المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

الفصل: ‌ قبل الإسلام

أخي المسلم:

لقد كان العرب‌

‌ قبل الإسلام

يعدون غض الطرف أدبا عظيما بل ويتفاخرون به، ومن ذلك قول عنترة:

وأغض طرفي ما بدت لي جارتي

حتى تواري جارتي مأواها

كان هذا حالهم هم مشركون بالله تعالى يعدون ذلك أدبا رفيعا وخلقا عظيما، فكيف بنا نحن المسلمين وبأيدينا كتاب الله وسنة نبينا فيهما التحذير من الوقوع من شر النظر وإطلاق البصر فيما لا يحل.

فكم جرح النظر من قلب، وأوقع في غفلة وأشعل نار الفتنة ورب نظرة زرعت شهوة، وشهوة ساعة أورثت حزنا طويلا.

حق لمن غض طرفه، وقاوم شهوته أن يقول الشاعر فيه

ليس الشجاع الذي يحمي مطيته

يوم النزال ونار الحرب تشتعل

لكن فتى غض طرفًا أو ثنى بصرًا

عن الحرام فذاك الفارس البطل (1)

وانظر إلى أدب الاستئذان لدخول المنازل فإن فيه من الآداب البعد عن إطلاق النظر وعدم الوقوف أمام الباب مباشرة بل يتنحى يمنة ويسرة حتى لا يرى ما بداخل الدار من المحارم أو غيرها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الاستئذان من أجل البصر" متفق عليه. وأهدر العلماء عين من نظر في دار قوم بغير إذنهم، وقالوا لا قصاص فيها ولا دية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو أن امرءًا اطلع عليك بغير

(1) ذم الهوى (119).

ص: 50

إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه لم يكن عليك جناح" متفق عليه.

إنها آداب إسلامية رفيعة فيها من العفة وغض النظر الكثير قال ابن عمر: من تضييع الأمانة، النظر في الحجرات والدور (1).

روي عن بكر بن عبد الله المزني: أن قصابا أولع بجارية لبعض جيرانه فأرسلها أهلها في حاجة لهم إلى قرية أخرى فتبعها وراودها عن نفسها فقالت له: لا تفعل لأنا أشد حبا لك منك لي ولكني أخاف الله، قال: فأنت تخافينه وأنا لا أخافه، فرجع تائبًا فأصابه العطش حتى كاد يهلك فإذا برسول لبعض أنبياء بني إسرائيل فسأله فقال: ما لك؟ قال: العطش، قال: تعالى حتى ندعو الله بأن تظلنا سحابة حتى ندخل القرية، قال ما لي من عمل صالح فأدعو الله، فادع أنت، قال: أنا أدعو وأمن أنت على دعائي فدعا الرسول وأمن هو فأظلتهما سحابة حتى انتهيا إلى القرية، فأخذ القصاب إلى مكانه فمالت السحابة معه فقال له الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم: زعمت أن ليس لك عمل صالح، وأنا الذي دعوت وأنت الذي أمنت فأظلتنا سحابة ثم تبعتك، لتخبرني بأمرك فأخبره فقال الرسول، إن التائب عند الله تعالى بمكان ليس أحد من الناس بمكانه (2).

كان ابن السماك ينشد:

يا مدمن الذنب أما تستحي

والله في الخلوة ثانيكا

(1) الورع لابن أبي الدنيا (66).

(2)

الإحياء (3، / 114).

ص: 51

غرك من ربك إمهاله

وستره طول مساويكا

دخل بعضهم غيضة ذات شجر فقال: لو خلوت ههنا بمعصية من كان يراني؟ فسمع هاتفا بصوت ملأ الغيضة {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14](1).

أيها الحبيب:

كثير من الناس يتسامحون في أمور يظنونها قريبة، وهي تقدح في الأصول، كاستعارة طلاب العلم جزءًا لا يردونه وقصد الدخول على من يأكل ليؤكل معه، والتسامح بعرض العدو التذاذا بذلك واستصغارا لمثل هذا الذنب، وإطلاق البصر في المحرم استهانة بتلك الخطيئة.

وأهون ما يصنع ذلك بصاحبه أن يحطه من مرتبة المتميزين بين الناس، ومن مقام رفعة القدر عند الحق أو فتوى من لا يعلم لئلا يقال، هو جاهل ونحو ذلك مما يظنه صغيرًا وهو عظيم.

وربما قيل له بلسان الحال: يا من اؤتمن على أمر يسير فخان، كيف ترجو بتدليلك رضا الديان؟

قال بعض السلف: تسامحت بلقمة فتناولتها فأنا اليوم من أربعين سنة إلى خلف.

فالله الله، اسمعوا ممن قد جرب كونوا على مراقبة، وانظروا في العواقب، واعرفوا عظمة الناهي، واحذروا من نفخة تحتقر، وشررة

(1) جامع العلوم والحكم (161).

ص: 52

تستصغر فربما أحرقت بلدا.

وهذا الذي أشرت إليه يسير يدل على كثير، وأنموذج يعرف باقي المحقرات من الذنوب (1).

رأى محمد بن المنكدر رجلا وافقًا مع امرأة يكلمها فقال: إن الله يراكما سترنا الله وإياكما.

قال الحارث المحاسبي: المراقبة علم القلب بقرب الرب.

وسئل الجنيد بما يستعان على غض البصر، قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق إلى ما تنظره (2)

وذكر أبو الفرج وغيره أن امرأة جميلة كانت بمكة، وكان لها زوج فنظرت يومًا إلى وجهها في المرأة فقالت لزوجها، أترى أحدًا يرى هذا الوجه ولا يفتن به؟ قال: نعم، قالت: من؟ قال: عبيد بن عمير، قالت فأذن لي فيه فلأفتننه، قال قد أذنت لك.

قال: فأتته كالمستفتية فخلا معها في ناحية من المسجد الحرام فأسفرت عن وجه مثل فلقة القمر، فقال لها: يا أمة الله استتري، فقالت: إني قد فتنت بك، قال: إني سائلك عن شيء فإن أنت صدقتني نظرت في أمرك قالت: لا

تسألني عن شيء إلا صدقتك.

قال: أخبريني لو أن ملك الموت أتاك ليقبض روحك أكان

(1) صيد الخاطر (187).

(2)

جامع العلوم والحكم (161).

ص: 53

يسرك أن أقضي لك هذه الحاجة؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت.

قال: فلو دخلت قبرك وأجلست للمساءلة أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت.

قال: فلو أن الناس أعطوا كتبهم ولا تدرين أتأخذين كتابك بيمينك أم بشمالك أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت.

قال: فلو أردت الممر على الصراط ولا تدرين هل تنجين أو لا تنجين أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت.

قال: فلو جيء بالميزان وجيء بك فلا تدرين أيخف ميزانك أم يثقل أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت.

قال: فلو وقفت بين يدي الله للمساءلة أكان يسرك أني قضيتها لك؟ قالت: اللهم لا، قال: صدقت.

قال: اتقي الله فقد أنعم عليك وأحسن إليك، قال: فرجعت إلى زوجها فقال: ما صنعت؟ قالت: أنت بطال ونحن بطالون، فأقبلت على الصلاة والصوم والعبادة فكان زوجها يقول: ما لي ولعبيد بن عمير أفسد علي امرأتي، كانت في كل ليلة عروسا فصيرها راهبة (1).

وإذا كنت لا ترضى بأن يراك من تجله وتحترمه وأنت على

(1) روضة المحبين.

ص: 54

هذه المعصية فكيف ترضى بأن يراك خالقك ورازقك ومن بيده أمر هذا الكون وأنت على حال تغضبه جل وعلا؟ !

قال ابن عباس: يا صاحب الذنب لا تأمن من فتنة الذنب وسوء عاقبته، ولخوفك من الريح إذا حركت ستر بابك وأنت على الذنب، ولا يضطرب فؤادك من نظر الله إليك أعظم من الذنب.

والرجل هو من عمر قلبه بمراقبة الله عز وجل كما قال ابن الجوزي: والرجل والله من إذا خلا بما يحب من المحرم وقدر عليه وتقلقل عطشا إليه، نظر إلى نظر الحق إليه فاستحى من إجالة همه فيما يكرهه فذهب العطش (1).

قال أبو الجلد: أوحى الله تعالى إلى نبي من الأنبياء: قل لقومك ما بالكم تسترون الذنوب من خلقي وتظهرونها لي إن كنتم ترون أني لا أراكم فأنتم مشركون بي، وإن كنتم ترون أني أراكم فلم تجعلوني أهون الناظرين إليكم (2).

يا من يرى مد البعوض جناحها

في ظلمة الليل البهيم الأليل

ويرى نياط عروقها في مخها

والمخ في العظام النحل

اغفر لعبد تاب من زلاته

ما كان منه في الزمان الأول

قال أبو عياش القطان: كانت امرأة بالبصرة متعبدة يقال لها منيبة، وكانت لها ابنة أشد عبادة منها، فكان الحسن ربما رآها

(1) صيد الخاطر (137).

(2)

جامع العلوم الحكم (161).

ص: 55

وتعجب من عبادتها على حداثتها، فبينما الحسن ذات يوم جالس إذ أتاه آت فقال: أما علمت أن الجارية قد نزل بها الموت فوثب الحسن فدخل عليها فلما نظرت الجارية إليه بكت فقال لها: يا حبيبتي ما يبكيك؟ قالت له: يا أبا سعيد التراب يحثى على شبابي ولم أشبع من طاعة ربي، يا أبا سعيد انظر إلى والدتي وهي تقول لوالدي: احفر لابنتي قبرًا واسعًا وكفنها بكفن حسن، والله لو كنت أجهز إلى مكة لطال بكائي كيف وأنا أجهز إلى ظلمة القبور ووحشتها وبيت الظلمة والدود (1).

قالت عائشة بنت سعيد بن إسماعيل لابنتها: لا تفرحي بفانٍ، ولا تزعجي من ذاهب وافرحي بالله عز وجل، واجزعي من سقوطك من عين الله عز وجل (2).

وهذه قصة تروي النهاية السيئة لطريق الفساد والضياع، بل ربما يكون آخر كلامه من الدنيا الهذيان بمحبوبه نظرها وتعلق قلبه بها، وهي قصة معروفة مشهورة يردد صاحبها، كيف الطريق إلى حمام منجاب؟ !

وهذا الكلام له قصة، وذلك أن رجلا كان واقفا بإزاء داره، وكان بابها يشبه باب هذا الحمام فمرت به جارية لها منظر، فقالت: أين الطريق إلى حمام منجاب؟ فقال: هذا حمام منجاب، فدخلت

(1) صفة الصفوة (4/ 29).

(2)

صفة الصفوة (2/ 125).

ص: 56

الدار ودخل وراءها، فلما رأت نفسها في داره وعلمت أنه قد خدعها أظهرت له البشرى والفرح باجتماعها معه، وقالت له: يصلح أن يكون معنا ما يطيب به عيشنا وتقر به عيوننا، فقال لها: الساعة آتيك بكل ما تريدين وتشتهين، وخرج وذهبت ولم تخنه في شيء فهام الرجل وأكثر الذكر لها، وجعل يمشي في الطرق والأزفة ويقول:

يا رب قائلة يومًا، وقد تعبت

كيف الطريق إلى حمام منجاب؟ !

فبينما هو يومًا يقول ذلك وإذا بجارية أجابته من طاق:

هلا جعلت سريعًا إذ ظفرت بها

حرزا على الدار أو قفلا على الباب؟ !

فازداد هيمانه واشتد، ولم يزل على ذلك، حتى كان هذا البيت آخر كلامه من الدنيا.

ولقد بكى سفيان الثوري، ليلة إلى الصباح، فلما أصبح قيل له: كل هذا خوفًا من الذنوب؟ فأخذ تبنة من الأرض، وقال: الذنوب أهون من هذا، وإنما أبكي من خوف سوء الخاتمة.

وهذا من أعظم الفقه: أن يخاف الرجل أن تخذله ذنوبه عند الموت فتحول بينه وبين الخاتمة الحسنى.

وقد ذكر الإمام أحمد عن أبي الدرداء أنه لما احضتر جعل يغمى عليه ثم يفيق ويقرأ {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110].

فمن هذا خاف السلف من الذنوب أن يكون حجابًا بينهم

ص: 57

وبين الخاتمة الحسنى.

قال الحافظ أبو محمد عبد الحق الأشبيلي: واعلم أن سوء الخاتمة أعاذنا الله تعالى منها: لا تكون لمن استقام ظاهره وصلح باطنه، ما سمع بهذا ولا علم به ولله الحمد، وإنما تكون لمن له فساد في الأصل أو إصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم، فربما غلب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة، فيأخذه قبل إصلاح الطوية ويصطلم قبل الإنابة، فيظفر به الشيطان عند تلك الصدمة، ويختطفه عند تلك الدهشة والعياذ بالله.

أخي الحبيب:

إليك بعضًا من قصص أصحابها أردت بهم نظرة وذهبت بعقولهم لفتة فأصبحوا من الخاسرين يروى أنه كان بمصر رجل يلزم مسجدًا للأذان والصلاة وعليه بهاء الطاعة وأنوار العبادة فرقى يوما المنارة على عادته للأذان وكان تحت المنارة داره لنصراني فاطلع فيها فرأى ابنة صاحب الدار فافتتن بها، فترك الأذان ونزل إليها ودخل الدار عليها، فقالت له: ما شأنك وما تريد؟ قال: أريدك: قالت: لماذا؟ قال: أتزوجك قالت: أنت مسلم وأنا نصرانية وأبي لا يزوجني منك: قال: أتنصر قالت: إن فعلت أفعل، فتنصر الرجل ليتزوجها، وأقام معهم في الدار، فلما كان في أثناء ذلك اليوم رقى إلى سطح كان في الدار فسقط منه فمات فلم يظفر بها وفاته دينه (1).

إنها النظرة الحرام التي ساقته إلى أن يترك ملة محمد صلى الله عليه وسلم ويتنصر

(1) الجواب الكافي (198).

ص: 58

لأجل امرأة رأها.

تفنى اللذاذة ممن ذاق صفوتها

من الحرام ويبقى الإثم والعار

تبقى عواقب سوء في مغبتها

لا خير في لذة من بعدها النار (1)

قال عبدة بن عبد الرحيم: خرجنا في سرية إلى أرض الروم فصحبنا شاب لم يكن فينا أقرأ للقرآن منه ولا أفقه ولا أفرض، صائم النهار قائم الليل، فمررنا بحصن فمال عنه العسكر ونزل بقرب الحصن فظننا أنه يبول فنظر إلى امرأة من النصارى تنظر من وراء الحصن فعشقها فقال لها بالرومية: كيف السبيل إليك؟ قالت: حين تتنصر يفتح لك الباب وأنا لك ففعل فأدخل الحصن، قال فقضينا غزاتنا في أشد ما يكون من الغم كأن كل رجل منا يرى ذلك بولده من صلبه، ثم عدنا في سرية أخرى فمررنا به ينظر من فوق الحصن مع النصارى فقلنا: يا فلان ما فعلت قراءتك؟ ما فعل علمك؟ ما فعلت صلواتك وصيامك؟ قال: اعلموا أني نسيت القرآن كله ما أذكر منه إلا هذه الآية: {رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ * ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 2، 3].

قال منصور بن عمار: حججت حجة فنزلت سكة من سكك الكوفة فخرجت في ليلة مظلمة، فإذا بصارخ يصرخ في جوف الليل وهو يقول: إلهي وعزتك وجلالك ما أردت بمعصيتي

(1) روضة المحبين (442).

ص: 59

مخالفتك، وقد عصيتك إذ عصيتك وما أنا بنكالك جاهل، ولكن خطيئة عرضت لي أعانني عليها شقائي وغرني سترك المرخي عليَّ، وقد عصيتك بجهدي وخالفتك بجهلي ولك الحجة علي، فالآن من عذابك من يستنقذني؟ وبحبل من اتصل إذا قطعت حبلك مني؟ واشباباه، واشباباه قال: فلما فرغ من قوله تلوت آية من كتاب الله: {نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} [التحريم: 6] الآية فسمعت حركة شديدة ثم لم أسمع بعدها حسًا فمضيت فلما كان من الغد رجعت في مدرجتي، إذا بجنازة قد وضعت، وإذا بعجوز كبيرة فسألتها عن أمر الميت، ولم تكن عرفتني فقالت: هذا رجل لا جزاه الله إلا جزاءه مر بابني البارحة وهو قائم يصلي، فتلا آية من كتاب الله فلما سمعها ابني تفطرت مرارته فوقع ميتًا (1).

والرغبة في الله وإرادة وجهه، والشوق إلى لقائه هي رأس مال العبد وملاك أمره وقوام حياته الطيبة، وأصل سعادته وفلاحه ونعيمه وقرة عينه، ولذلك خلق، وبه أمر، وبذلك أرسلت الرسل، وأنزلت الكتب (2).

ويروى أن رجلا علق شخصًا فاشتد كلفه به وتمكن حبه من قلبه حتى أوقع ولزم الفراش بسببه وتمنع ذلك الشخص عليه، واشتد

(1) كتاب التوابين (289).

(2)

روضة المحبين (405).

ص: 60

نفارة عنه، فلم تزل الوسائط يمشون بينهما حتى وعده بأن يعوده فأخبره بذلك الناس ففرح واشتد فرحه وانجلى غمه فجعل ينتظره للميعاد الذي ضرب له فيما هو كذلك إذ جاءه الساعي بينهما فقال: إنه وصل معي إلى بعض الطريق ورجع، ورغبت إليه وكلمته فقال، إنه ذكرني وفرح بي، ولا أدخل مدخل الريبة، ولا أعرض نفسي لمواقع التهم، فعاودته فأبى وانصرف فلما سمع البائس أسقط في يده، وعاد إلى أشد مما كان به وبدت عليه علائم الموت فجعل يقول في تلك الحال:

أسلم يا راحة العليل

ويا شفا المدنف النحيل

رضاك أشهى إلى فؤادي

من رحمة الخالق الجليل

فقلت يا فلان: اتق الله قال: قد كان فقمت عنه فما جاوزت باب داره حتى سمعت صيحة الموت، فعياذًا بالله من وسوء العاقبة وشؤم الخاتمة (1).

أيها الحبيب:

قال تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 25] فتأمل جلالة المبشر ومنزلته وصدقه وعظمة من أرسله إليك بهذه البشارة وقدر ما

(1) الجواب الكافي (199).

ص: 61

بشرك به وضمنه لك على أسهل شيء عليك وأيسره، وجمع سبحانه في هذه البشارة بين نعيم البدن بالجنات وما فيها من الأنهار والثمار ونعيم النفس بالأزواج المطهرة ونعيم القلب وقرة العين بمعرفة دوام هذا العيش أبد الآباد وعدم انقطاعه، والأزواج جمع زوج والمرأة زوج للرجل وهو زوجها.

والمطهرة من طهرت من الحيض والبول والنفاس والغائط والمخاط والبصاق وكل قذر وكل أذى يكون من نساء الدنيا فطهر مع ذلك باطنها من الأخلاق السيئة والصفات المذمومة وطهر لسانها من الفحش والبذاء وطهر طرفها من أن تطمح به إلى غير زوجها وطهرت أثوابها من أن يعرض لها دنس أو وسخ قال عبد الله ابن المبارك ثنا شعبة عن قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن

النبي صلى الله عليه وسلم "لهم فيها أزواج مطهرة" قال: من الحيض والغائط والنخامة والبصاق.

قال الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ الليْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114].

وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن رجلاً أصاب من امرأة قبلة ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت هذه الآية فدعاه فقرأها عليه فقال رجل: هذا له خاصة؟ قال: بل للناس عامة، وقد وصف الله المتقين في كتابه بمثل ما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم في

ص: 62

هذه الوصية (1) في قوله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} فوصف المتقين بمعاملة الخلق بالإحسان إليهم بالإنفاق وكظم الغيظ والعفو عنهم، فجمع بين وصفهم ببذل الندى واحتمال الأذى.

وهذا هو غاية حسن الخلق الذي وصى به النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ (2) ثم وصفهم بأنهم {إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} ولم يصروا عليها، فدل على أن المتقين قد يقع منهم أحيانا كبائر وهي الفواحش، وصغائر وهي ظلم النفس، لكنهم لا يصرون عليها بل يذكرون الله عقب وقوعها ويستغفرونه ويتوبون إليه منها، التوبة، هي ترك الإصرار، ومعنى قوله: ذكروا الله: ذكروا عظمته وشدة بطشه وانتقامه وما يوعد به على المعصية

(1) وهي ما جاء في الحديث اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحوها وخالق الناس بخلق حسن، رواه الترمذي وحسنه.

(2)

في الحديث السابق.

ص: 63

من العقاب، فيوجب ذلك لهم الرجوع في الحال والاستغفار وترك الإصرار، وقال الله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} .

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أذنب عبد ذنبًا فقال: رب إني عملت ذنبًا فاغفر لي فقال الله: علم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب قد غفرت لعبدي، ثم إذا أذنب ذنبًا آخر إلى أن قال في الرابعة فليعمل ما شاء" يعني ما دام على هذه الحال كلما أذنب ذنبًا استغفر منه (1).

أيها الحبيب .. متع نظرك بقراءة القرآن وأطلق بصرك ليرى عظمة صنع الخالق جل وعلا، ليكن ذلك في ميزان حسناتك، واغضض بصرك عما حرم الله تهنأ نفسك وتؤجر على فعلك وتجد حلاوة ذلك في قلبك.

جعلني الله وإياك ممن إذا زل ثاب وتاب وإذا أخطأ استغفر وعاد وغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين.

(1) جامع العلوم والحكم 163.

ص: 64