المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌يا معشر الشباب

وسكران العشق قلما يفيق إلا وهو في عسكر الأموات.

وفوائد غض البصر وآفات إرساله أضعاف أضعاف ما ذكرنا وإنما نبهنا عليه تنبيهًا (1).

أيها الشاب:

إن مما يعين على غض البصر المسارعة إلى الزواج قال صلى الله عليه وسلم حاثًا على ذلك: "‌

‌يا معشر الشباب

، من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر واحفظ للفرج" (2).

وقال عمر رضي الله عنه: لا يمنع من النكاح إلا عجز أو فجور (3).

وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقول: لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام لأحببت أن أتزوج لكيلا ألقى الله عزبًا (4).

واختار أحمد بن حنبل عوراء على أختها وكانت أختها جميلة فسأل من أعقلهما؟ فقيل العوراء، فقال: زوجوني إياها (5).

وتأمل في نظرتهم العلوية في اختيار الزوجة وأن هذه الدار دار عمل وجد. إنها أنفس سمت عن هذه الدنيا وفتنتها وتطلعت إلى جنة عرضها السموات والأرض.

(1) أحكام النظر 17.

(2)

رواه البخاري ومسلم

(3)

الإحياء (2/ 26).

(4)

الإحياء: (2/ 26).

(5)

الإحياء (2/ 44).

ص: 36

قال: شميط بن عجلان: رحم الله رجلاً تبلغ بامرأة وإن كانت نصفًا، وكان في وجهها رداءة، أن كان موقنًا بنساء أهل الجنة (1).

قال ابن طاوس: قلت لأبي: أريد أن أتزوج فلانة قال: اذهب فانظر إليها قال: فذهبت فلبست من صالح ثيابي وغسلت رأسي وادهنت، فلما رآني في تلك الهيئة قال: اقعد لا تذهب.

وما ذاك إلا لأنه تجاوز الحد الذي يخشى والده عليه وعليها أيضا.

كان مالك بن دينار: رحمه الله يقول: يترك أحدكم أن يتزوج يتيمة فيؤجر فيها إن أطعمها وكساها تكون خفيفة المؤنة ترضى باليسير، ويتزوج بنت فلان وفلان يعني أبناء الدنيا، فتشتهي عليه الشهوات وتقول اكسني كذا وكذا (2).

تلك هي نظرتهم للزواج الإسلامي أنه مودة ورحمة وسكن وراحة وهو قبل ذلك من أنواع العبادة التي يحبها الله ورسوله، فيها إعفاف مسلمة وحسن معاشرة وإنفاق وصدقة وصلة رحم وذرية يعبدون الله ويوحدونه ويجاهدون لإعلاء دينه .. وفيها ما شاء الله من الخير والأجر

قال عبيد الله بن عبد الله بن طاهر:

(1) حلية الأولياء (3/ 131).

(2)

الإحياء: (2/ 44).

ص: 37

ثلاثة أصهار إذا حمد الصهر

لكل أبٍ بنت يراعي شئونها

فبعل يراعيها وخدر يكفها

وقبر يواريها وأفضلها القبر (1)

روي عن أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها أنها قالت: تزوجني الزبير وما له في الأرض من مال ولا مملوك ولا شيء غير فرسه وناضحه فكنت أعلف فرسه وأكفيه مؤنته وأسوسه وأدق النوى لناضحه وأعلفه وأستقي الماء وأخرز غربه وأعجن وكنت أنقل النوى على رأسي من ثلثي فرسخ حتى أرسل إلي أبو بكر بجارية فكفتني سياسة الفرس فكأنما أعتقني (2).

وقال أبو هاشم الزاهد: أخذ المرء نفسه بحسن الأدب تأديب أهله (3).

فإن من حسن خلقه وجمل أفعاله رأى ذلك في تصرفاته وأفعال أهله، وهل هو إلا صورة لمنزله ينعكس ضوءه فينير دروب الزوجة والأبناء؟

وفي حسن العشرة وكمال الخلق تسير مركبة الأسرة في بحور من نور كل منهم يشد الآخر ويدله على طريق الآخرة، يتجاوز عن زلله ويصفح عن خطئه.

قال عمرو بن العاص: لا أمل ثوبي ما وسعني، ولا أمل

(1) أدب الدنيا والدين (162).

(2)

القصة رواها البخاري فتح الباري (9/ 319).

(3)

صفة الصفة (2/ 306).

ص: 38

زوجتي ما أحسنت عشرتي ولا أمل دابتي ما حملتني، إن الملال من سيئ الأخلاق (1).

وهذه صورة مشرقة من صور صدر الإسلام .. تعيدك قرونا لترى حال الآباء والأجداد ممن صنعوا مجد هذه الأمة بإيمانهم وأعمالهم.

عن مالك بن دينار قال: لما أتى عمر رضي الله عنه الشام طاف بكورها (مدنها) قال: فنزل بحضرة حمص، فأمر أن يكتبوا لهم فقراءهم قال: فرفع إليه الكتاب فإذا فيه سعيد بن عامر بن حزيم أميرها، فقال من سعيد بن عامر؟ قالوا: أميرنا، قال: أميركم؟ قالوا: نعم، فعجب عمر ثم قال: كيف يكون أميركم فقيرًا، أين عطاؤه، أين رزقه؟ قالوا: يا أمير المؤمنين لا يمسك شيئًا، قال فبكى عمر، ثم عمد إلى ألف دينار فصرها، ثم بعث بها إليه وقال: أقرئوه مني السلام وقولوا بعث بهذه إليك أمير المؤمنين تستعين بها على حاجتك.

قال فجاء بها إليه الرسول فنظر فإذا هي دنانير، قال فجعل يسترجع، قال: تقول له امرأته: ما شأنك أمات أمير المؤمنين؟ قال: بل أعظم من ذلك، قالت فما شأنك قال: الدنيا أتتني الفتنة دخلت عليَّ، قالت: فاصنع فيها ما شئت، قال: عندك عون؟ قالت: نعم قال: فأخذ دريعة قميص المرأة فصر الدنانير فيها مرارا ثم جعلها في مخلاة ثم اعترض جيشا من جيوش المسلمين فأمضاها كلها، فقالت له امرأته: رحمك الله لو كنت حبست منها شيئًا نستعين به، قال:

(1) السير (3/ 57).

ص: 39

فقال لها إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى أهل الأرض لملأت بريح مسك (1) وإني والله ما كنت لأختارك عليهن، فسكتت:

خذي العفو مني تستديمي مودتي

ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

ولا تنقريني نفرك الدف مرة

فإنك لا تدرين كيف المغيب؟

ولا تكثري الشكوى فتذهب بالهوى

ويأباك قلبي والقلوب تقلب

فإن رأيت الحب في القلب والأذى

إذا اجتمعا لم يلبث الحب يذهب (2)

أيها الحبيب:

تعدد الزوجات أمر مندوب إليه لمن استطاع العدل فكيف حالهم رحمهم الله في هذا العدل؟ وكيف حفظوه وقاموا به؟ هذه صورة من ذلك العدل وتلك الصور المشرقة في حياتهم كما يفعل البعض من الظلم وقهر إحدى الزوجتين على حساب الأخرى.

كانت تحت معاذ بن جبل امرأتان، فإذا كان عند إحداهما لم يشرب من بيت الأخرى الماء (3)(4).

(1) رواه البزار من حديث سعيد بن عامر وأخرجه البخاري من حديث أنس بلفظ لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما ولملأت ما بينهما ريحًا أي طيبًا قاله الحافظ ابن حجر فتح الباري (11/ 418، 442).

(2)

مكاشفة القلوب (398).

(3)

وأعرف من يفعل مثل ذلك الآن.

(4)

حلية الأولياء (1/ 234).

ص: 40

وعندما وقع طاعون (عمواس)(1) توفيت زوجتاه في يوم واحد وكان الناس في شغل عن حفر قبر لكل إنسان لكثرة الموتى بسبب هذا الوباء، فدفنهما رضى الله عنه في قبر واحد، ولكنه من شدة عدله أسهم بين زوجتيه في أيتهما تقدم في اللحد أولاً:

أما احتمال أذى الزوجة والصبر عليها وعلى سوء خلقها فإنه من صلاح الحال والصبر على العيال .. فقد راجعت امرأة عمر رضي الله عنه في الكلام، فقال: أتراجعيني يا لكعاء فقالت: إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم يراجعنه وهو خير منك (2).

واعلم أيها الحبيب أنه ليسن حسن الخلق معها كف الأذى عنها بل احتمال الأذى منها والحلم عند طيشها وغضبها اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كانت أزواجه تراجعنه الكلام وتهجره الواحدة منهن يوما إلى الليل (3).

وعند نهاية العشرة الزوجية فإنه يبقى للمؤمنة حقها في الحفظ والصون ويبقى الفضل مذكورًا والخير منشورًا، أولئك الرجال الذين غشى قلوبهم الإيمان وزينهم بتعاليمه وأفاض عليهم من آدابه امتثالا لقول الله تعالى:{وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}

[البقرة: 237].

(1) كان بالشام في زمن عمر رضي الله عنه مات فيه خمسة وعشرون ألفا.

(2)

رواه البخاري.

(3)

مكاشفة القلوب: 393.

ص: 41

يروى عن بعض الصالحين أنه أراد طلاق امرأته فقيل له: ما الذي يريبك فيها؟ فقال: العاقل لا يهتك ستر امرأته، فلما طلقها قيل له: لم طلقتها؟ فقال: مالي ولامرأة غيري (1).

سبحان الله ما أعظم إيمانهم وما أصدق سرائرهم وما أحفظ ألسنتهم لو لحظت الأمر اليوم كيف حال النساء وسوء عشرتهن وإيذائهن وظلمهن قبل الطلاق وبعده. لرأيت اختلال الموازين ونقص المكاييل.

أخي الحبيب:

رأيت المعافى لا يعرف قدر العافية إلا في المرض، كما لا يعرف شكر الإطلاق إلا في الحبس.

وتأملت على الآدمي حالة عجيبة، وهو أن تكون معه امرأة لا بأس بها إلا أن قلبه لا يتعلق بمحبتها تعلقا يلتذ به. ولذلك سببان:

أحدهما: أن تكون غير غاية في الحسن.

والثاني: أن كل مملوك مكروه، والنفس تطلب ما لا تقدر عليه.

فتراه يضج ويشتهي شيئًا يحبه أو امرأة يعشقها، ولا يدري أنه إنما يطلب قيدًا وثيقًا يمنع القلب من التصرف في أمور الآخرة أو في أي علم أو عمل، ويخبطه في تصريف الدنيا، فيبقى ذلك العاشق أسير المعشوق، همه كله معه.

(1) الإحياء 2/ 64.

ص: 42

فالعجب لمطلق يؤثر القيد، ومستريح يؤثر التعب.

فإن كانت تلك المرأة تحتاج أن تحفظ فالويل له لا قرار له ولا سكون، وإن كانت من المتبرجات اللواتي لا يؤمن فسادهن فذاك هلاكه بمرة.

فلا هو إن نام يلتذ بنومه، ولا إن خرج من الدار يأمن محله، وإن كانت تريد نفقة واسعة وليس له فكم يدخل مدخل سوء لأجلها؟ وإن كانت تؤثر الجماع وقد علت سنة فذاك الهلاك العظيم، وإن كانت تبغضه فما بقيت من أسباب تلفه بقية، فيكون هذا ساعيًا في تلف نفسه.

وهذا على الحقيقة كعابد صنم.

فليتق الله من عنده امرأة لا بأس بها: وليعرض عن حديث النفس ومناها فما له منتهى.

ولو حصل له غرضه كما يريد وقع الملل وطلب ثالثة، ثم يقع الملل ويطلب رابعة، وما لهذا آخر، إنما يفيده ذلك في العاجلة تعلق قلبه وأسر لبه، فيبقى كالمبهوت.

فكره كله في تحصيل ما يريد محبوبه، فإن جرت فرقة أو آفة فتلك الحسرات الدائمة إن بقي أو التلف عاجلا.

وأين المستحسن المصون الدين القنوع بمن يحبه هذا أقل من الكبريت الأحمر.

فلينظر في تحصيل ما يجمع معظم الهم، ولا يلتفت إلى سواد

ص: 43

الهوى وغاية المنى، يسلم (1).

شكا رجل من بغضه لزوجته لابن الجوزي: فقال: ما أقدر على فراقها لأمور، منها كثرة دينها عليَّ وصبري قليل، ولا أكاد أسلم من فلتات لساني في الشكوى، وفي كلمات تعلم بغضي لها.

فقال له ابن الجوزي: هذا لا ينفع وإنما تؤتى البيوت من أبوابها، فينبغي أن تخلو بنفسك فتعلم أنها إنما سلطت عليك بذنوبك فتبالغ في الاعتذار والتوبة.

فأما التضجر والأذى لها فما ينفع كما قال الحسن عن الحجاج: عقوبة من الله لكم فلا تقابلوا عقوبته بالسيف قابلوها بالاستغفار.

واعلم أنك في مقام مبتلى ولك أجر بالصبر {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} فعامل الله سبحانه وتعالى بالصبر على ما قضى واسأله الفرج، فإذا جمعت بين الاستغفار وبين التوبة من الذنوب والصبر على القضاء وسؤال الفرج، حصلت ثلاثة فنون من العبادة تثاب على كل منها، ولا تضيع الزمان بشيء لا ينفع، ولا تحتل ظانا منك أنك تدفع ما قدر:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 17](2).

قال داود الطائي: ما أخرج الله عبدًا من ذل المعاصي إلى عز

(1) صيد الخاطر (498).

(2)

صيد الخاطر (498)

ص: 44