الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الثالثة
معنى ظاهر النصوص وحكم القول بأن ظاهرها
مراد أم غير مراد
قال شيخ الإسلام:
"القاعدة الثالثة: إذا قال القائل: ظاهر النصوص مراد، أو ظاهرها ليس بمراد.
فإنه يقال لفظ "الظاهر" فيه إجمال واشتراك، فإن كان القائل يعتقد: أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين، أو ما هو من خصائصهم، فلا ريب أن هذا غير مراد.
ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهراً ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفراً وباطلاً، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه لا يظهر منه إلا ما هو كفر وضلال.
والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين: تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ حتى يجعلوه محتاجاً إلى تأويل يخالف الظاهر، ولا يكون كذلك.
وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ لاعتقادهم أنه باطل.
فالأول: كما قالوا في قوله: "عبدي جُعتُ فلم تطعمني.." الحديث، وفي الأثر الآخر:"الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبَّله فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه"1، وقوله:"قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن"2.
1 سيأتي الكلام عليه في الأسئلة الواردة على القاعدة، السؤال الثالث.
2 رواه مسلم في صحيحه 4/2.45 برقم (2654) .
فقالوا: قد عُلم أن ليس في قلوبنا أصابع الحق.
فيقال لهم: لو أعطيتم النصوص حقها من الدلالة لعلمتم أنها لا تدل إلا على حق.
أما الحديث الواحد فقوله: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبَّله فكأنما صافح الله وقبّل"، صريح في أن الحجر الأسود ليس هو صفة لله، ولا هو نفس يمينه، لأنه قال:"يمين الله في الأرض"، وقال:"فمن قبَله وصافحه فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه" ومعلوم أن المشبه غير المشبه به، ففي نص الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحاً لله، وأنه ليس هو نفس يمينه، فكيف يجعل ظاهره كفراً، وأنه محتاج إلى التأويل، مع أن هذا الحديث إنما يُعرف عن ابن عباس.
وأما الحديث الآخر فهو في الصحيح مفسَّراً: "يقول الله عبدي جعتُ فلم تطعمني. فيقول: ربِّ كيف أطعمك وأنت رب العلمين؟! فيقول: أما علمت أن عبدي فلاناً جاع، فلو أطعمته لوجدت ذلك عندي، عبدي مرضتُ فلم تعدني. فيقول: ربِّ كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! فيقول أما علمتَ أن عبدي فلاناً مرض، فلو عُدتَه لوجدتني عنده"1.
وهذا صريح في أن الله سبحانه وتعالى لم يمرض ولم يجعْ، ولكن مرض عبده وجاع عبده، فجعل جوعه جوعه، ومرضه مرضه، مفسَّراً ذلك بأنك "لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، ولو عدته لوجدتني عنده". فلم يبقَ في الحديث لفظ يحتاج إلى تأويل.
وأما قوله: "قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن" فإنه ليس في ظاهره أن القلب متصل بالأصابع، ولا مماس لها، ولا أنها في جوفه. ولا في قول القائل: هذا بين يديّ. ما يقتضي مباشرته ليديه، وإذا قيل:
{وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 164] لم يقتض أن يكون مماساً للسماء والأرض، ونظائر هذه كثيرة.
1 رواه مسلم في صحيحه 4/199. برقم (2569) بنحوه.
ومما يشبه هذا القول أن يُجعل اللفظ نظيراً لما ليس مثله، كما قيل في قوله:{قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [صّ: 75]، فقيل هو مثل قوله:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماًْ} [يّس: 71] .
فهذا ليس مثل هذا؛ لأنه هنا أضاف الفعل إلى الأيدي فصار شبيهاً بقوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 3.] ، وهناك أضاف الفعل إليه، فقال:{لِمَا خَلَقْتُ} ثم قال: {بِيَدَي} .
وأيضاً فإنه هناك ذكر نفسه المقدّسة بصيغة المفرد، وفي اليدين ذكر لفظ التثنية، كما في قوله:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] ، وهنا أضاف الأيدي إلى صيغة الجمع، فصار كقوله:{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] .
وهذا في الجمع نظير قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْك} [الملك: 1]، و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} [آل عمران: 26] في المفرد.
فالله سبحانه وتعالى يذكر نفسه تارة بصيغة المفرد، مظهراً أو مضمراً، وتارة بصيغة الجمع، كقوله:{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح: 1] وأمثال ذلك، ولا يذكر نفسه بصيغة التثنية قط؛ لأن صيغة الجمع تقتضي التعظيم الذي يستحقه، وربما تدل على معاني أسمائه، وأما صيغة التثنية فتدل على العدد المحصور، وهو مقدّس عن ذلك.
فلو قال: ما منعك أن تسجد لما خلقتْ بيدي، كان كقوله:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} وهو نظير قوله: {بِيَدِهِ الْمُلْك} و {بِيَدِكَ الْخَيْرُ} ، ولو قال: خلقتُ بيِِدِي بصيغة الإفراد لكان مفارقاً له، فكيف إذا قال:{خَلَقْتُ بِيَدَي} بصيغة التثنية.
هذا، مع دلالة الأحاديث المستفيضة بل المتواترة وإجماع سلف الأمة على مثل ما دل عليه القرآن، كما هو مبسوط في موضعه، مثل قوله:"المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن، وكلتا يديه يمين، الذي يعدلون في حكم وأهليهم وما وَلُوا"1. وأمثال ذلك.
1 رواه مسلم في صحيحه 3/1458 برقم (1827) .
وإن كان القائل يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع معناها من جنس ظاهر النصوص المتفق على معناها، والظاهر هو المراد في الجميع، فإن الله تعالى لما أخبر أنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، واتفق أهل السنة وأئمة المسلمين على أن هذا على ظاهره، وأن ظاهر ذلك مراد كان من المعلوم أنهم لم يريدوا بهذا الظاهر أن يكون علمه كعلمنا، وقدرته كقدرتنا. وكذلك لما اتفقوا على أنه حي حقيقة، عالم حقيقة، قادر حقيقة لم يكن مرادهم أنه مثل المخلوق الذي هو حي عليم قدير.
فكذلك إذا قالوا في قوله: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] ، وقوله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [لأعراف: 54] : إنه على ظاهره، ولم يقتض ذلك أن يكون ظاهره استواء كاستواء المخلوق، ولا حباً كحبه، ولا رضاً كرضاه.
فإن كان المستمع يظن أن ظاهره الصفات تماثل صفات المخلوقين، لزمه أن لا يكون شيء من ظاهر ذلك مراداً، وإن كان يعتقد أن ظاهرها هو ما يليق بالخالق ويختص به، لم يكن له نفي هذا الظاهر ونفي أن يكون مراداً إلا بدليل يدل على النفي، وليس في العقل ولا في السمع ما ينفي هذا إلا من جنس ما ينفي به سائر الصفات، فيكون الكلام في الجميع واحداً.
وبيان هذا: أن صفاتنا منها ما هي أعيان وأجسام، وهي أبعاض لنا، كالوجه واليد، ومنها ما هي معان وأعراض، وهي قائمة بنا، كالسمع والبصر والكلام والعلم والقدرة.
ثم إن من المعلوم أن الربّ لما وصف نفسه بأنه حي عليم قدير، لم يقل المسلمون: أن ظاهر هذا غير مراد لأن مفهوم ذلك في حقه مثل مفهومه في حقنا، فكذلك لما وصف نفسه بأنه خلق آدم بيديه، لم يوجب ذلك أن يكون ظاهره غير مراد؛ لأن مفهوم ذلك في حقه كمفهومه في حقنا، بل صفة الموصوف تناسبه.
فإذا كانت نفسه المقدسة ليست مثل ذوات المخلوقين، فصفاته كذاته
ليست مثل صفات المخلوقين، ونسبة صفة المخلوق إليه، كنسبة صفة الخالق إليه، وليس المنسوب كالمنسوب، ولا المنسوب إليه كالمنسوب إليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر"، فشبَّه الرؤية بالرؤية، لا المرئي بالمرئي".
معاني الكلمات:
إذا قال قائل: القائل هو المعطل أشعرياً كان أو معتزلياً.
الظاهر: المراد بظاهر الكلام هو المعنى الذي يتبادر إلى الذهن ويسبق إلى الأفهام أو هو المعنى الراجح من الكلام، ويراعى في معرفة الظاهر أمور منها: 1ـ دلالة اللفظ، 2 ـ دلالة السياق، 3 ـ حال المتكلم، 4 ـ سائر القرائن المحتفة.
عناصر الموضوع:
1 ـ المراد بالظاهر عند أهل السنة والجماعة:
المراد بالظاهر عند أهل السنة والجماعة إثبات الصفات الواردة في الكتاب والسنة إثباتاً بلا كيف، وتنزيه الخالق عن مشابهة الخلق، مع قطع الطمع في إدراك الكيفية.
2 ـ حمل نصوص الصفات على ظاهرها اللائق بالله أمرٌ متعين
حمل نصوص الصفات على ظاهرها اللائق بالله أمرٌ متعين دلّ على ذلك ما يلي:
أـ وصف الله القرآن بالبيان والهدى كما في قول الله تبارك وتعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ، فالآية تفيد أن القرآن بيَّن، ومن جملة ما بيّنه الله تعالى في القرآن نصوص الصفات.
ب ـ لو كان ظاهر نصوص الصفات غير مراد لجاء البيان بذلك، ومعلوم
أنه لم يأت نصٌ شرعي واحد يصرف نصوص الصفات عن ظاهرها.
3 ـ الصحابة رضي الله عنهم فهموا أن ظاهر نصوص الصفات مراد:
الصحابة رضي الله عنهم فهموا أن ظاهر نصوص الصفات مراد وهو اللائق بالله سبحانه وتعالى، وهذا واضحٌ من أقوالهم، فمن جملة ما قالوه في هذا الباب: قول زينب رضي الله عنها عن صفة علو الله تعالى: " زوجكنَّ أهاليكُن وزوّجني الله تعالى من فوق سبع سموات"1.
وقول عائشة رضي الله عنها في كلام الله: "ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله عز وجل فيَّ بأمر يُتلى"2، وكقولها رضي الله عنها في السمع:"الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات"3، إلى غير ذلك من نصوص الصحابة في هذا الباب.
4 ـ موضوع القاعدة الثالثة:
معنى ظاهر النصوص وحكم القول بأن الظاهر مراد أو غير مراد.
5 ـ أول من قال: ظاهر النص غير مراد:
أول من قال: إن ظاهر نصوص الصفات غير مرادهم الجهمية ثم تبعهم المعتزلة وسائر فرق المعطلة، أما الباطنية فزعمت أن نصوص الأحكام غير مراد، والفلاسفة ادعت أن نصوص المعاد على غير ظاهرها، قال التلمساني:"القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا" انظر مجموع الفتاوى (2\127) .
6 ـ على من يرد شيخ الإسلام بالقاعدة الثالثة؟
يرد شيخ الإسلام بالقاعدة الثالثة على عامة المتكلمين في دعواهم أن ظاهر نصوص الصفات هو التمثيل بصفات المخلوقين، فظاهرها الكفر
1 أخرجه البخاري برقم (742.) .
2 أخرجه مسلم برقم (277.) .
3 أخرجه البخاري معلقاً (3/384) .
عندهم1كما قال الصاوي2 في حاشيته على الجلالين: "لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر"3؛ لذا قال الشنقيطي في ردِّه عليه: "أما قوله: إن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر فهذا أيضاً من أشنع الباطل وأعظمه، وقائله من أعظم الناس انتهاكاً لحرمة الكتاب وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يصدر ألبتة عن عالم بكتاب الله وسنة رسوله، وإنما يصدر عمن لا علم له بالكتاب والسنة أصلاً"4
7 ـ الصلة بين القاعدتين الثالثة والثانية:
تقدم في القاعدة الثانية أن بين الشيخ حكم الألفاظ المجملة، وما تنازع فيه المتأخرون من ألفاظ، هذا ومما تنازع فيه المتأخرون من ألفاظ: ظاهر نصوص الصفات هل هي مرادة أم ليست بمرادة؟ وبهذا نستطيع أن نحكم على من أطلق بأن ظاهر النصوص مراد أم غير مراد بأن لفظ الظاهر لم يرد فيتوقف فيه وأما المعنى فيستفصل عنه.
8 ـ شرح القاعدة الثالثة:
الواجب في نصوص القرآن والسنة إجراؤها على ظاهرها دون تحريف ولا سيما نصوص الصفات، حيث لا مجال للرأي فيها، ودليل ذلك السمع والعقل.
• أما السمع: فقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ*بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 193ـ195]، وقوله تعالى:{إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2] ، وهذا يدل على وجوب فهمه على ما يقتضيه ظاهره باللسان العربي إلا أن يمنع منه دليل شرعي.
1 أقوالهم في أساس التقديس (ص1.9) ؛ شرح العقائد النسفية (1/24.) .
2 هو أحمد بن محمد الصاوي المصري المالكي، له مصنفات كثيرة، توفي سنة 1241هـ الأعلام (1/233) .
3 حاشية الصاوي على الجلالين (3/9) ؛ وانظر شرح أم البراهين (217) .
4 أضواء البيان (7/438) .
وقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3] .
• وأما العقل: لأن المتكلم بهذه أعلم من غيره وقد خاطبنا باللسان العربي المبين فوجب قبوله على ظاهره وإلا لاختلفت الآراء وتفرقت الأمة.
قال ابن قتيبة رحمه الله: "الواجب علينا أن ننتهي في صفات الله إلى حيث انتهى في صفته أو حيث انتهى رسوله، ولا نزيل اللفظ عما تعرفه العرب ونضعه عليه ونمسك عما سوى ذلك"1
9 ـ ما تدور عليه هذه القاعدة:
مدار هذه القاعدة في الإجابة على مسألتين:
1 ـ بيان معنى ظاهر النصوص.
2 ـ حكم من أطلق أن ظاهر النصوص مراد أم غير مراد.
10 ـ حكم من قال: إن نصوص الصفحات لايجوز إجرا ؤها على ظاهرها لأن ظاهرها غير مراد:
من قال: إن نصوص الصفات لا يجوز إجراؤها بظاهرها يقال له: ماذا تريد بالظاهر؟ أتريد بالظاهر: ما يظهر من النصوص من المعاني اللائقة بالله من غير تمثيل؟ فهذا الظاهر مراد الله ورسوله قطعاً ويجب الإيمان به شرعاً، لأنه حق.
أم تريد بالظاهر ما فهمته من التمثيل؟ فهذا غير مراد؛ لأن هذا الظاهر الذي فهمته كفر وباطل بالنص والإجماع، والصواب الذي لا خطأ فيه أن ظاهرها: أي نصوص الصفات مراد وأنه لائق بالله وعظمته.
المقصود أن نستفصل من قائل هذه المقالة، ما مرادك بالظاهر؟
11 ـ غلط من يجعل ظاهر نصوص الصفات تمثيلاً:
من يجعل ظاهر نصوص الصفات هو التمثيل يغلطون من وجهين:
1 عقيدة الإمام ابن قتيبة (ص139) .
1 ـ يجعلون المعنى الفاسد الكفري هو الظاهر ثم يجعلونه محتاجاً إلى التأويل.
2 ـ قد يفسرون الظاهر بمعنى صحيح لكنهم يردونه لاعتقادهم أنه باطل.
12 ـ أمثلة لمن يجعل المعنى الفاسد هو ظاهر نصوص الصفات:
من يجعل ظاهر نصوص الصفات هو التمثيل يكون خطؤه على وجهين:
1 ـ أن يفسروا النص بمعنى فاسد لا يدل عليه اللفظ فينكرونه لذلك ويقولون: إن ظاهره غير مراد.
مثال ذلك: قوله تعالى في الحديث القدسي: "يا ابن آدم مرضت فلم تعدني.." الحديث رواه مسلم.
قالوا: فظاهر الحديث أن الله يمرض وهذا معنى فاسد، فيكون غير مراد. فنقول هذا المعنى الفاسد ليس ظاهر اللفظ؛ لأن سياق الحديث يمنع ذلك فقد جاء مفسراً بقوله:"أما علمت أن عبدي فلاناً فلم تعده"، وهذا صريح في أن الله لم يمرض وإنما حصل المرض لعبدٍ من عباده.
مثال آخر: في الأثر: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض فمن صافحه وقبَّله فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه". من حديث ابن عباس مرفوعاً.
قالوا: فظاهر الأثر أن الحجر الأسود نفسه يمين الله في الأرض، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد فنقول: الحجر الأسود ليس يمين الله؛ لأنه قال يمين الله في الأرض، فقيده بأنه في الأرض، ومعلوم أن الله في السماء، وقال:"فمن صافحه وقبَّله فكأنما صافح الله وقبَّل يمينه" ومعلوم أن المشبه غير المشبه به.
2 ـ أن يفسروا اللفظ بمعنى موافق لظاهره لكن يريدونه لاعتقادهم أنه باطل عندهم وليس بباطل عندنا مثال ذلك قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] قالوا: ظاهر الآية أن الله علا على العرش والعرش محدود، فلزم أن يكون الله محدوداً، وهذا معنى فاسد غير مراد.
فنقول: إن الله علا على عرشه علواً يليق بجلاله وعظمته، ولا يماثل علو المخلوق على المخلوق ولا يلزم منه أن يكون الله محدوداً وهو علو يختص بالعرش، والعرش أعلى المخلوقات فيكون الله تعالى عالياً على كل شيء، وهذا من كماله فكيف يكون المعنى فاسداً غير مراد؟
مثال آخر: قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] .
قالوا: فظاهر الآية أن لله تعالى يدين حقيقيتين وهما جارحتان، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد.
فنقول: إن ثبوت اليدين الحقيقيتين لله عز وجل لا يستلزم معنى فاسداً، فإن لله تعالى يدين حقيقيتين تليقان بجلاله وعظمته بهما يأخذ وبهما يقبض ولا تماثلان أيدي المخلوقين، وهذا من كماله وكمال صفاته.
مثال آخر اجتمع فيه الخطأ من الوجهين:
مثال: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلب واحد يصرفه حيث يشاء". رواه مسلم.
فقالوا على الوجه الأول: ظاهر الحديث أن قلوب بني آدم بين أصابع الرحمن فيلزم منه المباشرة والمماسة، وأن تكون أصابع الله سبحانه داخل أجوافنا، وهذا فاسد فيكون غير مراد.
وقالوا على الوجه الثاني: ظاهر الحديث أن لله أصابع حقيقية والأصابع جوارح، وهذا معنى فاسد فيكون غير مراد.
فالجواب:
• أولاً: نقول على الوجه الأول: قد دلّ السمع والعقل على أن الله بائن من خلقه ولا يحل في شيء من خلقه ولا يحل فيه شيء من خلقه، وأجمع السلف على ذلك.
• ثانياً: أن البينية لا تستلزم المباشرة والمماسة فيما بين المخلوقات كقوله تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْض} [البقرة: 164] ،
فإن السحاب لا يباشر السماء ولا الأرض فكيف البينية فيما بين المخلوق والخالق الذي وسع كرسيه السموات والأرض.
ونقول على الوجه الثاني: إن ثبوت الأصابع الحقيقية لله تعالى لا يستلزم معنى فاسداً فإن لله تعالى أصابعاً تليق به عز وجل، ولا تماثل أصابع المخلوقين.
13 ـ الفرق بين قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} وقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} :
الفرق بينهما ثابت من وجوه:
• الأول: من حيث الصيغة، فلو كانت الآية الثانية نظيرة للأولى لكان لفظها: لما خلقت يداي فيضاف الخلق إليهما، كما أضيف العمل إليها.
• الثاني: أن الله تعالى أضاف في الآية الأولى الفعل إلى نفسه معدى بالباء إلى اليدين فكان سبحانه هو الخالق وكان خلقه بيده.
وأما الآية الثانية: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} فأضاف الفعل فيها إلى الأيدي المضافة إليه وإضافة الفعل إلى الأيدي كإضافته إلى النفس.
• الثالث: أن الله تعالى أضاف الفعل في الآية الأولى {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} معدى بالباء إلى يدين اثنتين، ولا يمكن أن يراد بهما نفسه لدلالة التثنية على عدد محصور باثنين، والرب جلَّ وعلا إله واحد.
وأما الآية الثانية فأضاف الفعل إلى الأيدي المضافة إليه مجموعة للتعظيم فصار المراد بها نفسه المقدسة.
14 ـ ظواهر نصوص الصفات ليست تشبيهاً:
زعم كثير من المعطلة أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها غير لائقة بالله، لأن ظواهرها المتبادرة منها ما هو تشبيه صفات الله بصفات خلقه، وعقد ذلك المقري في إضاءته في قوله:
والنص إن أوهم غير اللائقف
بالله كالتشبيه بالخلائق
اصرفه عن ظاهره إجماعاً
واقطع عن الممتنع الأطماعا1.2وكذا قال صاحب الجوهرة:
وكلَّ نصٍّ أوهم التشبيها
أوِّله أو فوِّض ورُمْ تنزيها3ومعنى هذا أن كل نص في القرآن الكريم والسنة النبوية فيه صفة الله سبحانه وتعالى، ويوهم المشابهة بصفات المخلوقين بزعمهم يصرف عن ظاهره.
وهذه الدعوى باطلة بل هي من أعظم الافتراء على آيات الله تعالى وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، والواقع في نفس الأمر أن ظواهر آيات الصفات وأحاديثها المتبادرة منها لكل مسلم راجع عقله هي مخالفة صفات الله لصفات خلقه، ولا بد أن نتساءل هنا فنقول: أليس الظاهر المتبادر مخالفة الخالق للمخلوق في الذات والصفات والأفعال؟
والجواب الذي لا جواب غيره: بلى، وهل تشابهت صفات الله مع صفات خلقه حتى يقال: إن اللفظ الدال على صفته تعالى ظاهرهُ المتبادر منه تشبيهه بصفة الخلق؟
فبأي وجه يتصور عاقل أن لفظاً أنزله الله في كتابه مثلاً دالاً على صفة من صفات الله أثنى بها الله تعالى على نفسه يكون ظاهرها المتبادر منه مشابهته لصفة الخلق؟
سبحانك.. هذا بهتان عظيم، فالخالق والمخلوق متخالفان كل التخالف، وصفاتهما متخالفة كل التخالف، فبأي وجه يعقل دخول صفة المخلوق في اللفظ الدال على صفة الخالق؟ أو دخول صفة الخالق في اللفظ الدال على صفة المخلوق مع كمال المنافاة بين الخالق والمخلوق؟
فكل لفظ دلّ على صفة الخالق ظاهره المتبادر منه أن يكون لائقاً بالخالق
1 إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة مع شرحها (ص148) ، ط الأولى عام 1377 هـ.
2 أضواء البيان (ص7/443) .
3 شرح الصاوي على جوهرة التوحيد (ص128) .
منزهاً عن مشابهة صفات المخلوق، كذلك اللفظ الدال على صفة المخلوق لا يعقل أن تدخل فيه صفة الخالق1.
15 ـ اللوازم التي تلزم المعطلة في دعواهم: أن ظواهر نصوص الصفات تشبيه:
من زعم أن ظاهر نصوص الصفات تشبيهٌ، فحقيقة هذا القول: أن الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله والقول فيه بما لا يليق به جل وعلا.
والنبي صلى الله عليه وسلم الذي قيل له: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] لم يبين حرفاً واحداً من ذلك، مع إجماع من يعتد به من العلماء على أنه صلى الله عليه وسلم لا يجوز في حقه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه، وأحرى في العقائد ولا سيما ما ظاهره المتبادر منه الكفر والضلال المبين، حتى جاء هؤلاء الجهلة من المتأخرين، فزعموا أن الله أطلق على نفسه الوصف بما ظاهره المتبادر منه لا يليق، والنبي صلى الله عليه وسلم كتم أن ذلك الظاهر المتبادر كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه، وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على كتاب أو سنة سبحانك هذا بهتان عظيم، ولا يخفى أن هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله عز وجل، ورسوله صلى الله عليه وسلم.
16 ـ السبب الذي جعل المعطلة يقولون إن ظواهر نصوص الصفات هو التشبيه:
السبب الذي جعل هؤلاء المعطلة يقولون: إن ظاهر نصوص الصفات هو التشبيه وهو لا يليق بالله، لأنه كفر بزعمهم، وإنما جرهم إلى ذلك تنجس قلوبهم في قذر التشبيه بين الخالق والمخلوق فأدّاهم شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله عز وجل، وعدم الإيمان بها وهم مشبهة أولاً ومعطلة
1 أضواء البيان (7/444) .
ثانياً، فارتكبوا ما لا يليق بالله ايتداء وانتهاء ولو كانت قلوبهم عارفة بالله كما ينبغي معظمين الله كما ينبغي، طاهرة من أقذار التشبيه، لكان المتبادر عندهم السابق إلى فهمهم: أن وصف الله جل وعلا بالغ من الكمال والجلال مما يقطع أوهام علائق المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين، فتكون قلوبهم مستعدة للإيمان بصفات الكمال والجلال الثابتة لله في القرآن والسنة النبوية الصحيحة، مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الله الخالق على نحو قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]1.
لذا قال الإمام الذهبي في حق أمثال هؤلاء: "صار الظاهر اليوم ظاهرَين أحدهما: حقٌّ، والثاني: باطلٌ.
فالحق أن يقول: إنه سميع بصير، مريد متكلم حي عليم، كل شيء هالك إلا وجهه، خلق آدم بيديه وكلم موسى تكليماً، واتخذ إبراهيم خليلاً، وأمثال ذلك؛ فنمرّه على ما جاء، ونفهم منع دلالة الخطاب كما يليق به تعالى ولا نقول: تأويل يخالف ذلك.
والظاهر الآخر وهو الباطل والضلال: أن تعتقد قياس الغائب على الشاهد وتمثل البارئ بخلقه، تعالى عن ذلك، بل صفاته كذاته فلا عدل له ولا ضد له ولا نظير له ولا مثل له، ولا شبيه له وليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته"2.
17 ـ التفويض عند المتكلمين:
هو ما جمع الأمور الآتية:
1 ـ أن ظاهر النصوص الواردة في الصفات غير مراد لأن ظاهرها التشبيه.
1 أضواء البيان (2/32.) ؛ وانظر: منهج دراسات لآيات الأسماء والصفات (ص4.) .
2 سير أعلام النبلاء (9/449) .
2 ـ أن النصوص مجهولة المعاني بالنسبة للخلق.
3 ـ تفويض علم معاني الصفات لله تعالى.
4 ـ الإيمان عندهم بالصفات وهو مجرد الإيمان بألفاظ الصفات الواردة دون ما تضمنه من معاني مجهولة غير معلومة.
18 ـ الأسئلة والأجوبة الواردة على القاعدة الثالثة:
س1 ـ ما مذهب عامة السلف في ظاهر النصوص وما قول المخالفين؟
ج ـ مذهب عامة السلف رضوان الله عليهم إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها.
أما قول المخالفين وهم عامة المتكلمين فهو إن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين فظاهرها الكفر عندهم.
س2 ـ ما حكم القول بأن ظاهر النصوص مراد أو غير مراد؟
ج ـ الحكم في ذلك على وجهين:
• الوجه الأول: إن كان يعتقد أن الظاهر هو التمثيل فلا ريب أنه غير مراد لكنه ليس هو الظاهر.
• الوجه الثاني: وإن كان يعتقد باعتقاد السلف وهو أن الظاهر على ما يليق بالله فهو مراد.
س3 ـ أجب عما استدل به المتكلمون على أن ظاهر النصوص محال وأدلتهم هي ما يلي:
ج ـ 1 ـ "الحجر الأسود يمين الله في أرضه فمن صافحه وقبّله فكأنما صافح الله وقبّل يمينه".
2 ـ "عبدي مرضت فلم تعدني
…
وجعت فلم تطعمني
…
".
3 ـ "قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن".
* الجواب على الدليل الأول:
أولاً: أن الحديث ضعيف كما قاله المحققون قال شيخ الإسلام:
لا يثبت. وقال ابن الجوزيّ: لا يصح، وقال ابن العربي المالكي: هذا حديث باطل فلا يلتفت إليه، وإنما المشهور عن ابن عباس، مع أن في إسناده ضعفاً كذلك. وضعّفه الألباني في السلسة وقال: منكر (1/39.) .
ثانياً: على فرض صحته، فليس ظاهره أن الحجر الأسود يد الله اليمنى لوجهيتن:
أـ أنه قال: "يمين الله في أرضه
…
" فقيده بالأرض وحكم المقيد يخالف حكم المطلق، فإن الله تعالى في السماء، فهذا كما يقول الأمير: فلان يميني في الشام وهكذا.
ب ـ أنه قال: "فمن صافحه وقبّله فكأنما
…
" فهنا تشبيه، ومعلوم أن المشبه ليس هو المشبه به، فظاهر الحديث أن مصافح الحجر ومقبِّله ليس مصافحاً لله وليس الحجر يمين الله، فكيف يقال: إن الظاهر كفر غير مراد فيحتاج إلى تأويل.
* الجواب على الدليل الثاني:
أن ظاهر الحديث هو أن الله يمرض ويجوع.
ودليل بطلانه ما يلي:
أن الحديث صريح في أن الله لم يمرض ولم يجع وإنما مرض عبده وجاع عبده، كما في قوله: "أما علمت أن عبدي فلاناً جاع
…
" فالظاهر هو مجموع الحديث لا آحاد ألفاظه، ولا يجوز الحكم على أول الكلام دون بقيته كما في قوله تعالى:
{فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ*الَّذِينَ هُمْ
…
} [الماعون: 4ـ5] فيجب تفسيرها بما بعدها. وقوله: "فلو عدته لوجدتني عنده" هذه العندية تتضمن القرب والمعية الخاصة والرعاية ولا تتحقق إلا في العبد المؤمن دون الكفار والفاجر، ولم يقل في الإطعام:"لوجدتني عنده"، وإنما قال:"لوجدت ذلك عندي"، أي الأجر والثواب مما يدل على أن الإطعام عام للمؤمن والكافر، أما المعية فخاصة للمؤمن المريض.
* الجواب على الدليل الثالث:
هو أن الشبهة التي استدلوا بها وهي أن ظاهر الحديث أن الأصابع في جوف القلب، والقلب متصل بها مماس لها وهو محال محتاج إلى تأويل. نقول: ليس هذا هو الظاهر، وإذا قال قائل:"هذا بين يدي" لم يدل على المباشرة والمماسة، ومنه قوله تعالى:{وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [البقرة: 164] فإنه لا يقتضي مماسة السحاب للسماء ولا للأرض فهو بين السماء والأرض، فإذا ثبتت هذه البينية بين المخلوق والمخلوق فالبينية بين المخلوق والخالق الذي وسع كرسيه السموات والأرض أولى بذلك.
س4 ـ ما أوجه الفرق بين قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [صّ: 75] وقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يّس: 71] ؟
ج ـ الفرق بينهما من وجهين:
• الوجه الأول ـ في قوله: {عَمِلَتْ أَيْدِينَا} أضاف الفعل إلى الأيدي فهي مثل قوله: {َفبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 3.] . وفي قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} أضاف الفعل إلى نفسه..
• الوجه الثاني ـ في قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} عدى الفعل بالباء إلى اليدين فكان سبحانه هو الخالق وكان خلقه بيده، كقولنا كتبت بالقلم، فالكاتب هو الفاعل والقلم هو الذي حصلت به الكتابة، ولم يقل:"لما خَلَقَتْ يداي"، فلو قال ذلك لكان كقوله:{عَمِلَتْ أَيْدِينَا} .
* فهذه الفروق اللفظية أدّت إلى الاختلاف في المعنى فكانت الأولى لإثبات خلق آدم عليه السلام باليدين، والثانية لإثبات مطلق الخلق.
س5 ـ يقول المتكلمون النافون للصفات: إن قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} [صّ: 75] هو مثل قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} [يّس: 71] . فما الغرض في التسوية عندهم؟ وما الجواب عليهم؟
ج ـ الغرض من التسوية عندهم هو أنهم يريدون بذلك نفي اليدين لأنهم
يقولون إن آدم لم يخلق باليدين كما أن الأنعام لم تخلق باليدين، وإنما الإضافة في الآيتين مجاز، وهذه الشبهة من تأسيسات المريسي وتابعه عليها شيوخ المعتزلة والأشاعرة وغيرهم.
والجواب أن بين الآيتين فروقاً، وليست هذه الآية مثل تلك. وقد ذكرنا أوجه الفروق بين الآيتين في السؤال السابق. فراجعه إن شئت.
س6 ـ اذكر أدلة إثبات اليدين لله من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة؟
ج ـ الأدلة على إثبات اليدين لله تعالى كثيرة جداً من الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة:
أولاً: من الكتاب قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} [صّ: 75]، وقوله:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] .
ثانياً: من السنة:
1 ـ قوله صلى الله عليه وسلم: "المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين" أخرجه مسلم (ح1827) .
2 ـ قوله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: "يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده" رواه البخاري (334.) ومسلم (194) .
ثالثاً: إجماع السلف:
1 ـ قال الإمام أبو الحسن الأشعري: "أجمعوا على أنه عز وجل يسمع ويرى وأن له تعالى يدين مبسوطتين، وأن الأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه من غير أن يكون جوازاً
…
" أي مجازاً.
2 ـ وقال إمام الأئمة ابن خزيمة: "باب ذكر إثبات اليدين للخالق الباري جل وعلا والبيان أن الله تعالى له يدان كما أعلمنا في محكم تنزيله
…
" ثم ذكر الأدلة على ذلك.
3 ـ وقال الإمام الإسماعيلي: "وخلق آدم بيده ويداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء بلا اعتقاد كيف يداه إذا لم ينطق كتاب الله تعالى فيه بكيف".
س7 ـ كيف تناقش الأشاعرة في دعواهم أن ظواهر النصوص التمثيل؟
ج ـ إذا قال الأشعري: إن الظاهر مراد أو غير مراد يعتقد أن ظاهر النصوص المتنازع في معناها بين أهل السنة والأشاعرة كنصوص (المحبة والغضب والاستواء وغيرها) . مثل النصوص المتفق على معناها كالصفات السبع فله أحد احتمالين:
• الأول: إن كان يظن أن ظاهر الصفات تماثل صفات المخلوقين لزمه ألا يكون شيء من ظاهر النصوص مراد سواء المتنازع فيها أو المتفق عليها فيلزمه نفي الجميع.
• الثاني: وإن كان يعتقد أن ظاهرها ما هو ما يليق بالخالق ويختص به لم يكن له نفي هذا الظاهر ونفي أن يكون مراده، إلا بدليل يدل على النفي، وليس في العقل ولا في السمع ما ينافي هذا إلا من جنس ما ينافي سائر الصفات فالكلام فيها واحد، أما أن يفرق بين الصفات السبع وغيرها فتناقض كما سبق.
س8 ـ هل ثبت أن الإمام أحمد بن حنبل أوَّل هذه النصوص وهي: "الحجر الأسود يمين الله في الأرض"، و"قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن"، و"إني لأجد نفس الرحمن من قبل اليمن" وكيف ترد على من زعم ذلك؟
ج ـ الرد عليهم ما يلي:
1 ـ أن هذه النصوص المذكورة نقلها أبو حامد الغزالي عن أحد الحنابلة عن الإمام أحمد، وهذا الكلام الذي ذكره الغزالي كذب على الإمام أحمد، فإن الإمام الغزالي قليل التمييز بين ما ينقله باعترافه حيث قال:"وبضاعتي في الحديث مزجاة".
2 ـ قال شيخ الإسلام: "فهذه الحكاية كذب على الإمام أحمد، لم ينقلها أحد عنه بإسناد، ولا يعرف أحد من أصحابه نقل ذلك عنه، وهذا
الحنبلي الذي ذكر عنه أبو حامد مجهول، لا يعرف علمه بما قال، ولا صدقه فيما قال"
3 ـ ثم إن مذهب الإمام أحمد من الصفات معلوم مشهور.
4 ـ وهذه الأحاديث سبق بيان المراد منها فهي غير محتاجة إلى تأويل أما حديث: "إني لأجد نفس الرحمن" فعلى فرض صحته فمعناه تنفيس الرحمن أي تفريجه على المؤمنين، فالنفي هون الفرج كما في لسان العرب (2/226) .