الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القاعدة الخامسة
صفات الله معلومة المعنى مجهولة الكيفية
قال شيخ الإسلام:
" القاعدة الخامسة: أنا نعلم ما أخبرنا به من وجه دون وجه، فإن الله تعالى قال:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82]، وقال:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68] .
وقال: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [صّ: 29]، وقال:{أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] ، فأمر بتدبر الكتاب كله.
وجمهور سلف الأمة وخلفها على أن الوقف عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} ، وهذا هو المأثور عن أبي بن كعب، وابن مسعود، وابن عباس، وغيرهم، ورُوي عن ابن عباس أنه قال:"التفسير على أربعة أوجه: تفسير تعرفه العرب من كلامها، وتفسير لا يُعذر أحدٌ بجهالته، وتفسير يعلمه العلماء، وتفسير لا يعلمه إلا الله، من ادّعى علمه فهو كاذب"1.
وقد رُوي عن مجاهد وطائفة أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله، وقد رُوي عن مجاهد وطائفة أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله، وقدض
1 ذكره الطبري في مقدمة تفسيره (1/75)
قال مجاهد: "عرضتُ المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقف عند كل آية وأسأله عن تفسيرها"1.
ولا منافاة بين القولين عند التحقيق؛ فإن لفظ "التأويل" قد صار بتعدد الاصطلاحات مستعملاً في ثلاثة معان:
• أحدها: ـ وهو اصطلاح كثير من المتأخرين المتكلمين في الفقه وأصوله ـ أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به؛ وهذا هو الذي عناه أكثر من تكلم من المتأخرين في تأويل نصوص الصفات وترك تأويلها، وهل هذا محمودٌ أو مذموم؟ وحقٌ أو باطل؟.
• والثاني: أن التأويل بمعنى التفسير، وهذا هو الغالب على اصطلاح مفسري القرآن، كما يقول ابن جرير وأمثاله المصنِّفين في التفسير:"واختلف علماء التأويل". ومجاهد إمام المفسرين، قال الثوري: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به2.
وعلى تفسيره يعتمد الشافعي، وأحمد بن حنبل، والبخاري، وغيرهم، فإذا ذكر أنه يعلم تأويل المتشابه، فالمراد به معرفة تفسيره.
• الثالث: من معاني التأويل هو الحقيقة التي يؤول إليها الكلام كما قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَق} [الأعراف: 53] .
فتأويل ما في القرآن من أخبار المعاد هو ما أخبر الله تعالى به فيه، مما يكون من القيامة والحساب والجزاء والجنة والنار ونحو ذلك، كما قال في قصة يوسف لما سجد أبواه وإخوته:{وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْل} [يوسف: 1..] ، فجعل عين ما وجد في الخارج هو تأويل الرؤيا.
فالتأويل الثاني هو تفسير الكلام، وهو الكلام الذي يفسَّر به اللفظ حتى
1 ذكره أيضاً الطبري في مقدمة تفسيره (1/9.) .
2 المرجع السابق (1/91) .
يُفهم معناه أو تُعرَف علته أو دليله، وهذا التأويل الثالث هو عين ما هو موجود في الخارج، ومنه قول عائشة رضي الله عنها: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه وسجوده: "سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي" يتأول القرآن1. تعني قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْه} [النصر: 3] ، وقول سفيان بن عيينة: السنة هي تأويل الأمر والنهي.
فإن نفس الفعل المأمور به هو تأويل الأمر، ونفس الموجود المخبَر عنه هو تأويل الخبر، والكلام خبر وأمر، ولهذا يقول أبو عبيد وغيره: الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة، كما ذكروا ذلك في تفسر اشتمال الصَّمَّاء؛ لأن الفقهاء يعلمون نفس ما أُمر به ونفس ما نُهي عنه، لعلمهم بمقاصد الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يعلم أتباع أبقراط وسيبويه ونحوهما من مقاصدهم ما لا يُعلم بمجرد اللغة، ولكن تأويل الأمر والنهي لابد من معرفته بخلاف تأويل الخبر.
إذا عُرف ذلك؛ فتأويل ما أخبر به عن نفسه المقدَّسة الغنية بما لها من حقائق الأسماء والصفات هو حقيقة نفسه المقدّسة المتصفة بما لها من حقائق الصفات، وتأويل ما أخبر الله به من الوعد والوعيد هو نفس ما يكون من الوعد والوعيد.
ولهذا ما يجيء في الحديث نعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه؛ لأن ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فيه ألفاظ متشابهة؛ تشبه معانيها ما نعلمه في الدنيا، كما أخبر أن في الجنة لحماََ ًولبناً وعسلاً وماء وخمراً ونحو ذلك، وهذا يشبه ما في الدنيا لفظاً ومعنى، ولكن ليس هو مثله، ولا حقيقته كحقيقته.
فأسماء الله تعالى وصفاته أَوْلَى ـ وإن كان بينها وبين أسماء العباد وصفاتهم تشابه ـ أن لا يكون لأجلها الخالق مثل المخلوق، ولا حقيقته كحقيقته.
والإخبار عن الغائب لا يُفهَم إن لم يُعبَّر عنه بالأسماء المعلومة معانيها في
1 متفق عليه: صحيح البخاري (2/299 برقم 817) وصحيح مسلم (3/13ـ131)
الشاهد، ويُعلم بها ما في الغائب بواسطة العلم بما في الشاهد، مع العلم بالفارق المميِّز، وأن ما أخبر الله به من الغيب أعظم مما يُعلَم في الشاهد.
وفي الغائب ما لا عين رأت ولا أُذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر1، فنحن إذا أخبرنا الله بالغيب الذي اختص به من الجنة والنار، علمنا معنى ذلك، وفهمنا ما أريد منا فهمه بذلك الخطاب، وفسّرنا ذلك، وأما نفس الحقيقة المخبَر عنها، مثل التي لم تكن بعد، وإنما تكون يوم القيامة، فذلك من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله.
ولهذا لما سُئل مالكٌ وغيره من السلف عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] قالوا: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وكذلك قال ربيعة شيخ مالك قبله: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، ومن الله البيان، وعلى رسوله البلاغ، وعلينا الإيمان. فبيَّن أن الاستواء معلوم، وأن كيفية ذلك مجهولة.
ومثل هذا يوجد كثيراً في كلام السلف والأئمة، ينفون علم العباد بكيفية صفات الله، وأنه لا يعلم كيف الله إلا الله، فلا يعلم ما هو إلا هو، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"لا أحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك" وهذا في صحيح مسلم2. وغيره.
وقال في الحديث الآخر: "اللهم إني أسالك بكل اسم هو لك، سميتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك"، وهذا الحديث في المسند وصحيح ابن حبان3. وقد
1 متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. صحيح البخاري 8\515ـ516برقم 4779ـ478.، صحيح مسلم (4\2174ـ2175 برقم 2824) .
2 صحيح مسلم (1/352 برقم 486) من حديث عائشة رضي الله عنها، وعلي رضي الله عنه.
3 المسند (5/266 ـ 268 برقم 3712) و (6/153ـ 154 برقم 4318) وصحيح ابن حبان (موارد الظمآن إلى زوائد ابن حبان) ص589 برقم 2372 من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
أخبر فيه أن لله من الأسماء ما استأثر به في علم الغيب عنده، فمعاني هذه الأسماء التي استأثر الله بها في علم الغيب عنده لا يعلمها غيره.
والله سبحانه وتعالى أخبرنا أنه عليم، قدير، سميع، بصير، غفور، رحيم، إلى غير ذلك من أسمائه وصفاته؛ فنحن نفهم معنى ذلك، ونميّز بين العلم والقدرة، وبين الرحمة والسمع والبصر، ونعلم أن الأسماء كلها اتفقت في دلالتها على ذات الله، مع تنوع معانيها، فهي متفقة متواطئة من حيث الذات، متباينة من جهة الصفات.
وكذلك أسماء النبي صلى الله عليه وسلم مثل: محمد، وأحمد، والماحي، والحاشر، والعاقب.
وكذلك أسماء القرآن، والفرقان، والهدى، والنور، والتنزيل، والشفاء، وغير ذلك. ومثل هذه الأسماء تنازع الناس فيها؛ هل هي من قبيل المترادفة لاتحاد الذات، أو من قبيل المتباينة لتعدد الصفات، كما إذا قيل: السيف، والصَّارِم، والمُهَنَّد؛ وقصد بالصّارم معنى الصرم، وفي المهند النسبة إلى الهند؟. والتحقيق أنها مترادفة في الذات متباينة في الصفات.
ومما يوضح هذا أن الله وصف القرآن كله بأنه محكم وبأنه متشابه، وفي موضع آخر جعل منه ما هو محكم ومنه ما هو متشابه، فينبغي أن يُعرف الإِحكام والتشابه الذي يعمه، والإِحكام والتشابه الذي يخص بعضه.
قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1] فأخبر أنه أحكم آياته كلها، وقال تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ} [الزمر: 23] ، فأخبر أنه متشابه.
والحكم هو الفصل بين الشيئين، والحاكم يفصل بين الخصمين، والحكمة فصل بين المشتبهات علماً وعملاً، إذا مُيِّز بين الحق والباطل، والصدق والكذب، والنافع والضار، وذلك يتضمن فعل النافع وترك الضار، فيقال: حَكَمْتُ السَّفيه وأحْكَمْته إذا أخذتُ على يده، وحَكَمْتُ الدَّابَّة وأحْكَمْتها إذا جعلتُ لها حَكَمَة وهو ما أحاط بالحنك من اللجام،
وإحكام الشيء إتقانه، فإحكام الكلام إتقانه بتمييز الصدق من الكذب في أخباره، وتمييز الرشد من الغي في أوامره.
والقرآن كله محكم بمعنى الإِتقان، فقد سماه الله حكيماً بقوله:{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1] فالحكيم بمعنى الحاكم، كما جعله يقص بقوله:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [النمل: 76]، وجعله مفتياً في قوله:{قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ} [النساء: 127] أي ما يتلى عليكم يفتيكم فيهن، وجعله هادياً ومبشراً في قوله:{إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} [الإسراء: 9] .
وأما التشابه الذي يعمه فهو ضد الاختلاف المنفي عنه في قوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82]، وهو الاختلاف المذكور في قوله:{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ*يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذريات:8 ـ9] .
فالتشابه هنا هو تماثل الكلام وتناسبه، بحيث يصدّق بعضه بعضاً، فإذا أمر بأمر لم يأمر بنقيضه في موضع آخر، بل يأمر به، أو بنظيره، أو بملزوماته، وإذا نهى عن شيء لم يأمر به في موضع آخر، بل ينهى عنه، أو عن نظيره، أو عن لوازمه، إذا لم يكن هناك نسخ.
وكذلك إذا أخبر بثبوت شيء لم يخبر بنقيض ذلك، بل يخبر بثبوته، أو بثبوت ملزوماته، وإذا أخبر بنفي شيء لم يثبته، بل ينفيه، أو ينفي لوازمه، بخلاف القول المختلف الذي ينقض بعضه بعضاً، فيُثبت الشيء تارة وينفيه أخرى، أو يأمر به وينهى عنه في وقت واحد، أو يفرق بين المتماثلين فيمدح أحدهما ويذم الآخر، فالأقوال المختلفة هنا هي المتضادة، والمتشابهة هي المتوافقة.
وهذا التشابه يكون في المعاني وإن اختلفت الألفاظ، فإذا كانت المعاني يوافق بعضها بعضاً، ويعضد بعضها بعضاً، ويشهد بعضها لبعض، ويقتضي بعضها بعضاً، كان الكلام متشابهاً، بخلاف
الكلام المتناقض الذي يضاد بعضه بعضاً.
وهذا التشابه العام لا ينافي الإحكام العام، بل هو مصدق له، فإن الكلام المحكم المتقن يصدق بعضه بعضاً، لا يناقض بعضه بعضاً.
بخلاف الإحكام الخاص، فإنه ضد التشابه الخاص، فالتشابه الخاص هو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر، بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو أو مثله، وليس كذلك، والإحكام هو الفصل بينهما بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر. وهذا التشابه إنما يكون لقدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما.
ثم من الناس من لا يهتدي للفصل بينهما، فيكون مشتبهاً عليه، ومنهم من يهتدي إلى ذلك، فالتشابه الذي لا تمييز معه قد يكون من الأمور النسبية الإضافية، بحيث يشتبه على بعض الناس دون بعض، ومثل هذا يعرف منه أهل العلم ما يزيل عنهم هذا الاشتباه، كما إذا اشتبه على بعض الناس ما وعدوا به في الآخرة بما يشهدونه في الدنيا فظن أنه مثله، فعلم العلماء أنه ليس هو مثله وإن كان مشبهاً له من بعض الوجوه.
ومن هذا الباب الشُّبَه التي يضل بها بعض الناس، وهي ما يشتبه فيها الحق بالباطل، حتى يشتبه على بعض الناس، ومن أوتي العلم بالفصل بين هذا وهذا لم يشتبه عليه الحق بالباطل.
والقياس الفاسد إنما هو من باب الشبهات؛ لأنه تشبيه للشيء في بعض الأمور بما لا يشبهه، فمن عرف الفصل بين الشيئين اهتدى للفرق الذي يزول به الاشتباه والقياس الفاسد.
وما من شيئين إلا ويجتمعان في شيء، ويفترقان في شيء، فبينهما اشتباه من وجه وافتراق من وجه، ولهذا كان ضلال بني آدم من قبل التشابه ـ والقياس الفاسد لا ينضبط ـ كما قال الإمام أحمد رحمه الله: أكثر ما يخطئ الناس من جهة التأويل والقياس، فالتأويل في الأدلة السمعية، والقياس في الأدلة العقلية، وهو كما قال: التأويل الخطأ إنما يكون في الألفاظ المتشابهة، والقياس الخطأ إنما يكون في المعاني المتشابهة.
وقد وقع بنو آدم في عامة ما يتناوله هذا الكلام من أنواع الضلالات، حتى آل الأمر بمن يدعي التحقيق والتوحيد والعرفان منهم إلى أن اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود فظنوا أنه هو، فجعلوا وجود المخلوقات عين وجود الخالق، مع أنه لا شيء أبعد عن مماثلة شيء، أو أن يكون إياه، أو متحداً به، أو حالاًّ فيه من الخالق مع المخلوق.
فمن اشتبه عليهم وجود الخالق بوجود المخلوقات ـ حتى ظنوا وجودها وجوده ـ فهم أعظم الناس ضلالاً من جهة الاشتباه، وذلك أن الموجودات تشترك في مسمى "الوجود" فرأوا الوجود واحداً، ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع.
وآخرون توهموا أنه إذا قيل: الموجودات تشترك في مسمى "الوجود" لزم التشبيه والتركيب، فقالوا: لفظ "الوجود" مقول بالاشتراك اللفظي، فخالفوا ما اتفق عليه العقلاء مع اختلاف أصنافهم من أن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث، ونحو ذلك من أقسام الموجودات.
وطائفة ظنت أنه إذا كانت الموجودات تشترك في مسمى "الوجود" لزم أن يكون في الخارج عن الأذهان موجود مشترك فيه، وزعموا أن في الخارج عن الأذهان كليات مطلقة: مثل وجود مطلق، وحيوان مطلق، وجسم مطلق، ونحو ذلك؛ فخالفوا الحس والعقل والشرع، وجعلوا ما في الأذهان ثابتاً في الأعيان، وهذا كله من أنواع الاشتباه.
ومن هداه الله سبحانه فرّق بين الأمور وإن اشتركت من بعض الوجوه، وعلم ما بينها من الجمع والفرق، والتشابه والاختلاف، وهؤلاء لا يضلون بالمتشابه من الكلام لأنهم يجمعون بينه وبين المحكم الفارق الذي يبيّن ما بينهما من الفصل والافتراق.
وهذا كما أن لفظ "إنّا" و"نحن" وغيرهما من صيغ الجمع يتكلم بها الواحد الذي له شركاء في الفعل، ويتكلم بها الواحد الذي له شركاء في الفعل، ويتكلم بها الواحد العظيم، الذي له صفات تقوم كل صفة مقام واحد، وله أعوان تابعون له، لا شركاء له. فإذا تمسك النصراني بقوله:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ونحوه على
تعدد الآلهة، كان المحكم كقوله:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163] ونحو ذلك مما لا يحتمل إلا معنى واحداً يزيل ما هناك من الاشتباه، وكان ما ذكره من صيغ الجمع مبيناً لما يستحقه من العظمة والأسماء والصفات وطاعة المخلوقات من الملائكة وغيرهم.
وأما حقيقة ما دلّ عليه ذلك من حقائق الأسماء والصفات، وما له من الجنود الذين يستعملهم في أفعاله، فلا يعلمه إلا هو:{وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31] ، وهذا من تأويل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله.
بخلاف الملك من البشر إذا قال: قد أمرنا لك بعطاء. فقد عُلم أنه هو وأعوانه ـ مثل: كاتبه، وخادمه، ونحو ذلك أمروا به، وقد يُعلم ما صدر عنه ذلك الفعل من اعتقاداته وإرادته ونحو ذلك.
والله سبحانه وتعالى لا يعلم عباده الحقائق التي أخبر عنها من صفاته وصفات اليوم الآخر، ولا يعلمون حقائق ما أراد بخلقه وأمره من الحكمة، ولا حقائق ما صدرت عنه من المشيئة والقدرة.
وبهذا يتبين أن التشابه يكون في الألفاظ المتواطئة، كما يكون في الألفاظ المشتركة التي ليست بمتواطئة، وإن زال الاشتباه بما يتميّز أحد المعنيين من إضافة أو تعريف، كما إذا قيل:{فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ} [محمد: 15] فهنا قد خصّ هذا الماء بالجنة، فظهر الفرق بينه وبين ماء الدنيا، لكن حقيقة ما امتاز به ذلك الماء غير معلوم لنا، وهو ـ ما أعد الله لعباده الصالحين مما لا عين رأت، ولا أُذُن سمعت، ولا خطر على قلب بشر ـ من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله..
وكذلك مدلول أسمائه وصفاته التي يختص بها، التي هي حقيقته، لا يعلمها إلا هو.
ولهذا كان الأئمة كالإمام أحمد وغيره ينكرون على الجهمية وأمثالهم من الذين يحرفون الكلم عن مواضعه تأويل ما تشابه عليهم من القرآن على غير تأويله، كما قال الإمام أحمد في كتابه الذي صنّفه في "الرد على الزنادقة والجهمية فيما شكت فيه من متشابه القرآن وتأويله على غير تأويله".
وإنما ذمّهم لكونهم تأوّلوه على غير تأويله، وذكر في ذلك ما يشتبه عليهم معناه، وإن كان لا يشتبه على غيرهم، وذمهم على أنهم تأولوه على غير تأويله، ولم ينفِ مطلق التأويل، كما تقدم من أن لفظ "التأويل" يراد به التفسير المبيِّن لمراد الله تعالى به، فذلك لا يُعاب بل يُحمد، ويُراد بالتأويل الحقيقة التي استأثر الله بعلمها، فذال لا يعلمه إلا هو، وقد بسطنا هذا في غير هذا الموضع.
ومن لم يعرف هذا اضطربت أقواله، مثل طائفة يقولون: إن التأويل باطل، وإنه يجب إجراء اللفظ على ظاهره؛ ويحتجون بقوله:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] ويحتجون بهذه الآية على إبطال التأويل.
وهذا تناقضٌ منهم؛ لأن هذه الآية تقتضي أن هناك تأويلاً لا يعلمه إلا الله، وهم ينفون التأويل مطلقاً.
وجهة الغلط أن التأويل الذي استأثر الله بعلمه هو الحقيقة التي لا يعلمها إلا هو، وأما التأويل المذموم والباطل فهو تأويل أهل التحريف والبدع الذين يتأولونه على غير تأويله، ويدّعون صرف اللفظ عن مدلوله إلى غير مدلوله بغير دليل يوجب ذلك، ويدّعون أن في ظاهره من المحذور ما هو نظير المحذور اللازم فيما أثبتوه بالعقل؟ ويصرفونه إلى معان هي نظير المعاني التي نفوها عنه! فيكون ما نفوه من جنس ما أثبتوه، فإن كان الثابت حقاً ممكناً كان المنفي مثله، وإن كان المنفي باطلاً ممتنعاً كان الثابت مثله.
وهؤلاء الذين ينفون التأويل مطلقاً، ويحتجون بقوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] قد يظنون أنَّا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه أحد، أو بما لا معنى له، أو بما لا يُفهم منه شيء.
وهذا مع أنه باطل فهو متناقض؛ لأنّا إذا لم نفهم منه شيئاً لم يجز أن نقول: له تأويل يخالف الظاهر ولا يوافقه لإمكان أن يكون له معنى صحيح، وذلك المعنى الصحيح لا يخالف الظاهر المعلوم لنا، فإنه لا ظاهر له على قولهم، فلا تكون دلالته على ذلك المعنى دلالة على خلاف الظاهر فلا يكون تأويلاً، ولا يجوز نفي دلالته على معان لا نعرفها على هذا التقدير، فإنَّ تلك
المعاني التي دلّت عليها قد لا نكون عارفين بها، ولأنّا إذا لم نفهم اللفظ ومدلوله المراد فلأن لا نعرف المعاني التي لم يدل عليها اللفظ أولى.
لأن إشعار اللفظ بما يُراد به أقوى من إشعاره بما لا يُراد به، فإذا كان اللفظ لا إشعار له بمعنى من المعاني، ولا يُفهم منه معنى أصلاً، لم يكن مشعراً بما أُريد به؛ فلأن لا يكون مشعراً بما لم يرد به أولى.
فلا يجوز أن يقال: إن هذا اللفظ متأوّل، بمعنى أنه مصروف عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح، فضلاً عن أن يقال: إن هذا التأويل لا يعلمه إلا الله، اللهم إلا أن يراد بالتأويل ما يخالف الظاهر المختص بالمخلوقين، فلا ريب أن من أراد بالظاهر هذا فلا بد أن يكون له تأويل يخالف ظاهره.
لكن إذا قال هؤلاء: إنه ليس لها تأويل يخالف الظاهر، أو إنها تجري على المعاني الظاهرة منها، كانوا متناقضين، وإن أرادوا بالظاهر هنا معنى وهنا معنى في سياق واحد من غير بيان كان تلبيساً، وإن أرادوا بالظاهر مجرد اللفظ أي تجري على مجرّد اللفظ الذي يظهر من غير فهم لمعناه كان إبطالهم للتأويل أو إثباته تناقضاً؛ لأن من أثبت تأويلاً أو نفاه فقد فهم منه معنى من المعاني، وبهذا التقسيم يتبيّن تناقض كثير من الناس من نفاة الصفات ومثبتيها في هذا الباب".
معاني الكلمات:
نعلم ما أخبرنا به: أي ما أخبرنا الله ورسوله به من الغيبيات.
من وجه: وهو المعنى.
دون وجه: أي بجهل الوجه الآخر وهو الحقيقة والكيفية، كما سبق أن وضح أكثر في المثلين الجنة والروح.
عناصر الموضوع:
1 ـ موضوع هذه القاعدة:
أن نصوص الصفات معلومة لنا باعتبار المعنى مجهولة لنا باعتبار الكيفية والحقيقة.
2 ـ على من يرد شيخ الإسلام بالقاعدة الخامسة:
يرد شيخ الإسلام بالقاعدة الخامسة على المفوضة القائلين بعدم العلم بالمعاني مطلقاً في الصفات، وتتضمن رداً على المشبهة في دعواهم العلم بالكيفية، ويدخل كذلك فيهم المعطلة، لأنهم عطلوا فراراً من التشبيه، فبيّن لهم أننا نثبت الصفة دون تكييف، فهذه القاعدة من القواعد الجامعة في الرد على أصناف المبتدعة.
3 ـ الصلة بين القاعدتين الخامسة والرابعة:
القاعدة الرابعة يبيّن فيها شيخ الإسلام ما يترتّب على القول بأن ظاهر نصوص الصفات هو التمثيل، ومنشأ الشبهة: اعتقاد المعطلة أن نصوص الصفات هي من المتشابه في المعنى والكيف، والصواب أن نصوص الصفات محكمة في معناها، متشابه في الحقيقة والكيف لأنه مما استأثر الله بعلمها.
قال البزدوي الحنفي: "إثبات اليد والوجه حقٌّ عندنا معلوم بأصله، متشابه بوصفه، ولا يجوز إبطال الأصل بالعجز عن إدراك الوصف بالكيف، وإنما ضلّت المعتزلة من هذا الوجه"1.
4 ـ شرح القاعدة الخامسة:
ظواهر نصوص الصفات معلومةٌ لنا باعتبار، مجهولة لنا باعتبار آخر، باعتبار المعنى: هي معلومة المعنى، وباعتبار الكيفية: التي هي عليها مجهولة2.
فالواجب في نصوص القرآن إجراؤها على ظاهرها وما تدل عليه تلك الظواهر من المعاني اللائقة بالله، ولا سيما نصوص الصفات حيث لا مجال للرأي فيها.
1 أصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار: (1/6.) .
2 القواعد المثلى (ص24) .
ولأن الله تعالى أخبرنا بهذه الصفات وهو أعلم بمراده من غيره وقد خاطبنا باللسان العربي المبين، فوجب قبول المعنى على ظاهره اللائق بالله، وإلا لاختلفت الآراء وتفرقت الأمة.
قال ابن قتيبة: "الواجب علينا أن ننتهي في صفات الله إلى حيث انتهى في صفته، أو حيث انتهى رسوله عليه السلام ولا نزيل اللفظ عما تعرفه العرب ونضعه عليه ونمسك عما سوى ذلك"1.
المقصود: أن الأمر في الصفات كلها كما قال الإمام مالك لمن سأله عن كيفية الاستواء على العرش:
"الاستواء على العرش معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة".
فمن سأل عن كيفية علم الله أو كيفية خلقه وتدبيره قيل له: كما أن ذات الله تعالى لا تشبهها الذوات، فصفاته لا تشبهها الصفات، فالخلق يعرفون الله ويعرفون ما تعرف لهم من صفاته وأفعاله، وأما كيفية ذلك فلا يعلم تأويله إلا الله"2.
5 ـ ما تدور عليه هذه القاعدة:
تدور هذه القاعدة على مسألتين:
1 ـ أن نصوص الصفات معلومة المعنى بمقتضى اللسان العربي المبين ومعانيها محكمة.
2 ـ أن كيفية الصفات مجهولة فهي من المشابه.
6 ـ الفائدة من تقرير القاعدة الخامسة:
بهذا التقرير الذي تبيّن به أن لا يمكن أن يكون في القرآن شيء لا يعلم معناه إلا الله يتبين بطلان مذهب المفوضة الذين يفوضون علم آيات الصفات،
1 عقيدة الإمام ابن قتيبة (139) .
2 انظر: طريق الوصول للسعدي (ص8) .
ويدّعون أن هذا هو مذهب السلف وقد ضلوا فيما ذهبوا إليه، وكذبوا فيما نسبوه إلى السلف، والسلف إنما يفوضون علم الكيفية دون علم المعنى.
7 ـ الأدلة التي ذكرها المؤلف في الدلالة على أن نصوص الصفات معلومة:
1 ـ النصوص الآمرة بتدبير الكتاب كله، لا يمكن التدبر إلا لما يفهم معناه، ومن الآيات الدالة على التدبر ما يلي:
أـ قوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82] .
ب ـ قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} [المؤمنون: 68] .
ج ـ قوله تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [صّ: 29] .
د ـ وقوله تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] .
2 ـ النصوص الدالة على أن القرآن عربي مما يدل على أن معانيه مفهومة بلغة العرب ومنها:
أـ {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2] .
ب ـ {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3] .
ج ـ {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً} [الشورى: 7] .
د ـ {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3] .
3 ـ النصوص الدالة على حسن البيان والإيضاح منها:
أـ {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاس} [آل عمران: 138] .
ب ـ {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15] .
ج ـ {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] .
د ـ {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] .
4 ـ النصوص الدالة على ذم من لا يفهم الكتاب مما يدل على أن معانيه مفهومة ومنها:
أـ {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [البقرة: 78] .
ب ـ {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [البقرة: 171] .
ج ـ {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء: 78] .
د ـ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً} [محمد: 16] .
وغير ذلك من الأدلة الدالة على فهم المعنى حتى أوصلها شيخ الإسلام إلى مائة دليل1.
9 ـ آيات الصفات ليست من المتشابه في المعنى:
آيات الصفات ليست من المتشابه في المعنى، وإنما كيفية الصفات من المتشابه الذي لا نعلمه، والذي نكل علمه إلى الله سبحانه وتعالى.
فآيات الصفات غير مجهولة معناها كما قال الإمام مالك: "الاستواء معلوم والكيف غير معقول" وكذلك يقال في النزول غير مجهول والكيف غير معقول والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب، واطرده في جميع الصفات لأن هذه الصفات معروفة عند العرب إلا أن ما وصف به خالق السموات والأرض أكمل وأجل وأعظم من أن يشبه شيئاً من صفات المخلوقين، كما أن ذات الخالق جل وعلا حق، والمخلوقون لهم ذوات، وذات الخالق جل وعلا أكمل وأنزه وأجل من أن تشبه شيئاً من ذوات المخلوقين2.
1 نقض التأسيس (2/11) .
2 منهج ودراسات الآيات الأسماء والصفات (ص 38ـ 39) .
10.
ـ الدليل الذي ذكره المؤلف على أن كيفية نصوص الصفات مجهولة:
ذكر المؤلف دليلاً واحداً على أن الصفات مجهولة الكيفية لأن الله استأثر بعلمها وهو قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] ، فالآية تدل على أن في القرآن شيئاً لا يعلم حقيقته وكنهه إلا الله ألا وهو كيفية الصفات والأمور الغيبية، وتدل الآية على أن الراسخين في العلم يعلمون معنى المتشابه الذي يخفى على كثير من الناس على قراءة الوصل.
11 ـ معنى قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ
…
} الآية1:
يخبر تعالى عن عظمته، وكمال قيوميته، وأنه هو الذي تفرد بإنزال هذا الكتاب العظيم، الذي لم يوجد ولن يوجد له نظير أو مقارب في هدايته وبلاغته وإعجازه وإصلاحه للخلق، وأن هذا الكتاب يحتوي على المحكم الواضح المعاني البين، الذي لا يشبه بغيره، ومنه آيات متشابهات، تحتمل بعض المعاني، ولا يتعين منها واحد من الاحتمالين بمجردها حتى تضم إلى المحكم فالذين في قلوبهم مرض وزيغ وانحراف لسوء قصدهم، يتبعون المتشابه منه، فيستدلون به على مقالاتهم الباطلة وآرائهم الزائفة، طلباً للفتنة وتحريفاً لكتابه، وتأويلاً له على مشاربهم ومذاهبهم ليَضلوا ويُضلوا، أما أهل العلم الراسخون فيه، الذين وصل العلم واليقين إلى أفئدتهم، فأثمر لهم العمل والمعارف، فيعلمون أن القرآن كله من عند الله وأنه كله حق، محكمه ومتشابهه، وأن الحق لا يتناقض ولا يختلف، فلعلمهم أن المحكمات معناها في غاية الصراحة والبيان، يردون إليها المشتبه الذي تحصل فيه الحيرة لنا وناقص العلم وناقص المعرفة.
1 انظر تفسير السعدي (ص1.2) .
فيردون المتشابه إلى المحكم، فيعود كله محكماً ويقولون:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ} للأمور النافعة والعلوم الصائبة {إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} أي أهل العقول الرزينة.
ففي هذا دليل على أن هذا من علامة أولي الألباب، وأن اتباع المتشابه من أوصاف أهل الآراء السقيمة، والعقول الواهية والقصود السيئة.
وقوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} إن أريد بالتأويل معرفة عاقبة الأمور، وما تنتهي إليه وتؤول، تعيّن الوقوف على {إِلَّا اللَّهُ} حيث هو تعالى المتفرد بالتأويل بهذا المعنى، وإن أريد بالتأويل: معنى التفسير، ومعرفة معنى الكلام، كان العطف أولى فيكون هذا مدحاً للراسخين في العلم، وأنهم يعلمون كيف ينزلون نصوص الكتاب والسنة محكمها ومتشابهها المقصود أن الآية لا تدل على أن الآية لا تدل على أن في القرآن شيئاً لا يعلم معناه إلا الله تعالى إنما تدل على أن في القرآن شيئاً لا يعلم حقيقته وكنهه إلا الله على قراءة الوقف، وتدل على أن الراسخين في العلم يعلمون معنى المتشابه الذي يخفى على كثير من الناس على قراءة الوصل.
12 ـ التأويل عند أهل السنة وأهل اللغة:
التأويل لغة: ترجيع الشيء إلى غاية المراد منه من الأول وهو الرجوع.
وفي الاصطلاح: رد الكلام إلى الغاية المراد منه، بشرح معناه أو حصول مقتضاه ويطلق التأويل عند أئمة أهل السنة على معنيين:
• الأول ـ التفسير: وهو توضيح الكلام بذكر معناه المراد به والتأويل بهذا المعنى معلوم لأهل العلم.
• الثاني ـ مآل الكلام إلى حقيقته: فإن كان خبراً فتأويله نفس حقيقة المخبر عنه، وذلك في حق الله كنه ذاته وصفاته التي يعلمها غيره، وإن كان طلباً فتأويله امتثال المطلوب، والتأويل بهذا المعنى مجهول حتى يقع فيدرك واقعاً.
13 ـ التأويل البدعي:
هو صرف اللفظ عن المعنى الراجع إلى المعنى المرجوع لدليل يقتضيه. وهو اصطلاح كثير من المتأخرين، فهل هو حق أم باطل؟
التحقيق: أنه إذا دل عليه دليل صحيح فهو حق محمود يعمل به ويكون من المعنى الأول للتأويل وهو التفسير، وإن لم يدل عليه دليل صحيح كان باطلاً مذموماً وجديراً أن يسمى تحريفاً لا كتأويل استوى باستولى أو ملك فهذا تحريف للكلم عن مواضعه.
14 ـ أول من قال بالتأويل البدعي:
أول من قال بالتأويل البدعي هم الجهمية، ثم تسرب إلى كتب الفقه والأصول والقواميس اللغوية المتأخرة، فنجد (ابن منظور) المتوفي سنة (711هـ) يحكي هذا المعنى عن ابن الأثير و (الزبيدي) في (تاج العروس) ، يحكي هذا المعنى عن ابن الكمال وعن ابن الجوزي.
وفي كتب علم الكلام المتأخرة نجد أن هذا المعنى مستعمل في معظمها فهو عند الغزالي في (إلجام العوام) وابن رشد في (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال) ولم يذكره أحد من أئمة التفسير وقدماء المفسرين في تفسير لفظ التأويل في القرآن.
15 ـ إجماع علماء السلف على عدم التأويل:
أطبق علماء السلف على عدم التأويل البدعي ولم يعرف خلاف بينهم في تركه، قال ابن قدامة:"وأما الإجماع فإن الصحابة أجمعوا على ترك التأويل بما ذكرنا عنهم، وكذلك أهل كل عصر بعدهم ولم ينقل التأويل إلا عن مبتدع أو منسوب إلى بدعة"، ولهذا لم يستطع بشر المريسي حامل لواء التجهم في وقته أن ينسب شيئاً من ذلك إلى السلف حين قال الشافعي:"أخبرني عما تدعوا إليه.. أكتاب ناطق وفرض مفترض وسنة قائمة ووجدت عن السلف البحث فيه والسؤال عنه؟ " فقال بشر: لا إلا أنه لا يسعنا خلافه. فقال الشافعي: أقررت بنفسك على الخطأ، فأين أنت من الفقه والأخبار؟
فلما خرج قال الشافعي: لا يفلح"1.
المقصود أن صرف الآية أو الحديث عن ظاهر مدلوله بلا برهان من الله هو التعطيل بعينه، وهو مبني على إلغاء النص والبعد به عن فهم السلف الصالح.
16ـ التأويل الكلامي أصل كل بدعة ظهرت في المسلمين:
إن الفرقة الواقعة في الأمة قديماً وحديثاً كلها إذا أمعنت النظر وجدت أنها راجعة إلى التأويل الفاسد، إذ اتخذت الفرق التأويل البدعي متكأ لتبرير الأصول التي أصلوها واعتقدوها، واخترعوا لأجل ذلك قوانين عقلية وأصولاً كلامية جعلوها الحكم في فهم الدين والفيصل في معرفة الحق من الباطل، فمتى ظهرت مسألة رجعوا إلى معقولاتهم وخواطرهم وآرائهم فطلبوا الدين من قبلها، فإذا سمعوا شيئاً من الكتاب والسنة عرضوه على معيارهم، فإن استقام قبلوه وإلا حرفوه بالتأويلات البعيدة والمعاني المستكرهة فحادوا عن الحق وزاغوا عنه2.
17-
التأويل الكلامي يناقض الإيمان بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم:
إن حقيقة الإيمان برسالة النبي صلى الله عليه وسلم تصديقه فيما أخبر وطاعته فيما أمر والانتهاء عما نهى عنه وزجر، وأهل التأويل البدعي لم يسلموا له في شيء من ذلك بل تدخلوا بعقولهم وآرائهم فحرفوا النصوص عن مدلولاتها الحقيقية يقول ابن القيم:"ومن أعظم آفات التأويل وجناياته أنه إذا سلط على أصول الإيمان والإسلام اجتثها وقلعها..وذلك أن معقد هذه الأصول تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر وطاعته فيما أمر فعمدوا إلى أجل الأخبار وهو ما أخبر به عن الله من أسمائه وصفاته ونعوت كماله فأخرجوه عن حقيقته وما وضع له"3.
1 صون المنطق، (ص3.) .
2 الحجة في بيان المحجة للتيمي (2/224) .
3 الصواعق المرسلة (1/365) .
18-
الأدلة على بطلان مذهب التأويل البدعي:
الأدلة على بطلان مذهب التأويل البدعي كثيرة نورد بعضاً منها:
1 ـ إن ما أثبته السلف رضوان الله عليهم من مسائل العقيدة هو من عند الله والكتاب والسنة قد دلا عليه.
أما المتأوّلة فلا يملك أحدهم أن يدعي ما نفاه من دلالة النصوص، أو ما أوَّله عليها من المعاني البعيدة، لا يستطيع أن يقول هذا من عند الله جازماً ذللك.
2 ـ القول بمذهب التأويل يلزم منه أن يكون الصحابة والسلف بين أمرين، كليهما باطل: إما أن الصحابة لم يفهموا الحق في ذلك وأن ظواهر هذه النصوص باطلة، أو أنهم علموا الحق وفهموه ولكنهم كتموه ولم يقوموا بواجب النصح للمسلمين وكلا الأمرين باطل، لا يصح ولا يستقيم في حق الصحابة وسلف الأئمة. 3 ـ حالة المتأولة هذه تجعلهم يخضعون النصوص إلى معطيات العقل والحس، فخرجوا عن حد الاتصاف بالإيمان بالغيب.
4 ـ المتأولة يردون النصوص إلى اعتقاداتهم وأصولهم الباطلة وإن كانت واضحة في الحجة والإثبات
5 ـ التأويل من أسباب تفرق الأمة وتمزقها والاختلاف في أصول الدين وجعل بعضهم يلعن بعضاً، وبعضهم يكفر، وترى طوائف منهم تسفك دماء الآخرين، وتستحل منهم الأنفس والأموال والأعراض.
19-
المراد بالمحكم والمتشابه في القرآن:
1-
الإحكام الذي وصف به جميع القرآن هو الإتقان والجودة في اللفظ والمعنى.
2-
الإحكام الذي وصف به بعض القرآن هو الوضوح والظهور وهو كثير في الأخبار والتشابه الذي وصف به بعض القرآن فهو الاشتباه،
أي خفاء المعنى بحيث يشتبه على بعض الناس دون غيرهم فيعلمه الراسخون دون غيرهم.
2 ـ موقف المسلم من وصف القرآن جميعه بالإحكام ووصفه بالتشابه، مع بيان ذلك بمثال:
إن وصف القرآن جميعه بالإحكام ووصفه جميعه بالتشابه لا يتعارضان، والجمع بينهما أن الكلام المحكم المتقن يشبه بعضه بعضاً في الكمال والصدق فلا يتناقض في أحكامه ولا يتكاذب في أخباره.
21-
نصوص الصفات على الحقيقة لا تأويل فيها ولا مجاز:
صفات الله الواردة في الكتاب والسنة هي على الحقيقة كما يليق بالله، فإثبات الحقيقة ونفي المجاز في صفات الله هو اعتقاد كل مسلم طاهر القلب من أقذار التشبيه، لأنه لا يسبق إلى ذهنه من اللفظ الدال على الصفة كصفة اليد والوجه إلا أنها صفة الكمال، منزهة عن مشابهة صفات الخلق، فلا يخطر في ذهنه التشبيه الذي هو سبب نفي الصفة وتأويلها بمعنى لا أصل له1.
لذا قال الحافظ ابن عبد البر: "وأهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنة، والإيمان بها، وحملها على الحقيقة لا على المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك لا يحدون فيه صفة محصورة، وأما أهل البدع والجهمية والمعتزلة والخوارج فكلهم ينكرها، ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة"2.
22-
نقض دعوى المعطلة من أن تأويل الصفات مجمع عليه:
يدعي المعطلة أن التأويل مجمع عليه، قال المقري في إضاءته:
فاصرفه عن ظاهره إجماعاً
واقطع عن الممتنع الأطماعا3
قلت: هذا كذب.
1 أضواء البيان (7/463) .
2 التمهيد (7/145) .
3 إضاءة الدجنة في عقائد أهل السنة (ص148) .
وقد كذَّب حكاية الإجماع على التأويل بعض أهل العلم، قال الشنقيطي معقباً على دعواهم الإجماع:"مفقود أصلاً، ولا وجود له البتة، لأنه مبني على شرط مفقود لا وجود له البتة، فالإجماع المعدوم المزعوم لم يرد في كتاب الله ولا في سنة رسوله، ولم يقله أحد من أصحاب رسول الله ولا من تابعيهم، ولا أحد من الأئمة الأربعة، ولا من فقهاء الأمصار المعروفين، وإنما لم يقولوا بذلك، لأنهم يعلمون أن ظواهر نصوص الوحي لا تدل إلا على تنزيه الله عن مشابهة خلقه، وهذا الظاهر الذي هو تنزيه الله لا داعي لصرفها عنه كما ترى"1.
أما وصف القرآن بأن بعضه محكم وبعضه متشابه فلا تعارض بينهما أصلاً؛ لأن كل وصفه وارد على محل لم يرد عليه الآخر، فبعض القرآن محكم ظاهر المعنى، وبعضه متشابه في المعنى، وقد انقسم الناس في ذلك إلى قسمين:.
• فالراسخون: في العلم يقولون آمنا به كل من عندنا ربنا، ويردون المتشابه إلى المحكم.
• وأما أهل الضلال: فاتبعوا المتشابه وجعلوه مثاراً للشك فضلوا وأضلوا.
مثال ذلك:
قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} [يس: 12]، وقال:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ونحوها مما أضاف الله الشيء إلى نفسه بصفة الجمع، فاتبع النصراني هذا المتشابه وادعى تعدد الآلهة، وقال: إن الله ثالث ثلاثة، وترك المحكم الدال على أن الله واحد.
أما الراسخون في العلم فيحملون الجمع على التعظيم لتعدد صفات الله وعظمها، يردون هذا المتشابه إلى المحكم في قوله تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [البقرة: 163] ويقولون للنصراني: إن الدعوى التي ادعيت بها وقعت لك من الاشتباه قد كفرك الله بها وكذلك فيها فاستمع إلى
1 أضواء البيان (7/451،452) .
قوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ} [المائدة: 73] .
23-
الحكمة من كون بعض القرآن متشابهاً:
الحكمة من ذلك ابتلاء العباد واختبارهم ليتبين الصادق في إيمانه الراسخ في عمله من الشاك الجاهل الزائغ الذي يتبع ما تشابه منه، ليضرب كتاب الله بعضه ببعض فيضل ويضل.
24-
أقسام التشابه الواقع في القرآن:
ينقسم التشابه الواقع في القرآن إلى قسمين:
1ـ حقيقي، 2ـ نسبي.
• أما الحقيقي فهو: وهو لا يعلمه إلا الله مثل ما أخبر عن نفسه وعن اليوم الأخر، وهذا النوع الذي لا يعلمه إلا الله لا يسأل عنه لتعذر الوصول إليه.
• أما التشابه النسبي فهو: وهو ما يكون متشابهاً على بعض الناس دون بعض، فيعلم منه الراسخون في العلم ما يخفى على غيرهم، إما لنقصٍ في علمهم أو قصور في فهمهم أو سوء في قصدهم.
25-
حقيقة أهل التفويض ووجه الغلط عندهم:
حقيقة مذهب المفوضة: يزعمون أن نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله وهم في الظاهر طائفتان:
• الطائفة الأولى: تقول إن هذا الظاهر غير مراد ولا يعلمه أحد من الخلق.
• الطائفة الثانية: تقول إنها تجرى على ظاهرها وتأويلها باطل، ومع ذلك لا يعلمه إلا الله1.
والتفويض متفق مع التأويل في كونه يفضي إلى التعطيل، ومع ذلك فالمفوضة ينسبون مذهبهم إلى السلف، ومن هنا اشتهرت عبارتهم. مذهب
1 انظر درء التعارض (1/15) .
السلف التفويض ومذهب الخلف التأويل1، ومذهب السلف أسلم ومذهب الخلف أحكم، وهذه المقالة باطلة في نفسها فإن الأسلم هو الأحكم والحكمة تبتغي السلامة.
جهة الغلط عندهم من وجهين:
1 ـ أنهم جعلوا نصوص الصفات من قبيل المتشابه دون تفصيل لمعنى التشابه المقصود فيها.
2 ـ عدم معرفتهم لإطلاقات التأويل، فإنهم قالوا: إنها متشابه والمتشابه لا يعلم تأويله إلا الله، والتأويل الذي استأثر الله بعلمه إنما هو الحقيقة والكيفية، والتأويل الباطل إنما هو تأويل أهل التحريف، وهو صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل بل مجرد التوهمات الباطلة التي تمجُّها العقول الصحيحة، وهم في تأويلاتهم تلك يفرون من محاذير بزعمهم فيقعون في نظيرها كما سبق.
26 ـ تفويض معنى الصفات ليس مذهباً للسلف:
السلف يثبتون المعنى اللائق بجلال الله، أما ما يظهر من نصوص الكتاب والسنة المعلومة بلغة العرب التي نزل بها القرآن وخاطبهم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فهي معلومة عندهم، وأما الكيف فيفوضونه، والدليل على ذلك ما يأتي:
أـ أن الآيات القرآنية: التي تضمنت هذه الصفات الكريمة لله تعالى من الاستواء والمجيء، والرضا والغضب والمحبة، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأقوال الصحابة عن هذه الصفات لله عز وجل تدل على أن المقصود منها الإثبات لا غير.
ب ـ أن الآثار الواردة عن الصحابة والتابعين: ومن جاء بعدهم من علماء السلف، تدل على أن مذهبهم إنما هو إثبات الصفات لله سبحانه وتعالى.
1 انظر مناهل العرفان (2/197) .
ج ـ كثير ممن صنف في العقائد ومن المتقدمين بين أن مذهب السلف هو إثبات المعنى وإنما التفويض في الكيف.
د ـ إن الذين صنفوا في العقيدة من المتقدمين قد ذكروا الأحاديث التي تتعلق بالصفات ضمن أبواب رسائلهم، حتى إن ابن خزيمة أطلق على كتابه في ذلك اسم "كتاب التوحيد وإثبات صفات الرب"، باب إثبات وجه الله، وباب في إثبات العين لله، وباب في ذكر استواء خالقنا الأعلى، باب في صفة تكلم الله بالوحي، وهكذا فعل كثير ممن صنف في العقيدة السلفية، مثل الدارمي والإمام أحمد وابن أبي عاصم، واللالكائي والآجري والبيهقي وأبي الحسن الأشعري وابن بطة وغيرهم.
هـ ـ تبويب المحدثين لأحاديث الصفات في كتبهم دليل قاطع أيضاً على أن مذهب السلف هو إثبات الصفات التي وصف الله بها نفسه، أو وصفه رسوله مثل تبويب البخاري في باب قوله تعالى:{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} ] القصص: 88 [، وباب قول الله عز وجل: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه: 39] .
27 ـ لوازم مذهب التفويض:
يلزم على القول بمذهب التفويض لوازم باطلة هي:
1 ـ القدح في حكمة الرب عز وجل حيث أنزل كلاماً لا يتمكن الناس من فهمه ومعرفة معناه.
2 ـ الوقوع في التعطيل.
3 ـ غلق باب التدبر لكتاب الله تعالى وهو مخالف لقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} ] الؤمنين: 68 [.
4 ـ مصادمة النصوص الدالة على الإثبات وقد تقدم ذكرها.
5 ـ تجهيل النبي صلى الله عليه وسلم والسابقين الأولين.
قال ابن مسعود: "كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى
يعرف معانيهن والعمل بهن"1. فهذا سبيل المؤمنين من الصحابة والتابعين.
28 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فهي متفقة متواطئة من حيث الذات متباينة من جهة الصفات) .
أقول: معناه: أن أسماء الله تعالى: نحو الرحمن الرب الغفور القهار العليم السميع البصير.
أسماء لها جهتان:
• الجهة الأولى: أنها متفقة في الدلالة على ذات الله تعالى، فهي بهذا الاعتبار متواطئة أي مترادفة ومتفقة في الدلالة.
فكلها أسماء لمسمى واحد وهو الله تعالى وكلها تطلق على الله تعالى على حد سواء، فهي متواطئة في الدلالة على الله سبحانه.
• الجهة الثانية: وهي جهة دلالتها على معانيها الدالة على صفات الله تعالى، فهي بهذا الاعتبار متباينة.
فإن الرحمن يدل على صفة الرحمة، والعليم يدل على صفة العلم، ولا شك أن صفة الرحمة غير صفة العلم. فأسماء الله تعالى باعتبار دلالتها على ذات الله تعالى متفقة ومتواطئة، وباعتبار دلالتها على الصفات متباينة ومختلفة.
29 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فمن اشتبه عليه وجود الخالق بوجود المخلوقات كلها
…
) إلى قوله: (وجعلوا ما في الأذهان ثابتاً في الأعيان وهذا كله نوع من الاشتباه) .
أقول: يقصد شيخ الإسلام: أن كثيراً ممن يدعي التوحيد والتحقيق والعرفان والعلم قد وصلوا بضلالهم إلى حد اشتبه عليهم وجود الخالق تعالى بوجود المخلوق، فظنوا أن وجود الخلق بعينه وجود الخالق، ومنشأ
1 جامع البيان (1/35) .
هذا الظن الفاسد: أن الموجودات كلها تشترك في مسمى الوجود بالمعنى العام.
فالله أيضاً موجود والكون أيضاً موجود واسم الموجود يشمل الخالق والمخلوق، فظنوا أن وجود الخالق بعينه هو وجود المخلوق، ولم يفرقوا بين وجود الواحد بالعين وبين وجود المخلوق، ولم يفرقوا بين وجود الواحد بالعين وبين وجود الواحد بالنوع.
أي هؤلاء لم يعرفوا الفرق بين حكم النوع وبين حكم أفراده، مع أن حكم النوع يختلف عن حكم أفراده فحكم النوع عموم من حيث العموم، وحكم الفرد خصوص من حيث الخصوص، إذ من المعلوم أن حكم الإنسان العام الكلي غير حكم زيد وعمرو وبكر وخالد.
إذ لا شك أن الموجودات تشترك في الوجود عاماً، ولكن إذا نظرت إلى أفراد تلك الموجودات يختلف وجود كل فرد.
وبهذا الاعتبار يختلف وجود الله تعالى عن وجود المخلوقات.
فالمراد بالواحد بالعين ـ هو الفرد من أفراد الكلي نحو زيد، والمراد بالواحد بالنوع هو الأمر الكلي العام نحو الإنسان، والحيوان والموجودات.
ثم بين شيخ الإسلام ضلال أشخاص آخرين1وهم الذين ظنوا: أن لفظ "الوجود" من قبيل المشترك اللفظي يشترك فيه وجود الخالق ووجود المخلوق على حد سواء.
فزعموا أن الموجودات كلها تشترك في مسمى الوجود بالاشتراك اللفظي، وزعموا أن هذا يستلزم التشبيه والتركيب فخالف هؤلاء إجماع العقلاء في قولهم: إن الوجود ينقسم إلى قديم ومحدث مع أن القديم والمحدث ليسا سواء في الوجود البتة وطائفة ظنت أنه إذا كانت الموجودات تشترك في مسمى الوجود لزم أن يكون في الخارج موجود مشترك فيه،
1 وهم بعض المتكلمين، ومنهم الآمدي انظر:"الإحكام في أصول الأحكام" له 1/20 ـ 21 وقد رد عليه شيخ الإسلام في رسالة (الحقيقة والمجاز)(ص/49 ـ 56) وضمن مجموع الفتاوى (20/441 ـ 449) .
فزعموا أنه توجد في الخارج عن الأذهان كليات مطلقة عامة نحو وجود مطلق وحيوان مطلق وإنسان مطلق، فخالف هؤلاء الحس والعقل والشرع جميعاً لأن العقلاء متفقون على أن الأمور العامة والكليات المطلقة أمور ذهنية وجودها ذهني ولا يوجد في الخارج البتة، وإنما توجد في الخارج أفراد تلك الأمور العامة، فالأمور العامة لا توجد إلا في الذهن ولكن الأفراد بالخصوص توجد في الخارج.
30 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولهذا تبين أن التشابه يكون في الألفاظ المتواطئة كما يكون في الألفاظ المشتركة التي ليست بمتواطئة) .
أقول: هذا المبحث المتعلق بالمبحث السابق الذي كان سبباً لضلال كثير من الناس فالحاصل: أن شيخ الإسلام يقول:
إن الألفاظ نوعان: نوع: ألفاظ متواطئة وهي كليات عامة تصدق وتطلق على أفراد على سبيل الموافقة والمواطأة على حد سواء. كالإنسان الكلي العام، فإن الإنسان يطلق على زيد وعمر وبكر على سبيل المواطأة والموافقة على حد سواء.
ونوع ألفاظ مشتركة نحو لفظ "العين"، فلفظ "العين" يطلق على عين الشمس وعلى عين الركبة وعلى الذهب وعلى عين الرأس وعلى الماء النابع من الأرض وعلى ذات الشيء.
ولكن لا على سبيل المواطأة والموافقة، بل على سبيل الاشتراك والمبادلة.
لأن عين الشمس وعين الرأس وعين الركبة والذهب وذات الشيء والماء النابع من الأرض ليست من أفراد لفظ "العين".
وإنما العرب قد وضعوا لفظ "العين" لكل هذه المعاني على سبيل الاستقلال والبدلية والاشتراك.
31 ـ الأسئلة والأجوبة الواردة على القاعدة الخامسة:
س1 ـ اشرح مضمون القاعدة الخامسة؟ وما المقصود بها؟
ج ـ القاعدة هي: أنا نعلم ما أخبر الله به من وجه دون وجه. ومضمونها هو أننا: نعلم ما أخبرنا الله ورسوله به من الغيبيات من وجه وهو المعنى ونجهلها من وجه آخر وهو الحقيقة والكيفية.
* والمقصود بها إثبات صفات الله تعالى من غير تكييف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل.
س2 ـ على من يرد بهذه القاعدة؟
ج ـ يرد بها على المفوضة القائلين بعدم العلم بالمعاني مطلقاً، وتتضمن أيضاً الرد على المشبهة في دعواهم العلم بالكيفية وكذلك المعطلة لأنهم عطلوا الصفات فراراً من التشبيه، فيبين لهم أننا نثبت الصفات دون تكييف.
س3 ـ اذكر الأدلة المؤيدة لهذه القاعدة؟
ج ـ من الأدلة المؤيدة لهذه القاعدة باختصار ما يلي:
• أولاً ـ أدلة علمنا بمعاني الآيات:
1 ـ النصوص الآمرة بتدبر الكتاب كله، ولا يمكن التدبر إلا لما يفهم معناه، ومن الآيات الدالة على التدبر ما يلي:
أـ قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْل} ] المؤمنون: 68 [.
ب ـ وقوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} ] محمد: 24 [.
2 ـ النصوص الدالة على أن القرآن عربي مما يدل على أن معانيه مفهومة بلغة العرب ومنها ما يلي:
أـ قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف: 2 [، وقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً} ] الشورى: 7 [.
3 ـ النصوص الدالة على حسن البيان أو الإيضاح ومنها ما يلي:
أـ قوله تعالى: {هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 138 [، وقوله تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} ] المائدة: 15 [.
4 ـ النصوص الدالة على ذم من لا يفهم الكتاب مما يدل على أن معانيه مفهومة ومنها ما يلي:
أـ قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} ] البقرة: 78 [، أي لا يعلمون إلا التلاوة واللفظ.
ب ـ وقوله: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} ] النساء: 78 [.
• ثانياً ـ الدلالة على جهلنا بالوجه الآخر وهو الحقيقة الكيفية بقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} ] آل عمران: 7 [.
س4 ـ اذكر الخلاف في المتشابه والمحكم؟
ج ـ اختلف في ذلك على خمسة أقوال وهي كما يلي:
1 ـ قيل: المحكم من استقل بنفسه وظهر معناه، والمتشابه ما احتاج إلى بيان فيدخل فيه المجمل وغيره. وهو قول مجاهد واختيار الإمام أحمد والشافعي.
2 ـ وقيل: المحكم هو المعمول به، والمتشابه هو المنسوخ. وهو قول ابن عباس وابن مسعود وغيرهما.
3 ـ وقيل: المحكم هو ما فهمه العلماء، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه كالغيبيات والحروف المقطعة. وهو قول جابر والثوري ورجحه ابن جرير والقرطبي.
4 ـ وقيل: المحكم ما أحكمه الله وفصله كالمواريث والقصص وغيرها، والمتشابه ما اشتبهت الألفاظ فيه.
5 ـ وقيل: الإحكام والتشابه أمران نسبيان من حيث المعنى يفهم بحسب تفاوت أفهام الناس. وهو اختيار شيخ الإسلام.
* ومن الأدلة على هذا القول ـ الأخير ـ قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الحلال بين
والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس". رواه البخاري ومسلم (ح رقم 2051) .
* مناقشة هذه الأقوال يطول، والذي تجتمع عليه الأدلة والأقوال هو القول الأخير والله أعلم.
س5 ـ اذكر معاني التأويل، مع التمثيل لكل نوع؟
• الأول: التفسير والبيان والإيضاح: وهو الذي عناه المفسرون ومثاله قول ابن جرير حيث يقول: "واختلف علماء التأويل" يقصد علماء التفسير.
• الثاني: الحقيقة التي يؤول إليها الكلام. ومثاله قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} [يوسف: 1..] . فجعل تأويل الرؤيا هو تحققها في الخارج.
• الثالث: "هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به. مثاله قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُم} [التوبة: 67]، وقوله:{وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية: 34] ، وغيرها من الآيات التي ورد فيها نسبة النسيان إلى الله تعالى، فقد ثبت عن ابن عباس وغيره أن النسيان: هو الترك، وقد دل الدليل على هذا التأويل تصريحاً كما في قوله تعالى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64] . وقوله: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه: 52] ، فلذلك جاز حمل الآية على ذلك المعنى.
س6 ـ ما هي شروط التأويل الصحيح؟ ومثِّل له بمثال قد توفرت فيه الشروط؟
ج ـ شروط التأويل الصحيح هي أربعة:
1 ـ أن يكون اللفظ المراد تأويله يحتمل المعنى المؤول لغة وشرعاً.
2 ـ أن يكون السياق محتملاً للتأويل، فمثلاً لفظ النظر قد يحتمل معان في اللغة، ولكنه إذا جاء معدّى بإلى فلا يحتمل إلا الرؤية
3 ـ أن يقوم الدليل على أن المراد هو المعنى المؤول.
4 ـ أن يسلم دليل التأويل من معرض أقوى منه، وكل ما اختل فيه شرط من هذه الشروط فهو تأويل فاسد.
* ومثال التأويل الصحيح الذي توفرت فيه الشروط قوله تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67]، فقد ثبت عن ابن عباس وغيره أن النسيان هنا هو الترك بدليل قوله تعالى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64] .
س7 ـ ما فائدة الاتفاق بين معاني الغائب مع معاني الشاهد؟
ج ـ فائدة هذا الاتفاق هي: فهم الخطاب، ثم بعد فهم للخطاب، يدل الخطاب على الفارق المميز بين المعنيين، فمثلاً أخبرنا الله تعالى عما في الجنة من أنواع النعيم ثم بيّن الفارق بينهما كما في قوله {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ، وقال في الحديث القدسي:"أعددت لعبادي الصالحين في الجنة: ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر" رواه البخاري برقم (4779، 478.) ومسلم رقم (2824) .
فهذا المعنى المشترك مفهوم لدينا في الدنيا وأما حقيقة ما أخبر به في الآخرة فهو من الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.
س8 ـ هل أسماء الله محصورة بعدد معين أم لا؟
ج ـ أسماء الله تعالى غير محصورة بعدد معين وهو قول الجمهور، والدليل قوله صلى الله عليه وسلم:"اللهم إني أسالك بكل اسم هو لك، سميتَ به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك.."
رواه أحمد وغيره وانظر السلسلة الصحيحة للألباني (1/383/رقم 199) .
* فجعل أسماء الله تعالى ثلاثة أقسام:
1 ـ قسم استأثر به في علم الغيب عنده.
2 ـ قسم أنزله الله في كتابه.
3 ـ قسم علمه أحداً من خلقه.
س9 ـ هل أسماء الله مترادفة أم متباينة؟
ج ـ مذهب أهل السنة والجماعة التفصيل فيقولون: هي مترادفة أو متفقة أو متواطئة. في دلالتها على الذات، متباينة من جهة دلالتها على الصفات.
* ومذهب المعتزلة أنها مترادفة مطلقاً فهي لا تتنوع معانيها بناء على نفيهم للصفات.
وهذا مثل أسماء النبي صلى الله عليه وسلم: "محمد وأحمد والماحي والحاشر والعاقب" الثابتة في الصحيحين. فإنها تتنوع في الصفات: فالماحي: الذي يمحو الشرك. والحاشر الذي يحشر الناس على قدمه. والعاقب: هو الذي لا نبي بعده. ولكنها متفقة في دلالتها على النبي صلى الله عليه وسلم وهكذا.
س1. ـ عرف كلاًّ من المحكم العام والخاص، والمشابه الخاص والعام؟
ج ـ المحكم العام في القرآن: بمعنى الإتقان. أي متقن جيد في لفظه ومعناه.
والمحكم الخاص: هو ضد التشابه الخاص. لذلك ذكر الله تعالى أن بعض القرآن متشابه وبعضه محكم قال تعالى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] .
والإحكام العام: لا ينافي التشابه العام، فإنه كلما كان الكلام متقناً كان مصدقاً بعضه لبعض ومتناسباً فلذلك وصف القرآن بأنه محكم كله، وكله متشابه لأن المعنيين متوافقان بل ومتلازمان.
والتشابه العام: هو بمعنى التناسب والتماثل في الصحة والفصاحة.
والتشابه الخاص: هو مشابهة الشيء لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر بحيث يشتبه على بعض الناس.
س11 ـ اذكر أمثلة لطوائف ضلت من جهة المتشابه؟
ج ـ الطائفة الأولى: أهل وحدة الوجود: وهي طائفة ادعت التحقيق والتوحيد والمعرفة لله تعالى، وهم أهل الإلحاد القائلون بوحدة الوجود.
الطائفة الثانية: الجهمية والمعتزلة وبعض الفلاسفة توهموا أنه إذا قيل: الموجودات تشترك في مسمى الوجود لزم التشبيه والتركيب.
الطائفة الثالثة: طائفة من الفلاسفة ظنت أنه إذا كانت الموجودات تشترك في مسمى الوجود لزم أن يكون في الخارج عن الأذهان موجود مشترك كلي أي مطلق عن التقييد فقالوا: بالوجود المطلق.
س12 ـ اذكر مذهب أهل وحدة الوجود وأمثلة لأقوالهم؟
ج ـ مذهبهم: اعتقاد اتحاد وجود الخالق بالمخلوق حيث زعموا كون الشيئين شيئاً واحداً، أي أن يكون وجود الكائنات هو عين وجود الله.
* وسبب ضلال هذه الطائفة أمران:
1 ـ أن الموجودات تشترك في مسمى الوجود فرأوا الوجود واحداً.
2 ـ أنهم لم يفرقوا بين الواحد بالعين. وهو الواحد المعين في الخارج الذي يمنع وجوده الشركة فيه فهو غير قابل للتنوع. والواحد بالنوع وهو الكلي الذهني الذي تشترك فيه الأفراد ويقبل التنوع، فإذا وجد في الخارج كان مختصاً به.
* ومذهبهم هذا مذهب باطل متناقض مخالف لمذهب السلف.
ومن أمثلة أقوالهم ما يلي:
1 ـ قال ابن عربي الصوفي الملحد: فالإله المطلق لا يسعه شيء لأنه عين الأشياء وعين نفسه، والشيء لا يقال فيه يسع نفسه ولا يسعها فافهم.
وقال: العبد رب والرب عبد
يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك رب
أو قلت رب أنى يكلف
2 ـ ابن سبعين ومن أقواله الشنيعة: "من سمى نفسه الله قال لك: إن كل شيء وجميع من تنادي أنا".
3 ـ ابن الفارض ومن أقواله عند ما يخاطب إلهه:
كلانا مصل واحد ساجد إلى
حقيقته بالجمع في كل مسجد
س13 ـ عرف ما يلي: الحلول، والاتحاد، وحدة الوجود، مع بيان أنواعها؟
ج ـ الحلول: قسمان عام وخاص:
أـ فالحلول العام: هو اعتقاد أن الله تعالى في كل شيء، وهو اعتقاد الجهمية الأولى القائلين بأن الله في كل مكان. تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.
ب ـ والحلول الخاص: هو اعتقاد أن الله تعالى حلّ في بعض مخلوقاته مع إثبات خالق ومخلوق كاعتقاد النصارى بأن اللاهوت حل في الناسوت، وكاعتقاد طوائف من الصوفية أن الله يحل في بعض مشايخهم.
الاتحاد: قسمان عام وخاص:
أـ الاتحاد العام: هو اعتقاد اتحاد وجود الخالق بالمخلوق.
ب ـ الاتحاد الخاص: هو اعتقاد أن الله تعالى اتحد ببعض مخلوقاته كاعتقاد بعض طوائف النصارى أن اللاهوت اتحد في الناسوت فصار شيئاً واحداً.
وحدة الوجود: هو كون الشيئين شيئاً واحد، أي أن يكون وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى. وهو اعتقاد اتحاد وجود الخالق بالمخلوق.
س14 ـ ما الفرق بين المشترك الكلي، والمشترك اللفظي؟
ج ـ هناك فرق بين المشترك اللفظي والمشترك الكلي:
فالمشترك اللفظي: هو اتحاد اللفظ وتعدد المعنى كلفظ (العين) يدل على الجارية والباصرة والذهب، ولفظ (القرء) يدل على الحيض والطهر.
والمشترك الكلي: هو الذي يشترك فيه أفراد كثيرون كجميع الألفاظ العامة في الذهن.
س15 ـ ما أسباب ذم السلف لتأويلات الجهمية؟
ج ـ سبب ذمهم للجهمية لأنهم تأولوا النصوص على غير تأويلها الصحيح أي حرفوا الكلم عن مواضعه، فالسلف لم يذموهم أو يردوا عليهم لمطلق التأويل فإن التأويل قد يكون من باب التفسير والبيان. ولكن حقيقة ما يفعله هؤلاء المبتدعة هو عين التحريف وإنما سموه تأويلاً ليقبل.
س16 ـ اذكر أسماء لبعض كتب السلف في الرد على الجهمية؟
ج ـ من كتب السلف في الرد على الجهمية ما يلي:
1 ـ كتاب: (الرد على الجهمية) للإمام الدارمي.
2 ـ كتاب: (الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة) للإمام ابن قتيبة.
3 ـ كتاب: (خلق أفعال العباد) للإمام أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري.
4 ـ كتاب: (الرد على الجهمية) للإمام ابن منده.
5 ـ كتاب: (التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع) للإمام الملطي.
6 ـ كتاب: (التوحيد وإثبات صفات الرب عز وجل للإمام ابن خزيمة.
7 ـ كتاب: (الرد على من أنكر الحرف والصوت) للإمام السجزي وغيرهم كثير.
س17 ـ اذكر حقيقة مذهب أهل التفويض، وجهة الغلط عندهم، وشيئاً من تناقضهم وخلاصة إلزامهم؟
ج ـ حقيقة مذهبهم: أن نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله وهم في الظاهر طائفتان:
• الطائفة الأولى: تقول: إن هذا الظاهر غير مراد ولا يعلمه أحد من الخلق.
• الطائفة الثانية: تقول إنها تجرى على ظاهرها وتأويلها باطل، ومع ذلك لا يعلمه إلا الله.
* وجهة الغلط عندهم من وجهين:
1 ـ أنهم جعلوا نصوص الصفات من قبيل المتشابه دون تفصيل لمعنى التشابه المقصود فيها.
2 ـ عدم معرفتهم لإطلاقات التأويل، فإنهم قالوا: إنها متشابه لا يعلم تأويله إلا الله، والتأويل الذي استأثر الله بعلمه إنما هو الحقيقة والكيفية، والتأويل الباطل إنما هو تأويل أهل التحريف وهو صرف اللفظ عن ظاهره بغير دليل، بل بمجرد التوهمات الباطلة التي تمجها العقول الفاضلة وهم في تأويلاتهم تلك يفرون من محاذير بزعمهم فيقعون في نظيرها أو أقبح منها.
* ويظهر تناقضهم من وجوه:
1 ـ أنهم ينسبون مذهبهم إلى السلف فلذلك قالوا: "مذهب السلف التفويض، ومذهب الخلف التأويل"، وقالوا:"ومذهب السلف أسلم، ومذهب الخلف أحكم". وهذه المقولة باطلة في نفسها وناقضة لما قبلها فإن الأسلم هو الأحكم والحكمة تقتضي السلامة.
2 ـ أن الآية في قوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] أثبتت تأويلاً يعلمه الله وهم يقولون التأويل باطل فيحتجون بالآية التي أثبتت التأويل على بطلان التأويل مطلقاً.
3 ـ قولهم: تجرى على ظاهرها، يعني أن الظاهر مراد.
وقولهم: إن لها تأويلاً لا يعلمه إلا الله، يعني أن الظاهر غير مراد. وهذا تناقض.
4 ـ إن أرادوا بالظاهر مجرد اللفظ غير المعنى كان إبطالهم للتأويل أو إثباته تناقضاً، لأن إثبات التأويل أو نفيه فرع عن فهم المعنى.
* وخلاصة إلزامهم: أنه لا يجوز له أن يقول: إن هذا اللفظ بعينه ظاهرُه غير مراد أو لا يعلم تأويله إلا الله لعدم الدليل المعين عليه ولعدم دلالة اللفظ على قوله هذا.
س18ـ هل يعلم ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر مجاملا أم فيه تفصيل؟ أوضح ذلك مع الدليل والتوجيه؟ ج ـ نعلم ما أخبر الله به من وجه فنعلمه من جهة المعنى ونجعله من جهة الكيفية قال تعالى: {أفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أمْ عَلَى قُلُوبٍ أقْفَالُهَا} [محمد: 24 [، ووجه الدلالة أنه حث على تدبر القرآن وتعقل معناه لأن ذلك ممكن.
س19ـ قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ] آل عمران: 7 [. اختلف العلماء حول موضوع الوقوف في هذه الآية وضح ذلك؟ وما الذي يترتب عليه وهل يوجد تعارض بين هذه الأقوال وبين أقسام التأويل؟
ج ـ القول الأول: أن الوقوف يكون على لفظ الجلالة يعني على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} . فتكون الواو حينئذ للاستئناف في قوله {وَالرَّاسِخُونَ} ويكون الخبر جملة {يَقُولُونَ} وهذا مذهب الجمهور مستدلين بقراءة ابن عباس رضي الله عنه {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ، ولأن الآية ذمت مبتغي المتشابه. ووصفتهم بالزيغ وابتغاء الفتنة وتكون دليلاً على مالا نعلم والمتشابه غير المحكم.
القول الثاني: أن الوقف على قوله {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} فتكون الواو عاطفة. قال به طائفة على رأسهم مجاهد مستدلين بأن الله مدح العلماء بالرسوخ في العلم فكيف يمدحهم وهم لا يعلمون بذلك وهذا دليل على علمه بالمتشابه. ولا تعارض بين القولين لأن التأويل له ثلاثة معان:
• أولاً: إن التأويل هو حقيقة الشيء وما يؤول إليه الكلام وهذا جائز فإن أريد بالتأويل في الآية هذا المعنى فالوقف على لفظ الجلالة، لأن حقائق الأمور وما تؤول إليه لا يعلمها إلا الله.
• ثانياً: أن التأويل بمعنى التفسير والبيان، وهو الكلام الذي يفسر به اللفظ حتى يفهم معناه، وهذا من اصطلاح المفسرين، فمعنى قول مجاهد
أن العالم يعلم تأويل المتشابه فالمراد معرفة تفسيره.
• ثالثاً: أن التأويل هو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح لدليل يقترن به، وهذا الاصطلاح كثير عند المتأخرين من المتكلمين في الفقه وأصوله وقد تسرب إلى القواميس اللغوية المتأخرة وهذا باطل.
س20 ـ لماذا يُعَدُّ الفقهاءُ أعلم بالتأويل من أهل اللغة؟ وما معنى تأويل الأمر والنهي؟ وما الفرق بين التأويلين؟
ج ـ الفقهاء أعلم بالتأويل من أهل اللغة لأنهم يعلمون ماأمر به ونهى عنه لعلمهم بمقاصد الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأويل الخبر نفس وقوع المخبر به وتأويل الفعل نفس المأمور به، وهما من النوع الأول من أنواع التأويل.
* والفرق بين تأويل الأمر والنهي وتأويل الخبر: أن تأويل الأمر والنهي لابد من معرفته لامتثال المأمور به وترك المحذور، أما تأويل الخبر فيكفي مجرد الإيمان به، فإن ظهر معناه فهو من تعلم الله به وإن لم يظهر ذلك أو كل علمه إلى عالمه.
س21 ـ بين معاني المفردات الآتية مع التمثيل: الترادف ـ الاشتراك اللفظي ـ التواطؤ ـ التباين؟ وهل دلالة أسماء الله على ذاته من قبيل المترادف أم من قبيل المتواطئ؟
ج ـ الترادف: اختلاف اللفظ واتحاد المعنى. كالأسد والليث والهزبر كلها دالة على مسمى واحد.
الاشتراك اللفظي: اتحاد اللفظ واختلاف المعنى كالعين تستعمل للعين الجارية وللجاسوس.
التواطؤ: اتفاق اللفظ والمعنى ـ نور الشمس ونور القمر.
التباين: اختلاف اللفظ والمعنى مثل السماء والأرض.
س22 ـ وصف الله القرآن كله بأنه محكم ووصفه بأنه متشابه. اذكر دليلاً لذلك ووضح التشابه والإحكام وبين هل هناك تعارض؟
ج ـ وصف القرآن بأنه متشابه فقال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ آحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23]، ووصفه بأنه محكم حين قال:{مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] وقال: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 11] ، ومعنى أنه محكم أي أنه كلام متقن فصيح يميز بين الحق والباطل من أوامره، وبين الصدق والكذب من أخباره وهذا هو الإحكام العام.
ومعنى كونه متشابهاً، أي يشبه بعضه بعضاً في الكمال والجودة ويصدق بعضه بعضاً، وهذا هو التشابه العام وليس في ذلك تعارض بل المراد بإحكامه أنه متقن يصدق بعضه بعضاً ولا ينافي بعضه بعضاً فيكون متشابهاً أي يشبه بعضه بعضاً في الصدق والإعجاز.
س23ـ قال تعالى: {هُوَ الَّذِي آنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] ، ما المراد بالإحكام والتشابه هنا؟ مع تعريف التشابه والإحكام الخاص، وما منشأ التشابه وهل هو متشابه على كل الناس أم ماذا؟
ج ـ المراد بالإحكام والتشابه في هذه الآية هو الإحكام والتشابه الخاصان، والمتشابه الخاص هو خفاء المعنى وغموضه وهو مشابهته لغيره من وجه مع مخالفته له من وجه آخر بحيث يشتبه على بعض الناس أنه هو وليس كذلك، ومنشؤه وجود قدر مشترك بين الشيئين مع وجود الفاصل بينهما الذي قد يهتدى إليه وقد لا يهتدى إليه.
والإحكام الخاص: ظهور المعنى ووضوحه وهو الفاصل بين الشيئين مع وجود الفاصل بين الشيئين
بحيث لا يشتبه أحدهما بالآخر. ويعتبر التشابه تشابهاً على بعض الناس وهم الذين لا يهتدون إلى التمييز بين الأمور المتشابهة مع أنه في حد ذاته ليس متشابهاً ومثله اشتباه موجودات الآخرة في الجنة بموجودات الدنيا.
س24 ـ بين المراد بالاختلاف المنفي في قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا} [النساء: 82] .
ج ـ المراد هو التناقض والاضطراب والمعنى أن القرآن ليس فيه تناقض واضطراب بحيث يكذب بعضه بعضاً، بل القرآن يصدق بعضه بعضاً.
س25 ـ ما الذي يترتب على وجود المتشابه؟ وما أعظم الضلال الذي وقع فيه الناس، وضح ذلك؟
ترتب على وجود المتشابه ضلال كثير من بني آدم وأعظم ما وقعوا فيه أنه اشتبه عليهم وجود الرب بوجود كل موجود فظنوا أن المخلوق هو الخالق، وسبب ذلك أن الموجودات تشترك في مسمى الوجود فرأوا الوجود واحداً ولم يفرقوا بين الواحد بالعين والواحد بالنوع.
س26 ـ ذكر المؤلف أن الإحكام يزيل التشابه الخاص هات مثالاً يوضح ذلك مع بيان، وجه التشابه فيه؟
ج ـ مثال ذلك كلمتا "إنا"، و "نحن" في قوله {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] ، وقوله:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر:9]، فمثل هذه النصوص تمسك بها النصارى في قولهم بتعدد الآلهة وأنه ثالث ثلاثة فالمحكم كقوله تعالى:{وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [البقرة: 163] مما لا يحتمل إلا معنى واحداً يزيل الاشتباه، ومنشأ التشابه هنا أن لفظتي "إنا" و "نحن" يتكلم بهما الواحد والمعظم نفسه كما يتكلم بها شخص معه غيره، والرب سبحانه يتكلم بها لما له من العظمة والجلال، ولما له من العبيد والجنود الذين هم تحت قهره وأمره.
س27ـ بين الألفاظ التي يقع فيها التشابه؟ وما الذي يمنع ذلك؟ وهل لفظ الوجود مقول بالاشتراك أم بالتواطؤ؟
يقع التشابه في الألفاظ المتواطئة والألفاظ المشتركة لفظياً وقد تقدم تعريفها.
والذي يزيل ذلك التشابه واحد من ثلاثة أمور:
1ـ عارض قاطع نافي للمماثلة كما تقدم.
2ـ أو بالتعريف بأل.
3ـ أو بالإضافة فالمضاف إليه هو الجنة نحو نعيم الجنة، فيعرف الفرق بينه وبين ما أضيف إلى الدنيا، وكذا التعريف بأل ولفظ الوجود مقول بالتواطؤ.
س28ـ ما وجه إنكار الإمام أحمد وغيره على الجهمية ونحوهم لتأويلهم المشابه من القرآن على غير تأويله ـ وما المراد بالتأويل الذي أنكره عليهم؟
ج ـ وجه إنكاره رحمه الله عليهم ما يأتي:
1ـ أنهم تأولوه على غيرتأويله.
2ـ أن معاني صفات الله معلومة ومراده بكلامه مفهوم.
والمراد بالتأويل الذي أنكره عليهم هو تحريفهم النص عن معناه إلى غير معناه لغير دليل يوجب ذلك ـ وأما التأويل المراد به التفسير فهذا لا يعاب بل هو محمود وأما المراد به الكيفية فهذا لا يعلمه إلا الله ـ وقد صنف رحمه الله كتاباً للرد على الزنادقة والجهمية.
س29 ـ ما الذي يترتب على عدم معرفة أقسام التأويل أن يتناقض الإنسان ويضطرب في أقواله والذين يعطلون مع نفي التأويل هم المفوضة حيث يقولون إنه باطل وأن الحق إجراء اللفظ على ظاهره بدون فهم معناه ويستدلون بقوله تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ} [آل عمران: 7]، ويلزم على هذه المقالة ما يلي:
1ـ أننا خوطبنا في القرآن بما لا يفهمه البشر.
2ـ أننا خوطبنا في القرآن بما لا معنى له بل هو ألفاظ جوفاء.
3ـ أننا خوطبنا في القرآن بما لا نفهم منه شيئاً بل هو بمنزلة الألفاظ الرموز.
4ـ قال تعالى: {أفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ} [محمَّد: 24] وجه الدلالة أنه لو كانت معرفة النصوص مستحيلة لم يأمرنا الله سبحانه وتعالى بالتدبر.
5ـ أنه لو كانت معرفة النصوص مستحيلة لكان إنزال القرآن والأمر بتدبره عبثاً والله منزه عن ذلك جلت قدرته.