الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
معالم المداهنة
وبعد اتضحت بعض معالم المداراة يحسن أن توضح بعض معالم المداهنة؛ لأن الأشياء إنما تتميز بضدها، فإليك أيها القارئ بعض تلك المعالم.
1ـ المداهنة هي إظهار الرضا بما يصدر من الظالم أو الفاسق من قول باطل، أو عمل مكروه، فهي بلادة في النفس، واستكانة للهوى، وقبول ما لا يرضى به ذو دين، أو عقل، أو مروءة.
وأصل المداهنة من الدهان، وهو الذي يظهر على الشيء، ويستر باطنه.
2ـ المداهنة خلق قذر، لا ينحط فيه إلا من قل في العلم وزنه، أو من نشأ نشأة صغار ومهانة.
3ـ تضم المداهنة بين جناحيها الكذب، وإخلاف الوعد.
أما الكذب فلأن المداهن يصف الرجل بغير ما يعرفه منه، ومن دخل الكذب من باب سهل عليه أن يأتيه من أبواب متفرقة.
وأما أخلاف الوعد فلأن المداهن يقصد إلى إرضاء صاحبه في الحال، فلا يبالي أن يعده بشيء وهو عازم على أن لا يصدق في وعده.
4ـ ليس من الصعب على المداهن وقد مرد على الكذب أن يخلف الوعد، ويختلق لإخلافه عذرا، وهذا الاختلاف لا يرتكبه الراسخ في كرم وإن كلفه الوفاء بالوعد أمرا جللا.
قال المثقب العبدي:
حسن قول نعم من بعد لا
…
وقبيح قول لا بعد نعم
إن لا بعد نعم فاحشة
…
فبـ"لا" فابدأ إذا خفت الندم
وإذا قلت نعم فاصبر لها
…
بنجاح القول إن الخلف ذم
واعلم أن الذم نقص للفتى
…
ومتى لا يتق الذم يذم1.
5ـ المداهن لا يتريث في أن يعد؛ لأنه لا يتألم من أن يخلف، ولا يصعب عليه أن يصور من غير الواقع عذرا.
أما الراسخ في الفضل فلا يعد إلا عند العزم على أن يصدق فيما وعد، فإن وقف أمامه عائق كشف لك عن وجهه الحق، فإذا لم يساعده الحال على إنجاز الوعد لم يفته الصدق فيما يلقيه إليك من عذر.
6ـ من المداهنة أن تثني على الرجل في وجهه، فإذا انصرفت عنه أطلقت لسانك في ذمه.
7ـ من المداهنة أن يدخل الرجل على من يضطره الحال إلى الثناء عليه مع استغنائه عن الدخول عليه، ثم يبدأ بالثناء عليه وإطرائه.
أما إذا اضطر إلى الدخول على ذي قوة لا يخلص من بأسه إلا أن يسمعه شيئا من الإطراء ـ فهو في سعة أن يطريه بمقدار ما يخلص من بأسه، ولا تلحقه هذه الحالة بزمرة المداهنين.
1 المفضليات للمفضل الضبي تحقيق أحمد شاكر وعبد السلام هارون، ص293.
8ـ من المداهنة ـ بل من أسوأ المداهنة ـ أن يلاقي المداهن الرجلين بينهما عداوة، فيغري بعضهما ببعض، ويظهر لكل واحد منها الرضا عن معاداته لصاحبه، ويوافقه على دعوى أنه المحق، وأن صاحبه المبطل.
9ـ من المداهنة أن يجعل المداهن لسانه طوع بغية الوجيه: فتراه يسبق هوى الوجيه، ويعجل إلى قول ما يشتهيه الوجيه، فيمدح ما يراه الوجيه حسنا، ويذم ما يراه الوجيه سيئا، بغض النظر عن قناعة هذا المداهن من عدمها.
قال شوقي في إحدى حكاياته الشعرية قصيدة عنوانها "نديم الباذنجان" قال فيها:
كان لسلطان نديم واف
…
يعيد ما قال بلا اختلاف
وقد يزيد في الثناء عليه
…
إذا رأى شيئا حلا لديه
وكان مولاه يرى ويعلم
…
ويسمع التمليق لكن يكتم
فجلسا يوما على الخوان1
…
وجيء في الأكل بباذنجان
فأكل السلطان منه ما أكل
…
فقال: هذا في المذاق كالعسل
قال النديم: صدق السلطان
…
لا يستوي شهد2 وباذنجان
هذا الذي غنى به الرئيس3
…
وقال فيه الشعر جالينوس
يذهب ألف علة وعلة
…
ويبرد الصدر ويشفي الغلة
قال4: ولكن عنده مراره
…
وما حمدت مرة آثاره
1 الخوان: المأدبة.
2 الشهد: العسل.
3 الرئيس: ابن سينا.
4 يعني السلطان.
قال: نعم مر وهذا عيبه
…
مذ كنت يا مولاي لا أحبه
هذا الذي مات به بقراط
…
وسم في الكأس به سقراط
فالتفت السلطان فيمن حوله
…
وقال: كيف تجدون قوله
قال لنديم: يا مليك الناس
…
عذرا فما في فعلتي من باس
جعلت كي أنادم السلطانا
…
ولم أنادم قط باذنجانا1.
هذه هي حال أهل المداهنة، يراوغون، ويخاتلون، ويخادعون، ويكذبون، ويسترون وجه الحقيقة الأبلج، ولا يبالون بما يترتب على ذلك من عواقب.
أما الذين يعرفون ما في المداهنة من شر، ويحزنهم أن يظهر الشر على من في استطاعته الخير ـ فيربأون بألسنتهم أن تساير في غير حق، ويؤثرون نصح الوجيه على أن يزينوا له ما ليس بزين؛ لعلمهم بأن المداهنة خيانة، وتفريط في أداء الأمانة، وأنها ضرر محض على أصحابها، وعلى من يسايرونه في باطله.
ثم إن الوجيه الحازم يكره المداهنة، ويملأ عينيه باحترام من يوقظه لوجه الخير إذا كان في غفلة منه، ولوجه الشر إذا اشتبه عليه.
كذلك من عظماء الرجال من يبغض المداهنة، ولا يقبل من جليسه مبالغة في مدح، أو مسايرة في باطل.
والأجلاء من علماء الدين، الذين كانوا يداخلون رجال السياسة، فينعقد بينهم التئام او صداقة ـ كانوا يأخذون بسنة
1 الشوقيات4/121.
المداراة، ولم يكونوا فيما نقرأ عنهم يتلطخون برجس المداهنة.
وما شاعت المداهنة في جماعة إلا تقلصت الكرامة في ديارهم، وكانت الاستكانة شعارهم ودثارهم.
ومن ضاعت كرامتهم، وداخلت الاستكانة نفوسهم ـ جالت أيدي البغاة في حقوقهم، وكان الموت أقرب إليهم من حبال أوردتهم.
وإذا كان الأمر كذلك فإن من واجب أساتذة التربية وعادة الإصلاح أن يعنوا بجهاد هذا الخلق المشؤوم حتى ينفوه من أرضنا، وتكون أوطننا ومدارسنا منابت نشء يميزون المداهنة من المداراة، فيخاطبون الناس في رقة، وأدب، وشجاعة، ويحترمون من لا يلوث أسماعهم بالملق، ولا يكتمهم الحقائق، متى اتسع المقام لأن يحدثهم بصراحة.