَلَيْهِ كبرا فَخفف الصَّلَاة وتسامع النَّاس فَغضِبت رجال من قُرَيْش فَقَالُوا قد وَقع هَذَا فِي الْجَاهِلِيَّة حِين فتنت قُرَيْش فحكموا فِيهِ أول من يدْخل فَلَمَّا بلغ الْبناء ثَمَانِيَة عشر قصر طولهَا لموجب مَا أدخلهُ مِمَّا كَانَ فِي الْحجر فاستسمج ذَلِك لِأَنَّهَا صَارَت عريضة لَا طول لَهَا فَقَالَ كَانَ طولهَا قبل قُرَيْش تِسْعَة فزادت قُرَيْش تِسْعَة فبناها سَبْعَة وَعشْرين بِزِيَادَة تِسْعَة أُخْرَى وَجعل فِيهَا ثَلَاث دعائم وأتى برخام من صنعاء يُقَال إِنَّه من الْحصن الأبلق فَجعله من الروازن الَّتِي فِي سقفها للضوء جعل لكل بَاب مصراعين وَكَانَ فِي بِنَاء قُرَيْش مصراعاً وَاحِدًا وَجعل الْمِيزَاب فِي الْحجر فَلَمَّا فرغ مِنْهَا خلقهَا أَعْلَاهَا وأسفلها ظَاهرا وَبَاطنا وَكَسَاهَا الْقبَاطِي وَقَالَ من كَانَت لنا عَلَيْهِ طَاعَة فَليخْرجْ وليأت بِعُمْرَة من التَّنْعِيم ولينحر مَا قدر عَلَيْهِ وَمن لم يقدر فليتصدق بقدرته وَنحر هُوَ مائَة بَدَنَة وَخرج مَاشِيا وَالنَّاس مشَاة وَلم ير أَكثر نحراً وَصدقَة من ذَلِك الْيَوْم فَهَذِهِ هِيَ الْعمرَة الَّتِي يَفْعَلهَا النَّاس يَوْم السَّابِع وَالْعِشْرين من رَجَب الْمُسَمَّاة عمْرَة الأكمة وَأما بِنَاء الْحجَّاج إِيَّاهَا فَكَانَ فِي سنة ثَلَاث وَسبعين وَذَلِكَ أَنه لم يزل الْبَيْت على حَاله إِلَى أَن قتل الْحجَّاج ابْن الزبير فِي السّنة الْمَذْكُورَة فَبعد قَتله اسْتَأْذن عبد الْملك بن مَرْوَان فِيمَا أحدثه ابْن الزبير فِي الْكَعْبَة فَكتب إِلَيْهِ عبد الْملك أَن يهدم الْجَانِب الَّذِي يَلِي الْحجر بِكَسْر الْحَاء خَاصَّة وَأَن يكبس بِهِ الْبَيْت وَيرْفَع الْبَاب الشَّرْقِي إِلَى حَده الأول ويغلق الْبَاب الغربي ففلعل ذَلِك ثمَّ بلغ عبد الْملك أَن مَا فعله ابْن الزبير على حَدِيث عَائِشَة صَحِيح حدث بن الْحَارِث بن عبد الله بن ربيعَة المَخْزُومِي وانه سَمعه من رَسُول الله
فَقَالَ عبد الْملك وددت وَالله أَنِّي كنت تركت ابْن الزبير وَمَا عمل وَلَو بلغنَا هَذَا مَا أمرنَا بِخِلَافِهِ انْتهى قلت قد ظهر مِمَّا ذكر أَن الْحجَّاج لم يعمر الْكَعْبَة جَمِيعهَا وَإِنَّمَا هدم الْجَانِب الشمالي وَأخرج مَا اخرجته قُرَيْش وكبش بنقضه جَوف الْكَعْبَة وَرفع الْبَاب
الشَّرْقِي وسد الغربي فعده فِي بناة الْكَعْبَة تسَامح ثمَّ لم يزل الْبَيْت الشريف قَائِما مُنْذُ بناه الْحجَّاج فِي رَجَب سنة ثَلَاث وَسبعين إِلَى يَوْم الْخَمِيس عشري شعْبَان من سنة 1049 فَكَانَ سُقُوطه فِيهِ فعمره السُّلْطَان المرحوم مُرَاد بن أَحْمد خَان وتمت الْعِمَارَة فِي سنة الْأَرْبَعين بعد الْألف وَقدر تِلْكَ الْمدَّة ألف سنة إِلَّا أَرْبعا وَعشْرين سنة ونرجوا أَلا ينقضها إِلَّا أَشْرَاط السَّاعَة الْمَوْعُود بهَا فِي الحَدِيث الشريف وَكَانَ قصي أول من ملك بني كَعْب بن لؤَي أصَاب ملكا فأطاعه قومه وَله كَلِمَات تُؤثر عَنهُ مِنْهَا من أكْرم لئيماً أشركه فِي لؤمه وَمن اسْتحْسنَ قبيحاً نزل إِلَى قبحه وَمن لم تصلحه الْكَرَامَة أصلحه الهوان وَمن طلب فَوق قدره اسْتحق الحرمان وَكَانَ قد اجْتمع لقصي مالم يجْتَمع لغيره من المناصب فَكَانَ بِيَدِهِ الحجابة والسقاية والرفادة واللواء والقيادة فالحجابة هِيَ سدانة الْبَيْت الشريف أَي تَوْلِيَة مفتاحه وَالْقِيَام بخدمته وَأما السِّقَايَة فاسقاء الحجيج كلهم المَاء الْعَذَاب وَكَانَ عَزِيزًا بِمَكَّة يجلب إِلَيْهَا من خَارِجهَا فيسقيه الْحجَّاج وينبذ لَهُم فِيهِ التَّمْر وَالزَّبِيب وَأما الرفادة وَذَلِكَ إطْعَام الطَّعَام لسَائِر الْحجَّاج تمد لَهُم الأسمطة فِي أَيَّام الْحَج وَكَانَت السِّقَايَة والرفادة مستمرين إِلَى أَيَّام الحلفاء وَمن بعدهمْ من الْمُلُوك والسلاطين قَالَ التقي الفاسي رحمه الله إِن الرفادة كَانَت فِي زمن الْجَاهِلِيَّة وَصدر الْإِسْلَام واستمرت إِلَى أيامنا قَالَ وَالطَّعَام يصنع بِأَمْر السُّلْطَان كل عَام للنَّاس بمنى حَتَّى يَنْقَضِي الْحَج قَالَ الْعَلامَة قطب الدّين وَأما فِي زَمَاننَا فَلَا يفعل شَيْء من ذَلِك
قَالَ فِي الأرج المسكي فِي التَّارِيخ الْمَكِّيّ وَكَانَت الْخُلَفَاء قَائِمين بالرفادة إِلَى أَن كَانَ زمن مُعَاوِيَة فَجعل لَهَا محلا معينا بِمَكَّة يطْبخ فِيهِ الطَّعَام للقادمين علينا جَمِيع السّنة وَأما السِّقَايَة فَكَانَت إِلَى الْعَهْد الْقَرِيب لَكِن لَا يبنذ فِيهَا إِلَّا نَادرا ثمَّ انْقَطَعت من قرب لعدم الْحَاجة إِلَيْهَا لِكَثْرَة وجود المَاء بِمَكَّة وَللَّه الْحَمد والْمنَّة وَلم تزل هَذِه المناصب فِي أَيدي أَوْلَاد قصي إِلَى أَن جَاءَ الله بِالْإِسْلَامِ وَدخل رَسُول الله
مَكَّة عَام الْفَتْح عَام ثَمَان من الْهِجْرَة وَقد صَارَت الحجابة إِلَى عُثْمَان بن أبي طَلْحَة من بني عبد الدَّار وَصَارَت السِّقَايَة إِلَى الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب فبقض النَّبِي
على السِّقَايَة والحجابة فَقَامَ الْعَبَّاس فَبسط يَده وَقَالَ يَا رَسُول الله بِأبي أَنْت وَأمي اجْمَعْ لي الحجابة إِلَى الساقية فَقَالَ
أُعْطِيكُم مَا ترزءون فِيهِ وَلَا ترزءون بِهِ فَقَامَ بَين عضادتي بَاب الْكَعْبَة فَقَالَ أَلا إِن كل دم أَو مَال أَو مأثرة كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة فَهِيَ تَحت قدمي هَاتين إِلَّا سِقَايَة الْحَاج وسدانة الْكَعْبَة فَإِنِّي قد أمضيتهما لأهلهما على مَا كَانَتَا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة ثمَّ جلس رَسُول الله
فِي الْمَسْجِد فَقَامَ إِلَيْهِ عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه ومفتاح الْكَعْبَة فِي يَده فَقَالَ يَا رَسُول الله اجْمَعْ لنا الحجابة والسقاية صلى الله عَلَيْك فَقَالَ رَسُول الله
أَيْن عُثْمَان بن طَلْحَة فدعى لَهُ فَقَالَ هاك مفتاحك يَا عُثْمَان إِن الْيَوْم يَوْم بر ووفاد وَقد أنزلت تِلْكَ الْآيَة الْمَشْهُورَة فِي سُورَة النِّسَاء وَهِي قَوْله تَعَالَى {إِنَّ اللَّهَ يَأَمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَات إِلَى أَهْلِهَا} النِّسَاء 58 فَقَالَ خذوها خالدة تالدة لَا يَنْزِعهَا مِنْكُم مَا اسْتَقَمْتُمْ إِلَّا ضال أَو ظَالِم قَالَ فِي الأرج المسكي كَانَ لمَكَّة وُلَاة من أهل الْجَاهِلِيَّة وعدة مُلُوك تفَرقُوا فِي ممالك مُتَّصِلَة ومنفصلة فَمنهمْ المسمون بِأبي جاد وهوز وحطي وكلمن وَهُوَ الْأَعْظَم وسعفص وقريشات وهم بَنو الْمَحْض بن جندل فأبجد كَانَ ملك مَكَّة
وَمَا يَليهَا من الْحجاز وهوز وحطي ملكَيْنِ بِبِلَاد وَج وَهِي أَرض الطَّائِف وَمَا اتَّصل بِهِ من أَرض نجد وكلمن وسعفص وقريشات كَانُوا ملوكا بمدين وَقيل بِبِلَاد مصر وَكَانَ كلمن وَحده على بِلَاد مَدين وروى عَن عبد الله بن عَمْرو بن الْعَاصِ وَعُرْوَة بن الزبير أَنَّهُمَا قَالَا أول من وضع الْكتاب الْعَرَبِيّ قوم من الْأَوَائِل نزلُوا فِي عدنان بن أد بن أدد أَسمَاؤُهُم أبجد وهوز وحطي وكلمن وسعفص وقرشت فوضعوا الْكتاب الْعَرَبِيّ على أسمائهم ووجدوا أحرفاً لَيست من أسمائهم وَهِي الثَّاء وَالْخَاء والذال وَالضَّاد والظاء والغين فسموها الروادف يُرِيد ثخذ ضظغ وروى أَن هَذِه الْكَلِمَات من أَسمَاء الشَّيَاطِين وروى أَنَّهَا أَسمَاء لملوك مَدين فَقَط وَأَن رئيسهم كلمن وَأَنَّهُمْ هَلَكُوا يَوْم الظلة الْمَذْكُور فِي الْكتاب الْعَزِيز وهم قوم شُعَيْب على نَبينَا وَعَلِيهِ وعَلى سَائِر الْأَنْبِيَاء الصَّلَاة وَالسَّلَام فَقَالَت أُخْت كلمن ترثيه // (من مجزوء الرمل) //
(كَلمن هدّم ركنى
…
هلكه وسط المحلّه)
(سيد الْقَوْم اتاه الحتف
…
نَارا وسط ظلّه)
وَقَالَ رجل من أهل مَدين يرثيهم كَذَلِك // (من الطَّوِيل) // ل
(أَلا يَا شُعَيْب قد نطقت مقَالَة
…
سبقت بهَا عمرا وحيّ بني عَمْرو)
(مُلُوك بني حطّي وهوّز مِنْهُم
…
وسعفص أهلٌ فِي المكارم ذِي الْغمر)
(هم صبّحوا أهل الْحجاز بغارةٍ
…
كَمثل شُعَاع الشّمس أَو مطلع الْفجْر)
وَذكر ابْن الْجَوْزِيّ فِي المضحكات أَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه لقى اعرابيا فَقَالَ لَهُ هَل تحسن أَن تقْرَأ الْقُرْآن قَالَ نعم قَالَ لَهُ فاقرأ أم الْقُرْآن فَقَالَ الْأَعرَابِي وَالله مَا أحسن الْبَنَات فَكيف الْأُم قَالَ فَضَربهُ ثمَّ سلمه إِلَى معلم فَمَكثَ فِيهِ حينا ثمَّ هرب وَأَنْشَأَ يَقُول // (من الوافر) //
(أتيت مُهَاجِرين فعلّموني
…
ثَلَاثَة أسطر مُتَتَابِعَات)
(كتاب الله فِي رقٍّ صَحِيح
…
وآيات الْقُرْآن مفصّلات)
(وخطّوا لي أَبَا جادٍ بَيَانا
…
وَقَالُوا سعفص وقريشات)
(وَمَا أَنا وَالْكِتَابَة والتّهجي
…
وَمَا حظّ الْبَنِينَ من الْبَنَات)
ثمَّ ولي أَمر الْبَيْت بعدهمْ الْخَلِيل على نَبينَا وَعَلِيهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَأَقَامَ دعائمه فَكَانَ يَبْنِي وَإِسْمَاعِيل يناوله الْحِجَارَة ثمَّ وليه ابْن ابْنه نابث بن اسمعاعيل ثمَّ العماليق هم أَوْلَاد عمليق أَو عملاق بن لاوذ بن سَام بن نوح فضيعوا حُرْمَة الْبَيْت وَاسْتَحَلُّوا مِنْهُ أموراً عظائم فَأخْرجهُمْ الله من الْحرم سلط الله عَلَيْهِم النَّمْل فَخَرجُوا إِلَى عدن وَإِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة ثمَّ وَليهَا بعدهمْ أَبنَاء جرهم بن قحطان بن عَابِر وَهُوَ هود النَّبِي كَمَا تقدم ذكر ذَلِك ابْن شالغ بن أرفخشد بن سَام بن نوح عليه السلام وَقيل إِن جرهماً لَيْسَ هُوَ ابْن قحطان بل إِنَّمَا هُوَ ملك من الْمَلَائِكَة أذْنب ذَنبا فأهبط إِلَى أَرض مَكَّة فَتزَوج امْرَأَة من العماليق فَولدت لَهُ جرهماً فَلذَلِك يَقُول الْحَارِث بن مضاض الجرهمي // (من الرجز) //
(لَا همّ إنّ جرهماً عِبَادك
…
ألنّاس طرفٌ وهم تلادك)
(وهم قَدِيما عمّروا بلادك
…
)
قلت كَأَن الْإِشَارَة بقوله تلادك إِلَى أَن هَذَا القَوْل دَلِيل لكَون أبي جرهم من الْمَلَائِكَة يستنتج ذَلِك من كَون معنى الطريف المَال المستجد والتلاد المَال الْقَدِيم المستأصل وَلَا شكّ أَن جنس الْملك أقدم وجودا من جنس بني آدم وَلكنه كَمَا ترى دَلِيل لَا يلمس إِلَّا بالأكف الرُّخْصَة الناعمة وَأول من ملك من جرهم مضاض بن عَمْرو بن سعد بن الرَّقِيب بن هني بن نبت بن جرهم بن قحطان قَالَ الأرزقي حَدثنِي جدي قَالَ حَدثنِي سعيد بن سَالم بن عُثْمَان بن سَاج قَالَ أَخْبرنِي ابْن إِسْحَاق فَذكر شَيْئا من خبر إِسْمَاعِيل بن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِمَا وعَلى نَبينَا وعَلى سَائِر الْأَنْبِيَاء أفضل الصَّلَاة وَالسَّلَام وشيئاً من خبر بني إِسْمَاعِيل ثمَّ قَالَ ثمَّ توفّي نابت بن إِسْمَاعِيل فولى بعده مضاض بن عَمْرو الجرهمي وَهُوَ جد نابت بن إِسْمَاعِيل أَبُو أمه وَضم بني نابت وَبني إِسْمَاعِيل إِلَيْهِ وصاروا إِلَى
جدهم أبي أمّهم مضاض بن عَمْرو الْمَذْكُور وَمَعَ أخوالهم من جرهم وجرهم وقطورا يَوْمئِذٍ أهل مَكَّة وعَلى جرهم مضاض بن عَمْرو ملكا عَلَيْهِم وعَلى قطورا رجل مِنْهُم يُقَال لَهُ السميدع ملكا عَلَيْهِم وَكَانَا حِين ظعنا من الْيمن أَقبلَا سيارة فَلَمَّا نزلا مَكَّة رَأيا بَلَدا طيبا وآجاماً وشجراً فأعجبهما وَنزلا بِهِ فَنزل مضاض بن عَمْرو بِمن مَعَه من جرهم أَعلَى مَكَّة وقعيقعان فَجَاز ذَلِك وَنزل السميدع يعشر من دخل من أَسْفَلهَا وَمن كدى وكل فِي قومه على حَاله لَا يدْخل وَاحِد مِنْهُمَا على صَاحبه فِي ملكه ثمَّ إِن جرهماً وقطورا بغى بَعضهم على بعض وتنافسوا الْملك بهَا فَاقْتَتلُوا وشبت الْحَرْب بَينهم على الْملك وَولَايَة الْأَمر مَعَ مضاض وَبني نابت بن إِسْمَاعِيل وَبني إِسْمَاعِيل وَإِلَيْهِ ولَايَة الْبَيْت دون السميدع فَلم يزل الْبَغي حَتَّى سَار بَعضهم إِلَى بعض فَخرج مضاض بن عَمْرو من قعيقعان فِي كتبية سائرا إِلَى السميدع وَمَعَ كتبيته عدَّة من الرماح والدرق وَالسُّيُوف والجعاب فيقعقع ذَلِك مَعَه فَسمى ذَلِك الْجَبَل بقعيقعان لذَلِك وَخرج السميدع بقطورا من أجياد مَعَه الْخَيل والرماح فَيُقَال مَا سمى ذَلِك الْموضع أجياداً إِلَّا بِخُرُوج الْخَيل الْجِيَاد مَعَ السميدع مِنْهُ حَتَّى الْتَقَوْا بفاضح فَاقْتَتلُوا قتالاً شَدِيدا فَقتل السميدع وفضحت قطوراً فَيُقَال مَا سمى فاضح فاضحاً إِلَّا بذلك ثمَّ إِن الْقَوْم تداعوا إِلَى الصُّلْح فَسَارُوا حَتَّى نزلُوا المطابخ شعبًا بِأَعْلَى مَكَّة يُقَال لَهُ شعب عبد الله بن عَامر بن كريز بن ربيعَة بن حبيب بن عبد شمس فأصطلحوا بذلك الشّعب واسملوا الْأَمر إِلَى مضاض بن عَمْرو فَلَمَّا جمع أَمر مَكَّة وَصَارَ ملكهَا لَهُ دون السميدع نحر للنَّاس وطبخ فأطعمهم فَيُقَال مَا سمى المطابخ مطابخ إِلَّا بذلك قَالَ وَكَانَ الَّذِي بَين مضاض بن عمروا والسميدع أول بغي كَانَ بِمَكَّة فِيمَا يَزْعمُونَ فَقَالَ مضاض بن عَمْرو الجرهمي فِي تِلْكَ الْحَرْب يذكر السميدع وَفعله وبغيه والتماسه مَا لَيْسَ لَهُ // (من الطَّوِيل) //
(وَنحن قتلنَا سيّد الحيّ عنْوَة
…
فَأصْبح فِيهَا وَهُوَ حيران موجع)
(وَمَا كَانَ يَبْغِي أَن يكون سواؤنا
…
بهَا ملكا حتّى أَتَانَا السّميدع)
(فذاق وبالاً حِين حاول ملكنا
…
وعالج منّا غصّةً تتجرّع)
(فَنحْن عمرنا الْبَيْت كنّا ولاته
…
ندافع عَنهُ من أَتَانَا وندفع)
(وَمَا كَانَ يَبْغِي أَن يَلِي ذَاك غَيرنَا
…
وَلم يَك حيٌّ قبلنَا ثمّ يمْنَع)
(وكنّا ملوكاً فِي الدّهور الّتي مَضَت
…
ورثنا ملوكاً لَا ترام فتوضع)
قَالَ ابْن إِسْحَاق وَقد زعم بعض أهل الْعلم أَنه إِنَّمَا سميت المطابخ لما كَانَ تبع نحر بهَا وَأطْعم وَكَانَت منهلاً لَهُ وَذكر المَسْعُودِيّ رحمه الله وَقدم السميدع على وَجه يُخَالف مَا ذكره الْأَزْرَقِيّ وَأفَاد فِي ذَلِك مَا بعده فَاقْتضى ذَلِك ذكر مَا فِيهِ مِمَّا يلائم خبر الْمشَار إِلَيْهِم مِمَّا لَا بُد من ذكره لارتباط الْكَلَام بِهِ قَالَ المَسْعُودِيّ وَلما اسكن الله إِبْرَاهِيم وَولده مَكَّة مَعَ أمه هَاجر ثمَّ قَالَ وَكَانَ من خبر إِسْمَاعِيل وَخبر هَاجر مَا كَانَ إِلَى أَن أنبع الله زَمْزَم أقحط الشحر واليمن فتفرقت العماليق وجرهم وَمن هُنَالك من عَاد فيممت العماليق نَحْو تهَامَة يطْلبُونَ المرعى المخصبة وَعَلَيْهِم السميدع بن هوثر بن قيطور بن كركر بن عملاق فَلَمَّا أمعنت بَنو كركر فِي السّير وَقد عدمت المَاء والمرعى وَاشْتَدَّ بهم الْجهد أقبل السميدع بن هوثر يرتجز بِشعر لَهُم يحثهم على الْمسير ويشجعهم فِيمَا نزل بهم // (من الرجز) //
(سِيرُوا بني كركر فِي الْبِلَاد
…
إنّي أرى ذَا الدّهر فِي فَسَاد)
(قد سَاد من قحطان ذُو الرّشاد
…
)
فَأَشْرَف روادهم على وَادي مَكَّة فنظروا إِلَى الطير ترفع وتخفض فاستنبطوا الْوَادي فنظروا إِلَى الْعَريش على الربوة الْحَمْرَاء يَعْنِي عَرِيش هَاجر الَّذِي صَنعته فِي مَوضِع الْبَيْت الشريف لِأَنَّهُ ذكر أَنه كَانَ ربوة حَمْرَاء وَفِي الْعَريش هَاجر وَإِسْمَاعِيل ثمَّ قَالَ فَسلم الرواد عَلَيْهَا واستأذنوها فِي نزولهم وشربهم من المَاء فأنست إِلَيْهِم وأذنت لَهُم فِي النُّزُول فتلقوا من عداهم من أهلهم وأخبروهم خبر المَاء فنزلوا الْوَادي مُطْمَئِنين مستبشرين بِالْمَاءِ وَلما أَضَاء لَهُم الْوَادي من نور النُّبُوَّة وَمَوْضِع الْبَيْت الْحَرَام ثمَّ قَالَ تسامعت جرهم ببني كركر ونزولهم الْوَادي وَمَا فِيهِ من الخصب ودرور الضروع وهم فِي حَال قحط فَسَارُوا نَحْو مَكَّة وَعَلَيْهِم الْحَارِث بن مضاض بن عَمْرو بن سعد بن رَقِيب بن ظَالِم بن نبت بن جرهم حَتَّى أَتَوا الْوَادي ونزلوا
على مَكَّة واستوطنوا الدَّار مَعَ إِسْمَاعِيل وَمن تقدمهم من العماليق من بني كركر وَقد قيل فِي بني كركر إِنَّهُم من جرهم فَإِن السُّهيْلي ذكر مَا يَقْتَضِي أَن قطورا الَّذين مِنْهُم السميدع هَذَا من جرهم وَالْأَشْهر أَنهم من العماليق وَالله أعلم وَذكر الشَّيْخ فتح الله بن مُوسَى بن حَمَّاد الأندلسي فِي كتاب لَهُ نظم فِيهِ السِّيرَة لِابْنِ إِسْحَاق خَبرا طَويلا فِيهِ مَا يُخَالف مَا ذكره المَسْعُودِيّ والسهيلي فِي نسب جدهم جرهم وَفِيه مَا يُخَالف مَا ذكره ابْن إِسْحَاق فِي سَبَب تَسْمِيَة قعيقعان وأجياد وفاضح والمطابخ فَاقْتضى ذكره لإِفَادَة ذَلِك وَغَيره من الْفَوَائِد وَهُوَ أَن إلْيَاس بن مُضر قَالَ سَأَلت عمي إياد بن نزار عَن أصل مَاله وَكَانَ متمولاً فَذكر أَنه مرت عَلَيْهِ سنُون وَلم تبْق لَهُ سوى عشرَة أبعر يعود بكراها على أَهله وَذكر أَنه كَانَ ابكر اخوته الثَّلَاثَة مُضر وَرَبِيعَة وإنمار ثمَّ قَالَ فَخرج إياد إِلَى الشَّام بجماله فَلم يجد من يكتري مِنْهُ فَسمع صَوتا كالرعد يُنَادي من يحملني إِلَى الْحرم وَله وقر جمله درا وياقوتاً وعقياناً وَلَا يجِيبه أحد فتتبع الصَّوْت إِلَى ان وجد رجلا أعمى كالنخلة السحوق ولحيته تناطح رُكْبَتَيْهِ فهمه ذَلِك فَقَالَ يَا شيخ عِنْدِي حَاجَتك فَدَنَا مِنْهُ فَقَالَ أَنْت اياد بن نزار فَقَالَ نعم قَالَ فَمن عرفك باسمي قَالَ علم عِنْدِي من جدي إِن إياد بن نزار يرد الْحَارِث بن مضاض إِلَى مَكَّة من طول غربته فَقَالَ كم جملا عنْدك قَالَ عشرَة قَالَ تكفيني قلت هَل مَعَك غَيْرك قَالَ لَا وَلَكِنِّي إِنَّمَا أركب الْجمل يَوْمًا ويختل فَقلت قد لفظت لَهُ بِحمْلِهِ فَلَا أَعُود وبيننا وَبَين مَكَّة عشر مراحل فَحَملته وَكلما خر جمل قطرته إِلَى آخر وأبدلت غَيره إِلَى أَن عَارَضنَا مَكَّة فَقَالَ يَا بني إِنِّي أحس الْجمل يجمزني جمزاً وَأَظنهُ وَاقعا حول جبل المطابخ قلت نعم قَالَ اسْمَع آخر كَلَامي قلت لَهُ نعم قَالَ أَنا الْحَارِث بن مضاض بن عبد الْمَسِيح بن نَضْلَة بن عبد المدان بن حشرم بن عبد ياليل بن جرهم بن قحطان بن هود عليه السلام كنت ملك مَكَّة وَمَا والاها إِلَى هجر ومدين وَثَمُود وَكَانَ أخي عَمْرو بن مضاض ملكا قبلي وَكُنَّا نعلق التيجان على رءوسنا يَوْمًا وَيَوْما نعلقها بِبَاب الْحرم فَحَضَرَ يَهُودِيّ بدر وَيَاقُوت فَاشْترى مِنْهُ أخي مَا شَاءَ الله وأنصفه فِي الثّمن وأوفاه فَبَاعَ أفخره على السوقة فَسمع أخي فَانْتزع جَمِيع مَا كَانَ مَعَه فاغتال الْيَهُودِيّ حارس
التَّاج بِبَاب الْحرم فَقتله وَحمل التَّاج فَلم يعرف الْخَبَر إِلَّا من رَآهُ بِبَيْت الْمُقَدّس فَأرْسل أخي إِلَى ملكهم قاران من سبط بنيامين بن يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم أَن يردهُ وَيَأْخُذ حق الْيَهُودِيّ فَلم يفعل فَخرج إِلَيْهِم أخي فِي مِائَتي ألف وَخمسين ألفا من اجناده وَمن العمالقة وقضاعة واستنصر قاران ياسيف هِرقل فَخرج إِلَيْنَا فِي مِائَتي ألف وَجَمَاعَة من أهل الشَّام فَسَارُوا إِلَيْنَا ونزلوا شَرْقي هَذَا الْجَبَل ونزلنا غَرِيبه وأوقد كلنا النيرَان وطبخوا وطبخنا فَسمى هَذَا جبل المطابخ ثمَّ نزلنَا قعيقعان فتقعقعنا نَحن وهم بالحجن وَالسِّلَاح فَسمى الْجَبَل قعيقعان ثمَّ لما اصطففنا خرج أخي وَقَالَ أَنا الْملك عَمْرو بن مضاض فابرز إِلَى ياسيف فَمن ظفره الله كَانَ الْملك لَهُ فَقتله أخي على ربوة فاضح فَنزل إِلَيْهِ فجره بِرجلِهِ وفضحه بذلك فسميت تِلْكَ الربوة ربوة فاضح وَامْتنع قاران من الْوَفَاء بِمَا الْتَزمهُ سيف فقاتلناهم فَقتل أخي قاران فَانْهَزَمُوا وتبعناهم إِلَى بَيت الْمُقَدّس فأذعنوا للطاعة فَتزَوج أخي مِنْهُم برة بنت شَمْعُون وَلم يكن فِي زمانها أجمل مِنْهَا فشفعت عِنْده أَن يرحل عَن قَومهَا فَرَحل فَلَمَّا بلغ مَكَّة وَكَانَ عِنْدهَا مائَة رجل من أَعْيَان بني إِسْرَائِيل رهائن على الطَّاعَة فَلَمَّا كَانُوا بأجياد سمت زَوجته حسكة من حَدِيد وألقتها فِي فرَاشه فَلَمَّا نَام عَلَيْهِ شيك بِتِلْكَ الحديدة فَمَاتَ وهربت الزَّوْجَة فِي الرهائن الْمِائَة على نجب أعدوها فلحقناهم وأحضرناهم فَأمرت بِقَتْلِهِم فَقَالَ أَوَّلهمْ للسياف لَا تخْفض وَلَا ترفع وَانْزِلْ بسيفك على الأجياد فَسمى مَوضِع قَتلهمْ بأجياد وملكت وَتَزَوَّجت بعده وقصدتني بَنو إِسْرَائِيل بِجُنُود عَظِيمَة وَمَعَهُمْ تَابُوت آدم عليه السلام الَّذِي فِيهِ السكينَة وَالزَّبُور فهزمتهم وَأخذت جرهم التابوت فدفنته فِي مزبلة فنهيتهم فعصوني فَأَخْرَجته لَيْلًا وَوضعت مَكَانَهُ تابوتا يُشبههُ ونهاهم عَنهُ الهميع بن نبت بن قيدار بن إِسْمَاعِيل فَأَبَوا فاعطيته التابوب فَسلط الله عَلَيْهِم هم والعمالقة عللاً كَثِيرَة فماتوا إِلَّا من كره فعهلم فملكت ابْني عمرا وَخرجت أجول فِي الأَرْض فَضربت الْأَمْثَال بغربتي ثمَّ سَار بِهِ إياد إِلَى شعب الأثل عِنْد غيضة زيتون فَقَالَ يَا بني قد خلونا وثالثنا الشَّاهِد الْعَالم الْوَاحِد وَإِذا
أسديت إِلَى الْمَرْء نعْمَة وَجب عَلَيْهِ شكرها وَقد أسديت إِلَيّ نعْمَة وَجب عَليّ شكرها فعلي لَك النَّصِيحَة أَو أقع فِي الفضيحة أنبئك بِمَا ينجيك وَالَّذِي بِهِ أهديك أحب إِلَيّ مِمَّا يُغْنِيك يَا بني هَل ولد فِي آل مُضر مَوْلُود اسْمه مُحَمَّد قلت لَا قَالَ إِنَّه سيولد وَيَأْتِي حِينه ويعلو دينه وَيقبل أَوَانه ويشرف زَمَانه فَإِن أَدْرَكته فَصدق وحقق وَقبل الشامة الَّتِي بَين كَتفيهِ
وَقل لَهُ يَا خير مَوْلُود دَعَوْت إِلَى خير معبود فأجب وَلَا تجب ثمَّ أَتَى إِلَى صَخْرَة مطبقة على صَخْرَة فقلعها وَدخل مِنْهَا سرباً إِلَى أَن دخل بَيْتا فِيهِ أَرْبَعَة أسرة سَرِير خَال وَثَلَاثَة عَلَيْهَا ثَلَاثَة رجال وَفِي الْبَيْت كرْسِي در وَيَاقُوت وعقيان ولجين فَقَالَ لي خُذ وقر جملك لَا غير وَقَالَ لي هَذَا الَّذِي على يسَار سَرِيرِي الْخَالِي مضاض أبي وَالَّذِي على يسَاره ابْنه عبد الْمَسِيح وَالَّذِي على يسَاره ابْنَته نفيلة وعَلى رَأس نفيلة لوح من رُخَام فِيهِ مَكْتُوب أَنا نفيلة بنت عبد المدان عِشْت خَمْسمِائَة سنة فِي ظلّ الْملك فَلم يُنجنِي من الْمَوْت وعَلى رَأس عبد الْمَسِيح أَنا عبد الْمَسِيح بن مضاض عِشْت مائَة سنة وَركبت مائَة فرس وافتضضت مائَة بكر وَقتلت مائَة مبارز وهزمت الرّوم بالروزب لَعَلَّه اسْم مَكَان وَلم يكن لي بُد من الْمَوْت ثمَّ اسْتَوَى على سَرِيره الْخَالِي وَذَا على رَأسه لوح مَكْتُوب فِيهِ أَنا الْحَارِث بن مضاض عِشْت أَرْبَعمِائَة سنة ملكت مائَة سنة وطفت فِي الأَرْض ثَلَاثمِائَة سنة متغرباً بعد هَلَاك قومِي جرهم ثمَّ قَالَ يَا بني ناولني القارورة الَّتِي فِي تِلْكَ الكوة فناولته إِيَّاهَا فَشرب نصفهَا وادهن بِنِصْفِهَا وَقَالَ إِذا أتيت إخْوَتك وقومك وَقَالُوا لَك من أَيْن هَذَا المَال قل لَهُم إِن الشَّيْخ الَّذِي حَملته هُوَ الْحَارِث بن مضاض الجرهمي فهم يكذبُونَك فَقل لَهُم إِن آيتي الْحجر المدفون بجوار زَمْزَم وَفِيه مقَام إِبْرَاهِيم الْخَلِيل وَفِي الْحجر الَّذِي يَلِيهِ شعر الْحَارِث وَهُوَ قَوْله كَأَن لم يكن الأبيات الْآتِي ذكرهَا ثمَّ قَالَ ناولني القارورة الْأُخْرَى فناولته فَشربهَا فصاح صَيْحَة فَمَاتَ لحينه فَخرجت بِمَا معي من المَال انْتهى قَالَ الفاسي بعد ذكره لهَذَا الْخَبَر الغربيب فَانْظُر إِلَى مَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ هَذِه الْحِكَايَة من الْمُخَالفَة لما نَقله صَاحب السِّيرَة من أَن هَذَا الشّعْر لعَمْرو بن الْحَارِث بن
مضاض وَهُوَ هُنَا لوالده قَالَ وَيُمكن الْجمع بِأَن يكون وَلَده تمثل بِمَا قَالَه وَالِده لما فارقوا مَكَّة ثَانِيًا وَالله أعلم بالحقائق فأقامت جرهم فِي ولَايَة الْبَيْت ثَلَاثمِائَة سنة ثمَّ أخرجهم مِنْهَا بَنو بكر بن عبد منَاف بن كنَانَة لأَنهم رَأَوْا استحلال جرهم لحُرْمَة الْبَيْت حَتَّى إِنَّه فسق رجل مِنْهُم بِامْرَأَة فِي جَوف الْكَعْبَة فمسخا حجرين فوضعتهما خُزَاعَة بعد ذَلِك أَحدهمَا على الصَّفَا وَالْآخر على الْمَرْوَة بعد أَن كَانَا فِي جَوف الْكَعْبَة وهما اساف ونائلة فَقَامَ فهيم مضاض بن عَمْرو بن الْحَارِث بن مضاض بن عَمْرو خَطِيبًا فَقَالَ يَا قوم احْذَرُوا الْبَغي فقد رَأَيْتُمْ من كَانَ قبلكُمْ من العمالقة حِين استخفوا بِالْبَيْتِ فَلم يعظموه أخرجُوا وَتَفَرَّقُوا فِي الْبِلَاد وتمزقوا كل ممزق فَلَا تستخفوا بِحَق بَيت الله يخرجكم الله تَعَالَى مِنْهَا فَتَهْلكُوا فَلم يطيعوه ودلاهم الشَّيْطَان بغرور وَقَالُوا من يخرجنا وَنحن اغر الْعَرَب وأكثرها رجَالًا وسلاحا فَقَالَ لَهُم جَاءَ إِذا جداء أَمر الله بَطل مَا تَقولُونَ فَلَمَّا رأى مضاض بن عَمْرو ذَلِك عمد إِلَى غزالين من ذهب كَانَا فِي الْكَعْبَة فِي جبها الْكَائِن بجوفها المجعول لحفظ مَا يهدي إِلَيْهَا من الْأَمْوَال والذخائر والنفائس وَإِلَى مَا فِيهِ من الْأَمْوَال والأسياف المهداة للكعبة فدفنها فِي بِئْر زَمْزَم وَكَانَ قد نضب مَاؤُهَا فحفرها بِاللَّيْلِ وأعمق وَدفن فِيهَا الغزالين وَتلك الْأَمْوَال وطمس الْبِئْر إِلَى أَن أَخذ جَمِيع ذَلِك عبد الْمطلب حِين أرشد إِلَى حفرهَا فِي النّوم بعد ذَلِك وضربها صَفَائِح وَجعلهَا بَابا للكعبة وَاعْتَزل جرهماً وَأخذ مَعَه بني إِسْمَاعِيل وَخرج من مَكَّة فَجَاءَت بَنو بكر بن عبد منَاف بن كنَانَة وغسان بن خُزَاعَة وأخرجت جرهماً من الْبِلَاد وَوليت بَنو بكر أَمر الْبَيْت وصاروا أَهله وجاءهم بَنو إِسْمَاعِيل فَكَانُوا قد اعتزلوا الْحَرْب بَين جرهم وَبَين بني بكر وَلم يدخلُوا بَينهمَا فَسَأَلَ بَنو إِسْمَاعِيل من بني بكر السكني بِمَكَّة فانهم كَانُوا قد اخْرُجُوا مِنْهَا لما كَثُرُوا وانتشروا ونموا وَضَاقَتْ عَلَيْهِم مَكَّة وخئولتهم جرهم هم وُلَاة الْبَيْت وإليهم أمره لَا تنازعهم بَنو إِسْمَاعِيل فِي ذَلِك لخئولتهم وقرابتهم فَلَمَّا ضَاقَتْ عَلَيْهِم مَكَّة انتشروا فِي الْآفَاق فَلَا يأْتونَ قوما وَلَا ينزلون منزلا وَلَا يدْخلُونَ بَلَدا إِلَّا أظهرهم الله عَلَيْهِم بدينهم وهم يَوْمئِذٍ على دين إِبْرَاهِيم عليه الصلاة والسلام فَأَذنت بَنو بكر لبني إِسْمَاعِيل فِي السُّكْنَى
واستأذنهم مضاض بن عَمْرو وَكَانَ قد اعتزل الْحَرْب أَيْضا بَين الْفَرِيقَيْنِ بجرهم وَبني بكر بن عبد منَاف بن كنَانَة فَأَبَوا ذَلِك وَقَالُوا من قَارب الْحرم من جرهم فِي السُّكْنَى مَعَهم بِمَكَّة فدمه هدر فَدخلت إبل لمضاض بن عَمْرو مَكَّة فأخذتها بَنو بكر وصاروا ينحورن مِنْهَا ويأكلون فتبع مضاض بن عَمْرو أَثَرهَا فَوَجَدَهَا دخلت مَكَّة فسلك الْجبَال حَتَّى علا على أبي قبيس يبصر إبِله بِبَطن الْوَادي فأبصر الْإِبِل تنحر وتؤكل وَلَا سَبِيل إِلَى استنقاذها وَرَأى إِن هَبَط الْوَادي قتل فولى منصرفاً إِلَى أَهله وَقَالَ // (من الطَّوِيل) //
(كَأَن لم يكن بَين الْحجُون إِلَى الصّفا
…
أنيسٌ وَلم يسمر بمكّة سامر)
(وَلم يتربّع واسطاً فجنوبه
…
إِلَى المنحنى من ذِي الأراكة حَاضر)
(بلَى نَحن كنّا أَهلهَا فأبادنا
…
صروف اللَّيَالِي والجدود العواثر)
(وأبدلنا عَنْهَا الأسى دَار غربةٍ
…
بهَا الذّئب يعوي والعدوّ محاصر)
(وكنّا وُلَاة الْبَيْت من عهد نابتٍ
…
نطوف بِهَذَا الْبَيْت وَالْخَيْر حَاضر)
(وكنّا لإسماعيل صهراً وجيرةً
…
وأبناؤه منّا وَنحن الأصاهر)
(فأخرجنا مِنْهَا المليك بقدرةٍ
…
كَذَا قبلنَا بالنّاس تجْرِي المقادر)
(وصرنا أحاديثاً وكنّا بغبطةٍ
…
كَذَلِك عضّتنا السّنون الغوابر)
(وسحّت دموع الْعين تجْرِي ببلدةٍ
…
بهَا حرمٌ أمنٌ وفيهَا المشاعر)
(بوادٍ أنيسٍ لَا يطار حمامه
…
وَلَا بَرحت تأوي إِلَيْهِ العصافر)
(وفيهَا وحوشٌ لَا ترام أنيسةٌ
…
إِذا خرجت مِنْهَا فَلَيْسَتْ تغادر)
(فيا لَيْت شعري هَل يعمّر بَعدنَا
…
جِيَاد ومفضى سَبيله والظواهر)
(وَهل فرجٌ يَأْتِي بشيءٍ نريده
…
وَهل جزعٌ ينجيك ممّا تحاذر)
وَانْطَلق مضاض بن عَمْرو وَمن تبعه من الْيمن وهم محزونون على مُفَارقَة مَكَّة ثمَّ ولي أَمر مَكَّة وَالْبَيْت بَنو إياد بن نزار كَانَ أَمر الْبَيْت إِلَى رجل مِنْهُم يُقَال لَهُ وَكِيع بن سَلمَة بن زهر بن إياد بن نزار فَبنى صرحاً بِأَسْفَل مَكَّة عِنْد سوق الخياطين وَجعل فِيهِ محلا يُقَال لَهُ الْحَزْوَرَة وَبهَا سمى ذَلِك الْمحل حزورة إِلَى الْآن وَجعل فِيهَا سلما يرقاه وَكَانَ يزْعم أَنه يُنَاجِي الله تَعَالَى وَكَانَ يَقُول ربكُم ليجزين بِالْخَيرِ ثَوابًا وبالشر عقَابا وَكَانَ يَقُول من فِي الأَرْض عبيد لمن فِي
السَّمَاء وَلما حَضرته الْوَفَاة جمع قومه فَقَالَ اسمعوا وصيتي الْكَلَام كلمتان وَالْأَمر بعد الْبَيَان من رشد فَاتَّبعُوهُ وَمن غوى فَارْفُضُوهُ وكل شَاة معلقَة برجلها وَلما مَاتَ رثاه بشر الحَجبي فَقَالَ // (من المتقارب) //
(وَنحن إيادٌ عباد الْإِلَه
…
ورهط مناجيه فِي السّلّم)
(وَنحن وُلَاة حجاب الْعَتِيق
…
زمَان النّخاع على جرهم)
ثمَّ ولي مَكَّة مُضر وَسبب ولايتهم بهَا أَن رجلا من إياد ورجلاً من مُضر خرجا يتصيدان فمرت بهم أرنب فاكتنفاها يرميانها فَرَمَاهَا الْإِيَادِي فزل سَهْمه فنظم قلب المضري فَقتله فَبلغ الْخَبَر مُضر فاستغاثت بفهم وعدوان يطْلبُونَ بهم قَود صَاحبهمْ فَقَالَت اياد إِنَّمَا اخطأه السهْم فَأَبت فهم وعدوان إِلَّا قَتله وَرَأَتْ إياد من مُضر عَلامَة الظفر عَلَيْهِم فطلبوا أجل ثَلَاثَة أَيَّام فوافقهم مُضر على ذَلِك وأجابوهم إِلَيْهِ فَخرجت إياد بعد الْمدَّة إِلَى جِهَة الْمشرق فتبعتهم فهم وعدوان فَقَالُوا ردوا نسَاء مُضر المتزوجات فِيكُم فَقَالُوا لَا تقطعوا قرابتنا اعرضوا على النِّسَاء فأية امْرَأَة اخْتَارَتْ قَومهَا رددتموها وَإِن أحبت الذّهاب مَعَ زَوجهَا أعرضتم عَنْهَا قَالُوا فَكَانَ أول من اخْتَار أَهله امْرَأَة من إياد وَمِمَّنْ ولي مَكَّة من مُضر أَسد بن خُزَيْمَة وضبة وَهُوَ الَّذِي ولي الْحجاز واليمن لِسُلَيْمَان بن دَاوُد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام وَفِيه يَقُول الشَّاعِر // (من المتقارب) //
(وَقد كَانَ ضبة رب الْحجاز
…
تجبى إِلَيْهِ إتاواتها)
(فَمن كلّ ذِي إبلٍ ناقةٌ
…
وَمن كلّ ذِي غنمٍ شَاتِهَا)
وَهَذَا ضبة هُوَ وَأَخُوهُ أد ابْنَانِ لطابخة بن إلْيَاس بن مُضر ثمَّ ولي أَمر الْبَيْت وَمَكَّة خُزَاعَة وَسبب ولايتهم لَهَا أَنه لما وَقع لإياد مَا وَقع وَكَانَت إياد اقتلعوا الْحجر الْأسود ليسافروا بِهِ فَحَمَلُوهُ على بعير فبرك وَلم يقم ثمَّ على بعير آخر فَكَذَلِك فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِك دفنوه تَحت شَجَرَة وَكَانَت تراهم امْرَأَة من النِّسَاء اللَّاتِي مَعَهم من خُزَاعَة فَلَمَّا أَن رجعت إِلَى مُضر ورأتهم يجتهدون فِي تَحْصِيل الْحجر مظهرين من التَّعَب لعدم وجدانه قَالَت لقومها إِنِّي أعلم مَحَله فَخُذُوا عَلَيْهِم الْعَهْد أَن يولوكم حجابة الْبَيْت إِن دللتموهم عَلَيْهِ فَأخذ خُزَاعَة من مُضر ذَلِك فدلتهم الْمَرْأَة عَلَيْهِ فَأَخَذُوهُ وأعادوه مَكَانَهُ فَصَارَ لَهُم حكم ولَايَته بِهَذَا
السَّبَب وَكَانَت مُدَّة ولايتهم ثلاثمئائة سنة وَسَار بعض التبابعة لإِرَادَة هدم الْبَيْت وتخريبه فَقَامَتْ دونه خُزَاعَة وقاتلت عَلَيْهِ أَشد الْقِتَال وَأول من ملك مِنْهُم عَمْرو بن لحي بن ربيعَة بن حَارِثَة بن عَمْرو بن عَامر بن مزيقيا بن مَاء السَّمَاء بن حَارِثَة الغطريف بن امْرِئ الْقَيْس بن ثَعْلَبَة ابْن مَازِن بن الأزد بن الْغَوْث بن نبت بن مَالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب ابْن يعرب بن قحطان هَكَذَا نسبه ابْن هِشَام وَابْن حزم وَابْن الْكَلْبِيّ وَقد اخْتلف فِي سَبَب ملك خُزَاعَة لمَكَّة فَذكر صَاحب الأرج المسكي فِيمَا تقدم قَرِيبا أَن سَبَب ذَلِك دلَالَة تِلْكَ الْمَرْأَة الْخُزَاعِيَّة مُضر على مَوضِع الْحجر لما دَفَنته إياد حَال خُرُوجهمْ وَاشْتِرَاط خُزَاعَة على مُضر توليتهم حجابة الْبَيْت وَأَخذهم الْعَهْد عَلَيْهِم فِي ذَلِك فولوه وَذكر الزبير بن بكار عَن أبي عُبَيْدَة شَيْئا من خبر خُزَاعَة وجرهم فَقَالَ فاجتمعت خزاعية ليحلوا من بَقِي من جرهم وَرَأس خُزَاعَة عَمْرو بن لحي وَاسم لحي ربيعَة فَاقْتَتلُوا وَوَقعت بَينهم حروب شَدِيدَة طَوِيلَة ثمَّ إِن خُزَاعَة غلبت جرهماً على الْبَيْت وَخرجت جرهم حَتَّى نزلت وَادي إضم فَجَاءَهُمْ سيل بِاللَّيْلِ فهلكوا جَمِيعًا قَالَ أُميَّة بن أبي الصَّلْت من شعر لَهُ
(وجرهمٌ دمثوا تهَامَة فِي الدَّهْر
…
فسالت بِجَمْعِهِمْ إضم)
وَكَانَ عَمْرو بن لحي أول من غير دين إِبْرَاهِيم عليه الصلاة والسلام فَإِنَّهُ خرج إِلَى الشَّام واستخلف على الْبَيْت وَمَكَّة رجلا من بني ضخم يُقَال لَهُ آكل الْمَرْوَة وَعَمْرو بن لحي يَوْمئِذٍ وَأهل مَكَّة على دين إِبْرَاهِيم على نَبينَا وَعَلِيهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام فَلَمَّا قدم الشَّام نزل بالبلقاء فَوجدَ قوما يعْبدُونَ اوثاثنا فَقَالَ مَا هَذِه الأنصاب الَّتِي أَرَاكُم تعبدونها فَقَالُوا أَرْبَاب نتخذها نستنصر بهَا على عدونا فننصر ونستشفى بهَا من الْمَرَض فنشفى فَوَقع قَوْلهم فِي نَفسه فَقَالَ هبوا لي مِنْهَا وَاحِدًا أتخذه ببلدي فَإِنِّي صَاحب بَيت الله الْحَرَام وإلي وَفد الْعَرَب من كل أَوب فَأَعْطوهُ صنماً يُقَال لَهُ هُبل فَحَمله حَتَّى نَصبه للنَّاس فتابعته الْعَرَب على ذَلِك
وروى الأرزقي خَبرا طَويلا فِي ولَايَة خُزَاعَة بعد جرهم فَتزَوج لحي أَبُو عَمْرو فهرة ابْنة عَامر بن عَمْرو بن الْحَارِث بن مضاض الجرهمي ملك جرهم فَولدت لَهُ عَمْرو بن لحي هَذَا وَبلغ بِمَكَّة وَفِي الْعَرَب من الشّرف مَا لم يبلغع عَرَبِيّ قبله وَلَا بعده فِي الْجَاهِلِيَّة وَهُوَ الَّذِي قسم بَين الْعَرَب فِي حطمة حطموها عشرَة آلَاف نَاقَة وَقد كَانَ أَعور عشْرين فحلاً وَكَانَ الرجل فِي الْجَاهِلِيَّة إِذا ملك ألف نَاقَة فَقَأَ عين فَحل إبِله فَكَانَ قد فَقَأَ عشْرين فحلاً وَكَانَ أول من أطْعم الْحَاج بِمَكَّة سديف الْإِبِل ولحمها على الثَّرِيد وَعم فِي تِلْكَ السّنة جَمِيع حَاج الْعَرَب بِثَلَاثَة أَثوَاب من برود الْيمن وَكَانَ قد ذهب شرفه كل مَذْهَب فَكَانَ قَوْله فيهم دينا مُتبعا لَا يُخَالف وَهُوَ الَّذِي بَحر الْبحيرَة وَوصل الوصيلة وَحمى الحامي وسيب السوائب وَنصب الْأَصْنَام حول الْكَعْبَة وَجَاء بهبل فنصبه فِي جَوف الْكَعْبَة فَكَانَت قُرَيْش وَالْعرب تستقسم عِنْده بالأزلام وَهُوَ أول من غير الحنيفية دين إِبْرَاهِيم وَإِسْمَاعِيل عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام وَكَانَ أمره بِمَكَّة مُطَاعًا لَا يعْصى وَكَانَ بِمَكَّة رجل من جرهم على دين إِبْرَاهِيم وَكَانَ شَاعِرًا فَقَالَ لعَمْرو بن لحي حِين غير دين إِبْرَاهِيم عليه الصلاة والسلام // (من مجزوء الْكَامِل) //
(يَا عَمْرو لَا تظلم بِمَكَّة
…
إنّها بلدٌ حرَام)
(سَائل بعادٍ أَيْن هم
…
وكذاك تخترم الْأَنَام)
(وَبنى العماليق الَّذين
…
لَهُم بهَا كَانَ السّوام)
فَلَمَّا سمع عَمْرو بن لحي هَذَا الشّعْر أخرجه من مَكَّة فَنزل باضم من اعراض مَدِينَة النَّبِي
نَحْو الشَّام فَقَالَ الجرهمي يتشوق إِلَى مَكَّة // (من الطَّوِيل) //
(أَلا لَيْت شعري هَل أبيتنّ لَيْلَة
…
وَأَهلي مَعًا بالمأزمين حُلُول)
(وَهل أرينّ العيس تنفخ فِي البرى
…
لَهَا بمنى والمأزمين زميل)
(منَازِل كنّا أَهلهَا لم يحل بِنَا
…
زمانٌ بهَا فِيمَا أرَاهُ يحول)
(مضى أوّلونا قانعين بشأنهم
…
جَمِيعًا وغالتنا بمكّة غول)
وَاسْتمرّ ملكهم لَهَا ثَلَاثمِائَة سنة حَتَّى كَانَ آخِرهم حليل بن حبشية وَهُوَ الْقَائِل // (من الرجز) //
(وادٍ حرامٌ طيرهُ ووحشه
…
نَحن ولاته فَلَا نفشه)
(وَابْن مضاضٍ قائمٌ يهشّه
…
يَأْخُذ مَا يهدي لَهُ يمشّه)
وحليل هَذَا هُوَ آخر من ولي الْبَيْت من خُزَاعَة أَقُول وَرَأَيْت فِي تَارِيخ الفاسي خَمْسَة أَقْوَال فِي سَبَب خُرُوج جرهم من مَكَّة مِنْهَا هَذَانِ الْقَوْلَانِ وَثَلَاثَة لم أذكرها تركا للتطويل من غير كَبِير فَائِدَة وَالله أعلم أَيهَا كَانَ هُوَ ثمَّ ولي أَمر مَكَّة قُرَيْش وهم ولد فهر بن مَالك بن النَّضر بن كنَانَة وَقيل ولد النَّضر بن كنَانَة وَقد تقدم الْكَلَام على هَذَا وَأول من ولي مِنْهُم قضى بن كلاب تقدم ذكر ذَلِك ثمَّ تزوج قصي بعاتكة بنت فالح بن مَالك بن ذكْوَان من بني سليم فَأتى مِنْهَا بِعَبْد منَاف وَعبد الْعُزَّى وَعبد الدَّار وَعبد قصي قَالَ السُّهيْلي فِي شرح سيرة ابْن هِشَام عبد منَاف اسْمه الْمُغيرَة وَهُوَ مَنْقُول من الْوَصْف وَالْهَاء فِيهِ للْمُبَالَغَة أَي أَنه مغير على الْأَعْدَاء أَو مغير من أغار الْحَبل إِذا أحكمه فَتلا وَعبد منَاف كَانَ يلقب قمر الْبَطْحَاء كَمَا ذكره المؤرخون وَكَانَت أمه حبى بنت حليل قد أخدمته مَنَاة وَهُوَ صنم عَظِيم كَانَ لَهُم فَكَانَ يُسمى بِهِ فَكَانَ يُقَال لَهُ عبد مَنَاة ثمَّ نظر أَبوهُ قصي فَوجدَ اسْمه يُوَافق عبد مَنَاة بن كنَانَة فحوله إِلَى عبد منَاف ذكره البرقي انْتهى قَالَ الْعَلامَة التقي الفاسي روينَا عَن الزبير بن بكار حَدثنِي أَبُو الْحسن الْأَثْرَم عَن أبي عُبَيْدَة قَالَ أَبُو عُبَيْدَة حَدثنَا خَالِد بن أبي عُثْمَان قَالَ كَانَ قصي أول من ثرد الثَّرِيد فأطعم بِمَكَّة وَسَقَى اللَّبن بعد نابت بن إِسْمَاعِيل فَقَالَ قَائِل وَلم يسموه هاشماً
(أشبعهم زيد قصي لَحْمًا
…
ولبنا مَحْضا وخبزاً هشمياً)
وَقَالَ الزبير حَدثنِي عَمْرو بن أبي بكر المؤئلي عَن عبد الحكم بن سُفْيَان بن أبي نمر قَالَ لما ولد لقصي أول ولد سمته أمه عبد الدَّار فَذكر مَا ذكره السُّهيْلي
آنِفا فِيهِ قَالَ وَإِنَّمَا سمى عبد الدَّار لِأَنَّهُ حِين هدم الْكَعْبَة وَأَرَادَ بناءها حضر الْحَج قبل بنائها وَهِي مهدومة فأحاط عَلَيْهَا دَارا من خشب وربطها بالحبال لتدور النَّاس من وَرَاء الدَّار فولد لَهُ إِذا ذَاك فَسَماهُ عبد الدَّار وَأما عبد بن قصي فانه إِنَّمَا اسماه فِي الأول عبد قصي فَكَانَ بذلك يدعى ثمَّ أمال اسْمه فَقيل عبد بن قصي وَقَالَ غير الموئلي قَالَ قصي ولد لي فسميت اثْنَيْنِ بإلهيّ يَعْنِي مَنَاة والعزى وَسميت الثَّالِث بداري وَسميت الرَّابِع بنفسي يَعْنِي عبد الدَّار وَعبد قصي انْتهى وَقَوْلِي ثمَّ تزوج قصي بعاتكة إِلَى آخِره هَكَذَا فِي الْمَوَاهِب وسيرة الْيَعْمرِي ابْن سيد النَّاس وَغَيرهمَا أَن أم عبد منَاف وَإِخْوَته هِيَ عَاتِكَة بنت فالح وَهُوَ مُخَالف لما ذكره السُّهيْلي والفاسي والأزرقي أَنَّهَا حبى بنت حليل بن حبشية وَنَصّ عبارَة الْأَزْرَقِيّ فَأَقَامَ قصي مَعهَا وَولدت لَهُ عبد الدَّار وَهُوَ أكبر وَلَده وَعبد منَاف وَعبد الْعُزَّى وَعبد قصي وَقد تقدّمت فَلَعَلَّ أَن يكون أكبر أَوْلَاده عبد الدَّار من حبى وَعبد منَاف من عَاتِكَة لَكِن عِبَارَته صَرِيحَة فِي أَن الْجَمِيع من حبى فَلْينْظر وَجه التَّوْفِيق وَكَانَ عبد منَاف قد شرف فِي زمَان أَبِيه هُوَ وَإِخْوَته فَلَمَّا مرض قصي قَالَ لِابْنِهِ عبد الدَّار لألحقنك بالقوم يَا بني وَإِن كَانُوا شرفوا عَلَيْك فَأعْطَاهُ الحجابة وَسلم إِلَيْهِ الْمِفْتَاح وَقَالَ لَا يدْخل رجل مِنْهُم الْكَعْبَة حَتَّى تكون أَنْت تفتحها لَهُ وَأَعْطَاهُ السِّقَايَة واللواء وَقَالَ لَا يشرب أحد بِمَكَّة إِلَّا من سقايتك وَلَا يعْقد لِوَاء لقريش لحربها إِلَّا أَنْت بِيَدِك وَجعل لَهُ الرفادة وَقَالَ لَا يَأْكُل أحد من أهل الْمَوْسِم إِلَّا من طَعَامك والرفادة خراج تخرجه قُرَيْش من أموالها فِي كل موسم فتدفعه إِلَى قصي فيصنع بِهِ طَعَاما للْحَاج فيأكله من لم يكن لَهُ سَعَة وَلَا زَاد وَكَانَ قصي فرض ذَلِك على قُرَيْش حِين جمعهم وَقَالَ لَهُم يَا معشر قُرَيْش إِنَّكُم جيران الله وَأهل بَيته وَحرمه وَإِن الْحَاج ضيف الله وزوار بَيته وهم أَحَق الأضياف بالكرامة فاجعلوا
لَهُم طهاما وَشَرَابًا أَيَّام الحجيج حَتَّى يصدروا عَنْكُم فَجعل قصي كل مَا كَانَ بِيَدِهِ من المناصب إِلَى وَلَده عبد الدَّار بن قصي وَكَانَ قصي لَا يُخَالف وَلَا يرد عَلَيْهِ شَيْء من صنعه فَكَانَ أمره فِي قومه من قُرَيْش حَيَاته ومماته كَالدّين المتبع لَا يعْمل بِغَيْرِهِ لعظم شَأْنه ونفوذ سُلْطَانه قَالَ ابْن إِسْحَاق ثمَّ إِن قصياً هلك فَقَامَ بِهَذِهِ المناصب وَلَده عبد الدَّار بعده ثمَّ إِن عبد منَاف تزوج بعاتكة بنت مرّة بن هِلَال بن فالح بن ذكْوَان من بني سليم فَأتى مِنْهَا بهاشم وَعبد شمس وَالْمطلب وَلَهُم اخ رَابِع يُسمى نوفلاً من امْرَأَة أُخْرَى يُقَال لَهَا واقدة بنت عَمْرو المازنية فَهُوَ فذ وَالثَّلَاثَة اشقاء والأولان من أُخْرَى يُقَال لَهَا واقدة بنت عَمْرو المازنية فَهُوَ فذ وَالثَّلَاثَة أشقاء والأولان من الثَّلَاثَة توءمان يُقَال خرجا وجبهة أَحدهمَا مُتَّصِلَة بجبهة الآخر ففصلا بِالْحَدِّ فتقطر الدَّم فَقَالَ بعض الْكُهَّان إِنَّه سيقع بَين ذريتهما دم إِلَى آخر الْأَبَد فَأَنت ترى مَا جرى بَين بني أُميَّة بن عبد شمس بن عبد منَاف وَبَين بني هَاشم بن عبد منَاف من الدِّمَاء قَدِيما وحديثاً وَالْأَمر لله سُبْحَانَهُ وَقد أَشَارَ إِلَى ذكر الْإِخْوَة طَالب بن أبي طَالب فِي قصيدة يرثي بهَا الْقَتْلَى من قُرَيْش يَوْم بدر // (من الطَّوِيل) //
(أَلا إنّ عَيْني أنفدت دمعها سكبا
…
تُبكّي على كَعْب وَمَا إِن ترى كَعْبًا)
(أَلا إنّ كَعْبًا فِي الحروب تخاذلوا
…
وأرداهم ذَا الدّهر واجترحوا ذَنبا)
(وعامر تبْكي للملمات غدْوَة
…
فياليت شعر هَل أرى لَهما قربا)
(هما أخواي لن يعدّا لغيّةٍ
…
تعدّ وَلنْ يستام جارهما غصبا)
(فيا أخوينا عبد شمسٍ ونوفلاً
…
فدى لَكمَا لَا تبعثوا بَيْننَا حَربًا)
(وَلَا تصبحوا من بعد ودٍّ وأُلفةٍ
…
أَحَادِيث فِيهَا كلّكم يشتكي النّكبا)
(ألم تعلمُوا مَا كَانَ فِي حَرْب داحسٍ
…
وجيش أبي يكسوم إِذْ ملئوا الشّعبا)
(فَلَولَا دِفَاعُ الله لَا شَيْء غَيرُهُ
…
لأَصبَحتمُ لَا تَمنَعُونَ لَكُم سِربَا)
(فَمَا إِن جَنَينَا فِي قريشٍ عَظِيمَة
…
سوى أَن حمينا خير من وطيء التّربا)
(أَخا ثقةٍ فِي النّائبات مرزأ
…
كَرِيمًا نثاهُ لَا بَخِيلًا وَلَا ذربا)
(يطِيف بِهِ الْعَافُونَ يغشونَ دارهُ
…
يؤمّون نهراّ لَا نزوراً وَلَا صربا)
ثمَّ إِن بني عبد منَاف هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة هشاما وَعبد شمس وَبِه كَانَ يكنى عبد منَاف يُقَال أَبَا عبد شمس وَالْمطلب ونوفلاً أَجمعُوا على أَن يَأْخُذُوا مَا بيَدي بني عبد الدَّار من الحجابة والسقاية واللواء والرفادة وَرَأَوا أَنهم أَحَق بذلك مِنْهُم لشرفهم وفضلهم وَتَفَرَّقَتْ قُرَيْش بَينهم مِنْهُم من يرى أَن عبد منَاف أَحَق بِهَذِهِ المآثر من بني عبد الدَّار وَمِنْهُم من يرى ابقاء بني عبد الدَّار على مَا جعله جدهم قصي لأبيهم عبد الدَّار فاجمعوا على الْحَرْب فتفرقت عِنْد ذَلِك قُرَيْش فَكَانَت طَائِفَة مَعَ بني عبد منَاف على رَأْيهمْ يرَوْنَ أَنهم أَحَق بِهِ من بني عبد الدَّار لِمَكَانِهِمْ وشرفهم فِي قَومهمْ وَكَانَت طَائِفَة من بني عبد الدَّار يرَوْنَ أَنه لَا ينْزع مِنْهُم مَا كَانَ قصي جعله إِلَى أَبِيهِم عبد الدَّار وَكَانَ صَاحب أَمر بني عبد منَاف عبد شمس بن عبد منَاف بن قصي وَذَلِكَ أَنه كَانَ أسن بني عبد منَاف وَكَانَ صَاحب أَمر عبد الدَّار عَامر بن هَاشم بن عبد منَاف بن عبد الدَّار بن قصي وَكَانَ بَنو أَسد بن عبد الْعُزَّى بن قصي وَبَنُو زهرَة بن كلاب وَبَنُو تيم بن مرّة بن كَعْب وَبَنُو الْحَارِث بن فهر بن مَالك بن النَّضر مَعَ بني عبد منَاف وَكَانَ بَنو مَخْزُوم بن يقظة بن مرّة وَبَنُو سهم بن عَمْرو بن هصيص بن كَعْب بن لؤَي وَبَنُو جمح بن عَمْرو بن هصيص وَبَنُو عدي بن كَعْب مَعَ بني عبد الدَّار وَخرجت عَامر بن لؤَي ومحارب بن فهر فَلم يَكُونُوا مَعَ أحد من الْفَرِيقَيْنِ فعقد كل قوم على أَمرهم حلفا مؤكداً على أَلا يتخاذلوا وَلَا يسلم بَعضهم بَعْضًا مَا أرسى ثبير وَمَا بل بَحر صوفه فَأخْرج بَنو عبد منَاف جَفْنَة مَمْلُوءَة طيبا أخرجتها لَهُم عَاتِكَة بنت عبد الْمطلب وَقيل الْبَيْضَاء أم حَكِيم بنت عبد الْمطلب فَوَضَعُوهَا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم ثمَّ مسحوا الْكَعْبَة توكيداً على أنفسهم فَسمى هَذَا الْحلف حلف المطيبين فتطيب بذلك بَنو عبد منَاف وَبَنُو أَسد وَبَنُو زهرَة وَبَنُو تيم وَبَنُو الْحَارِث بن فهر فسموا المطيبين وتعاقد بَنو عبد الدَّار وَبَنُو سهم وَبَنُو جمح وَبَنُو عدي وَبَنُو مَخْزُوم ونحروا جزوراً وَقَالُوا من أَدخل يَده فِي دَمهَا فلعق مِنْهَا فَهُوَ منا فَفَعَلُوا ذَلِك هَؤُلَاءِ الْقَبَائِل يسمون لعقة الدَّم وتحالفوا على التناصر وَألا يسلم بَعضهم بَعْضًا مَا أرسى ثبير فسموا الأحلاف لذَلِك
ثمَّ سوند بَين الْقَبَائِل وألزم بَعضهم بَعْضًا فعينت بَنو عبد منَاف لبني سهم وعينت بَنو أَسد لبني عبد الدَّار وعينت بَنو زهرَة لبني جمح وعينت بَنو الْحَارِث ابْن فهر لبني عدي بن كَعْب ثمَّ قَالَ لتكف كل قَبيلَة مَا أسْند إِلَيْهَا فَبَيْنَمَا النَّاس على ذَلِك قد أَجمعُوا للحرب إِذْ تداعوا للصلح فَاصْطَلَحُوا على أَن تكون السِّقَايَة والرفادة والقيادة لبني عبد منَاف واللواء والحجابة وَدَار الندوة لبني عبد الدَّار فتراضوا على ذَلِك وتحاجز النَّاس عَن الْحَرْب وَثَبت كل قوم على حلفهم فَلم يزَالُوا عَلَيْهِ حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَام فَقَالَ عليه الصلاة والسلام مَا كَانَ من حلف فِي الجالهية فَإِن الْإِسْلَام لم يزده إِلَّا شدَّة وَحَيْثُ انجر الْكَلَام إِلَى ذكر حلف المطيبين وَحلف الفضول وَحلف الْأَحَابِيش وَحرب الْفجار الأول والفجار الثَّانِي روينَا فِي السِّيرَة لِابْنِ إِسْحَاق تَهْذِيب ابْن هِشَام رِوَايَته عَن زِيَاد البكائي شَيْئا من خَبره وَنَصّ ذَلِك على مَا فِي السِّيرَة قَالَ ابْن هَاشم وَأما حلف الفضول فَحَدثني زِيَاد بن عبد الله عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق قَالَ تداعت قبائل من قُرَيْش إِلَى حلف فَاجْتمعُوا لَهُ فِي دَار عبد الله بن جدعَان بن عَمْرو بن كَعْب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي لشرفه وسنه فَكَانَ حلفهم عِنْده وهم بَنو هَاشم وَبَنُو عبد الْمطلب وَبَنُو أَسد بن عبد الْعُزَّى وَبَنُو زهرَة بن كلاب وَبَنُو تيم بن مرّة فتعاقدوا وتعاهدوا على أَلا يَجدوا بِمَكَّة مَظْلُوما من أَهلهَا أَو غَيرهم مِمَّن دَخلهَا من سَائِر النَّاس إِلَّا قَامُوا وَكَانُوا على من ظلمه حَتَّى ترد عَلَيْهِ مظلمته فَسَمت قُرَيْش ذَلِك حلف الفضول
قَالَ ابْن هِشَام قَالَ ابْن إِسْحَاق فَحَدثني مُحَمَّد بن زيد بن المُهَاجر بن قنفذ التَّيْمِيّ أَنه سمع طَلْحَة بن عبد الله بن عَوْف الزُّهْرِيّ يَقُول قَالَ رَسُول الله
لقد شهِدت فِي دَار عبد الله بن جدعَان حلفا مَا أحب أَن لي بِهِ حمر النعم وَلَو أدعى بِهِ فِي الْإِسْلَام لَأَجَبْت انْتهى
وَقد ذكر الزبير بن بكار سَبَب حلف الفضول فَقَالَ سَببه أَن رجلا من أهل الْيمن قدم مَكَّة ببضاعة فاشتراها مِنْهُ رجل من بني سهم فَلوى الرجل بِحقِّهِ فَسَأَلَهُ بضاعته فَأبى عَلَيْهِ فَقَامَ على الْجَبَل فَقَالَ // (من الْبَسِيط) //
(يَا آل فهرٍ لمظلومٍ بضاعته
…
ببطنِ مكّة نائي الدّار والنَّفر)
(وأشعثٍ محرمٍ لم تقضَ عمرتهُ
…
بَين الْإِلَه وَبَين الحِجر والحَجر)
(هَل مخفرٌ لبني سهمٍ لخفرتهم
…
فعادلٌ أم ضلالٌ مَال مُعتمر)
(إنّ الحرامَ لمن تمّت حرامتهُ
…
وَلَا حرَام لثوبِ الْفَاجِر الْغدر)
فَلَمَّا نزل من الْجَبَل أعظمت ذَلِك قُرَيْش فتكلموا فِيهِ فَقَالَ المطيبون وَالله لَئِن قمنا فِي هَذَا لتغضبن الأحلاف وَقَالَ الأحلاف وَالله لَئِن تكلمنا فِي هَذِه ليغضبن المطيبون فَقَالَ نَاس من قُرَيْش تَعَالَوْا فلنكن حلفا فضولاً دون المطيبين وَدون الأحلاف فَاجْتمعُوا فِي دَار عبد الله بن جدعَان وصنع لَهُم يَوْمئِذٍ طَعَاما كثيرا وَكَانَ رَسُول الله
مَعَهم قبل أَن يُوحى إِلَيْهِ وَهُوَ ابْن خمس وَعشْرين سنة فاجتمعت بَنو هَاشم وَبَنُو الْمطلب وَبَنُو أَسد بن عبد الْعُزَّى وَبَنُو زهرَة بن كلاب وَبَنُو تيم بن مرّة ثمَّ عَمدُوا إِلَى مَاء من زَمْزَم فجعلوه فِي جَفْنَة ثمَّ بعثوا بِهِ إِلَى الْبَيْت فغسلت فِيهِ أَرْكَانه ثمَّ أَتَوا بِهِ فشربوه وَكَانَ عتبَة بن ربيعَة بن أُميَّة بن عبد شمس يَقُول لَو أَن رجلا وَحده خرج من قومه لَخَرَجت من بني عبد شمس حَتَّى أَدخل فِي حلف الفضول وَلَيْسَت عبد شمس فِي حلف الفضول وَذكر بعض الْعلمَاء أَن سَببه غير ذَلِك وَهُوَ أَن قيس بن شيبَة السّلمِيّ بَاعَ مَتَاعا
من أبي بن خلف فلواه وَذهب بِحقِّهِ فَاسْتَجَارَ بِرَجُل من بني جمح فَلم يقم بجواره فَقَالَ قيس // (من الرجز) //
(يَا لقصيٍّ كَيفَ هَذَا فِي الْحرم
…
وحرمةُ البيتِ وإخلاف الذمَم)
(أُظلمَ لَا يمُنعُ عنّي من ظلَم
…
)
فَبلغ الْخَبَر عَبَّاس بن مرداس فَقَالَ // (من الْبَسِيط) //
(إِن كَانَ جَارك لم تنفعكَ ذمتهُ
…
وَقد شربتَ بكأسٍ الذّلّ أنفاسا)
(فأتِ البيوتَ وَكن من أَهلهَا صدداً
…
لَا يلق نادبهم فُحشاً وَلَا باسا)
(وثمّ كن بفناءِ البيتِ معتصماً
…
تلق ابْن حربٍ وتلق المرءَ عبّاسا)
(ساقي الحجيج وَهَذَا ياسرٌ فلجٌ
…
وَالْمجد يورثُ أَخْمَاسًا وأسداسا)
فَقَامَ الْعَبَّاس وَأَبُو سُفْيَان حَتَّى ردا إِلَيْهِ حَقه فَحِينَئِذٍ اجْتمعت هَذِه الْبُطُون من قُرَيْش وتحالفوا على رد الظُّلم بِمَكَّة والا يظلم أحدا أحدا إِلَّا منعُوهُ وَأخذُوا حَقه من ظالمه وَقيل إِن تَسْمِيَته بذلك قَول قوم من قُرَيْش هَذَا وَالله فضل من الْحلف فَسمى حلف الفضول وَقَالَ آخَرُونَ تحالفوا على مِثَال حلف تحالف عَلَيْهِ فِي الزَّمَان السَّابِق قوم من جرهم وَكَانَت أَسمَاؤُهُم الْفضل بن سراعة وَالْفضل بن ودَاعَة وَالْفضل بن قضاعة فَسمى هَذَا الْحلف بذلك لذَلِك وَقدم بعد حلف الفضول رجل من ثمالة فَبَاعَ سلْعَة لَهُ من أبي بن خلف بن وهب ابْن حذاقة بن جمح فظلمه وَكَانَ سيء المخالصة فَأتى الثمالى أهل حلف الفضول فَأخْبرهُم فَقَالُوا اذْهَبْ إِلَيْهِ فَأخْبرهُ أَنَّك قد أَتَيْتنَا فَإِن أَعْطَاك حَقك وَإِلَّا فَارْجِع إِلَيْنَا فَأَتَاهُ فَأخْبرهُ بِمَا قَالَ لَهُ أهل حلف الفضول وَقَالَ فَمَا تَقول فَلم يلبث أَن دخل الْبَيْت فَأخْرج إِلَيْهِ حَقه فَأعْطَاهُ فَقَالَ الثمالى // (من الطَّوِيل) //
(أيُعجزني فِي بطن مكّة ظَالِما
…
أُبى وَلَا قومِي لديّ وَلَا صحبي)
(وناديت قومِي بارقاً لتجيبني
…
وَكم دون قومِي من فيافٍ وَمن شهب)
(ويأبى لكم حلف الفضول ظُلامتي
…
بني جمحٍ والحقّ يُؤْخَذ بِالْغَصْبِ)
وَقيل إِن أول من قَامَ بِهِ من قُرَيْش ودعا إِلَيْهِ بعد نِدَاء الرجل اليمني صَاحب
البضاعة بِتِلْكَ الأبيات على الْجَبَل يَسْتَعْدِي على السَّهْمِي هُوَ الزبير بن عبد الْمطلب فَقَالَ إِن هَذَا الْأَمر مَا يَنْبَغِي لنا أَن نمسك عَنهُ فَطَافَ فِي بني هَاشم وَبني زهرَة وَبني أَسد وَبني تيم؛ فَاجْتمعُوا فِي دَار عبد الله بن جدعَان، وتحالفوا بِاللَّه لنكونن يدا للمظلوم على الظَّالِم حَتَّى نُؤَدِّي إِلَيْهِ حَقه مَا بل بَحر صوفه وَمَا رسا ثبير وحراء فِي مَكَانَهُ وعَلى التوادد والتعاقل فتم ذَلِك إِلَى أَن جَاءَ الْإِسْلَام وَفِي ذَلِك يَقُول الزبير بن عبد الْمطلب // (من الوافر) //
(حلفتُ لنعقدن حلفا عَلَيْهِم
…
وَإِن كنّا جَمِيعًا أهل دَار)
(نسمّيه الفضول إِذا عَقدنَا
…
يعزّ بِهِ الْغَرِيب لَدَى الْجوَار)
(وَيعلم من حَوال الْبَيْت أنّا
…
أُباة الضّيم نمْنَع كلّ عَار)
وَأما حلف الْأَحَابِيش مَعَ قُرَيْش فقد قَالَ الزبير بن بكار حَدثنِي مُحَمَّد بن الْحسن قَالَ تحالفت قُرَيْش والأحابيش فَصَارَت الْأَحَابِيش حلفا لقريش دون بني كنَانَة وَالَّذين جروا حلفهم لقريش بَنو عبد منَاف بن قصي والأحابيش هُوَ بَنو الْحَارِث بن عبد مَنَاة بن كنَانَة وَالْحيَاء والمصطلق بن خُزَاعَة والقارة بَنو الْهون بن خُزَيْمَة بن مدركة وَمَالك وملكان ابْنا كنَانَة وهذيل كلهم يدا وَاحِدَة مَعَ قُرَيْش وَكَانَت خُزَاعَة كلهَا إِلَّا الْحيَاء والمصطلق مَعَ بني مُدْلِج وَكَانَ تحالف قُرَيْش والأحابيش على الرُّكْن يقوم رجل من قُرَيْش وَالْآخر من الْأَحَابِيش فيضعان أَيْدِيهِمَا على الرُّكْن فيحلفان بِاللَّه وبحرمة هَذَا الْبَيْت وَالْمقَام والركن والشهر الْحَرَام على النَّصْر على الْخلق جَمِيعًا حَتَّى يَرث الله الأَرْض وَمن عَلَيْهَا وعَلى التعاون والتعاقل وعَلى من عاداهم من النَّاس جَمِيعًا مَا طلعت الشَّمْس من مشرقها وَمَا غربت من مغْرِبهَا تدونا ونديكم إِلَى يَوْم الْقِيَامَة قلت وَرَأَيْت فِي بعض كتب السّير إِنَّمَا سموا الْأَحَابِيش لعقدهم ذَلِك الْحلف عِنْد جبل بِأَسْفَل مَكَّة يُقَال لَهُ حبشِي فَالله تَعَالَى أعلم بالحقائق وَأما يَوْم الْفجار الأول فَقَالَ الفاكهي عِنْد ذكر الْفجار الأول وَمَا كَانَ فِيهِ بَين قُرَيْش وَقيس عيلان وَسبب ذَلِك حَدثنَا عبد الْملك بن مُحَمَّد عَن زِيَاد بن عبد الله عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق قَالَ ثمَّ هاج يَوْم الْفجار الأول بَين قُرَيْش وَمن كَانَ إِلَيْهَا من كنَانَة كلهَا وَبَين قيس عيلان سَببه أَن رجلا من بني كنَانَة كَانَ عَلَيْهِ دين لرجل من
بني نضر بن مُعَاوِيَة بن بكر بن هوَازن فأعدم بِهِ الْكِنَانِي فوافاه النضري بسوق عكاظ بقرد مَعَه فَوقف بِهِ فِي السُّوق فَقَالَ من يبيعني مثل هَذَا بِمَالي على فلَان ابْن فلَان الْكِنَانِي وَإِنَّمَا اراد بذلك تَعْبِير الْكِنَانِي وَقَومه فَمر بِهِ رجل من كنَانَة فَضرب القرد بِالسَّيْفِ فَقتله أنفًا مِمَّا يَقُول النضرى فَصَرَخَ النضري فِي قيس وصرخ الْكِنَانِي فِي بني كنَانَة فَتَجَاوز النَّاس حَتَّى كَاد أَن يكون بَينهم قتال ثمَّ تداعوا إِلَى الصُّلْح وَيسر الْخطب فِي أنفسهم فتراجع النَّاس وكف بَعضهم عَن بعض وَلم يكن بَينهم إِلَّا ذَلِك وَيُقَال بل سَببه أَن فتية من قُرَيْش قعدوا إِلَى امْرَأَة من بني عَامر فِي هَيْئَة جميلَة وَهِي فِي درع فضل وَكَذَلِكَ كن نسَاء الْعَرَب تفعل فَأَعْجَبَهُمْ مَا رَأَوْا من حسن هيئتها فَقَالُوا لَهَا يَا أمة الله أسفري لنا عَن وَجهك نَنْظُر إِلَيْك فابت عَلَيْهِم فَقَامَ غُلَام مِنْهُم إِلَى خلفهَا فَشك درعها إِلَى ظهرهَا بشوكة وَالْمَرْأَة لَا تَدْرِي فَلَمَّا قَامَت انْكَشَفَ الدرْع عَن دبرهَا فضحكوا وَقَالُوا منعتينا أَن نَنْظُر إِلَى وَجهك فقد نَظرنَا إِلَى دبرك فصاحت الْمَرْأَة ببني عَامر فضجت فَتَجَاوز النَّاس ثمَّ ترادوا وَرَأَوا أَن الْأَمر دون ذَلِك وَقيل فِي السَّبَب إِن رجلا من بني غفار بن مدركة بن خندف يُقَال لَهُ أَبُو ميسرَة كَانَ عَارِفًا من العراف مُتَعَنتًا فِي نَفسه بسوق عكاظ فَمد رجله وَقَالَ // (من الرجز) //
(أَنا ابْن مدركة بن خندف
…
من يطعنوا فِي عينه لم يطرف)
(وَمن تَكُونُوا قومه يُغطرف
…
)
أَنا وَالله اعز الْعَرَب فَمن زعم أَنه اكرمم مني فليضربها بِالسَّيْفِ فضربها رجل من قيس بِالسَّيْفِ فخدشها خدشاً غير كَبِير فَتَجَاوز النَّاس عِنْد ذَلِك حَتَّى كَاد أَن يكون بَينهم قتال ثمَّ تراجعوا وَرَأَوا أَنه لم يكن كَبِير أَمر فَكل هَذَا الحَدِيث يُقَال فِي سَبَب حَرْب الْفجار الأول وَالله أعلم أَي ذَلِك كَانَ هُوَ وَأما حَرْب الْفجار الثَّانِي فَقَالَ الْعَلامَة التقي الفاسي قَالَ ابْن هِشَام لما بلغ رَسُول الله
أَربع عشرَة سنة أَو خمس عشرَة سنة فِيمَا حَدثنِي أَبُو عُبَيْدَة
النَّحْوِيّ عَن أبي عَمْرو بن الْعَلَاء قَالَ هاج حَرْب الْفجار بَين قُرَيْش وَمن مَعهَا من بني كنَانَة وَبَين قيس عيلان وَكَانَ الَّذِي هاجها أَن عُرْوَة الرّحال بن عتبَة بن جَعْفَر بن كلاب بن ربيعَة بن عَامر بن صعصعة بن مُعَاوِيَة بن بكر بن هوَازن أجَاز لطيمة للنعمان بن الْمُنْذر واللطيمة الْبَعِير يحمل الطّيب والجواهر وَالثيَاب وَالتِّجَارَة وإجازتها إيصالها سَالِمَة إِلَى مقصدها فِي خفتارته فَقَالَ لَهُ البراض بن قيس أحد بني ضَمرَة بن بكر بن عبد مَنَاة بن كنَانَة أتجيزها يَا عُرْوَة على كنَانَة قَالَ عُرْوَة نعم وعَلى الْخلق اجميعن فَخرج فِيهَا عُرْوَة الرّحال وَخرج البراض يطْلب غفلته حَتَّى إِذا كَانَ بتيمن ذِي طلال بِالْعَالِيَةِ غفل عُرْوَة فَوَثَبَ عَلَيْهِ البراض فَقتله فِي الشَّهْر الْحَرَام فَلذَلِك سمى حَرْب الْفجار وَقَالَ البراض فِي ذَلِك // (من الوافر) //
(وداهيةٍ تهم النس قبلي
…
شددتُ لَهَا بني بكرٍ ضلوعي)
(هدمت بهَا بيُوت بني كلابٍ
…
وأرضعت الموَالِي بالضّروع)
(رفعت لَهَا بِذِي طلالٍ كفّي
…
فخرّ يميد كالجذع الصّريع)
وَقَالَ لبيد بن ربيعَة بن مَالك بن جَعْفَر بن كلاب يحث على الطّلب بِدَم عُرْوَة الرّحال // (من الوافر) //
(فبلّغ إِن عرضت بني كلاب
…
وعامر والخطوب لَهَا توالي)
(وأبلغ إِن عرضت بني نميرٍ
…
وأخوال الْقَتِيل بني هِلَال)
(بأنّ الْوَافِد الرّحّال أَمْسَى
…
مُقيما عِنْد تيمن ذِي طلال)
وَهَذِه الأبيات من أَبْيَات لَهُ ذكرهَا ابْن هِشَام قَالَ ابْن هِشَام فَأتى آتٍ قُريْشًا
فَقَالَ إِن البراض قد قتل عُرْوَة وهم فِي الشَّهْر الْحَرَام بعكاظ فارتحلوا وهوازن لَا تشعر ثمَّ بَلغهُمْ الْخَبَر فاتبعوهم فأدركوهم قبل أَن يدخلُوا الْحرم فَاقْتَتلُوا حَتَّى جَاءَ اللَّيْل ودخلوا الْحرم فَأَمْسَكت عَنْهُم هوَازن ثمَّ الْتَقَوْا بعد هَذَا الْيَوْم أَيَّامًا وَالْقَوْم متنابذون على كل قَبيلَة من قُرَيْش وكنانة رَئِيس مِنْهُم وعَلى كل قبيل من قيس رَئِيس مِنْهُم وَشهد رَسُول الله
بعض أيامهم أخرجه أَعْمَامه مَعَهم وَقَالَ رَسُول الله
كنت أنبل على أعمامي أَي أرد عَنْهُم نبل عدوهم إِذا رموهم قَالَ ابْن إِسْحَاق وَإِنَّمَا سمى حَرْب الْفجار بِمَا اسْتحلَّ فِيهِ هَذَانِ الْحَيَّانِ كنَانَة وَقيس عيلان من الْمَحَارِم بَينهمَا وَكَانَ قَائِد قُرَيْش وكنانة حَرْب بن أُميَّة بن عبد شمس فَكَانَ أول الْأَيَّام بعد يَوْم نَخْلَة فالتقو بعكاظ وَكَانَ يُسمى يَوْم شيظمة فَكَانَت هوَازن من وَرَاء السَّيْل وقريش وَبَنُو كنَانَة فِي بطن الْوَادي وَقَالَ لَهُم حَرْب بن أُميَّة إِن انتحت قُرَيْش فَلَا تَبْرَحُوا مَكَانكُمْ وعبأت هوَازن وَأخذُوا مَصَافهمْ وعبأت قُرَيْش وَكَانَ على إِحْدَى المجنبتين عبد الله بن جدعَان وعَلى الْأُخْرَى كريز بن ربيعَة بن حبيب بن عبد شمس وَحرب بن أُميَّة فِي الْقلب فَكَانَت الدائرة أول النَّهَار لكنانة على هوَازن حَتَّى إِذا كَانَ آخر النَّهَار وَصَبَرت هوَازن فاستحر الْقَتْل فِي قُرَيْش فَلَمَّا رأى ذَلِك الَّذين قي بطن الْوَادي من كنَانَة مالوا إِلَى قُرَيْش وَتركُوا مكانهم فَلَمَّا فعلو ذَلِك استحر الْقَتْل بهم فَقتل تَحت رايتهم ثَمَانُون رجلا فَكَانَ هَذَا الْيَوْم وَهُوَ يَوْم شيظمة لهوازن على كنَانَة ثمَّ كَانَ يَوْم العبلاء قَالَ حَدثنِي الْأَزْدِيّ قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد عَن أبي عُبَيْدَة قَالَ وَجمع هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاء فَالْتَقوا يَوْم العبلاء وَهُوَ الْجَبَل إِلَى جنب عكاظ ورؤساؤهم الَّذين كَانُوا يَوْم شيظمة بأعيانهم فَكَانَت الدائرة لهوازن على كنَانَة أَيْضا ثمَّ كَانُوا يَوْم سرب قَالَ ثمَّ جمع الْفَرِيقَانِ فَالْتَقوا عِنْد قرن الْخُيُول فَاقْتَتلُوا بسرب من عكاظ وعلهيم رؤساؤهم الَّذِي كَانُوا قبل وَلم يكن يَوْم أعظم مِنْهُ يَوْمئِذٍ وَحمل يَوْمئِذٍ ابْن جدعَان ألفا على ألف بعير فَالْتَقوا وَقد كَانَ لهوازن على
كنَانَة يَوْمَانِ متواليان يَوْم شيظمة وَيَوْم العبلاء فخشوا مثلهمَا وحافظوا يَوْمئِذٍ وقيدت بَنو أُميَّة فِيهِ أنفسهم وحافظت بَنو مَخْزُوم وَصَبَرت وَكَذَلِكَ صبرت هوَازن وَذَلِكَ أَن عكاظ بلد لَهُم بِهِ نخل وأموال فَلم يعبوا شَيْئا فَقَاتلُوا حَتَّى أَمْسوا وانهزموا ثمَّ قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد بن الضَّحَّاك عَن أَبِيه قَالَ العنابس حَرْب وَأَبُو حَرْب وسُفْيَان وَأَبُو سُفْيَان بَنو أُميَّة بن عبد شمس وَإِنَّمَا سموا العنابس لأَنهم قيدوا أنفسهم يَوْم عكاظ وقاتلوا قتاتلا شَدِيدا فشبهوا بالأسد والأسد يُقَال لَهُ العنبس وَلابْن الزبعري فيهم أشعار بليغة وَقد ذكرُوا أَن خويلد بن أَسد وَهُوَ أَبُو السيدة خَدِيجَة زوج النَّبِي
كَانَ يَوْم عكاظ على بني أَسد بن عبد الْعُزَّى ثمَّ كَانَ يَوْم الجزيرة حَدثنِي الْأَزْدِيّ قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد بن حبيب الْهَاشِمِي عَن أبي عُبَيْدَة قَالَ كَانَت فِيهِ الدائرة لهوازن على كنَانَة وَهِي حرَّة إِلَى جنب عكاظ مِمَّا يَلِي مهب جنوبا لمن يقبل يُرِيد مَكَّة فِي مهب صبائها حَتَّى تَنْقَطِع دون قرن قتل فِيهِ أَبُو سُفْيَان بن أُميَّة وَمن كنَانَة ثَلَاثَة رَهْط وَقتل وَرْقَاء بن الْحَارِث بن مَالك بن ربيعَة بن عَمْرو بن عَامر فَهَذِهِ أَيَّام الْفجار الْخَمْسَة الَّتِي تراجفوا فِيهَا فِي أَربع سِنِين أولهنَّ يَوْم نَخْلَة حِين تبعتهم هوَازن فَكَانَ كفافاً لَا وَلَا ثمَّ يَوْم شيظمة وَكَانَ لهوازن على كنَانَة ثمَّ يَوْم عكاظ هُوَ يَوْم العبلاء فَكَانَ لهوازن على كنَانَة أَيْضا ثمَّ يَوْم سرب وَهُوَ يَوْم عكاظ الثَّانِي كَانَ لبني كنَانَة على هوَازن وَلم يكن بَينهم يَوْم أعظم مِنْهُ ثمَّ يَوْم الجزيرة وَهُوَ آخر أيامهم قَالَ ثمَّ كَانَ الرجل يلقى الرجل أَو الرجلَيْن أَو أَكثر من ذَلِك أَو أقل فيقتتلون فَرُبمَا قتل بَعضهم بَعْضًا فلقي ابْن محمية أَخُو بني الدئل بن بكر أَخا خِدَاش بن زُهَيْر بالصفاح فَقَالَ زُهَيْر إِنِّي حرَام جِئْت مُعْتَمِرًا فَقتله ثمَّ نَدم فَقَالَ لَهُم إِن العامري الْمُعْتَمِر لم آتٍ فِيهِ عذرا لمعتذر ثمَّ إِن النَّاس تداعوا إِلَى الصُّلْح وَالسّلم على أَن يَدي الْفضل من الْقَتْلَى الَّذين فيهم أَي الْفَرِيقَيْنِ افضل على الآخر فتواعدوا عكاظ وتعاقدوا وتوافقوا على أَن يتموا ذَلِك وَجعلُوا بَينهمَا أمداً يلتقون فِيهِ لذَلِك فَأبى وهب بن معتب وَطف على قومه
وَجعل لَا يرضى بذلك حَتَّى يدركوا ثأرهم فَقَالَ فِي ذَلِك أُميَّة بن جدعَان // (من الْكَامِل) //
(المرءُ وهبٌ وهب آل معتبٍ
…
ملّ الغواة وَمن يماطل يملل)
(يسْعَى ليوقدها بجزل وقودها
…
وَإِذا تعايا صُلحُ قَوْمك تأتلي)
واندس وهب حَتَّى مكرت هوَازن بكنانة وهم على الصُّلْح فَبعث خيلاً عَلَيْهَا مسلمة بن شعل البكائي وخَالِد بن هَوْذَة فِي نَاس من بني هِلَال وَرَئِيسهمْ ربيعَة بن أبي طيبان وناس من بني نصر عَلَيْهِم مَالك بن عَوْف فاغاورا على بني لَيْث بصفراء الغميم وهم غَارونَ فقاتلوهم وَجعل مَالك بن عَوْف يرتجز وَهُوَ أَمْرَد يَوْمئِذٍ // (من الرجز) //
(أمردُ يهدى حلمهُ شيبَ اللحلى
…
)
قلت وَهَذَا مَالك بن عَوْف هُوَ الرئيس على هوَازن أَيَّام يَوْم حنين حِين قَاتلهم رَسُول الله
فَهَزَمَهُمْ ثمَّ رجعُوا إِلَى الطَّائِف إِلَى حصنهمْ فَحَاصَرَهُمْ رَسُول الله
وَلم يُؤذن لَهُ فِي فَتحه فَرجع عَنهُ وَقَالَ اللَّهُمَّ اهد ثقيفاً وائت بهم ثمَّ أَتَوْهُ مُسلمين بعد ذَلِك انْتهى وَهَذَا الْيَوْم هُوَ أول يَوْم ذكر فِيهِ مَالك بن عَوْف فقتلت بَنو مُدْلِج يَوْمئِذٍ عبيد بن عَوْف البكائي وسبيع بن أبي المؤمل بن محَارب ثمَّ انْهَزَمت بَنو اللَّيْث فاستحر الْقَتْل ببني الملوح بن يعمر فَقتلُوا مِنْهُم ثَلَاثِينَ رجلا سوى النِّسَاء وَسَاقُوا الْبَهَائِم ثمَّ أَقبلُوا فعرضت لَهُم خُزَاعَة وطمعوا فيهم فقاتلوهم فَلَمَّا رَأَوْا أَنهم لَا بُد لَهُم مِنْهُم قَالُوا اعرضونا من غنيمتكم عراضة قَالَ فحملوا سريتهم ثمَّ إِن النَّاس تدعوا إِلَى الصُّلْح ورهنوا رهاناً بِالْوَفَاءِ بل مَاتَ من كَانَ لَهُ الْفضل فِي الْقَتْلَى وَتمّ الصُّلْح وَوضعت الْحَرْب أَوزَارهَا قَالَ الزبير بن بكار حَدثنِي مُحَمَّد بن الْحسن عَن حَمَّاد بن مُوسَى عَن عبد الله بن عون بن الزبير قَالَ حَدثنِي حَكِيم بن حزَام قَالَ لما توافت كنَانَة وَقيس من الْعَام الْقَابِل بعكاظ بعد الْعَام الأول الَّذِي كَانُوا الْتَقَوْا فِيهِ وَرَأس النَّاس حَرْب بن
أُميَّة خرج مَعَه عتبَة بن ربيعَة وَهُوَ يَوْمئِذٍ فِي حجر حَرْب فَمَنعه حَرْب أَن يخرج وَقَالَ يَا بني أَنا لَك فاقتاد رَاحِلَته وَتقدم فِي أول النَّاس فَلم يدر بِهِ حَرْب إِلَّا وَهُوَ فِي الْعَسْكَر قَالَ حَكِيم بن حزَام فنزلنا عكاظ وَنزلت هوَازن بِجمع كَبِير فَلَمَّا أَصْبَحْنَا ركب عتبَة جملا ثمَّ صَاح فِي النَّاس يَا معشر مُضر علام تتفانون بَيْنكُم هلموا إِلَى الصُّلْح فَقَالَت هوَازن وماذا تعرض قَالَ أعرض أَن أعطي دِيَة من أُصِيب قَالُوا وَمن أَنْت قَالَ أَنا عتبَة بن ربيعَة بن عبد شمس قالو قد قبلنَا فَأصْلح النَّاس وَرَضوا بِمَا قَالَ عتبَة وأعطوهم أَرْبَعِينَ رجلا من فتيَان قُرَيْش وَكنت فيهم يَعْنِي الْقَائِل نَفسه وَهُوَ حَكِيم بن حزَام قَالَ فَلَمَّا رَأَتْ بَنو عَامر أَن الرَّهْن قد صَار فِي أَيْديهم رَغِبُوا فِي الْعَفو فأطلقوهم أَجْمَعِينَ قَالَ الزبير وَسمعت عبد الله بن عبد الله بن عمر يَقُول لم يسد محلق من قُرَيْش إِلَّا عتبَة بن ربيعَة هَذَا وَأَبُو طَالب بن عبد الْمطلب فَإِنَّهُمَا سَادًّا بِغَيْر مَال انْتهى قلت الدَّاء قديم وَهَذَا عتبَة بن ربيعَة هُوَ أَبُو هِنْد بن عتبَة زوج أبي سُفْيَان صَخْر بن حَرْب بن أُميَّة وَهِي وَالِدَة مُعَاوِيَة بن أبي سُفْيَان فَهُوَ جد مُعَاوِيَة لأمه وَكَلَام مغلطاي فِي سيرته يَقْتَضِي أَن أَيَّام الْفجار سِتَّة لِأَنَّهُ قَالَ وَأَيَّام الْفجار على مَا قَالَه السُّهيْلي وَالصَّوَاب أَنه سِتَّة أَقُول قد ذكرت فِيمَا تقدم أَن الصَّحِيح أَنَّهَا خَمْسَة وعددتها بأسمائها وأماكنها لَا سِتَّة وَلَا أَرْبَعَة وَالله أعلم وَكَانَ حلف الفضول بعد حَرْب الْفجار لِأَنَّهَا كَانَت فِي شعْبَان وَكَانَ حلف الفضول فِي ذِي الْقعدَة قبل المبعث بِعشر سِنِين فَكَانَ حلف الفضول أكْرم حلف يسمع بِهِ وأشرفه فِي الْعَرَب وَكَانَ فِي دَار عبد الله بن جدعَان كَمَا تقدم قَالَه الْعَلامَة التقي الفاسي انْتهى ولنذكر شَيْئا من خبر عبد الله بن جدعَان هَذَا الَّذِي كَانَ حلف الفضول فِي دَاره هُوَ عبد الله بن جدعَان بن عَمْرو بن كَعْب بن سعد بن تيم بن مرّة بن كَعْب بن لؤَي بن غَالب بن فهر الْقرشِي التَّيْمِيّ يكنى أَبَا زُهَيْر من رَهْط أبي بكر الصّديق رضي الله عنه كَانَ من رُؤَسَاء قُرَيْش وأجودهم وَله فِي الْجُود أَخْبَار مَشْهُورَة
مِنْهَا أَنه كَانَت لَهُ جَفْنَة للأضياف يستظل فِي ظلها فِي الهاجرة لِأَن فِي غَرِيب الحَدِيث لِابْنِ قُتَيْبَة إِن رَسُول الله
قَالَ كنت أستظل بِظِل جَفْنَة عبد الله بن جدعَان فِي الهاجرة قَالَ ابْن قُتَيْبَة كَانَت جفنته يَأْكُل مِنْهَا الرَّاكِب على بعيره وَسقط فِيهَا صبي فغرق أَي مَاتَ وَمِنْهَا على مَا قَالَه ابْن هِشَام بن الْكَلْبِيّ كَانَ لَهُ مناديان يُنَادي أَحدهمَا بِأَسْفَل مَكَّة وَالْآخر بِأَعْلَاهَا وَكَانَ أَحدهمَا سُفْيَان بن عبد الْأسد وَالْآخر أَبَا قُحَافَة وَكَانَ أَحدهمَا يُنَادي إِلَّا من اراد للحم والشحم فليأت دَار ابْن جدعَان وينادي الآخر إِن من أَرَادَ الفالوذج فليأت دَار ابْن جدعَان وَهُوَ أول من أطْعم الفالوذج بِمَكَّة ذكر هَذَا الفاكهي فِي أَخْبَار مَكَّة وَمِنْهَا أَن أُميَّة بن أبي الصَّلْت قبل أَن يمدح ابْن جدعَان كَانَ قد أَتَى بني الريان من بني الْحَارِث بن كَعْب فَرَأى طَعَام بني الريان لباب الْبر والشهد وَالسمن وَكَانَ طَعَام ابْن جدعَان التَّمْر والسويق ويسقي اللَّبن فَقَالَ أُميَّة // (من الْكَامِل) //
(وَلَقَد رَأَيْت الفاعلين وفعلهم
…
فَرَأَيْت أكْرمهم بني الرّيّان)
(ألبرّ يلبكُ بالشّهاد طعامهم
…
لَا مَا يعلّلنا بَنو جدعَان)
فَبلغ خبر شعره عبد الله بن جدعَان فَأرْسل ألفي بعير إِلَى الشَّام تحمل إِلَيْهِ الْبر والشهد وَالسمن وَأمر منادياً يُنَادي على الْكَعْبَة إِلَّا هملوا إِلَى جَفْنَة عبد الله بن جدعَان فَقَالَ أُميَّة بن أبي الصَّلْت عِنْد ذَلِك // (من الوافر) //
(لَهُ داعٍ بمكّة مشمعلٍّ
…
وَآخر فَوق كعبتها يُنَادي)
(إِلَى ردح من الشّيزى عَلَيْهَا
…
لبابٌ البرِّ يلبك بالشّهاد)
وَقد كَانَ عبد الله بن جدعَان فِي بَدْء أمره صعلوكاً ترب الْيَدَيْنِ وَكَانَ مَعَ ذَلِك
شريراً فاتكاً لَا يزَال يجني الْجِنَايَات فيعقل عَنهُ أَبوهُ وَقَومه حَتَّى ابغضته عشريته ونفاه أَبوهُ وَحلف أَن لَا يؤويه أبدا لما أثقله بِهِ من الْغرم وَحمل الدِّيات فَخرج فِي شعاب مَكَّة حائراً دائراً يتَمَنَّى الْمَوْت ينزل بِهِ فَرَأى شقاً فِي جبل فَظن فِيهِ حَيَّة فتعرض للشق يرجوا أَن يكون فِيهِ مَا يقْتله فيستريح فَلم ير شيئاَ فَدخل فِيهِ فَإِذا فِيهِ ثعبان عَظِيم لَهُ عينان تقدان كالسراجين فَحمل عَلَيْهِ الثعبان فأفرج لَهُ فانساب عَنهُ مستديراً بدارة عِنْدهَا بَيت فخطا خطْوَة أُخْرَى فَأقبل عَلَيْهِ الثعبان كالسهم فأفرج عَنهُ فانساب عَنهُ قدماً لَا ينظر إِلَيْهِ فَوَقع فِي نَفسه أَنه مَصْنُوع فأمسكه بِيَدِهِ فَإِذا هُوَ مَصْنُوع من ذهب وَعَيناهُ ياقوتتان فَكَسرهُ وَأخذ عَيْنَيْهِ وَدخل الْبَيْت فَإِذا جثث طوال على سرر طوال لم ير مثلهم طولا وعظماً وَعند رُءُوسهم لوح من فضَّة فِيهِ تاريخهم وَإِذا هم رجال من مُلُوك جرهم وَآخرهمْ موتا الْحَارِث بن مضاض صَاحب الغربة الطَّوِيلَة الَّذِي اسْتَأْجر من اياد الْعشْرَة الأبعرة كَمَا تقدم علهيم ثِيَاب لَا يمس مِنْهَا شَيْئا إِلَّا انتثر كالهباء من طول الزَّمن وَشعر مَكْتُوب فِي لوح فِيهِ عظات وَقَالَ ابْن هِشَام كَانَ اللَّوْح من رُخَام وَكَانَ فِيهِ أَنا نفيلة بن عبد المدان بن خشرم بن عبد ياليل بن جرهم بن قحطان بن هود النَّبِي عليه السلام عِشْت خَمْسمِائَة عَام وَقطعت غور الأَرْض بَاطِنهَا وظاهرها فِي طلب الثروة وَالْمجد وَالْملك فَلَمَّا حصلته لم يكن ذَلِك ينجيني من الْمَوْت وَتَحْته مَكْتُوب // (من الْخَفِيف) //
(قد قطعت الْبِلَاد فِي طلب الثروة
…
وَالْمجد قالص الأثواب)
(وسريت الْبِلَاد قفراً لقفرٍ
…
بشبابي وقوّتي واكتسابي)
(فَأصَاب الرّدى بَنَات فُؤَادِي
…
بسهام من المنايا صياب)
(فانقضت شرّتي وأقصر جهلي
…
واستراحت عواذلي من عتابي)
(وَدفعت الْبَيْضَاء بالحلم لمّا
…
نزل الشّيب فِي محلّ الشّباب)
(صَاح هَل ريت أَو سَمِعت برعٍ
…
ردّ فِي الضّرع مَا قرى فِي الحلاب)
ثمَّ نظر فَإِذا فِي وسط الْبَيْت كوم عَظِيم من الْيَاقُوت واللؤلؤ والزبرجد فَأخذ مِنْهُ مَا أَخذ ثمَّ علم على الشق بعلامة وأغلق بَابه بِالْحِجَارَةِ وَأرْسل إِلَى أَبِيه بِالْمَالِ الَّذِي خرج بِهِ يسترضيه ويستعطفه وَوصل عشرته بعد ذَلِك كلهم فسادهم وَجعل ينْفق من ذَلِك الْكَنْز وَيطْعم النَّاس وَيفْعل الْمَعْرُوف وَفِي كتاب ري العاطش وَأنس الواحش لِأَحْمَد بن عمار إِن ابْن جدعَان مِمَّن حرم الْخمر فِي الْجَاهِلِيَّة بعد أَن كَانَ مغرى بهَا وَذَلِكَ أَنه سكر لَيْلَة فطفح وَمد يَده إِلَى الْقَمَر فَأخْبر بذلك حِين صَحا فَحلف لَا يشْربهَا أبدا وَلما كبر وهرم أَرَادَت قبيلته بَنو تيم أَن يمنعوه من تبذير مَاله ولاموه فِي الْعَطاء فَكَانَ يَدْعُو الرجل فَإِذا دنا مِنْهُ لطمه لطمة خَفِيفَة ثمَّ قَالَ قُم فَأَنْشد لطمتك واطلب دِيَتهَا فَإِذا فعل ذَلِك أَعطَتْهُ بَنو تيم من مَال ابْن جدعَان حَتَّى يرضى عَن لطمته وَفِي صَحِيح مُسلم أَنه عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت يَا رَسُول الله إِن ابْن جدعَان كَانَ يطعم الطَّعَام ويقري الضَّيْف فَهَل يَنْفَعهُ ذَلِك يَوْم الْقِيَامَة فَقَالَ لَا لِأَنَّهُ لم يقل يَوْمًا رَبِّي اغْفِر لي خطيئتي يَوْم الدّين انْتهى وَقد ورد عَنهُ
لما أَمر بِأَن يَسْتَطِيع خبر الْقَتْلَى من قُرَيْش يَوْم بدر قَالَ انْظُر أَبَا جهل فَإِن فِي سَاقه أثرا كنت تزاحمت أَنا وَهُوَ فِي مائدة ابْن جدعَان فزحمته فَوَقع فخدشت سَاقه فَذَلِك الْأَثر بهَا أَو كَمَا قَالَ
ثمَّ هلك ابْن جدعَان أَقُول ذكر الفاكهي فِي وَفَاة ابْن جدعَان هَذَا خَبرا غَرِيبا فَقَالَ هلك عبد الله ابْن جدعَان فبكته الْجِنّ وَالْإِنْس فَأَما بكاء الْجِنّ فَحَدثني إِبْرَاهِيم بن يُوسُف الْمَكِّيّ قَالَ حَدثنَا إِسْمَاعِيل بن زِيَاد عَن ابْن جريج أَن عبد الله بن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ إِن النباش بن زُرَارَة أَخا حَاجِب بن زُرَارَة التَّمِيمِي وَكَانَ حليفا
لقريش قَالَ خرجنَا تجارًا فِي الْجَاهِلِيَّة وَعبد الله بن جدعَان حَيّ حِين خرجنَا فَلَمَّا سرنا نَحْو خمس عشرَة لَيْلَة نزلنَا ذَات لَيْلَة واشتهينا أَن نصبح بذلك الْمَكَان قَالَ فَنَامَ أَصْحَابِي وأصابني أرق شَدِيد فَإِذا هَاتِف يَهْتِف يَقُول // (من الطَّوِيل) //
(أَلا هلك البُهلول غيث بني فهر
…
وَذُو العزّ وَالْمجد التّليد وَذُو الْفَخر)
فأجبته // (من الطَّوِيل) //
(أَلا أيّها النّاعي أَخا الْمجد والذّكر
…
من الْمَرْء تنعاه لنا من بني فهر)
فَأَجَابَنِي الْهَاتِف // (من الطَّوِيل) //
(نعيت ابْن جدعَان بن عَمْرو أَخا النّدى
…
وَذَا الْحسب القدموس والمنصب الْفَخر)
قَالَ فأحببته // (من الطَّوِيل) //
(لعمري لقد نوّهت بالسّيّد الّذي
…
لَهُ الْفضل معلومٌ على ولد النّضر)
(فَأخْبر وَأخْبر إِن علمت وَفَاته
…
فإنّك قد أخْبرت جلاًّ من الْأَمر)
فَأَجَابَنِي الْهَاتِف // (من الطَّوِيل) //
(مَرَرْت بنسوان يخمشن اوجهها
…
عَلَيْهِ صباحاً بَين زَمْزَم والحِجر)
قَالَ فأجبته فَقلت // (من الطَّوِيل) //
(مَتى قد ثوى عهدي بِهِ مُنْذُ جمعةٍ
…
وستةِ أيّام لغرّة ذَا الشّهر)
فَقَالَ الجني // (من الطَّوِيل) //
(ثوى مُنْذُ أيّام ثلاثٍ كواملٍ
…
مَعَ الصّبح أَو فِي الصّبح مَعَ وضح الْفجْر)
قَالَ فَاسْتَيْقَظت الرّفْقَة وَهِي تتراجع بنعي ابْن جدعَان وَقَالَ إِن كَانَ أحد نعى بعز وَشرف فقد نعى ابْن جدعَان فَقَالَ الجني // (من الوافر) //
(أرى الأيّام لَا تبقي عَزِيزًا
…
لعزّته وَلَا تبقي ذليلاً)
فأجبته وَقلت // (من الوافر) //
(وَلَا تبقي من الثّقلين حيّاً
…
وَلَا تبقي الْجبَال وَلَا السهولا)
ثمَّ ذكر شَيْئا من رثاء الْإِنْس لَا نطول بِذكرِهِ رَجَعَ فَلم يزل عبد الدَّار يَلِي حجابة الْبَيْت وَولَايَة دَار الندوة واللواء حَتَّى هلك فَجعل قبل هلكه الحجابة بعده إِلَى ابْنه عُثْمَان بن عبد الدَّار وَجعل دَار الندوة إِلَى
ابْنه عبد منَاف بن عبد الدَّار فَكَانَت قُرَيْش إِذا ارادت التشاور فِي امرها فتحهَا لَهُم عَامر بن هِشَام بن عبد منَاف بن عبد الدَّار أَو بعض وَلَده أَو ولد أَخِيه وَكَانَت الْجَارِيَة إِذا بلغت دخلت دَار الندوة ثمَّ شقّ عَلَيْهَا بعض ولد عبد منَاف بن عبد الدَّار درعها ثمَّ درعها إِيَّاه وانقلبت إِلَى أَهلهَا فحجبوها وَذَلِكَ كَمَا كَانَ يَفْعَله قصي بن كلاب وَلم يزل بَنو عُثْمَان بن عبد الدَّار يلون الحجابة دون ولد عبد الدَّار ثمَّ وَليهَا عبد الْعُزَّى بن عُثْمَان بن عبد الدَّار ثمَّ وَليهَا وَلَده أَبُو طَلْحَة عُثْمَان بن طَلْحَة حَتَّى كَانَ فتح مَكَّة فقبضها رَسُول الله
من أَيْديهم وَفتح الْكَعْبَة ودخلها ثمَّ خرج من الْكَعْبَة مُشْتَمِلًا على الْمِفْتَاح فَقَالَ لَهُ الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب بِأبي أَنْت وَأمي يَا رَسُول الله أعطنا الحجابة مَعَ السِّقَايَة فَقَالَ أُعْطِيكُم مَا ترزءون فِيهِ وَلَا ترزءون بِهِ وَأنزل الله الْآيَة {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ} النِّسَاء 58 ثمَّ دَعَا عُثْمَان بن طَلْحَة فَدفع إِلَيْهِ الْمِفْتَاح وَقَالَ خذوها يَا بني طَلْحَة بأمانة الله سبحانه وتعالى وَاعْمَلُوا فِيهَا بِالْمَعْرُوفِ خالدة تالدة لَا يَنْزِعهَا مِنْكُم مَا اسْتَقَمْتُمْ إِلَّا ضال أَو ظَالِم فَلَمَّا خرج عُثْمَان بن طَلْحَة بن أبي طَلْحَة إِلَى الْهِجْرَة مَعَ النَّبِي
أَقَامَ ابْن عَمه شيبَة بن أبي طَلْحَة فَلم يزل يحجب هُوَ وَولد أَخِيه وهب بن عُثْمَان وَأما اللِّوَاء فَكَانَ فِي أَيدي بني عبد الدَّار جَمِيعهم يَلِيهِ مِنْهُم ذُو السَّيْف والشرف فِي الْجَاهِلِيَّة حَتَّى كَانَ يَوْم أحد فَقتل عَلَيْهِ تِسْعَة مِنْهُم أَشَارَ إِلَى ذَلِك حسان بن ثَابت شَاعِر النَّبِي
فِيمَا قَالَه من الشّعْر يَوْم أحد بقصيدة هِيَ هَذِه // (من الْخَفِيف) //
(مَنَعَ النومَ بِالعشاءِ الهُمُومُ
…
وخيالٌ إِذا تغور النجومُ)
(من حبيب أصَاب قَلْبك مِنْهُ
…
سقمٌ فَهُوَ داخلٌ مكتومُ)
(يَا لقومي هَل يقتل الْمَرْء مثلي
…
واهن الْبَطْش وَالْعِظَام سئومُ)
(لَو يدب الحولي من ولد الذرر
…
عَلَيْهَا لأندبتها الكلومُ)
(شَأْنهَا الْعطر والفراش ويعلوها
…
لجينٌ ولؤلؤٌ منظومُ)
(لم تفتها شمس النّهار بشيءٍ
…
غير أنّ الشّباب لَيْسَ يدومُ)
(إِن خالى خطيب جابية الجولان
…
لانَ عِنْد النّعمان حِين يقومُ)
(وَأَنا الصّقر عِنْد بَاب ابْن سلمى
…
يَوْم نعْمَان فِي الكبول سقيمُ)
(وأُبيُّ وواقدٌ أطلقا لي
…
يَوْم رَاحا وكبلهم مخطومُ)
(ورهنتُ الْيَدَيْنِ عَنْهُم جَمِيعًا
…
كلّ كفٍّ جزءٌ لَهَا مقسومُ)
(وسطت نسبتي الذّوائب مِنْهُم
…
كلّ دارٍ فِيهَا أبٌ لي عظيمُ)
(وابي فِي سميحة الْقَائِل الْفَاصِل
…
يَوْم الْتَقت عَلَيْهِ الخصومُ)
(تِلْكَ أفعالنا وَفعل الزّبعري
…
خاملٌ فِي صديقه مذمومُ)
(ربّ حلمٍ اضاعه عدم المَال
…
وجهلٍ غطا عَلَيْهِ النعيمُ)
(إنّ دهراً يبور فِيهِ ذَوُو الْعلم
…
لدهرٌ هُوَ العتوّ الزنيمُ)
(لَا تسبّنّني فلستَ بسبّي
…
إنّ سبي من الرّجال الكريمُ)
(مَا أُبالي أنبّ بالحزن تيسٌ
…
أم لحاني بِظهْر غيبٍ لئيمُ)
(ولي الْبَأْس مِنْكُم إِذْ رحلتم
…
اسرةٌ من بني قصيٍّ صميمُ)
(تسعةٌ تحمل اللِّوَاء وطارت
…
فِي رعاعٍ من القنا مَخْزُوم)
(وَأَقَامُوا حتّى أُبيحوا جَمِيعًا
…
فِي مقامٍ وكلّهم مذمومُ)
(بذم عاتكٍ وَكَانَ حفاظاً
…
أَن يقيموا إنّ الْكَرِيم كريمُ)
(وَأَقَامُوا حتّى أُزيروا شعوباً
…
والقنا فِي نحورهم محطوم)
(وقريشٌ تفرّ منّا لِوَاذًا
…
أَن يقيموا وخفّ مِنْهَا الحلومُ)
(لم تطق حمله الْعَوَاتِق مِنْهُم
…
إنّما يحمل اللِّوَاء النجومُ)
وَالشَّاهِد فِي قَوْله تِسْعَة تحمل اللِّوَاء وَانْظُر إِلَى قَوْله إِن الْكَرِيم كريم مَا ألطفه وأصدقه
وَأما السِّقَايَة والرفادة والقيادة فَلم تزل لعبد منَاف بن قصي يقوم بهَا حَتَّى توفّي فولى بعده ابْنه هَاشم بن عبد منَاف وَيطْعم النَّاس فِي كل موسم مَا يجْتَمع عِنْده من ترادف قُرَيْش فَلم يزل على ذَلِك حَتَّى أصَاب النَّاس جَدب شَدِيد فَخرج هَاشم إِلَى الشَّام فَاشْترى من مَاله دَقِيقًا وكعكاً فَقدم بِهِ مَكَّة فهشم ذَلِك الكعك وَنحر الْجَزُور وطبخها وَجعلهَا ثريداً وَأطْعم النَّاس وَكَانُوا فِي مجاعَة شَدِيدَة حَتَّى أشبعهم فَسمى بذلك هاشماً وَلم يزل هَاشم على ذَلِك حَتَّى توفّي وَكَانَ عبد الْمطلب يفعل ذَلِك فَلَمَّا توفى قَامَ بذلك أَبُو طَالب فِي كل موسم حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَام وَهُوَ على ذَلِك وَكَانَ النَّبِي
قد أرسل بِمَال يعْمل بِهِ ذَلِك الطَّعَام مَعَ أبي بكر الصّديق رضي الله عنه حِين حج بِالنَّاسِ سنة تسع وَعَمله النَّبِي
فِي حجَّة الْوَدَاع ثمَّ أَقَامَ أَبُو بكر فِي خِلَافَته ثمَّ عمر ثمَّ عُثْمَان ثمَّ الْخُلَفَاء وهلم جرا وَهُوَ طَعَام الْمَوْسِم الَّذِي يطعمهُ الْخُلَفَاء فِي أَيَّام الْحَج بِمَكَّة وَمنى حَتَّى تَنْقَضِي أَيَّام الْمَوْسِم قلت قد انْقَطع هَذَا الطَّعَام اوائل الْقُرْآن الْعَاشِر انْتهى وَأما السِّقَايَة فَكَانَت كَذَلِك فِي يَد عبد منَاف فَكَانَ يسْقِي النَّاس من بِئْر كرادم وبئر خمر على الْإِبِل فِي المزاود والقرب ثمَّ يسْكب ذَلِك المَاء فِي حِيَاض من أَدَم بِفنَاء الْكَعْبَة يردهُ الْحَاج حَتَّى يتفرقوا فَكَانَ يستعذب ذَلِك المَاء وَكَانَ قصي قد حفر آباراً بِمَكَّة وَكَانَ المَاء بِمَكَّة غزيرا إِنَّمَا يشرب النَّاس من آبار خَارِجَة عَن الْحرم فَأول مَا حفر قصي بِمَكَّة بِئْرا يُقَال لَهَا العجول فَكَانَ موضعهَا فِي دَار أم هَانِيء بنت أبي طَالب الْحَزْوَرَة قلت قد ذكرت هَذِه الْبِئْر وَمَا آلت إِلَيْهِ وَمَا أبدل عَنْهَا فَكَانَ الْعَرَب يردونها ويتزاحمون عَلَيْهَا وحفر قصي أَيْضا بِئْرا عِنْد الرَّدْم عِنْد دَار أبان بن عُثْمَان ثمَّ دثرت فسلمها جُبَير بن مطعم بن عدي بن نَوْفَل بن عبد منَاف ثمَّ حفرهَا هَاشم بن عبد منَاف بدارا وحفرها أَيْضا سجلة وَهِي الْبِئْر الَّتِي يُقَال لَهَا بِئْر جُبَير بن مطعم دخلت فِي دَار الْقَوَارِير
أَقُول دَار الْقَوَارِير محلهَا الْيَوْم الْمدرسَة القايتبائية ذكرهَا جَار الله وَغَيرهَا وَكَانَت منزلا للسلاطين إِذا وردوا لِلْحَجِّ انْتهى فَلم تزل سجلة لولد هَاشم حَتَّى وَهبهَا أَسد بن هَاشم للمطعم بن عدي حييّ حفر عبد الْمطلب زَمْزَم فاستغنوا عَنْهَا وَيُقَال إِنَّمَا وَهبهَا لَهُ عبد الْمطلب وَسَأَلَهُ الْمطعم بن عدي بِأَن يضع حوضاً من أَدَم إِلَى جنب زَمْزَم يسْقِي فِيهِ من مَاء بئره فَأذن لَهُ فِي ذَلِك فَكَانَ يَفْعَله فَلم يزل هَاشم بن عبد منَاف يسْقِي الْحَاج حَتَّى توفّي فَقَامَ بِأَمْر السِّقَايَة بعده وَلَده عبد الْمطلب بن هَاشم فَلم يزل على ذَلِك حَتَّى حفر زَمْزَم فَكَانَت لعبد الْمطلب إبل كَثِيرَة فَإِذا كَانَ الْمَوْسِم جمعهَا ثمَّ يسْقِي لَبنهَا بالعسل فِي حِيَاض من أَدَم عِنْد زَمْزَم وَيَشْتَرِي الزَّبِيب وَالتَّمْر فينبذه بِمَاء زَمْزَم ويسقيه الْحَاج لِأَنَّهُ يكسر غلظ مَاء زَمْزَم وَكَانَت إِذْ ذَاك غَلِيظَة جدا وَكَانَ النَّاس إِذْ ذَاك لَهُم فِي بُيُوتهم أسقية فِيهَا المَاء من هَذِه البئار ينبذون فِيهَا القبضات من الزَّبِيب وَالتَّمْر لِأَنَّهُ يكسر عَنْهُم غلظ مَاء آبار مَكَّة فَلبث عبد الْمطلب على ذَلِك حَتَّى توفّي فَقَامَ بِأَمْر السِّقَايَة بعده الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب فَلم تزل فِي يَده وَكَانَ للْعَبَّاس كرم بِالطَّائِف فَكَانَ يحمل زبيبه إِلَى السِّقَايَة وَكَانَ يداين أهل الطَّائِف وَيَقْتَضِي مِنْهُم الزَّبِيب فينبذ ذَلِك كُله ويسقيه الْحَاج من أَيَّام الْمَوْسِم حَتَّى تَنْقَضِي فِي الْجَاهِلِيَّة وَصدر الْإِسْلَام حَتَّى دخل رَسُول الله
مَكَّة يَوْم الْفَتْح فَقبض السِّقَايَة من الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب والحجابة من عُثْمَان بن طَلْحَة فَقَامَ بَين عضادتي بَاب الْكَعْبَة فَقَالَ أَلا إِن كل دم أَو مأثرة كَانَت فِي الْجَاهِلِيَّة فَهِيَ تَحت قدميّ هَاتين وَأول دم أهدره دم ربيعَة بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب إِلَّا سِقَايَة الْحَاج وسدانة الْكَعْبَة فَإِنِّي قد أمضيتهما لأهلهما على مَا كَانَتَا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّة فقبضها الْعَبَّاس رضي الله عنه فَكَانَت فِي يَده حَتَّى توفّي فوليها بعده وَلَده عبد الله بن الْعَبَّاس وَكَانَ يفعل فِيهَا كَفِعْلِهِ دون بني عبد الْمطلب وَكَانَ مُحَمَّد بن الْحَنَفِيَّة كلم فِيهَا ابْن عَبَّاس فَقَالَ لَهُ
ابْن عَبَّاس مَالك وَلها نَحن أولى بهَا فِي الْجَاهِلِيَّة وَالْإِسْلَام وَقد كَانَ أَبوك عَليّ تكلم فِيهَا فأقمت الْبَيِّنَة طَلْحَة بن عبيد الله وعامر بن ربيعَة وأزهر بن عبد عَوْف ومخرمة بن نَوْفَل أَن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب كَانَ يَليهَا فِي الْجَاهِلِيَّة بعد عبد الْمطلب وَجدك أَبُو طَالب فِي إبِله فِي باديته بِعَرَفَة وَأَن رَسُول الله
أَعْطَاهَا لعباس يَوْم الْفَتْح دون بني عبد الْمطلب فَعرف ذَلِك من حضر فَسكت عَنهُ مُحَمَّد ابْن الْحَنَفِيَّة فَكَانَت بيد عبد الله بن الْعَبَّاس لَا ينازعه مُنَازع وَلَا يتَكَلَّم فِيهَا مُتَكَلم فَكَانَت بيد وَلَده وَولد وَلَده إِلَى أَن انقرضوا وَأما القيادة وَهِي عبارَة عَن قيادة الجيوش وَضم أمرهَا والمسير بهَا إِلَى مغزاها وَأَن يكون هُوَ الرئيس المطاع فِيهَا عَن رَأْيه يصدرون ويردون فوليها من بني عبد منَاف عبد شمس بن عبد منَاف أَخُو هَاشم بن عبد منَاف شقيقه ثمَّ وَليهَا من بعده أُميَّة بن عبد شمس ثمَّ من بعده وَلَده حَرْب بن أُميَّة بن عبد شمس فقاد النَّاس يَوْم عكاظ فِي حَرْب قُرَيْش وَقيس عيلان وَفِي حَرْب الْفجار الأول وَالثَّانِي وقاد قبل ذَلِك فِي حَرْب قُرَيْش وَبني بكر بن عبد مَنَاة بن كنَانَة ثمَّ توفّي حَرْب فَكَانَ ابْنه أَبُو سُفْيَان بن حَرْب يَقُود قُريْشًا حَتَّى كَانَ يَوْم بدر فقاد النَّاس عتبَة بن ربيعَة بن أُميَّة بن عبد شمس وَكَانَ أَبُو سُفْيَان فِي العير فَخرج عتبَة من مَكَّة بالنفير فَلَمَّا كَانَ يَوْم أحد قاد النَّاس أَبُو سُفْيَان بن حَرْب ثمَّ قاد النَّاس لذَلِك يَوْم الْأَحْزَاب وَكَانَت هِيَ آخر غَزْوَة غزوتها قُرَيْش النَّبِي
كَمَا قَالَ
إِنَّهُم لَا يغزونا بعْدهَا بل نَحن نغزوهم فَكَانَ كَمَا قَالَ النَّبِي
فَلَمَّا هلك عبد منَاف قَامَ هَاشم ابْنه مقَامه بالسقاية والرفادة وَحَقِيقَة اسْمه عَمْرو وَهُوَ اسْم مَنْقُول من أحد أَرْبَعَة أَشْيَاء إِمَّا من الْعُمر الَّذِي هُوَ مدى الْحَيَاة أَو ئمن الْعُمر بِفَتْح الْعين وَهُوَ لحم الْأَسْنَان وَمِنْه الحَدِيث أَوْصَانِي جِبْرَائِيل عليه السلام بِالسِّوَاكِ حَتَّى خشيت على عمورى أَو من الْعُمْرَى الَّذِي هُوَ طرف الْكمّ يُقَال سجد على عمريه أَي كميه أَو من الْعُمر الَّذِي هُوَ القرط قَالَ المعري // (من الْبَسِيط) //
(وَعمر هندٍ كأنّ الله صوّره
…
عَمْرو بن هندٍ يسوم النّاس تعنينا)
وَزَاد أَبُو حنيفَة وَجها خَامِسًا فَقَالَ أَو من الْعُمر الَّذِي هُوَ اسْم لنخل السكر قَالَ كَانَ ابْن أبي ليلى يستاك بعسيب الْعُمر ذكر الْخَمْسَة السُّهيْلي فِي الرَّوْض الْأنف فَكَانَ هَاشم مُوسِرًا وَهُوَ أول من سنّ الرحلتين رحْلَة الشتَاء ورحلة الصَّيف وَأول من اطعم الطَّعَام الثَّرِيد بِمَكَّة ولقت هاشما لِأَنَّهُ وَقع غلاء فِي بعضب السنين بِمَكَّة فَأتى بالكعك من الشَّام وهشمه وثرده وَأطْعم النَّاس فِي تِلْكَ المجاعة فَقَالَ عبد الله بن الزبعري السَّهْمِي فِي ذَلِك // (من الْكَامِل) //
(قل للَّذي طلب السّماحة والنّدى
…
هلاّ مَرَرْت بآل عبد منَاف)
(هلاّ مَرَرْت بهم تُرِيدُ قراهم
…
منعوك من ضرٍّ وَمن إلحاف)
(كَانَت قريشٌ بَيْضَة فتفلّقت
…
فالمحّ خالصها لعبد منَاف)
(ألرّائشين وَلَيْسَ يُوجد رائش
…
والقائلين هَلُمَّ للأضياف)
(والمحلقين فقيرهم بغنيّهم
…
حتّى يعود فقيرهم كالكافي)
(والقائلين بكلّ وعدٍ صادقٍ
…
والآمرين برحلة الإيلاف)
(سفرين سنّهما لَهُ ولقومه
…
سفر الشّتاء ورحلة الأصياف)
(عَمْرو الّذي هشم الثّريد لِقَوْمِهِ
…
قومٍ بمكّة مُسنَّتَيْنِ عجاف)
ثمَّ تزوج هَاشم بسلمى بنت عَمْرو من بني النجار وَكَانَت قبله تَحت أحيحة بن الجلاح فَولدت لَهُ عَمْرو بن أحيحة ثمَّ ولدت لهاشم عبد الْمطلب بن هَاشم فَهُوَ أَخُو عبد الْمطلب لأمه واسْمه عَامر فِي قَول ابْن قُتَيْبَة وَشَيْبَة الْحَمد فِي قَول ابْن إِسْحَاق وَهُوَ الصَّحِيح قيل إِنَّمَا سمى شيبَة الْحَمد لِأَنَّهُ ولد وَفِي رَأسه شيب وَأما غَيره من الْعَرَب مِمَّن سمى شيبَة فَإِنَّهُم قصدُوا فِي أنفسهم بِهَذَا الِاسْم التفاؤل لَهُم ببلوغ سنّ الحنكة والرأي كَمَا سموا مهرم وكبير وَإِنَّمَا قيل لَهُ عبد الْمطلب لِأَن أَبَاهُ هاشماً قَالَ لِأَخِيهِ الْمطلب وَهُوَ بِمَكَّة حِين حَضرته الْوَفَاة أدْرك عَبدك بِيَثْرِب لِأَنَّهُ كَانَ بِيَثْرِب عِنْد أمه سلمى بنت عَمْرو
النجارية فَمن ثمَّ قيل لَهُ عبد الْمطلب فغلب على اسْمه وَقيل إِن سَبَب ذَلِك أَن عَمه الْمطلب بن عبد منَاف لما جَاءَ بِهِ إِلَى مَكَّة رديفه كَانَ بهيئة رثَّة فَكَانَ إِذا سُئِلَ عَنهُ يَقُول هُوَ عَبدِي حَيَاء أَن يَقُول ابْن أخي فَلَمَّا أحسن من حَاله وجمله أظهر أَنه ابْن أَخِيه فغلب عَلَيْهِ عبد الْمطلب وهجر اسْمه الصَّرِيح الْخَالِص وَهُوَ أول من خضب بالوسمة وعاش مائَة وَعشْرين سنة قَالَه ابْن هِشَام وَقَالَ فِي الْمَوَاهِب وَأَرْبَعين سنة وَهُوَ لِدَة عبيد بن الأبرص بِفَتْح الْعين على صِيغَة الْجمع إِلَّا أَن عبيدا توفّي قبله بِعشْرين سنة قَتله النُّعْمَان بن الْمُنْذر التنوخي وَعبيد هَذَا هُوَ صَاحب أولى المجمهرات فِي الشّعْر الَّتِي مطْلعهَا // (من مخلع الْبَسِيط) //
(عَيْنَاك دمعهما سروب
…
كأنّ شأنيهما شُعَيْب)
وَكَانَ عبد الْمطلب طَويلا جسيماً عَظِيما فصيحاً جواداً ثمَّ هلك هَاشم بغزة من أَرض الشَّام تَاجِرًا فولى السِّقَايَة والرفادة أَخُوهُ الْمطلب ابْن عبد منَاف وَكَانَ ذَا شرف فِي قومه وَكَانَ يُسمى الْفَيْض لسماحته وفضله وَكَانَ أَصْغَر أَبنَاء عبد شمس وهَاشِم لِأَنَّهُمَا توءمان ثمَّ توفّي بردمان من أَرض الْيمن وَتُوفِّي عبد شمس بِمَكَّة وَتُوفِّي نَوْفَل بن عبد منَاف بالعراق قَالَ ابْن إِسْحَاق وَكَانَ أول ولد عبد منَاف ملكا هَاشم مَاتَ بغزة ثمَّ عبد شمس ثمَّ الْمطلب ثمَّ نَوْفَل وَقَالَ مطرود بن كَعْب الْخُزَاعِيّ يرثيهم // (من الْبَسِيط) //
(يَا عين جودي وأذري الدّمع وانهمري
…
وابكي على الشّمّ من كَعْب الْمُغيرَات)
(وابكي على كلّ فيّاض أخي ثقةٍ
…
ضخم الدّسيعة وهّاب الجزيلات)
(صَعب البديهة لَا نكسٍ وَلَا وكلٍ
…
ماضي الْعَزِيمَة متلاف الكريمات)
(صقر توسّط من كعبٍ إِذا انتسبوا
…
بحبوحةَ الْمجد والشّمّ الرّفيعات)
(ثمّ اندبي الْفَيْض والفيّاض مطلباً
…
واستخرطي بعد فيضاتٍ بجمّاتي)
(أَمْسَى بردمان عنّا الْيَوْم مغترباً
…
يَا لهف نَفسِي عَلَيْهِ بَين أموات)
(وابكي لَك الويل إمّا كنت باكيةً
…
لعبد شمس بشرقيّ البنيّات)
(وهَاشِم فِي ضريحٍ وسط بلقعةٍ
…
تسفى الرّياح عَلَيْهِ بَين غزّات)
(ونوفلٌ كَانَ دون الْقَوْم خالصتي
…
أَمْسَى بسلمان فِي ردم المرمّات)
(لم ألق مثلهم عجماً وَلَا عربا
…
إِذا اسْتَقَلت بهم أُدم المطيّات)
(أمست دِيَارهمْ مِنْهُم معطّلةً
…
وَقد يكونُونَ زيناً فِي السّريّات)
(يَا عين وابكي أَبَا الشّعث الشّجيّات
…
يبكينه حسّراً مثل البليّات)
(يبْكين اكرم من يمشي على قدم
…
ينعونه بدموع بعد عبرات)
(يبْكين عَمْرو الْعَلَاء إِذا حَان مصرعه
…
سمح السّجيّة بسّام العشيّات)
(مَا فِي القروم لَهُم عدلٌ وَلَا خطرٌ
…
وَلَا لمن تركُوا شرف المنيعات)
(أبناؤهم خير أبناءٍ وأنفسهم
…
خير النّفوس لَدَى جهد الأليّات)
(زين الْبيُوت الّتي خلوا مساكنها
…
فَأَصْبَحت مِنْهُم وحشاً خليّات)
(أَقُول وَالْعين لَا ترقا مدامعها
…
لَا يبعد الله أَصْحَاب الرّزيّات)
قَالَ الفاكهي حَدثنَا عبد الله بن عَمْرو بن أبي سعيد قَالَ حَدثنَا إِسْحَاق بن البهلول قَالَ حَدثنِي مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الْقرشِي عَن ابْن جريج عَن عَطاء عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ قَالَ رَسُول الله
عبد منَاف عز قُرَيْش وَأسد ركنها وعضدها وَعبد الدَّار رءوسها وأوائلها وعدي جناحها ومخزوم ريحانتها وأراكتها فِي نصرتها وجمح وَسَهْم عديدها وعامر ليوثها وفرسانها وَالنَّاس تبع لقريش وقريش تبع لولد قصي انْتهى قلت وَبَنُو قصي تبع لبني هَاشم وَقد قَالَ قبلي الْقَائِل وَهُوَ على طَريقَة الترقي // (من المتقارب) //
(قريشٌ خِيَار بني آدم
…
وَخير قريشٍ بَنو هَاشم)
(وَخير بني هَاشم أحمدٌ
…
رَسُول الْإِلَه إِلَى الْعَالم)
وَمِمَّا يُوَافق مَعْنَاهُ وَيُخَالف مبناه قَول الآخر // (من السَّرِيع) //
(محمدٌ خير بني هَاشم
…
فَمن تميمٌ ونبو دارم)
(وهاشمٌ خير قريشٍ وَمَا
…
مثل قريشٍ فِي بني آدم)
قَالَ مُحَمَّد بن سهل الْأَزْدِيّ سَمِعت هِشَام بن الْكَلْبِيّ يذكر عَن أَبِيه قَالَ سُئِلَ
عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه عَن قُرَيْش فَقَالَ أما بَنو هَاشم فَأَصدق قُرَيْش فِي النّوم واليقظة وَأَكْرمهَا أحلاماً وأضربها بِالسَّيْفِ وَأما بَنو عبد شمس فأبعدها همماً وأمنعها لما وَرَاء ظُهُورهمْ وَأما بَنو مَخْزُوم فريحانة قُرَيْش تحب حَدِيث رجالها وتشتهي تَزْوِيج نسائها وَسُئِلَ عَن قوم من قُرَيْش فَقَالَ زعانفة وَأخْبر عبد الله بن عَمْرو بن أبي سعد قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن الْحُسَيْن الشَّامي قَالَ حَدثنَا النَّضر بن عَمْرو قَالَ حَدثنِي بكر بن عَامر الْعمريّ عَن عَامر بن عبد الْملك المسمعي قَالَ دخل دَغْفَل النسابة الشَّيْبَانِيّ على مُعَاوِيَة فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَة أَخْبرنِي عَن بني هَاشم فَقَالَ شَدَّاد أنجاد ذَوُو أَلْسِنَة حداد وهم سادة السياد قَالَ فَأَخْبرنِي عَن بني أُميَّة قَالَ فِي الْوَاسِطَة من القلادة فِي الْجَاهِلِيَّة سادة وَفِي الْإِسْلَام مُلُوك وقادة قَالَ فَأَخْبرنِي عَن بني الْمطلب قَالَ نيب مقشعرة أصابتها قُرَّة لَا تسمع لَهَا جرة وَلَا ترى لَهَا درة قَالَ فَأَخْبرنِي عَن بني نَوْفَل قَالَ اسْم وَلَا حسيس قَالَ فَأَخْبرنِي عَن بني أَسد قَالَ ذَوُو شُؤْم ونكد وبغي وحسد قَالَ فَأَخْبرنِي عَن بني زهرَة قَالَ فَاش وحلم الْفراش قَالَ فَأَخْبرنِي عَن تيم بن مرّة قَالَ كثير أوغادهم عبيد من سادهم وَلَا يرى مِنْهُم قَائِد يقودهم قَالَ فَأَخْبرنِي عَن بني مَخْزُوم قَالَ معزى مطيرة أصابتها القشعريرة إِلَّا بني الْمُغيرَة فَإِنَّهُم أهل التشدق فِي الْكَلَام ومصاهرة الْكِرَام قَالَ فَأَخْبرنِي عَن بني جمح قَالَ كلهم ظلف إِلَّا بني خلف قَالَ فَأَخْبرنِي عَن بني عدي بن كَعْب قَالَ أهل دناءة الْأَخْلَاق إِن استغنوا شحوا وَإِن افتقروا ألحوا وَأما الْحُكَّام من قُرَيْش بِمَكَّة فَقَالَ الفاكهي حَدثنَا مُحَمَّد بن النجار الصَّنْعَانِيّ قَالَ حَدثنَا عبد الرَّزَّاق عَن ابْن جريج قَالَ أَخْبرنِي بشير بن تَمِيم بن عبد الْحَارِث بن عبيد بن عُمَيْر بن مَخْزُوم قَالَ كَانَ أول من حكم فِي الْجَاهِلِيَّة بالقسامة وَالدية عبد الْمطلب حكم بالقسامة فِي رجل وبمائة من الْإِبِل فِي رجل وَكَانَ عقل أهل الْجَاهِلِيَّة الْغنم قَالَ الْعَلامَة التقي الفاسي رحمه الله حَدثنِي حسن بن حُسَيْن الْأَزْدِيّ قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد أَبُو جَعْفَر عَن الْكَلْبِيّ فِي الْحُكَّام من قُرَيْش قَالَ فَمن بني هَاشم
عبد الْمطلب بن هَاشم وَالزُّبَيْر وابو طَالب ابْنا عبد الْمطلب وَمن بني أُميَّة حَرْب بن أُميَّة وَأَبُو سُفْيَان بن حَرْب وَمن بني زهرَة الْعَلَاء بن حَارِثَة الثَّقَفِيّ حَلِيف بني زهرَة وَمن بني مَخْزُوم الْعدْل وَهُوَ الْوَلِيد بن الْمُغيرَة بن عبد الله بن عَمْرو بن مَخْزُوم وَمن بني سهم قيس بن عدي بن سعد بن سهم وَالْعَاص بن وَائِل بن هَاشم ابْن سعيد بن سهم وَمن بني عدي بن كَعْب نفَيْل بن عبد الْعُزَّى بن رزاح انْتهى وَلم يكن أحد من هَؤُلَاءِ متملكاً على بَقِيَّة قُرَيْش وَإِنَّمَا ذَلِك بتراض من قُرَيْش عَلَيْهِ لما فِيهِ من حسم مواد الشَّرّ فَلَمَّا رأى ذَلِك عُثْمَان بن الْحُوَيْرِث بن أَسد بن عبد الْعُزَّى بن قصي طمع أَن يملك قُريْشًا ويتملك عَلَيْهِم قَالَ الزبير بن بكار حَدثنِي عَليّ بن صَالح عَن عَامر بن صَالح عَن هِشَام بن عُرْوَة عَن أَبِيه عُرْوَة بن الزبير قَالَ خرج عُثْمَان بن الْحُوَيْرِث وَكَانَ من أظرف قُرَيْش وأعقلها حَتَّى قدم على قَيْصر وَقد رأى مَوضِع حَاجتهم إِلَيْهِ ومتجرهم من بِلَاده فَذكر لَهُ مَكَّة ورغبه فِيهَا وَقَالَ تكون زِيَادَة على ملكك كَمَا ملك كسْرَى صنعاء فملكه عَلَيْهِم وَكتب لَهُ إِلَيْهِم فَلَمَّا قدم عُثْمَان إِلَيْهِم قَالَ يَا قوم إِن قَيْصر من قد علمتكم أمانكم ببلاده وَمَا تصيبون من التِّجَارَة فِي كنفه وَقد ملكني عَلَيْكُم وَإِنَّمَا أَنا ابْن عمكم وَإِنَّمَا آخذ مِنْكُم الجراب من الْقرظ والعكة مِنْك السّمن والإرهاب فأجمع ذَلِك ثمَّ أبْعث بِهِ إِلَيْهِ وَأَنا أَخَاف إِن أَبَيْتُم ذَلِك أَن يمْنَع مِنْكُم الشَّام فَلَا تتجروا بِهِ وَيقطع مرفقكم مِنْهُ فَلَمَّا قَالَ لَهُم ذَلِك خَافُوا قَيْصر وَأخذ بقلوبهم مَا ذكر من متجرهم فَأَجْمعُوا على أَن يعقدوا على رَأسه التَّاج عَشِيَّة وفارقوه على ذَلِك فَلَمَّا طافوا عَشِيَّة بعث الله إِلَيْهِ ابْن عَمه أَبَا زَمعَة الْأسود بن الْمطلب بن أَسد فصاح على أحفل مَا كَانَت قُرَيْش فِي الطّواف فَقَالَ عباد الله ملك بتهامة فانحاشوا إِلَيْهِ انحياش حمر الْوَحْش ثمَّ قَالُوا صدقت وَاللات والعزى مَا كَانَ بتهامة ملك قطّ فانتفضت قُرَيْش عَمَّا كَانَت قَالَت لَهُ وَلحق بقيصر يُعلمهُ ثمَّ روى الزبير بِسَنَدِهِ أَن قَيْصر حمل عُثْمَان على بغلة عَلَيْهَا سرج عَلَيْهِ الذَّهَب حِين ملكه قَالَ الزبير قَالَ عمي وَكَانَ عُثْمَان بن الْحُوَيْرِث حِين قدم مَكَّة بِكِتَاب قَيْصر مختوم فِي أَسْفَله بِالذَّهَب
وَذكر الزبير خَبرا فِيمَا انْتهى إِلَيْهِ أَمر عُثْمَان بن الْحُوَيْرِث وَمُلَخَّص ذَلِك أَنه لما خرج إِلَى قَيْصر بِالشَّام بعد امْتنَاع قُرَيْش من تَمْلِيكه فَسَأَلَ تجار قُرَيْش بِالشَّام عَمْرو ابْن جَفْنَة الغساني عَامل قَيْصر أَن يفْسد على عُثْمَان عِنْد قَيْصر فَسَأَلَ عَمْرو فِي ذَلِك ترجمان قَيْصر فَأخْبر الترجمان قَيْصر عَن عُثْمَان وَترْجم عَلَيْهِ بِأَن عُثْمَان يشْتم الْملك فَأمر قَيْصر بِإِخْرَاج عُثْمَان ثمَّ تحيل عُثْمَان حَتَّى عرف من أَيْن أُتي وَدخل على قَيْصر وعرفه مَا يَقْتَضِي أَن الترجمان كذب عَلَيْهِ ومالأ أعداءه فَكتب قَيْصر إِلَى عَمْرو بن جَفْنَة يَأْمُرهُ أَن يحبس لعُثْمَان من أَرَادَ حَبسه من تجار قُرَيْش بِالشَّام فَفعل ذَلِك عَمْرو ثمَّ سم عُثْمَان فَمَاتَ بِالشَّام انْتهى قَالَ وَحدثنَا حسن بن حُسَيْن الْأَزْدِيّ قَالَ حَدثنَا مُحَمَّد بن حبيب قَالَ كَانَت الرياسة أَيَّام بني قصي إِلَى عبد منَاف بن قصي كَانَ الْقَائِم بِأُمُور قُرَيْش والمنظور إِلَيْهِ فِيهَا ثمَّ أفْضى ذَلِك بعده إِلَى ابْنه هَاشم بن عبد منَاف فَأَقَامَ ذَلِك أحسن قيام فَلم يكن لَهُ نَظِير من قُرَيْش وَلَا مسَاوٍ ثمَّ سَارَتْ الرياسة بعده لبعد الْمطلب فِي كل قُرَيْش رُؤَسَاء غير أَنهم كَانُوا يعْرفُونَ لعبد الْمطلب فَضله وتقدمه وشرفه فَلَمَّا مَاتَ عبد الْمطلب صَارَت الرياسة لِحَرْب بن أُميَّة فَلَمَّا مَاتَ حَرْب تَفَرَّقت الرياسة والشرف بَين عبد منَاف وَغَيرهم من قُرَيْش وَقَالَ الفاكهي قَالَ لنا الزبير قَالَ مُحَمَّد بن الْحسن كَانَ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة من بني عبد منانف هَاشم وَعبد شمس وَالْمطلب وَنَوْفَل أول من رفع الله بهم قُريْشًا وَكَانَت قُرَيْش إِنَّمَا كَانَت تتجر بِمَكَّة وتتبضع مَعَ من يخرج من الْأَعَاجِم إِلَيْهَا فَركب هَاشم فَأخذ لَهُ حبلاً يَعْنِي عهدا من قَيْصر فاتجروا إِلَى الشَّام وَركب عبد الْمطلب فَأخذ لَهُ حبلاً من مُلُوك الْيمن فتجروا إِلَى الْيمن بذلك الْحَبل يَعْنِي الْعَهْد والذمة وَركب نَوْفَل فَأخذ لَهُم حبلاً من النَّجَاشِيّ فتجروا بذلك إِلَى أَرض الْحَبَشَة وروى الزبير عَن مُحَمَّد بن الْحسن عَن الْعَلَاء بن الْحُسَيْن عَن أَفْلح بن
عبد الله بن الْعَلَاء عَن أَبِيه وَغَيره من أهل الْعلم قَالُوا هَاشم وَعبد شمس وَالْمطلب وَنَوْفَل هم الزينون وَبَنُو هَاشم وَبَنُو الْمطلب يدان فَإِن دهمهم غَيرهم صَارُوا يدا وَاحِدَة على ذَلِك كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة دون جَمِيع بني عبد منَاف قلت وَلِهَذَا قَالَ
نَحن وَبَنُو الْمطلب هَكَذَا وَشَبك بَين أَصَابِع يَدَيْهِ وهما البصران يسميان بذلك وَعبد شمس وَنَوْفَل يروهما الأنهران قَالَ وَكَانَت الْعَرَب تسمى هاشماً وَالْمطلب وَعبد شمس ونوفلاً أقداح النضار فَإِن دهمهم غَيرهم اجْتَمعُوا فصاروا يدا وَاحِدَة وَكَانَ يُقَال لَهُم جَمِيعهم أَيْضا المجيرون قَالَ آدم بن عبد الْعُزَّى بن عَمْرو بن عبد الْعُزَّى // (من الرمل) //
(يَا أَمِين الله إنّي قائلٌ
…
قَول ذِي دينٍ وبرٍّ وَحسب)
(عبد شمسٍ لَا تهنها إنّما
…
عبد شمسٍ عمّ عبد المّطلب)
(عبد شمس كَانَ يَتْلُو هاشماً
…
وهما بعد لأُمٍّ ولأب)
فَائِدَة أَحْبَبْت إيرادها مناسبتها وَهِي ذكر من ولي الْإِجَازَة بِالنَّاسِ من عَرَفَة ومزدلفة وَمنى من الْعَرَب فِي ولَايَة جرهم وخزاعة وقريش على مَكَّة والحمس والحلة والطلس والنسيء أما الأول مِمَّن ولي الْإِجَازَة للنَّاس بِالْحَجِّ من عَرَفَة فَقَالَ ابْن إِسْحَاق كَانَ الْغَوْث بن مر بن أد بن طابخة بن إلْيَاس بن مُضر هُوَ الَّذِي يَليهَا من عَرَفَة وَولده من بعده وَكَانَ يُقَال لَهُ ولولده صوفة وَإِنَّمَا ولي الْغَوْث بن مر ذَلِك لِأَن سَببه أَن أمه كَانَت امْرَأَة من جرهم وَكَانَت لَا تَلد فنذرت لله إِن هِيَ ولدت ذكرا أَن تَتَصَدَّق بِهِ على الْكَعْبَة عبدا لَهَا يخدمها وَيقوم عَلَيْهَا فَولدت الْغَوْث فَكَانَ يقوم على الْكَعْبَة بخدمتها فِي الدَّهْر الأول مَعَ اخو 0 اله من جرهم فولي الْإِجَازَة بِالنَّاسِ من عَرَفَة لمكانه الَّذِي كَانَ بِهِ من الْكَعْبَة فَقَالَت أمه // (من الرجز) //
(إنّي جعلت ربّ من بنيّه
…
ربيطةً بمكّة العليّه)
(فباركنّ لي بهَا أليّه
…
واجعله لي من صَالح البريّه)
ثمَّ اسْتمرّ وَلَده من بعده قَالَ ابْن إِسْحَاق حَدثنِي يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عَن أَبِيه عباد قَالَ كَانَت صوفة تدفع بِالنَّاسِ من عَرَفَة وتجيز لَهُم إِذا نفروا من منى فَإِذا كَانَ يَوْم النَّفر أَتَوْ لرمي الْجمار وَرجل من صوفة يُومِئ للنَّاس لَا يرْمونَ فَكَانَ ذَوُو الْحَاجَات المستعجلون يأْتونَ لَهُ فَيَقُولُونَ لَهُ قُم فارم حَتَّى نرمي فَيَقُول لَا وَالله حَتَّى تميل الشَّمْس فيظل ذَوُو الْحَاجَات الَّذين يحبونَ التَّعْجِيل يستعجلونه بذلك يومونه بِالْحِجَارَةِ وَيَقُولُونَ لَهُ وَيلك قُم فارم فيأبى عَلَيْهِم حَتَّى إِذا مَالَتْ الشَّمْس قَامَ فَرمى وَرمى النَّاس مَعَه قَالَ ابْن إِسْحَاق فَإِذا فرغوا من رمي الْجمار فارادوا النَّفر من منى أخذت صوفة بجانبي الْعقبَة فحبسوا النَّاس وَقَالُوا أجيزي صوفة فَلم يجز أحد من النَّاس حَتَّى يمروا فَإِذا نفرت صوفة وَمَضَت خلى سَبِيل النَّاس فَانْطَلقُوا بعدهمْ فَكَانُوا كَذَلِك حَتَّى انقرضوا فورث ذَلِك من بعدهمْ بَنو سعيد بن زيد مَنَاة بن تَمِيم فَكَانَت فِي بني سعد فِي آل صَفْوَان بن الْحَارِث بن شجنة قَالَ ابْن هِشَام صَفْوَان هُوَ ابْن الْحَارِث بن شجنة بن عُطَارِد بن عَوْف بن كَعْب ابْن سعد بن زيد مَنَاة بن تَمِيم قَالَ فَكَانَ صَفْوَان هُوَ الَّذِي يُجِيز للنَّاس بِالْحَجِّ من عَرَفَة ثمَّ بنوه من بعده حَتَّى كَانَ آخِرهم الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ الْإِسْلَام هُوَ كرب بن صَفْوَان قَالَ أَوْس بن مغراء السَّعْدِيّ // (من الْبَسِيط) //
(لَا يبرح النّاس مَا حجّوا معرّفهم
…
حتّى يُقَال أجيزو آل صفوانا)
وَهَذَا الْبَيْت من قصيدة لَهُ يفخر فِيهَا وَأما الْإِجَازَة من الْمزْدَلِفَة فَكَانَت فِي عدوان فِيمَا حدث بِهِ زِيَاد بن عبد الله عَن مُحَمَّد بن إِسْحَاق يتوارثون ذَلِك كَابِرًا عَن كَابر حَتَّى كَانَ آخِرهم الَّذِي قَامَ عَلَيْهِ الْإِسْلَام أَبُو سيارة عميلة بن الأعزل فَفِيهِ يَقُول شَاعِر الْعَرَب // (من الرجز) //
(نَحن دفعنَا عَن أبي سيّاره
…
وَعَن موَالِيه بني فزاره)
(حتّى أجَاز سالما حِمَاره
…
مُسْتَقْبل الْقبْلَة يَدْعُو جَاره)
وَذكر الزبير بن بكار خبر الْإِجَازَة من الْمزْدَلِفَة فَأفَاد مَا لم يفده ابْن إِسْحَاق فَاقْتضى ذَلِك ذكرنَا لَهُ قَالَ بعد أَن ذكر خبر الْإِجَازَة من عَرَفَة قَالَ أَبُو عُبَيْدَة وَالْإِجَازَة الثَّانِيَة من جمع غَدَاة النَّحْر إِلَى منى وَكَانَ ذَلِك إِلَى بني زيد بن عدوان بن عَمْرو بن قيس عيلان بن مُضر وَكَانَ آخر من ولي ذَلِك مِنْهُم أَبُو سيارة عميلة بن الأعزل بن خَالِد بن سعد الْحَارِث وَكَانَ يُجِيز على حِمَاره قَالَ السُّهيْلي فَكَانَت لَهُ أتان عوراء خطامها من لِيف وَكَانَ يُقَال فِي الْمثل أصح من حمَار أبي سيارة قَالَ أَبُو الْحسن الْأَثْرَم قَالَ أَبُو عُبَيْدَة أَظُنهُ كَانَ سميناً وَقَالَ مُحَمَّد بن الْحسن عَاشَ حمَار أبي سيارة أَرْبَعِينَ سنة لَا يُصِيبهُ فِيهَا عرض فَقيل أصح من عير أبي سيارة قَالَ الزبير بن بكار حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر عَن عبد الْعَزِيز بن عمرَان قَالَ أَخْبرنِي عقال بن شيبَة قَالَ فَلم تزل الْإِجَازَة فِي صوفة حَتَّى أَخَذتهَا عدوان حَتَّى أَخَذتهَا قُرَيْش قلت هَذَا صَرِيح فِي خلاف مَا تقدم من أَن الْإِجَازَة من عَرَفَة فِي آل صوفة استمرت إِلَى آخر الْإِسْلَام وَكَانَ آخِرهم كرب بن صَفْوَان وَكَذَلِكَ الْإِجَازَة من مُزْدَلِفَة استمرت فِي عدوان حَتَّى كَانَ آخِرهم أَبَا سيارة عميلة بن الأعزل فَلَعَلَّ قَائِل هَذَا أَشَارَ إِلَى مَا وَقع لقصي من أَخذ ذَلِك من صوفة وعدوان ثمَّ ترك ذَلِك قصي لِأَنَّهُ كَانَ يرَاهُ ذَنبا فَتَركه وَذكر القَاضِي حَدثنِي أَحْمد بن سُلَيْمَان قَالَ حَدثنِي أَبُو زيد بن مبارك قَالَ حَدثنِي أَبُو ثَوْر عَن ابْن جريج قَالَ وَقَالَ مولى ابْن عَبَّاس كَانَت الحمس من عدوان يقومُونَ بِالْمُزْدَلِفَةِ حَتَّى يدفعوهم وَمن يعرف بِعَرَفَة من الْمزْدَلِفَة غَدَاة جمع وَكَانَ يدْفع بهم أَبُو سيارة على حمَار لَهُ عرى وَكَانَ يَقُول أشرق ثبير كَيْمَا نغير وَكَانَ كرب بن صَفْوَان يَأْخُذ بِالطَّرِيقِ فَلَا يفِيض أحد من عَرَفَات حَتَّى يُجِيز وَكَانُوا يقفون وَلَا يعْرفُونَ الْوُقُوف بهَا فيقيمون ويفتخرون بآبائهم وأفعالهم
ويسألون لدنياهم فَأنْزل الله {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ ابائكم أَو اشد ذكرا} الْآيَة الْبَقَرَة 200 فَإِذا غرب الشَّمْس سَار كرب بن صَفْوَان نَحْو جمع ويسيرون خَلفه لكَي حَيّ مجيز حَتَّى ياتوا الحمس فِي جَوف اللَّيْل بِالْمُزْدَلِفَةِ فيقفون مَعَهم وَقد أَخذ الطَّرِيق لَا يخرج أحد قبل طُلُوع الشَّمْس فَإِذا أَصْبحُوا قَامَ أَبُو سيارة عميلة بن الأعزل العدواني فَقَالَ أشرق ثبير كميا نغير قَالَ ذُو الْأصْبع العدواني واسْمه حرثان بن عَمْرو // (من الهزج) //
(عذير الحيّ من عدوان
…
كَانُوا حيّة الأَرْض)
(بغى بَعضهم ظلما
…
فَلم يرع على الْبَعْض)
(وَمِنْهُم كَانَت السادات
…
والموفون بالقرض)
(وَمِنْهُم من يُجِيز النَّاس
…
بِالسنةِ وَالْفَرْض)
وَأما سَبَب تَسْمِيَة الْغَوْث وبنيه بصوفة فِيمَا تقدم من قَوْله وَكَانَ يُقَال لَهُ ولبنيه صوفة فَذكر أَبُو عبد الله أَنه حَدثهُ أَبُو الْحسن الْأَثْرَم عَن هِشَام بن مُحَمَّد بن السَّائِب الْكَلْبِيّ قَالَ إِنَّمَا سمى الْغَوْث بن مر صوفة لِأَنَّهُ كَانَ لَا يعِيش لأمه ولد فنذرت بِهِ إِن عَاشَ لتعلقن بِرَأْسِهِ صوفة ولتجعلنه ربيطاً للكعبة فَفعلت فَقيل لَهُ صوفة ولولده من بعده وَهُوَ الربيط وَيُقَال سَبَب التَّسْمِيَة أَنَّهَا لما ربطته عِنْد الْبَيْت أَصَابَهُ الْحر فمرت بِهِ وَقد سقط وذوى واسترخى فَقَالَت مَا ضار ابْني إِلَّا صوفة وَالله أعلم أَيهمَا سَبَب التَّسْمِيَة وَيحْتَمل اجْتِمَاعهمَا وَيكون سَببه للسابق وَأما الحمس والحلة فَذكر خبرهم غير وَاحِد من أهل الْأَخْبَار مِنْهُم الزبير بن بكار فَإِنَّهُ قَالَ حَدثنِي إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر بن عبد الْعَزِيز بن عمرَان قَالَ الحمس قُرَيْش وكنانة وخزاعة وَمن وَلدته قُرَيْش خَاصَّة من الْعَرَب وَإِنَّمَا سموا الحمس بِالْكَعْبَةِ لِأَنَّهَا حمساء حجرها أَبيض يضْرب إِلَى السوَاد قَالَ وَكَانَت لَهَا سيرة كَانُوا لَا يأقطون أقطاً وَلَا يسلون سمناً وَلَا يبيعون دَارا وَلَا يقفون إِلَّا بِالْمُزْدَلِفَةِ وَلَا يطوفون بِالْبَيْتِ عُرَاة وَلَا يسكنون فِي بيُوت الشّعْر وَقَالَ غَيره كَانُوا يعظمون الشُّهُور الْحرم ويتعاطون الْحُقُوق ويدحرون عَن
الظُّلم وينصفون الْمَظْلُوم قَالَ وحَدثني مُحَمَّد بن فضَالة عَن مُبشر بن حَفْص عَن مُجَاهِد قَالَ الحمس قُرَيْش وَبَنُو عَامر بن صعصعة وَثَقِيف وخزاعة ومدلج وعدوان والْحَارث بن عبد مَنَاة وعضل أَتبَاع قُرَيْش وَسَائِر الْعَرَب حلَّة قَالَ وحدنثي مُحَمَّد بن حسن عَن مُحَمَّد بن طَلْحَة عَن مُوسَى بن مُحَمَّد عَن أَبِيه قَالَ لم تكن الحمس بِحلف وَلكنه دين شرعته قُرَيْش وَأَجْمعُوا عَلَيْهِ وَكَانَت الْحلَّة لَا تَطوف فِي حَجهَا إِلَّا فِي ثِيَاب جدد أَو ثِيَاب أهل الله سكان الْحرم ويكرهون أَن يطوفوا فِي ثِيَاب عملت فِيهَا الْمعاصِي فَمن لم يجد طَاف عُريَانا وَمن طَاف من الْحلَّة فِي ثِيَابه أَلْقَاهَا فَإِذا فرغ فَلم ينْتَفع بهَا وَلَا غَيره حَتَّى تبلى وَكَانَت الْمَرْأَة تَطوف عَارِية وتضع كفها على هنها ثمَّ تَقول // (من الرجز) //
(أليوم يَبْدُو بعضه أَو كلّه
…
وَمَا بدا مِنْهُ فَلَا أُحلّه)
قَالَ وَكَانَت الحمس تَطوف فِي ثِيَابهَا وَكَانَت الْحلَّة تخرج إِلَى عَرَفَات وتراه موقفا ومنسكا وَكَانَ موقفها بالْعَشي دون الأنصاب وَمن آخر اللَّيْل مَعَ النَّاس بقزح من الْمزْدَلِفَة وَكَانَ بعض الْحلَّة لَا يرى الصَّفَا والمروى وَبَعْضهمْ يَرَاهَا وَكَانَ الَّذين يرونها خندف وَسَائِر الْحلَّة لَا يرونها فَلَمَّا جَاءَ الله بِالْإِسْلَامِ أَمر الله الحمس أَن يقفوا بِعَرَفَة مَعَ الْحلَّة وَأَن يفيضوا من حَيْثُ أَفَاضَ النَّاس مِنْهَا مَعَ الْحلَّة وَأمر الْحلَّة أَن يطوفوا بَين الصَّفَا والمروة وَقَالَ {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ من شَعَائِر الله} الْآيَة الْبَقر 158 وَذَلِكَ أَن نَاسا قَالُوا مَا كَانَ أهل الْجَاهِلِيَّة مِمَّن يطوف بهما يطوف باساف ونمائلة وَكَانَ إساف على الصَّفَا ونائلة على الْمَرْوَة فأعلمهم الله عز وجل أَنَّهُمَا مشْعر انْتهى وَقيل سَبَب تسميتهم بالحمس غير مَا ذكر وَهُوَ أَنهم إِنَّمَا سموا حمساً لشجاعتهم والحماسة الشجَاعَة وَقيل سَبَب التَّسْمِيَة بذلك لشدتهم فِي دينهم والأحمس المشتدد فِي دينه وَأما الطلس فهم طَائِفَة من الْعَرَب تَطوف بِالْبَيْتِ على صفة تخْتَص بهَا ذكرهم السُّهيْلي فَقَالَ بعد أَن ذكر شَيْئا فِي خبر الحمس والحلة وَكَانُوا يأْتونَ من أقْصَى
أرسل إِلَى أَصْحَاب الرس قوم ابْتَلَاهُم الله تَعَالَى بطير عَظِيم لَهَا عنق طَوِيل من أحسن الطُّيُور كَانَ فِيهَا من كل لون فسميت العنقاء لطول عُنُقهَا وَلِأَنَّهَا تغرب بِكُل مَا خطفته فانقضت على جَارِيَة وضمتها بَين جناحين لَهَا صغيرين غير الجناحين الكبيرين ثمَّ ذهبت بهَا فضربتها الْعَرَب مثلا فَقَالُوا طارت بِهِ عنقاء مغرب فشكوا ذَلِك إِلَى نَبِيّهم حَنْظَلَة بن صَفْوَان فَدَعَا عَلَيْهَا فأصابتها الصاعقة فأهلكتها ثمَّ إِنَّهُم قتلوا نَبِيّهم حَنْظَلَة لما قدم يَدعُوهُم إِلَى الله تَعَالَى فَأوحى الله تَعَالَى إِلَى نَبِي من الأسباط يَأْمر بخت نصر أَن يسير إِلَيْهِم فَأتى عَلَيْهِم فَذَلِك قَوْله تَعَالَى {فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا إِذَا هُم مِنْهَا يَرْكُضُونَ لَا تَرْكُضُواْ وَارْجِعُواْ إِلَى مَا أترفتم فِيهِ ومساكنكم لَعَلَّكُمْ تسئلون قَالُوا يَا ويلتنا إِنَّا كُنَّا ظالمين فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعوَاهُم حَتَّى جعلناهم حصيدا خامدين} الْأَنْبِيَاء 13 - 15 وَمن أَصْحَاب الفترة أسعد بن كرب الْحِمْيَرِي كَانَ مُؤمنا بِالنَّبِيِّ قبل مبعثه بسبعمائة سنة فَقَالَ // (من المتقارب) //
(شهدتّ على أحمدٍ أنّه
…
رسولٌ من الله باري النّسم)
(فَلَو مدّ عمري إِلَى عمره
…
لَكُنْت وزيراً لَهُ وَابْن عَم)
وَهُوَ أول من كسا الْكَعْبَة الأنطاع والبرود وَمِنْهُم قس بن سَاعِدَة الْإِيَادِي وَكَانَ حَكِيم الْعَرَب قَالَ الْأَعْشَى // (من الطَّوِيل) //
(واحكم من قيس وَأَجرا من الّذي
…
لَدَى الْفِيل من خفان أصبح جاذرا)
قدم على رَسُول الله
وَفد من إياد وسألهم عَنهُ فَقَالُوا هلك فَقَالَ رحمه الله كَأَنِّي أنظر إِلَيْهِ بسوق عكاظ على جمل أَحْمَر وَهُوَ يَقُول يأيها النَّاس اجْتَمعُوا واسمعوا وعوا من عَاشَ مَاتَ وَمن مَاتَ فَاتَ وكل مَا هُوَ آتٍ آتٍ أما بعد فَإِن فِي السَّمَاء لخبراً وَإِن فِي الأَرْض لعبراً نُجُوم تمور وبحار لَا تغور وسقف مَرْفُوع ومهاد مَوْضُوع أقسم بِاللَّه قس بن سَاعِدَة قسم حَقًا