الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأول: حياة الذهبي ومنزلته العلمية
أولا - بيئة الذهبي ونشأته
قامت دولة المماليك البحرية على أنقاض الدولة الأيوبية بمصر والشام وتمكن المماليك أن يكونوا دولة قوية كان لها أثر في إيقاف التقدم المغولي، وتصفية الإمارات الصليبية في بلاد الشام (1) .
وكانت دمشق في نهاية القرن السابع الهجري ومطلع القرن الثامن قد أصبحت مركزا كبيرا من مراكز الحياة الفكرية، فيها من المدارس العامرة ودور الحديث والقرآن العدد الكثير، عمل على تعميرها حكامها وبعض المياسير من أهلها لا سيما منذ عهد نور الدين زنكي (2) .
وكانت العناية بالدراسات الدينية، من تفسير وحديث وفقه وعقائد، هي السمة البارزة لهذا العصر، ولم بعد هناك اهتمام كثير بدراسة العلوم الصرفة التي كانت قد أصبحت من " الصنائع المظلمة "(3) و " الهذيان "(4) .
(1) راجع عن عصر المماليك: الدكتور علي إبراهيم حسن: " دراسات في تاريخ المماليك البحرية "، ط 2 (القاهرة 1948) والدكتور سعيد عاشور:" العصر المماليكي في مصر والشام "، وغيرهما.
والكتاب الأخير أحسن ما كتب في الموضوع.
(2)
يتضح ذلك من العدد الذي ذكره النعيمي في كتابه " تنبيه الدارس ".
(3)
الذهبي: " تاريخ الإسلام "، الورقة 263 (أيا صوفيا 3008) .
(4)
الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2، الورقة 4.
ثم لا حظنا تباينا شديدا في قيمة الإنتاج الفكري لهذه الفترة وأصالته، فوجدنا الكثير من المؤلفات الهزيلة التي لم تكن غير تكرار لما هو موجود في بطون الكتب السابقة، ووجدنا القليل من المؤلفات التي امتازت بالأصالة والإبداع والمناهج العلمية المتميزة.
وقد زاد من صعوبة الإبداع أن الواحد من العلماء كان يجد أمامة تراثا ضخما في الموضوع الذي يروم التأليف فيه، وهو في وضعه هذا يختلف عن المؤلفين الأولين الذين لم يجابهوا مثل هذا التراث.
وشهدت دمشق في هذا العصر نزاعا مذهبيا وعقائديا حادا، كان الحكام المماليك يتدخلون فيه في كثير من الأحيان، فيناصرون فئة على أخرى (1) .
وكان الأيوبيون قبل ذلك قد عنوا عناية كبيرة بنشر مذهب الإمام الشافعي، فأسسوا المدارس الخاصة به، وأوقفوا عليها الوقوف (2) .
وعنوا في الوقت نفسه بنشر عقيدة الأشعري، واعتبروها السنة التي يجب اتباعها (3) .
لذلك أصبحت للأشاعرة قوة عظيمة في مصر والشام.
وقد أثر ذلك على المذاهب الأخرى، فأصابها الوهن والضعف عدا الحنابلة الذين ظلوا على جانب كبير من القوة، وكانت لهم في دمشق مجموعة من دور الحديث والمدارس (4) .
وكان النزاع العقائدي بين الحنابلة والأشاعرة مضطرما، زاده اعتماد الحنابلة على النصوص في دراسة العقائد، واعتماد الأشاعرة على الاستدلال
(1) ابن كثير: البداية، 14 / 28، 38، 49، وابن حجر:" الدرر " 1 / 61 وغيرهما.
(2)
انظر التفاصيل في كتابنا: المنذري وكتابه " التكملة "، ص 38 فما بعد.
(3)
وكان صلاح الدين أشعريا متعصبا كما هو معروف من سيرته.
(4)
انظر النعيمي:: " تنبيه الدارس " 2 / 126 29.
العقلي والبرهان المنطقي في دراستها (1) .
وبقدر ما ولد هذا التعصب من تمزق في المجتمع، فإنه ولد في الوقت نفسه نشاطا علميا واضحا في هذا المضمار، تمثل في الكتب الكثيرة التي ألفت فيه.
كما ظهر تحيز واضح في كثير من كتابات العصر.
وكان الجهل والاعتقاد بالخرافات والمغيبات سائدا بين العوام في المجتمع الدمشقي.
وكان التصوف منتشرا في أرجاء البلاد انتشارا واسعا، وظهر بينهم كثير من المشعوذين الذين أثروا على العوام أيما تأثير.
بل عمل الحكام المماليك على الاهتمام بهم، وكان لهم اعتقاد فيهم، فكان للملك
الظاهر بيبرس البندقداري " ت 676 هـ " شيخ اسمه الخضر بن أبي بكر بن موسى العدوي، كان " صاحب حال، ونفس مؤثرة، وهمة إبليسية، وحال كاهني "، وكان الظاهر يعظمه، ويزوره أكثر من مرة في الأسبوع، ويطلعه على أسراره، ويستصحبه في أسفاره لاعتقاده التام به (2) .
وانتشر تقديس الأشياخ، والاعتقاد فيهم، وطلب النذور عند قبورهم، بل كانوا يسجدون لبعض تلك القبور، ويطلبون المغفرة من أصحابها (3) .
في هذه البيئة الفكرية والعقائدية المضطربة، ولد مؤرخ الإسلام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز بن عبد الله الذهبي في شهر ربيع الآخر سنة 673 (4) .
وكان من أسرة تركمانية الأصل، تنتهي بالولاء
(1) أبو زهرة: ابن تيمية، ص 25.
(2)
الذهبي: " تاريخ الإسلام " الورقة 36 (أيا صوفيا 3014) .
(3)
المصدر نفسه، الورقة 75 (أيا صوفيا 3007) .
(4)
انظر مثلا: الذهبي: " طبقات القراء "، ص 549، الصفدي:" الوافي "، 2 / 164، و " نكت الهميان "، ص 242، وذكر ابن حجر أن مولده في الثالث من الشهر المذكور (الدرر، 3 / 426) .
إلى بني تميم (1) ، سكنت مدينة ميافارقين من أشهر مدن ديار بكر (2) .
ويبدو أن جد أبيه قايماز قضى حياته فيها (3) ، وتوفي سنة 661 هـ وقد جاوز المئة، قال الذهبي: " قايماز ابن الشيخ عبد الله التركماني الفارقي جد أبي.
قال لي ابن عم والدي علي بن فارس النجار: توفي جدنا عن مئة وتسع سنين.
قلت عمر، وأضر بأخرة، وتوفي سنة إحدى وستين وست مئة " (4) ، وكان قد حج (5) .
وكان جده فخر الدين أبو أحمد عثمان أميا لم يكن له حظ من علم، قد اتخذ من النجارة صنعة له، لكنه كان " حسن اليقين بالله "(6) .
ويبدو أنه هو الذي قدم إلى دمشق، واتخذها سكنا له، وتوفي بعد ذلك بها سنة 683 هـ وهو في عشر السبعين (7) .
أما والده شهاب الدين أحمد، فقد ولد سنة 641 هـ تقريبا، وعدل عن صنعة أبيه إلى صنعة الذهب المدقوق، فبرع بها، وتميز، وعرف بالذهبي، وطلب العلم، فسمع " صحيح البخاري " سنة 666 هـ، من المقداد القيسي،
(1) كتب الذهبي بخطه على طرة المجلد التاسع عشر من " تاريخ الإسلام "(نسخة أيا صوفيا 3012)" تأليف محمد بن أحمد بن عثمان بن قايماز مولى بني تميم ".
(2)
ياقوت: معجم البلدان، 4 / 703، فما بعد.
(3)
لم يذكر الذهبي في نسبته أنه دمشقي، بل قال:" الفارقي "، مما يدل على أنه لم ينتقل إلى دمشق.
وذكر الدكتور صلاح الدين المنجد في مقدمة الجزء الذي طبعه من " سير أعلام النبلاء " أن قايماز هو الذي قدم دمشق، وأشار إلى معجم الشيوخ، ولم نجد لذلك دليلا في مصدره 1 / 15 وانظر معجم الشيوخ (م 1 الورقة 89) .
(4)
الذهبي: أهل المئة فصاعدا، ص 137، و " معجم الشيوخ "، م 1 ورقة 89.
(5)
الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 ورقة 89.
(6)
الذهبي: " معجم الشيوخ " م 1 ورقة 89.
(7)
المصدر نفسه.
وحج في أواخر عمره، وكان دينا يقوم من الليل (1) .
وقد يسرت له صنعته رخاء وغنى، فأعتق من ماله خمس رقاب (2) ، وتزوج من ابنة رجل موصلي الأصل هو علم الدين أبو بكر سنجر بن عبد الله عرف بغناه، وكان " خيرا عاقلا مديرا للمناشير بديوان الجيش..وخلف خمسة عشر ألفا "(3) من الدنانير، وأحله علمه وغناه ومروءته مكانا جعلت خلقا من أهل دمشق يشيعونه يوم وفاته في آخر جمادى الأولى سنة 697 هـ،، يؤمهم قاضي القضاة يومئذ عز الدين ابن جماعة الكناني (4) .
وعرف محمد بابن الذهبي، نسبة إلى صنعة أبيه، وكان هو يقيد اسمه " ابن الذهبي "(5) .
ويبدو أنه اتخذ صنعة أبيه مهنة له في أول أمره، لذلك عرف عند بعض معاصريه ب " الذهبي " مثل الصلاح الصفدي (6) ، وتاج الدين السبكي (7) ، والحسيني (8) ، وعماد الدين ابن كثير (9) ، وغيرهم.
(1) الذهبي: " تاريخ الإسلام "(وفيات 697) نسخة أيا صوفيا 3014، و " معجم الشيوخ "، م 1 ورقة 13، والصفدي:" الوافي "، م 7 ورقة 86.
(2)
كان من بينهم فك أسر امرأتين من أسر الفرنجة من عكا (انظر المصادر في الهامش السابق) .
(3)
الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 ورقة 55 وتوفي سنة 686.
(4)
الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 13.
(5)
ونسبة ب " ابن الذهبي " مقيدة بخطه في معظم الكتب والطباق التي بخطه مثل طبقة سماع كتاب أهل المئة فصاعدا (ص 111 بتحقيقنا)، وطرر المجلدات التي وصلت بخطه من " تاريخ الإسلام " (نسخة أيا صوفيا) وطبقة سماع لكتاب " الكاشف " له (نسخة التيمورية رقم 1936) وجاء في أول " معجم شيوخه ":" أما بعد، فهذا معجم العبد المسكين محمد بن أحمد..ابن الذهبي ".
(6)
" الوافي "، 2 / 163 و " نكت الهميان "، ص 241.
(7)
" طبقات الشافعية الكبرى " 9 / 100.
(8)
" ذيل تذكرة الحفاظ "، ص 34.
(9)
" البداية والنهاية "، 14 / 225.
وعاش طفولته بين أكناف عائلة علمية متدينة، فكانت مرضعته وعمته ست الأهل بنت عثمان، الحاجة أم محمد، قد حصلت على الإجازة من ابن أبي اليسر، وجمال الدين بن مالك، وزهير بن عمر الزرعي، وجماعة آخرين، وسمعت من عمر بن القواس وغيره، وروى الذهبي عنها (1) .
وكان خاله علي قد طلب العلم، وروى عنه الذهبي في " معجم شيوخه "، وقال: " علي بن سنجر بن عبد الله الموصلي، ثم الدمشقي الذهبي الحاج المبارك أبو إسماعيل خالي.
مولده في سنة ثمان وخمسين وست مئة.
وسمع بإفادة مؤدبه ابن الخباز من أبي بكر ابن الأنماطي، وبهاء الدين أيوب الحنفي، وست العرب الكندية.
وسمع معي ببعلبك من التاج عبد الخالق وجماعة.
وكان ذا مروءة وكد على عياله وخوف من الله.
توفي في الثالث والعشرين من رمضان سنة ست وثلاثين وسبع مئة " (2) .
وكان زوج خالته فاطمة، أحمد بن عبد الغني بن عبد الكافي الأنصاري الذهبي، المعرف بابن الحرستاني، قد سمع الحديث، ورواه، وكان حافظا للقرآن الكريم، كثير التلاوة له، وتوفي بمصر سنة 700 (3) هـ.
وطبيعي أن تعتني مثل هذه العائلة المتدينة التي كان لها حظ من العلم بأبنائها، لذلك وجدنا أخاه من الرضاعة علاء الدين أبا الحسن علي بن إبراهيم بن داود بن العطار الشافعي:" 724 654 هـ "(4) يسرع، ويستجيز
(1) الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 ورقة 57، ولدت سنة الأهل سنة 653 هـ وتوفيت سنة 729 هـ.
(2)
الذهبي: " معجم الشيوخ " م 2 ورقة 6.
(3)
المصدر السابق، م 1 ورقة 12.
(4)
الذهبي: " ذيل العبر "، ص 136، و " معجم الشيوخ " م 2 ورقة 1، ابن كثير: = سير 1 / 2
للذهبي جملة من مشايخ عصره في سنة مولده (1) منهم من دمشق: أحمد بن عبد القادر، أبو العباس العامري " 673 609 هـ "(2) ، وابن الصابوني " 680 604 هـ "(3) ، وأمين الدين ابن عساكر " 686 614 هـ "(4) ، وجمال الدين ابن الصيرفي " 678 583 هـ "(5) .
ومن حلب: أحمد بن محمد ابن النصيبي " 692 609 هـ "(6)، ومن مكة: الإمام محب الدين الطبري محدث الحرم ومفتيه " 694 615 هـ "(7) ، وغيره (8) .
ومن المدينة: كافور بن عبد الله الطواشي (9) .
ويبدو أن علاء الدين ابن العطار قد حج في تلك السنة (10) فحصل بعض الإجازات من مكة والمدينة.
وذكر ابن حجر أن الذين أجازوه في هذه السنة " جمع جم (11) " وقال في ترجمة ابن
= " البداية "، 14 / 117، ابن حجر:" الدرر "، 3 / 74 73، النعيمي:" تنبيه الدارس "، 1 / 70 68، 99، 112.
ورأينا لأبي الحسن ابن العطار هذا رسالة في السماع في خزانة كتب جستربتي بدبلن ضمن مجموع برقم 3296.
(1)
ابن حجر: " الدرر "، 3 / 426.
(2)
الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 12.
(3)
المصدر السابق، م 2 الورقة 55.
(4)
المصدر السابق، م 1 الورقة 80.
(5)
المصدر السابق، م 2 الورقة 87.
(6)
المصدر السابق، م 1 الورقة 18.
(7)
الذهبي: " معجم الشيوخ "، م الورقة 8.
(8)
انظر مثلا: " معجم الشيوخ "، م 1 الورقة 90، م 2 الورقة 6، 31، 60 59، 88، وابن حجر:" الدرر "، 3 / 436.
(9)
الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2 الورقة 26.
(10)
المصدر السابق، م 2 الورقة 60 59.
(11)
ابن حجر: " الدرر "، 3 / 426.
العطار: " وهو الذي استجاز للذهبي سنة مولده، فانتفع الذهبي بعد ذلك بهذه الإجازة انتفاعا شديدا "(1) .
ويمضي الطفل إلى أحد المؤدبين هو علاء الدين علي بن محمد الحلبي المعروف بالبصبص، وكان من أحسن الناس خطا، وأخبرهم بتعليم الصبيان، فيقيم في مكتبه أربعة أعوام (2) ، وفي أثناء ذلك كان جده عثمان يدمنه على النطق بالراء يقوم بذلك لسانه (3) .
ولا نعرف في أية سنة ترك المكتب، ولكنه كان في سنة 682 هـ، لم يزل عنده حيث أنشده في هذه السنة شعرا لأبي محمد القاسم الحريري (4) .
وقد اتجه الذهبي بعد ذلك إلى شيخة مسعود بن عبد الله الصالحي، فلقنه جميع القرآن، ثم قرأ عليه نحوا من أربعين ختمة، وكان الشيخ مسعود إمام مسجد الشاغور، وكان خيرا متواضعا برا بصبيانه، لقن خلقا.
وتوفي سنة 720 هـ (5) .
وبدأ الصبي بالحضور إلى مجالس الشيوخ ليسمع كلام بعضهم (6) .
ولما قدم عز الدين الفاروثي، عالم العراق، إلى دمشق سنة 690 هـ، ذهب الفتى وسلم عليه، وحدثه (7) ، مما يدلل على حبه للعلم والعلماء منذ الصغر.
(1) المصدر السابق، 3 / 73.
(2)
الذهبي: " معجم الشيوخ "، م 2 الورقة 11.
(3)
المصدر السابق، م 1 الورقة 89.
(4)
المصدر السابق، م 2 الورقة 11 ومات مؤدبه في حدود سنة 690 هـ.
(5)
الذهبي: " معجم الشيوخ، م 2 الورقة 78.
(6)
المصدر السابق، م 2 الورقة 58.
(7)
الذهبي: " معرفة القراء "، ص 544. وتوفي الفاروثي سنة 694 هـ.