الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(الْبَاب الأول من الْمَقْصد الثَّانِي)
(فِي الْحمل بِهِ وولادته ورضاعته وَمَوْت خَدِيجَة وَأبي طَالب وَخُرُوجه إِلَى الطَّائِف)
لما أذن الله تبارك وتعالى للنور المحمدي والشخص الأحمدي أَن ينْتَقل من عبد الله بن عبد الْمطلب إِلَى آمِنَة بنت وهب وَقد اندرس فِي الْوُجُود أَعْلَام الْإِيمَان وَالْإِسْلَام وَفَشَا فِيهِ مجاهل الظُّلم والإظلام ونبذ النَّاس الطَّاعَة وكشفوا بالمحارم عَن وَجه الْحيَاء قناعه كَانَ انْتِقَال النُّور الصمدي بالذر المحمدي فَكَانَ الْحمل بِهِ لَيْلَة الْجُمُعَة فِي شعب أبي طَالب وَفِي سيرة الْيَعْمرِي حملت بِهِ آمِنَة فِي أَيَّام التَّشْرِيق عِنْد الْجَمْرَة الْوُسْطَى وَكَانَ سنّ عبد الله إِذْ ذَاك ثَلَاثِينَ سنة وَلما حملت بِهِ أَمر الله تَعَالَى خَازِن الْجنان أَيْن فتح ابوابها تَعْظِيمًا لنُور مُحَمَّد
وَهَبَطَ جِبْرِيل بلوائه الْأَخْضَر فنصبه على ظهر الْكَعْبَة قَالَ فِي الْمَوَاهِب وَاخْتلف فِي مُدَّة الْحمل بِهِ فَقيل تِسْعَة أشهر وَقيل عشرَة وَقيل ثَمَانِيَة وَقيل سَبْعَة وَقيل سِتَّة وَلما تمّ من حمله شَهْرَان وَفِي سيرة مغلطاي قبل وِلَادَته بشهرين توفّي أَبوهُ عبد الله وَقيل إِنَّمَا توفّي حِين كَانَ النَّبِي
فِي المهد قَالَه الدولابي والأرجح الْمَشْهُور هُوَ الأول وَذكر أهل السِّيرَة أَن آمِنَة لم تحمل حملا وَلَا ولدا غَيره وَكَذَا أَبوهُ عبد الله لم يُولد لَهُ غَيره عليه الصلاة والسلام وَلذَلِك لم يكن لَهُ أَخ وَلَا أُخْت لَكِن كَانَ لَهُ ذَلِك من الرضَاعَة وَأما قَول بني زهرَة نَحن اخوال النَّبِي
فلكون أمه آمِنَة مِنْهُم وَفِي الصفوة قَالَ مُحَمَّد بن كَعْب خرج عبد الله بن عبد الْمطلب إِلَى الشَّام فِي تِجَارَة مَعَ جمَاعَة من قُرَيْش فَلَمَّا رجعُوا مروا بِالْمَدِينَةِ وَعبد الله كَانَ مَرِيضا فَتخلف بِالْمَدِينَةِ عِنْد أخوال أَبِيه بني عدي بن النجار فَأَقَامَ عِنْدهم مَرِيضا شهرا وَمضى أَصْحَابه وَقدمُوا مَكَّة وأخبروا عبد الْمطلب فَبعث إِلَيْهِ وَلَده الْحَارِث
وَالزُّبَيْر على قَول ابْن الْأَثِير فوجدوه قد توفّي وَدفن بدار النَّابِغَة وَهُوَ رجل من بني عدي بن النجار فَرجع الْحَارِث فَأخْبر أَبَاهُ فَوجدَ عَلَيْهِ وجدا شَدِيدا وَتُوفِّي وعمره خمس وَعِشْرُونَ سنة وَقيل غير ذَلِك إِذْ قد تقدم عَن سيرة الْيَعْمرِي أَن سنه حَال التَّزَوُّج ثَلَاثُونَ سنة وَترك عبد الله أم أَيمن جَارِيَة حبشية اسْمهَا بركَة فَورثَهَا
وأعتقها يَوْم تزَوجه بخديجة هَاجَرت فأصابها عَطش فِي طريقها فدليت إِلَيْهَا دلو من السَّمَاء فَشَرِبت وَرويت فَمَا أَصَابَهَا عَطش بعد ذَلِك فَكَانَت تتعمد الصَّوْم فِي أَيَّام شدَّة الصَّيف لتظمأ فِيمَا تظمأ وَحَضَرت يَوْم حنين فَكَانَت تمشي بَين صُفُوف الْمُسلمين قائلة سبت الله أقدامكم تُرِيدُ الدُّعَاء لَهُم بتثبيت الْأَقْدَام فَقَالَ لَهَا عليه الصلاة والسلام اسكتي يَا أم أَيمن فَإنَّك عسراء اللِّسَان قَالَه الذَّهَبِيّ زَوجهَا النَّبِي
زيد بن حَارِثَة فَولدت لَهُ أُسَامَة بن زيد وَمَاتَتْ فِي خلَافَة عُثْمَان وَخلف أَيْضا خَمْسَة اجمال وَقطعَة من الْغنم وَكَانَت أم أَيمن الْمَذْكُورَة مُحصنَة وَاخْتلف فِي عَام وِلَادَته فالأكثرون أَنَّهَا عَام الْفِيل وَبِه قَالَ ابْن عَبَّاس وَمن الْعلمَاء من حكى الِاتِّفَاق عَلَيْهِ قَالَ الْعَلامَة ابْن الْجَوْزِيّ فِي التلقيح اتَّفقُوا على أَنه
ولد يَوْم الِاثْنَيْنِ فِي شهر
ربيع الأول عَام الْفِيل وَاخْتلفُوا فِيمَا مضى من ذَلِك الشَّهْر على أَرْبَعَة أَقْوَال أَحدهَا ولد لاثني عشر لَيْلَة خلت مِنْهُ وَالثَّانِي لليلتين وَالثَّالِث لثمان وَهُوَ قَول الْمُحدثين كلهم أَو جلهم الرَّابِع لعشر خلون مِنْهُ وَفِي الْمَوَاهِب ولد بعد الْفِيل بِخَمْسِينَ يَوْمًا وَهلك أَصْحَاب الْفِيل لثلاث عشرَة لَيْلَة بقيت من الْمحرم وَكَانَ أول الْمحرم تِلْكَ السّنة بِالْجمعَةِ وَذَلِكَ فِي عهد كسْرَى أنوشروان لمضي اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين سنة من ملكه وعاش بعد مولده
سبع سِنِين وَثَمَانِية أشهر فَكَانَ ملكه تسعا وَأَرْبَعين سنة وَثَمَانِية أشهر وَقَالَ فِيهِ عليه الصلاة والسلام ولدت فِي زمن الْملك الْعَادِل كسْرَى أنوشروان كَذَا قَالَه ابْن الْأَثِير فِي أَسد الغابة وَاخْتلف فِي مَكَان وِلَادَته عليه الصلاة والسلام فَقيل ولد بِمَكَّة فِي الدَّار الَّتِي كَانَت لمُحَمد بن يُوسُف الثَّقَفِيّ أخي الْحجَّاج وَقيل بِالشعبِ وَقيل بالردم وَقيل بعسفان وَالْمَشْهُور أَنه ولد فِي الدَّار الَّتِي تعرف بدار مُحَمَّد بن يُوسُف الثَّقَفِيّ بزقاق مَعْرُوف بزقاق المولد فِي شعب مَشْهُور بشعب بني هَاشم من الطّرف الشَّرْقِي لمَكَّة تزار ويتبرك بهَا الْآن قَالَ الإِمَام أَبُو الْقَاسِم السُّهيْلي ذكر ابْن مخلد فِي تَفْسِيره أَن إِبْلِيس لَعنه الله تَعَالَى رن أَربع رنات حِين لعن وَحين أهبط وَحين ولد النَّبِي
وَحين أنزلت فَاتِحَة الْكتاب
وَفِي الْكَشَّاف وأنوار التَّنْزِيل الفترة بَين عِيسَى وَمُحَمّد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام سِتّمائَة أَو خَمْسمِائَة وتسع وَسِتُّونَ سنة وَبَينهمَا أَرْبَعَة أَنْبيَاء ثَلَاثَة من بني إِسْرَائِيل وَوَاحِد من الْعَرَب وَهُوَ خَالِد بن سِنَان الْعَبْسِي ثمَّ قَالَ أما خَالِد بن سِنَان فروى أَنه كَانَ فِي زمن كسْرَى أنوشروان وَأَنه كَانَ يَدْعُو النَّاس إِلَى دين عِيسَى وَكَانَ بِأَرْض بني عبس وأطفأ النَّار الَّتِي كَانَت تخرج من بِئْر هُنَاكَ وَتحرق من لَقيته من عَابِر السَّبِيل وَغَيرهم قَالَ فِي مروج الذَّهَب ظَهرت فِي الْعَرَب نَار فكادوا بهَا يفتتنون وسالت سيلاً فَأخذ خَالِد هراوته وَدخل فِيهَا وَهُوَ يَقُول بدا بدا كل هَذَا مؤد إِلَى الله الْأَعْلَى لأدخلنا وَهِي نَار تلظى ولأخرجن مِنْهَا وثيابي تندى فأطفأها وَلما حَضرته الْوَفَاة قَالَ لإخوته إِذا دفنت فستجيء عانة من حمير يقدمهَا عير أَبتر فَيضْرب قَبْرِي بحافره فَإِذا رَأَيْتُمْ ذَلِك فانبشوا عني فَإِنِّي أخرج وأخبركم بِجَمِيعِ مَا يكون وَمَا هُوَ كَائِن فَلَمَّا مَاتَ وَدفن رأواما قَالَ وَأَرَادُوا أَن يحفروا عَنهُ فكره ذَلِك بَعضهم وَقَالُوا نَخَاف السبة وَأَتَتْ ابْنَته رَسُول الله
فَسَمعته يقْرَأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} الْإِخْلَاص رقم فَقَالَت كَانَ أبي يَقُولهَا وجرجيس أدْرك بعض حوارِي عِيسَى عليه السلام أرسل إِلَى بعض مُلُوك الْموصل بدعوة فَقتله فأحياه الله فَفعل بِهِ ذَلِك مرَارًا فَأمر بنشره أَجزَاء وإحراقه وإذرائه فِي دجلة فَأَهْلَكَهُ الله وَجَمِيع أهل مَمْلَكَته كَمَا وَردت بِهِ الْأَخْبَار عَن أهل الْكتاب مِمَّن آمن ذكر ذَلِك وهب بن مُنَبّه وَفِي كتاب الِابْتِدَاء وَالسير وحبِيب النجار بأنطاكية من أَرض الشَّام وَبهَا ملك متجبر يعبد التماثيل والصور فَصَارَ إِلَيْهِ اثْنَان من تلامذة عِيسَى دَعْوَاهُ فحبسهما وضربهما فعززا بثالث شَمْعُون الصَّفَا كَمَا أخبر عَنْهُم تَعَالَى بقوله {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} الْآيَة يس 14 وَمِنْهُم حَنْظَلَة بن صَفْوَان نَبِي بَين عِيسَى وَمُحَمّد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام
لَئِن كَانَ فِي الْأَمر رضَا لَيَكُونن بعده سخط إِن الله دينا هُوَ أرْضى من دين أَنْتُم عَلَيْهِ مَا بَال النَّاس يذهبون وَلَا يرجعُونَ أرضوا بالْمقَام فأقاموا أم نزلُوا فَنَامُوا سَبِيل مؤتلف وَعمل مُخْتَلف وَقَالَ أبياتاً لَا أحفظها فَقَالَ أَبُو بكر رضي الله عنه أَنا أحفظها يَا رَسُول الله فَقَالَ هَاتِهَا فَقَالَ // (من مجزوء الْكَامِل) //
(فِي السَّابِقين الْأَوَّلين
…
من الْقُرُون لنا بصائر)
(لمّا رَأَيْت موارداً
…
للْقَوْم لَيْسَ لَهَا مصَادر)
(وَرَأَيْت قومِي نَحْوهَا
…
يمْضِي الْأَوَائِل والأواخر)
(لَا يرجع الْمَاضِي وَلَا
…
يبْقى من البَاقِينَ غابر)
(أيقنت أَنِّي لَا محَالة
…
حَيْثُ صَار الْقَوْم صائر)
فَقَالَ النَّبِي
يرحم الله قسا اني لأرجو إِن يبْعَث أمة وَاحِدَة وَمِنْهُم أَصْحَاب الْأُخْدُود فِي مَدِينَة نَجْرَان بِالْيمن فِي ملك ذِي نواس الْقَاتِل الَّذِي شاتر وَكَانَ على دين الْيَهُود فَبَلغهُ أَنه قوما بِنَجْرَان على دين الْمَسِيح بن مَرْيَم فَسَار إِلَيْهِم واحتفروا الْأُخْدُود كَمَا ذكرهم الله تَعَالَى بقوله {قتل أَصْحَاب الأُخْدُودِ} البروج 4 وأتى بِامْرَأَة مَعهَا طِفْل فتقهقرت عَن النَّار عِنْد الْأُخْدُود فَتكلم طلفها وَقَالَ يَا أُمَّاهُ قفي وَلَا تقاعسي فَإنَّك على الْحق وهم على دين النَّصْرَانِيَّة فِي ذَلِك الْوَقْت مُؤمنين مُوَحِّدين فَمضى مِنْهُم رجل يُقَال لَهُ ذُو ثعلبان إِلَى قَيْصر يستنجده فَكتب لَهُ إِلَى النَّجَاشِيّ لِأَنَّهُ كَانَ أقرب إِلَيْهِم دَارا فَكَانَ من أَمر الْحَبَشَة وعبورهم إِلَى أَرض الْيمن وتغلبهم عَلَيْهَا مَا كَانَ إِلَى أَن كَانَ من أَمر سيف بن ذِي يزن واستنجاده بكسرى وإمداده لَهُ بِمن كَانَ فِي حَبسه وأميرهم وهرز وظفر سيف على الْحَبَشَة مَا هُوَ مَشْهُور وَمِنْهُم أُميَّة بن أبي الصَّلْت الثَّقَفِيّ كَانَ يتجر إِلَى الشَّام فلقي أهل الْكِتَابَيْنِ
وَأَخْبرُوهُ أَن نَبيا يبْعَث فِي الْعَرَب فَلَمَّا بلغه ظُهُوره عليه الصلاة والسلام اغتاظ وتأسف ثمَّ أَتَى الْمَدِينَة يسلم فَرده الْحَسَد فَرجع إِلَى الطَّائِف فَبَيْنَمَا هُوَ يشرب مَعَ فتية إِذْ صَاح غراب ثَلَاثَة أصوات وطار فَقَالَ أَتَدْرُونَ مَا قَالَ قَالُوا لَا قَالَ إِنَّه يَقُول إِن أُميَّة لَا يشرب الكأس الثَّالِثَة حَتَّى يَمُوت فَقَالُوا لتكذبن وَقَالُوا احسوا كأسكم فَلَمَّا انْتَهَت إِلَيْهِ أغمى عَلَيْهِ فَسكت طَويلا ثمَّ أَفَاق يَقُول لبيكما لبيكما هأنذا لديكما ثمَّ أنشأ يَقُول // (من الْخَفِيف) //
(إنّ يَوْم الْحساب يومٌ عظيمٌ
…
شَاب فِيهِ الصّغير يَوْمًا طَويلا)
(لَيْتَني كنت قبل مَا قد باد لي
…
فِي رُؤُوس الْجبَال أرعى الوعولا)
(كلّ عيشٍ وَإِن تطاول دهراً
…
صائرٌ مرّةٌ إِلَى أَن يزولا)
ثمَّ شهق شهقة فَكَانَت فِيهَا نَفسه وَقد ذكر الْعلمَاء بأمثال الْعَرَب وأخبار من سلف أَن السَّبَب فِي كِتَابَة قُرَيْش واستفتاحها بقَوْلهمْ بِاسْمِك اللَّهُمَّ هُوَ أَن أُميَّة بن أبي الصَّلْت خرج إِلَى الشَّام فِي نفر من ثَقِيف وقريش وَغَيرهم فَلَمَّا قَفَلُوا رَاجِعين نزلُوا منزلا واجتمعوا لعشائهم إِذْ أَقبلت حَيَّة صَغِيرَة حَتَّى دنت مِنْهُم فحصبها بَعضهم فِي وَجههَا فَرَجَعت عَن سفرتهم وَقَامُوا إِلَى إبلهم وَارْتَحَلُوا من منزلهم فَلَمَّا برزوا من الْمنزل أشرفت عَلَيْهِم عَجُوز من كثيب رمل متوكئة على عَصا لَهَا فَقَالَت مَا منعكم أَن تطعموا رحيمة الْجَارِيَة الْيَتِيمَة الَّتِي جاءتكم عَشِيَّة قَالُوا وَمَا أَنْت قَالَت أم الْعَوام أيمت مُنْذُ أَعْوَام اما وَرب الْعباد لنفرقن فِي الْبِلَاد ثمَّ ضربت بعصاها فِي الأَرْض فأثارت الرمل ثمَّ قَالَت أطيلي إيابهم ونفري رِكَابهمْ فنفرت الْإِبِل كَأَن على كل ذرْوَة بِبَعِير شَيْطَانا مَا نملك مِنْهَا شَيْئا حَتَّى افْتَرَقت فِي الْوَادي فجمعناها من آخر النَّهَار إِلَى غَد وَلم نكد فَلَمَّا أنخنا لنركب طلعت الْعَجُوز فَعَادَت بالعصر لفعلها الأول وعادت لمقالتها مَا منعكم أَن تطعموا إِلَى آخر مَا قالته أَولا فتفرقت الْإِبِل فجمعناها من بكرَة النَّهَار إِلَى الْعشَاء وَلم نكد فَلَمَّا أنخنا لنركب طلعت وَفعلت مثل فعلهَا الأول وَالثَّانِي فنفرت الْإِبِل فأمسينا فِي لَيْلَة مُقْمِرَة ويئسنا من ظهرنا فَقَالَ بعض الْقَوْم لأمية بن أبي الصَّلْت أَيْن مَا كنت تخبرنا بِهِ عَن نَفسك فَتوجه إِلَى ذَلِك الْكَثِيب الَّذِي أَتَت مِنْهُ الْعَجُوز حَتَّى هَبَط من نَاحيَة أُخْرَى ثمَّ صعد كثيباً آخر حَتَّى هَبَط مِنْهُ ثمَّ رفعت لَهُ كَنِيسَة فِيهَا
وَقَالَت حمل برَسُول الله
وَرب الْكَعْبَة وَهُوَ إِمَام الدُّنْيَا وسراج أَهلهَا وَلم يبْق سَرِير لملك من مُلُوك الدُّنْيَا إِلَّا أصبح منكوساً وَمَرَّتْ وحوش الْمشرق إِلَى وحوش الْمغرب بالبشارات وَكَذَلِكَ أهل الْبحار بشر بَعْضهَا بَعْضًا وَله فِي كل شهر من شهور حمله نِدَاء فِي الأَرْض ونداء فِي السَّمَاء أَن أَبْشِرُوا فقد آن إِن يظْهر أَبُو الْقَاسِم
ميموناً مُبَارَكًا وَلما تمّ من حملهَا شَهْرَان توفّي عبد الله كَمَا تقدم ذكره وَقَالَت آمِنَة ترثي عبد الله وَالِده عليه الصلاة والسلام // (من الطَّوِيل) //
(عفى جَانب الْبَطْحَاء من ابْن هاشمٍ
…
وجاور لحداً خَارِجا فِي الغماغم)
(دَعَتْهُ المنايا دَعْوَة فأجابها
…
وَمَا تركت فِي النّاس مثل ابْن هَاشم)
(عشيّة راحوا يحملون سَرِيره
…
تعاوره أَصْحَابه فِي التّزاحم)
(فَإِن تَكُ غالته المنايا وريبها
…
فقد كَانَ معطاءً كثير التّراحم)
وَمن شعر عبد الله بن عبد الْمطلب وَالِد نَبينَا عليه الصلاة والسلام نَقله الصَّفَدِي فِي تَرْجَمته وَذكره خَاتِمَة الْحفاظ الْجلَال السُّيُوطِيّ فِي كِتَابه مسالك الحنفا فِي حكم إِيمَان وَالِدي الْمُصْطَفى قَوْله // (من الطَّوِيل) //
(لقد حكم السّارون فِي كلّ بلدةٍ
…
بأنّ لنا فضلا على سَائِر الأَرْض)
(وأنّ أَبى ذُو الْمجد والسّؤدد الّذي
…
يسَار بِهِ مَا بَين نشزٍ إِلَى خفض)
(وجدّي وآباءٌ لَهُ أثّلوا الْعلَا
…
قَدِيما بِطيب الْعرض والحسب الْمَحْض)
قَالَ القطب النهرواني فِي بعض تذاكره وَمن خطه نقلت قد ذيل على هَذِه الأبيات صاحبنا الْعَلامَة الشَّيْخ عبد النافع بن مُحَمَّد بن عراق بَيْتَيْنِ على لِسَان عبد الله ابْن عبد الْمطلب فَقَالَ // (من الطَّوِيل) //
(وَقد جَاءَ من صلى نبيٌ معظمٌ
…
يشفّعه الرّحمن فِي موقف الْعرض)
(وَمَا لنبيٍّ غَيره مثل فخره
…
فَهَل مثل هَذَا الْمجد فِي الطّول وَالْعرض)
وَعَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما لما توفّي عبد الله قَالَت الْمَلَائِكَة إلهنا
وَسَيِّدنَا ومولانا بَقِي نبيك يَتِيما فَقَالَ الله تَعَالَى أَنا حَافظ لَهُ ونصير وَقيل لجَعْفَر الصَّادِق لم يتم النَّبِي
من ابويه فَقَالَ لِئَلَّا يكون عَلَيْهِ حق لمخلوق نَقله عَنهُ أَبُو حَيَّان فِي الْبَحْر وروى أَبُو نعيم عَن عَمْرو بن قُتَيْبَة قَالَ سَمِعت أبي وَكَانَ من أوعية الْعلم قَالَ لما حضرت ولادَة آمِنَة قَالَ الله تَعَالَى تِلْكَ السّنة لِنسَاء الدُّنْيَا ليحملن ذُكُورا كَرَامَة لمُحَمد
وَعنهُ عَن ابْن عَبَّاس قَالَ كَانَت آمِنَة تحدث وَتقول: أَتَانِي آتٍ حِين مر بِي من حملي سِتَّة أشهر فِي الْمَنَام، وَقَالَ: يَا آمِنَة، حملت بِخَير الْعَالمين، فَإِذا ولدتيه فَسَمِّيهِ مُحَمَّدًا واكتمي شَأْنك ثمَّ لما أَخَذَنِي مَا يَأْخُذ النِّسَاء وَلم يعلم بِي أحد وَإِنِّي لوحيدة فِي الْمنزل وَعبد الْمطلب فِي طَوَافه فَسمِعت وجبة عَظِيمَة ثمَّ رَأَيْت كَأَن جنَاح طَائِر أَبيض قد مسح على فُؤَادِي فَذهب عني الروع وكل وجع أَجِدهُ ثمَّ الْتفت فَإِذا بِشَربَة بَيْضَاء فتناولتها فَأَصَابَنِي نور عَال ثمَّ رَأَيْت نسْوَة كالنخل طوَالًا كأنهن من بَنَات عبد منَاف يحدقن بِي فَبَيْنَمَا أَنا أتعجب وَأَقُول واغوثاه من أَيْن علِمْنَ بِي فَقُلْنَ لي نَحن آسِيَة امْرَأَة فِرْعَوْن وَمَرْيَم ابْنة عمرَان وَهَؤُلَاء من الْحور الْعين فَبَيْنَمَا أَنا كَذَلِك إِذا بديباج أَبيض قد مر بَين السَّمَاء وَالْأَرْض وَإِذا بقائل يَقُول خذاه عَن أعين النَّاس وَرَأَيْت رجَالًا وقفُوا فِي الْهَوَاء بِأَيْدِيهِم أَبَارِيق من فضَّة ثمَّ نظرت فَإِذا أَنا بِقِطْعَة من الطير قد أَقبلت حَتَّى غطت حُجْرَتي مناقيرها من الزمرد وأجنحتها من الْيَاقُوت وكشف الله عَن بَصرِي فَرَأَيْت مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا وَرَأَيْت ثَلَاثَة أَعْلَام مضروبات علما بالمشرق وعلماً بالمغرب وعلماً على ظهر الْكَعْبَة فأخذني الْمَخَاض فَوضعت مُحَمَّدًا
فَنَظَرت إِلَيْهِ فَإِذا هُوَ ساجد قد رفع إصبعيه إِلَى السَّمَاء كالمتضرع المبتهل ثمَّ رَأَيْت سَحَابَة بَيْضَاء قد أَقبلت حَتَّى غَشيته فغيبته عني فَسمِعت منادياً طوفوا بِهِ مَشَارِق الأَرْض وَمَغَارِبهَا وأدخلوه الْبحار ليعرفوه باسمه ونعته وَصورته ويعلموا أَنه سمى فِيهَا الماحي لَا يبْقى من الشّرك شَيْء إِلَّا مُحي فِي زَمَنه قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ فِي التلقيح لَا يعرف فِي الْعَرَب من تسمى بِمُحَمد قبله
إِلَّا ثَلَاثَة طمع آباؤهم حِين سمعُوا بِذكر مُحَمَّد
وبقرب زَمَانه وانه يبْعَث
بالحجاز أَن يكون ولدا لَهُم أحدهم مُحَمَّد بن سُفْيَان بن مجاشع جد الفرزدق الشَّاعِر التَّمِيمِي وَالْآخر مُحَمَّد بن أحيحة بن الجلاح بن الجريش بن عبوف بن عَمْرو بن عَوْف بن مَالك بن الْأَوْس وَالْآخر مُحَمَّد بن حمْرَان بن ربيعَة كَانَ آبَاء هَؤُلَاءِ قد وفدوا علم بعض الْمُلُوك وَكَانَ عِنْده علم بِالْكتاب الأول فَأخْبرهُم بمبعث النَّبِي
باسمه وَكَانَ كل وَاحِد مِنْهُم قد خلف امْرَأَته حَامِلا فَنَذر كل وَاحِد مِنْهُم إِن ولد لَهُ ذكر أَن يُسَمِّيه مُحَمَّدًا فَفَعَلُوا فَائِدَة ذكر الْحُسَيْن بن مُحَمَّد الدَّامغَانِي فِي كِتَابه شوق الْعَرُوس وَأنس النُّفُوس نقلا عَن كَعْب الْأَحْبَار أَنه قَالَ اسْم النَّبِي
عَن أهل الْجنَّة عبد الْكَرِيم وَعند أهل النَّار عبد الْجَبَّار وَعند أهل الْعَرْش عبد الحميد وَعند الْمَلَائِكَة عبد الْمجِيد وَعند الْأَنْبِيَاء عبد الْوَهَّاب وَعند الشَّيَاطِين عبد القهار وَعند الْجِنّ عبد الرَّحِيم وَفِي الْجبَال عبد الْخَالِق وَفِي الْبر عبد الْقَادِر وَفِي الْبَحْر عبد الْمُهَيْمِن وَعند الْحيتَان عبد القدوس وَعند الْهَوَام عبد الغياث وَعند الوحوش عبد الرَّزَّاق وَعند السبَاع عبد السَّلَام وَعند الْبَهَائِم عبد المؤمني وَعند الطُّيُور عبد الْغفار وَفِي التَّوْرَاة مودود وَفِي الْإِنْجِيل طَابَ طَابَ وَفِي الصُّحُف عاقب وَفِي الزبُور فاروق وَعند الله طه وَيس وَعند الْمُؤمنِينَ مُحَمَّد
روى مَخْزُوم بن هَانِيء المَخْزُومِي عَن أَبِيه وَكَانَ لَهُ مائَة وَخَمْسُونَ سنة قَالَ لما ولد النَّبِي
ارتجس إيوَان كسْرَى أنوشروان فَسَقَطت مِنْهُ أَربع عشرَة شرفة وَكَانَت لَهُ اثْنَتَانِ وَعِشْرُونَ شرفة وَانْشَقَّ صدعا ظَاهر وَهَذِه آيَة وبناؤه إِلَى الْآن كَذَلِك قلت أَخْبرنِي من رَآهُ فَقَالَ هُوَ يَعْنِي الشق مستطيل من أَعلَى الْجِدَار إِلَى أَسْفَله فِي كتف الإيوان الْأَيْسَر وسعة فَتْحة الشق مدْخل رجل وَعرض جِدَاره فَوق
خَمْسَة أَذْرع كَذَا أَخْبرنِي وَقد سَأَلت غَيره فطابق قَوْله انْتهى وخمدت نَار فَارس وَكَانَ لَهَا أَكثر من ألف عَام لم تخمد وَهِي الَّتِي يعبدونها وغاصت بحيرة ساوة وَهِي بَين همذان وقم وَكَانَت أَكثر من سِتَّة فراسخ فِي الطول وَالْعرض وَكَانَ يعبر فِيهَا بالسفن وَبقيت كَذَلِك ناشفة يابسة على هَؤُلَاءِ الْقَوْم حَتَّى بنيت موضعهَا مَدِينَة ساوة الْبَاقِيَة الْيَوْم وَأرى الموبذان كَأَن إبِلا صعاباً تقود خيلاً عراباً حَتَّى عبرت دجلة وانتشرت فِي بِلَاد فَارس فَلَمَّا أصبح تجلد كسْرَى وَجلسَ على سَرِير ملكه وَلبس تاجه وَأرْسل إِلَى الموبذان فَقَالَ يَا موبذان أَنه سَقَطت من ايواني أَربع عشة شرفة وخمدت نَار فَارس فَقَالَ الموبذان وَأَنا أَيهَا الْملك رَأَيْت إبِلا صعاباً تقود خيلاً حَتَّى عبرت دجلة وانتشرت فِي بِلَاد فَارس قَالَ كسْرَى فَمَا ترى ذَلِك يَا موبذان وَكَانَ موبذان أعلمهم قَالَ حدث يكون من جَانب الْعَرَب فَكتب حِينَئِذٍ من كسْرَى ملك الْمُلُوك إِلَى النُّعْمَان بن الْمُنْذر ابْعَثْ إِلَيّ رجلا من الْعَرَب يُخْبِرنِي عَمَّا أسأله عَنهُ فَبعث إِلَيْهِ عبد الْمَسِيح بن حَيَّان بن عَمْرو الغساني قيل كَانَ لَهُ من الْعُمر قريب من أَرْبَعمِائَة سنة فَقَالَ لَهُ كسْرَى يَا عبد الْمَسِيح هَل عنْدك علم بِمَا أُرِيد أَن أَسأَلك عَنهُ فَقَالَ يسألني الْملك فَإِن كَانَ عِنْدِي مِنْهُ علم أعلمته وَإِلَّا فَأعلمهُ بِمن عِنْده علم فَأخْبرهُ برؤيا الموبذان فَقَالَ علمه عِنْد خَال لي يسكن مشارف الشَّام يُقَال لَهُ سطيح واسْمه ربيع بن ربيعَة بن ماذر بن مَنْصُور بن ذِئْب كَاهِن لم يكن مثله فِي بني آدم وَكَانَ خلقه عجيباً عَن ابْن عَبَّاس إِن الله خلق سطيحاً الغساني كلحم على وَضم لَيْسَ لَهُ عظم وَلَا عصب وَلَا جمجمة وَالْكَفَّيْنِ وَلم يَتَحَرَّك مِنْهُ إِلَّا لِسَانه قيل لكَونه مخلوقاً من مَاء امْرَأتَيْنِ تساحقتا وَلم يقدر على الْقيام وَالْقعُود إِلَّا أَنه كَانَ إِذا غضب نفخه الرّيح فيجلس لَا غير وَكَانَ وَجهه فِي صَدره لم يكن لَهُ رَأس وَلَا عنق وَقد عمل لَهُ سَرِير من السعف والجريد فَإِذا أُرِيد نَقله إِلَى مَكَان يطوى من رجله إِلَى ترقة ته كَمَا يطوى الثَّوْب فَيُوضَع على ذَلِك السرير فَيذْهب بِهِ إِلَى حَيْثُ يَشَاء وَإِذا أُرِيد تكهنه وإخباره بالمغيبات يُحَرك وطب المخيض فينتفخ ويمتلىء ويعلو النَّفس فيخبر عَن المغيبات وَكَانَ يسكن الْجَابِيَة وَهِي مَدِينَة من مشارف الشَّام
وَفِي حَيَاة الْحَيَوَان الْكُبْرَى روى أَنه ولد شَقِيق وسطيح فِي اللَّيْلَة الَّتِي مَاتَت فِيهَا طريفة الكاهنة امْرَأَة عَمْرو بن عَامر مزيقيا الْآتِي ذكرهَا إِن شَاءَ الله تَعَالَى فِي الْمَقْصد الرَّابِع ودعت بسطيح قبل أَن تَمُوت فتفلت فِي فِيهِ وأخبرت أَنه سيخلفها فِي علمهَا وكهانتها ودعت بشقيق فَفعلت بِهِ مثل ذَلِك ثمَّ مَاتَت وقبرها بِالْجُحْفَةِ انْتهى هَذَا سطيح وَأما شقّ فَهُوَ بِكَسْر الشين كَانَ شقّ إِنْسَان لَهُ يَد وَاحِدَة وَرجل وَاحِدَة وَعين وَاحِدَة وذكران من وَلَده خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي عَامل بني أُميَّة على مَكَّة قيل كَانَت ولادَة سطيح فِي أَيَّام سيل العرم وَخرج من مأرب مَعَ رَهْط من الأزد فِي أَيَّام تفرق النَّاس مِنْهَا وعاش إِلَى زمن وِلَادَته عليه الصلاة والسلام فَكَانَ لَهُ من الْعُمر قريب من سِتّمائَة سنة وَعَن وهب بن مُنَبّه سُئِلَ سطيح من أَيْن لَك علم الكهانة قَالَ إِن لي قريناً من الْجِنّ كَانَ قد اسْتمع أَخْبَار السَّمَاء فِي زمَان كلم الله مُوسَى فِي الطّور فَيَقُول لي من ذَاك أَشْيَاء وَأَنا أقولها للنَّاس انْتهى فَقَالَ كسْرَى لعبد الْمَسِيح اذْهَبْ إِلَى سطيح واسأله فَأخْبر بِمَا يُخْبِرك بِهِ فَخرج عبد الْمَسِيح حَتَّى قدم على سطيح وَهُوَ مشرف على الْمَوْت فَأَنْشد عبد الْمَسِيح رجزاً فَلَمَّا سَمعه سطيح رفع رَأسه إِلَيْهِ وَقَالَ عبد الْمَسِيح من بلد نزيح على جمل مسيح جَاءَ إِلَى سطيح وَقد وافاه على ضريح بَعثك ملك ساسان لارتجاس الإيوان وخمود النيرَان ورؤيا الموبذان رأى إبِلا صعاباً تقود خيلاً عراباً قد قطعت دجلة فانتشرت فِي بِلَاد فَارس يَا عبد الْمَسِيح إِذا ظَهرت التِّلَاوَة وَبعث صَاحب الهراوة وغاضت بحيرة ساوة وَانْقطع وَادي سماوة وخمدت نَار فَارس لم تكن بِبَابِل للْفرس مقَاما وَلَا الشَّام لسطيح شاماً يملك مِنْهُم مُلُوك وملكات على عدَّة تِلْكَ الشرفات ثمَّ تكون هَنَات وهنات وكل مَا هُوَ آتٍ آتٍ ثمَّ مَاتَ وَفِي مُعْجم مَا استعجم السماوة بِكَسْر السِّين وَتَخْفِيف الْمِيم مفازة بَين الْكُوفَة وَالشَّام وَقيل بَين الْموصل وَالشَّام من أَرض كلاب وَقَالَ الْأَصْمَعِي السماوة أَرض قَليلَة الْعرض كَثِيرَة الطول سميت بذلك لعلوها وارتفاعها انْتهى فَرجع عبد الْمَسِيح إِلَى كسْرَى وَأخْبرهُ بِمَا قَالَ سطيح فَقَالَ كسْرَى إِلَى أَن يملك منا أَرْبَعَة عشرَة ملكا كَانَت أُمُور فَملك مِنْهُم عشرَة مُلُوك فِي أَربع سِنِين وَملك الْبَاقُونَ فِي خلَافَة عُثْمَان رضي الله عنه وروى أَن عبد الْمَسِيح هَذَا هُوَ الَّذِي صَالح خَالِد بن الْوَلِيد على الْحيرَة وَكَانَ ذَلِك المَال أول مَال ورد على أبي بكر الصّديق رضي الله عنه ولنذكر غَزْوَة خَالِد بن الْوَلِيد للحيرة وَمُصَالَحَة أَهلهَا إِيَّاه على المَال الْمَذْكُور إِذْ الْكَلَام يجر بعضه بَعْضًا فالمسئول من النَّاظر التسامح والإغضاء فَنَقُول قَالَ الْعَلامَة المَسْعُودِيّ فِي تَارِيخه الْمُسَمّى بمروج الذَّهَب ومعادن الْجَوْهَر وَمن كِتَابه نقلت ذكر جمَاعَة من الإخباريين وَذَوي الْعلم بأيام الْعَرَب مِنْهُم هِشَام ابْن مُحَمَّد الْكَلْبِيّ وَأَبُو مخنف لوط بن يحيى وشرقي بن الْقطَامِي أَن خَالِد بن الْوَلِيد المَخْزُومِي لما أقبل يُرِيد الْحيرَة فِي سُلْطَان أبي بكر رضي الله عنه بعد فتح الْيَمَامَة وَقتل مُسَيْلمَة الْكذَّاب فَلَمَّا رَآهُ أهل الْحيرَة تحَصَّنُوا فِي الْقصر الْأَبْيَض وَقصر الْقَادِسِيَّة وَقصر بني ثَعْلَبَة وَهَذِه أَسمَاء قُصُور كَانَت بهَا فَلَمَّا نظر خَالِد إِلَى أهل الْحيرَة ورآهم تحَصَّنُوا أَمر الْعَسْكَر فنزلوا نَحْو النجف وَأَقْبل خَالِد وَمَعَهُ ضرار بن الْأَزْوَر الْأَسدي فَوقف حِيَال قصر بني ثَعْلَبَة فَجعل العباديون يرمونهما بالخذف فَجعل فرسه ينفر فَقَالَ لَهُ ضرار لَيْسَ لَهُم مكيدة أعظم من هَذِه وَمضى خَالِد إِلَى عسكره فَبعث إِلَى أهل الْحيرَة أَن أرْسلُوا إِلَيْنَا رجلا من عقلائكم وَذَوي أنسابكم نَسْأَلهُ عَن أَمركُم فبعثوا إِلَيْهِ عبد الْمَسِيح بن عَمْرو بن قيس الغساني هَذَا وَهُوَ الرَّسُول إِلَى سطيح لتعبير رُؤْيا الموبذان فَأقبل عبد الْمَسِيح فَنظر إِلَيْهِ خَالِد بن الْوَلِيد فَقَالَ لَهُ من أَيْن قصّ أثرك أَيهَا الشَّيْخ فَقَالَ من صلب أبي فَقَالَ لَهُ خَالِد فَمن أَيْن جِئْت قَالَ من بطن أُمِّي فَقَالَ خَالِد فعلام أَنْت وَيحك قَالَ على الأَرْض فَقَالَ لَهُ فَفِيمَ أَنْت لَا كنت فَقَالَ فِي ثِيَابِي فَقَالَ خَالِد أتعقل لَا عقلت قَالَ عبد الْمَسِيح إِي وَالله وأقيد فَقَالَ خَالِد ابْن كم أَنْت قَالَ ابْن رجل وَاحِد فَقَالَ خَالِد اللَّهُمَّ أخزهم أهل بَلْدَة فَمَا يزيدوننا إِلَّا عماء أسأله عَن الشَّيْء فيجيب عَن غَيره قَالَ كلا وَالله مَا أَجَبْتُك إِلَّا عَمَّا سَأَلتنِي عَنهُ فسل عَمَّا بدا لَك فَقَالَ خَالِد أعرب أَنْتُم أم نبط فَقَالَ عبد الْمَسِيح عرب
استنبطنا ونبط استعربنا قَالَ خَالِد فحرب أَنْتُم أم سلم قَالَ لَا بل سلم قَالَ فَمَا بَال هَذِه الْحُصُون قَالَ بنيناها للسفيه نحبسه حَتَّى يَأْتِي الْحَلِيم فينهاه فَقَالَ خَالِد كم أَتَت لَك من السنين قَالَ خَمْسُونَ وثلاثمائة قَالَ خَالِد فَمَا أدْركْت قَالَ أدْركْت سفن الْبَحْر ترفأ إِلَيْنَا فِي هَذَا النجف بمتاع الصين والهند وأمواج الْبَحْر تضرب مَا تَحت قَدَمَيْك وبيننا الْيَوْم وَبَين الْبَحْر مَا تعلم وَرَأَيْت الْمَرْأَة من الْحيرَة تَأْخُذ مكتلها على رَأسهَا لَا تتزود إِلَّا رغيفاً وَاحِدًا فَلَا تزَال تمشي فِي قرى مُتَّصِلَة وعمائر مُتَّصِلَة وأشجار مثمرة وأنهار جَارِيَة وغدران غدقة حَتَّى ترد الشَّام فَوَجَمَ خَالِد لذَلِك قَالَ الرَّاوِي وَمَعَ عبد الْمَسِيح سم سَاعَة يقلبه بِيَدِهِ فَقَالَ لَهُ خَالِد مَا هَذَا مَعَك قَالَ سم سَاعَة قَالَ مَا تصنع بِهِ قَالَ أَتَيْتُك فَإِن يكن عنْدك مَا يسرني ويوافق أهل بلدتي قبلته وحمدت الله وَإِن تكن الْأُخْرَى لم أكن أول سائق إِلَى أهل بلدتي ذلاً وبلاء فَآكل هَذَا السم وأستريح من الدُّنْيَا فَإِنَّمَا بَقِي من عمري الْيَسِير فَقَالَ لَهُ خَالِد هاته فَأَخذه وَوَضعه فِي رَاحِلَته ثمَّ قَالَ بِسم الله وَبِاللَّهِ بِسم الله رب الأَرْض وَالسَّمَاء بِسم الله الَّذِي لَا يضر مَعَ اسْمه شَيْء فِي الأَرْض وَلَا فِي السَّمَاء وَهُوَ السَّمِيع الْعَلِيم ثمَّ اقتحمه فتخللته غشية وَضرب بذقنه على صَدره ثمَّ سرى عَنهُ فأفاق كانما نشط من عقال قَالَ فانصرب الغساني الْمَذْهَب وهم النسطورية من النَّصَارَى إِلَى قومه فَقَالَ يَا قوم جِئتُكُمْ من عِنْد شَيْطَان يَأْكُل سم سَاعَة فَلَا يضرّهُ صالحوه وأخرجوه عَنْكُم فالقوم مَصْنُوع لَهُم وَأمرهمْ مقبل وامر بني ساسان مُدبر وسيكون لهَذِهِ الْملَّة شَأْن يغشى الأَرْض قَالَ فصالحوا خَالِدا على مائَة ألف ألف دِرْهَم وتاج فَرَحل عَنْهُم خَالِد بن الْوَلِيد رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ قلت قَالَ ابْن الْجَوْزِيّ والحيرة بَينهَا وَبَين الْكُوفَة ثَلَاثَة اميال وَلم يزل عمرانها يتناقض من الْوَقْت الْمَذْكُور إِلَى صدر خلَافَة المعتضد العباسي فاستولى عَلَيْهَا الخراب وَقد كَانَ السفاح أول خلفاء بني الْعَبَّاس والمنصور وَالْمهْدِي والرشيد ينزلونها وَيطْلبُونَ الْمقَام بهَا لطيب هوائها وصفاء جوها وَصِحَّة تربَتهَا وصلابتها وَقرب الخورنق مِنْهَا وَقد كَانَ فِيهَا رُهْبَان فَلَحقُوا بغَيْرهَا من الْبِلَاد لتداعي خرابها
قَالَ المَسْعُودِيّ وأقفرت من أنيس فِي هَذَا الْوَقْت يَعْنِي وَقت تصنيف كِتَابه المروج وَهُوَ سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ وثلاثمائة وتوحشت إِلَّا من الضَّب والبوم وَذكر كثير من أهل الدِّرَايَة أَن سعدها سيعود فِي الْمُسْتَقْبل بالعمران وَكَذَلِكَ الْكُوفَة وَالله تَعَالَى أعلم قَالَ الشَّيْخ بدر الدّين الزَّرْكَشِيّ وَالصَّحِيح أَن وِلَادَته عليه الصلاة والسلام كَانَت نَهَارا قَالَ وَأما مَا روى من تدلي النُّجُوم فضعفه ابْن دحْيَة لاقْتِضَائه أَن الْولادَة لَيْلًا قَالَ وَهَذَا لَا يصلح أَن يكون تعليلاً فَإِن زمَان النُّبُوَّة صَالح للخوارق وَيجوز أَن تسْقط النُّجُوم نَهَارا فَإِن قلت إِذا قُلْنَا بِأَنَّهُ ولد لَيْلًا فأيما أفضل لَيْلَة الْقدر أَو لَيْلَة مولده عليه الصلاة والسلام أفضل من لَيْلَة الْقدر أُجِيب بِأَن لَيْلَة مولده عليه الصلاة والسلام أفضل من لَيْلَة الْقدر من وُجُوه ثَلَاثَة أَحدهمَا أَن لَيْلَة المولد لَيْلَة ظُهُوره وَلَيْلَة الْقدر معطاة لَهُ وَمَا شرف بِظُهُور ذَات المشرف من اجله فضل مِمَّا شرف سَبَب مَا اعطيه وَلَا نزاغ فِي ذَلِك فَكَانَت لَيْلَة المولد بِهَذَا الِاعْتِبَار أفضل الثَّانِي أَن لَيْلَة الْقدر شرفت بنزول الْمَلَائِكَة فِيهَا وَلَيْلَة المولد شرفت بظهوره
فِيهَا وَمن شرفت بِهِ لَيْلَة المولد أفضل مِمَّن شرفت بِهِ لَيْلَة الْقدر على الْأَصَح المرتضى فَتكون لَيْلَة المولد أفضل الثَّالِث أَن لَيْلَة الْقدر وَقع التَّفْضِيل فِيهَا على أمة مُحَمَّد
وَلَيْلَة المولد الشريف وَقع التَّفْضِيل فِيهَا على سَائِر الموجودات فَهُوَ الَّذِي بَعثه الله رَحْمَة للْعَالمين فعمت بِهِ النِّعْمَة على جَمِيع الْخَلَائق فَكَانَت لَيْلَة المولد أَعم نفعا فَكَانَت أفضل قَالَ فِي الْجمع الْغَرِيب فِيمَا يسر الكئيب قَالَ أهل السّير ارضعت رَسُول الله
أمه آمِنَة ثَلَاثَة أَيَّام وَقيل سَبْعَة أَيَّام ثمَّ أَرْضَعَتْه ثويبة جَارِيَة عَمه أبي لَهب وَهِي الَّتِي بَشرته بولادته فَأعْتقهَا فَرحا بِابْن أَخِيه ثمَّ بَدَت عداوته لَهُ عليه الصلاة والسلام فأثابه الله على ذَلِك بِأَن سقَاهُ لَيْلَة كل اثْنَيْنِ فِي مثل نقرة الإبهان بلبان أمه وَقد رأى الْعَبَّاس أَبَا لَهب بعد مَوته فِي النّوم فَقَالَ لَهُ مَا حالك فَقَالَ لَهُ فِي النَّار إِلَّا أَنه خفف عني كل لَيْلَة اثْنَيْنِ وأمصني من بَين إصبعي هَاتين مَاء بَارِدًا وَأَشَارَ لَهُ إِلَى اصبعيه وَأَن ذَلِك باعتاقه ثوبيه فَرحا عِنْدَمَا بَشرته بِوِلَادَة ابْن أَخِيه وإرضاعها لَهُ وَكَانَت قد أرضعت قبله عَمه حَمْزَة بن عبد الْمطلب وأرضعت بعده أَبَا عبد الله سَلمَة بن عبد الْأسد المَخْزُومِي وَهُوَ ابْن عمته بِلَبن ابْنهَا مسروح الَّذِي تزوج بِزَوْجَتِهِ بعد وَفَاته النَّبِي
وَهِي الْمَعْرُوفَة بِأم سَلمَة وأرضعت ابْن عَمه أَبَا سُفْيَان بن الْحَارِث بن عبد الْمطلب ثمَّ أَرْضَعَتْه حليمة بنت عبد الله السعدية بِلَبن ابْنهَا عبد الله من زَوجهَا الْحَارِث بن عبد الْعُزَّى جَاءَ بعد الْبعْثَة وَأسلم وَظهر لَهُ عليه الصلاة والسلام عِنْد حليمة آيَات كَثِيرَة وَعِنْدهَا شقّ صَدره وملىء إِيمَانًا وَحكمه قيل وأرضعته خَوْلَة بنت الْمُنْذر وَأم أَيمن دايته وحاضنته بعد موت أمه وَله حِين حضنته أَربع سِنِين وردته حليمة إِلَى أمه بعد سنتَيْن فَكَانَ عِنْد أمه آمِنَة إِلَى أَن بلغ سِتّ سِنِين فَخرجت بِهِ إِلَى أخوال أَبِيه بني عدي بن النجار تزورهم وَمَعَهَا أم أَيمن تحضنه فأقامت بِهِ عِنْدهم شهرا ثمَّ رجعت بِهِ إِلَى مَكَّة فَلَمَّا كَانَت بالأبواء توفيت وقبرها هُنَالك روى أَبُو نعيم من طَرِيق الزُّهْرِيّ عَن أم سَمَّاعَة بنت رهم عَن أمهَا قَالَت شهِدت آمِنَة فِي علتها الَّتِي مَاتَت بهَا وَمُحَمّد
غُلَام لَهُ خمس سِنِين فَنَظَرت إِلَى وَجهه ثمَّ قَالَت // (من الرجز) //
(بَارك فِيك الله من غُلَام
…
يَابْنَ الّذي من حومة الْحمام)
(نجا بعون الْملك العلاّم
…
فودى غَدَاة الضّرب بالسّهام)
(بمائةٍ من إبلٍ سوام
…
إِن صحّ مَا أَبْصرت فِي الْمَنَام)
(فَأَنت مبعوثٌ إِلَى الْأَنَام
…
من عِنْد ذِي الْجلَال وَالْإِكْرَام)
(تبْعَث فِي الحلّ وَفِي الْحَرَام
…
تبْعَث بالتّحقيق وَالْإِسْلَام)
(دين أَبِيك البرّ إبراهام
…
فَالله ينهاك عَن الْأَصْنَام)
(أَن لَا تواليها مَعَ الأقوم
…
)
ثمَّ قَالَت كل حَيّ ميت وكل جَدِيد بَال وكل كَبِير يفنى وَأَنا ميتَة وذكري بَاقٍ وَلَقَد تركت خيرا وَولدت طهرا ثمَّ مَاتَت فَسمع من نوح الْجِنّ عَلَيْهَا قَوْلهم // (من الرجز) //
(نبكي الفتاة البرّة الأمينة
…
ذَات الحيا والعفّة الرّزينة)
(زَوْجَة عبد الله والقرينة
…
أُمّ نبيّ الله ذِي السّكينة)
(وَصَاحب الْمِنْبَر بِالْمَدِينَةِ
…
صَارَت لَدَى حفرتها رهينة)
روى إِسْحَاق بن ارهوية وَأَبُو يعلى وَالطَّبَرَانِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَأَبُو نعيم عَن حليمة قَالَت قدمت مَكَّة فِي نسْوَة من بني سعد بن بكر نلتمس الرضعاء فِي سنة شهباء فَقدمت على أتان لي وَمَعِي صبي لنا وشارف وَالله مَا تبض بقطرة وَمَا ننام ليلنا ذَلِك أجمع صبينا لَا يجد فِي ثديي مَا يُغْنِيه وَلَا شرفنا مَا يغذيه فقدمنا مَكَّة فو الله مَا علمت امْرَأَة منا إِلَّا أخذت رضيعاً غَيْرِي فَلَمَّا لم أجد غَيره قلت لزوجي وَالله إِنِّي لأكْره إِن ارْجع من بَين صواحبي لَيْسَ معي رَضِيع لأنطلقن إِلَى ذَلِك الْيَتِيم فلآخذنه فَذَهَبت فَإِذا هُوَ مدرج فِي ثوب صوف أَبيض من اللَّبن يفوح
مِنْهُ الْمسك وَتَحْته حريرة خضراء رَاقِد على قَفاهُ يغط فَأَشْفَقت أَن أيقظه من نَومه لحسنه وجماله فدنوت مِنْهُ رويداً فَوضعت يَدي على صَدره فَتَبَسَّمَ ضَاحِكا وَفتح عَيْنَيْهِ لينْظر إِلَيّ فَخرج من عَيْنَيْهِ نور وصل عنان السَّمَاء وَأَنا أنظر فقبلته بَين عَيْنَيْهِ وأعطيته ثديي الْأَيْمن فَأقبل عَلَيْهِ مَا شَاءَ من لبن فحولته إِلَى الْأَيْسَر فَأبى وَكَانَت تِلْكَ حَاله بعد قَالَ أهل الْعلم أعلمهُ الله أَن لَهُ شَرِيكا فألهمه الْعدْل قَالَت فروى وروى أَخُوهُ ثمَّ أَخَذته فَمَا هُوَ إِلَّا أَن جِئْت بِهِ رحلي فَقَامَ صَاحِبي تَعْنِي زَوجهَا إِلَى شارفنا تِلْكَ اللَّيْلَة فَإِذا إِنَّهَا لحافل فَشرب وشربت حَتَّى روينَا وبتنا بِخَير لَيْلَة فَقَالَ صَاحِبي يَا حليمة وَالله إِنِّي لأرَاك قد أخذت خيرا وَفِي رِوَايَة ذكرهَا فِي الْمنطق الْمَفْهُوم فَلَمَّا نظر صَاحِبي إِلَى هَذَا قَالَ اسكتي واكتمي أَمرك فَمن لَيْلَة ولد هَذَا الْمَوْلُود اصحبت الْأَحْبَار قواما على اقدامهها لَا يهنأ لَهَا عَيْش النَّهَار وَلَا نوم اللَّيْل قَالَت حليمة فودع النَّاس بَعضهم بَعْضًا وودعت أَنا أم النَّبِي
ثمَّ ركبت اتاني وَأخذت مُحَمَّدًا
بَين يَدي قَالَت فَنَظَرت إِلَى الأتان وَقد سجدت نَحْو الْكَعْبَة ثَلَاث سَجدَات وَرفعت رَأسهَا إِلَى السَّمَاء ثمَّ مشت حَتَّى سبقت دَوَاب النَّاس الَّتِي كَانَت معي وَصَارَ النَّاس يتعجبون مني وَيَقُلْنَ النِّسَاء لي وَهن ورائي يَا بنت أبي ذُؤَيْب اهذه اتانك الَّتِي كَانَت عَلَيْهَا وَأَنت جائية مَعنا تخفضك تَارَة وترفعك أُخْرَى فَأَقُول تالله إِنَّهَا هِيَ فيتعجبن مِنْهَا وَيَقُلْنَ إِن لَهَا لشأناً عَظِيما قَالَت فَكَانَت أَتَانِي تنطق وَتقول وَالله إِن لي شَأْنًا ثمَّ لشأنا بَعَثَنِي بعد موتِي ورد سمني بعد هزلي ويحكن يَا نسَاء بني سعد إنكن لفي غَفلَة أَتَدْرِينَ من على ظَهْري على ظَهْري خير النَّبِيين وَسيد الْمُرْسلين وَخير الْأَوَّلين والآخرين وحبِيب رب الْعَالمين قَالَت حليمة فِيمَا ذكره ابْن إِسْحَاق وَغَيره ثمَّ قدمنَا منَازِل بني سعد فَلَا أعلم أَرضًا من أَرض الله أجدب مِنْهَا فَكَانَت غنمي تروح شباعاً لَبَنًا فنحلب وَنَشْرَب وَمَا يحلب إِنْسَان قَطْرَة لبن وَلَا يجدهَا فِي ضرع حَتَّى كَانَ الْحَاضِرُونَ من قَومنَا يَقُولُونَ لرعيانهم اسرحوا حَيْثُ يسرح راعي غنم بنت أبي ذُؤَيْب فتروح أغنامهم جياعاً مَا تبض بقطرة وَتَروح أغنامنا شباعاً لَبَنًا فَللَّه درها من بركَة وَأخرج الْبَيْهَقِيّ وَابْن عساكرعن ابْن عَبَّاس قَالَ كَانَت حليمة تحدث أَنَّهَا أول مَا فطمت رَسُول الله
فَقَالَ الله أكبر كَبِيرا وَالْحَمْد لله كثيرا وَسُبْحَان الله بكرَة وَأَصِيلا فَلَمَّا ترعرع كَانَ يخرج ينظر إِلَى الصّبيان يَلْعَبُونَ فيجتنبهم وَقد روى ابْن سعد وَأَبُو نعيم وَابْن عَسَاكِر عَنهُ كَانَت حليمة لَا تَدعه يذهب مَكَانا بَعيدا فغفلت عَنهُ فَخرج مَعَ أُخْته الشيماء إِلَى البهم فَخرجت حليمة تطلبه حَتَّى تَجدهُ فَوَجَدته مَعَ أُخْته فَقَالَت فِي هَذَا الْحر فَقَالَت أُخْته يَا أمه مَا وجدنَا حرا رَأَيْت غمامة تظل عَلَيْهِ إِذا وقف وقفت وَإِذا سَار سَارَتْ مَعَه حَتَّى انْتهى إِلَى هَذَا الْموضع قَالَ أهل السّير كَانَت سنة الْعَرَب فِي الْمَوْلُود إِذا ولد فِي اسْتِقْبَال اللَّيْل كفئوا عَلَيْهِ قدرا حَتَّى يصبح فَفَعَلُوا ذَلِك بِالنَّبِيِّ
فَأَصْبحُوا وَقد انْشَقَّ عَنهُ الْقدر وَهُوَ شاخص بَصَره إِلَى السَّمَاء وَفِي المنتفى إِن أمه لما وَلدته
أرْسلت إِلَى جده عبد الْمطلب فَجَاءَهُ البشير وَهُوَ جَالس فِي الْحجر مَعَه وَلَده وَرِجَال من قومه فَقَامَ هُوَ وَمن كَانَ مَعَه وَدخل عَلَيْهَا فَأَخْبَرته بِمَا كَانَت رَأَتْهُ مِمَّا تقدم ذكره وَمَا قيل لَهَا وَمَا أمرت بِهِ فَأَخذه عبد الْمطلب فَأدْخلهُ جَوف الْكَعْبَة وَقَامَ عِنْدهَا يَدْعُو الله تبارك وتعالى لَهُ ويشكره
على مَا أعطَاهُ وَأمر بالجزائر فنحرت ودعا رجَالًا من قُرَيْش فَحَضَرُوا وطعموا وَفِي بعض الْكتب كَانَ ذَلِك يَوْم سابعه يَعْنِي عقيقته فَلَمَّا فرغوا من الْأكل قَالُوا مَا سميته قَالَ سميته مُحَمَّدًا قَالُوا رغبت عَن أَسمَاء آبَائِهِ قَالَ أردْت أَن يكون مَحْمُودًا فِي السَّمَاء لله وَفِي الأَرْض لخلقه فحقق الله رَجَاءَهُ وَلما وَلدته أمه آمِنَة أَرْضَعَتْه ثَلَاثَة أَيَّام ثمَّ أَرْضَعَتْه ثويبة الأسْلَمِيَّة جَارِيَة عَمه أبي لَهب أَيَّامًا قبل قدوم حليمة من قبيلتها ثمَّ أَرْضَعَتْه حليمة كَمَا تقدم روى أَنه ارضعت النَّبِي
ثَمَان نسْوَة غير أمه ثويبة وحليمة وَخَوْلَة بنت الْمُنْذر وَأم أَيمن وَامْرَأَة سعدية غير حليمة وَثَلَاث نسْوَة من سليم اسْم كل وَاحِدَة عَاتِكَة هُوَ المُرَاد من قَوْله
أَنا ابْن العواتك من سليم كَذَا قَالَه الإِمَام السُّهيْلي نَاقِلا لَهُ عَن بعض الْعلمَاء لَكِن الْمَشْهُور أَن العواتك الْمشَار إلَيْهِنَّ فِي الحَدِيث الْمَذْكُور عَاتِكَة بنت هِلَال بن فالح بن ذكْوَان السلمِيَّة وَهِي أم عبد منَاف جده وَالثَّانيَِة عَاتِكَة بنت مرّة بن هِلَال بن فالح بن ذكْوَان السلمِيَّة أَيْضا وَهِي أم هَاشم بن عبد منَاف وَالثَّالِثَة عَاتِكَة بنت الأوقص بن مرّة بن هِلَال بن فالح بن ذكْوَان وَهِي أم وهب أبي أمه آمِنَة فَهِيَ جدته أم أبي آمِنَة فَالْأولى عمته وَالثَّانيَِة وَالثَّالِثَة عمته وَبَنُو سليم يفتخرون بِهَذِهِ الْولادَة وَكَانَت أُخْته من الرضَاعَة تحضنه وترقصه فَتَقول // (من الرجز) //
(هَذَا أخٌ لي لم تلده أُمّي
…
وَلَيْسَ من نسل أبي وعمّي)
(فديته من مخول معمّ
…
فأنمه اللهمّ فِيمَا تنمي)
وَأخرج الْبَيْهَقِيّ والخطيب الْبَغْدَادِيّ وَابْن عَسَاكِر عَن الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب قَالَ قلت يَا رَسُول الله دَعَاني للدخول فِي دينك أَمارَة لنبوتك رَأَيْتُك فِي المهد تناغي الْقَمَر وتشير إِلَيْهِ بإصبعك فَحَيْثُ أَشرت إِلَيْهِ مَال فَقَالَ
إِنِّي كنت أحدثه ويحدثني ويلهيني عَن الْبكاء وأسمع وجبته حِين يسْجد تَحت الْعَرْش
وَفِي سيرة الْوَاقِدِيّ أَنه
تكلم فِي أَوَائِل مَا ولد وَذكر ابْن سبع فِي الخصائص إِن مهده
كَانَ يَتَحَرَّك بتحريك الْمَلَائِكَة لَهُ قَالَ فِي الْمَوَاهِب قَالَت حليمة وَمن الْعَجَائِب أَنِّي مَا رَأَيْت لَهُ بولاً وَلَا غسلت لَهُ وضُوءًا قطّ وَكَانَت لَهُ طَهَارَة ونظافة وَكَانَ لَهُ فِي كل يَوْم وَقت وَاحِد يتَوَضَّأ فِيهِ وَلَا يعود حَتَّى يَأْتِي وقته الآخر من الْغَد وَلم يكن شَيْء أبْغض إِلَيْهِ من أَن يرى جسده مكشوفاً فَكنت إِذا كشفت عَن جسده يَصِيح حَتَّى أستره عَلَيْهِ وَكَانَ لَا يبكي قطّ وَلَا يسيء خلقه وروى عَن ابْن عَبَّاس كَانَت حليمة تحدث أَنَّهَا أول مَا فَطَمته عليه الصلاة والسلام تكلم فَقَالَ الله اكبر كَبِير وَسُبْحَان الله بكرَة وَأَصِيلا وَفِي تَارِيخ الْخَمِيس عَن المنتقي قَالَت حليمة انْتَبَهت لَيْلَة من اللَّيَالِي فَسَمعته يتَكَلَّم بِكَلَام لم أسمع كلَاما قطّ أحسن مِنْهُ فَقَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله قدوساً قدوساً نَامَتْ الْعُيُون والرحمن لَا تَأْخُذهُ سنة وَلَا نوم وَهُوَ أول مَا تكلم فَكنت أتعجب من ذَلِك فَلَمَّا بلغ الْمنطق لم يمس شَيْئا إِلَّا قَالَ بِسم الله وَلم يتَنَاوَل شَيْئا بيساره بل بِيَمِينِهِ وَكنت قد اجْتنبت الزَّوْج إِلَّا إِن اغْتَسَلت مِنْهُ هَيْبَة لرَسُول الله
حَتَّى تمت لَهُ سنتَانِ كاملتان فَبَيْنَمَا هُوَ قَاعد فِي حجري ذَات يَوْم إِذْ مرت بِهِ غنيمات فَأَقْبَلت شَاة من الْغنم حَتَّى سجدت لَهُ وَقبلت رَأسه ثمَّ رجعت إِلَى صواحباتها وَكَانَ ينزل عَلَيْهِ كل يَوْم نور كنور الشَّمْس فيغشاه ثمَّ ينجلي عَنهُ قَالَ الْعَلامَة الْقُسْطَلَانِيّ وَلما ترعرع
كَانَ يخرج إِلَى الصّبيان وهم يَلْعَبُونَ فيجتنبهم وَفِي الْمُنْتَقى كَانَ أَخَوَاهُ من الرَّضَاع يخرجَانِ فيمران بالغلمان فيلعبان مَعَهم فَإِذا رَآهُمْ النَّبِي
اجتنبهم وَأخذ بيد أَخَوَيْهِ وَقَالَ لَهما إِنَّا لم نخلق لهَذَا وَلما مَضَت لَهُ سنتَانِ من مولده قَالَت حليمة فصلته وقدمناه بِهِ على أمه وَنحن أحرص شَيْء على مكثه فِينَا لما نرى من بركته وكلمنا أمه وَقُلْنَا لَو تركتيه عندنَا حَتَّى يغلط فَإنَّا نخشى عَلَيْهِ وباء مَكَّة وَلم نزل بهَا حَتَّى ردته مَعنا فرجعنا بِهِ
فوَاللَّه إِنَّه لبعد مقدمنا بشهرين أَو بِثَلَاثَة أشهر مَعَ أَخِيه من الرَّضَاع خلف بُيُوتنَا إِذْ أَتَانَا أَخُوهُ يشْتَد فَقَالَ يَا أُمَّاهُ ذَلِك أخي الْقرشِي قد جَاءَ رجلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَاب بيض فأضجعاه وشقا بَطْنه قَالَت حليمة فَخرجت أَنا وَأَخُوهُ وَأَبوهُ نشتد نَحوه فوجدناه قَائِما منتقعاً لَونه فاعتنقه أَبوهُ وَقَالَ أَي بني مَا شَأْنك قلت هَذِه هِيَ الْمرة الأولى من مَرَّات شقّ صَدره الشريف كَمَا سَيَأْتِي فَقَالَ عليه الصلاة والسلام جَاءَنِي رجلَانِ عَلَيْهِمَا ثِيَاب بيض فأضجعاني ثمَّ شقا بَطْني ثمَّ استخرجا مِنْهُ شَيْئا فطرحاه ثمَّ رداه كَمَا كَانَ فرجعنا بِهِ فَقَالَ أَبوهُ يَا حليمة لقد خشيت أَن يكون ابْني هَذَا قد أُصِيب فانطلقي نرده إِلَى أَهله قبل أَن يظْهر بِهِ مَا يتخوف قَالَت حليمة فاحتملناه حَتَّى قدمنَا بِهِ على أمه فَقَالَت مَا لَكمَا رددتماه وَقد كنتما حريصين عَلَيْهِ قَالَا نخشى الْأَحْدَاث عَلَيْهِ فَقَالَت أمه آمِنَة مَا ذَاك بكما فاصدقاني مَا شأنكما فَلم تدعنا حَتَّى أخبرناها خَبره فَقَالَت خشيتما عَلَيْهِ الشَّيْطَان كلا وَالله مَا للشَّيْطَان عَلَيْهِ سَبِيل فانه لكائن لَا بني هَذَا شَأْنًا فَدَعَاهُ عنكما وَقد وَقع شقّ صَدره الشريف مرّة أُخْرَى عِنْد مَجِيء جِبْرِيل بِالْوَحْي فِي غَار حراء وَهَذِه هِيَ الْمرة الثَّانِيَة وَمرَّة أُخْرَى عِنْد الْإِسْرَاء وَهِي الْمرة الثَّالِثَة وَعَن حليمة أَنَّهَا قَالَت لما تمّ لَهُ سنتَانِ قَالَ لي يَا أُمَّاهُ مَالِي لَا أرى أخوي أَي بِالنَّهَارِ قَالَت يَا بني إنَّهُمَا يرعيان غنيمات لنا قَالَ فَمَا لي لَا أخرج مَعَهُمَا قَالَت أَتُحِبُّ ذَلِك قَالَ نعم فَلَمَّا أصبح دهنته وكحلته وعلقت فِي عُنُقه خيطاً فِيهِ جزع يمَان فَنَزَعَهُ ثمَّ قَالَ لي مهلا يَا أُمَّاهُ فَإِن معي من يحفظني قَالَت ثمَّ دَعَوْت يَا بني فَقلت لَهما أوصيكما بِمُحَمد خيرا لَا تفارقاه وَليكن نصب أعينكما فَخرج مَعَ أَخَوَيْهِ فِي الْغنم فَبَيْنَمَا هُوَ قَائِم مَعَهُمَا إِذْ أَتَاهُ الرّجلَانِ الْمَذْكُورَان وهما جِبْرَائِيل وَمِيكَائِيل ومعهما طشت من ذهب فِيهِ مَاء بثلج فاستخرجاه من الْغنم والصبية فشقا بَطْنه وشرحا صَدره واستخرجا مِنْهُ نُكْتَة سَوْدَاء وغسلاه بذلك المَاء والثلج وحشى إِيمَانًا وَحِكْمَة ومسحا عَلَيْهِ وَعَاد كَمَا كَانَ ثمَّ قَالَ أَحدهمَا لصَاحبه زنه بِعشْرَة من أمته فوزن فرجح بهم ثمَّ قَالَ زنه بِمِائَة فوزن فرجح ثمَّ قَالَ زنه بالف فوزن فرجح ثمَّ قَالَ دَعَتْهُ عَنْك فَلَو وزنته بأمته كلهَا لوزنها
وَفِي رِوَايَة ثمَّ قَالَ أَحدهمَا لصَاحبه اغسل بَطْنه غسل الْإِنَاء وَغسل قلبه غسل الملاء ثمَّ قَالَ خطّ بَطْنه فخاطه وَجعل الْخَاتم بَين كَتفيهِ كَمَا هُوَ الْآن وَفِي الحَدِيث إِن خَاتم النُّبُوَّة لم يكن قبل ذَلِك قَالَت حليمة فحملناه إِلَى مخيم لنا فَقَالَ النَّاس اذْهَبُوا بِهِ إِلَى كَاهِن ينظر إِلَيْهِ ويداويه فَقَالَ
مَا بِي شَيْء مِمَّا تكرهونه وَإِنِّي أرى نَفسِي سليمَة وفؤادي صَحِيحا بِحَمْد الله تَعَالَى قَالَ النَّاس أَصَابَهُ لمَم أَو طائف من الْجِنّ قَالَت حليمة فغلبوني على رَأْيِي حَتَّى انْطَلَقت بِهِ إِلَى الكاهن فقصصت عَلَيْهِ قصَّته من أَولهَا إِلَى آخرهَا فَقَالَ الكاهن دعيني أسمع من الْغُلَام فَإِنَّهُ أبْصر بأَمْره مِنْكُم تكلم يَا غُلَام قَالَت فَقص ابْني مُحَمَّد قصَّته من أَولهَا إِلَى آخرهَا عَلَيْهِ فَوَثَبَ الكاهن على قَدَمَيْهِ وضمه إِلَى صَدره ونادى بِأَعْلَى صَوته يَا للْعَرَب من شَرّ قد اقْترب اقْتُلُوا هَذَا الْغُلَام واقتلوني مَعَه فَإِنَّكُم إِن تَرَكْتُمُوهُ وَبلغ مبلغ الرِّجَال ليسفهن أحلامكم وليبدلن أديانكم إِلَى رب لَا تعرفونه وَدين تُنْكِرُونَهُ قَالَت حليمة فَلَمَّا سَمِعت مقَالَته انتزعته من يَده وَقلت أَنْت أعته وأجن من ابْني وَلَو علمت أَن هَذَا يكون مِنْك مَا أَتَيْتُك بِهِ اطلب لنَفسك من يقتلك فانا لَا نقْتل ابْني مُحَمَّدًا
فاحتملت بِهِ وأتيت بِهِ منزلي فَمَا بَقِي يَوْمئِذٍ بَيت فِي بني سعد إِلَّا وجد مِنْهُ ريح الْمسك وَكَانَ ينْقض عَلَيْهِ فِي كل يَوْم طيران ابيضان يعيبان فِي ثِيَابه وَلَا يظهران فَلَمَّا رأى أَبوهُ ذَلِك قَالَ لي يَا حليمة إِنَّا لَا نَأْمَن على هَذَا الْغُلَام وخشيت عَلَيْهِ من أَتبَاع الكهنة فألحقيه بأَهْله قبل أَن يُصِيبهُ عندنَا شَيْء قَالَت حليمة فَلَمَّا عزمت على ذَلِك سَمِعت صَوتا فِي جَوف اللَّيْل يُنَادي ذهب ربيع الْخَيْر وامان بني سعد هينئا لبطحاء مَكَّة إِذْ كَانَ مثلك فِيهَا فَالْآن قد أمنت أَن تخرب أَو يُصِيبهَا بؤس بدخولك إِلَيْهَا يَا خير الْبشر قَالَت فَلَمَّا اصبحت ركبت اناتي وَوضعت النَّبِي
بَين يَدي فَلم أكن أقدر مِمَّا كنت أنادي يمنة ويسرة حَتَّى انْتَهَيْت بِهِ إِلَى الْبَاب الْأَعْظَم من أَبْوَاب مَكَّة وَعَلِيهِ جمَاعَة مجتمعون فَنزلت لأقضي حَاجَة وانزلت النَّبِي
فغشيني كالسحابة الْبَيْضَاء وَسمعت صَوتا شَدِيدا فَفَزِعت وَجعلت ألتفت يمنة ويسرة وَنظرت فَلم أر النَّبِي
فَصحت يَا معشر قُرَيْش الْغُلَام الْغُلَام قَالُوا وَمَا الْغُلَام قلت مُحَمَّد بن آمِنَة فَجعلت أبْكِي وأنادي وامحمداه فَبَيْنَمَا أَنا كَذَلِك إِذْ أَنا بشيخ كَبِير
قد استقبلني فَقَالَ مَا لَك أيتها السعدية قلت إِن لي قصَّة عَظِيمَة مُحَمَّد بن امنة ارضعته ثَلَاث سِنِين لَا أفارقه ليله وَلَا نَهَاره فعيشني الله بِهِ وانضر وَجْهي وَجئْت لأؤدي لأمه الْأَمَانَة ليخرج من عهدي وأمانتي فاختلس مني اختلاساً قبل أَن تمس قدمه الأَرْض فَقَالَ الشَّيْخ لَا تبْكي أيتها السعدية ادخلي على هُبل فتضرعي إِلَيْهِ فَلَعَلَّهُ يردهُ عَلَيْك فَإِنَّهُ الْقوي على ذَلِك الْعَالم بأَمْره فَقلت أَيهَا الشَّيْخ كَأَنَّك لم تشهد ولادَة مُحَمَّد لَيْلَة ولد مَا نزل بِاللات والعزى فَقَالَ أيتها السعدية إِنِّي أَرَاك جزعة وَأَنا أَدخل على هُبل وأذكر أَمرك لَهُ فقد قطعت أكبادنا ببكائك مَا لأحد من النَّاس على هَذَا صَبر قَالَت فَقَعَدت مَكَاني متحيرة وَدخل الشَّيْخ على هُبل وَعَيناهُ تَذْرِفَانِ بالدموع فَسجدَ طَويلا وَطَاف بِهِ أسبوعاً ثمَّ نَادَى يَا عَظِيم الْمِنَّة يَا قَوِيا فِي الْأُمُور إِن منتك على قُرَيْش كثير وَهَذِه السعدية مُرْضِعَة مُحَمَّد تبْكي قد قطع بكاؤها الأنياط فَإِن رَأَيْت أَن ترده عَلَيْهَا إِن شِئْت فارتج وَالله الصَّنَم وتنكس وَمَشى على رَأسه وَسمعت مِنْهُ صَوتا يَقُول أَيهَا الشَّيْخ أَنْت فِي غرور مَا لي ولمحمد وَإِنَّمَا يكون هلاكنا على يَدَيْهِ وَإِن رب مُحَمَّد لم يكن ليضيعه بل يحفظه أبلغ عَبدة الْأَوْثَان أَن مَعَه الذّبْح الْأَكْبَر إِلَّا أَن يدخلُوا فِي دينه قَالَ فَخرج الشَّيْخ فَزعًا مَرْعُوبًا يسمع لسنه قعقعة ولركبه اصطكاك فَقَالَ لي يَا حليمة مَا رَأَيْت من هُبل مثل هَذَا فاطلبي ابْنك إِنِّي لأرى لهَذَا الْغُلَام شَأْنًا عَظِيما قَالَت فَقلت لنَفْسي كم تكتمي أمره عَن جده عبد الْمطلب أبلغيه الْخَبَر قبل أَن يَأْتِيهِ من غَيْرك قَالَت فَدخلت على جده عبد الْمطلب فَلَمَّا نظر إِلَيّ قَالَ يَا حليمة مَا لي أَرَاك جزعة باكية وَلَا أرى مَعَك مُحَمَّدًا فَقلت يَا أَبَا الْحَارِث جِئْت بِمُحَمد أسر مَا كَانَ فَلَمَّا صرت على الْبَاب الْأَعْظَم من ابوب مَكَّة نزلت لأقضي حَاجَتي فاختلس مني اختلاساً قبل أَن تمس قدمه الأَرْض فَقَالَ لي اقعدي يَا حليمة ثمَّ علا الصَّفَا فَنَادَى يَا آل غَالب فاجتمعت إِلَيْهِ الرِّجَال فَقَالُوا لَهُ نعم يَا أَبَا الْحَارِث فقد أجبناك فَقَالَ لَهُم إِن ابْني مُحَمَّدًا فقد فَقَالُوا لَهُ اركب يَا أَبَا الْحَارِث حَتَّى نركب مَعَك قَالَت فَركب عبد الْمطلب وَركب النَّاس مَعَه فَأخذ بِأَعْلَى مَكَّة فانحدر بأسفلها فَلم ير شَيْئا فَلَمَّا لم ير شَيْئا ترك
النَّاس فاتزر بِثَوْب وارتدى بآخر وَأَقْبل إِلَى الْبَيْت الشريف فَطَافَ بِهِ أسبوعاً وأنِشأ يَقُول // (من الرجز) //
(يَا ربّ ردّ راكبي محمّدا
…
رد إِلَيّ وَاتخذ عِنْدِي يدا)
(أَنْت الّذي جعلته لي عضدا
…
لَا يبعد الدّهر بِهِ فيبعدا)
(يَا ربّ إِن محمّدٌ لم يوجدا
…
فَجمع قومِي كلّهم تبدّدا)
قَالَت فسمعنا منادياً يُنَادي من جو الْهَوَاء معاشر النَّاس لَا تضجوا فَإِن لمُحَمد رَبًّا لَا يضيعه وَلَا يَخْذُلهُ قَالَ عبد الْمطلب ياأيها الْهَاتِف من لنا بِهِ وَأَيْنَ هُوَ قَالَ بوادي تهَامَة فَأقبل عبد الْمطلب رَاكِبًا متسلحاً فَلَمَّا صَار فِي بعض الطَّرِيق تَلقاهُ ورقه بن نَوْفَل فسارا جَمِيعًا فَبَيْنَمَا هما كَذَلِك إِذْ النَّبِي
تَحت شَجَرَة وَفِي روية بَيْنَمَا أَبُو مَسْعُود الثَّقَفِيّ وَعَمْرو بن نَوْفَل يدوران على رواحلهما إِذا هما برَسُول الله
قَائِما عِنْد شَجَرَة الطلحة هِيَ الموز يتَنَاوَل من وَرقهَا فَأقبل عَلَيْهِ عَمْرو وَهُوَ لَا يعرفهُ فَقَالَ لَهُ من أَنْت يَا غُلَام فَقَالَ أَنا مُحَمَّد بن عبد الله بن عبد الْمطلب بن هَاشم فاحتمله بَين يَدَيْهِ على الرَّاحِلَة حَتَّى عبد الْمطلب روى عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما أَنه قَالَ لما رد الله مُحَمَّدًا
على عبد الْمطلب تصدق بِأَلف نَاقَة كوماء وَخمسين رطلا من الذَّهَب ثمَّ جهز حليمة بِأَفْضَل جهاز قَالَ فِي تَارِيخ الْخَمِيس روى نَافِع بن جُبَير أَنه كَانَ رَسُول الله
مَعَ أمه آمِنَة بعد رد حليمة إِيَّاه لَهَا فَلَمَّا توفيت ضمه وكفله جده عبد الْمطلب ورق عَلَيْهِ رقة لم يرقها على وَلَده وَكَانَ يقربهُ مِنْهُ وَيدخل عَلَيْهِ إِذا خلا وَإِذا نَام وَكَانَ يجلس على فرَاشه وَكَانَ أَوْلَاده لَا يَجْلِسُونَ عَلَيْهِ
قَالَ ابْن إِسْحَاق حَدثنِي الْعَبَّاس بن عبد الله بن معبد عَن بعض أَهله قَالَ كَانَ يوضع لعبد الْمطلب فرَاش فِي ظلّ الْكَعْبَة وَكَانَ لَا يجلس عَلَيْهِ أحد من بنيه اجلالا لَهُ وَكَانَ رَسُول الله
يَأْتِي حَتَّى يجلس عَلَيْهِ فَيذْهب أَعْمَامه ليؤخروه عَنهُ فَيَقُول عبد الْمطلب دعوا ابْني وَيمْسَح على ظَهره وَيَقُول إِن لِابْني هَذَا شَأْنًا كَذَا قَالَه ابْن الْأَثِير فِي أَسد الغابة وَقَالَ قوم من بني مُدْلِج وهم مَشْهُورُونَ بالقيافة يَا عبد الْمطلب احتفظ بِهِ فَإنَّا لم نر قدماً أشبه بالقدم الَّذِي فِي مقَام إِبْرَاهِيم مِنْهُ فَقَالَ عبد الْمطلب لأبي طَالب اسْمَع مَا يَقُول هَؤُلَاءِ فِي ابْن أَخِيك وَقَالَ عبد الْمطلب لأم أَيمن وَكَانَت تحضنه لَا تغفلي عَن ابْني فَإِن أهل الْكتاب يَزْعمُونَ أَنه نَبِي هَذِه الْأمة وَكَانَ عبد الْمطلب لَا يَأْكُل طَعَاما إِلَّا قَالَ عَليّ بِابْني فَيُؤتى بِهِ إِلَيْهِ فَلَمَّا حضرت عبد الْمطلب الْوَفَاة أوصى بِهِ أَبَا طَالب وروى إِن رَسُول الله
أَصَابَهُ رمد شَدِيد فعولج بِمَكَّة فَلم يغن عَنهُ فَقيل لعبد الْمطلب إِن فِي نَاحيَة عكاظ كَاهِنًا يعالج الْأَعْين فَركب إِلَيْهِ عبد الْمطلب فناداه ودير الراهب مغلق عَلَيْهِ لَا يجِيبه فتزلزل بِهِ ديره حَتَّى خَافَ أَن يسْقط عَلَيْهِ فَخرج مبادراً فَقَالَ يَا عبد الْمطلب إِن هَذَا الْغُلَام نَبِي هَذِه الْأمة وَلَو لم أخرج إِلَيْك لخر ديري فَارْجِع بِهِ واحفظه لَا يغتاله بعض أهل الْكتاب ثمَّ عالجه وروى عَن رقيقَة بنت صَيْفِي بن هَاشم أَنَّهَا قَالَت تَتَابَعَت على قُرَيْش سنُون حَتَّى يَبِسَتْ الضروع ودقت الْعِظَام فَبَيْنَمَا أَنا رَاقِدَة إِذْ أَنا بهاتف يصْرخ بِصَوْت صَحِلَ يَقُول يَا معشر قُرَيْش إِن هَذَا النَّبِي الْمَبْعُوث مِنْكُم هَذَا إبان نجومه أَي هَذَا وَقت ظُهُوره فَحَيَّهَلا بالحيا وَالْخصب إِلَّا فانظروا مِنْكُم رجَالًا طوَالًا
عظاماً أَبيض بضاً أَشمّ الْعرنِين سهل الْخَدين لَهُ فَخر يَكْظِم عَلَيْهِ وَسنة تهدي إِلَيْهِ ويروى رجلا وَسِيطًا عظاماً جِسَامًا أَوْطَفُ الْأَهْدَاب أَلا فَلْيخْلصْ هُوَ وَولده وليدلف إِلَيْهِ من كل بطن رجل إِلَّا فليشنوا المَاء وليسموا من الطّيب وليطوفوا بِالْبَيْتِ سبعا وَفِيهِمْ المطيب الطَّاهِر لذاته أَلا فليستسق الرجل وليؤمن الْقَوْم أَلا فغثتم مَا شِئْتُم قَالَت فَأَصْبَحت مَذْعُورَة قد وقف جلدي وَذهل عَقْلِي واقتصصت رُؤْيَايَ ونمت فِي شعاب مَكَّة فو الْحُرْمَة وَالْحرم إِن بَقِي بهَا أبطحي إِلَّا قَالَ هَذَا شَبيه الْحَمد عبد الْمطلب والتأمت عِنْده قُرَيْش وانقض إِلَيْهِ رجل من كل بطن فَشُنُّوا المَاء وَمَسُّوا الطّيب وطافوا بِالْبَيْتِ سبعا وَرفع عبد الْمطلب ابْنه مُحَمَّدًا
على عَاتِقه وَهُوَ يَوْمئِذٍ ابْن سبع سِنِين وارتقوا أَبَا قبيس فَدَعَا واستسقى وَأمن الْقَوْم قَالَت فَمَا وصلوا الْبَيْت حَتَّى انفجرت السَّمَاء بِمَائِهَا وامتلأ الْوَادي قَالَت وَسمعت شُيُوخ الْعَرَب يَقُولُونَ لعبد الْمطلب هَنِيئًا لَك يَا أَبَا الْبَطْحَاء وَفِي ذَلِك يَقُول قَائِلهمْ // (من الْبَسِيط) //
(بِشَيْبَة الْحَمد أسْقى الله بَلْدَتنَا
…
لمّا فَقدنَا الحيا واجلوّذ الْمَطَر)
(فجاد بِالْمَاءِ جونى لَهُ سبلٌ
…
سحّاً فَعَاشَتْ بِهِ الْأَنْعَام والشّجر)
واجلوذ الْمَطَر امْتَدَّ وَقت تَأَخره والجوية هِيَ الحفيرة المستديرة الواسعة الْوسط وكل منفتق جوي كَذَا فِي نِهَايَة ابْن الْأَثِير وَلما بلغ رَسُول الله
من الْعُمر ثَمَان سِنِين وشهراً وَعشرَة أَيَّام مَاتَ جده عبد الْمطلب وَسُئِلَ رَسُول الله
أَتَذكر موت عبد الْمطلب قَالَ نعم وَأَنا يَوْمئِذٍ ابْن ثَمَان سِنِين وَقيل كَانَ ابْن تسع سِنِين وَقيل عشر وَقيل سِتّ وَقيل ثَلَاث وَقد تقدم ذكر عمر عبد الْمطلب وَأَنه عَاشَ مائَة وَعشْرين وَفِي الْمَوَاهِب مائَة وَأَرْبَعين سنة وَقد عمى قبل مَوته وَدفن على مَا ذكره ابْن عَسَاكِر بالحجون كَذَا فِي شِفَاء الغرام للعلامة التقي الفاسي وَلما توفّي عبد الْمطلب كفله عَمه أَبُو طَالب فضمه إِلَيْهِ وَكَانَ يُحِبهُ حبا شَدِيدا لَا يحب أَوْلَاده كَذَلِك وَلَا ينَام إِلَّا إِلَى جنبه وَيخرج مَعَه حَتَّى يخرج قَالَت أم أَيمن رَأَيْت رَسُول الله
يبكي خلف جَنَازَة عبد الْمطلب انْتهى وَقد كَانَت أم أَيمن بركَة دايته وحاضنته بعد موت أمه فَكَانَ عليه الصلاة والسلام يَقُول لَهَا أَنْت امي بعد امي فشب
مطهراً من دنس الْجَاهِلِيَّة مبرأً من الْعَيْب وَأعْطى كل خلق جميل حَتَّى لم يكن يعرف إِلَّا بالأمين فَلَمَّا بلغ اثْنَتَيْ عشرَة وشهرين وَعشرَة أَيَّام خرج مَعَ عَمه أبي طَالب إِلَى الشَّام فَرَأى ببصرى بحيرا الراهب فعرفة بِصفتِهِ فَأخذ بِيَدِهِ فَقَالَ هَذَا رَسُول رب الْعَالمين قيل وَمَا علمك بذلك قَالَ لم يبْق حِين أقبل حجر وَلَا شجر إِلَّا خر سَاجِدا وَلَا يسجدان إِلَّا لنَبِيّ وَإِنَّا نجده فِي كتبنَا وَقَالَ لأبي طَالب لَئِن قدمت بِهِ إِلَى الشَّام لتقتلنه الْيَهُود فَرده خوفًا عَلَيْهِ ثمَّ خرج رَسُول الله
مرّة ثَانِيَة إِلَى الشَّام مَعَ ميسرَة غُلَام خَدِيجَة فِي تِجَارَة لَهَا وعمره خمس وَعِشْرُونَ إِلَّا أَرْبَعَة عشر يَوْمًا بَقينَ من ذِي الْحجَّة فَلَمَّا قدم الشَّام بَاعَ تِجَارَته بسوق بصرى وَنزل تَحت شَجَرَة قَرِيبا من صومعة نسطور فَقَالَ
مَا نزل تَحت هَذِه الشَّجَرَة إِلَّا نَبِي وَكَانَ ميسرَة يرى فِي الهاجرة ملكَيْنِ يظلانه من الشَّمْس فَلَمَّا رَجَعَ تزوج بخديجة بنت خويلد بن أَسد بعد ذَلِك بشهرين وَخَمْسَة وَعشْرين يَوْمًا زَوجهَا مِنْهُ عَمها عَمْرو بن أسدد أصدقهَا اثْنَتَيْ عشرَة أُوقِيَّة ونشاً وَلما بلغ خَمْسَة وَثَلَاثِينَ خَافت قُرَيْش أَن تنهدم الْكَعْبَة من السُّيُول فَأمروا بأقوم النجار أَن يبنيها وَشهد عليه الصلاة والسلام بنيانها وَهُوَ الَّذِي وضع الْحجر الْأسود بِيَدِهِ حِين تنَازع الْقَبَائِل فِيمَن يَضَعهُ حَتَّى كَادُوا يقتتلون وَقد تقدم ذكر ذَلِك مفصلا فِي الْمَقْصد الأول وَلما بلغ أَرْبَعِينَ سنة اختصه الله تَعَالَى وَبَعثه برسالته فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن عَائِشَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا أول مَا بُدِئَ بِهِ من الْوَحْي الرُّؤْيَا الصَّالِحَة فِي النّوم فَكَانَ لَا يرى رُؤْيا إِلَّا جَاءَت مثل فلق الصُّبْح ثمَّ حبب إِلَيْهِ الْخَلَاء فَكَانَ يخلوا بِغَار حراء فَيَتَحَنَّث فِيهِ أَي يتعبد حَتَّى جَاءَهُ الْحق وَهُوَ فِي الْجَبَل يَوْم الِاثْنَيْنِ سَابِع عشر رَمَضَان فَقَالَ لَهُ جِبْرِيل أبشر يَا مُحَمَّد إِنَّك رَسُول هَذِه الْأمة وَقَالَ {اقْرَأْ} العلق 1 فَقَالَ عليه الصلاة والسلام مَا أَنا بقارئ فغطه ثمَّ أرْسلهُ وتكرر ذَلِك فَقَالَ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الَّذِي خَلَقَ} العلق 1 إِلَى {يَعْلَمْ} العلق 5 وَذكر أَبُو نعيم أَن جِبْرِيل وَمِيكَائِيل شقا صَدره وغسلاه ثمَّ قَالَا اقْرَأ انْتهى وأنبع لَهُ جِبْرِيل عين مَاء فَتَوَضَّأ وَصلى رَكْعَتَيْنِ فجَاء إِلَى خَدِيجَة وَعلمهَا الْوضُوء وَصلى بهَا كَمَا فعل جِبْرِيل فَقَالَ مقَاتل فَكَانَ فرض الصَّلَاة رَكْعَتَيْنِ بِالْغَدَاةِ وَرَكْعَتَيْنِ بالعشى حَتَّى فرضت خمس صلوَات لَيْلَة الْإِسْرَاء وَكَانَت خَدِيجَة ذهبت بِهِ إِلَى ابْن عَمها ورقة بن نَوْفَل شيخ كَبِير ترك الْأَوْثَان وَرجع إِلَى النَّصْرَانِيَّة يكْتب بِالْعَرَبِيَّةِ من الْإِنْجِيل الْمَكْتُوب بالعبراني وَصَارَ يعرف مَا فِيهِ فَقَالَت لَهُ وَقد عمى يَا ابْن عَم اسْمَع من ابْن أَخِيك مَا يَقُول فَذكر لَهُ مَا رَآهُ فَقَالَ لَهُ أبشر فَإنَّك نَبِي مُرْسل وَهَذَا الناموس الَّذِي أنزل على مُوسَى يَا لَيْتَني كنت حَيا إِذْ يخْرجك قَوْمك فَقَالَ أَو مخرجى هم فَقَالَ نعم لم يَأْتِ أحد بِمثلِهِ مَا أتيت بِهِ إِلَّا عودي وَإِن يدركني يَوْمك أنصرك نصرا مؤزراً ثمَّ لم يلبث ورقة أَن توفّي
فَآمن بِالنَّبِيِّ حِينَئِذٍ أَبُو بكر ثمَّ عَليّ وَقيل عَليّ فَأَبُو بكر ثمَّ زيد بن حَارِثَة ثمَّ عُثْمَان وَالزُّبَيْر وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَسعد بن أبي وَقاص وَطَلْحَة بن عبيد الله وَغَيرهم أَرْسَالًا وَأمره الله تَعَالَى أَن يصدع بِمَا أَمر بِهِ فعاداه قومه وآذوه وَمن آمن بِهِ وَتَبعهُ فَأذن لَهُم فِي الْهِجْرَة إِلَى الْحَبَشَة فِي رَجَب سنة خمس من النُّبُوَّة فَهَاجَرَ اثْنَا عشر رجلا وَأَرْبع نسْوَة أَوَّلهمْ عُثْمَان وَزَوجته رقية ابْنَته عليه الصلاة والسلام وَأَبُو حُذَيْفَة وَزَوجته سهيلة وَأَبُو سَلمَة وَالزُّبَيْر وَمصْعَب وَعبد الرَّحْمَن بن عَوْف وَعُثْمَان ابْن مَظْعُون وعامر بن ربيعَة بن كريز العبشمي وَزَوجته ليلى وَأَبُو سُبْرَة بن أبي رهم وحاطب بن عَمْرو وَسُهيْل بن وهب وَعبد الله بن مَسْعُود الْهُذلِيّ قيل وأميرهم عُثْمَان بن مَظْعُون وَأنْكرهُ الزُّهْرِيّ وَقَالَ لم يكن لَهُم أَمِير وَخَرجُوا مشَاة إِلَى الْبَحْر فاستأجروا سفينة بِنصْف دِينَار وَكَانَ أول من خرج إِلَى الْهِجْرَة عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه وَزَوجته رقية وَأخرج يَعْقُوب بن سُفْيَان بِسَنَد مَوْصُول إِلَى أنس قَالَ ابطأ على رَسُول الله
خبرهما فَقَالَت امْرَأَة قد رأيتهما وَقد حمل عُثْمَان امْرَأَته على حمَار فَقَالَ إِن عُثْمَان أول من هَاجر بأَهْله بعد لوط فوفدوا على ملكهَا النَّجَاشِيّ واسْمه أَصْحَمَة بن مجْرى فأكرمهم فَلَمَّا رَأَتْ قُرَيْش استقرارهم فِي الْحَبَشَة وأمنهم أرْسلُوا عَمْرو بن الْعَاصِ وَعبد الله بن أبي ربيعَة بِهَدَايَا وتحف من بِلَادهمْ إِلَى النَّجَاشِيّ وَكَانَ مَعَهم عمَارَة بن الْوَلِيد ليردهم إِلَى قَومهمْ فَأبى ذَلِك وردهما خائبين قَالَ فِي تَارِيخ الْخَمِيس قَالَ مُحَمَّد بن إِسْحَاق كَانَ من لحق من الْمُسلمين بِأَرْض الْحَبَشَة ثَلَاثَة وَثَلَاثِينَ رجلا وَمن النِّسَاء إِحْدَى عشرَة امْرَأَة قرشية وتسع عربيات فَلَمَّا سمعُوا بمهاجر النَّبِي
إِلَى الْمَدِينَة رَجَعَ مِنْهُم ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ رجلا وثمان نسْوَة فَمَاتَ مِنْهُم رجلَانِ بِمَكَّة وَحبس سَبْعَة وَشهد بَدْرًا مِنْهُم أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ وَفِي ذخائر العقبي للمحب الطَّبَرِيّ إِن أم سَلمَة زوج النَّبِي
قَالَت لما فتن
اصحاب النَّبِي
بِمَكَّة اشار عَلَيْهِم إِن يلْحقُوا بِأَرْض الْحَبَشَة وَقَالَ إِن بهَا ملكا لَا تظلم النَّاس ببلاده فاخرجوا إِلَيْهِ فَخَرجُوا أَرْسَالًا قَالَت فَلَمَّا نزلنَا أَرض الْحَبَشَة جاورنا بهَا خير جَار من النَّجَاشِيّ فأمنا على ديننَا وعبدنا رَبنَا لَا نؤذى فَلَمَّا بلغ قُرَيْش ذَلِك بعثوا إِلَى النَّجَاشِيّ رجلَيْنِ جلدين من قُرَيْش بِهَدَايَا إِلَى النَّجَاشِيّ مستطرفة من مَتَاع مَكَّة من الْأدم وَغَيره كَانَ الْأدم يعجب النَّجَاشِيّ أَن يهدي إِلَيْهِ فَجمعُوا لَهُ هَدِيَّة عَظِيمَة فِيهَا أَدَم كير وَلم يتْركُوا بطريقاً من بطارقته إِلَّا أهدوا إِلَيْهِ هَدِيَّة ثمَّ بعثوا الرجلَيْن عَمْرو بن الْعَاصِ وَعبد الله ابْن أبي ربعية المَخْزُومِي وَقَالُوا لَهما ادفعوا إِلَى كل بطرِيق هديته قبل أَن تكلما النَّجَاشِيّ ثمَّ قدما إِلَى النَّجَاشِيّ هديته واسألاه أَن يسلمهم إلَيْكُمَا فَلَمَّا قدما دفعا هَدِيَّة البطارقة إِلَيْهِم ثمَّ دفعا هَدِيَّة النَّجَاشِيّ إِلَيْهِ وَقَالا إِنَّه قد صَبأ إِلَى بلد الْملك منا غلْمَان سُفَهَاء فارقوا دين قَومهمْ وَلم يدخلُوا فِي دين الْملك وَجَاءُوا بدين مُبْتَدع لَا نعرفه نَحن وَلَا أَنْت وَقد بعثنَا فيهم اشراف اقوامهم من آبَائِهِم وأعمامهم وعشائرهم لنردهم إِلَيْهِم فَقَالَ بطارقته صدقُوا أَيهَا الْملك فارددهم إِلَيْهِم فَغَضب النَّجَاشِيّ ثمَّ قَالَ لَا وَالله لَا أرد إلَيْكُمَا قوما جاوروني فنزلوا ببلادي وَجَاءُوا إِلَيّ واختاروني على من سواي حَتَّى أدعوهم فأسألهم مَا يَقُول هَذَانِ فِي أَمرهم فَإِن كَانُوا كَمَا يَقُولَانِ سلمتهم إِلَيْهِمَا وَإِن كَانُوا غير ذَلِك منعتهم مِنْهُمَا وأحسنت جوارهم مَا جاوروني فَأرْسل إِلَيْهِم فَدَعَاهُمْ فَلَمَّا أَن جَاءَهُم رَسُوله اجْتَمعُوا ثمَّ قَالَ بَعضهم لبَعض مَا تَقولُونَ للرجل إِذا جئتموه قَالَ نقُول وَالله مَا علمنَا وَمَا أمرنَا بِهِ نَبينَا
وَأرْسل النَّجَاشِيّ فَجمع بطارقته وأساقفته فنشروا مصاحفهم حوله فَلَمَّا دخلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُم إِن هَؤُلَاءِ يَزْعمُونَ أَنكُمْ فارقتم دينهم فَأَخْبرُونِي مَا هَذَا الدّين الَّذِي فارقتم فِيهِ قومكم وَلم تدْخلُوا فِي ديني وَلَا فِي دين آخر فَتكلم جَعْفَر بن أبي طَالب فَقَالَ لَهُ أَيهَا الْملك كُنَّا أهل جَاهِلِيَّة لَا نَعْرِف الله وَلَا رَسُوله نعْبد الْأَصْنَام وَنَأْكُل الْميتَة ونأتي الْفَوَاحِش ونقطع الْأَرْحَام ونسيء الْجوَار يَأْكُل الْقوي منا الضَّعِيف فَكُنَّا على ذَلِك حَتَّى بعث الله إِلَيْنَا رَسُولا منا نَعْرِف نسبه وَصدقه وامانته وعفته فَدَعَانَا إِلَى الله عز وجل لنوحده ونخلع مَا كُنَّا نعْبد نَحن وآباؤنا من دونه من الْحِجَارَة وأمرنا بِالْمَعْرُوفِ ونهانا عَن الْمُنكر وامرنا
بِصدق الحَدِيث وَأَدَاء الْأَمَانَة وصلَة الرَّحِم وَحسن الْجوَار والكف عَن الْمَحَارِم والدماء وأمرنا بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة وَالصِّيَام ولاصدقة وكل مَا يعرف من الْأَخْلَاق الْحَسَنَة ونهانا عَن الزِّنَى وَالْفَوَاحِش وَقَول الزُّور وَقذف الْمُحْصنَات وكل مَا يعرف من السَّيِّئَات وتلا فِينَا تَنْزِيلا لَا يُشبههُ شَيْء فَصَدَّقْنَاهُ وآمنا بِهِ وعرفنا أَن مَا جَاءَ بِهِ هُوَ الْحق من عِنْد الله فعبدنا الله وَحده لَا شريك لَهُ وحرمنا مَا حرم علينا وَفعلنَا مَا أحل لنا ففارقنا عِنْد ذَلِك قَومنَا فآذونا وفتنونا عَن ديننَا ليردونا إِلَى عبَادَة الْأَوْثَان وَأَن نستحل مَا كُنَّا نستحل من الْخَبَائِث فَلَمَّا قهررنا وظلمونا وحالوا بَيْننَا وَبَين ديننَا وبلغوا منا مَا نكره وَلم نقدر على الِامْتِنَاع أمرنَا نَبينَا
أَن نخرج إِلَى بلادك اخْتِيَارا لَك على من سواك ورغبنا فِي جوارك ورجونا أَلا نظلم عنْدك أَيهَا الْملك فَقَالَ لَهُ النَّجَاشِيّ هَل مَعكُمْ مِمَّا جَاءَكُم بِهِ عَن الله عز وجل فَقَالَ لَهُ جَعْفَر نعم قَالَ فاقرأه عَليّ فَقَرَأَ عَلَيْهِ جَعْفَر صَدرا من كهيعص فَبكى وَالله النَّجَاشِيّ حَتَّى اخضلت لحيته وبكت أساقفتهم حَتَّى اخضلت لحاهم ومصاحفهم ثمَّ قَالَ النَّجَاشِيّ وَالله إِن هَذَا الْكَلَام وَالْكَلَام الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى ليخرجان من مشكاة وَاحِدَة ثمَّ قَالَ النَّجَاشِيّ لعَمْرو بن الْعَاصِ ورفيقه أعبيد لكم هم قَالَا لَا قَالَ فلكم عَلَيْهِم دين قَالَا لَا قَالَ فَخلوا سبيلهم قَالَت أم سَلمَة فَلَمَّا خرجنَا قَالَ عَمْرو بن الْعَاصِ لَآتِيَنه غَدا فأتهمهم بِمَا أستأصل بِهِ خضراهم فَقَالَ لَهُ عبد الله ابْن أبي ربيعَة وَهُوَ أتقي الرجلَيْن فَإِن لَهُم رحما وَفِي رِوَايَة فَإِن للْقَوْم رحما وَإِن كَانُوا قد خالفوا فَمَا نحب أَن نبلغ ذَلِك مِنْهُم فَقَالَ عَمْرو وَالله لأخبرنه أَنهم يَزْعمُونَ أَن عِيسَى بن مَرْيَم عبد فَلَمَّا كَانَ الْغَد غَدا إِلَيْهِ عَمْرو فَدخل فَقَالَ أَيهَا الْملك إِنَّهُم يخالفونك وَيَقُولُونَ فِي عِيسَى بن مَرْيَم قولا عَظِيما إِنَّهُم يَقُولُونَ إِنَّه عبد فَأرْسل إِلَيْهِم فاسألهم قَالَ النَّجَاشِيّ إِن لم يَقُولُوا فِي عِيسَى مثل قولي اخرجتهم من ارضي فَأرْسل النَّجَاشِيّ إِلَى الْقَوْم قَالَت أم سَلمَة فَكَانَت الدعْوَة الثَّانِيَة أَشد علينا من الأولى فَاجْتمعُوا فَقَالَ بَعضهم لبَعض قد عَرَفْتُمْ أَن عِيسَى إلهه الَّذِي يعبده وَقد عَرَفْتُمْ أَن نَبِيكُم
جَاءَكُم بِأَنَّهُ عبد وَأَن مَا يَقُولُونَ هُوَ الْبَاطِل فَمَاذَا تَقولُونَ قَالَ جَعْفَر نقُول وَالله فِيهِ مَا قَالَ عز وجل وَمَا جَاءَ بِهِ نَبينَا
كَائِن فِي ذَلِك مَا هُوَ كَائِن فَلَمَّا دخلُوا عَلَيْهِ قَالَ لَهُم مَاذَا تَقولُونَ فِي عِيسَى ابْن مَرْيَم فَقَالَ جَعْفَر نقُول فِيهِ مَا جَاءَ بِهِ نَبينَا
أَنه عبد الله وَرَسُوله وكلمته
أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَم الْعَذْرَاء البتول فَضرب النَّجَاشِيّ بِيَدِهِ إِلَى الأَرْض فَأخذ مِنْهَا عوداً فَقَالَ مَا عدا عِيسَى بن مَرْيَم مَا تَقولُونَ مثل هَذَا الْعود فنخرت أساقفته نخرة أَي تَكَلَّمت بلغتهم فَقَالَ لَهُم النَّجَاشِيّ وَإِن نخرتم ثمَّ قَالَ للْمُسلمين اذْهَبُوا فَأنْتم سيوم بأرضي والسيوم الآمنون مَا أحب أَن آذَى مِنْكُم رجلا وَإِن لي دبراً من ذهب والدبر بلسانهم الْجَبَل ثمَّ قَالَ ردوا عَلَيْهِمَا هداياهما فَلَا حَاجَة لي بهَا فوَاللَّه مَا أَخذ الله مني رشوة حِين رد عَليّ ملكي وَمَا أطَاع فِي النَّاس فأطعهم فِيهِ فَردُّوا عَلَيْهِمَا هداياهما فعادا خائبين ثمَّ قَالَ مرْحَبًا بكم وبمن جئْتُمْ من عِنْده وَأَنا أشهد أَنه رَسُول الله وَأَنه الَّذِي بشر بِهِ عِيسَى وَلَوْلَا مَا أَنا فِيهِ من الْملك لأتيته حَتَّى أُقبل نَعله ثمَّ دَعَا النَّجَاشِيّ فلَانا القس وَفُلَانًا الراهب فَأَتَاهُ أنَاس مِنْهُم فَقَالَ مَا تَقولُونَ فِي عِيسَى بن مَرْيَم قَالُوا أَنْت أعلم بِمَا نقُول فَقَالَ النَّجَاشِيّ وَأخذ الْعود فَقَالَ مَا تقدم ثمَّ قَالَ للْمُسلمين أيؤذيكم أحد قَالُوا نعم فَأمر منادياً يُنَادي من آذَى وَاحِدًا مِنْهُم فأغرموه أَرْبَعَة دَرَاهِم ثمَّ قَالَ أيكفيكم هَذَا قَالُوا لَا قَالَ فأضعفوها فَلَمَّا هَاجر رَسُول الله
وَخرج إِلَى الْمَدِينَة وَظهر بهَا أَتَاهُ الْمُسلمُونَ فَقَالُوا أَيهَا لملك إِن نَبينَا قد خرج إِلَى الْمَدِينَة فَظهر بهَا وَقتل الَّذين كُنَّا حدثناك عَنْهُم وَقد اردنا الرحيل فزودنا فزودوهم وَحَملهمْ ثمَّ قَالَ يَا جَعْفَر أخبر صَاحبك بِمَا صنعت إِلَيْكُم وَهَذَا صَاحِبي مَعكُمْ وَأَنا أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنه مُحَمَّد رَسُول الله وَقل لَهُ يسْتَغْفر لي قَالَ السُّهيْلي روى أَن وقْعَة بدر حِين انْتهى خَبَرهَا إِلَى النَّجَاشِيّ رَحمَه الله تَعَالَى علم بهَا قبل من عِنْده من الْمُسلمين فَأرْسل إِلَيْهِم فَلَمَّا دخلُوا عَلَيْهِ إِذْ هُوَ قد لبس مسحاً وَقعد على التُّرَاب والرماد فَقَالُوا مَا هَذَا أَيهَا الْملك فَقَالَ إِنَّا نجد فِي الْإِنْجِيل أَن الله سُبْحَانَهُ إِذا أحدث بِعَبْدِهِ نعْمَة وَجب على العَبْد أَن يحدث لله تواضعاً وَإِن الله قد أحدث إِلَيْنَا وإليكم نعْمَة عَظِيمَة وَهُوَ إِن مُحَمَّدًا
بَلغنِي أَنه التقى هُوَ وأعداؤه بواد يُقَال لَهُ بدر كثير الْأَرَاك كنت ارعى الْغنم فِيهِ على سَيِّدي وَهُوَ
من بني ضَمرَة وَأَن الله قد هزم أعداءه فِيهِ وَنصر دينه انْتهى وَقد دلّ هَذَا الْخَبَر على طول مكثه فِي بِلَاد الْعَرَب فَمن هُنَا وَالله أعلم تكلم بِلِسَان الْعَرَب وَتعلم مَا فهم بِهِ سُورَة مَرْيَم حِين قَرَأَهَا عَلَيْهِ جَعْفَر بن أبي طَالب حَتَّى بَكَى واخضلت لحيته بالدمع كَمَا تقدم وروى أَنه قَالَ إِنَّا نجد فِي الْإِنْجِيل أَن اللَّعْنَة تقع فِي الأَرْض إِذا كَانَت إِمَارَة الصّبيان وَكَانَت وَفَاة النَّجَاشِيّ فِي رَجَب سنة تسع من الْهِجْرَة ونعاه رَسُول الله
فِي الْيَوْم الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَصلى عَلَيْهِ بِالبَقِيعِ رفع إِلَيْهِ سَرِيره بِأَرْض الْحَبَشَة حَتَّى رَآهُ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ فصلى عَلَيْهِ وَتكلم المُنَافِقُونَ فَقَالُوا صلى على هَذَا العلج فَأنْزل الله {وَإِن من أهل الْكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} الْآيَة آل عمرَان 199 وَفِي رِوَايَة يُونُس عَن ابْن إِسْحَاق أَن أَبَا نيزر مولى عَليّ بن أبي طَالب رضي الله عنه كَانَ ابْنا للنجاشي نَفسه وَأَن عليا رضي الله عنه وجده عِنْد تَاجر بِمَكَّة فَاشْتَرَاهُ مِنْهُ وَأعْتقهُ مُكَافَأَة لما صنع أَبوهُ مَعَ الْمُسلمين وَذكر أَن الْحَبَشَة عرج إِلَيْهِ أمرهَا بعد موت النَّجَاشِيّ وَأَنَّهُمْ أرْسلُوا وَفْدًا مِنْهُم إِلَى نيزر وَهُوَ مَعَ عَليّ ليملكوه ويتوجوه فَأبى وَقَالَ مَا كنت لأطلب الْملك بعد أَن منّ عَليّ بِالْإِسْلَامِ قَالَ وَكَانَ نيزر من أطول النَّاس قامة وَأَحْسَنهمْ وَجها وَلم يكن لَونه كألوان الْحَبَشَة وَلَكِن إِذا رَأَيْته قلت رجل من الْعَرَب قَالَ جَعْفَر فخرجنا حَتَّى أَتَيْنَا الْمَدِينَة فتلقاني رَسُول الله
فاعتنقني ثمَّ قَالَ أَنا أسر بِفَتْح خَيْبَر أم بقدوم جَعْفَر وَوَافَقَ ذَلِك فتح خَيْبَر فَقَامَ رَسُول النَّجَاشِيّ فَقَالَ هَذَا جَعْفَر فَاسْأَلْهُ مَا صنع بِهِ صاحبنا فَقَالَ جَعْفَر فعل كَذَا وَكَذَا وزودنا وحملنا وَشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله وَأَنَّك رَسُول الله وَقَالَ قل لَهُ يسْتَغْفر لي فَقَامَ رَسُول الله
فَتَوَضَّأ ثمَّ دَعَا ثَلَاث مَرَّات اللَّهُمَّ اغْفِر للنجاشي فَقَالَ الْمُسلمُونَ آمين قَالَ جَعْفَر فَقلت لرَسُول النَّجَاشِيّ فَأخْبر صَاحبك بِمَا رَأَيْت من النَّبِي
وَمعنى قَول النَّجَاشِيّ مَا أَخذ الله مني رشوة حِين رد عَليّ ملكي إِلَى آخِره أَنه لم يكن لِأَبِيهِ غَيره وَكَانَ أَبوهُ ملك قومه وَكَانَ لنجاشي عَم لَهُ من صلبه اثْنَا عشر رجلا وَكَانُوا أهل بَيت مملكة الْحَبَشَة فَقَالَت الْحَبَشَة فِيمَا بَينهَا لَو
قتلنَا أَبَا النَّجَاشِيّ ثمَّ ملكنا أَخَاهُ فتوارث ملكه بنوه فَإِنَّهُم اثْنَا عشر رجلا يمْكث فيهم الْملك زَمَانا فعدوا على أبي النَّجَاشِيّ فَقَتَلُوهُ ثمَّ ملكوا أَخَاهُ وَنَشَأ مَعَ عَمه وَكَانَ لبيباً حاذقاً فغلب على أَمر عَمه وَنزل مِنْهُ كل منزل فَلَمَّا رَأَتْ الْحَبَشَة مَكَانَهُ مِنْهُ قَالَت الْحَبَشَة وَالله لقد غلب هَذَا الْفَتى على أَمر عَمه وَإِنَّا لنتخوف أَن يملكهُ علينا فيقتلنا أَجْمَعِينَ لقد عرف أَنا قتلنَا أَبَاهُ فَمَشَوْا إِلَى عَمه فَقَالُوا إِنَّا قتلنَا أَبَا هَذَا الْغُلَام وَقد عرف أَنا قَتَلْنَاهُ وملكناك علينا فَإنَّا نتخوف على أَنْفُسنَا مِنْهُ فاقتله أَو أخرجه من بلادك فَقَالَ وَيحكم قتلتم أَبَاهُ بالْأَمْس وأقتله الْيَوْم اذْهَبُوا فأخرجوه من بِلَادكُمْ فبيعوه فِي هَذَا السُّوق فأخرجوه إِلَى السُّوق وَأَقَامُوا فِيهِ فجَاء تَاجر فَاشْتَرَاهُ بستمائة دِرْهَم فَأَخذه فِي سفينة فَانْطَلق بِهِ حَتَّى إِذا كَانَ الْعشي من ذَلِك الْيَوْم هَاجَتْ سَحَابَة من سحائب الْحَرِيق فَخرج عَمه يستمطر فأصابته صَاعِقَة فَأَحْرَقتهُ فَرَجَعُوا إِلَى بنيه فَإِذا هم لَيْسَ فيهم خير فَقَالَت الْحَبَشَة بَعضهم لبَعض هلك وَالله ملككم تعلمُونَ أَن ملككم الَّذِي بعتموه فَإِن كَانَ لكم فِي ملككم حَاجَة فأدركوه فَخَرجُوا فِي طلبه فأدركوا التَّاجِر وأخذوه مِنْهُ ثمَّ جَاءُوا بِهِ فعقدوا عَلَيْهِ التَّاج وأقعدوه على سَرِير الْملك فملكوه فَجَاءَهُمْ التَّاجِر فَقَالَ أعطوني دراهمي كَمَا أَخَذْتُم غلامي قَالُوا لَا وَالله لَا نَفْعل قَالَ وَالله لأشكونكم إِلَى الْملك فجَاء إِلَى مجْلِس الْملك فَقَالَ أَيهَا الْملك إِنِّي ابتعت غُلَاما ثمَّ أَتَانِي باعته فانتزعوه مني فسألتهم مَالِي فَأَبَوا أَن يعطوني فَنظر النَّجَاشِيّ إِلَيْهِ فَقَالَ وَالله لتعطنه مَاله أَو ليضعن يَده فِي يَد عَبده فَيذْهب بِهِ حَيْثُ يَشَاء فَقَالُوا بلَى نُعْطِيه مَاله فَكَانَ هَذَا من النَّجَاشِيّ أول مَا اختبر من صلاتبه فِي دينه وعدله فِي ملكه انْتهى وَالْكَلَام يجر بعضه بَعْضًا فالمسؤل من النَّاظر التسامح والإغضاء وَكَانَ عَمْرو بن الْعَاصِ سَافر بامرأته فَلَمَّا ركبُوا الْبَحْر كَانَ عمَارَة قد هوى امْرَأَة عَمْرو وهويته لِأَنَّهُ كَانَ جميلاً وسيماً عَزِيزًا فِي قُرَيْش قلت وَهُوَ الَّذِي قَالَت قُرَيْش عَنهُ لأبي طَالب خُذ عمَارَة بن الْوَلِيد وتبناه بَدَلا عَن مُحَمَّد
وادفع إِلَيْنَا مُحَمَّدًا نَقْتُلهُ فَقَالَ لَهُم أَبُو طَالب تعطوني ولدكم أغذوه لكم وأدفع لكم ابْني تَقْتُلُونَهُ بئْسَمَا سفهت بِهِ أحلامكم وَهُوَ أَيْضا أحد الرجلَيْن
اللَّذين حكى الله تَعَالَى عَنْهُمَا قَول قُرَيْش {لَوْلَا نزل هَذَا القرءآت عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} الزخرف 31 أَرَادوا بالقريتين مَكَّة والطائف وبعظيم مَكَّة هَذَا عمَارَة بن الْوَلِيد بن الْمُغيرَة وبعظيم الطَّائِف عُرْوَة بن مَسْعُود الثَّقَفِيّ انْتهى فَلَمَّا هويها وهويته عزما على دفع عَمْرو فِي الْبَحْر فدفعا عمرا فَسقط فِي الْبَحْر فسبح عَمْرو ونادى أَصْحَاب السَّفِينَة فَأَخَذُوهُ فَرَفَعُوهُ إِلَى السَّفِينَة فأضمرها عَمْرو فِي نَفسه وَلم يبدها لعمارة بل قَالَ لامْرَأَته قتلني ابْن عمك عمَارَة لتطيب بذلك نَفسه فَلَمَّا انتهيا إِلَى أَرض الْحَبَشَة مكر عَمْرو بعمارة فَقَالَ لَهُ إِنِّي كتبت إِلَى قومِي بني سهم ليبرءوا من دمي لَك فَاكْتُبْ أَنْت لبني مَخْزُوم قَوْمك ليبرءوا من دمك لي حَتَّى تعلم قُرَيْش أَنا قد تصافينا فَكتب عمَارَة لبني مَخْزُوم وتبرءوا من دَمه لبني سهم فَقَالَ شيخ من قُرَيْش قتل وَالله عمَارَة وَعلم أَنه مكر بِهِ عَمْرو ثمَّ أَخذ عَمْرو يحرض عمَارَة على التَّعَرُّض لامْرَأَة النَّجَاشِيّ وَقَالَ لَهُ أَنْت امْرُؤ جميل وَهن النِّسَاء يحببن الْجمال من الرِّجَال فلعلها أَن تشفع لنا عِنْد الْملك فِي قَضَاء حاجتنا فَفعل عمَارَة فَلَمَّا رأى عَمْرو ذَلِك وتكرر عمَارَة على امْرَأَة الْملك وَرَأى إنابتها إِلَيْهِ أَتَى الْملك مستنصحاً وجاءه بأمارة عرفهَا الْملك من امْرَأَته كَانَ عمَارَة أطلع عمرا عَلَيْهَا وَهِي قَلِيل بَيَاض فَوق ركبهَا اسْم الْفرج فَلَمَّا أخبرهُ بذلك أَدْرَكته غيرَة الْمُلُوك وَقَالَ لَوْلَا أَنه جاري لقتلته وَلَكِن سأفعل بِهِ مَا هُوَ شَرّ من الْقَتْل ثمَّ دَعَا بالسواحر فأمرهن أَن يسحرنه فنفخن فِي إحليله نفخة طَار مِنْهَا هائماً على وَجهه حَتَّى لحق بالوحوش فِي الْجبَال فَكَانَ يرى آدَمِيًّا فتوحش فَكَانَ ذَلِك آخر الْعَهْد بِهِ إِلَى زمن عمر رضي الله عنه فجَاء ابْن عَمه عبد الله بن ربيعَة إِلَى عمر واستأذنه أَن يذهب إِلَيْهِ لَعَلَّه يجده فَأذن لَهُ عمر فِي ذَلِك فَسَار عبد الله بن ربيعية إِلَى أَرض الْحَبَشَة وَلم يزل فِي الفحص عَن أمره حَتَّى أخبر أَنه فِي جبل يرد مَعَ الوحوش إِذا وَردت ويصدر مَعهَا إِذا صدرت فَسَار إِلَيْهِ حَتَّى كمن لَهُ فِي طَرِيقه إِلَى المَاء فَإِذا هُوَ قد غطاه شعره وطالت أَظْفَاره حَتَّى كَأَنَّهُ شَيْطَان فَقبض عَلَيْهِ عبد الله وَجعل يذكرهُ بالرحم ويستعطفه وَهُوَ ينتفض مِنْهُ وَيَقُول ارسلني با بجير أَرْسلنِي يَا بجير وَكَانَ اسْم عبد الله بن ربيعَة الْمَذْكُور بجيراً فَسَماهُ النَّبِي
عبد الله فَأبى عبد الله أَن يُرْسِلهُ حَتَّى مَاتَ عمَارَة بَين يَدَيْهِ وَهَذَا خبر مَشْهُور
اخْتَصَرَهُ بعض من ألف السّير كَمَا ذكرنَا وَطوله أَبُو الْفرج الْأَصْبَهَانِيّ وَهَذَا حَاصله انْتهى ثمَّ بَلغهُمْ بِأَرْض الْحَبَشَة أَن أهل مَكَّة قد سجدوا مَعَ النَّبِي
واسلموا وَذَلِكَ حِين صلى النَّبِي
فقرأة سُورَة النَّجْم حَتَّى بلغ {أَفَرَأَيْتُم اللات والعزى ومنواة الثاثة الأُخْرَى} النَّجْم 19 20 ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته أَي فِي تِلَاوَته هَاتين الجملتين تِلْكَ الغرانيق العلى وَإِن شفاعتهن لترتجى فَلَمَّا ختم السُّورَة سجد وَسجد مَعَه الْمُشْركُونَ لتوهمهم أَنه ذكر آلِهَتهم بِخَير فَمشى ذَلِك فِي النَّاس وأظهره الشَّيْطَان حَتَّى بلغ أَرض الْحَبَشَة وَمن بهَا من الْمُسلمين وتحدثوا أَن أهل مَكَّة قد أَسْلمُوا كلهم وصلوا مَعَه
وَقد أَمن الْمُسلمُونَ بِمَكَّة فَأَقْبَلُوا سرَاعًا من الْحَبَشَة والغرانيق جمع غرنوق وغرنيق وَهِي فِي الأَصْل الذُّكُور من طيور المَاء سميت بذلك لبياضها وَقيل هُوَ الكركي والغرنوق أَيْضا هُوَ الشَّاب الْأَبْيَض الناعم وَكَانُوا يَزْعمُونَ أَن الْأَصْنَام تقربهم من الله وَتشفع لَهُم فشبهت بالطيور الَّتِي تعلوا فِي السَّمَاء وترتفع قلت وَهَذِه الْقِصَّة قد وَهن اصلها وَادّعى وَضعهَا جماعات من الْعلمَاء مِنْهُم القَاضِي عِيَاض وَالْفَخْر الرَّازِيّ وَالْبَيْهَقِيّ وَقَالَ الْبَيْهَقِيّ رُوَاة هَذِه الْقِصَّة مطعونون وَأَيْضًا فقد روى البُخَارِيّ فِي صَحِيحه قِرَاءَة سُورَة النَّجْم وَسُجُود الْمُسلمين مَعَه
وَالْمُشْرِكين وَالْإِنْس وَالْجِنّ وَلَيْسَ فِيهِ حَدِيث الغرانيق ثمَّ قَالَ وَقيل إِنَّهَا من وضع الزَّنَادِقَة وَلَا أصل لَهَا انْتهى وصححها جمَاعَة مِنْهُم ابْن أبي حَاتِم وَالطَّبَرَانِيّ وَابْن الْمُنْذر وأخرجها من طرق وَكَذَا ابْن مرْدَوَيْه وَالْبَزَّار وَابْن إِسْحَاق فِي السِّيرَة ومُوسَى بن عقبَة فِي الْمَغَازِي وَأَبُو معشر فِي السِّيرَة كَمَا نبه عَلَيْهِ الْحَافِظ عماد الدّين بن كثير وَغَيره لَكِن قَالَ إِن طرقها كلهَا مُرْسلَة وَإنَّهُ لم يرهَا مُسندَة من وَجه صَحِيح
فارغة
فارغة
وَإِذا تقرر ذَلِك تعين تَأْوِيل مَا وَقع فِيهَا مِمَّا يستنكر وَهُوَ قَوْله تِلْكَ الغرانيق إِلَى آخِره فَإِن ذَلِك لَا يجوز حمله على ظَاهره لِأَنَّهُ يَسْتَحِيل عَلَيْهِ عليه الصلاة والسلام أَن يزِيد فِي الْقُرْآن عمدا مَا لَيْسَ مِنْهُ وَكَذَا سَهوا إِذا كَانَ مغايراً لما جَاءَ بِهِ من التَّوْحِيد لمَكَان عصمته وَقد سلك الْعلمَاء فِي ذَلِك مسالك فَقيل جرى ذَلِك على لِسَانه حِين أَصَابَته سنة وَهُوَ لَا يشْعر فَلَمَّا علم بذلك أحكم الله آيَاته وَهَذَا أخرجه الطَّبَرِيّ عَن قَتَادَة ورده عِيَاض بِأَنَّهُ لَا يَصح لكَونه لَا يجوز على النَّبِي
ذَلِك وَلَا ولَايَة للشَّيْطَان عَلَيْهِ لَا فِي الْيَقَظَة وَلَا فِي النّوم وَقيل إِن الشَّيْطَان أَلْجَأَهُ إِلَى قَول ذَلِك فَقَالَ بِغَيْر اخْتِيَاره ورده ابْن الْعَرَبِيّ بقوله تَعَالَى حِكَايَة عَن الشَّيْطَان {وَمَا كَانَ لي عَلَيْكُم من سُلْطَان} إِبْرَاهِيم 22 قَالَ فَلَو كَانَ للشَّيْطَان قُوَّة على ذَلِك لما بَقِي لأحد قُوَّة على طَاعَة وَقيل لَعَلَّه قَالَ ذَلِك توبيخاً للْكفَّار قَالَ عِيَاض وَهَذَا جَائِز إِذا كَانَ هُنَاكَ قرينَة تدل على المُرَاد وَلَا سِيمَا وَقد كَانَ الْكَلَام فِي ذَلِك الْوَقْت جَائِزا فِي الصَّلَاة وَإِلَى هَذَا نحا الباقلاني وَقيل إِنَّه لما وصل إِلَى قَوْله {ومنواة الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} النَّجْم 20 خشى الْمُشْركُونَ أَن يَأْتِي بعْدهَا شَيْء بذم آلِهَتهم فبادروا إِلَى ذَلِك الْكَلَام فخلطوا فِي تِلَاوَته عليه الصلاة والسلام على عَادَتهم فِي قَوْلهم {لَا تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْآن وَالْغَوْاْ فِيهِ} فصلت 26 وَنسب ذَلِك إِلَى الشَّيْطَان لكَونه الْحَامِل لَهُم على ذَلِك وَالْمرَاد شَيْطَان الْإِنْس
وَقيل كَانَ النَّبِي
يرتل الْقُرْآن فارتصده الشَّيْطَان فِي سكتة من السكتات ونطق بِتِلْكَ الْكَلِمَات محاكياً نَغمَة النَّبِي
بِحَيْثُ يسمعهُ من دنا إِلَيْهِ فظنا من قَوْله وأشاعها قَالَ وَهَذَا الْأَخير أحسن وُجُوه التَّأْوِيل فِي هَذِه الْقِصَّة وَيُؤَيِّدهُ مَا ورد عَن ابْن عَبَّاس من تَفْسِير {تَمَنَّى} الْحَج 52 تَلا وَكَذَا اسْتحْسنَ ابْن الْعَرَبِيّ هَذَا التَّأْوِيل وَقَالَ معنى {فِي أُمْنِيَّتِهِ} الْحَج 52 أَي فِي تِلَاوَته فَأخْبر الله تَعَالَى فِي هَذِه الْآيَة أَن سنة الله فِي رسله إِذا قَالُوا قولا زَاد الشَّيْطَان فِيهِ من قبل نَفسه فَهَذَا نَص فِي أَن الشَّيْطَان زَاد فِي قَول النَّبِي
لَا أَن النَّبِي
قَالَه انْتهى وَلما رجعُوا سرَاعًا من الْحَبَشَة ثمَّ تحققوا قبل دُخُول مَكَّة بساعة خلاف ذَلِك فَلم يدْخل أحد مِنْهُم إِلَّا بجوار أَو مستخفياً وَكَذَلِكَ لما تبين للْمُشْرِكين عدم مدح النَّبِي آلِهَتهم رجعُوا إِلَى أَشد مَا كَانُوا عَلَيْهِ فَلَمَّا اشْتَدَّ إِيذَاء الْمُشْركين للْمُسلمين اذن لَهُم
فِي الْهِجْرَة الثَّانِيَة فَهَاجَرَ ثَلَاثَة وَثَمَانُونَ رجلا وثمان عشرَة امْرَأَة فيهم جَعْفَر بن أبي طَالب وَأم سَلمَة وَغَيرهمَا فأقاموا فِي الْحَبَشَة على أحسن حَال حَتَّى رجعُوا إِلَيْهِ عليه الصلاة والسلام كَمَا تقدم ذكر ذَلِك وَلما رَأَتْ قُرَيْش عزة النَّبِي
بِمن مَعَه وَعزة اصحابه بِالْحَبَشَةِ وفشو الْإِسْلَام فِي الْقَبَائِل اجْتَمعُوا وَأَجْمعُوا على أَن يكتبوا كتابا يتعاقدون فِيهِ على بني هَاشم وَبني الْمطلب أَن لَا يناكحوهم وَلَا يبايعوهم فَكَتبهُ مَنْصُور بن عِكْرِمَة أَو بغيض بن عَامر فشلت يَده وعلقوا الصَّحِيفَة فِي جَوف الْكَعْبَة هِلَال الْمحرم سنة سبع من الْبعْثَة فانحاز الهاشميون غير أبي لَهب والمطلبيون إِلَى أبي طَالب فِي شعبه سنتَيْن أَو ثَلَاثًا حَتَّى جهدوا وَكَانَ لَا يصل إِلَيْهِم الْقُوت إِلَّا خُفْيَة حَتَّى قَامَ رجال خَمْسَة فِي نقض الصَّحِيفَة وهم هِشَام بن الْحَارِث بن حبيب بن خُزَيْمَة بن مَالك بن حسل ابْن عَامر بن لؤَي العامري وَزَمعَة بن الْأسود بن الْمطلب بن أَسد بن عبد الْعُزَّى وَزُهَيْر بن أبي أُميَّة بن الْمُغيرَة وَهُوَ ابْن عمَّة النَّبِي
عَاتِكَة ابْنة عبد الْمطلب والمطعم بن عدي وَأَبُو البخْترِي بن هِشَام بن الْحَارِث بن أَسد الْأَسدي وَذَلِكَ أَن بني هَاشم وَالْمطلب جهدوا وَلم يصل إِلَيْهِم شَيْء إِلَّا سرا حَتَّى إِن حَكِيم بن حزَام بن خويلد حمل غُلَامه قمحاً يُرِيد عمته خَدِيجَة ابْنة خويلد رضي الله عنها فَلَقِيَهُ
أَبُو جهل فَتعلق بِهِ وَأَرَادَ أَن يَفْضَحهُ فانتصر لَهُ أَبُو البخْترِي بن هَاشم وَقَالَ خل سَبيله فَأبى أَبُو جهل فَأخذ لَهُ لحي جمل فَضَربهُ بِهِ فَشَجَّهُ ووطئه وطئا شَدِيدا فَلَمَّا مَضَت تِلْكَ الْمدَّة قَامَ أُولَئِكَ النَّفر الْخَمْسَة فِي نقض الصَّحِيفَة وَكَانَ رَأْسهمْ هَاشم بن عَمْرو بن ربيعَة بن الْحَارِث لعزته بِعَمِّهِ لأمه الَّذِي هُوَ أَخُو عبد الْمطلب وَمن ثمَّ كَانَ واصلاً لبني هَاشم فَكَانَ يَأْتِيهم بالبعير عَلَيْهِ الطَّعَام إِلَى فَم الشّعب فيخلع خطامه ويضربه حَتَّى يدْخل فَمشى هِشَام هَذَا إِلَى زُهَيْر بن أُميَّة المَخْزُومِي وَهُوَ ابْن عَاتِكَة ابْنة عبد الْمطلب فَقَالَ لَهُ يَا زُهَيْر أرضيت بِأَن تَأْكُل الطَّعَام وتشرب المَاء وتلبس الثِّيَاب وَتنْكح النِّسَاء وأخوالك حَيْثُ مَا علمت وشدد عَلَيْهِ حَتَّى قَالَ أبغنا ثَالِثا قَالَ قد وجدت الْمطعم بن عدي قَالَ أبغنا رَابِعا فَذهب إِلَى أبي البخْترِي واستنخاه أَيْضا فَقَالَ وَهل من معِين فَذكر لَهُ أُولَئِكَ فَقَالَ أبغنا خَامِسًا فَذهب إِلَى زَمعَة ابْن الْأسود واستنخاه فَقَالَ هَل من أحد فَذكر لَهُ الْقَوْم فَاجْتمعُوا بالحجون وَأَجْمعُوا على نقضهَا فَقَالَ لَهُم زُهَيْر وَأَنا أول من يتَكَلَّم فَلَمَّا أَصْبحُوا غدوا إِلَى أَنْدِيَتهمْ وَغدا زُهَيْر فَطَافَ سبعا ثمَّ أقبل على النَّاس فَقَالَ يَا أهل مَكَّة إِنَّا نَأْكُل الطَّعَام ونلبس الثِّيَاب وَبَنُو هَاشم هلكي لَا يبايعون وَلَا يبْتَاع مِنْهُم وَالله لَا أقعد حَتَّى تشق هَذِه الصَّحِيفَة الظالمة القاطعة فَقَالَ أَبُو جهل كذبت وَالله مَا تشق فَقَالَ زَمعَة لأبي جهل أَنْت وَالله أكذب مَا رَضِينَا كتَابَتهَا حِين كتبت وَقَالَ أَبُو البخْترِي صدق زَمعَة مَا نرضى مَا كتب فِيهَا وَلَا نقر بِهِ فَقَالَ الْمطعم صدقتما وَكذب من قَالَ غير ذَلِك نبرأ إِلَى الله مِنْهَا وَمِمَّا كتب فِيهَا فَقَالَ أَبُو جهل هَذَا أَمر بَيت بلَيْل اشتور فِيهِ بِغَيْر هَذَا الْمَكَان وَأَبُو طَالب جَالس فَقَامَ الْمطعم إِلَى الصَّحِيفَة ليشقها فَوجدَ الأرضة قد أكلتها إِلَّا بِاسْمِك اللَّهُمَّ ولايعارض ذَلِك إِن رَسُول الله
قبل ذَلِك أخبر أَبَا طَالب أَن الله سلط الأرضة على صحيفَة قُرَيْش فَلم تدع فِيهِ اسْما هُوَ الله إِلَّا أثبتته ومحت مِنْهَا الظُّلم والقطيعة والبهتان فَقَالَ لَهُ أَبُو طَالب أربك أخْبرك بِهَذَا قَالَ نعم فَأخْبرهُم بذلك فَقَالَ يَا معشر قُرَيْش إِن ابْن أخي أَخْبرنِي بِكَذَا وَكَذَا فَهَلُمَّ صحيفتكم فَإِن صدق فَانْتَهوا عَن قطيعتنا وَإِلَّا دَفعته إِلَيْكُم فنظروها فَإِذا هِيَ كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة
وَالسَّلَام فازدادوا أشراً وَوجه عدم الْمُعَارضَة أَنه لَا مَانع من أَنهم لما نظرُوا ذَلِك وازدادوا اشرا قَامَ اولئك الْخَمْسَة المذكورون فِي إِزَالَتهَا من أَصْلهَا فسعوا فِي نقضهَا وبذلوا جهدهمْ فِيهِ قَالَ الشَّارِح الْجَوْجَرِيّ وَيحْتَمل أَن أَبَا طَالب إِنَّمَا أخْبرهُم بعد سَعْيهمْ فِي نقضهَا انْتهى قَالَ الْعَلامَة ابْن حجر الهيتمي ويبعده أَن الْإِخْبَار حِينَئِذٍ لَيْسَ لَهُ كَبِير جدوى قلت إِن كَانَ الْإِخْبَار بعد الِاطِّلَاع عَلَيْهَا فَلَا ريب فِي عدم أصل الجدوى فضلا عَن كبيرها وَإِن كَانَ الْإِخْبَار قبل تنزيلها بعد السَّعْي فِي نقضهَا كَمَا هُوَ ظَاهر فحواه فجدواه جدواه فَلَا بعد فِي احْتِمَاله بعد انْتهى وَلما مزقت الصَّحِيفَة وَبَطل مَا فِيهَا قَالَ أَبُو طَالب فِيمَا كَانَ من اولئك النَّفر الَّذِي قَامُوا فِي تمزيقها يمدحهم فِي فعلهم هَذِه القصيدة // (من الطَّوِيل) //
(أَلا هَل أَتَى بحريّنا فعل ربّنا
…
على نأيهم وَالله بالنّاس أرود)
(فيخبرهم أنّ الصّحيفة مزّقت
…
وَأَن كلّ مَا لم يرضه الله مُفسد)
(تراوحها إفكٌ وسحرٌ مجمّعٌ
…
وَلم يلف سحرٌ آخر الدّهر يصعد)
(جزى الله رهطاً بالحجون تبايعوا
…
على ملإ يهدي لحزمٍ ويرشد)
(قعُودا لَدَى خطم الْحجُون كأنّهم
…
مقاولةٌ بل هم أعزّ وأمجد)
(أعَان عَلَيْهَا كلّ صقرٍ كأنّه
…
إِذا مَا مَشى فِي رَفْرَف الدّرع اجرد)
(جرئ على جلّ الخطوب كأنّه
…
شهابٌ بكفّي قابسٍ يتوقّد)
(من الأكرمين من لؤيّ بن غالبٍ
…
إِذا سيم خسفاً وَجهه يتربّد)
(طَوِيل النّجاد خارجٌ نصف سَاقه
…
على وَجهه يسقى الْغَمَام ويسعد)
(عَظِيم الرّماد سيّدٌ وَابْن سيّدٍ
…
يحضّ على مقري الضّيوف ويحشد)
(وَيَبْنِي لأبناء الْعَشِيرَة صَالحا
…
إِذا نَحن طفنا فِي الْبِلَاد ويمهد)
(ألظّ بِهَذَا الصّلح كلّ مبرأٍ
…
عَظِيم اللِّوَاء أمره ثمّ يحمد)
(قضوا مَا قضوا فِي ليلهم ثمّ أَصْبحُوا
…
على مهلٍ وَسَائِر النّاس رقّد)
(هم رجعُوا سهل بن بَيْضَاء رَاضِيا
…
وسرّ أَبُو بكرٍ بهَا ومحمّد)
(مَتى شرك الأقوام فِي جلّ أمرنَا
…
وكنّا قَدِيما قبلهَا نتودّد)
(وكنّا قَدِيما لَا نقرّ ظلامةً
…
وندرك مَا شِئْنَا وَلَا نتشدّد)
(فيالقصيّ هَل لكم فِي نفوسكم
…
وَهل لكم فِيمَا يجىء بِهِ غَد)
(فإنّي وإيّاكم كَمَا قَالَ قائلٌ
…
لديك الْبَيَان لَو تكلّمت أسود)
أسود جبل كَانَ قد قتل فِيهِ قَتِيل وَلم يعرف قَاتله فَقَالَ أَوْلِيَاء الْمَقْتُول هَذِه الْمقَالة يعنون بهَا أَن هَذَا الْجَبَل لَو تكلم لأَبَان عَن الْقَاتِل ولعرف بالجاني وَلكنه لَا يتَكَلَّم فَذَهَبت مقالتهم مثلا وَقد أَشَارَ صَاحب الهمزية إِلَى ذَلِك بقوله // (من الْخَفِيف) //
(فتيةٌ بيّتوا على فعل خيرٍ
…
حمد الصّبح امرهم والمساء)
(يالأمرٍ اتاه بعد هشامٍ
…
زمعةٌ أَنه الْفَتى الأتاء)
(وزهيرٌ والمطعم بن عديٍّ
…
وَأَبُو البحتريً من حَيْثُ شَاءُوا)
(نقضوا مبرم الصَّحِيفَة إِذْ شددت
…
عَلَيْهِم من العدا الأنداء)
(أذكرتنا بأكلها أكل منساة
…
سُلَيْمَان الأرضة الخرساء)
(وَبهَا أخبر النّبيّ وَكم اخْرُج
…
خبثاً لَهُ الغيوب خباء)
وَكَانَ ذَلِك فِي السّنة الْعَاشِرَة من الْبعْثَة ثمَّ بعد ذَلِك بِثمَانِيَة أشهر وَأحد وَعشْرين يَوْمًا مَاتَ عَمه أَبُو طَالب ثمَّ خَدِيجَة بعده بِثَلَاثَة أَيَّام على الصَّحِيح فِي رَمَضَان وَكَانَ عليه الصلاة والسلام يُسمى ذَلِك الْعَام عَام الْحزن وَكَانَت مُدَّة إِقَامَتهَا مَعَه عليه الصلاة والسلام خمْسا
وَعشْرين سنة على الصَّحِيح وَبعد أَيَّام من مَوتهَا تزوج بسودة بنت زَمعَة ثمَّ خرج إِلَى الطَّائِف بعد موت خَدِيجَة بِثَلَاثَة أشهر فِي لَيَال بَقينَ من شَوَّال سنة عشر من النُّبُوَّة وَهِي سنة خمسين من مولده لما ناله من قُرَيْش بعد موت أبي طَالب وَكَانَ مَعَه زيد بن حَارِثَة فَأَقَامَ شهرا يَدْعُو أَشْرَاف ثَقِيف إِلَى الله تَعَالَى فَلم يُجِيبُوهُ وَأغْروا بِهِ سفهاءهم وعبيدهم وصبيانهم يَسُبُّونَهُ قَالَ مُوسَى بن عقبَة وَرَجَمُوا عراقيبه بِالْحِجَارَةِ حَتَّى اختضب نعلاه بالدماء وَكَانَ إِذا أذلقته الْحِجَارَة قعد على الأَرْض فيقيمونه بعضديه فَإِذا مَشى رَجَمُوهُ وهم يَضْحَكُونَ وَزيد بن حَارِثَة يَقِيه بِنَفسِهِ حَتَّى لقد شج فِي رَأسه مرَارًا وَفِي البُخَارِيّ من حَدِيث عَائِشَة رضي الله عنها فَانْطَلَقت عَنْهُم وَأَنا مهموم على وَجْهي فَلم أستفق إِلَّا وَأَنا بقرن الثعالب فَرفعت رَأْسِي فَإِذا سَحَابَة قد أظلتني فَإِذا فِيهَا جِبْرِيل وَذَلِكَ بعد إِن دَعَا
فِي طَرِيقه بِالدُّعَاءِ الْمَشْهُور وَهُوَ اللَّهُمَّ إِلَيْك أَشْكُو ضعف قوتي وَقلة حيلتي وهواني على النَّاس أَنْت أرْحم الرَّاحِمِينَ وَأَنت رب الْمُسْتَضْعَفِينَ إِلَى من تَكِلنِي إِلَى بعيد يتجهمني أم إِلَى صديق قريب كلفته أَمْرِي إِن لم تكن غضباناً عَليّ فَلَا أُبَالِي غير أَن عافيتك أوسع لي أعوذ بِنور وَجهك الَّذِي أشرقت لَهُ الظُّلُمَات وَصلح عَلَيْهِ أَمر الدُّنْيَا وَالْآخِرَة أَن تنزل بِي غضبك أَو تحل بِي سخطك لَك العتبى حَتَّى ترْضى وَلَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بك أوردهُ ابْن إِسْحَاق وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ فِي كتاب الدُّعَاء فناداني فَقَالَ إِن الله قد سمع قَوْمك وَمَا ردوا عَلَيْك وَقد بعث إِلَيْك ملك الْجبَال لتأمره بِمَا شِئْت فَقَالَ ملك الْجبَال إِن شِئْت أَن أطبق عَلَيْهِم الأخشبين قَالَ النَّبِي
بل ارجوا إِن
يخرج الله من أصلابهم من يعبده وَلَا يُشْرك بِهِ شَيْئا وَلما بلغ عليه الصلاة والسلام خمسين سنة قدم عَلَيْهِ جن نَصِيبين وَلم يعلم بهم حَتَّى نزلت {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ} الْأَحْقَاف 29 فأسلموا وَكَانُوا سَبْعَة قيل وَكَانُوا يهوداً وَلذَا قَالُوا {أُنزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى} الْأَحْقَاف 30 وَفِي التِّرْمِذِيّ قَرَأَ عَلَيْهِم سُورَة الرَّحْمَن كلما قَرَأَ ( {فَبِأَي آلَاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} ) الرَّحْمَن 13 قَالُوا لَا بِشَيْء من نعماتك رَبنَا نكذب وَبعد إِحْدَى وَخمسين وَتِسْعَة أشهر أسرى بِهِ إِلَى بَيت الْمُقَدّس وشق وَغسل قلبه وملئ إِيمَانًا وَحِكْمَة وَهِي الْمرة الرَّابِعَة ثمَّ أَتَى بِالْبُرَاقِ فَرَكبهُ وعرج بِهِ إِلَى السَّمَاوَات السَّبع فَسلم على من بِهن من الْأَنْبِيَاء وَالْمَلَائِكَة حَتَّى بلغ سِدْرَة الْمُنْتَهى وَفرض عَلَيْهِ وعَلى أمته خَمْسُونَ صَلَاة فِي الْيَوْم وَاللَّيْلَة فَلم يزل يُرَاجع ربه فَيسْقط عَنهُ عشرا عشرا إِلَى الْخمس حَتَّى قَالَ تَعَالَى هن خمس وَهن خَمْسُونَ لَا يُبدل القَوْل لدي وَلما رَجَعَ أخبر قومه فَكَذبُوهُ إِلَّا من وَقَاه الله وارتد جمع بعد الْإِسْلَام وسألوه أَمارَة فَأخْبرهُم بقدوم العير يَوْم الْأَرْبَعَاء ثمَّ لم تقدم حَتَّى كَادَت الشَّمْس أَن تغرب فَدَعَا الله عز وجل فحبس لَهُ الشَّمْس حَتَّى قدمت كَمَا وصف وسألوه عَمَّا فِي الْمَسْجِد الْأَقْصَى فجلاه الله لَهُ فَصَارَ ينظر إِلَيْهِ ويجيبهم عَن كل مَا يسألونه عَنهُ وَوضع لَهُ جنب بَيت
عقيل أَو عقال وَكَانَ
يوافي الْمَوْسِم كل عَام ويبلغ الْحَاج فِي مَنَازِلهمْ وَفِي أسواقهم عكاظ ومجنة وَذي الْمجَاز أما ذُو الْمجَاز فَهُوَ سوق عِنْد عَرَفَة كَانَت الْعَرَب إِذا حجت أَقَامَت بسوق عكاظ شهر شَوَّال ثمَّ تنْتَقل عَنهُ إِلَى سوق مجنة فتقيم فِيهِ عشْرين يَوْمًا من ذِي الْقعدَة ثمَّ تنْتَقل إِلَى سوق ذِي الْمجَاز فتقيم بِهِ أَيَّام الْحَج وَكَانُوا فِي سوق عكاظ يتفاخرون ويتناشدون الْأَشْعَار المشعرة بفخر كل قَبيلَة يُقَال عكظ الرجل صَاحبه إِذا فاخره وغلبه بالمفاخرة فَسمى عكاظ بذلك لذَلِك وعكاظ هُوَ الْمُسَمّى الْآن بِأَرْض نَخْلَة وَيُسمى بالمضيق وَبِه الْآن عُيُون ونخيل ورزوع ومساكن كَذَا ذكره السُّهيْلي رحمه الله وَأما سوق مجنة فَهُوَ بِأَسْفَل مَكَّة على بريد مِنْهَا فَلم يجد من ينصره حَتَّى جَاءَت الْأَنْصَار هم الْأَوْس والخزرج فَأسلم مِنْهُم سِتَّة نفر كَمَا هُوَ الْمَشْهُور وَقيل اثْنَان كَمَا ذكره الشَّمْس الْبرمَاوِيّ كَمَا سَيَأْتِي بَيَانه فِي الْبَاب الثَّانِي من الْمَقْصد الثَّانِي على الْأَثر ثمَّ أذن الله لنَبيه بِالْهِجْرَةِ إِلَى الْمَدِينَة الشَّرِيفَة قَالَه ابْن عَبَّاس بقوله تَعَالَى {وَقُل رَّبّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} الْآيَة الْإِسْرَاء 80 أخرجه التِّرْمِذِيّ وَصَححهُ الْحَاكِم