الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معالم المداراة
فيما يلي ذكر لبعض المعالم التي تميز المداراة عن المداهنة1.
1ـ المداراة صدقة وفضيلة، والمداهنة خطيئة ورذيلة.
2ـ المداراة ترجع إلى حسن اللقاء، وطيب الكلام، والتودد للناس، وتجنب ما يشعر بغضب أو سخط أو ملالة، كل ذلك من غير ثلم للدين في جهة من الجهات.
قال ابن بطال رحمه الله: "المداراة من أخلاق المؤمنين، وهي خفض الجناح للناس، وترك الإغلاظ لهم في القول، وذلك من أقوى أسباب الألفة"2.
3ـ من المداراة أن يلاقيك ذو لسان أو قلم عرف بنهش الأعراض، ولمز الأبرياء، فتطلق له جبينك، وتحييه في حفاوة؛ لعلك تحمي جانبك من قذفه، أو تجعل لدغاته خفيفة الوقع على عرضك.
نقرأ في الصحيح عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها أخبرته: "أنه استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال:
1 انظر: روضة العقلاء، ص 70ـ71، وانظر: فتح الباري10/544ـ545، وعين الأدب والسياسة، ص152ـ157، والدعوة للإصلاح لمحمد الخضر حسين، ص 50ـ52، و74، ورسائل الإصلاح1/131ـ138، و2/100، ففيه تفصيل جميل رائع.
2 فتح الباري10/545.
"ائذنوا له فبئس ابن العشيرة"، أو "بئس أخو العسيرة".
فلما دخل ألان له الكلام، وفي رواية "فلما جلس تطلق النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه، وانبسط إليه، فقلت: يا رسول الله، قلت ما قلت، ثم ألنت له القول.
فقال: "أي عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله من تركه أو ودعه الناس اتقاء فحشه"1.
فلقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الرجل المعروف بالبذاء ـ من قبيل المداراة؛ لأنه لم يزد على أن لاقاه بوجه طلق، أو رفق به في الخطاب.
وقد سبق إلى ذهن عائشة رضي الله عنها أن الذي بلغ أن يقال فيه "بئس ابن العشيرة" لا يستحق هذا اللقاء، ويجب أن يكون نصيبه قسوة الخطاب، وعبوس الجبين.
ولكن نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبعد مدى، وأناته أطول أمدا؛ فهو يريد تعليم الناس كيف يملكون ما في أنفسهم، فلا يظهر إلا في مكان أو زمان يليق فيه إظهاره.
ويريد تعليمهم أدبا من آداب الاجتماع، وهو رفق الإنسان بمن يقصد إلى زيارته في منزله، ولو كان شره في الناس فاشيا.
على أن إطلاقك جبينك لمثل هذا الزائر لا يمنعك من أن تشعر بطريق سائغ أنك غير راض عما يشيعه في الناس من أذى،
1 أخرجه البخاري في صحيحه 7/2 عن عائشة.
ولا يعوقك عن أن تعالجه بالموعظة الحسنة إلا أن يكون شيطانا مريدا.
4ـ من المداراة أن تلقى ذا يد باطشة، فتمنحه جبينا طلقا، وتتجنب في حديثك ما لا يكون له أثر في نفسه إلا أن يثير القصد إلى أذيتك.
وهذا محمل قول أبي الدرداء رضي الله عنه "إنا لنكشر1في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم"2.
وفي هذا الأثر شاهد على أن التبسم في وجه الظالم اتقاء بأسه ـ ضرب من المداراة، ولا يتعداه إلى أن يكون مداهنة.
"قال محمد بن أبي الفضل: قلت لأبي: لم نجلس إلى فلان، وقد عرفت عداوته؟
قال: أخبي نارا، وأقدح عن ود"3.
وقال المهاجر بن عبد الله:
وإني لأقصي المرء من غير بغضة
…
وأدنى أخا البغضاء مني على عمد
ليحدث ودا بعد بغضاء أو أرى
…
له مصرعا يردي به الله من يردي.
"وقال عقال بن شبة: كنت رديف أبي، فلقيه جرير على بغل فحياه أبي وألطفه.
1 نكشر: نضحك.
2 أخرجه البخاري في صحيحه7/102، معلقا بصيغة التمريض، وله طرق أخرجها الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق5/102 وفي كل منها مقال، ولعل بعضها يشد بعضا فيكون السند حسنا لغيره.
3 4 عيون الأخبار3/22.
فلما مضى قلت: أبعدما قال لنا ما قال؟
قال أبي: أفأوسع جرحي؟ "1.
5ـ ومن المداراة التلطف في الاعتذار: وذلك أن يكون الرجل على حالة تقتضي صرفه عن بغية أو عمل، وتعرف أن في الاعتذار له بهذا الحال ما يثير في نفسه ألما، فتعرض عن ذكر ما يؤلم، وتذكر له وجها غيره مما هو واقع فيه؛ حتى لا تجمع له بين الحرمان من بغيته وإيلامه بما لا يحب أن يعتذر له به.
6ـ من المداراة أن تخالط الناس، فتسايرهم بالخير، وتعاشرهم بالمعروف، وتزايلهم بالشر، وتفارقهم بالمنكر.
وقد جاء في المثل السائر الذي ورد من السلف: "خالطوا الناس وزايلوهم".
أي عاشروهم في الأفعال الصالحة، وزايلوهم في الأفعال المذمومة2.
7ـ من المداراة أن ترميك الغربة في بلد ما، فتجد أن خلائق أهلها وعاداتهم على غير ما تعرف، فتترك كثيرا مما كنت تعرف، وتأخذ بما يعرفون؛ فإن ذلك من حسن المداراة.
فدارهم ما دمت في دارهم
…
وأرضهم ما دمت في أرضهم3
وكل هذا مشروط بألا يكون فيما تأتي أو تذر محذور شرعي؛
1 عيون الأخبار3/22.
2 الأمثال ص 157 ومجمع الأمثال1/430.
3 عين الأدب والسياسة ص 155.
فإن كان ثم محذور شرعي تعين تقديم الأمر الشرعي على كل عادة وعرف.
هذا وقد علم بالتتبع والاستقراء أن كل عرف خالف الشرع فإنه ناقص مختل، وهذه قاعدة مطردة لا تنتقض1.
8ـ من المداراة أن تسعى لتطلاب حقك، أو إدراك حاجتك، فلا تقدر على ذلك بالغلبة والاستعلاء، فلتلجأ إلى الترفق، وحسن المداراة، والعرب تقول:"إذا لم تغلب فاخلب"2.
9ـ المداراة يبتغى بها رضا الناس، وتأليفهم في حدود ما ينبغي أن يكون، فلا يبعدك عنها قضاء بالقسط، أو إلقاء للنصيحة في رفق.
10ـ المداراة ترجع إلى ذكاء الشخص وحكمته؛ فهو الذي يراعي في مقدارها وطريقتها ما ينبغي أن يكون؛ ذلك أن لأسباب العداوة مدخلا في تفاوت مقادير المداراة واختلاف طرقها.
فإذا ساغ لك أن تبالغ في مداراة من ينحرف عنك لخطأ في ظن يظنه بك، أو لعدم ارتياحه لنعمة يسوقها الله إليك ـ فلمداراة من يحارب الحق والفضيلة ـ إن صادفك، واقتضى الحال مداراته ـ حد قريب، ومسحة من التلطف خفيفة.
كما ينبغي أن تكون مداراتك لمن ترجو العود منه إلى الرشد، وتأنس من فطرته شيئا من الطيب ـ فوق مداراتك لمن شاب على عوج العقل، ولؤم الخلق، حتى انقطع أملك من أن يصير ذا عقل سليم، أو خلق كريم.
1 انظر: الرياض الناضرة، ص 284.
2 الأمثال لأبي عبيد، ص 156.
ثم إن لك مع من فيه بقية من العقل ضربا من المداراة لا تسلكه مع من يعد مداراتك له أثر الخوف من سلاطة لسانهن فيزداد فحشا، ليزداد الناس رهبة، فيزيدوه خضوعا.
11ـ من المداراة أن تثني على الرجل بما فيه إذا قصدت من ذلك أن تحمله إلى ما هو أرفع، أو أن تقصره عما هو فيه من القبيح.
12ـ ومن المداراة أن تذكر المرء بسالف مجد آبائه، حتى تبعثه إلى اتباعهم، والسير على نولهم.
13ـ ومن المداراة أن تحرك في الشخص نخوته، وشيمته، ومروءته.
14ـ من المداراة أن تسعى بالصلح بين اثنين، فتنمي ما قاله كل واحد منهما في صاحبه من خير، وتغض الطرف عما قالاه في بعض من سوء.
15ـ من المداراة أن تعمد إلى إلقاء النصيحة على قوم حادوا عن الرشد، أو وقعوا في مخالفة ما، فلا تستهل حديثك بمواجهتهم بما يكرهون، خشية نفورهم أو إعراضهم.
وإنما تبتدئ بما يخف على المخاطبين سماعه من المعاني الحائمة حول الغرض، ثم تعبر عن المعنى المراد بلفظ مجمل، ثم تدنو من إيضاحه شيئا فشيئا؛ حتى لا تفصح عنه إلا وقد ألفته نفوسهم، وهدأت إليه خواطرهم؛ فذلك التدرج من حسن السياسة، وجميل المداراة.
16ـ من المداراة أن تعرّض بالشيء وأنت تريد غيره، من باب
قول العرب في المثل المشهور: "إياك أعني واسمعي يا جارة"1.
مثال ذلك أن تتعمد رجلا بالنصيحة، فتخشى باردة غضبه، إن أنت كاشفته بخطئه، فتسلك في نصحه سبلا أخرى، دون أن تثير غضبه، أو تمس كبرياءه، أو أن تخجله لكونك اطلعت على خطئه.
فبدلا من مواجهته مباشرة بإمكانك أن تداريه، وتوصل له ما تريد بعدة طرق لا يشعر معها أنك تريد نصحه.
منها أن تذكر له حالة أخرى مشابهة لحالته، وقد حدثت لشخص آخر وقع فيما وقع به صاحبك من خطأ، ثم تخلص من ذلك إلى ذم ذلك الخطأ، وتقبيحه، والتنفير منه، والتحذير من الوقوع فيه.
ومنها أن تستحثه على نصح فلان من الناس؛ وقع في ذلك الخطأ، ثم تبين له وجه ذلك الخطأ وسبل علاجه.
ومنها أن تستشيره في علاج ذلك الخطأ؛ لفشوه في الناس، ثم تنفذ من خلال ذلك إلى بيان خطئه، وإشعاره بخطره وضرره.
أو نحو ذلك من الطرق المناسبة، التي لا تريد من خلالها سوى لفت نظر صاحبك، وإشعاره بخطئه من طرف خفي.
17ـ من المداراة أن تعرف أن أناسا بأعيانهم قد وقعوا في مخالفة ما، فترغب أن ترشدهم إلى الصواب، وتلفت أنظارهم إلى ما هم فيه من الخطأ، فتتحامى ذكر أسمائهم بأعيانهم؛ خشية نفورهم وإعراضهم، فتلجأ إلى التعريض بهم من باب "ما بال أقوام".
فتشير أن هناك ملاحظة حول أمر ما، وهي كذا وكذا، أو
1 الأمثال لأبي عبيد، ص65.
تقول: إن أناسا يعملون كذا وكذا وهم مجانبون للصواب في عملهم هذا.
ويومئ إلى هذا الأسلوب ما كان يفعله النبي صلى الله عليه وسلم عند ما يبلغه من بعض أصحابه أنهم وقعوا في خطا، فيسلك عليه الصلاة والسلام أحيانا هذه الطريقة في علاج الخطأ.
جاء في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة"1.
وقال: "ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله"2.
وقال: "ما بال دعوى أهل الجاهلية"3.
وقال: "ما بال العامل نبعثه، فيأتي فيقول: هذا لك وهذا
…
" 4.
18ـ ومن المداراة استعمال المعاريض إذا دعت الحاجة، واقتضت الحكمة؛ فقد يلاقي الإنسان حالا ترغمه على أن ينطق بما يكره، ويسلك في القول ما لم يألف.
فلو عرضت على وجه الندرة حال يكون حديث الرجل فيها على نحو ما يعلم جالبا عليه أو على غيره ضررا فاحشا ـ لوجد في نظام الأخلاق مرونة تسمح له أن يصوغ حديثه في أسلوب لا يجلب ضررا.
فإذا وقع الإنسان في حال لا يليق معها التصريح بأمر واقع، ولم يكن بد من أن يقول في شأنه شيئا ـ فها هنا يفسح له أن يأخذ
1 البخاري1/183.
2 البخاري1/117.
3 البخاري1/160
4 البخاري8/114.
وهي ألفاظ محتملة لمعنيين؛ يفهم السامع منها معنى، ويريد المتكلم منها معنى آخر.
وإن شئت فقل: هي ألفاظ ذات وجهين: أحدهما غير حقيقة، وهو ما يسبق إلى فهم المخاطب. وثانيهما حقيقة، وهو ما يقصده المتكلم.
وهذا ما يفعله الذين أشربوا صدق اللهجة، متى عرفوا أن في القول الصريح حرجا أو خطرا.
19ـ من المداراة أن يوجه الداعي أو الناصح الإنكار إلى نفسه وهو يعني السامع.
قال ـ تعالى ـ فيما يقصه عن مؤمن آل ياسين حين أراد دعوة قومه إلى عبادة الله عز وجل {وَمَا لِي لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:22] .
فإنه إن أراد تقريع المخاطبين؛ إذ أعرضوا عن عبادة خالقهم، وعكفوا على عبادة ما لا يغني عنهم شيئا، فأورد الكلام في صورة الإنكار على نفسه؛ تلطفا في الخطاب، وإظهارا للخلوص في النصيحة؛ حيث اختار لهم ما يختاره لنفسه.
20ـ وبالجملة فالمداراة خصلة كريمة، يحكمها الأذكياء، ولا يتعدى حدودها الفضلاء؛ فالنفوس المطبوعة على المداراة نفوس أدركت أن الناس خلقوا ليكونوا في الائتلاف كالجسد الواحد، وشأن الأعضاء السليمة أن تكون ملتئمة على قدر ما فيها من حياة، ولا تنكر عضوا ركب معها في جسد إلا أن يصاب بعلة يعجز الأطباء أن يصفوا له بعد دواء.