الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: مظاهر سوء الخلق
سوء الخلق يأخذ مظاهر عديدة، وصورا شتى، فمن ذلك ما يلي:
1ـ الغلظة والفظاظة:
فتجد من الناس من هو فظ غليظ، لا يتراخى، ولا يتألف، ولا يلذ إلا المهاترة والإقذاع، ولا يتكلم إلا بالعبارات النابية، التي تحمل في طياتها الخشونة والشدة، والغلظة والقسوة.
وذلك كله مدعاة للفرقة والعداوة، ونزغ الشيطان، وعدم قبول الحق.
فهذا النبي عليه الصلاة والسلام مع أنه مرسل من الله، ومؤيد بالوحي، ومع أنه جاء بالهدى ودين الحق قال ربه عز وجل في حقه:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] .
2ـ عبوس الوجه وتقطيب الجبين:
فكم من الناس من لا تراه إلا عابس الوجه، مقطب الجبين، لا يعرف التبسم واللباقة، ولا يوفق للبشر والطلاقة.
بل إنه ينظر إلى الناس شزرا، ويرمقهم غيظا وحنقا، لا لذنب
ارتكبوه، ولا لخطأ فعلوه، وإنما هكذا يوحي إليه طبعه، وتدعوه إليه نفسه.
وهذا الخلق مركب من الكبر، وغلط الطبع، فإن قلة البشاشة استهانة بالناس، والاستهانة بالناس تكون من الإعجاب والكبر.
وقلة التبسم ـ وخاصة عند لقاء الإخوان ـ تكون من غلظ الطبع، وهذا الخلق مستقبح وخاصة بالرؤساء والأفاضل1.
فالعبوس وما يستتبعه من كآبة، واضطراب نفس ـ دليل على صغر النفس.
أما النفوس الكبيرة فيكتنفها جو السكينة، والطمأنينة2.
قيل لحكيم: "من أضيق الناس طريقا، وأقلهم صديقا؟
قال: من عاشر الناس بعبوس وجه، واستطال عليهم بنفسه"3.
3ـ سرعة الغضب:
وهذا مسلك مذموم في الشرع والعقل، وهو سبب لحدوث أمور لا تحمد عقباها؛ فكم حصل بسببه من قتل وطلاق، وفساد لذات البين، ونحو ذلك مما ينتج عن الغضب.
بل إن من الناس من إذا غضب حمله غضبه على التقطيب في
1 انظر تهذيب الأخلاق للجاحظ ص 32.
2 انظر أقوال مأثورة وكلمات جميلة د. محمد لطفي الصباغ، ص 181.
3 أقوال مأثورة ص 187.
وجه غير من أغضبه، وسوء اللفظ لمن لا ذنب له، والعقوبة لمن لم يكن يريد به إلا دون ذلك.
ثم يبلغ به الأمر إذا رضي أن يتبرع بالأمر ذي الخطر لمن ليس بمنزلة ذلك عنده، ويعطي من لم يكن يريد إعطاءه، ويكرم من لم يرد إكرامه1.
وهذا من الخرق المذموم، ومما ينافي الحكمة، والحزم، والمروءة، والاعتدال.
قال عليه الصلاة والسلام: "ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"2.
فكمال قوة العبد أن يمتنع من أن تؤثر فيه قوة الغضب، فخير الناس من كانت شهوته وهواه تبعا لما جاء بالشرع، وكان غضبه ومدافعته في نصر الحق على الباطل.
وشر الناس من كان صريع شهوته وغضبه3.
فمن وفق لترك الغضب أفلح وأنجح، وإلا فلن يصفو له عيش، ولن يهدأ له بال، ولن يرتقي في كمال.
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب
…
ولا ينال العلا من طبعه الغضب
1 انظر الأدب الصغير والأدب الكبير لابن المقفع ص 105.
2 أخرجه البخاري 10/91، ومسلم "2109" عن أبي هريرة.
3 انظر بهجة قلوب الأبرار لابن سعدي، شرح الحديث71.
4ـ المبالغة في اللوم والتوبيخ:
وهذا يقع كثيرا ممن لهم سلطة وتمكن، كالرئيس، والمدير، والمعلم، والكفيل، والوالد ونحوهم.
فتجد الواحد منهم يزيد، ويرعد، ويطلق العبارات البذيئة، ويبالغ في اللوم والتوبيخ بمجرد خطأ يسير وقع من شخص تحت سلطته.
وهذا الصنيع مما تكرهه النفوس، وتنفر منه القلوب؛ فالناس يكرهون من يؤنب في غير مواطن التأنيب، وينفرون ممن يبالغ فيه دون ترو أو تؤدة؛ فلربما استبان له فيما بعد أن ليس على حق، أو أن هناك اجتهادا صحيحا.
ومن الأمثلة على ذلك ما يقع من بعض المعلمين مع طلابهم، حيث يبالغ في تقريع الطالب عند أدنى خطأ، وربما كان ذلك الخطأ غير مقصود أصلا، مما يسبب النفرة من المعلم، والحرج للطالب، فلربما أصيب بسبب ذلك بخيبة أمل، وفقد للثقة بنفسه، وربما ترك الدراسة، فأصبح عالة على أهله ومجتمعه.
وقل مثل ذلك فيما يقع بين الأصحاب والأقارب؛ فقد يمضي على أحدهم زمن طويل لم ير صاحبه، فإذا ما رآه ابتدره باللوم، وأمطر عليه وابلا من القريع على غيابه، وقلة اتصاله.
وهذا الأمر ـ وإن كان دليلا على المحبة ـ إلا أنه سبب للقطيعة والمفارقة؛ لأن الناس لا يحبون أن يحملوا كل شيء، وأكثر الناس لا يتحمل أدنى عتب أو لوم.
ثم إن هذا الذي يلوم ينسى أن يمكن أن يوجه إليه ذلك!.
قال منصور بن الزرقان النمري:
لعل له عذرا وأنت تلوم
…
ورب امرئ قد لام وهو مليم1
5ـ الكبر:
فهناك من يتكبر في نفسه، ويتعالى على بني جنسه، فلا يرى لأحد قدرا، ولا يقبل من أحد عدلا ولا صرفا.
والكبر خصلة ممقوتة في الشرع، والفطر، والعقول، والمتكبر ممقوت عند الله، وعند خلق الله.
قال صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر".
قال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا، ونعله حسنة.
قال: "إن الله جميل يحب الجمال؛ الكبر بطر الحق، وغمط الناس"2.
فبطر الحق: رده، وغمط الناس: احتقارهم.
6ـ السخرية بالآخرين:
كحال من يسخر بفلان لفقره، أو لجهله، أو لخرقه، أو لرثاثة ثيابه، أو لدمامة خلقته، أو نحو ذلك.
1 أقوال مأثورة ص 427 عن نهاية الأرب 3/86.
2 رواه مسلم في صحيحه في كتاب الإيمان باب تحريم الكبر وبيانه 91 عن عبد الله بن مسعود.
فهذا العمل مظهر قبيح من مظاهر سوء الخلق، ويكفي في التنفير منه قوله تعالى:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} [الحجرات:11] .
7ـ التنابز بالألقاب:
وهذا مما نهانا الله عز وجل عنه، وأدبنا بتركه، كما في قوله تعالى:{وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} [الحجرات:11] .
ومع هذا النهي إلا أننا نجد أن غالبية الناس لا يعرفون إلا بألقابهم السيئة.
وهذه الألقاب مما يثير العداوة، ويسبب الشحناء في الغالب؛ لأن الناس يحبون من يناديهم بأسمائهم، أو بكناهم الطيبة، وينفرون من يناديهم بألقابهم السيئة.
أكنيه حين أناديه لأكرمه
…
ولا ألقبه والسوءة اللقب
8 ـ الغيبة:
تلك الخصلة الذميمة، التي لا تصدر إلا من نفس ضعيفة وضيعة دنيئة.
والغيبة هي ـ كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم: "ذكرك أخاك بما يكره"1.
1 رواه مسلم 2589، ورواه أبو داود 4874، والترمذي 1934 كلهم عن أبي هريرة.
والمغتاب يريد التسلق على أكتاف الآخرين، وذلك بالحط من أقدارهم، وتزهيد الناس بهم.
وما علم هذا المغتاب أن الرافع الخافض هو الله عز وجل وأنه بصنيعه يهدي حسناته ـ وهي أعز ما يملك ـ لمن يقع في عرضه.
فأين هذا المغتاب من قوله ـ تعالى ـ: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12] .
بل أين هو من أهل الجاهلية التي أشرافها يتمدحون بترك الغيبة.
قال المثقب العبدي:
لا تراني راتعا في مجلس
…
في لحوم الناس كالسبع الضرم1
والغيبة لا تقتصر على اللسان فحسب، بل قد تكون بالإشارة بالعين، أو اليد، أو نحو ذلك.
أما أسبابها فكثيرة، منها التشفي من الآخرين، ومجاملة الأقران والرفقاء، والحسد، وكثرة الفراغ، والتقرب لدى أصحاب الأعمال والمسؤولين عن طريق ذم العاملين.
ومن أسبابها الإعجاب بالنفس، والغفلة عن التفكر في عيوبها.
وأعظم أسبابها قلة الخوف من الله سبحانه وتعالى 2.
1 الديوان ص 229.
2 انظر: الغيبة وأثرها السيء في المجتمع الإسلامي للشيخ حسين العوايشة، ففيه تفصيل رائع للغيبة.
9ـ النميمة:
وهي نقل الكلام بين الناس على جهة الفساد.
فكم فسد بسببها من صداقة، وكم تقطعت من أواصر، وكم تحاصت من أرحام.
والنميمة كالغيبة من حيث إنها لا تصدر من نفس كريمة، وإنما تصدر من نفس مهينة ذليلة دنيئة.
أما الكرام فإنهم يترفعون عن مثل هذه الترهات.
وإن مما يزيد الطين بلة أن تجد النميمة آذانا مصيخة، وأفئدة مصغية، فمن أصاخ السمع وأصغى الفؤاد لمن ينم ـ فإنه مشارك له في الإثم، ومن أطاع الوشاة وصدقهم فلن يبقى له صديق أو قريب.
ومن يطع الواشين لا يتركوا له
…
صديقا ولو كان الحبيب المقربا1
قال الشافعي رحمه الله "قبول السعاية شر من السعاية؛ لأن السعاية دلالة، والقبول إجازة، وليس من دل على شيء كمن قبل وأجاز"2.
10ـ سماع كلام الناس بعضهم ببعض، وقبول ذلك دون تمحيص وتثبت:
فكم جر ذلك من ويلات، وكم أفسد من مودات، وكم أغرى من عداوات.
1 ديوان الأعشى ص 9.
2 صفة الصفوة لابن الجوزي 2/168.
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله "من الغلط الفاحش الخطر قبول قول الناس بعضهم ببعض، ثم يبنى عليه السامع حبا أو بغضا، ومدحا وذما؛ فكم حصل بهذا الغلط من أمور صار عاقبتها الندامة، وكم أشاع الناس عن الناس أمورا لا حقائق لها بالكلية، أو لها بعض الحقيقة فنميت بالكذب والزور، وخصوصا ممن عرفوا بعدم المبالاة بالنقل، أو عرف منهم الهوى.
فالواجب على العاقل التثبت والتحرز، وعدم التسرع.
وبهذا يعرف دين المرء ورزانته وعقله"1.
11ـ التجسس والتحسس:
أصل التجسس: تعرف الشيء عن طريق الجس أي الاختبار باليد، والتحسس: تعرفه عن طريق الحواس، ثم استعملا في البحث عن عيوب الناس.
وقيل: إن الأول البحث عن العورات، والثاني الاستماع لحديث القوم.
وقيل: إن الأول البحث عن بواطن الأمور، وأكثر ما يكون في الشر، والثاني: ما يدرك بحاسة العين والأذن.
وقيل: التجسس تتبع العورات لأجل غيره، والتحسس تتبعها لنفسه2.
والحاصل أن التجسس والتحسس مما لا ينبغي، بل نكتفي
1 الرياض الناضرة ص 209.
2 انظر الأدب النبوي محمد عبد العزيز الخولي، ص 137.
بالظاهر، ونكل أمر الباطن إلى العليم الخبير، إلا إذا كان التجسس طريقا لدرء مفسدة كبيرة، أو جلب مصلحة عظيمة، كما لو علمنا أن أناسا عزموا على ارتكاب جريمة قتل أو سرقة أو نحو ذلك، فتجسسنا عليهم؛ لنحول بينهم وبين ما يشتهون ـ فلا حرج حينذ.
أما إذا قصد بذلك تتبع العثرات، والفرح بالزلات ـ فهذا هو المحذور الذي لا ينبغي فعله، ولا الإقدام عليه.
وهذا ـ مع بالغ الأسف ـ دأب كثير من الناس، حيث تجده متتبعا لعثرات إخوانه، متناسيا حسناتهم، فإذا سمع قبيحا فرح به ونشر، وإذا سمع حسنا ساءه ذلك وستره.
إن يسمعوا سيئا طاروا به فرحا
…
مني وما سمعوا من صالح دفنوا1.
وكما قال الآخر:
يمشون في الناس يبغون العيوب لمن
…
لا عيب فيه لكي يستشرف العطب
إن يعلموا الخير يخفوه وإن علموا
…
شرا أذاعوا وإن لم يعلموا كذبوا2
فمن هذا دأبه وديدنه فهو من أحقر الناس، وأسفلهم.
شر الورى بعيوب الناس مشتغل
…
مثل الذباب يراعي موطن العلل
قال ابن حبان رحمه الله: "فمن اشتغل بعيوب الناس عن عيوب نفسه عمي قلبه، وتعب بدنه، وتعذر عليه ترك عيوب نفسه؛
1 عيون الأخبار 3/84.
2 روضة العقلا ونزهة الفضلاء لابن حبان البستي، ص 178.
فإن أعجز الناس من عاب الناس بما فيهم، وأعجز منه من عابهم بما فيه"1.
ويقال لمن فرح بزلات إخوانه: لا تفرج؛ فلا بد أن تقع في الخطأ في يوم ما، وحينئذ:
فلا تغضبن من سيرة أنت سرتها
…
وأول راض سيرة من يسيرها
12ـ مقابلة الناس بوجهين:
فتجد من الناس من يظهر لجليسه الموافقة والمودة، ويلقاه بالبشر والترحاب.
فإذا ما توارى عنه سلقه بلسان حاد، وشتمه وأقذع في سبه!
وهذه الصفة من أحط الصفات وأخسها، وصاحبها من شر الناس، وأوضعهم.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تجدون شر الناس ذا الوجهين، الذي يلقى هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه"2.
قال إبراهيم بن محمد:
وكم من صديق وده بلسانه
…
خؤون بظهر الغيب لا يتذمم
يضاحكني عجبا إذا ما لقيته
…
ويصدفني منه إذا غبت أسهم
كذلك ذو الوجهين يرضيك شاهدا
…
وفي غيبه إن غاب صاب3 وعلقم4.
1 روضة العقلاء نزهة الفضلاء، ص 125.
2 رواه البخاري7/87، ومسلم 2526 عن أبي هريرة.
3 صاب: الصاب شجر مرّ كالعلقم.
4 أدب الدنيا والدين ص 224.
بل إن أهل الجاهلية ينكرون مثل هذه الصفات القبيحة، قال المثقب العبدي:
إن شر الناس من يكشر1 لي
…
حين يلقاني وإن غبت شتم2.
13ـ إساءة الظن:
فإساءة الظن من الأخلاق الذميمة، التي تجلب الضغائنن وتفسد المودة، وتجلب الهم والكدر.
ولهذا حذرنا الله عز وجل من إساءة الظن كما في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنْ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات13] .
وقال عليه الصلاة والسلام: "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث"3.
فتجد من الناس من هو سيء الظن، يحسب أن كل صيحة عليه، وكل مكروه قاصد إليه، وأن الناس لا هم لهم إلا الكيد له، والتربص به.
ومن صور سوء الظن عند بعض الناس ما يلي:
أ - إذا رأى اثنين يتناجيان ظن أنه هو المقصود بالنجوى.
ب - إذا سمع ذما عاما لخصلة من الخصال ظن أنه هو المقصود بالذم.
1 يكشر لي: يعني يضحك لي.
2 الديوان، ص 230.
3 رواه البخاري7/88ـ89 ومسلم 2563 عن أبي هريرة.
ج- إذا كان هناك وليمة عند أحد من أقاربه أو أصدقائه، فنسي صاحب الوليمة أن يدعوه ـ أساء الظن به، واتهمه باحتقاره، وازدرائه، وعدم المبالاة به.
د- إذا نصحه أحد ظن أن الناصح متغرض له، متعال عليه، متتبع لهفواته، فلا يقبل منه عدلا ولا صرفا، فيستمر بذلك على عيوبه، ويبتعد عنه كل من أراد نصحه.
هـ إذا رأى أحدا يمشي حوله ظن أنه يراقبه ويترصد له.
هذه بعض سوء الظن، وهو في الغالب لا يصدر إلا عن شخص فارغ، لا شغل له، ولا هم عنده، أو شخص سيء الفعال، ذي نفس مضطربة؛ لذلك فهو ينظر إلى الناس نظرة المرتاب، كما قال أبو الطيب المتنبي:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه
…
وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى محبيه لقول عداته
…
وأصبح في ليل من الشك مظلم1
وسوء الظن كذلك من الشيطان؛ حيث يلقى في روع الإنسان الظنون السيئة، والأوهام الكاذبة؛ ليفسد ما بينه وبين إخوانه.
فما أحرى بالمسلم أن يستعيذ بالله من الشيطان، وأن يمضي لسبيله، ويحسن ظنه بإخوانه المسلمين، وأن يحملهم على أحسن المحامل، وإلا فلن يريح ولن يستريح.
ما يستريح المسيء ظنا
…
من طول غم وما يريح2
1 ديوان المتنبي بشرح العكبري في 4/235.
2 روضة العقلاء، ص 126.
ولا يدخل في سوء الظن المذموم ـ الظن بمن أورد نفسه موارد الريب.
ولا يدخل فيه ـ أيضا ـ من أساء الظن بعدوه الذي يخاف منه، ولا يأمن مكره، بل يلزمه سوء الظن به، وبمكائدة ومكره، لئلا يصادف منه غرة فيصيبه من خلالها؛ فهذا من تمام الاحتراز وأخذ الحيطة، وهو محمود على كل حال.
كما أنه ليس من الحزم ولا الكياسة في شيء أن يحسن المرء ظنه بكل أحد، ويثق به ثقة مطلقة، فيبيح له بمكنونه، ويطلعه على كل صغيرة وكبيرة من أمره.
بل إن هذا سذاجة، وبلاهة، وجهل، وغلفة.
14ـ إفشاء الأسرار:
فبعض الناس ما أن يسمع سرا إلا ويضيق به ذرعا، فتراه يبحث عمن يخبره بسره، ويفضي إليه بمكنونه.
وربما ترتب على إفشاء السر عداوة وفسادا عريضا.
وبعض الناس يثق بكل أحد، فيفضي إليه بسره، فإذا انتشر الخبر وذاع لام من أذاعه وأفشاه، وما علم أنه هو الملوم؛ لأنه هو أول من نشره.
قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: "ما وضعت سري عند أحد فلمته على أن يفشيه؛ كيف ألومه وقد ضقت به؟! "1.
1 روضة العقلاء، ص 188.
وقال الشافعي رحمه الله:
إذا المرء أفشى سره بلسانه
…
ولام عليه غيره فهو أحمق
إذا ضاق صدر المرء عن سر نفسه
…
فصدر الذي يستودع السر أضيق1.
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: كن حافظا للسر، معروفا عند الناس بحفظه، فإنهم إذا عرفوا منك هذه الحال أفضوا إليك بأسرارهم، وعذروك إذا طويت عنهم سر غيرك الذي هم عليه مشفقون، وخصوصا إذا كان لك اتصال بكل واحد من المتعادين؛ فإن الوسائل لاستخراج ما عندك تكثر وتتعدد من كل من الطرفين، فإياك إياك أن يظفر أحد منهم بشيء من ذلك تصريحا أو تعريضا، واعلم أن للناس في استخراج ما عند الإنسان طرقا دقيقة، ومسالك خفيفة؛ فاجعل كل احتمال ـ وإن بعد ـ على بالك، ولا تؤت من جهة من جهاتك؛ فإن هذا من الحزم.
واجزم بأنك لا تندم على الكتمان، وإنما الضرر والندم في العجلة والتسرع، والوثوق بالناس ثقة تحملك على ما يضر"2.
وإن من حفظ الأسرار، بل مما يدل على صدق الوفاء، وكرم العشيرة ـ أن يحفظ المرء سر صاحبه بعد أن تتصرم حبال المودة بينهما؛ ذلك أن دواعي الإفشاء تقوى في تلك الحالة، فإذا كتم المرء سر صاحبه، وحفظ ما كان له من ود ـ دل ذلك كرم نفسه، ورسوخ قدمه في الفضيلة.
1 ديوان الشافعي، ص 64 جمع الزعبي.
2 الرياض الناضرة، ص 210.
ليس الكريم الذي إن زل صاحبه
…
بث الذي كان من أسراره علما
بل الكريم الذي تبقى مودته
…
ويحفظ السر إن صافى وإن صرما1
وإن مما يقع فيه اللبس في هذا الباب كتم السر عن الأصدقاء؛ فمن المعروف أن الإنسان لا يكتم عن أصدقائه سرا يخشى من إفشائه ضررا.
ويجد الرجل في نفسه شيئا متى شعر بأن صديقه قد كتم عنه بعض ما يعلم من الشؤون.
وإلى هذا المعنى أشار بعضهم فقال:
والخل كالماء يبدي في ضمائره
…
مع الصفاء ويخفيها مع الكدر
وهناك من ذهب في النصح بكتم السر الذي يخشى من إذاعته ضرر إلى حد أن نصح بكتمه حتى عن الأصدقاء.
ووجه هذا الرأي إنما هو الخوف من أن يكون لصديقك صديق لا يكتم عنه حديثا، وإذا انتقل السر إلى صديق آخر لم يؤمن عليه أن يصبح خبرا مذاعا، قال محمد بن عبشون:
إذا ما كتمت السر عمن أوده
…
توهم أن الود غير حقيقي
ولم أخف عنه السر من ظنه به
…
ولكنني أخشى صديق صديقي2
"والقول الفصل في هذا الأمر يرجع إلى قوة ثقتك بصديق الفضيلة، وذكائه، وفهمه قصدك لأن يكون هذا السر في صدره لا يتجاوزه إلى غيره.
1 عين الأدب والسياسة، ص70.
2 انظر رسائل الإصلاح لمحمد الخضر حسين2/17.
فإن كان صديقك على هذا المثال فأطلعه على ما في نفسك؛ فإنما أنت وهو روح واحدة ولكنها في بدنين.
فإن كان مع صداقته الخالصة لا تأمن أن يجري على لسانه بعض ما أفضيت به إليه ـ فذلك موضع قول الشاعر:
ولكنني أخشى صديق صديقي
ومن الأذكياء من يحرص على كتم سر صديقه، فلا يفضي به إلى صديق له آخر، ولا سيما صديقا ليس بينه وبين الذي أودع السر صلة صداقة.
قال مسكين الدارمي:
أؤاخي رجالا لست مطلع بعضهم
…
على سر بعض غير أني جماعها
يظلون شتى في البلاد وسرهم
…
إلى صخرة أعيا الرجال انصداعها1
5ـ المؤاخذة بالزلة:
فهناك من الناس من إذا صدر في حقه زلة من صديق، أو بدرت هفوة من قريب ـ زهد به، وتنكر له، وآخذه بزلته.
وهذا المسلك مسلك خاطئ، والذي يقوم به، ويطرد هذه القاعدة لن يصفو له بال، ولن يرضى عن أحد، بل سيعيش وحيدا طريدا، فأي الرجال المهذب؟!.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها
…
كفى المرء نبلا أن تعد معايبه2
1 رسائل الإصلاح 1/17-18.
2 ديوان بشار بن برد، ص 45.
فالعاقل لا يزهد بأحد بسبب هفوة، ولا يؤاخذ بسبب زلة، خصوصا إذا كانت يسيرة، أو كانت صادرة من شخص له فضل، كما قيل:
لا يزهدنك من أخ
…
لك أن تراه زل زلة1
وكما قيل:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد
…
جاءت محاسنه بألف شفيع2
وكما قيل:
فإن يكن الفعل الذي ساء واحدا
…
فأفعاله اللائي سررن ألوف3
16ـ عدم قبول الأعذار:
فتجد من يقع في خطأ في حق أخ له، ثم يعتذر من خطئه، ويلتمس من أخيه مسامحته، ثم يفاجأ بعد ذلك بأن عذره لم يقبل، وبأن عثرته لم تقل.
وهذا مناف لمكارم الأخلاق؛ "فالواجب على العاقل إذا اعتذر إليه أخوه لجرم مضى، أو لتقصير سبق أن يقبل عذره، ويجعله كمن لم يذنب"4.
1 روضة العقلاء، ص 45.
2 مفتاح دار السعادة لابن القيم1/177.
3 مفتاح دار السعادة1/177.
4 روضة العقلاء، ص 183.
قال ابن المبارك رحمه الله: "المؤمن طالب عذر أخوانه، والمنافق طالب عثراتهم"1.
وقال الشافعي رحمه الله:
قيل لي قد أسا إليك فلان
…
ومقام الفتى على الذل عار
قلت: قد أتى وأحدث عذرا
…
دية الذنب عندنا الاعتذار2
فقبول الأعذار من صفات الكرام، حتى ولو كان المعتذر كاذبا.
قال ابن حبان رحمه الله: "ولا يخلو المعتذر في اعتذاره من أحد رجلين: إما أن يكون صادقا في اعتذاره أو كاذبا، فإن صادقا فقد استحق العفو؛ لأن شر الناس من لم يُقِل العثرات، ولا يستر الزلات.
وإن كان كاذبا فالواجب على المرء إذا علم من المعتذر إثم الكذب، وريبته، وخضوع الاعتذار وذلته ـ أن لا يعاقبه على الذنب السالف، بل يشكر له الإحسان المحدث، الذي جاء به في اعتذاره، وليس يعيب المعتذر إن ذل وخضع في اعتذاره إلى أخيه"3.
قال الشافعي رحمه الله:
اقبل معاذير من يأتيك معتذرا
…
إن بر عندك فيما قال أو فجرا
1 أدب العشرة وذكر الصحبة والأخوة لبدر الدين الغزي، ص 43.
2 ديوان الشافعي، ص 184ـ185.
3 روضة العقلاء، ص 184ـ185.
لقد أطاعك من يرضيك ظاهره
…
وقد أجلك من يعصيك مستترا1
17ـ التهاجر والتدابر:
وما أكثر وقوع هذا الأمر بين المسلمين، فبمجرد اختلاف يسير، لا يترتب عليه فساد في الدين ـ تجد من يهجر أخاه، ويعطيه ظهره، ويقطع شواجر المحبة والرحمة والأخوة.
قال عليه الصلاة والسلام: "لا تباغضوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، وكونوا عباد الله إخوانا، ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث"2.
وإذا كان هذا الأمر مرفوضا وقوعه بين عامة الناس ـ فإن المصيبة تعظم، وإن الخطب ليجل إذا وقع ذلك بين أهل العلم والفضل والعبادة، فذلك هو الداء العياء، والطعنة النجلاء.
فمما يدمي الفؤاد، ويدل على استحكام الغفلة، وتمكن الشيطان أن تجد اثنين من أهل العبادة، وممن يتسابق للمجيء إلى المسجد، وقد يكونان ممن بلغ من الكبر عتيا، ومع ذلك كله تجدهما متهاجرين متقاطعين، لا يكلم أحدهما الآخر، ولا يسلم عليه بلا سبب يذكر، أو بسبب يسير جدا!.
ومثل ذلك ـ أو أشد ـ ما يقع بين بعض طلبة العلم من تدابر، وتقاطع، ونفرة بسبب حسد، أو اختلاف في رأي لا يوجب اختلاف القلوب؛ مما يسبب الفرقة وشيوع العداوة والبغضاء، وتألب بعضهم
1 ديوان الشافعي، ص 99.
2 رواه البخاري7/88، ومسلم 2559 عن أنس بن مالك.
على بعض؛ مما يجعلهم يفشلون، وتذهب ريحهم، ويصبحون شماتة للأعداء، فيصطلي بنار تلك الفرقة أهل الخير، والحريصون على جمع الكلمة، ويسر بذلك إبليس وأعوانه من شياطين الإنس والجن، الذين يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا.
فبدلا من أن يجمعوا أمرهم، ويلموا شعثهم، تجدهم شذر مذر والله المستعان.
فكيف ـ إذا ـ يصلحون الناس وهم لما يصلحوا ذات بينهم؟!
يا معشر القرآء يا ملح البلد
…
من يصلح الملح فسد
18ـ الحسد:
وهو تمني زوال نعمة المحسود، أو هو البغض والكراهية لما يراه من حسن حال المحسود1.
والحسد داء عضال، وسم قتال، لا يسلم منه إلا من سلمه الكبير المتعال.
ولهذا قيل: "ما خلا جسد من حسد، ولكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه"2.
فما أكثر وقوع الحسد بين الناس، فهذا يحسد لعلمه، وهذا يحسد لماله، وهذا لجاهه، وهذا لمنزلته بين الناس.
وأكثر ما يقع بين النظراء، والمتشاركين، وأكثر ما يكون في صفوف النساء.
والحسد خلق ذميم، ومسلك شائن، فهو مضر بالبدن والدين،
1 انظر: أمراض القلوب وشفاؤها لابن تيمية، تحقيق حماد سلامة ص 134.
2 انظر: أمراض القلوب وشفاؤها لابن تيمية، تحقيق حماد سلامة ص 134.
وهو من أعظم الأسباب الموجبة للفرقة والاختلاف.
قال بعض السلف: "الحسد أول ذنب عصي الله به في السماء"1 يعني حسد إبليس لآدم عليه السلام.
والحسد ـ في الحقيقة ـ اعتراض على قضاء الله وحكمته؛ ولهذا قيل: "من رضي بقضاء الله لم يسخطه أحد، ومن قنع بعطائه لم يدخله حسد"2.
ثم إن الحاسد هو أول متضرر من حسده، فالضرر لاحق به لا محالة.
قال بعضهم: "ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من الحسود؛ نفس دائم، وهو لازم، وقلب هائم"3.
وقيل ـ أيضا ـ:
لله در الحسد ما أعدله
…
بدا بصاحبه فقتله
وقال ابن المعتز:
اصبر على كيد الحسو
…
د فإن صبرك قاتله
كالنار تأكل بعضها
…
إن لم تجد ما تأكله
قال ابن المقفع: "ليكن ما تصرف به الأذى عن نفسك ألا تكون حسودا؛ فإن الحسد خلق لئيم.
ومن لؤمه أنه موكل بالأدنى فالأدنى من الأقارب، والأكفاء، والمعارف، والخلطاء، والإخوان"4.
1 أدب الدنيا والدين، ص 269.
2 أدب الدنيا والدين، ص 269.
3 أدب الدنيا والدين، ص 269.
4 الأدب الصغير والأدب الكبير، ص 144.
19ـ الحقد:
فتجد من الناس من يحمل قلبا أسود، لا يعرف للعفو طريقا، ولا للصفح سبيلا؛ فإذا ما أسيء في حقه من أي أحد فإنه يحفظ تلك الإساءة، ولا يكاد ينساها، مهما تقادم العهد عليها.
فتجده يتربص بصاحبه الدوائر، وينتظر منه غرة؛ لينفذ من خلالها، فيروي غليله، ويشفي غيظه.
20ـ مجاراة السفهاء:
فهناك من إذا ابتلي بسفيه ساقط، لا خلاق له، ولا مروءة فيه أخذ يجاريه في سفهه وقيله وقاله، مما يجعله عرضة لسماع ما لا يرضيه من ساقط القول ومرذوله، فيصبح بذلك مساويا للسفيه؛ إذ نزل إليه وانحط إلى رتبته.
إذا جاريت في خلق دنيئا
…
فأنت ومن تجاريه سواء
قال الأحنف بن قيس: "من لم يصبر على كلمة سمع كلمات، ورب غيظ تجرعته مخافة ما هو أشد منه"1.
21ـ قلة الحياء:
فالحياء خلق يبعث على فعل الجميل وترك القبيح، فإذا عري الإنسان منه، وعطل من التحلي به فلا تسل عما سيقترفه من رذائل، ولا تعجب مما سيرتكبه من حماقات؛ فقليل الحياء لا يأبه بدنو
1 عيون الأخبار لابن قتيبة1/284.
همته، ولا يبالي بسفول قدره، ولا يجد ما يبعثه للفضائل، ولا ما يقصره عن الرذائل.
هذا ولقلة الحياء صور عديدة منها:
أـ المجاهرة بالمعاصي عموما.
ب ـ التدخين خصوصا في الأماكن العامة:
فالتدخين شر وبلاء بإجماع العقلاء، وهو محرم كما بين ذلك العلماء.
ولكن البلية تعظم عندما يتعاطاه شاربه أمام ملأ من الناس، أو في مكان عام، إما بمستشفى، أو طائرة، أو قطار، أو في مكان انتظار أو نحو ذلك.
فكم في مثل هذا العمل من التمادي في القحة؟ وكم فيه من قلة المبالاة بالآخرين؟.
ثم كيف تطيب نفس هذا المدخن وهو يؤذي من حوله بأنفاسه الكريهة المنتنة؟!
ثم كيف يستسيغ إلحاق الضرر بغيره؛ فقد يكون من بين الحاضرين من هو مصاب بالربو، أو ممن يتأذى برائحة الدخان؟
جـ المماطلة بالدين:
فتجد من الناس من يأتي إلى رجل ميسور الحال، فيبدي له حاجته، ويلتمس منه إعانته بتقديم سلفة له إلى وقت قريب.
وما هي إلا أن يظفر بإربه، ثم يتنكر لصاحبه، ويقلب له ظهر المجن، فيبدأ بالمماطلة، ويسوف بالسداد.
وهذا دليل على ضعة النفس، وسوء الخلق، وقلة الحياء.
دـ المعاكسات الهاتفية:
فهناك من يؤذي بيوت المسلمين بالاتصالات الهاتفية، والتي يبتغي من ورائها أن يظفر بمكالمة غادرة، يستجر بها إحدى المحارم بكلامه المعسول، وبعباراته الرقيقة.
وربما وجد من يجاريه في سفالته وغيه، وربما وقع الهاتف في يد بريئة لا تعرف تلك الألاعيب، فاستدرجها هذا الغادر بالحديث، وربما سجلها في جهاز التسجيل ثم جعل تلك المكالمة إدانة لتلك المسكينة، يهددها بها إن لم تستجب لمطالبه.
وهذا الصنيع دليل على رقة الدين، وقلة الحياء، ودنو الهمة، والتمادي في السفالة.
قال الشيخ بكر أبو زيد ـ حفظه الله ـ عن تلك العادة القبيحة: "كنت أظنها مرضا تخطاه الزمن، وإذا بالشكوى تتوالى من فعلات السفهاء في تتبع محارم المسلمين في عقر دورهن، فيستجرونهن بالمكالمة والمعاكسة السافلة.
ومن السفلة من يتصل على البيوت مستغلا غيبة الراعي، ليتخذها فرصة عله يجد من يستدرجه إلى سفالته.
وهذا نوع من الخلوة، أو سبيل إليها، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم ـ:"إياكم والدخول على النساء". أي الأجانب عنكم.
فهذا وأيم الله حرام حرام، وإثم وجناح، وفاعله حري
بالعقوبة، فيخشى أن تنزل به عقوبة تلوث وجه كرامته"1.
22ـ البخل:
فالبخل من مساوئ الأخلاق، ومن المخلات بالدين والمروءة، وهو مما يجلب الشقاء لص في الدنيا والآخرة.
والبخيل بعيد من الله، بعيد من خلق الله، بعيد من الجنة، قريب من النار.
والبخيل ضيق الصدر، صغير النفس، قليل الفرح، كثير الهم والغم، لا يكاد يقضى له حاجة، ولا يعان على مطلوب2.
فتجد من الناس من يبخل بفضل ماله، مع أن لديه من المال ما يكفيه وذريته آلاف السنين لو عاشوها.
ومن الناس من يبخل بجاهه، فلا يبذله في سبيل الخير من إعانة لمظلوم، أو شفاعة حسنة لمستحقها، أو نحو ذلك.
ومن الناس من يبخل بنصحه، فلا ينصح أحدا، بل ربما لو استنصح لبخل بالنصيحة.
هذا وللبخل أبواب كثيرة، والغامض من تلك الأبواب أكثر وأكثر.
23ـ المنة في العطية ونحوها:
فمن الناس من إذا أعطى عطاء، أو بذل نصيحة، أو أسدى
1 أدب الهاتف للشيخ د. بكر أبو زيد ص 31ـ32.
2 انظر: الوابل الصيب لابن القيم ص 51.
معروفا ـ أتبعه بالمن والأذى، والإدلال علىمن أحسن إليه.
وذلك الصنيع خلق ساقط، لا يليق بأولي الفضل، ولا يحسن بأهل النبل، فالمنة تصدع قناة العزة، فلا يحتملها ذوو المروءات إلا حال ضرورة، ولا سيما منة تجيء من غير ذي طبع كريم، أو قدر رفيع.
قال ـ تعالى ـ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى} [البقرة:14] .
وعن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم" قال: فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثلاث مرات.
قال أبو ذر: خابوا وخسروا، من هم يا رسول الله؟
قال: "المسبل، والمنان، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب"1.
قال رجل لبنيه: "إذا اتخذتم عند رجل يدا فانسوها"2.
وقالوا: "المنة تهدم الصنيعة"3.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: "لا يتم المعروف إلا بثلاث، بتعجيله، وتصغيره، وستره؛ فإذا أعجله هنأه، وإذا صغره عظمه، وإذا ستره تممه"4.
1 رواه مسلم106.
2 عيون الأخبار 4/177.
3 عيون الأخبار 4/177.
4 عيون الأخبار 4/177.
وقال الشاعر:
أفسدت بالمن ما أسديت من حسن
…
ليس الكريم إذا أسدى بمنان1.
ومع أن المنة وتعداد الأيادي ليس من صفات الكرام ـ إلا أن ذلك يحسن ويسوغ في حال المعاتبة والاعتذار.
قال ابن حزم رحمه الله: "حالان يحسن فيهما ما يقبح في غيرهما، وهم المعاتبة، والاعتذار، فإنه يحسن فيهما تعديد الأيادي، وذكر الإحسان، وذلك غاية القبح فيما عدا هاتين الحالتين"2.
24ـ إخلاف الوعد:
فإخلاف الوعد من الصفات الذميمة، ومن الخصال المرذولة؛ فهو شعبة من شعب النفاق، وآية من آيات المنافقين.
قال عليه الصلاة والسلام: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان، وإذا وعد أخلف"3.
وكرام الناس ينفرون من هذه الخصلة، ويأنفون من الاتصاف بها.
قال المثنى بن حارثة الشيباني: "لأن أموت عطشا أحب إلي من أن أخلف موعدا"4.
1 عيون الأخبار 4/177.
2 الأخلاق والسير لابن حزم، ص78.
3 رواه البخاري3/162، ومسلم 59 عن أبي هريرة.
4 بهجة المجالس2/494، وتنسب هذه المقولة لعوف بن النعمان الشيباني، انظر: الأمثال لأبي عبيد ص 71.
وقال بعض الحكماء: "وعد الكريم نقد، ووعد اللئيم تسويف"1.
ولقد ابتلي بهذه الخصلة كثير من المسلمين، فما أقل الوفاء بالوعد، وما أكثر الخلف فيه، حتى خيل لكثير من المنهزمين، وممن يحملون الإسلام خطأ المنتسبين إليه ـ أن الخلف من صفات المسلمين، وأن الوفاء بالوعد وإنجازه من صفات الكافرين!
حتى إن بعضهم إذا أراد تأكيد الموعد قال: أعطني وعدا إنجليزيا!
ومن مظاهر إخلاف الوعد الشائعة بين الناس ما يلي:
أـ الخلف مع الأولاد:
فكثير من الوالدين إذا أراد إسكات طفله، أو أراد التخلص منه إذا تعلق به عند الخروج من المنزل أو نحو ذلك ـ تجده يعده بهدية، أو حلوى أو نحو ذلك، ثم يخلف ما وعد به.
فهذا مما يعود الطفل إخلاف الوعد، فينشأ وقد ألف هذه الخصلة السيئة.
ب ـ المزاح الثقيل، أو ما يسمى بـ"المقالب":
فيحصل أن يقوم شخص بدعوة أصحابه في مكان محدد، وفي زمان محدد، وربما كان المكان بعيدا، فيخبرهم بأنه سيحضر لهم الطعام في ذلك المكان والزمان المحددين، مع أنه قد بيت النية بالخلف.
1 بهجة المجالس2/494.
فإذا ما جاءوا لذلك المكان لم يجدوا ما وعدوا به، وربما طال بهم الانتظار، فإذا أيسوا عادوا أدراجهم.
فهذا الرجل جمع بصنيعه هذا عددا من الأعمال القبيحة، فجمع بين الكذب، وقلة الحياء، وإخلاف الوعد، وأذية المسلمين.
جـ التأخر عن الموعد المحدد المرتبطة بأعمال معينة:
فما أكثر وقوع هذا الأمر، وما أقل من يضبط مواعيده، وما أكثر الآثار المترتبة على ذلك؛ فتأخر دقائق عن موعد البدء المحدد معناه ضياع دقائق من وقت العمل، وذلك يؤدي إلى نتيجتين: إما الإسراع في العمل وعدم الدقة فيه؛ لتعويض الزمن الفائت، وإما التعدي على أوقات خصصت لواجبات أخرى.
دـ التأخر في المجيء للمضيف:
فكثيرا ما يعد أحد الناس أضيافه بموعد محدد ليأتوه به، ثم يتأخر الأضياف أو بعضهم مدة طويلة عن الموعد المحدد، وقد يكون التأخر بلا عذر، مما يربك المضيف، ويوقعه في الحرج، كما يتسبب في إضاعة الوقت للمضيف ولمن جاء في الوقت المحدد.
هـ التأخر في إرجاع الكتب المستعارة:
فيحصل كثيرا أن يأتي أحد لصاحب مكتبة، أو طالب علم لديه مكتبة، فيطلب منه أن يعيره كتابا، ويعده بأن يرجعه في أقرب وقت.
فإذا ما أخذ الكتاب، وحصل منه على الفائدة التي يرجوها ـ تأخر في إرجاع الكتاب، وماطل في ذلك كثيرا، بل ربما أضاعه، حتى إن صاحب الكتاب ليستحيي من كثرة التودد إليه، والتردد عليه؛ كي يرجع الكتاب.
بل ربما اضطر إلى أن يشتري نسخة أخرى بدلا من النسخة التي أخذت.
وربما كان ذلك الكتاب جزءا من عدة أجزاء ولا يمكن شراؤه إلا بشراء الأجزاء كاملة.
وـ التأخر في سداد الدين:
وقد مر عند الحديث عن قلة الحياء.
زـ الخلف في العطاء:
وهذا يقع كثيرا، فتجد من الناس من يعد غيره بهديه، أو عطاء، أو نحو ذلك فلا يفي.
وتجد من يعد غيره بعطاء؛ رجاء خدمة يقوم بها، فإذا حصل على بغيته أخلف موعده، وتناسى صاحبه.
وتجد من يعد؛ تخلصا من الإحراج مع أنه قد عزم على عدم الوفاء.
هذه بعض مظاهر الخلف في الوعد التي انتشر في أوساط الناس، والتي تسود بسببها الفرقة، وتحل القطيعة، وتفقد الثقة، فإخلاف الوعد من مساوئ الأخلاق، وهو مما يزري بصاحبه.
قال زياد الأعجم:
لله درك من فتى
…
لو كنت تفعل ما تقول
لا خير في كذب الجوا
…
د وحبذا صدق البخيل1.
وقال الآخر:
وإن جمع الأفات فالبخل شرها
…
وشر من البخيل المواعيد والمطل2
1 بهجة المجالس 2/496.
2 بهجة المجالس 2/496.
وقال ابن حازم:
إذا قلت عن شيء نعم فأتمه
…
فإن نعم دين على الحر واجب
وإلا فقل: لا، تسترح وترح بها
…
لئلا يظن الناس أنك كاذب1.
25ـ الكذب:
فالكذب من الأخلاق المرذولة، والصفات القبيحة؛ فهو خصلة من خصال النفاق، وشعبة من شعب الكفر، وهو عنوان سفه العقل، وآية سقوط الهمة، وخبث الطوية.
والكذاب مهين النفس بعيد عن عزتها المحمودة.
قال الماوردي: "والكذب جماع كل شر، وأصل كل ذم؛ لسوء عواقبه، وخب نتائجه؛ لأنه ينتج النميمة، والنميمة تنتج البغضاء، والبغضاء تؤول إلى العداوة، وليس مع العداوة أمن ولا راحة؛ ولذلك قيل: من قل صدقه قل صديقه"2.
ولقد انتشر الكذب خصوصا في هذه الأزمان المتأخرة، فما أكثر من يكذب في علاقاته ومعاملاته، وما أقل من يصدق في ذلك، مع أن نصوص الشرع جاءت حاثة على الصدق، محذرة من الكذب.
قال ـ تعالى ـ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] .
وقال عليه الصلاة والسلام: "عليكم بالصدق؛ فإن الصدق
1 ثمرات الأوراق لتقي الدين أبي بكر بن علي بن محمد حجة الحموي، ص141.
2 أدب الدنيا والدين، ص 262.
يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب؛ فإن يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا" 1.
ومن مظاهر الكذب المنتشرة بين الناس ـ الكذب على الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والكذب لإفساد ذات البين، والكذب لإضحاك السامعين، والكذب في المطالبات والخصومات، والكذب للتخلص من المواقف المحرجة.
ومن مظاهر الكذب ـ أيضاـ نقل الأخبار الكاذبة، وحذف بعض الحقيقة، والتوسع في باب المصلحة، والمبالغة في المعاريض، والتملق لأرباب الثراء والجاه، والكذب على الأولاد، ونحو ذلك2.
26ـ كثرة المزاح والإسفاف فيه:
فالمزاح يسقط الهيبة، ويخل بالمروءة، ويجرئ السفهاء والأنذال.
قيل في بعض منثور الحكم: "المزاح يأكل الهيبة كما تأكل النار الحطب"3.
وقال بعض الحكماء: "من كثر مزاحه زالت هيبته"4.
1 رواه البخاري7/95، ومسلم 2607 عن عبد الله بن مسعود.
2 انظر: الكذب مظاهره ـ علاجه للكاتب.
3 أدب الدنيا والدين، ص310.
4 أدب الدنيا والدين، ص 310.
وقال ابن عبد البر رحمه الله "وقد كره جماعة من العلماء الخوض في المزاح؛ لما فيه من ذميم العاقبة، ومن التوصل إلى الأعراض، واستجلاب الضغائن، وإفساد الإخاء"1.
وكان يقال: "لكل شيء بدء، وبدء العداوة المزاح".
وكان يقال: "لو كان المزاح فحلا ما ألقح إلا الشر"2.
وقال سعيد بن العاص: "لا تمازح الشريف فيحقد، ولا الدنيء فيجترئ عليك"3.
وقال ميمون بن مهران: "إذا كان المزاح أمام الكلام فآخره الشتم واللطام"4.
وقال أبو هفان:
مازح صديقك ما أحب مزاحا
…
وتوق منه في المزاح جماحا
فلربما مزح الصديق بمزحة
…
كانت لباب عداوة مفتاحا5
وقال الآخر:
لا تمزحن وإذا مزحت فلا يكن
…
مزحا تضاف به إلى سوء الأدب
واحذر ممازحة تعود عداوة
…
إن المزاح على مقدمة الغضب6
وقال آخر:
فإياك إياك المزاح فإنه
…
يجري عليك الطفل والدنس النذلا
ويذهب ماء الوجه بعد بهائه
…
ويورثه من بعد عزته ذلا7.
1 بهجة المجالس لابن عبد البر 2/569.
2 المرجع السابق.
3 المرجع السابق
4 المرجع السابق2/570، وانظر: الآداب الشرعية2/232.
5 المرجعين السابقين.
6 المرجعين السابقين.
7 المرجعين السابقين.
والمقصود أن المزاح لا ينبغي الإكثار منه، ولا الإسفاف فيه.
أما ما عدا ذلك فيحسن؛ لما فيه من إيناس الجليس وإزالة الوحشة، ونفي الملل والسآمة.
وإنما المزاح في الكلام كالملح في الطعام، إن عدم أو زاد على الحد فهو مذموم1.
أفد طبعك المكدود بالجد راحة
…
يجم وعلله بشيء من المزح
ولكن إذا أعطيته المزح فليكن
…
بمقدار ما تعطي الطعام من الملح2.
27ـ الفخر بالنسب:
فالفخر بالنسب خلق جاهلي، ذمه الإسلام، ومقت أهله، وحذر من صنيعهم.
والفخر بالنسب عنوان سفه العقل، وآية دنو الهمة فهل للإنسان الخيرة في اختيار نسبه؟ وهل النسب مما يرفع عند الله؟ إنما الفخر كل الفخر بتقوى الله عز وجل وبالترقي في مراتب الكمال، ومدارج الفضيلة.
لقد رفع الإسلام سلمان فارس
…
كما وضع الكفر الشريف أبا لهب
فكم من الناس ـ مع بالغ الأسف ـ من يفاخر بنسبه، ويترفع على من سواه، ويعقد الولاء والبراء للنسب، مع أن الله عز وجل يقول في محكم التنزيل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى
1 انظر: بهجة قلوب الأبرار لابن سعدي ص 70.
2 أدب الدنيا والدين، ص 311.
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ} ثم بين الحكمة من ذلك قال: {لِتَعَارَفُوا} لا لتفاخروا، ثم بين معيار التفاضل بين الناس فقال:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] .
فليس التفاضل بالجنس، أو اللون، أو العرق، وإنما هو بالتقوى.
قال ابن حزم رحمه الله بعد أن تحدث عن العجب وذكر شيئا من ضروبه: "وإن أعجبت بنسبك فهذه أسوأ من كل ما ذكرنا؛ لأن هذا الذي أعجبت به لا فائدة له أصلا في دنيا ولا آخرة، وانظر هل يدفع عنك جوعة؟ أو يستر لك عورة؟ أو ينفعك في آخرتك؟.
ثم انظر إلى من يساهمك في نسبك، وربما فيما هو أعلى منك ممن نالته ولادة الأنبياء عليهم السلام ثم ولادة الخلفاء، ثم ولادة الفضلاء من الصحابة والعلماء، ثم ولادة ملوك العجم من الأكاسرة والقياصرة، ثم ولادة التبابعة، وسائر ملوك الإسلام، فتأمل غبراتهم وبقاياهم، ومن يدلي بمثل ما تدلي به من ذلك، تجد أكثرهم أمثال الكلاب خساسة، وتلفهم في غاية السقوط، والرذالة، والتبذل، والتحلي بالصفات المذمومة، فلا تغتبط بمنزلة هم فيها نظراؤك أو فوك"1.
ثم قال رحمه الله "ثم لعل الآباء الذين تفخر بهم كانوا فساقا، وشربة خمور، ولاطة، ومتعبثين، ونوكى، أطلقت الأيام
1 الأخلاق والسير في مداواة النفوس، لابن حزم، ص 70-71.
أيديهم بالظلم والجور، فأنتجوا ظلما وآثارا قبيحة تبقي عارهم بذلك الأيام، ويعظم أثمهم والندم عليها يوم الحساب.
فإن كان كذلك فاعلم أن الذي أعجبت به من ذلك داخل في العيب، والخزي، والعار، والشنار، لا في الإعجاب.
وإن أعجبت بولادة الفضلاء إياك فما أخل يدك من فضلهم إن لم تكن أنت فاضلا، وما أقل عناهم عنك في الدنيا والآخرة إن لم تكن محسنا.
والناس كلهم أولاد آدم الذي خلقه الله بيده، وأسكنه جنته، وأسجد له ملائكته ولكن ما أقل نفعه لهم"1.
ثم قال: "وإذا فكر العاقل في أن فضل آبائه لا يقربه من ربه ـ تعالى ـ ولا يكسبه وجاهة لم يحزها هو بسعده أو بفضله في نفسه، ولا مالا ـ فأي معنى للإعجاب بما لا منفعة فيه؟ !
وهل المعجب بذلك إلا كالمعجب بمال جاره؟ وبجاه غيره؟ وبفرس لغيره سبق كان على رأسه لجامه؟
وكما تقول العامة في أمثالها: كالغبي يزهى بذكاء أبيه"2.
وقال: "وقد كان ابن نوح، وأبو إبراهيم، وأبو لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم أقرب الناس من فضل خلق الله ـ تعالى ـ وممن الشرف كله في اتباعهم، فما انتفعوا بذلك"3.
وقال ابن حبان رحمه الله "ما رأيت أحدا أخسر صفقة ولا أظهر حسرة، ولا أخيب قصدا، ولا أقل رشدا، ولا أحمق شعارا، ولا
1 الأخلاق والسير، ص 71-72.
2 الأخلاق والسير، ص 71-72.
3 الأخلاق والسير، ص 71-72.
أدنس وثارا من المفتخر بالآباء الكرام، وأخلاقهم الجسام، مع تعريه عن سلوك أمثالهم، وقصد أشباههم، متوهما أنهم ارتفعوا بمن قبلهم، وسادوا بمن تقدمهم.
هيهات أنى يسود المرء على الحقيقة إلا بنفسه، وأنى ينبل في الدارين إلا بكده"1.
قال أحد الشعراء:
أيها الطالب فخرا بالنسب
…
إنما الناس لأم ولأب
هل تراهم خلقوا من فضة؟
…
أو حديد أو نحاس أو ذهب
أو ترى فضلهم في خلقهم
…
هل سوى لحم وعظم وعصب
إنما الفضل بحلم ارجح
…
وبأخلاق كرام وأدب
ذاك من فاخر في الناس به
…
فاق من فاخر منهم وغلب2
وقال الآخر:
إن لم تكن بفعال نفسك ساميا
…
لم يغن عنك سمو من تسمو به
ليس القديم على الجديد براجع
…
إن لم تجده آخذا بنصيبه3
وقال الآخر:
ليس الكريم بمن يدنس عرضه
…
ويرى مروءته تكون بمن مضى
1 روضة العقلاء، ص230.
2 روضة العقلاء، ص 220ـ221، وتنسب هذه الأبيات لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه انظر: ديوان علي جمع نعيم زرزور ص 26.
3 روضة العقلاء، ص230.
حتى يشيد بناءه ببنائه
…
ويزين صالح ما أتوه بما أتى1.
28ـ قلة المراعاة لأدب المحادثة:
فللمحادثة آداب يحسن مراعاتها والتحلي بها، ويقبح التفريط فيها، والإخلال في شأنها.
والتقصير في هذا الجانب يعد ضربا من ضروب سوء الخلق.
ومن المظاهر لقلة المراعاة لأدب المحادثة مقاطعة المتحدث، والاستخفاف بحديثه، وترك الإصغاء إليه، والمبادرة إلى تخطئته أو تكذيبه، ورفع اليدين في وجهه، والقيام عنه قبل أن يكمل حديثه.
ومنها الثرثرة، وحب الاستئثار بالحديث، وكثرة امتداح النفس.
ومنها قلة المراعاة لمشاعر الآخرين، ومواجهتهم بما يكرهون، والحديث بما لا يناسب المقام والحال.
ومنها بذاءة اللسان، والتفحش بالقول، واستعمال العبارات المستكرهة صراحة دون تكنية.
ومنها رفع الصوت بلا داع، والغلظة في الخطاب، والشدة في العتاب.
ومنها التقعير في الكلام، والخوض فيما لا طائل تحته، والكلف في المعارضة والخلاف.
ومنها الجدال والمراء، والخصومة، واللداد2.
1 روضة العقلاء، ص230.
2 انظر: تفصيل ذلك في: أخطاء أدب المحادثة والمجالسة للكاتب.
29ـ قلة المراعاة لأدب المجالس:
ومن مظاهر ذلك دخول المجلس والخروج منه دون إذن، وترك السلام حال الدخول وحال الخروج.
ومنها التصدر للمجالس لمن ليس أهلا لذلك.
ومنها قلة التفسح في المجالس، والتفريق بين اثنين متجالسين دون إذنهما، والجلوس في مجلس الرجل إذا قام منه وهو يريد الرجوع إليه.
ومنها الجلوس في الطرقات دون أداء حقها، والجلوس على هيئة تشعر بقلة الأدب كالاضطجاع، ورفع الرجل في وجه المتكلم ونحو ذلك.
ومنها القيام بما ينافي الذوق في المجالس كالتجشؤ، والتمخط، والتثاؤب، والقهقهة، ونحو ذلك.
ومنها تناجي الجماعة دون الواحد، ومنها التقصير في السنن الواردة في المجلس كتشميت العاطس، والاستغفار في آخره.
ومنها مزاولة المكرات في المجالس كالغيبة والنميمة والتدخين ونحو ذلك، ومنها مداهنة أهل المجلس وترك الإنكار عليهم1.
30ـ سوء التعامل مع الوالدين2:
وهذا الأمر يأخذ صورا كثيرة، فمن ذلك نهرهما، وزجرهما، ورفع الصوت عليهما، والتأفف والتضجر من أوامرهما.
1 انظر: المرجع السابق.
2 انظر: عقوق الوالدين للكاتب
ومن ذلك العبوس وتقطيب الجبين أمامهما.
ومن ذلك احتقارهما، وتسفيه أحلامهما، ووصفهما بالجهل، والحمق، والغباء.
ومن ذلك الأمر عليهما، وترك مساعدتهما.
ومن ذلك ذمهما، وعيبهما أمام الناس، فمن الناس من إذا أخفق في دراسته أو نحو ذلك ألقى باللائمة والتبعة على والديه، وزعم أنهما سبب إخفاقه؛ لأنهما لم يحسنا تربيته.
ومن ذلك سبهما، وشتمهما إما مباشرة وإما بالتسبب.
ومن ذلك البراءة منهما، والاستحياء من الانتساب إليهما، وطردهما من المنزل، أو الذهاب بهما إلى دور العجزة.
وأقبح ما في ذلك قتلهما، والتخلص منهما؛ رغبة في الميراث أو نحو ذلك عياذا بالله.
31ـ سوء العشرة مع الزوجة:
فهناك من يتعامل مع سائر الناس بأدب، ورقة، وأريحية.
فتراه في المجالس بشوشا، حسن الخلق، ينتقي من الكلام أطايبه، ومن الحديث أعذبه.
فإذا ما دخل المنزل تبدلت حاله، وذهبت وداعته، وتولت سماحته، وحلت غلظته، وبذاءته، وفظاظته، فانقلب أسدا هصورا على زوجته الضعيفة المسكينة.
فتراه يسيء الأدب مع زوجته، ويحملها مسؤولية كل شيء،
ويغلظ في عتابها عند أدنى خطأ، ويهددها بالطلاق عند كل صغيرة وكبيرة، وربما قصر عليها في النفقة الواجبة.
ولا ريب أن هذا الصنيع دليل على ضعة النفس، وحقارة الشأن، وضعف الإيمان.
وإلا فإن الحازم العاقل ذا الدين والمروءة يتودد لأهله، ويتعطف عليهم، ويحسن معاشرتهم.
قال عليه الصلاة والسلام: "أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا، وخياركم خياركم لنسائهم"1.
32ـ سوء الخلق من بعض الزوجات:
ففي مقابل ما مضى نجد أن بعض الزوجات لا تحسن التبعل لزوجها، ولا تقوم بحقوقه كما أراد الله منها.
بل تراها تسيء الأدب معه، وترفع صوتها عليه، وتثقل كاهله بكثرة الطلبات، وتستنزف ماله بكثرة الإغراق بالكماليات.
بل ربما عوقته وخذلته عن بره بوالديه، وأعانته على القطيعة والعقوق.
33ـ سوء معاملة الخدم والعمال:
فما أكثر من يسيء الأدب مع الخدم والعمال، فتراه يحتقرهم،
1 أخرجه أحمد2/250ـ472، والترمذي 1162 وابن حبان 9/483 رقم 4176 والبغوي في شرح السنة9/180 رقم 2341 كلهم عن أبي هريرة وقال الترمذي: حسن صحيح، وصححه أحمد شاكر في شرحه للمسند 19/128 رقم 10110، وصححه الألباني في الصحيحة 284.
وينتقصهم، ولا يراهم إلا هملا مضاعا، أو لقى مزدرى، فلا يسلم عليهم إذا مر بهم، ولا يرد عليهم السلام إذا سلموا، بل ربما مد أحد العمال يده؛ ليسلم عليه، فيشيح بوجهه عنه، ويتركه مادا يده بلا رد.
فكم في هذا العمل من كسر لنفس هذا المسكين.
ومن الناس من يحملهم ما لا يطيقون، ويؤخر رواتبهم لمدة طويلة، ويحسم من رواتبهم عند أدنى هفوة أو زلة.
وهذا الأمر لا يصدر من ذي خلق ودين ومروءة.
قال ابن حزم رحمه الله "واعلم أن التعسف، وسوء الملكة لمن خولك الله ـ تعالى ـ أمره من رقيق أو رعية يدلان على خساسة النفس، ودناءة الهمة، وضعف العقل؛ لأن العاقل الرفيع النفس، العالي الهمة إنما يغلب أكفاءه في القوة، ونظراءه في المنعة.
وأما الاستطالة على من لا يمكنه المعارضة فسقوط في الطبع، ورذالة في النفس والخلق، وعجز ومهانة.
ومن فعل ذلك فهو بمنزلة من يتبجح بقتل جرذ، أو بقتل برغوث، أو بفرك قملة، وحسبك بهذا ضعة وخساسة"1.
34ـ سوء الأدب من بعض الخدم والعمال:
فكما أن هناك تقصيرا في حق الخدم والعمال ـ كما مر ذكره ـ فكذلك هناك تقصير من بعض الخدم والعمال.
فمنهم من إذا أكرمه رئيسه أو كفيله، فرق لحاله، وأحسن إليه،
1 الأخلاق والسير، ص 73.
وسهل مهمته، ولم يكلفه ما لا يطيق ـ قابل الإحسان بالإساءة، والمعروف بالجحود والنكران.
فتجده يتمرد على رئيسه أو كفيله، فيخل بالأمانة، ويقصر في العمل.
ولو أن كلا الطرفين راقب الله ـ جل وعلا ـ وحرص على أداء ما له وما عليه ـ لاسترحا جميعا، ولقلت المشكلات بينهما، ولنزلت الخيرات والبركات في ساحتهما.
35ـ التقصير في حقوق الإخوان:
فالإخوان لهم حقوق كثيرة، يحسن بالمرء مراعاتها والقيام بها، ويقبح به التفريط فيها والتهاون في أدائها.
ومع ذلك فكثير من الناس لا يبالي بتلك الحقوق، ولا يبالي في التقصير فيها.
ومن مظاهر التقصير في هذا الشأن ما يلي:
أـ قلة تعاهد الإخوان:
فمن الناس من لا يتعاهد إخوانه، ولا يسأل عن أحوالهم، ولا يحرص على زيارتهم وصلتهم، ولا يسعى في تجديد المودة وتقوية العلاقة معهم.
وهذا لا يليق بالعاقل.
قال ابن حبان رحمه الله "الواجب على العاقل إذا رزقه الله ود امرئ مسلم صحيح الوداد محافظ عليه ـ أن يتمسك به، ثم يوطن نفسه على صلته به إن صرمه، وعلى الإقبال عليه إن صد عنه، وعلى
البذل له إن حرمه، وعلى الدنو منه إن باعده"1.
ب ـ التنكر وقلة الوفاء:
فمن الناس من لا يعرف إخوانه إلا في الرخاء، وفي حال اليسار.
فإذا وقع أحد إخوانه في شدة أو ضائقة، واحتاج لمعروفه ومساعدته ـ تنكر له، وخذله، ونسي ما كان بينهما من مودة.
ويصدق على هؤلاء قول القائل:
وإن من الإخوان إخوان كشرة
…
وإخوان حياك الإله ومرحبا
وإخوان كيف الحال والأهل كله
…
وذلك لا يسوي نقيرا مترّبا
جواد إذا استغنيت عنه بماله
…
يقول: إلى القرض والقرض فاطلبا
وإن أنت حاولت الذي خلف ظهره
…
وجدت الثريا منه في البعد أقربا2
ومن التنكر وقلة الوفاء ما تجده عند بعض الناس، فما أن ينال عرضا من أعراض الدنيا ـ كمال، أو جاه، أو منصب ـ إلا ويتنكر لأصحابه القدامى، وينساهم، أو يتناساهم.
وما هذا من أخلاق الكرام.
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا
…
من كان يألفهم في المنزل الخشن
ج ـ إيذاؤهم في السفر:
فكثير من الناس لا تظهر خلائقه، ولا تتميز طرائقه إلا في السفر؛ فالسفر يسفر عن أخلاق الرجال.
1 روضة العقلاء، ص 103.
2 روضة العقلاء، ص 105.
فإذا سافر مع أصحابه آذاهم، وأكثر الخلاف معهم، وسعى فيما يكدر عليهم، ويعكر صفوهم.
ومن الناس من لا يتكلم ولا يقترح، وربما إذا استشير لم يشر، بل يترك الأمر لصحبه، فإذا أصابوا سكت، وإذا اجتهدوا في أمر ما فأخطأوا ـ كأن يضلوا الطريق أو نحو ذلك ـ أمطر عليهم وابلا من اللوم والتقريع، وأصبح يكرر من أمثاله قوله:
لو فعلتم كذا وكذا لكان أنفع وأجدى، ولو أنكم سلكتم الطريق الفلاني لما حصل ما حصل، وهكذا
…
36ـ سوء الأدب مع الجيران:
فالجار له حق عظيم، ومكانة عالية، وقد بين الله في محكم تنزيله عظم حق الجار، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النسا:36] .
وقال عليه الصلاة والسلام: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"1.
ومع عظم تلك المكانة للجار في الإسلام ـ إلا أن هناك تفريطا كبيرا يقع في هذا الجانب؛ وذلك أن كثيرا من الناس لا يرعى حق الجار، ولا يقدره قدره، بل يسيء إليه، ويؤذيه بأنواع من الأذى.
1 رواه البخاري 7/78، ومسلم 624.
فمن الناس من لا يعرف جاره الملاصق لبابه، وربما دامت الجيرة سنوات عديدة وهم لم يتعارفوا.
ومن الناس من يضايق جيرانه بإلقاء الزبل أمام أبوابهم، أو بإيقاف سيارته بمحاذاة باب الجيران مما يشق معه دخولهم إلى المنزل وخروجهم منه.
ومن الناس من يريق الماء الكثير أمام بيت الجيران.
ومنهم من يؤذيهم بالروائح الكريهة، ورفع الأصوات، وإزعاجهم وقت راحتهم.
ومنهم من يقوم أبناؤه بإثارة المشكلات مع أبناء الجيران.
ومع ذلك لا يكف أذاهم عن الجيران، بل ربما دافع عنهم.
وأقبح ما في ذلك تتبع عورات الجار والنظر إلى محارمه عبر سطح المنزل، أو عبر النوافذ المطلة عليه.
فذلك العمل يعد من أقبح الخصال وأسوئها، والعرب كانت تأنف هذه الخصلة، وتفاخر بمحاماتها عن الجار ورعايتها لحقه.
قال مسكين الدارمي:
ناري ونار الجار واحدة
…
وإليه قبلي تنزل القدر
ما ضر جار لي أجاوره
…
ألا يكون لبيته ستر1.
1 الشعر والشعراء لابن قتيبة، ص 132.
بل إن أهل الجاهلية يترفعون عن النظر إلى محارم الجيران، ويرون ذلك الترفع من المحامد التي يفاخرون بها.
قال عنترة:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي
…
حتى يواري جارتي مأواها1.
هذا ما تيسر تقييده من مظاهر سوء الخلق.
1 ديوان عنترة، ص 76.