الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الْبَاب الثَّانِي من الْمَقْصد الثَّانِي)
(فِي ذكر هجرته إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة)
قَالَ أهل السّير لما وَقعت الْبيعَة الأولى بِالْعقبَةِ وَكَانَ المبايع لَهُ فِيهَا سِتَّة أَنْفَار من الْأَنْصَار وَقيل اثْنَان أسعد بن زُرَارَة وذكوان بن عبد الْقَيْس ثمَّ الثَّانِيَة فَلَقِيَهُ فِيهَا اثْنَا عشر رجلا فيهم خَمْسَة من السِّتَّة الْأَوَّلين وهم أَبُو أُمَامَة أسعد بن زُرَارَة وعَوْف بن عفراء وَرَافِع بن مَالك وَقُطْبَة بن عَارِم بن حَدِيدَة وَعقبَة بن عَامر بن نابي وَلم يكن فيهم جَابر بن عبد الله بن رِئَاب فَلم يحضرها وَأما السَّبْعَة تَمام الاثنى عشر وهم معَاذ بن الْحَارِث بن رِفَاعَة وَهُوَ ابْن عفراء أَخُو عَوْف الْمَذْكُور وذكوان بن عبد الْقَيْس الزرقي وَقيل إِنَّه دخل إِلَى رَسُول الله
إِلَى مَكَّة فسكنها مَعَه فَهُوَ مُهَاجِرِي أَنْصَارِي قتل يَوْم أحد وَعبادَة بن الصَّامِت بن قيس وابو عبد الرَّحْمَن بن ثَعْلَبَة البلوي وَالْعَبَّاس بن عبَادَة بن نَضْلَة وَهَؤُلَاء من الْخَزْرَج وَمن الْأَوْس رجلَانِ أَبُو الْهَيْثَم بن التيهَان من بني عبد الْأَشْهَل وعويم بن سَاعِدَة فأسلموا وَبَايَعُوا ثمَّ لما وَقعت فِي ذِي الْحجَّة من السّنة الثَّالِثَة عشرَة من النُّبُوَّة قبل الْهِجْرَة بِثَلَاثَة أشهر بيعَة الْعقبَة الْكُبْرَى الثَّالِثَة قدم مَكَّة فِي موسم الْحَج قريب من خَمْسمِائَة نفر وَفِي رِوَايَة ثَلَاثمِائَة نفر من الْأَوْس والخزرج وَخرج مَعَهم مُصعب بن عُمَيْر إِلَى مَكَّة اتّفق مِنْهُم سَبْعُونَ رجلا قَالَ ابْن إِسْحَاق ثَلَاثَة وَسَبْعُونَ نفسا لاقوا رَسُول الله
فدعوهم إِن يحضروا القعبة فِي اللَّيْلَة الثَّانِيَة من ليَالِي التَّشْرِيق فَكَانَت تِلْكَ اللَّيْلَة هِيَ لَيْلَة الْعقبَة الْكُبْرَى الثاثة وَهِي مَعْرُوفَة مبينَة
قَالَ فِي الوفا لما أبرم عقد الْمُبَايعَة بَين النَّبِي
وَبَين أهل الْمَدِينَة وَلم يقدر أَصْحَابه أَن يقيموا بِمَكَّة من أَذَى الْمُشْركين وَلم يصبروا على جفوتهم رخص لَهُم فِي الْهِجْرَة إِلَى الْمَدِينَة فَتوجه مُصعب بن عُمَيْر إِلَى الْمَدِينَة ليفقه من أسلم من الْأَنْصَار ثمَّ توالى خُرُوجهمْ بعد الْعقبَة الْأَخِيرَة هَذِه فَخَرجُوا أَرْسَالًا مِنْهُم عمر ابْن الْخطاب وَأَخُوهُ زيد بن لخطاب وَطَلْحَة بن عبيد الله وصهيب وَحَمْزَة وَزيد بن حَارِثَة وَعبيدَة بن الْحَارِث وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَالزُّبَيْر بن الْعَوام وَعُثْمَان بن عَفَّان وَغَيرهم وَلم يبْق مَعَه
إِلَّا أَبُو بكر الصّديق وَعلي بن أبي طَالب ذكره ابْن إِسْحَاق وَغَيره وَفِي صَحِيح البُخَارِيّ تجهز أَبُو بكر الصّديق قبل الْمَدِينَة فَقَالَ لَهُ رَسُول الله
على رسلك فَإِنِّي أَرْجُو أَن يُؤذن لي فَقَالَ لَهُ أَبُو بكر وَهل وَهل ترجو ذَلِك بِأبي أَنْت وَأمي قَالَ نعم فحبس أَبُو بكر نَفسه على رَسُول الله
ليصحبه وعلف راحلتين كَانَتَا عِنْده ودق السمر وَهُوَ الْخبط أَرْبَعَة اشهر ليسمنا وينتظره
مَتى يُؤمر بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَة فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْش إِن اصحاب الرَّسُول
أَصَابُوا مَنْعَة وأصحاباً بِغَيْر دِيَارهمْ ووجدوا مُهَاجرا قَرِيبا يهاجرون إِلَيْهِ عرفُوا أَنه قد عزم أَن يحلق بهم وسيحميه المدنيون فخافوا خُرُوجه إِلَيْهِم وحذورا تفاقم أمره فَاجْتمعُوا بدار الندوة للمشاورة وَقَالَ ابْن دُرَيْد فِي الوشاح إِنَّهُم كَانُوا خَمْسَة عشر رجلا وَقَالَ ابْن دحْيَة كَانُوا مائَة وَلما قعدوا للتشاور تبدى لَهُم إِبْلِيس فِي صُورَة شيخ نجدي لأَنهم قَالُوا لَا يدخلن عَلَيْكُم أحد من تهَامَة لِأَن أهواءهم مَعَ مُحَمَّد فَلذَلِك تمثل اللعين فِي صُورَة شيخ نجدي فَدخل فَقَالُوا لَهُ من أدْخلك خلوتنا بِغَيْر إذننا قَالَ أَنا شيخ من قَبيلَة نجد وجدت وُجُوهكُم مليحة ورائحتكم طيبَة أردْت أَن أسمع كلامكم وأقتبس مِنْهُ شَيْئا وَلَقَد أعرف مقصودكم وَإِن كُنْتُم تَكْرَهُونَ جلوسي عنْدكُمْ خرجت فَقَالَت قُرَيْش رجل نجدي لَا يضركم حُضُوره فَقَالَ بَعضهم لبَعض إِن مُحَمَّدًا قد كَانَ من أمره مَا علمْتُم وَأَنا وَالله لَا نَأْمَن مِنْهُ الْوُثُوب علينا بِمن اتَّبعُوهُ فَأَجْمعُوا فِيهِ رَأيا فَقَالَ أَبُو البخْترِي بن هِشَام أرى أَن
تَحْبِسُوهُ وتشدوا وثَاقه فِي بَيت مَا لبابه غير كوَّة تلقونَ إِلَيْهِ طَعَامه وَشَرَابه مِنْهَا وتربصوا بِهِ ريب الْمنون حَتَّى يهْلك كَمَا هلك الشُّعَرَاء من قبله كزهير والنابغة فَصَرَخَ الشَّيْخ وَقَالَ بئس الرَّأْي رَأَيْتُمْ وَالله لَو حبستموه لخرج أمه من وَرَاء الْبَاب إِلَى أَصْحَابه فَوَثَبُوا وانتزعوه من أَيْدِيكُم قَالُوا صدق الشَّيْخ وَقَالَ هِشَام بن عَمْرو أرى أَن تَحملُوهُ على جمل وتخرجوه من بَين أظْهركُم فَلَا يضركم مَا صنع وَاسْتَرَحْتُمْ مِنْهُ فَقَالَ الشَّيْخ النجدي وَالله مَا هَذَا لكم بِرَأْي ألم تروا حسن حيدثه وحلاوة مَنْطِقه وغلبته على قُلُوب الرِّجَال بِمَا أَتَى بِهِ فوَاللَّه لَو فَعلْتُمْ ذَلِك مَا أمنتم أَن ينزل على حَيّ من أَحيَاء الْعَرَب فيغلب عَلَيْهِم بذلك من قَوْله وَحَدِيثه حَتَّى يبايعوه ثمَّ يسير بهم حَتَّى يطأكم فَقَالُوا صدق وَالله الشَّيْخ فَقَالَ أَبُو جهل لَعنه الله وَالله إِن لي فِيهِ لرأياً لَا أَرَاكُم وَقَعْتُمْ عَلَيْهِ بعد قَالُوا وَمَا هُوَ يَا أَبَا الحكم قَالَ رَأْي أَن تَأْخُذُوا من كل قَبيلَة شَابًّا جلدا نسيما وَسِيطًا فِينَا ثمَّ نعطي كل فَتى سَيْفا صَارِمًا ثمَّ يَعْمِدُونَ إِلَيْهِ فَيَضْرِبُونَهُ ضَرْبَة رجل وَاحِد فيقتلونه فنستريح مِنْهُ فَإِنَّكُم إِن فَعلْتُمْ ذَلِك تفرق دَمه فِي الْقَبَائِل كلهَا فَلَا يقدر بَنو عبد منَاف على حَرْب قَومهمْ جَمِيعًا فَإِن رَضوا منا بِالْعقلِ عَقَلْنَاهُ لَهُم فَقَالَ الشَّيْخ النجدي القَوْل مَا قَالَ هَذَا الرجل هُوَ أَجودكُم رَأيا لَا أرى لكم غَيره قَالَ ابْن إِسْحَاق وَكَانَ فِيمَا أنزل الله فِي ذَلِك قَوْله {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ويمكرون ويمكر الله وَالله خير الماكرين} الْأَنْفَال 30 وَقَوله عز وجل {أًمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نتربص بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} الطّور 30 قَالَ ابْن هِشَام الْمنون الْمَوْت وريبها مَا يريب ويعرض مِنْهَا قَالَ أَبُو ذُؤَيْب الْهُذلِيّ فِي مرثيته لِبَنِيهِ الثَّمَانِية الَّتِي مطْلعهَا // (من الْكَامِل) //
(أَمن الْمنون وريبها تتفجّع
…
والدّهر لَيْسَ بمعتبٍ من يجزع)
وَلما اسْتَقر رَأْي قُرَيْش على قتل النَّبِي
بعد الْمُشَاورَة جَاءَهُ جِبْرِيل وَأخْبرهُ بذلك وَقَالَ لَا تبت هَذِه اللَّيْلَة على فراشك وَأذن الله لَهُ عِنْد ذَلِك بِالْخرُوجِ وَلما أمره بذلك سَأَلَ عَمَّن يُهَاجر مَعَه فَقَالَ أَبُو بكر الصّديق وَعَن ابْن عَبَّاس أَن الله لما أذن لنَبيه بِالْهِجْرَةِ خاطبه بِهَذِهِ الْآيَة {وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صدق وَاجعَل لي من لَدُنْك سُلْطَانا نَّصِيراً} الْإِسْرَاء 80 الْآيَة أخرجه التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ هُوَ وَالْحَاكِم كَذَا فِي الْوَفَاء والمواهب وَفِي الْعُمْدَة أَمر أَن يَقُول ذَلِك عِنْد الْهِجْرَة وَكَانَ أَبُو بكر حِين اسْتَأْذن رَسُول الله
فِي الْهِجْرَة قَالَ لَهُ لَا تعجل لَعَلَّ الله يَجْعَل لَك صاحبا فطمع أَبُو بكر أَن رَسُول الله إِنَّمَا يَعْنِي نَفسه فَابْتَاعَ راحلتين فحبسهما يعلفهما كَمَا تقدم ذكر ذَلِك وَعَن عُرْوَة عَن عَائِشَة أم الْمُؤمنِينَ كَانَ النَّبِي
لَا يخطيء أَن يَأْتِي بَيت أبي بكر طرفِي النَّهَار إِمَّا بكرَة أَو عَشِيَّة حَتَّى إِذا كَانَ يَوْم أذن لَهُ فِي الْهِجْرَة أَتَانَا رَسُول الله
بالمهاجرة فِي سَاعَة كَانَ لَا يَأْتِي فِيهَا قلت فَلَمَّا رَآهُ أَبُو بكر قَالَ مَا جَاءَ بِهِ عليه الصلاة والسلام فِي هَذِه السَّاعَة إِلَّا لأمر حدث فَلَمَّا حضر تَأَخّر لَهُ أَبُو بكر عَن سَرِيره فَجَلَسَ عليه الصلاة والسلام وَلَيْسَ عِنْد أبي بكر إِلَّا أَنا وأختي أَسمَاء فَقَالَ عليه الصلاة والسلام أخرج عني من عنْدك فَقَالَ إِنَّمَا هما ابنتاي وَفِي رِوَايَة إِنَّمَا فِي الْبَيْت أهلك وَأُخْتهَا لِأَنَّهَا كَانَت معقودا علها مِنْهُ
فَقَالَ إِن الله قد أذن لي فِي الْهِجْرَة فَقَالَ أَبُو بكر الصُّحْبَة يَا رَسُول الله قَالَ نعم قَالَت عَائِشَة رَأَيْت أبي يبكي من الْفَرح وَمَا كنت أَظن أحدا يبكي من الْفَرح فَقَالَ أَبُو بكر فَخذ إِحْدَى رَاحِلَتي هَاتين فَقَالَ رَسُول الله
لَا إِلَّا بِالثّمن فَقَالَ أَبُو بكر بِالثّمن وَكَانَ ثمنهَا ثَمَانمِائَة دِرْهَم قَالَ ابْن سعد وَعَاشَتْ إِلَى زمن خلَافَة أبي بكر وَكَانَت مُرْسلَة ترعى بِالبَقِيعِ وَهِي الجدعاء قَالَه ابْن إِسْحَاق وَقَالَ إِنَّهَا من نعم بني الجريش قَالَت عَائِشَة فجهزناهما أحب الجهاز ووضعنا لَهما سفرة فِي جراب فَقطعت
أَسمَاء بنت أبي بكر قِطْعَة من نطاقها فَربطت بهَا فَم الجراب وبالقطعة الْأُخْرَى فَم السقاء فَلذَلِك سميت ذَات النطاقين رَوَاهُ البُخَارِيّ قَالَ ابْن إِسْحَاق واستأجر أَبُو بكر من بني الديل هادياً خريتاً يُقَال لَهُ عبد الله بن الْأُرَيْقِط وَكَانَ مُشْركًا أَو قَالَ على دين الْكفَّار فَأَمنهُ وَدفع إِلَيْهِ الراحلتين وواعده غَار ثَوْر بعد ثَلَاث وَأمر أَبُو بكر مَوْلَاهُ عَامر بن فهَيْرَة وَكَانَ رَاعيا لأغنام حول جبل ثَوْر أَن يخرج عَلَيْهَا الْغنم بعد هزيع من اللَّيْل وَأمر ابْنه عبد الله بن أبي بكر أَن يستمع مَا يَقُول النَّاس فيهمَا نَهَارا ويأتيهما بذلك إِذا أَمْسَى لَيْلًا فيخبرهما بِمَا كَانَ فِي ذَلِك الْيَوْم من الْخَبَر وَكَانَ يفعل ذَلِك وَفِي أنوار التَّنْزِيل الْغَار ثقب فِي أَعلَى ثَوْر وثور جبل قَالَ فِي الْقَامُوس يُقَال ثَوْر نِسْبَة إِلَى ثَوْر بن عبد مَنَاة نسب الْجَبَل إِلَيْهِ قَالَ ابْن جُبَير فِي رحلته جبل ثَوْر من مَكَّة على ثَلَاثَة أَمْيَال وَفِي بعض كتب اللُّغَة ثَوْر أَبُو قَبيلَة من مُضر هُوَ ثَوْر بن عبد مَنَاة بن أد بن طابخة وهم رَهْط سُفْيَان الثَّوْريّ رضي الله عنه نسب إِلَيْهِ الْجَبَل وَفِيه الْغَار الْمَذْكُور فِي الْقُرْآن الْعَظِيم الَّذِي دخله النَّبِي
مَعَ أبي بكر وَيُقَال لَهُ ثَوْر أطحل وَقَالَ بَعضهم اسْم الْجَبَل أطحل وَالْبَحْر يرى من أَعلَى هَذَا الْجَبَل وَفِيه من كل نَبَات الْحجاز وَفِيه ألبان وَفِيه شَجَرَة من حمل مِنْهَا شَيْئا لم تلدغه الهامة وَلما كَانَت الْعَتَمَة من تِلْكَ اللَّيْلَة اجْتمع الْمُشْركُونَ بِمَكَّة على بَاب النَّبِي
ثمَّ ترصدوه حَتَّى ينَام فيثبون عَلَيْهِ فيقتلونه وَفِي الوفا اجْتمعت قُرَيْش إِلَى بَاب الدَّار فَقَالَ أَبُو جهل لَا تقتلوه حَتَّى يجتمعوا يَعْنِي الْخَمْسَة من الْخمس الْقَبَائِل وَجعل يَقُول لَهُم هَذَا مُحَمَّد يزْعم إِن بايعتموه غلبتم الْعَرَب والعجم وَيكون لكم فِي الْآخِرَة جنَّات تَأْكُلُونَ مِنْهَا وَإِن لم تبايعوه يكون لكم ذبح فِي الدُّنْيَا وَيَوْم الْقِيَامَة نَار تحرقون فِيهَا فَقَالَ رَسُول الله
نعم كَذَا أَقُول وَكَذَا يكون وَأَنت أحدهم فَلَمَّا رأى رَسُول الله
اجْتِمَاعهم ومكانهم قَالَ لعَلي نم على فِرَاشِي
واتشح بردائي الْحَضْرَمِيّ الْأَخْضَر فَإِنَّهُ لَا يخلص إِلَيْك شَيْء تكرههُ مِنْهُم فَرد هَذِه الودائع إِلَى أَهلهَا وَكَانَت الودائع تودع عِنْده
لصدقة وأمانته فَبَاتَ عَليّ كرم الله وَجهه على فرَاش النَّبِي
وَخرج رَسُول الله
إِلَى الْغَار وَلما خرج قَامَ على رُءُوسهم وَقد ضرب الله على أَبْصَارهم وَنزل تِلْكَ اللَّيْلَة أول سُورَة يس فَأخذ قَبْضَة من تُرَاب وَجعل ينثر على رُءُوس الْقَوْم وَهُوَ يقْرَأ {إِنَّا جعلنَا فِي أَعْنَاقهم أغلالا فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ وَجَعَلَنَا مِن بَين أَيْديهم سدا وَمن خَلفهم سدا فأغشيناهم فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} يس 8 9 وتلا {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالأَخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً} الْإِسْرَاء 45 ثمَّ أَتَى منزل أبي بكر ثمَّ خرجا من خوخة كَانَت لَهُ فِي ظهر الْبَيْت وَعمد إِلَى غَار ثَوْر وَلم يعلم بخروجهما إِلَّا على وَآل أبي بكر وَأقَام الْمُشْركُونَ سَاعَة فَجعلُوا يتحدثون فَأَتَاهُم آتٍ فَقَالَ مَا تنتظرون قَالُوا أَن نصبح فنقتل مُحَمَّدًا قَالَ قبحكم الله وخيبكم أَو لَيْسَ قد خرج عَلَيْكُم وَجعل على رءوسكم التُّرَاب قَالَ أَبُو جهل أَو لَيْسَ هُوَ ذَاك مسجى بِبرْدِهِ الْآن كلمنا وَذكر أهل السِّيرَة أَن السَّبَب الْمَانِع لَهُم من التقحم عَلَيْهِ فِي الدَّار مَعَ قصر الدَّار وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا جَاءُوا لقَتله هُوَ انهم لما همموا بالولوج عَلَيْهِ صاحت امْرَأَة من الدَّار فَقَالَ بَعضهم لبَعض وَالله إِنَّهَا لسبة فِي الْعَرَب أَن يتحدث عَنَّا أَنا تسورنا الْحِيطَان على بَنَات الْعم وهتكنا ستر حرمتنا فَهَذَا الَّذِي أقامهم حَتَّى أَصْبحُوا ينتظرون خُرُوجه ثمَّ طمست أَبْصَارهم عِنْد خُرُوجه فَلَمَّا أَصْبحُوا قَامَ عَليّ من الْفراش فَلَمَّا رَآهُ أَبُو جهل قَالَ صدقنا ذَلِك الْمخبر فاجتمعت قُرَيْش وَأخذت الطّرق وَجعلت الجعائل لمن جَاءَ بِهِ وانصرفت عيونهم فَلم يَجدوا شَيْئا وَفِي رِوَايَة لما قَامَ عَليّ من الْفراش قَالُوا لَهُ أَيْن صَاحبك فَقَالَ لَا علم لي قيل إِنَّهُم ضربوا عليا وحبسوه سَاعَة ثمَّ تَرَكُوهُ وَاقْتَصُّوا أثر النَّبِي
فَلَمَّا بلغُوا الْجَبَل اخْتَلَط عَلَيْهِم روى أَنه لم يبْق أحد من الَّذين وضع على رُءُوسهم التُّرَاب إِلَّا قتل يَوْم بدر
وَأَنْشَأَ عَليّ رضي الله عنه يَقُول هَذِه الأبيات // (من الطَّوِيل) //
(وقيت بنفسي خير من وطيء الثّرى
…
فنجّاه ذُو الطّول الْإِلَه من الْمَكْر)
(وقيت بنفسي خير من وطيء الثّرى
…
وَمن طَاف بِالْبَيْتِ الْعَتِيق وبالحجر)
(رَسُول إلهٍ خَافَ أَن يَمْكُرُوا بِهِ
…
فنجّاه ذُو الطّول الْإِلَه من الْمَكْر)
(وَبَات رَسُول الله فِي الْغَار آمنا
…
موقّىً وَفِي حفظ الْإِلَه وَفِي ستر)
(وبتّ أُراعيهم وَمَا يثبتونني
…
وَقد وطنت نَفسِي على الْقَتْل والأسر)
قَالَ الْفَقِير إِلَى الله تَعَالَى وَقد سَمِعت بِأَبْيَات أَرْبَعَة فِي مثل معنى هَذِه الأبيات الْأَرْبَعَة وَزِيَادَة لبَعض الْفُضَلَاء وَهِي // (من الْكَامِل) //
(أمجادلي فِيمَن رويت صِفَاته
…
عَن هَلْ أَتَى وشرفن من أَوْصَاف)
(أتظنّ تَأْخِير الإِمَام نقيصةً
…
والنّقص فِي الْأَطْرَاف لَا الْأَشْرَاف)
(زوج البتول ووالد السّبطين والفادي
…
النّبي ونجل عبد منَاف)
(أَو مَا ترى أنّ الْكَوَاكِب سبعةٌ
…
والشّمس رابعةٌ بِغَيْر خلاف)
وَقَوله فِي الْبَيْت الأول هَل أَتَى أَرَادَ بِهِ مَا روى التِّرْمِذِيّ أَنه رضي الله عنه كَانَ عِنْده سِتَّة أرغفة يُرِيد بهَا الْعشَاء مَعَ زَوجته وولديه وخادمه فَوقف عَلَيْهِ سَائل وَكَانَ رضي الله عنه وَمن ذكر طاوين يَوْمًا وَلَيْلَة وَيَوْما فورد عَلَيْهِ سَائل فَقَالَ مِسْكين مِسْكين فَدفع إِلَيْهِ كرم الله وَجهه السِّتَّة الأرغفة وطوى وَمن مَعَه ثمَّ وجد مثلهَا فجَاء عِنْد اللَّيْل سَائل فَوقف قَلِيلا يَتِيم مُنْقَطع يَتِيم فَأعْطَاهُ إِيَّاهَا وطوى وَمن مَعَه ثمَّ وجد مثلهَا فَجَاءَهُ عِنْد اللَّيْل سَائل فَوقف قَائِلا أَسِير أَسِير فَأعْطَاهُ إِيَّاهَا فَأنْزل الله فِي شَأْنه الْآيَات فِي سُورَة {هَل أَتَى على الْإِنْسَان حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمّ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} الْإِنْسَان 1 إِلَى قَوْله {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبّهِ مِسْكِيناً وَيَتيِماً وَأَسِيراً} الْإِنْسَان 8 أخرج هَذِه الْقِصَّة غير وَاحِد من الْمُحدثين وَإِن ضعفها بعض النقاد انْتهى قَالَ الْغَزالِيّ فِي الْإِحْيَاء إِن لَيْلَة بَات عَليّ بن أبي طَالب على فرَاش النَّبِي
أوحى الله إِلَى جِبْرِيل وَمِيكَائِيل إِنِّي قد آخيت بَيْنكُمَا وَجعلت عمر أَحَدكُمَا أطول من الآخر فأيكما يُؤثر صَاحبه بِالْحَيَاةِ فَاخْتَارَ كل مِنْهُمَا الْحَيَاة فَأوحى الله إِلَيْهِمَا أَفلا كنتما مثل عَليّ بن أبي طَالب آخيت بَينه وَبَين مُحَمَّد فَبَاتَ على فرَاشه يفْدِيه بِنَفسِهِ ويؤثره بِالْحَيَاةِ اهبطا إِلَى الأَرْض فاحفظاه من عدوه فَكَانَ جِبْرِيل عِنْد رَأسه وَمِيكَائِيل عِنْد رجلَيْهِ يُنَادي بخ بخ من مثلك ياابن أبي طَالب يباهي بك الله مَلَائكَته فَأنْزل الله تَعَالَى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مرضات الله وَالله رءوف بالعباد} الْبَقَرَة 207 وَلما سَار النَّبِي
وَمَعَهُ أَبُو بكر إِلَى الْغَار جعل أَبُو بكر يمشي سَاعَة بَين يَدي رَسُول الله
وَسَاعَة خَلفه فَقَالَ رَسُول الله
مَا بالك يَا أَبَا بكر تفعل ذَلِك فَقَالَ أذكر الطّلب فأمشي خَلفك ثمَّ أذكر الرصد فأمشي أمامك وروى عَن أبي بكر أَنه قَالَ لعَائِشَة لَو رَأَيْتنِي وَرَسُول الله
إِذْ صعدنا الْجَبَل فَأَما قدما رَسُول الله
فقطرتا دَمًا وَأما قَدَمَايَ فعادتا كَأَنَّهُمَا صَفْوَان فَقَالَت عَائِشَة إِن رَسُول الله
لم يتعود الحفاء وَفِي معالم التَّنْزِيل لما وصل إِلَى فَم الْغَار قَالَ أَبُو بكر يَا رَسُول الله مَكَانك حَتَّى استبريء لَك الْغَار وَكَانَ الْغَار مَشْهُورا بِكَوْنِهِ سكن الْهَوَام قَالَ ادخل فَدخل فَرَأى غاراً مظلماً فَجَلَسَ مِنْهُمَا يلمس بِيَدِهِ كلما وجد جحراً شقّ ثَوْبه فألقمه إِيَّاه حَتَّى فعل ذَلِك بِثَوْبِهِ كُله فَبَقيَ جُحر ألقمه عقبه وَفِي الرياض النضرة فَجعل الأفاعي والحيات يضربنه وعَلى كلا التَّقْدِيرَيْنِ لدغته الْحَيَّة تِلْكَ اللَّيْلَة قَالَ أَبُو بكر قد كَانَت اللدغة أحب إِلَيّ من أَن يلْدغ رَسُول الله
ثمَّ قَالَ أَبُو بكر ادخل يَا رَسُول الله فَإِنِّي قد بوأت لَك مَكَانا فَدخل فاضطجع وَأما أَبُو بكر فَكَانَ متألماً من لدغة الْحَيَّة فَلَمَّا اصبحا رأى النَّبِي
على أبي بكر أثر الورم فَسَأَلَهُ عَنهُ فَقَالَ من لدغة الْحَيَّة فَقَالَ هلا أَخْبَرتنِي فَقَالَ كرهت إِن اوقظك فمسحه النَّبِي
فَذهب مَا بِهِ من الورم والألم ثمَّ قَالَ فَأَيْنَ ثَوْبك فَأخْبرهُ بِمَا فعل فَعِنْدَ ذَلِك رفع النَّبِي
يَدَيْهِ وَقَالَ اللَّهُمَّ اجْعَل أَبَا بكر معي فِي درجتي يَوْم الْقِيَامَة
قلت نظرت إِلَى بعض غلاة الروافض فَإِذا هُوَ لابس طاقية لباد وَقد خاط عَلَيْهَا مِمَّا يَلِي ناصيته التعيسة خرقَة زرقاء فِي طول وَعرض الْخِنْصر فَأخْبرت أَن فرقة مِنْهُم تعْمل ذَلِك حبا للحية وشكراً لَهَا لما فعلت فِي الصّديق رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يعْتَقد ذَلِك عملا صَالحا يُثَاب عَلَيْهِ أَخْزَاهُ الله فِي ديناه وأخراه وَعَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ كَانَ أَبُو بكر مَعَ النَّبِي
فِي الْغَار فعطش عطشاً شَدِيدا فَشَكا ذَلِك إِلَى النَّبِي
فَقَالَ لَهُ النَّبِي
اذْهَبْ إِلَى صدر الْغَار فَاشْرَبْ قَالَ أَبُو بكر فَانْطَلَقت إِلَى صدر الْغَار فَشَرِبت مَاء أحلى من الْعَسَل وأبيض من اللَّبن وأذكى رَائِحَة من الْمسك ثمَّ عدت إِلَى النَّبِي
فَقَالَ شربت قلت نعم قَالَ أَلا أُبَشِّرك يَا أَبَا بكر قلت بلَى يَا رَسُول الله فَقَالَ إِن الله تبارك وتعالى أَمر الْملك الْمُوكل بأنهار الْجنَّة أَن اخرق نَهرا من جنَّة الفردوس إِلَى صدر الْغَار ليشْرب أَبُو بكر فَقلت يَا رَسُول الله ولي عِنْد الله هَذِه الْمنزلَة فَقَالَ النَّبِي
نعم وَأفضل وَالَّذِي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لَا يدْخل الْجنَّة مبغضك وَلَو كَانَ لَهُ عمل سبعين نَبيا أخرجه الملا فِي سيرته كَذَا فِي الرياض النضرة للمحب الطَّبَرِيّ قَالَ السُّهيْلي فِي الرَّوْض الْأنف ورد فِي الصَّحِيح عَن أنس بن مَالك رضي الله عنه قَالَ قَالَ أَبُو بكر لرَسُول الله
وهما فِي الْغَار لَو أَن أحدهم نظر إِلَى قَدَمَيْهِ لرآنا فَقَالَ رَسُول الله
يَا أَبَا بكر مَا ظَنك بِاثْنَيْنِ الله ثالثهما وَرُوِيَ أَيْضا أَنهم لما انْتَهوا إِلَى بَاب الْغَار وَقد أنبت الله عَلَيْهِ شَجَرَة الرَّاء كَمَا سَيَأْتِي رأى أَبُو بكر الْقَافة فَاشْتَدَّ حزنة على رَسُول الله
وَقَالَ إِن قتلت فَإِنَّمَا أَنا رجل من قُرَيْش وَإِن قتلت أَنْت هَلَكت الْأمة فَعندهَا قَالَ لَهُ رَسُول الله
{لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} التَّوْبَة 40 أَلا ترى كَيفَ قَالَ لَا تحزن وَلم يقل لَا تخف لِأَن حزنه على رَسُول الله
شغله عَن خَوفه على نَفسه وَلِأَنَّهُ
أَيْضا رأى مَا نزل برَسُول الله
من النصب وَكَونه فِي ضيق من الْغَار مَعَ فرقة الْأَهْل ووحشة الغرباء وَكَانَ أرق النَّاس على رَسُول الله وأشفقهم عَلَيْهِ فَحزن وَقَول الله تَعَالَى {فَأَنَزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} التَّوْبَة 40 قَالَ أَكثر أهل التَّفْسِير يُرِيد على أبي بكر فَالضَّمِير لَهُ وَأما الرَّسُول
فَكَانَت السكينَة عَلَيْهِ وَقَوله {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودِ لَّمْ تَرَوْهَا} التَّوْبَة 40 الْهَاء فِيهِ رَاجِعَة إِلَى النَّبِي
والجنود الْمَلَائِكَة أنزلهم عَلَيْهِ الْغَار فبشروه بالنصر على أعدائه فأيده ذَلِك وَقواهُ على الصَّبْر وَقيل أيده بِجُنُود لم تَرَوْهَا يَعْنِي يَوْم بدر وحنين وَغَيرهمَا من مشاهده وَقد قيل الْهَاء رَاجِعَة على النَّبِي
فِي الْمَوْضِعَيْنِ عَلَيْهِ وأيده جَمِيعًا وَأَبُو بكر تبع لَهُ فَدخل فِي حكم السكينَة بِالْمَعْنَى وَكَانَ فِي مصحف حَفْصَة فَأنْزل الله سكينته عَلَيْهِمَا} وَقيل إِن حزن أبي بكر عِنْدَمَا رأى بعض الْكفَّار يَبُول عِنْد بَاب الْغَار كَمَا سَيَأْتِي ذكره قَرِيبا فأشفق أَبُو بكر أَن يَكُونُوا قد رأوهما فَقَالَ لَهُ النَّبِي
لَا تحزن فَإِنَّهُم لَو رأونا لم يستقبلونا بفروجهم عِنْد الْبَوْل إِن لقريش نخوة وَلما تشاغلوا بِشَيْء عَن أَخذنَا فَائِدَة زعمت الرافضة أَن فِي قَوْله عليه الصلاة والسلام لأبي بكر رضي الله عنه غضا مِنْهُ وذماً لَهُ فَإِن فِي حزنه ذَلِك إِن كَانَ طَاعَة فالنبي
لَا ينْهَى عَن الطَّاعَة فَلم يبْق إِلَّا أَنه مَعْصِيّة فَيُقَال لَهُم على طَريقَة الجدل قد قَالَ تَعَالَى لرَسُوله مُحَمَّد
{فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} يس 79 وَقَالَ تَعَالَى {وَلَا يحزنك الَّذين يُسَارِعُونَ فِي الْكفْر} آل عمرَان 178 وَقَالَ لمُوسَى عليه الصلاة والسلام {خُذْهَا وَلَا تَخَفْ} طه 21 وَقَالَت الْمَلَائِكَة للوط عليه الصلاة والسلام {وَلما إِن جَاءَت رسلنَا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وَقَالُوا لَا تخف وَلَا تحزن} العنكبوت 33 فان زعمتم إِن الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام حِين قيل لَهُم هَذَا كَانُوا فِي مَعْصِيّة فقد كَفرْتُمْ ونقضتم أصلكم فِي وجوب الْعِصْمَة للْإِمَام الْمَعْصُوم فِي زعمكم وَهُوَ من غير الْأَنْبِيَاء فَكيف بهم وَإِنَّمَا قَوْله عليه الصلاة والسلام لَا تحزن وَقَوله تَعَالَى لأنبيائه مثل هَذَا تسكين لإيحاشهم وتيسير لَهُم وتأنيس لَا على جِهَة النَّهْي الَّذِي زَعَمُوا وَلَكِن كَمَا قَالَ تَعَالَى (تتنزل عَلَيْهِم
الْمَلَائِكَة لَا تَخَافُواْ وَلَا تَحْزَنُواْ} فصلت 30 وَهَذَا القَوْل إِنَّمَا يُقَال لَهُم عِنْد المعاينة وَلَيْسَ إِذْ ذَاك أَمر بِطَاعَة لَا نهي عَن مَعْصِيّة فانتبه للصَّوَاب أَيهَا العَبْد الْمُوفق الْمَأْمُور بتدبر كتاب الله تَعَالَى لقَوْله {إِذْ يَقُول لصَاحبه لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} التَّوْبَة 40 كَيفَ كَانَ مَعَهُمَا بِالْمَعْنَى وباللفظ أما الْمَعْنى فَكَانَ مَعَهُمَا بالنصر والإرشاد وَالْهِدَايَة وَأما اللَّفْظ فَإِن اسْم الله تَعَالَى كَانَ يذكر إِذا ذكر رَسُوله وَإِذا دعى فَقيل يَا رَسُول الله أَو فعل رَسُول الله ثمَّ كَانَ لصَاحبه أبي بكر كَذَلِك يُقَال يَا خَليفَة رَسُول الله وَفعل خَليفَة رَسُول الله فَكَانَ يذكر مَعَ ذكرهمَا بالرسالة والخلافة ثمَّ ارْتَفع ذَلِك فَلم يكن لأحد من الْخُلَفَاء وَلَا يكون انْتهى مَا قَالَه السُّهيْلي فِي الرَّوْض قلت قَوْله ثمَّ ارْتَفع ذَلِك صَحِيح لِأَنَّهُ لما ولي عمر رضي الله عنه استثقل دعاؤه يَا خَليفَة خَليفَة رَسُول الله حَتَّى جَاءَ أَعْرَابِي فَقَالَ يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ فاستمرت تِلْكَ عَلَيْهِ وعَلى الْخُلَفَاء بعده إِلَى آخر الدَّهْر وَأما قَوْله وَلَا يكون فِيهِ نظر إِذْ كَانَ يَصح فِي عمر وَعُثْمَان وعَلى ذَلِك الْمَعْنى لَو قيل لكنه ترك لما ذكر من الاستثقال والاكتفاء بامير الْمُؤمنِينَ وَالله أعلم وَحكى الْوَاقِدِيّ إِن رَسُول الله
لما دخل الْغَار دَعَا شَجَرَة كَانَت أَمَام الْغَار فَأَقْبَلت حَتَّى وقفت عِنْد فَم الْغَار فحجبت أعين الْكفَّار قَالَ السُّهيْلي وَذكر قَاسم ابْن ثَابت فِي الدَّلَائِل فِيمَا شرح من الحَدِيث إِن رَسُول الله
لما دخل الْغَار أنبت الله على بَابه الرَّاء قَالَ عَاصِم قَالَ ابْن ثَابت وَهِي شَجَرَة مَعْرُوفَة من أعلاث الشّجر تكون مثل قامة الْإِنْسَان وَلها خيطان وزهر أَبيض تحشى مِنْهُ المخاد فَيكون كالريش لخفته وَلينه وَأخرج الْبَزَّار أَن الله أَمر العنكبوت فَنسجَتْ على وَجه الرَّاء وَأرْسل حَمَامَتَيْنِ فوقفتا وباضتا فِي أَسْفَل النقب وَإِن ذَلِك مِمَّا صد الْمُشْركين وَأَن حمام الْحرم من نسل تينك الحمامتين وَفِي الْمَوَاهِب اللدنية أخرج أَبُو نعيم فِي الحَدِيث عَن عَطاء بن ميسرَة قَالَ نسجت العنكبوت
مرَّتَيْنِ على دَاوُد حِين كَانَ يَطْلُبهُ طالوت وَمرَّة هَذِه على النَّبِي
انْتهى قلت وَكَذَا نسجت عل الْغَار الَّذِي دخله عبد الله بن أنيس لما بَعثه النَّبِي
لقتل سُفْيَان بن خَالِد بن نُبيح الْهُذلِيّ بعرنة فَقتله ثمَّ احْتمل رَأسه وَدخل فِي الْغَار فَنسجَتْ عَلَيْهِ العنكبوت وَجَاء الطّلب فَلم يَجدوا شَيْئا فانصرفوا رَاجِعين وَفِي تَارِيخ ابْن عَسَاكِر أَن العنكبوت نسجت أَيْضا على عَورَة زيد بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن عَليّ بن أبي طَالب لما صلب عُريَانا فِي سنة إِحْدَى وَعشْرين وَمِائَة فِي دولة هِشَام بن عبد الْملك فَإِنَّهُ قتل بِالْكُوفَةِ فِي المصاف وَكَانَ قد خرج وَبَايَعَهُ خلق كثير فحاربه نَائِب الْعرَاق يُوسُف بن عمر وظفر بِهِ فَقتله وصلبه عُريَانا وَبَقِي جسده مصلوباً أَربع سِنِين روى أَن الْمُشْركين كَانُوا يعلمُونَ محبَّة رَسُول الله
لأبي بكر رضي الله عنه فَذَهَبُوا لطلبه على بَاب أبي بكر وَفِيهِمْ أَبُو جهل فَخرجت إِلَيْهِم أَسمَاء بنت أبي بكر فَقَالُوا لَهَا أَيْن أَبوك فَقَالَت لَا أَدْرِي فَرفع أَبُو جهل يَده وَكَانَ فَاحِشا خبيثاً فلطم خدها لطمة خرج مِنْهَا قُرْطهَا وَسقط ثمَّ انصرفوا فوقعوا فِي طلبهما وَفِي الِاكْتِفَاء فقدت قُرَيْش رَسُول الله
فَلم يجدوه بِمَكَّة أَعْلَاهَا وأسفلها وبعثوا الْقَافة يتبعُون أَثَره فِي كل جِهَة فَوجدَ الَّذِي ذهب جِهَة ثَوْر أَثَره هُنَاكَ فَلم يزل يتبعهُ حَتَّى انْقَطع لما انْتهى إِلَى ثَوْر وشق على قُرَيْش خُرُوجه عليه الصلاة والسلام وجزعوا لذَلِك فطفقوا يطلبونه بِأَنْفسِهِم فِيمَا قرب مِنْهُم ويرسلون من يَطْلُبهُ فِيمَا بعد عَنْهُم وَجعلُوا مائَة بعير لمن رده عَلَيْهِم وَلما انْتَهوا إِلَى فَم الْغَار وَقد كَانَت العنكبوت ضربت على بَابه قَالَ قَائِل مِنْهُم ادخُلُوا الْغَار فَقَالَ أُميَّة بن خلف مَا أربكم فِي الْغَار إِن عَلَيْهِ لعنكبوتاً أبعد من مِيلَاد مُحَمَّد قيل فَلذَلِك نهى رَسُول الله
عَن قتل العنكبوت وَقَالَ إِنَّهَا جند من جنود الله وَفِي رِوَايَة أقبل فتيَان من مُشْركي قُرَيْش وَمَعَهُمْ قائف من قافة بني مُدْلِج وهم
المشهورون بالقيافة بَين الْعَرَب فالتمسوا أثرهما فقصوه إِلَى أَن دنوا من فَم الْغَار قَالَ الْقَائِف وَالله مَا جَازَ مطلوبكم هَذَا الْغَار فَعِنْدَ ذَلِك حزن أَبُو بكر فَقَالَ لَهُ رَسُول الله
لَا تحزن إِن الله مَعنا قَالَ يَا رَسُول الله لَو نظر أحدهم إِلَى قَدَمَيْهِ لرآنا ثمَّ دنا بَعضهم فَبَال فِي أَسْفَل النقب فَقَالَ النَّبِي
إِن لقريش نخوة وَإنَّهُ لَو رآك لما كشف سوءته قبلك وَقَالَ لَهُ النَّبِي
مَا بالك بِاثْنَيْنِ الله ثالثهما وَفِي معالم التَّنْزِيل لم يكن حزن أبي بكر جزعاً من الْمَوْت وَإِنَّمَا اشفاقاً على رَسُول الله
قَالَ إِن أقتل فَأَنا رجل من قُرَيْش وَإِن قتلت هَلَكت الْأمة وَلم يعبد الله فَجعلُوا يضْربُونَ حول الْغَار يمنة ويسرة وَيَقُولُونَ لَو دخل الْغَار لانكسر بيض الْحمام وتفسخ نسج العنكبوت فَلَمَّا سمع ذَلِك النَّبِي
علم إِن الله تَعَالَى قد حمى حماها بالحمام وَصرف عَنْهُمَا كيدهم بالعنكبوت أَشَارَ إِلَى ذَلِك البوصيري رَحمَه الله تَعَالَى // (من الْبَسِيط) //
(ظنّوا الْحمام وظنّوا العنكبوت على
…
خير البريّة لم تنسّج وَلم تحم)
(وقاية الله أغنت عَن مضاعفةٍ
…
من الدّروع وَعَن عالٍ من الأُطُم)
وَقَالَ فِي همزيته // (من الْخَفِيف) //
(وكفته بسنجها عنكبوتٌ
…
مَا كفته الْحَمَامَة الحصداء)
وَللَّه در الْقَائِل // (من الوافر) //
(ودود القزّ إِن نسجت حَرِيرًا
…
يجمّل لبسه فِي كلّ زيّ)
(فَإِن العنكبوت أجلّ مِنْهَا
…
بِمَا نسجت على رَأس النّبيّ)
وَقد تقدم أَن عَامر بن فهَيْرَة اتبع أَثَره حَتَّى يُعْفَى عَلَيْهِ بأظلاف الْغنم فَخرج مَعَهُمَا رَدِيف أبي بكر يَخْدُمهُمَا وعامر بن فهَيْرَة أسلم وَكَانَ حسن الْإِسْلَام عذب فِي الله فَاشْتَرَاهُ أَبُو بكر فَأعْتقهُ وَشهد بَدْرًا وأحداً وَقتل يَوْم بِئْر مَعُونَة وَهُوَ ابْن أَرْبَعِينَ سنة قَتله عَامر بن الطُّفَيْل وَهُوَ من مولدِي الأزد أسود اللَّوْن ذكر ذَلِك كُله مُوسَى ابْن عقبَة عَن ابْن شهَاب وَأَقَامَا فِي الْغَار ثَلَاثَة أَيَّام الْجُمُعَة والسبت والأحد وركبا لَيْلَة الِاثْنَيْنِ ومعهما دليلهما عبد الله بن أريقط وَكَانَ ماهراً خريتاً فسلك
بهما أَسْفَل مَكَّة ثمَّ مضى بهما إِلَى سَاحل من عسفان ثمَّ سلك بهما على اسفل امج ثمَّ نزل على قديد حِين خيام أم معبد عَاتِكَة بنت خَالِد الْخُزَاعِيَّة من بني كَعْب وَكَانَت بِقديد وَفِي مُعْجم مَا استعجم من قديد إِلَى المسلك ثَلَاثَة اميال بيهما خيمة أم معبد امْرَأَة بزْرَة جلدَة تَحْتَبِيَ بِفنَاء الْخَيْمَة وَمعنى بزْرَة تخرج للنَّاس وَفِي خصلاة الوفا قديد كزبير قَرْيَة جَامِعَة بطرِيق مَكَّة كَثِيرَة الْمِيَاه فنزلوا عِنْدهَا فَسَأَلُوهَا لَحْمًا وَتَمْرًا ليشتروا مِنْهَا فَلم يُصِيبُوا عِنْدهَا شَيْئا من ذَلِك وَكَانَ الْقَوْم مُرْمِلِينَ مُسنَّتَيْنِ فَقَالَت وَالله لَو كَانَ عِنْدِي شَاة مَا أعوزكم الْقرى فَنظر رَسُول الله
إِلَى شَاة فِي كسر الْخَيْمَة فَقَالَ مَا هَذِه الشَّاة يَا أم معبد فَقَالَت خلفهَا الْجهد عَن الْغنم قَالَ هَل بهَا من لبن قَالَت هِيَ أجهد من ذَلِك فَقَالَ لَهَا أَتَأْذَنِينَ لي أَن أَحْلَبَهَا فَقَالَت بِأبي أَنْت وَأمي إِن رَأَيْت بهَا حَلبًا فاحلبها فَدَعَا بِالشَّاة فاعتقلها وَمسح ضرْعهَا فتفاجت وَدرت ودعا بِإِنَاء يربض الرَّهْط أَي يشْبع الْجَمَاعَة حَتَّى يربضوا فَحلبَ فِيهِ ثَجًّا حَتَّى علاهُ الْبَهَاء وَسَقَى الْقَوْم حَتَّى رووا ثمَّ شرب آخِرهم ثمَّ حلب فِيهِ مرّة أُخْرَى ثمَّ غَادَرَهُ عِنْدهَا وذهبوا فقلما لبث حَتَّى جَاءَ زَوجهَا أَبُو معبد يَسُوق أَعْنُزًا عِجَافًا وَكن هزالًا مُخّهنَّ قَلِيل وَاسم أبي معبد قَالَ السُّهيْلي لَا يعرف وَقَالَ العسكري اسْم أَكْثَم بن أبي الجون فَلَمَّا رأى اللَّبن قَالَ مَا هَذَا يَا أم معبد أَنى لَك هَذَا وَالشَّاء عَازِب حِيَال وَلَا حلوبة بِالْبَيْتِ فَقَالَت لَا وَالله إِلَّا أَنه مر بِنَا رجل مبارك فَقَالَ صَفيه يَا أم معبد فَقَالَت رَأَيْت رجلا ظَاهر الْوَضَاءَة أَبْلَج الْوَجْه حسن الْخلق لم تَعبه نجلة وَلم تزر بِهِ صعلة وسيم قسيم فِي عَيْنَيْهِ دعجٌ وَفِي أَشْفَاره وَطف وَفِي صَوته صَحِلَ أحور أكحل أَزجّ أقرن شَدِيد سَواد الشّعْر وَفِي عُنُقه سَطَعَ وَفِي لحيته كثاثة إِن صمت فَعَلَيهِ الْوَقار وَإِن تكلم سما بِهِ وعلاه الْبَهَاء أكمل النَّاس وأبهاهم من بعيد واحسنهم واعلاهم من قريب حُلْو المنطلق فصل لَا نزر وَلَا هذر كَأَن مَنْطِقه خَرَزَات نظم ينحدرن ربعَة لَا تشنؤه عين من طول وَلَا تشنؤه من قصر غُصْن بَين غُصْنَيْنِ وَهُوَ أَنْضَرُ الثَّلَاثَة منْظرًا وَأَحْسَنهمْ قدرا لَهُ رُفَقَاء يحفونَ بِهِ إِذا قَالَ
أَنْصتُوا وَإِن أَمر تبَادرُوا لأَمره مَحْفُودٌ محشود لَا عَابس وَلَا مُفند قَالَ أَبُو معبد هَذَا وَالله صَاحب قُرَيْش الَّذِي ذكر لنا من أمره مَا ذكر بِمَكَّة وَلَقَد هَمَمْت أَن أَصْحَبهُ وَلَأَفْعَلَن إِن وجدت إِلَى ذَلِك سَبِيلا فَخرج أَبُو معبد فِي أَثَرهم ليسلم فَيُقَال أدركهم بِبَطن دلم فَبَايعهُ وَانْصَرف وَفِي الصفوة بلغنَا أَن أم معبد هَاجَرت إِلَى النَّبِي
وَأسْلمت قَالَ رزين أَقَامَت قُرَيْش أَيَّامًا لَا يَدْرُونَ أَيْن توجه رَسُول الله
واي طَرِيق سلك حَتَّى سمعُوا بعد ذهابهما بأيام هاتفاً أقبل من أَسْفَل مَكَّة بِأَبْيَات يُغني بهَا غناء الْعَرَب عَالِيا بَين السَّمَاء وَالْأَرْض وَالنَّاس يسمعُونَ الصَّوْت ويبتغونه وَلَا يرَوْنَ صَاحبه حَتَّى خرج من أَعلَى مَكَّة وَهُوَ يَقُول // (من الطَّوِيل) //
(جزى الله ربّ النّاس خير جَزَائِهِ
…
رَفِيقَيْنِ حلا خيتمي أُمّ معبد)
(هما نزلا بالبرّ ثمّ ترحّلا
…
فأفلح من أَمْسَى رَفِيق محمّد)
(فَمَا حملت من ناقةٍ فَوق رَحلهَا
…
أبرّ وأوفى ذمّةً من محمّد)
(فيالقُصيّ مَا زوى الله عَنْكُم
…
بِهِ من فعالٍ لَا تُجارى وسؤدد)
(لِيهن بني كعبٍ مَكَان فَتَاتهمْ
…
ومقعدها للْمُؤْمِنين بِمَرْصَد)
(سلوا أُختكم عَن شَاتِهَا وإنائها
…
فَإِن أَنْتُم تستشهدوا الشّاة تشهد)
(دَعَاهَا بشاةٍ حَائِل فتحلّبت
…
لَهُ بصريحٍ ضرّة الشّاة مُزْبِد)
(فغادرها رهنا لَدَيْهَا لحالب
…
يردهَا فِي مصدرٍ ثمّ مورد)
وَقيل كَانَ الْهَاتِف الْقَائِل هَذِه الأبيات يسمع صَوته الجهوري على أبي قبيس وَلما سمع هَذِه الأبيات حسان بن ثَابت قَالَ هَذِه الأبيات // (من الطَّوِيل) //
(لقد خَابَ قومٌ زَالَ عَنْهُم نبيّهم
…
وَقد سر من يسري إِلَيْهِم وَيَغْتَدِي)
(ترحّل عَن قومٍ فَزَالَتْ عُقُولهمْ
…
وحلّ على قومٍ بنورٍ مجدّد)
(هدَاهُم بِهِ بعد الضّلالة ربّهم
…
وأرشدهم من يبتع الحقّ يرشد)
(وَهل يَسْتَوِي ضلاّل قومٍ تسفّهوا
…
عمى وهداةٌ يَهْتَدُونَ بمهتدي)
(لقد نزلت مِنْهُ على أهل يثربٍ
…
ركاب هدى حلّت عَلَيْهِم بِأَسْعَد)
(نبيّ يرى مَا لَا يرى النّاس حوله
…
وَيَتْلُو كتاب الله فِي كلّ مشْهد)
(وَإِن قَالَ فِي يومٍ مقَالَة غائبٍ
…
فَتَصْدِيقُهَا فِي الْيَوْم أَو فِي ضحى الْغَد)
(لِيهن أَبَا بكرٍ سَعَادَة جدّه
…
بِصُحْبَتِهِ من يسْعد الله يسْعد)
وَمِمَّا يسئل عَنهُ فِي هَذِه الْقِصَّة أَن يُقَال هَل استمرت هَذِه الْبركَة فِي شَاة أم معبد بعد ذَلِك الْيَوْم أم عَادَتْ إِلَى حَالهَا الأول فَفِي الْخَبَر عَن هِشَام بن حُبَيْش الكعبي أَنه قَالَ أَنا رَأَيْت تِلْكَ الشَّاة وَإِنَّهَا لتؤدم أم معبد وَجَمِيع صرمها أَي أهل ذَلِك المَاء فقد ظهر انها استمرت وَمر
على تعهن صَخْرَة وروى إِن امراى تسكن تعهن يُقَال لَهَا أم عقى فحين مر بهَا النَّبِي
استسقاها فَلم تسقه فَدَعَا عَلَيْهَا فمسخت صَخْرَة فَهِيَ تِلْكَ الصَّخْرَة ثمَّ مر بِعَبْد يرْعَى غنما فاستسقاه اللَّبن فَقَالَ مَا عِنْدِي شَاة تحلب غير أَن هَهُنَا عنَاقًا حملت أول وَمَا بَقِي لَهَا لبن فَقَالَ ادْع بهَا فاعتقلها
وَمسح ضرْعهَا ودعا حَتَّى أنزلت وَجَاء أَبُو بكر بمجن فسقى أَبَا بكر ثمَّ حلب فسقى الرَّاعِي ثمَّ حلب فَشرب فَقَالَ الرَّاعِي من أَنْت فوَاللَّه مَا رَأَيْت مثلك قَالَ أَو تكْتم عَليّ حَتَّى أخْبرك قَالَ نعم قَالَ فَإِنِّي مُحَمَّد رَسُول الله
فَقَالَ أَنْت الَّذِي تزْعم قُرَيْش أَنه صابيء فَقَالَ إِنَّهُم ليقولون ذَلِك قَالَ أشهد أَنَّك نَبِي وَأَن مَا جِئْت بِهِ حق وَأَنه لَا يفعل مَا فعلت إِلَّا نَبِي وَأَنا متبعك قَالَ إِنَّك لَا تَسْتَطِيع ذَلِك يَوْمك فَإِذا بلغت أَنِّي قد ظَهرت فأتنا قَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه ثمَّ قلت أَنى الرحيل يَعْنِي من الْمَكَان الَّذِي نَحن بِهِ عِنْد الرَّاعِي الْمَذْكُور فارتحلنا وَالْقَوْم يطلبوننا فَلم يدركنا أحد مِنْهُم إِلَّا سراقَة بن مَالك المدلجي فَقلت يَا رَسُول الله هَذَا الطّلب قد لحقنا قَالَ لَا تحزن إِن
الله مَعنا حَتَّى إِذا دنا منا وَكَانَ بَيْننَا وَبَينه قدر رمح أَو رُمْحَيْنِ أَو ثَلَاثَة قلت يَا رَسُول الله هَذَا الطّلب قد لحقنا فَدَعَا رَسُول الله
فَقَالَ الله اكْفِنَا بِمَا شِئْت فساخت قَوَائِم فرسه إِلَى صدرها فِي أَرض صلد فَوَثَبَ عَنْهَا وَقَالَ يَا مُحَمَّد قد علمت أَن هَذَا عَمَلك فَادع الله أَن ينجيني مِمَّا أَنا فِيهِ فوَاللَّه لأعمين على من ورائي من الطّلب وَهَذِه كِنَانَتِي فَخذ مِنْهَا سَهْما فَإنَّك ستمر بإبلي وغنمي فِي مَوضِع كَذَا وَكَذَا فَخذ مِنْهَا حَاجَتك فَقَالَ رَسُول الله
لَا حَاجَة لي فِيهَا فَأطلق فَرجع إِلَى أَصْحَابه وَجعل لَا يلقى أحدا إِلَّا قَالَ كفيتم مَا هَهُنَا فَلَا يلقى أحدا إِلَّا رده وَإِن أَبَا جهل لَعنه الله لما سمع قصَّة سراقَة أنشأ هذَيْن الْبَيْتَيْنِ // (من الطَّوِيل) //
(بني مُدْلِج إنّي أَخَاف سفيهكم
…
سراقَة يستغوي بنصر محمّد)
(عَلَيْكُم بِهِ ألاّ يفرّق جمعكم
…
فَيُصْبِح شتّى بعد عزّ وسؤدد)
وَلما سمع سراقَة شعر أبي جهل قَالَ // (من الطَّوِيل) //
(أَبَا حكم وَالله لَو كنت شَاهدا
…
لأمر جوادي إِذْ تَسُوخ قوائمه)
(علمت وَلم تشك بأنّ محمّداً
…
رَسُول ببرهان فَمن ذَا يقاومه)
(عَلَيْك بكفّ الْقَوْم عَنهُ فإنّني
…
أرى أمره يَوْمًا ستبدو معالمه)
(بأمرٍ يودّ النّاس فِيهِ بأسرهم
…
بأنّ جَمِيع النّاس طرّاً يسالمه)
قَالَ الشخ فتح الدّين مُحَمَّد بن سيد النَّاس فِي سيرته سراقَة بن مَالك بن جعْشم الْكِنَانِي يكنى أَبَا سُفْيَان روى سُفْيَان بن عُيَيْنَة عَن أبي مُوسَى عَن الْحسن أَن رَسُول الله
قَالَ لسراقة هَذَا بعد اسلامه وَهُوَ بِالْمَدَنِيَّةِ كَيفَ بك إِذا لبست سواري كسْرَى فَلَمَّا أَتَى عمر رضي الله عنه بِسوَارِي كسْرَى ومنطقته وتاجه فِي وقْعَة الْقَادِسِيَّة وظفر جنده رضي الله عنه بِالْغَنِيمَةِ فَأتى بذلك مَعَ مَا أَتَى بِهِ إِلَيْهِ دَعَا سراقَة ابْن مَالك هَذَا فألبسه السوارين وَكَانَ سراقَة رجلا أزب الذارعين كثير شعرهما وَقَالَ لَهُ ارْفَعْ يَديك وَقل الله
أكبر الْحَمد لله الَّذِي سلبهما كسْرَى بن هُرْمُز الَّذِي كَانَ يَقُول أَنا رب النَّاس وألبسهما سراقَة بن مَالك بن جعْشم أَعْرَابِيًا من بني مُدْلِج فَرفع صَوته وَقَالَ ذَلِك وَكَانَ سراقَة شَاعِرًا مجيداً وَهُوَ الَّذِي قَالَ لأبي جهل أَبَا حكم وَالله لَو كنت شَاهدا الأبيات الَّتِي ذَكرنَاهَا روى عَنهُ من الصَّحَابَة ابْن عَبَّاس وَجَابِر وروى عَنهُ سعيد بن الْمسيب وَابْنه مُحَمَّد بن سراقَة وروى لسراقة البُخَارِيّ وَالْأَرْبَعَة وَجَاء سراقَة إِلَى النَّبِي
وَقَالَ يَا رَسُول الله أَرَأَيْت الضَّالة ترد على حَوْض إبلي أَلِي أجر إِن سقيتها فَقَالَ
فِي الكبد الحري أجر وَهُوَ السَّائِل عَن مُتْعَة الْحَج أللأبد هِيَ توفّي سنة أَربع وَعشْرين فِي خلَافَة عُثْمَان رضي الله عنهما وَقيل فِي خلَافَة عَليّ رضي الله عنه وكرم وَجهه انْتهى وَذكر ابْن إِسْحَاق أَن أَبَا بكر الصّديق رضي الله عنه قَالَ فِي دُخُوله الْغَار مَعَ النَّبِي
وسيرهم وَطلب سراقَة إيَّاهُم هَذِه الأبيات // (من الْبَسِيط) //
(قَالَ النّبيّ وَلم يجزع يوقّرني
…
وَنحن فِي سدفةٍ من ظلمَة الْغَار)
(لَا تخش شَيْئا فإنّ الله ثالثنا
…
وَقد تكفّل لي مِنْهُ بِإِظْهَار)
(وإنّما كيد من تخشى بوادره
…
كيد الشّياطين كادته لكفّار)
(وَالله مهلكهم طرّاً بِمَا كسبوا
…
وجاعل الْمُنْتَهى مِنْهُم إِلَى النّار)
(وَأَنت مرتحلٌ عَنْهُم وتاركهم
…
إمّا غدوّاً وإمّا مدلجٌ ساري)
(وهاجرٌ أَرضهم حتّى يكون لنا
…
قومٌ عَلَيْهِم ذَوُو عزٍّ وأنصار)
(حتّى إِذا اللَّيْل وأرانا جوانبه
…
وسدّ من دون مَا يخْشَى بِأَسْتَارِ)
(سَار الأُريقط يهدينا وأينقه
…
ينعبن بالقوم نعباً تَحت أكوار)
(حتّى إِذا قلت قد أنجدن عَارَضنَا
…
من مدلجٍ فارسٌ فِي منصبٍ واري)
(فَقَالَ كرّوا فَقُلْنَا إنّ كرّتنا
…
من دون ذَلِك نصر الْخَالِق الْبَارِي)
(إِن يخسف الله بالأحوى وفارسه
…
فَانْظُر إِلَى أربعٍ فِي الأَرْض غوّار)
(فهيل لمّا رأى أرساغ مهرته
…
يرسخن فِي الأَرْض لم تحفر بمحفار)
(فَقَالَ هَل لكم أَن تطلقوا فرسي
…
وتأخذوا موثقًا من نصح إسراري)
(فَادعوا الّذي كفّ عَنْكُم أَمر غدوتنا
…
يُطلق جوادي فَأنْتم خير أبرار)
(فَقَالَ قولا رَسُول الله مبتهلاً
…
يَا ربّ إِن كَانَ يَنْوِي غير إخفار)
(فنجّه سالما من شرّ دَعوتنَا
…
ومهره مُطلق من كلّ آسار)
(فأظهر الله إِذْ يَدْعُو حَوَافِرِهِ
…
وفاز فارسه من هول أخطار)
قلت انكر بعض الْعلمَاء نِسْبَة هَذَا الشعرالى الصّديق رضي الله عنه وَهُوَ كَذَلِك وَأَنا أنكرهُ أَيْضا لما فِيهِ من الركة والسماجة الَّتِي مَا لَهَا حَاجَة قَالَ الْعَارِف بِاللَّه تَعَالَى مُحَمَّد بن مُوسَى بن النُّعْمَان فِي كِتَابه الْمُسَمّى مِصْبَاح الظلام فِي المستغيثين بِسَيِّد الْأَنَام فِي الْيَقَظَة والمنام روينَا إِن رَسُول الله
قَالَ لحسان بن ثَابت أقلت فِي أبي بكر شَيْئا قَالَ نعم قَالَ قل فَأَسْمع فَقَالَ // (من الْبَسِيط) //
(إِذا تذكّرت شجواً من أخي ثقةٍ
…
أُذكر أَخَاك أَبَا بكرٍ بِمَا فعلا)
(خير البريّة أتقاها وأعدلها
…
بعد النّبيّ وأوفاها بِمَا حملا)
(وَالثَّانِي التّالي الْمَحْمُود مشهده
…
وأوّل النّاس حقّاً صدّق الرّسلا)
(وَثَانِي اثْنَيْنِ فِي الْغَار المنيف وَقد
…
طَاف العدوّ بِهِ إِذْ صعّد الجبلا)
(وَكَانَ حبّ رَسُول الله قد علمُوا
…
من البريّة لم يعدل بِهِ رجلا)
وَخرج بهم على السَّاحِل ثمَّ أجَاز عسفان ثمَّ عَارض الطَّرِيق بعد إِلَى أَن أجَاز قديداً ثمَّ سلك الْحرار ثمَّ أجَاز على تَثْنِيَة الْمرة ثمَّ سلك مُدْلِجَة لقف ثمَّ استبطن مُدْلِجَة مجلح ثمَّ بطن مُرَجّح من ذِي العصوين ثمَّ أجَاز القاحة ثمَّ هَبَط العرج ثمَّ أجَاز فِي ثنية العائر عَن يَمِين ركُوبه ثمَّ هَبَط رئم ثمَّ قدم قبَاء من قبل الْعَالِيَة قَالَ الذَّهَبِيّ روى البُخَارِيّ فِي صَحِيحه من حَدِيث الزُّهْرِيّ عَن عُرْوَة عَن عَائِشَة رضي الله عنها قَالَت إِن الْمُسلمين بِالْمَدِينَةِ لما سمعُوا بمخرج النَّبِي
كَانُوا يَغْدُونَ إِلَى الْحرَّة ينتظرونه حَتَّى يردهم حر الشَّمْس فَركب يريدة بن الخصيب فِي سبعين من بني أسلم وَقَالَ الزُّهْرِيّ أَخْبرنِي عُرْوَة أَن الزبير كَانَ فِي ركب تجار بِالشَّام فقفلوا إِلَى مَكَّة فعارضوا رَسُول الله
وَأَبا بكر بِثِيَاب بَيَاض فتلقوا رَسُول الله
لَيْلًا فَقَالَ لَهُ من أَنْت قَالَ بُرَيْدَة فَالْتَفت إِلَى أبي بكر وَقَالَ برد أمرنَا وَصلح ثمَّ قَالَ لَهُ وَمِمَّنْ قَالَ من أسلم قَالَ لأبي بكر سلمنَا ثمَّ قَالَ مِمَّن قَالَ من بني سهم قَالَ خرج سهمك فَأسلم بُرَيْدَة وَالَّذين مَعَه جَمِيعًا فَلَمَّا اصبحوا قَالَ بُرَيْدَة للنَّبِي
لَا تدخل المدنية إِلَّا ومعك لِوَاء فَحل عمَامَته ثمَّ شدها فِي رمح ثمَّ مَشى بَين يَدي النَّبِي
وَقَالَ يَا نَبِي الله تنزل على من فَقَالَ أنزل على بني النجار أخوال جدي عبد الْمطلب لأكرمهم بذلك فَلَمَّا أصبح غَدا حَيْثُ أَمر فَلَمَّا كَانَ يَوْم دُخُوله جَلَسُوا كَمَا كَانُوا يَجْلِسُونَ حَتَّى إِذا رَجعْنَا وحميت القائلة إِذا رجل من الْيَهُود أشرف من اطم فَرَأى النَّبِي
فَلم يملك أَن صَاح يَا بني قيلة هَذَا جدكم قد أقبل أَي حظكم وسعدكم فثار الْمُسلمُونَ إِلَى السِّلَاح فتلقوه بِظهْر الْحرَّة فَعدل بهم ذَات الْيَمين حَتَّى نزل فِي بني عَمْرو بن عَوْف على كُلْثُوم بن الْهدم وَكَانَ شَيخا صَالحا عابداً يَوْم الِاثْنَيْنِ من ربيع الأول فَطَفِقَ من لم يعرف النَّبِي
يسلم على أبي بكر حَتَّى أَصَابَت الشَّمْس رَسُول الله
فَأقبل أَبُو بكر يظله بردائه فَعرف النَّاس عِنْد ذَلِك رَسُول الله
فَلبث فِي بني عَمْرو بن عَوْف أَرْبَعِينَ لَيْلَة واسس مَسْجِدهمْ اقبل النَّبِي
مردفاً أَبَا بكر وَهُوَ شيخ يَعْنِي فِيهِ مبادئ الشمط وَالنَّبِيّ سَاب لَا يعرف فَيلقى
الرجل أَبَا بكر فَيَقُول من هَذَا بَين يَديك فَيَقُول رجل يهديني الطَّرِيق وَإِنَّمَا يَعْنِي طَرِيق الْخَيْر وَفِي الْوَفَاء للعلامة السَّيِّد السمهودي رحمه الله روى رزين عَن أنس بن مَالك قَالَ كنت إِذْ قدم رَسُول الله
الْمَدِينَة ابْن تسع سِنِين فَأَسْمع الغلمان والولائد يَقُولُونَ جَاءَ رَسُول الله
وَأَبُو بكر فمكثا فِي حرث فِي طرف الْمَدِينَة وَفِي رِوَايَة فَنزلَا جَانب الْحرَّة فأرسلا رجلا من أهل الْبَادِيَة ليؤذن بهما الْأَنْصَار فَاسْتَقْبَلَهُمَا زهاء خَمْسمِائَة رجل من الْأَنْصَار حَتَّى انْتَهوا إِلَيْهِمَا فَنزل فِي بني عَمْرو بن عَوْف بقباء على كُلْثُوم بن الْهدم ولرزين نزل فِي ظلّ نَخْلَة ثمَّ انْتقل إِلَى دَار كُلْثُوم وَفِي رِوَايَة على سعد بن خَيْثَمَة وَوجه الْجمع بَين الرِّوَايَتَيْنِ أَن أول نُزُوله كَانَ على كُلْثُوم بن الْهدم وَلَكِن عينوا لَهُ مسكنا فِي دَار سعد بن حيثمة يكون النَّاس فِيهِ وَذَلِكَ لِأَن سَعْدا كَانَ عزباً لَا أهل لَهُ وَيُسمى منزله منزل الغرباء قَالَ المطرزي وَبَيت سعد بن خَيْثَمَة أحد الدّور الَّتِي قبلي مَسْجِد قبَاء وَهِي الَّتِي تلِي الْمَسْجِد فِي قبلته يدخلهَا النَّاس إِذا رَأَوْا مَسْجِد قبَاء وَيصلونَ فِيهَا وَهُنَاكَ أَيْضا دَار كُلْثُوم بن الْهدم وَفِي تِلْكَ الْعَرَصَة كَانَ رَسُول الله
نازلاً قبل خُرُوجه إِلَى الْمَدِينَة وَكَذَلِكَ أَهله عليه الصلاة والسلام وَأهل أبي بكر حِين قدمُوا بعد خُرُوج رَسُول الله
من مَكَّة وَهن سَوْدَة وَعَائِشَة وَأمّهَا أم رُومَان وَأُخْتهَا أَسمَاء وَهِي حَامِل بِعَبْد الله بن الزبير فَولدت بقباء قبل نزولهم الْمَدِينَة وَنزل أَبُو بكر بالسنح على خبيب بن يسَاف أحد بني الْحَارِث بن الْخَزْرَج وَقيل على خَارِجَة بن زيد بن رهم وَعَن سعد بن عبد الرَّحْمَن بن أبي رُقَيْش عَن عبد الرَّحْمَن بن زيد بن حَارِثَة قَالَ نزل رَسُول الله
بِظهْر حرتنا هُوَ وَأَبُو بكر ثمَّ ركبا فَأَنَاخَ على عذق عِنْد بِئْر غرس قبل أَن تبزغ الشَّمْس وَقَوله عِنْد بِئْر غرس الظَّاهِر أَنه تَصْحِيف وَلَعَلَّه بِئْر عذق لبعد بِئْر غرس عَن منزله
بقباء بِخِلَاف بِئْر عذق وَلما نزل النَّبِي
وَأَبُو بكر وعامر بن فهَيْرَة على كُلْثُوم قَالَ كُلْثُوم لمولى لَهُ يَا نجيح أطعمنَا رطبا فَلَمَّا سمع رَسُول الله
بنجيح الْتفت إِلَى أبي بكر فَقَالَ
أنجحنا فَأتوا بقنو من أم جودان فِيهِ رطب منصف وزهو فَقَالَ هَذَا عذق أم جودان فَقَالَ
اللَّهُمَّ بَارك فِي أم جودان وَكَانَ لكلثوم بن الْهدم مربد وَهُوَ الْموضع الَّذِي يبسط فِيهِ التَّمْر لييبس فَأخذ مِنْهُ
فأسسه مَسْجِدا كَذَا فِي رواياة ابْن زبالة وَغَيره وَفِي الصَّحِيح عَن عُرْوَة أَقَامَ فِي بني عَمْرو بن عَوْف بضع عشرَة لَيْلَة وَأسسَ مَسْجده الَّذِي أسس على التَّقْوَى وَقد اخْتلف فِي المُرَاد بقوله تَعَالَى {لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لمّسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} التَّوْبَة 108 فالجمهور على أَن المُرَاد بِهِ مَسْجِد قبَاء وَلَا يُنَافِيهِ قَوْله
فِي مَسْجِد الْمَدِينَة هُوَ مَسْجِدكُمْ هَذَا إِذْ كل مِنْهُم أسس على التَّقْوَى وَعَن جَابر بن سَمُرَة قَالَ لما سَأَلَ أهل قبَاء النَّبِي
أَن يبْنى لَهُم مَسْجِدا قَالَ رَسُول الله
ليقمْ بَعْضكُم فليركب النَّاقة فَقَامَ أَبُو بكر فركبها فحركها فَلم تنبعث فَرجع فَقعدَ فَقَامَ عمر فركبها فَلم تنبعث فَرجع فَقعدَ فَقَالَ رَسُول الله
ليقمْ بَعْضكُم فيركب النَّاقة فَقَامَ عَليّ فَلَمَّا وضع رجلَيْهِ فِي غرز الركاب وَثَبت بِهِ فَقَالَ رَسُول الله
ارخ زمامها فسارت حَتَّى وقفت حبيث الْمَسْجِد الْيَوْم فَقَالَ ابْتَنَوْا على مدارها فَإِنَّهَا مأمورة ثمَّ قَالَ يَا أهل قبَاء ائْتُونِي بأحجار من الْحرَّة فَجمعت عِنْده أَحْجَار كَثِيرَة فَخط قبلتهم فَأخذ حجرا فَوَضعه ثمَّ قَالَ يَا أَبَا بكر خُذ حجرا فضعه إِلَى جنب حجري ثمَّ قَالَ يَا عمر خُذ حجرا فضعه إِلَى جنب حجر أبي بكر ثمَّ قَالَ يَا عُثْمَان خُذ حجرا فضعه إِلَى جنب حجر عمر وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر كَانَ رَسُول الله
يَأْتِي قبَاء رَاكِبًا أَو مَاشِيا وَعنهُ أَيْضا اني سَمِعت رَسُول الله
يَقُول من صلى فِيهِ كَانَ كَعدْل
عمْرَة وروى ابْن زبالة أَن النَّبِي
صلى إِلَى الأسطوانة الثَّالِثَة فِي مَسْجِد قبَاء الَّتِي فِي الرحبة وَعَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن قَالَ كَانَ فِي مَوضِع الأسطوانة المخلقة الْخَارِجَة فِي رحبة الْمَسْجِد قَالَ ابْن رقيشي حَدثنِي نَافِع أَن عمر كَانَ إِذا جَاءَ مَسْجِد قبَاء صلى إِلَى الأسطوانة المخلقة يقْصد بذلك مَسْجِد النَّبِي
الأول وروى ابْن زبالة عَن عبد الْملك بن بكير عَن أبي ليلى عَن أَبِيه إِن رَسُول الله
صلى فِي مَسْجِد قبَاء إِلَى الأسطوانة الثَّالِثَة فِي الرحبة إِذا دخلت من الْبَاب الَّذِي بِفنَاء دَار سعد بن خَيْثَمَة قَالَ السَّيِّد السمهودي رحمه الله الْبَاب الْمَذْكُور هُوَ المشدود الْيَوْم بِظهْر رسمه من خَارج الْمَسْجِد من جِهَة الْمغرب وَكَانَ شَارِعا فِي الرواق الَّذِي يَلِي الرحبة من السّقف القبلي فالأسطوانة الثَّالِثَة فِي الرحبة هِيَ الَّتِي عِنْدهَا الْيَوْم محراب فِي رحبة الْمَسْجِد لانطباق الْوَصْف الْمَذْكُور عَلَيْهَا فَهِيَ المرادة بقول الْوَاقِدِيّ كَانَ الْمَسْجِد فِي مَوضِع الأسطوانة المخلقة الْخَارِجَة فِي رحبة الْمَسْجِد وَهِي الَّتِي كَانَ ابْن عمر يُصَلِّي إِلَيْهَا واقام
بقباء يَوْم الأثنين وَالثُّلَاثَاء وَالْأَرْبِعَاء وَالْخَمِيس ثمَّ أرسل إِلَى بني النجار أخوال جده عبد الْمطلب فَجَاءُوا متقلدين سيوفهم فَسَلمُوا على النَّبِي
وابي بكر وَقَالُوا اركبنا آمِنين مطاعين فركبا يَوْم الْجُمُعَة وَاجْتمعت بَنو عَمْرو بن عَوْف وَقَالُوا أخرجت ملالاً لنا أم تُرِيدُ دَار خيرا من دَارنَا قَالَ إِنِّي أمرت بقرية تَأْكُل الْقرى فخلوها أَي نَاقَته فَإِنَّهَا مأمورة فَسَار حَتَّى أَدْرَكته الْجُمُعَة فِي بني سَالم فَصلاهَا بِمن مَعَه فِي بطن الْوَادي وَادي ذِي صلت وَفِي سيرة ابْن هِشَام وَادي رَانُونَاء وَكَانُوا أَرْبَعِينَ رجلا وَقيل مائَة وَكَانَت هَذِه أول جُمُعَة جمعهَا فِي الْإِسْلَام حِين قدم الْمَدِينَة وَقيل إِنَّه كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَة فِي مَسْجِد قبَاء فِي إِقَامَته هُنَاكَ على قَول من قَالَ إِنَّهَا كَانَت أَرْبَعِينَ يَوْمًا وخطب يَوْمئِذٍ خطْبَة
بليغة يَعْنِي فِي بني سَالم وَهِي أول خطْبَة خطبهَا عليه السلام فِي الْإِسْلَام وروى عَن سعيد بن عبد الرَّحْمَن الجُمَحِي أَنه بلغه عَن خطْبَة رَسُول الله
فِي أول جُمُعَة صليت فِي الْمَدِينَة فِي بني سَالم بن عَوْف أَنَّهَا هِيَ هَذِه الْحَمد لله أَحْمَده وَأَسْتَعِينهُ وأستغفره وأستهديه وأومن بِهِ وَلَا أكفره وأعادي من يكفره وَأشْهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ وَأَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله أرسل بِالْهدى والنور وَالْمَوْعِظَة على فَتْرَة من الرُّسُل وَقلة من الْعلم وضلالة من النَّاس وَانْقِطَاع من الزَّمَان ودنو من السَّاعَة وَقرب من الْأَجَل من يطع الله وَرَسُوله فقد رشده وَمن يعْص الله وَرَسُوله فقد غوى وفرط وضل ضلالا بَعيدا أوصيكم بتقوى الله فَإِنَّهُ خير مَا أوصِي بِهِ الْمُسلم أَخَاهُ أَن يحضه على الْآخِرَة وَأَن يَأْمُرهُ بتقوى الله فاحذروا مَا حذركُمْ الله من نَفسه وَلَا أفضل من ذَلِك ذكر وَإِن تقوى الله لمن عمل بهَا على وَجل ومخافة من ربه عون صدق على مَا تَبْتَغُونَ من أَمر الْآخِرَة وَمن يصلح الَّذِي بَينه وَبَين الله من أمره فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة لَا يَنْوِي بذلك إِلَّا وَجه الله يكن لَهُ ذخْرا فِي عَاجل أمره وذخراً فِيمَا بعد الْمَوْت حِين يفْتَقر الْمَرْء إِلَى مَا يقدم وَمَا كَانَ من سوى ذَلِك يود لَو أَن بَينهَا وَبَينه أمداً بَعيدا ويحذركم الله نَفسه وَالله رءوف بالعباد وَالَّذِي صدق قَوْله وانجز وعده وَلَا خلف لذَلِك فاهه يَقُول {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَاْ بظالم لِلْعَبِيدِ} ق 29 فَاتَّقُوا الله فِي عَاجل أَمركُم وآجله فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة فَإِنَّهُ من يتق الله يكفر عَنهُ سيئاته ويعظم لَهُ أجرا وَمن يتق الله فقد فَازَ فوزاً عَظِيما وَإِن تقوى الله توقي مقته وعقوبته وَسخطه وتبيض الْوُجُوه وترضى الرب وترفع الدرجَة خُذُوا بحظكم وَلَا تفرطوا فِي جنب الله فقد علمكُم الله كِتَابه ونهج لكم سَبيله ليعلم الَّذِي صدقُوا وَيعلم الْكَاذِبين فَأحْسنُوا كَمَا أحسن إِلَيْكُم وعادوا أعداءه وَجَاهدُوا فِي الله حق جهاده وَهُوَ اجتنابكم وسماكم الْمُسلمين ليهلك من هلك عَن بَيِّنَة وَيحيى من حَيّ عَن بَيِّنَة وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه وَأَكْثرُوا ذكر الله ثمَّ اعلموا أَنه خير من الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا وَاعْلَمُوا لما بعد الْمَوْت فَإِنَّهُ من يصلح مَا بَينه وَبَين الله يَكْفِيهِ مَا بَينه وَبَين النَّاس وَذَلِكَ بِأَن الله يقْضِي الْحق على النَّاس وَلَا يقضون
عَلَيْهِ وَيملك من النَّاس وَلَا يملكُونَ عَلَيْهِ وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه الْعلي الْعَظِيم ثمَّ ركب
نَاقَته القصوى وَالنَّاس عَن يَمِينه وشماله وَخَلفه مِنْهُم الرَّاكِب وَمِنْهُم الْمَاشِي فاعترضه الْأَنْصَار فَلَا يمر بدار إِلَّا قَالُوا هَلُمَّ إِلَى الْعِزّ والمنعة والثروة فَيَقُول لَهُم خيرا وَيَدْعُو لَهُم وَيَقُول إِنَّهَا مأمورة خلوا سَبِيلهَا فَمر ببني سَالم فَقَامَ إِلَيْهِ عتْبَان بن مَالك وَنَوْفَل بن عبد الله بن مَالك والعجلان وَهُوَ آخذ بزمام رَاحِلَته يَقُول يَا رَسُول الله انْزِلْ فِينَا فَإِن فِينَا الْعدة وَالْعدَد وَالْحَلقَة يَعْنِي السِّلَاح وَنحن أَصْحَاب الفضاء والحدائق والدرك يَا رَسُول الله كَانَ الرجل من الْعَرَب يدْخل هَذِه البحرة خَائفًا فيلجأ إِلَيْنَا فَنَقُول توقل حَيْثُ شِئْت فَجعل عليه الصلاة والسلام يبتسم وَيَقُول خلوا سَبِيلهَا فَإِنَّهَا مأمورة وَقَامَ إِلَيْهِ عبَادَة بن الصَّامِت ونضلة بن العجلان فجعلان يَقُولَانِ يَا رَسُول الله انْزِلْ فِينَا فَيَقُول إِنَّهَا مأمورة ثمَّ أَخذ عَن يَمِين الطَّرِيق حَتَّى جَاءَ بني الحلبى وَأَرَادَ أَن ينزل على عبد الله بن أبي بن سلول فَلَمَّا رَآهُ وَهُوَ عِنْد مُزَاحم اسْم لأطم مُحْتَبِيًا قَالَ عبد الله بن أبي اذْهَبْ إِلَى الَّذين دعوك فَانْزِل عَلَيْهِم فَقَالَ سعد ابْن عبَادَة يَا رَسُول الله لَا تَجِد فِي نَفسك من قَوْله فقد قدمت علينا والخزرج تُرِيدُ أَن تملكه علينا وَإِنَّهُم لينظمون لَهُ الودع ليتوجوه قلت وَهَذَا عبد الله وَهُوَ رَأس الْمُنَافِقين وَرَأس أهل الْإِفْك الْمشَار إِلَيْهِ بقوله تَعَالَى {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} النُّور 11 مَاتَ على كفره ونفاقه لَعنه الله تَعَالَى ثمَّ قَالَ سعد بن عبَادَة وَلَكِن هَذِه دَاري فَمر ببني سَاعِدَة فَقَالَ لَهُ الْمُنْذر بن عَمْرو وَأَبُو دُجَانَة يَا رَسُول الله إِلَى الْعدَد والثروة وَالْقُوَّة وَالْجَلد وَسعد ابْن عبَادَة يَقُول لَيْسَ فِي قومِي أَكثر عذقاً وَلَا أوسع فَم بِئْر مَعَ الثروة وَالْعدَد وَالْحَلقَة فَيَقُول عليه الصلاة والسلام بَارك الله عَلَيْكُم وَيَقُول يَا أَبَا ثَابت خل سَبِيلهَا فانها مامورة
ثمَّ مر ببني عدي بن النجار أخوال جده عبد الْمطلب فَقَامَ إِلَيْهِ أَبُو سليط وصرمة ابْن أبي أنيس فَقَالَا يَا رَسُول الله نَحن أخوالك هَلُمَّ إِلَى الْعدَد والمنعة وَالْقُوَّة مَعَ الْقَرَابَة لَا تجاوزنا إِلَى غَيرنَا لَيْسَ أحد من قَومنَا أولى بك منا لقرابتنا لَك فَقَالَ خلوا سَبِيلهَا فَإِنَّهَا مأمورة فسارت حَتَّى استناخت فِي مَوضِع الْمَسْجِد فَلم ينزل عَن ظهرهَا فَقَامَتْ ومشت قَلِيلا وَهُوَ
لَا يهيجها ثمَّ التفتت فَكرت رَاجِعَة إِلَى مَكَانهَا الأول وبكرت بِهِ وَوضعت جِرَانهَا على الأَرْض فَنزل عَنْهَا فَأخذ أَبُو أَيُّوب الْأنْصَارِيّ رَحلهَا فَحَمله إِلَى دَاره وَنزل النَّبِي
فِي بَيت من دَار أبي أَيُّوب ثمَّ دَعَتْهُ الْأَنْصَار إِلَى النُّزُول عَلَيْهِم فَقَالَ
الْمَرْء حَيْثُ رَحْله فمضت كَلمته عليه الصلاة والسلام مثلا وَلما بَركت النَّاقة خرجن جواري بني النجار يضربن الدفوف وَيَقُلْنَ // (من الرجز) //
(نَحن جوارٍ من بني النّجار
…
يَا حبّذا محمّد من جَار)
قلت أَبُو أَيُّوب اسْمه خَالِد بن يزِيد أَو زيد هُوَ من بني النجار اطول جده عبد الْمطلب فَقَالَ لَهُنَّ النَّبِي
أتحبنني قُلْنَ نعم يَا رَسُول الله قَالَ وَالله وَأَنا أحبكن قَالَهَا ثَلَاثًا وَعَن أَفْلح مولى أبي ايوب إِن رَسُول الله
لما نزل عَلَيْهِ نزل أَسْفَل وَأَبُو أَيُّوب فِي الْعُلُوّ فانتبه أَبُو ايوب فَبَاتَ ليلته لم ينم فَقَالَ نمشي فَوق رَسُول الله
فتحول هُوَ وَأَهله فِي جَانب فَلَمَّا أصبح ذكر ذَلِك للنَّبِي
فَقَالَ عليه الصلاة والسلام الْأَسْفَل أرْفق بِي فَقَالَ أَبُو أَيُّوب لَا أعلو سَقِيفَة أَنْت تحتهَا فتحول أَبُو أَيُّوب إِلَى السّفل وَالنَّبِيّ
إِلَى الْعُلُوّ واقام
فِي دَار أبي أَيُّوب سَبْعَة أشهر بِتَقْدِيم السِّين قَالَ فِي الرَّوْض الْأنف منزل أبي ايوب الَّذِي نزل فِيهِ رَسُول الله
تصير بعده إِلَى أَفْلح مولى أبي أَيُّوب فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ بعد مَا خرب وتثملت حيطانه
الْمُغيرَة بن عبد الرَّحْمَن بن الْحَارِث بن هِشَام بِأَلف دِينَار بحيلة احتالها عَلَيْهِ الْمُغيرَة ثمَّ أصلح الْمُغيرَة مَا وَهِي من الْبَيْت وَتصدق بِهِ على أهل بَيت من فُقَرَاء الْمَدِينَة فَكَانَ بعد ذَلِك أَفْلح يَقُول للْمُغِيرَة خدعتني فَيَقُول لَهُ الْمُغيرَة لَا أَفْلح من نَدم انْتهى وَهِي فِي شَرْقي الْمَسْجِد الْمُقَدّس ثمَّ بِيعَتْ فاشتراها الْملك المظفر لشهاب الدّين غَازِي ابْن الْملك الْعَادِل سيف الدّين بن أبي بكر بن شادي مَعَ عَرصَة الدَّار وبناها مدرسة للمذاهب الْأَرْبَعَة تعرف الْيَوْم بمدرسة الشهابية وَمن إيوَان قاعتها الصُّغْرَى خزانَة صَغِيرَة جدا مِمَّا يَلِي الْقبْلَة فِيهَا محراب يُقَال أَنه مبرك نَاقَته
وَذَلِكَ على رِوَايَة أَنَّهَا بَركت عِنْد دَار أبي أَيُّوب رضي الله عنه قَالَ ابْن إِسْحَاق إِن هَذَا الْبَيْت بناه تبع الأول لما مر بِالْمَدِينَةِ للنَّبِي
ينزله إِذا قدم الْمَدِينَة فتداول اليبت الْملاك إِلَى أَن صَار إِلَى أبي أَيُّوب وَهُوَ من ذريتة الحبر الَّذِي اسلمه تبع كِتَابه للنَّبِي
فَلم يزل سَاكِنا عِنْد أبي أَيُّوب حَتَّى بنى مَسْجده وحجرة فِي المربد قَالَ فِي الْمَوَاهِب لما اراد النَّبِي
بِنَاء الْمَسْجِد الشريف قَالَ يَا بني النجار ثامنوني بحائطكم قَالُوا لَا نطلب ثمنه إِلَّا إِلَى الله تَعَالَى فَأبى ذَلِك واتباعه بِعشْرَة دَنَانِير أَدَّاهَا من مَال أبي بكر قَالَ أنس وَكَانَ فِي مَوَاضِع نخل وَخرب ومقابر مُشْرِكين فَأمر بالقبور فنبشت وَأخرج مِنْهَا الْعِظَام وبالخرب فسويت وبالنخل فَقطعت ثمَّ أَمر باتخاذ اللَّبن فاتخذه وَبنى الْمَسْجِد وسقفه بِالْجَرِيدِ وَجعلت عمده خشب النّخل صف النّخل فنصب فِي قبْلَة الْمَسْجِد أَي جعله سواري فِي جِهَة الْقبْلَة ليسقف عَلَيْهَا وَجعل عضادتيه حِجَارَة وَجعل قبْلَة الْمَسْجِد الْمُقَدّس وَجعل لَهُ ثَلَاثَة أَبْوَاب بَابا فِي آخِره يُقَال لَهُ بَاب الرَّحْمَة وَالْبَاب الَّذِي يدْخل مِنْهُ وَجعل طوله مِمَّا يَلِي الْقبْلَة إِلَى مؤخره مائَة ذِرَاع وَفِي الْجَانِبَيْنِ مثل ذَلِك أَو دونه وَجعل أساسه قَرِيبا من ثَلَاثَة أَذْرع وَبنى بُيُوتًا إِلَى جَانِبه بِاللَّبنِ وسقفها بجذوع النّخل والجريد فَلَمَّا فرغ من بنائِهِ بنى لعَائِشَة فِي الْبَيْت
الَّذِي يَلِيهِ شَارِعا إِلَى الْمَسْجِد وَجعل سَوْدَة بنة زَمعَة فِي الْبَيْت الآخر الَّذِي يَلِيهِ أَي الْبَاب الَّذِي يَلِي آل عُثْمَان ثمَّ تحول من دَار أبي أَيُّوب إِلَى مساكنه الَّتِي بناها قَالَ البلاذري نزل رَسُول الله
عِنْد أبي أَيُّوب ووهبت لَهُ الْأَنْصَار كل فضل كَانَ فِي خططها وَقَالُوا خُذ منا مَنَازلنَا فَقَالَ لَهُم خيرا وَكَانَ أَبُو أُمَامَة أسعد بن زُرَارَة يجمع بِمن يَلِيهِ فِي مَسْجِد لَهُ فَكَانَ عليه الصلاة والسلام يُصَلِّي بهم فِيهِ ثمَّ إِنَّه سَأَلَ أسعد أَن يَبِيعهُ أَرضًا مُتَّصِلَة بذلك الْمَسْجِد وَهِي مربد التَّمْر كَانَت فِي يَده ليتيمين فِي حجره يُقَال لَهما سهل وَسُهيْل ابْني رَافع بن عَمْرو بن عَائِذ بن ثَعْلَبَة بن غنم بن مَالك بن النجار وَكَانَ مَسْجِد أسعد الَّذِي بناه جداراً مجدراً لَيْسَ عَلَيْهِ سقف وقبلته إِلَى الْقُدس وَعَن أم سَلمَة رضي الله عنها قَالَت بنى رَسُول الله
مَسْجده فَضرب اللَّبن وعجن الطين وَقرب مَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فَقَامَ عليه الصلاة والسلام فَوضع رِدَاءَهُ فَلَمَّا رأى ذَلِك الْمُهَاجِرُونَ وَالْأَنْصَار وضعُوا أرديتهم وَجعلُوا يرتجزون فَيَقُولُونَ // (من الرجز) //
(لَئِن قعدنا والنّبيّ يعْمل
…
ذَاك إِذن لعمل مضلّل)
قَالَ فِي الْمَوَاهِب وروينا أَنه
كَانَ ينْقل مَعَهم اللَّبن فِي ثِيَابه وَيَقُول وَهُوَ ينْقل // (من الْوَسِيط) //
(هَذَا الْجمال لَا حمال خَيْبَر
…
هَذَا أبر رَبنَا وأطهر)
(اللهمّ إنّ الْعَيْش عَيْش الْآخِرَة
…
فَارْحَمْ الْأَنْصَار والمهاجرة)
قَالَ قَالَ ابْن شهَاب وَلم يبلغنَا إِن رَسُول الله
تكلم بِبَيْت شعر غير هَذَا وَقيل إِن الْمُمْتَنع عَلَيْهِ إنْشَاء الشّعْر لَا إنشاده وَلَا دَلِيل على منع إنشاده متمثلاً وَقَوله هَذَا الْحمال هُوَ بِالْحَاء الْمُهْملَة أَي الْمَحْمُول من اللَّبن أبر عِنْد الله من حمال خَيْبَر أَي الَّذِي يحمل مِنْهَا من التَّمْر وَالزَّبِيب وَنَحْو ذَلِك وَفِي رِوَايَة الْمُسْتَمْلِي بِالْجِيم انْتهى وَعَن الزُّهْرِيّ وَكَانَ عُثْمَان بن مَظْعُون رجلا منتظفا فَكَانَ يحمل اللبنة فِي ثَوْبه فَإِذا وَضعهَا نفض كمه وَنظر إِلَى ثَوْبه فَإِن أَصَابَهُ شَيْء من التُّرَاب نفضه فَنظر إِلَيْهِ
عَليّ بن أبي طَالب فَأَنْشَأَ يَقُول // (من الرجز) //
(لَا يَسْتَوِي من يعمر المساجدا
…
يدأب فِيهَا قَائِما وَقَاعِدا)
(وَمن يرى عَن التّراب حائدا
…
)
فَسَمعَهَا عمار بن يَاسر فَجعل يرتجز بهَا وَهُوَ لَا يدْرِي من يَعْنِي بهَا فَمر بعثمان ابْن مَظْعُون فَقَالَ لَهُ يَا بن سميَّة بِمن تعرض وتشتمه لتكفن أَو لأعترضن بهَا وَجهك لحديدة كَانَت بِيَدِهِ فَسَمعهُ النَّبِي
وَهُوَ جَالس فِي ظلّ بَيت أم سَلمَة فَغَضب ثمَّ قَالَ الصَّحَابَة لعمَّار إِن النَّبِي
قد غضب فِيك ونخاف أَن ينزل فِينَا قُرْآن فَقَالَ أَنا أرضيه كَمَا غضب فَقَالَ يَا رَسُول الله مَالِي ولأصحابك قَالَ مَالك وَلَهُم قَالَ يُرِيدُونَ قَتْلِي يحملون لبنة لبنة ويحملون عَليّ اللبنتين وَالثَّلَاث فَأخذ بِيَدِهِ فَطَافَ بِهِ فِي الْمَسْجِد وَجعل يمسح وفرته بِيَدِهِ من التُّرَاب وَيَقُول ياابن سميَّة لَا يقتلك أَصْحَابِي وَلَكِن تقتلك الفئة الباغية وَقَالَ ابْن إِسْحَاق وَسَأَلت غير وَاحِد من أهل الْعلم بِمَا يشْعر عَن هَذَا الرجز يَعْنِي قَوْله لَا يَسْتَوِي إِلَى آخِره فَقَالُوا بلغنَا أَن عَليّ بن أبي طَالب ارتجز بِهِ فَلَا نَدْرِي أهوَ قَائِله أم غَيره وَإِنَّمَا قَالَ عَليّ ذَلِك مطايبة ومباسطة كَمَا هِيَ عَادَة الْجُمُعَة إِذا اجْتَمعُوا على عمل وَلَيْسَ ذَلِك طَعنا مِنْهُ على عُثْمَان بن مَظْعُون وَفِي الصَّحِيح كُنَّا نحمل لبنة لبنة وعمار لبنتين لبنتين فَقَالَ عليه الصلاة والسلام وَيْح عمار تقلته الفئة الباغية يَدعُوهُم إِلَى الْجنَّة ويدعونه إِلَى النَّار فَيَقُول عمار أعوذ بِاللَّه من الْفِتَن فَقتل عمار فِي حَرْب مُعَاوِيَة بصفين تَحت راية عَليّ رضي الله عنه وكرم الله وَجهه وَعَن أُسَامَة عَن أَبِيه قَالَ كَانَ الَّذِي أسسوا الْمَسْجِد جعلُوا طوله مائَة ذِرَاع وَالْعرض مثله أَو دونه كَمَا تقدم ذكر ذَلِك وروى رزين عَن جَعْفَر بن مُحَمَّد عَن
أَبِيه قَالَ بِنَاء مَسْجده عليه الصلاة والسلام لبنة لبنة ثمَّ بالسعيدة لبنة وَنصف أُخْرَى ثمَّ كَثُرُوا فَقَالُوا يَا رَسُول الله لَو زيد فِيهِ فَفعل فَبنى بِالذكر وَالْأُنْثَى وهما لبنتان مُخْتَلِفَتَانِ وَقَالَ ارْفَعُوا أساسه قَرِيبا من ثَلَاثَة أَذْرع بِالْحِجَارَةِ وَلم يسطح فشكوا الْحر فَجعلُوا خشبه وسواريه جذوعاً وظللوه بِالْجَرِيدِ ثمَّ بالخصف فَلَمَّا وكف عَلَيْهِم الْمَطَر طينوا عَلَيْهِ بالطين وَكَانَ جِدَاره قل أَن يظلل قامة وشيئاً وَجعل وَسطه رحبة وَبنى بَيْتَيْنِ لزوجتيه عَائِشَة وَسَوْدَة على نعت بِنَاء الْمَسْجِد من لبن وجريد وَكَانَ بَاب عَائِشَة مواجه الشَّام وَكَانَ بمصراع وَاحِد من عرعر أَو سَاج وَلما تزوج عليه الصلاة والسلام أَزوَاجه بنى لَهُنَّ حجرا وَهن تِسْعَة أَبْيَات قَالَ أهل السّير ضرب عليه الصلاة والسلام بُيُوتهنَّ مَا بَين بَيت عَائِشَة وَبَين الْقبْلَة والشرق إِلَى الشَّام وَلم يضْربهَا فِي غربيه وَكَانَت خَارِجَة من الْمَسْجِد مديرة بِهِ إِلَّا من الغرب فَكَانَت أَبْوَابهَا شارعة فِي الْمَسْجِد وَعَن مُحَمَّد بن هِلَال أدْركْت بيُوت أَزوَاجه عليه الصلاة والسلام من جريد مَسْتُور بمسوح الشّعْر مستطيرة إِلَى الْقبْلَة والشرق وَالشَّام لَيْسَ فِي غربي الْمَسْجِد مِنْهَا شَيْء وَفِي دَلَائِل النُّبُوَّة قَالَ مُحَمَّد بن عمر كَانَت لحارثة بن النُّعْمَان منَازِل قرب الْمَسْجِد وَحَوله فَلَمَّا أحدث عليه الصلاة والسلام أَهلا تحول لَهُ حَارِثَة عَن منزله حَتَّى صَارَت كلهَا لرَسُول الله
وَكَانَ فِي الْمَسْجِد مَوضِع مظلل تأوي إِلَيْهِ الْمَسَاكِين يُسمى الصّفة وَكَانَ عليه الصلاة والسلام يَدعُوهُم بِاللَّيْلِ فيفرقهم على أَصْحَابه وتتعشى طَائِفَة مِنْهُم مَعَه عليه الصلاة والسلام قَالَ الْحَافِظ الذَّهَبِيّ إِن الْقبْلَة قبل أَن يحول اسْتِقْبَال بَيت الْمُقَدّس إِلَى الْكَعْبَة كَانَت فِي شمَالي الْمَسْجِد فَلَمَّا حولت الْقبْلَة إِلَى الْكَعْبَة بَقِي حَائِط الْمَسْجِد الأول مَكَان أهل الصّفة وَقَالَ الْحَافِظ ابْن حجر الصّفة مَكَان مُؤخر الْمَسْجِد مظلل أعد لنزول الغرباء وَمن لَا مأوى لَهُ فَكَانُوا يكثرون فِيهِ تَارَة ويقلون أُخْرَى بِحَسب من يتَزَوَّج مِنْهُم أَو يَمُوت أَو يُسَافر وَقد سرد أَسْمَاءَهُم أَبُو نعيم فِي كِتَابه الْمُسَمّى بالحلية فزادوا على الْمِائَة وَكَانَ الْمَسْجِد على هَذِه الْهَيْئَة فِي عهد رَسُول الله
وَأبي بكر فَزَاد فِيهِ عمر بن
الْخطاب مِائَتي ذِرَاع من جِهَة الشَّام فَقَط سنة 17 فوسعه وَلم يُغير شَيْئا بل بناه على مَا بنى فِي عهد رَسُول الله
بِاللَّبنِ والجريد ثمَّ وَسعه عُثْمَان ثمَّ وَسعه عمر ابْن عبد الْعَزِيز بِأَمْر الْوَلِيد سنة 93 ثمَّ زَاد فِيهِ الْمهْدي مائَة ذِرَاع من جِهَة الشَّام فَقَط سنة 161 ثمَّ جدده الْمَأْمُون وَزَاد فِيهِ وَذَلِكَ سنة ثمَّ الْملك الْأَشْرَف قايتباي عمَارَة لَا غير سنة 888 وَإِلَى يَوْمنَا هَذَا بِنَاؤُه كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى وَيُقَال أَنه
لم يقم فِي قبَاء إِلَّا أَرْبَعَة عشر يَوْمًا وَقيل ثَمَانِيَة عشر ولحقه بهَا بعد ثَلَاث عَليّ بن أبي طَالب وَكَانَ قد تخلف عَنهُ بِمَكَّة لرد ودائع وأمانات كَانَت للنَّاس عِنْد رَسُول الله
وَفَاطِمَة بنت أَسد والدته وَفَاطِمَة ابْنة عَمه حَمْزَة رضوَان الله عَلَيْهِم أَجْمَعِينَ