الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْفَصْل الْعَاشِر
فِي كَيْفيَّة اسْتِخْرَاج الْأَحْكَام من أدلتها
قد تقدم أَن كل فعل مدح أَو مدح فَاعله لأَجله أَو وعد عَلَيْهِ بِخَبَر عَاجل أَو آجل فَهُوَ مَأْمُور بِهِ لكنه مردد بَين النّدب والإيجاب
وكل فعل ذمّ أَو ذمّ فَاعله لأَجله أَو وعد عَلَيْهِ بشر عَاجل أَو
آجل فَهُوَ محرم وكل فعل ذمّ تَركه أَو ذمّ تَاركه لأجل تَركه أَو وعد على تَركه بشر عَاجل أَو آجل فَهُوَ وَاجِب
وَقد يَقع فِي الْأَدِلَّة مَا يدل على التَّكْلِيف إِجْمَالا كالتبشير والإنذار إِذا لم يعلقا بِفعل معِين كَقَوْلِه {إِنَّا أَرْسَلْنَاك بِالْحَقِّ بشيرا وَنَذِيرا} وَكَقَوْلِه فِي الْقُرْآن {بشيرا وَنَذِيرا} وَكَقَوْلِه {إِن عَذَاب رَبك لوَاقِع} فالبشارة تدل على الْأَمر من غير تعْيين مَأْمُور بِهِ والنذارة تدل على النَّهْي من غير تعْيين مَنْهِيّ عَنهُ
وَمن الْأَدِلَّة مَا يدل على الْأَمر بِنَوْع من الْفِعْل أَو النَّهْي عَن نوع من الْفِعْل وَمِنْهَا مَا تنتظم المأمورات بأسرها والمنهيات بأسرها وَمِنْهَا مَا يدل على الْجَمِيع
وَهَذِه الدلالات تَارَة تكون بالصيغة وَتارَة تكون باللزوم كَمَا تقدم فَمن ذَلِك قَوْله تَعَالَى {أَوْفوا بِالْعُقُودِ} عَام لجَمِيع التكاليف الْمُؤَكّدَة على قَول وَلِجَمِيعِ عُقُود الْمُعَامَلَات على القَوْل
وَمِنْه قَوْله {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى وَلَا تعاونوا على الْإِثْم والعدوان} عَام للتعاون على كل بر وتقوى وعام للنَّهْي عَن التعاون على كل إِثْم وعدوان
وَمِنْه قَوْله {أحلّت لكم بَهِيمَة الْأَنْعَام} عَام لجَمِيع النعم
وَقَوله {قل أحل لكم الطَّيِّبَات} عَام فِي جَمِيع المستلذات إِلَّا مَا اسْتثْنى وَلَا يجوز حمل الطَّيِّبَات هُنَا على الْحَلَال إِذْ لَا جَوَاب فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَصح أَن يُقَال يَسْأَلُونَك مَاذَا أحل لَهُم قل أحل لكم الْحَلَال
وَقَوله {بلغ مَا أنزل إِلَيْك} عَام فِي كل جملَة
وَقَوله {اتبعُوا مَا أنزل إِلَيْكُم من ربكُم} عَام فِي اتِّبَاع جَمِيع الْمنزل الْمُمكن اتِّبَاعه
وَقَوله {وذروا ظَاهر الْإِثْم وباطنه} عَام فِي جَمِيع الْإِثْم بترك كل وَاجِب وارتكاب كل مَنْهِيّ محرم مِنْهُ
وَمِنْه {قل إِنَّمَا حرم رَبِّي الْفَوَاحِش} الْآيَة وَقَوله {إِن الله يَأْمر بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَان} الْآيَة فَهَذِهِ أَمْثِلَة مَا يعم بِجِهَة صيغته
وَأما مَا يعم بِدلَالَة اللُّزُوم كَقَوْلِه تَعَالَى {فَمن يعْمل مِثْقَال ذرة خيرا يره وَمن يعْمل مِثْقَال ذرة شرا يره} أَي بر جزاءه وَذَلِكَ عَام فِي جَمِيع الخيور والشرور وَقَوله {فوربك لنسألنهم أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يعْملُونَ} عَام فِي كل عمل تعلق بِهِ التَّكْلِيف وَقَوله {الْيَوْم تجزى كل نفس بِمَا كسبت}
{يَوْم تَجِد كل نفس مَا عملت} الْآيَة {ينبأ الْإِنْسَان يَوْمئِذٍ بِمَا قدم وَأخر} {فينبئكم بِمَا كُنْتُم تَعْمَلُونَ} {مَا لهَذَا الْكتاب لَا يُغَادر صَغِيرَة وَلَا كَبِيرَة إِلَّا أحصاها} {وكل إِنْسَان ألزمناه طَائِره فِي عُنُقه} الْآيَة {وكل شَيْء أحصيناه فِي إِمَام مُبين} {وكل شَيْء فَعَلُوهُ فِي الزبر} {وكل شَيْء أحصيناه كتابا} {وَنَضَع الموازين الْقسْط ليَوْم الْقِيَامَة} الْآيَة {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم} {وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك} {وَلَا تَعْمَلُونَ من عمل إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُم شُهُودًا إِذْ تفيضون فِيهِ} {وَالله بَصِير بِمَا تَعْمَلُونَ} {فَإِن الله كَانَ بعباده بَصيرًا} {وَلَا تحسبن الله غافلا عَمَّا يعْمل الظَّالِمُونَ} وأمثلة ذَلِك كَثِيرَة
وَأما كَيْفيَّة انتزاع الْأَحْكَام من أدلتها فَمثل قَوْله تَعَالَى {قد أَفْلح الْمُؤْمِنُونَ} إِلَى قَوْله {أُولَئِكَ هم الوارثون} فَإِنَّهُ يدل على أحد عشر حكما مِنْهَا إباحتان
إِحْدَاهمَا لِلزَّوْجَاتِ وَالثَّانيَِة لملك الْأَيْمَان
وَمِنْهَا تَحْرِيم مَا وَرَاء الزَّوْجَات والمملوكات
وَمِنْهَا ثَمَانِي مأمورات الْإِيمَان والخشوع وَترك اللَّغْو وَفعل الزَّكَاة وَحفظ الْفروج ورعاية العهود والأمانات والمحافظة على الصَّلَوَات
فَهَذِهِ كلهَا مأمورات فَإِن الله جل جلاله افتتحها بالمدح بالفلاح وختمها بالوعد بالفردوس ثمَّ اسْتثْنى الزَّوْجَات والمملوكات من الْمَدْح بِحِفْظ الْفروج عَنْهُن فخرجن من الْمَدْح بالتحفظ عَن وطئهن فَلَمَّا خرجن من حيّز الْمَدْح جَازَ أَن يكون وطئهن مُبَاحا وَأَن لَا يكون فَأخْرجهُ من حيّز النَّهْي إِلَى حيّز الْإِبَاحَة بقوله {فَإِنَّهُم غير ملومين} ثمَّ بَين أَن مَا عداهن محرم بقوله {فَمن ابْتغى وَرَاء ذَلِك فَأُولَئِك هم العادون}
وَقد تدل اللَّفْظَة الْوَاحِدَة على حكمين أَحدهمَا مُسْتَفَاد من الدّلَالَة الصِّيغَة وَالْآخر مُسْتَفَاد من دلَالَة اللُّزُوم كَقَوْلِه تَعَالَى {وَبشر الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات} يدل على أَمر الرَّسُول بالتبشير وعَلى أَمر المخاطبين بِالْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح لتَعلق الْبشَارَة بهما وَقَوله {وَقل للَّذين لَا يُؤمنُونَ اعْمَلُوا على مكانتكم} يدل على أَمر الرَّسُول بإبلاغهم هَذَا القَوْل وعَلى تَحْرِيم الْعَمَل على مكانتهم
فَإِن قَوْله {اعْمَلُوا} أَمر تهديد ووعيد وَكَذَلِكَ قَوْله {قل أطِيعُوا الله}
أَمر للرسول باقتضاء الطَّاعَة بِهَذِهِ الصِّيغَة وَأمر لَهُم بإيقاع الطَّاعَة
وَقد تسمى مأمورات كَثِيرَة باسم وَاحِد كالصلوات وَالْكَفَّارَات والديات فَتكون أَرْكَانهَا وشرائطها وسننها كل وَاحِد مِنْهَا مَأْمُور بِهِ
فتشتمل كَفَّارَة الظِّهَار على أعداد مِنْهَا الْعتْق وَمِنْهَا صَوْم شَهْرَيْن كَامِلين أَو ناقصين أَو أَحدهمَا كَامِل وَالْآخر نَاقص وَبِتَقْدِير كمالهما يتضمنان شَيْئَيْنِ عبَادَة هِيَ صومهما وَتِسْعَة وَخمسين تتابعا بَين صومهما وإطعام سِتِّينَ مدا واقتضاء ذَلِك مائَة وَثَمَانِينَ مَأْمُورا
وتشتمل كَفَّارَة الْيَمين على أَرْبَعَة وَعشْرين مَأْمُورا الْعتْق وَكِسْوَة عشرَة مَسَاكِين أَو إطعامهم أَو صَوْم ثَلَاثَة أَيَّام
وتشتمل كَفَّارَة التَّمَتُّع على أحد عشر مَأْمُورا الْهَدْي وَصَوْم عشرَة أَيَّام
وتشتمل كَفَّارَة الْحلق على عشر مأمورات الْهَدْي وَصِيَام ثَلَاثَة أَيَّام وإطعام سِتَّة مَسَاكِين
وأقصى مَا تشْتَمل عَلَيْهِ آيَة كَفَّارَة الْقَتْل مِائَتَان وَخَمْسَة وَخَمْسُونَ مَأْمُورا فِي قتل الْمُؤمن الْعتْق وَالدية فَذَلِك مائَة مَأْمُور ومأمور لِأَن الدِّيَة مائَة بعير وَقد تنقص الْمَرْأَة عَن ذَلِك نصفه وَمِنْهَا فِي قتل الْمُؤمن بَين الْكفَّار عتق رَقَبَة وأقصى مَا فِي قتل الْمعَاهد عتق رَقَبَة وَثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ بَعِيرًا وَثلث بعير إِن كَانَ يَهُودِيّا أَو نَصْرَانِيّا وَقد تنقص عَن ذَلِك
إِذا كَانَ مجوسيا وأقصى صَومهَا سِتُّونَ يَوْمًا ومتابعتها تِسْعَة وَخَمْسُونَ مُتَابعَة كَمَا ذكرته فِي الظِّهَار
ويشتمل قَوْله {واذْكُرُوا الله فِي أَيَّام معدودات} على خَمْسَة
وَأَرْبَعين مَأْمُورا لِأَن الْأَصَح أَنه يكبر خلف خمس عشرَة صَلَاة ثَلَاثًا ثَلَاثًا وَذَلِكَ خمس وَأَرْبَعُونَ تَكْبِيرَة
ويشتمل قَوْله تَعَالَى {كتب عَلَيْكُم الصّيام} على ثَلَاثِينَ مَأْمُورا وَإِنَّمَا ذكرت هَذِه الْأَمْثِلَة للتدريب فِي اسْتِخْرَاج الْأَحْكَام من أدلتها وَسَوَاء كَانَت مجملة أَو مبينَة سَوَاء كَانَت مُفْردَة أَو مكررة
ومعظم أَي الْقُرْآن لَا يَخْلُو عَن أَحْكَام مُشْتَمِلَة على آدَاب حَسَنَة وأخلاق جميلَة جعلهَا الله نصائح لخلقه مقربات إِلَيْهِ مزلفات لَدَيْهِ رَحْمَة لِعِبَادِهِ فطوبى لمن تأدب بآداب الْقُرْآن وتخلق بأخلاقه الجامعة لخير الدُّنْيَا وَالْآخِرَة وَقد كَانَ خلق رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْقُرْآن أَي آدَاب الْقُرْآن وَقَالَ تَعَالَى {وَإنَّك لعلى خلق عَظِيم} وَأول مَا أنزل الله إِلَيْهِ الْأَمر بِقِرَاءَة الْقُرْآن ومذمة الْغنى والطغيان والتخويف بِالرُّجُوعِ إِلَى الله تَعَالَى بقوله {إِن إِلَى رَبك الرجعى}
ثمَّ ختم كِتَابه بنصح جَامع فَقَالَ تَعَالَى {وَاتَّقوا يَوْمًا ترجعون فِيهِ إِلَى الله} أَي اتَّقوا عَذَاب يَوْم ترجعون فِيهِ إِلَى جَزَاء الله وَإِنَّمَا يتقى
عَذَاب ذَلِك الْيَوْم بِفعل كل وَاجِب وَترك كل محرم {ثمَّ توفى كل نفس مَا كسبت} أَي جَزَاء مَا كسبت وَهَذَا عَام فِي اكْتِسَاب الْخَيْر وَالشَّر {وهم لَا يظْلمُونَ} أَي لَا ينقص من حَسَنَات محسنهم وَلَا يُزَاد على سيئات مسيئهم أَمر بالتقوى ثمَّ رغب ورهب بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ توفيه أجور الْخَيْر وَالشَّر
{كتاب أَنزَلْنَاهُ إِلَيْك مبارك} أَي كثير خَيره {ليدبروا آيَاته} أَي ليتفهموا آيَاته {وليتذكر أولُوا الْأَلْبَاب} أَي ليتعظ الْعُقَلَاء بهَا إِذا تدبروها
فسبحان الله مَا أقبح بِالْعَبدِ أَن يُرْسل إِلَيْهِ مَوْلَاهُ برسالة فِيهَا تَعْرِيفه أَسبَاب سخطه وَأَسْبَاب مرضاته ثمَّ لَا يقف عَلَيْهَا وَلَا يلْتَفت إِلَيْهَا وَقد قَالَ بعض الأكابر إِذا سَمِعت الله يَقُول {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} فأصغ إِلَيْهَا فإمَّا خير يَسُوقهُ إِلَيْك أَو شَرّ يصرفهُ عَنْك
{فَأَعْرض عَن من تولى عَن ذكرنَا} {وَمن أعرض عَن ذكري فَإِن لَهُ معيشة ضنكا ونحشره يَوْم الْقِيَامَة أعمى}
اللَّهُمَّ وفقنا لفهم كتابك وَالْعَمَل بِمَا فِيهِ والتخلق بأخلاقه وَالْوُقُوف على أسراره ومعانيه فَإِنَّهُ لَا ينفع شَيْء إِلَّا بقدرتك وَلَا يتم أَمر إِلَّا بإرادتك فأذقنا برد عفوك وحلاوة مغفرتك
اللَّهُمَّ سلوة بك عَن كل شَيْء وإيثارا لَك على كل شَيْء صلى الله عليه وسلم الله سُبْحَانَهُ الله سُبْحَانَهُ رضي الله عنهن رضي الله عنهم
اللَّهُمَّ تمسكا بكتابك وتخلقا بآدابك ووقوفا ببابك وعكوفا على جنابك
اللَّهُمَّ إقبالا عَلَيْك وإصغاء إِلَيْك وأخذا عَنْك وقبولا مِنْك وغنيمة من كل بر وسلامة من كل وزر يَا أرْحم الرَّاحِمِينَ
تمّ الْكتاب وَالْحَمْد الله رب الْعَالمين