المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌ فتنة النظر

النظرات كانت كالمياه تسقي بها الشجرة، فلا تزال تنمى فيفسد القلب ويعرض عن الفكر فيما أمر به ويخرج بصاحبه إلى المحن ويوجب ارتكاب المحظورات ويلقى في التلف، والسبب في هذا الهلاك: أن الناظر أول نظرة التذ بها فكررها يطلب الالتذاذ بالنظر مستهينًا بذلك فأعقبه ما استهان به التلف، ولو أنه غض عند أول نظرة لسلم في باقي عمره (1).

أخي الحبيب:

إن‌

‌ فتنة النظر

إلى ما حرم الله أصل كل فتنة، ومنجم كل شهوة فالنظر هو رائد الشهوة ورسولها، وحفظه أصل حفظ الفرج فمن أطلق نظره أورد نفسه موارد الهلاك، وقد جعل الله سبحانه وتعالى العين مرآة القلب فإذا غض العبد بصره غض القلب شهوته وإرادته وإذا أطلق بصره أطلق القلب شهوته.

لذلك لما أمر الله عز وجل في سورة النور بحفظ الفرج قدم الأمر بغض البصر لأنه هو بريد الزنى وبابه حيث قال عز وجل: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور: 30، 31].

فمن سرح ناضرة أتعب خاطره، من كثرت نظراته ضاعت أوقاته ودامت حسراته، فيا من يريد السلامة، ويطلب الخلاص،

(1) ذم الهوى (82).

ص: 8

غض من بصرك، وأقصر عن محارم الله طرفك، ولا تقلل من شأن النظر وتستصغره فإن كل الحوادث مبدؤها من النظر، كما أن معظم النار مبدؤها من مستصغر الشرر، تكون نظرة، ثم خطرة، ثم خطوة، ثم خطيئة.

أخي المسلم:

إن الذي أجمعت عليه الأمة واتفق على تحريمه علماء السلف والخلف من الفقهاء والأئمة هو نظر الأجانب من الرجال والنساء بعضهم إلى بعض، وهم من ليس بينهم رحم من النسب، ولا محرم من سبب، كالرضاع وغيره، فهؤلاء حرام نظر بعضهم إلى بعض، وهم كل من حرم الشرع تزويج بعض منهم ببعض على التأبيد، فالنظر والخلوة محرم على هؤلاء عند كافة المسلمين، لا يباح بدعوى زهد وصلاح، ولا توهم عدم آفة ترفع عنهم الجناح، إلا في أحوال نادرة من ضرورة أو حاجة، فما سوى ذلك محرم، سواء كان عن شهوة، أو عن غيرها، وكذلك لا يجوز النظر إلى الأمرد (1). بشهوة وغيرها من غير حاجة كل ذلك لخوف الفتنة والوقوع في الهلكة.

ففي غض البصر: زكاة وطهارة لقلوب المؤمنين، وحفظ لفروجهم وقد قدم الله سبحانه الأمر بغض البصر على الأمر بحفظ الفرج، لأن مبدأ المعاصي من النظر، وهو بريد الزنا، والنظرة تفعل

(1) الأمرد: الشاب طر شاربه ولم تنبت لحيته.

ص: 9

في القلب ما يفعل السهم في الرمية، فإن لم تقتله جرحته، وهي بمنزلة الشرارة من النار ترمى في الحشيش اليابس، فإن لم تحرقه كله، أحرقت بعضه، كما قيل:

كل الحوادث مبدؤها من النظر

ومعظم النار من مستصغر الشرر

كم نظرة فتكت في قلب صاحبها

فتك السهام بلا قوس ولا وتر

والمرء ما دام ذا عين يقلبها

في أعين الغيد موقوف على خطر

يسر مقلته ما ضر مهجته

لا مرحبا بسرور عاد بالضرر (1)

والله سبحانه مطلع على أعمالنا سرها وعلانيتها ألا ترى أنه سبحانه وتعالى عقب على الأمر بغض البصر وحفظ الفرج بقوله: {إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} وهو سبحانه: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (2).

عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رأيت شيئا أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة: فزنا العين النظر، وزنا اللسان النطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك كله ويكذبه" متفق عليه.

قال الشنقيطي رحمه الله: محل الشاهد منه قوله صلى الله عليه وسلم "فزنا العين النظر" فإطلاق اسم الزنا على نظر العين إلى ما لا يحل دليل واضح على تحريمه والتحذير منه.

(1) الجواب الكافي (224).

(2)

أحكام النظر لابن القيم (9).

ص: 10

ومعلوم أن النظر سبب الزنا، فإن من أكثر من النظر إلى جمال امرأة مثلا قد يتمكن بسببه حبها من قلبه تمكنا يكون سبب هلاكه والعياذ بالله، فالنظر بريد الزنا (1).

قال البخاري: قال سعيد بن أبي الحسن للحسن: إن نساء العجم يكشفن صدورهن ورءوسهن قال: اصرف بصرك عنهن يقول الله عزوجل {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} قال قتادة: عما لا يحل لهم {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} .

يقول الشنقيطي في تلك الآيات: وبه تعلم أن قوله تعالى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} فيه الوعيد بمن يخون بعينه بالنظر إلى ما لا يحل له، وهذا الذي دلت عليه الآيتان من الزجر عن النظر إلى ما لا يحل جاء موضحًا في أحاديث كثيرة (2).

قال أطباء القلوب: بين العين والقلب منفذ وطريق فإذا خربت العين وفسدت خرب القلب وفسد وصار كالمزبلة التي هي محل النجاسات والقاذورات والأوساخ، فلا يصلح لسكن معرفة الله ومحبته والإنابة إليه والأنس به، والسرور بقربه، وإنما يسكن فيه أضداد ذلك (3).

(1) أضواء البيان (6/ 91)

(2)

أضواء البيان (6/ 919).

(3)

تزكية النفوس (38).

ص: 11

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أردف الفضل بن عباس خلفه في الحج، فجاءت جارية من خثعم تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلوى النبي صلى الله عليه وسلم عنق الفضل لئلا ينظر إليها، فقال له عمه العباس: لم لويت عنق ابن عمك يا رسول الله، فقال عليه السلام:"رأيت شابًا وشابة، فلم آمن الشيطان عليهما"(1) يعني: أن يشغل قلب أحدهما بصاحبه إذا نظر إليه.

فانظر كيف فعل بابن عمه وهو في حضرته متلبس بأسباب حجه، ولم يأمن الطباع من الفتنة، والشيطان من الوسوسة والمحنة.

وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال يومًا لعلي بن أبي طالب: "يا علي، إن لك كنزًا في الجنة، فلا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة"(2) يعني أن النظرة الأولى نظرة الفجأة من غير قصد يمنح لك عفو بلا إثم، وليست لك الثانية إذا اتبعتها نظرة تمتع.

هذا خطابه لعلي رضي الله عنه، مع علمه بكمال زهده وورعه، وعفة باطنه وصيانة ظاهره يحذره من النظر، ويؤمنه من الخطر لئلا يدعي الأمن كل بطال، ويغتر بالعصمة والأمن من الفتنة {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 99].

وعن جرير بن عبد الله البجلي، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم

(1) رواه الترمذي.

(2)

رواه أحمد وابن حبان. تقدم تخريجه دون قوله: إن لك كنزا في الجنة فالله أعلم.

ص: 12

عن نظر الفجأة، فقال لي:"اصرف بصرك"(1) يعني: عن النظر الثاني، لأنك لا تأمن فيه الشهوة والفتنة.

ولا شك أن حفظ البصر أشد من حفظ اللسان، فإن العين مبدأ الزنا فحفظها مهم، وهو عسر من حيث إنه قد يستهان به ولا يعظم الخوف منه والآفات كلها منه تنشأ.

والنظرة الأولى إذا لم تقصد لا يؤاخذ بها والمعاودة يؤاخذ بها.

قال مجاهد: إذا أقبلت المرأة جلس الشيطان على رأسها فزينها لمن ينظر وإذا أدبرت جلس على عجزها فزينها لمن ينظر (2).

قال العلاء بن زياد: لا تتبع بصرك رداء المرأة فإن النظر يزرع في القلب شهوة، وقلما يخلو الإنسان في ترداده عن وقوع البصر على النساء والصبيان فمهما تخايل إليه الحسن تقاضى الطبع المعاودة وعنده ينبغي أن يقرر في نفسه أن هذه المعاودة عين الجهل فإنه إن حقق النظر فاستحسن ثارت الشهوة وعجز عن الوصول فلا يحصل له إلا التحسر، وإن استقبح لم يلتذ لأنه قصد الالتذاذ فقد فعل ما آلمه، فلا يخلو في كلتا حالتيه، عن معصية وعن تألم وعن تحسر، ومهما حفظ العين بهذا الطريق اندفع عن قلبه كثير من الآفات، فإن أخطأت عينه وحفظ الفرج مع التمكن فذلك يستدعي غاية القوة ونهاية التوفيق (3).

(1) رواه مسلم.

(2)

الجامع لأحكام القرآن (12/ 227).

(3)

الإحياء (3/ 114).

ص: 13

وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم، إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" وهذا الحديث في اقتران الزنى بالكفر وقتل النفس نظير الآية التي في الفرقان، ونظير حديث ابن مسعود.

فقد بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأكثر وقوعًا والذي يليه، فالزنا أكثر وقوعًا من الردة، وأيضا فإنه انتقل من الأكبر إلى ما هو أكبر منه، ومفسدة الزنى مناقضة لصلاح العالم، فإن المرأة إذا زنت أدخلت العار على أهلها وزوجها وأقاربها، ونكست رءوسهم بين الناس وإن حملت من الزنى، فإن قتلت ولدها جمعت بين الزنى والقتل، وإن حملته على الزوج أدخلت على أهله وأهلها أجنبيا ليس منهم، فورثهم وليس منهم، ورآهم وخلا بهم وانتسب إليهم وليس منهم، إلى غير ذلك من مفاسد زناها، وأما زنى الرجل فإنه يوجب اختلاط الأنساب أيضا، وإفساد المرأة المصونة، وتعريضها للتلف والفساد، وفي هذه الكبيرة خراب الدنيا والدين، وإن عمرت القبور في البرزخ والنار في الآخرة، فكم في الزنى من استحلال لحرمات، وفوات حقوق، ووقوع مظالم.

ومن خاصيته: أنه يوجب الفقر، ويقصر العمر، ويكسو صاحبه سواد الوجه وثوب المقت بين الناس.

ومن خاصيته أيضًا: أنه يشتت القلب ويمرضه إن لم يمته ويجلب الهم والحزن والخوف، ويباعد صاحبه من الملك ويقربه من الشيطان، فليس بعد مفسدة القتل أعظم من مفسدته، ولهذا شرع

ص: 14

فيه القتل على أشنع الوجوه وأفحشها وأصعبها، ولو بلغ العبد أن امرأته أو حرمته قتلت كان أسهل عليه من أن يبلغه أنها زنت.

قال سعد بن عبادة رضي الله عنه: "لو رأيت رجلاً مع امرأتي لضربته بالسيف غير مصفح"(1) فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "تعجبون من غيرة سعد؟ والله لأنا أغير منه، والله أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن"(2)

متفق عليه.

أخي المسلم:

خل الذنوب صغيرها

وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماش فوق أر

ض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة

إن الجبال من الحصى

قال محمد بن عبد العزيز: جلسنا إلى أحمد بن رزين من غدوة إلى العصر فما التفت يمنة ولا يسرة، فقيل له في ذلك فقال: إن الله عز وجل خلق العينين لينظر بهما العبد إلى عظمة الله تعالى، فكل من نظر بغير اعتبار كتبت له خطيئة.

الله أكبر .. أين من يطلق بصره ليل نهار؟ بل أين هذا الذي يقصد الأسواق وغيرها للنظر في ما لا يحل له؟ بل أين من يبقى ساعات طوال ليشاهد القنوات والمحطات؟ الرجل ينظر إلى النساء

(1) بضم الميم وفتح الفاء، يقال: أصفحه بالسيف، أي ضربه بعرضه دون حده.

(2)

الجواب الكافي (147).

ص: 15

والمرأة تنظر إلى الرجال .. أين غض البصر وحفظه عن تلك المحرمات؟

قال سعيد بن المسيب: ما يئس الشيطان من شيء إلا أتاه من قبل النساء.

وقال سعيد وهو ابن أربع وثمانين سنة وقد ذهبت إحدى عينيه وهو يعثو بالأخرى: وما من شيء أخوف عندي من النساء (1).

أخي: اختلت الموازين واختلفت المعايير، وإلا فأين من يطلق بصره من قول عمرو بن مرة؟ نظرت إلى امرأة فأعجبتني فكف بصري، فأرجو أن يكون ذلك كفارة.

وانظر إلى ما يتواصون به ويحرصون عليه، ونحن أحق به وأولى خاصة في هذا الزمن الذي انتشرت فيه الفتن وعمت به المحن.

قال وكيع: خرجنا مع سفيان الثوري في يوم عيد، فقال: إن أول ما نبدأ به في يومنا غض أبصارنا (2).

قال سفيان الثوري: عليك بالمراقبة لمن لا تخفى عليه خافية، وعليك بالرجاء ممن يملك الوفاء، وعليك بالحذر ممن يملك العقوبة.

أين أنت أيها المسلم من الثواب العظيم إذا صرفت بصرك وأطعت ربك، ألا فأبشر بوعد من لا يخلف الوعد.

(1) صفة الصفوة (2/ 80)، السير (2374).

(2)

الورع لابن أبي الدنيا (63).

ص: 16

{وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات: 40، 41].

أخي الحبيب: أين نحن من هؤلاء؟

قال ابن سيرين: إني أرى المرأة في المنام فأعرف أنها لا تحل لي فأصرف بصري عنها.

الله أكبر

في المنام ويصرف بصره .. لأنه يعلم أنها لا تحل له، ومن صرف بصره في النهار لم يرض بغير ذلك في المنام ..

وأما من زلت به العين فماذا يرى كفارة ذلك .. أهي المعاودة وتكرار النظر أم التوبة إلى الله.

قال عمرو بن مرة: ما أحب أني بصير أني أذكر أني نظرت نظرة وأنا شاب (1).

وحين خرج حسان بن أبي سنان يوم العيد فلما رجع قالت له امرأته: كم من امرأة حسنة قد نظرت اليوم إليها؟ فلما أكثرت عليه، قال: ويحك، ما نظرت إلا في إبهامي منذ خرجت حتى رجعت إليك (2).

أيها الحبيب:

أعجب الأشياء اغترار الإنسان بالسلامة، وتأميله الإصلاح فيما بعد وليس لهذا الأمل منتهى، ولا للاغترار حد فكلما أصبح

(1) صفة الصفوة (3/ 106).

(2)

الورع لابن أبي الدنيا (64).

ص: 17

وأمسى معافى زاد الاغترار وطال الأمل.

وأي موعظة أبلغ من أن ترى ديار الأقران وأحوال الإخوان وقبور المحبوبين فتعلم أنك بعهد أيام مثلهم، ثم لا يقع انتباه ينتبه الغير بك، هذا والله شأن الحمقى (1).

لقلبك يوما اتعبتك المناظر

وكنت متى أرسلت طرفك رائدا

ولا عن بعضه أنت صابر

رأيت الذي لا كله أنت قادر عليه

قال أبو الدرداء: يا بني لا تتبع بصرك كلما ترى في الناس فإنه من يتبع بصره كلما يرى في الناس يطل تحزنه ولا يشف غيظه ومن لا يعرف نعمة الله إلا في مطعمة أو مشربة فقد قل علمه وحضر عذابه ومن لا يكن غنيًّا من الدنيا فلا دنيا له (2).

أيها الحبيب:

اعلم أن شهوة الفرج والعين هي أغلب الشهوات على الإنسان وأعصاها عند الهيجان على العقل، إلا أن مقتضاها قبيح يستحيا منه ويخشى من اقتحامه، وامتناع أكثر الناس عن مقتضاها إما لعجز أو لخوف أو لحياء أو لمحافظة على جسمه، وليس في شيء من ذلك ثواب فإنه إيثار حظ من حظوظ النفس على حظ آخر: نعم من العصمة أن لا يقدر ففي هذه العوائق فائدة وهي دفع الإثم، فإن من ترك الزنا اندفع عنه إثمه بأي سبب كان تركه، وإنما الفضل

(1) صيد الخاطر (427).

(2)

الزهد: (196).

ص: 18

والثواب الجزيل في تركه خوفا من الله تعالى مع القدرة وارتفاع الموانع وتيسر الأسباب.

وزنا العين من كبائر الصغائر وهو يؤدي إلى القرب على الكبيرة الفاحشة وهي زنا الفرج .. ومن لم يقدر على غض بصره لم يقدر على حفظ فرجه.

قال عيسى عليه السلام: إياكم والنظرة فإنها تزرع في القلب شهوة وكفى بها فتنة.

قال داود عليه السلام: يا بني امش خلف الأسد والأسود ولا تمش خلف المرأة.

وقيل ليحيى عليه السلام: ما بدء الزنا؟ قال: النظر والتمني وقال الفضيل: يقول إبليس هو قوسي القديمة وسهمي الذي لا أخطئ به يعني النظر (1).

وقال بعض الحكماء: كل يجري من عمره إلى غاية تنتهي إليها مدة أجله وتنطوي عليها صحيفة عمله، فنخذ من نفسك لنفسك وقس يومك بأمسك، وكف عن سيئاتك وزد في حسناتك قبل أن تستوفي الأجل، وتقصر عن الزيادة في السعي والعمل (2).

هذه نصائح غالية ودرر ثمينة ممن يعرفون عظم الذنب وقدر من يطلع على السرائر فيخافون ربهم ويخشونه.

(1) الإحياء (3/ 112).

(2)

العاقبة: (88).

ص: 19

قال يحيى بن معاذ: ألا إن العاقل المصيب من عمل ثلاثا: ترك الدنيا قبل أن تتركه وبنى قبره قبل أن يدخله، وأرضى ربه قبل أن يلقاه (1).

أيها الشاب:

إن إطلاق البصر فيما لا يحل ذنب قد يؤدي بك إلى المهالك وقد ترى أثره في الدنيا قبل الآخرة كما قال حماد بن زيد رضي الله عنه: إذا أذنب العبد بالليل أصبح ومذلته في وجهه (2).

يا راقدًا الليل مسرورًا بأوله

إن الحوادث قد يطرقن أسحارا

أفنى القرون التي كانت مسلطة

مر الجديدين إقبالاً وإدبارا

يا من يكابد دنيا لا مقام بها

يمسي ويصبح في دنياه سيارا

كم قد أبادت صروف الدهر من

ملك قد كان في الأرض نفاعا

وفضول النظر يدعو إلى الاستحسان، ووقوع صورة المنظور في قلب الناظر؛ فيحدث أنواعا من الفساد في قلب العبد.

منها: ما ذكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في المسند: "والنظرة سهم من سهام إبليس؛ فمن غض بصره لله أورثه حلاوة يجدها في قلبه إلى يوم يلقاه"(3).

منها: دخول الشيطان مع النظرة، فإنه ينفذ معها أسرع من نفوذ الهواء في المكان الخالي، ليزين صورة المنظور، ويجعلها صنما

(1) صفة الصفوة (4/ 94).

(2)

تقدم تخريجه.

(3)

الزهر الفائح (95).

ص: 20

يعكف عليه القلب، ثم يعده ويمنيه ويوقد على القلب نار الشهوات ويلقي حطب المعاصي التي لم يكن يتوصل إليها بدون تلك الصورة.

منها: أنه يشغل القلب، وينسيه مصالحه، ويحول بينه، وبينها؛ فيفرط عليه أمره، ويقع في اتباع الهوى والغفلة، قال تعالى:{وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} (1)[الكهف: 28].

قال: داود الطائي: كانوا يكرهون فضول النظر (2).

والنظر أصل عامة الحوادث التي تصيب الإنسان فإن النظرة تولد الخطرة ثم تولد الخطرة فكره، ثم تولد شهوة، ثم تولد الشهوة إرادة، ثم تقوى فتصير عزيمة حازمة فيقع الفعل ولا بد ما لم يمنع مانع، وفي هذا قيل الصبر على غض البصر أيسر من الصبر على ألم ما بعده.

قيل: إن حسان بن ثابت رضي الله عنه خرج يوم عيد، فصلى ثم عاد إلى زوجته فقالت له: يا حسان كم رأيت من وجه مليح؟ فقال: والله ما رفعت طرفي ولا علمت ما كان من الناس ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من نظر إلى ما لا يحل له حرم الله عليه النظر إلى وجهه وألقاه في النار"(3).

(1) تزكية النفوس (37).

(2)

الورع لابن أبي الدنيا 62.

(3)

صفة الصفوة (3/ 337).

ص: 21

وهذه الدنيا مزرعة الآخرة ودار عمل وتعب ونصب فإن أحسن العبد فيها فهنيئا له وإن قصر وفرط ندم في يوم تشخص فيه الأبصار.

قال أحمد تنهدت عند أبي سليمان الداراني يوما فقال: إنك مسئول عنها يوم القيامة فإن كانت على ذنب سلف فطوبى لك وإن كانت على فوت دنيا أو شهوة فويل لك (1).

قال الثوري: يسألون والله عن كل شيء حتى التبسم فيم تبسمت يوم كذا وكذا، فذلك قوله:{يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} .

أخي الحبيب:

إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل

خلوت ولكن قل علي رقيب

ولا تحسبن الله يغفل ساعة

ولا أن ما تخفيه عنه يغيب

ألم تر أن اليوم أسرع ذاهب

وأن غدا للناظرين قريب

قال الله عز وجل في كتابه العزيز: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ} [الحشر: 16].

قال علماء التفسير: كان هذا الإنسان المذكور عابدًا في صومعة له، مشهورًا بالعبادة، ومشهورًا بالزهادة يستشفى بدعائه المرضى، وإذا عرض بأحد مرض أو جنون حمل إلى صومعته ليدعو له ليبرأ فمرضت ابنة بعض كبراء البلدة. ذات جمال فجاءوا بها

(1) المنتخب (20).

ص: 22

ومضوا، فلما خلا بها نظر إليها فأعجبته، فواقعها فعلقت (حملت) منه، فجاءه الشيطان الذي أغراه حتى نظر إليها، وأمنه الفتنة حتى خلا بها، فقال له: اقتلها وادفنها في جانب الصومعة، فإذا جاءوا يطلبونها تقول: ماتت فيقبلوا قولك لموضعك عندهم، وإلا أتوا فرأوها حبلى منك، فتفضح وربما قتلوك، فقبل منه وقتلها ودفنها، فلما جاء أهلها أخبرهم بموتها، وأنه دفنها فصدقوا قوله ومضوا.

فمضى الشيطان إلى إخوتها وأخبرهم بخبر العابد وفعله بأختهم وقتله لها، وقال: علامة ذلك دفنها في الموضع الفلاني من صومعته فجاءوا إلى العابد، ودخلوا الصومعة ونبشوا الموضع، فوجدوا ابنتهم فأخذوا العابد ليصلبوه فلما رقي به الخشبة ليصلب أتاه الشيطان فقال له: أعلمت أني فعلت بك هذا كله وأنا أقدر أن أخلصك مما أنت فيه؟ فقال: افعل، قال: بشرط أن تسجد لي سجدة واحدة، أخلصك فسجد له فكفر بها وصلب، فولى الشيطان عنه يقول: إني بريء منك. فاغتر أولاً بعبادته واغتر آخرًا بعدة عدوه، فهكذا العبادة بالجهل، يخيل لصاحبها الأمن، وكان سبب هلاك هذا العابد نظرة أصابه فيها سهم من الشيطان، فلا ينبغي للعاقل أن يغتر بالعبادة، وقبول العام، ولا يأمن من فتنة النظر على مر الأيام.

ولعظم الأمر المترتب على النظر وما يقود إليه من فساد وربما الوقوع في فاحشة الزنا فقد حرمه الله سبحانه ورحمة بعباده لئلا يقعوا في تلك الجريمة الشنعاء تلك الجريمة التي خص الله حد فاعلها بخصائص قال ابن القيم رحمه الله: خص سبحانه حد الزنا من بين

ص: 23

الحدود بثلاث خصائص:

أحدهما: القتل فيه بأشنع القتلات، وحيث خففه جمع فيه بين العقوبة على البدن بالجلد وعلى القلب بتغريبه عن وطنه سنة.

الثاني: أنه نهى عباده أن تأخذهم بالزناة رأفة في دينه بحيث تمنعهم من إقامة الحد عليهم، فإنه سبحانه من رأفته ورحمته بهم شرع هذه العقوبة فهو أرحم بهم، ولم تمنعه رحمته من أمره بهذه العقوبة فلا يمنعكم أنت ما يقوم بقلوبكم من الرأفة من إقامة أمره.

وهذا وإن كان عاما في سائر الحدود، ولكن ذكر في حد الزنا خاصة لشدة الحاجة إلى ذكره، فإن الناس لا يجدون في قلوبهم من الغلظة والقسوة على الزاني ما يجدونه على السارق والقاذف وشارب الخمر، فقلوبهم ترحم الزاني أكثر مما ترحم غيره من أرباب الجرائم، والواقع شاهد بذلك، فنهوا أن تأخذهم هذه الرأفة وتحملهم على تعطيل حد الله.

وسبب هذه الرحمة: أن هذا ذنب يقع من الأشراف والأوساط والأراذل، وفي النفوس أقوى الدواعي إليه، والمشارك فيه كثير، وأكثر أسبابه العشق والقلوب مجبولة على رحمة العاشق، وكثير من الناس يعد مساعدته طاعة وقربة، وإن كانت الصورة المعشوقة محرمة عليه.

وأيضا فإن هذا ذنب غالبا ما يقع مع التراضي من الجانبين، ولا يقع فيه من العدوان والظلم والاغتصاب ما تنفر النفوس منه،

ص: 24