المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌القاعدة السادسة الضابط الذي يُعرف به ما يجوز وما لا يجوز على - شرح التدمرية - الخميس

[محمد بن عبد الرحمن الخميس]

الفصل: ‌ ‌القاعدة السادسة الضابط الذي يُعرف به ما يجوز وما لا يجوز على

‌القاعدة السادسة

الضابط الذي يُعرف به ما يجوز وما لا يجوز

على الله نفياً وإثباتاً

قال شيخ الإسلام:

"القاعدة السادسة: أنّ لقائل أن يقول: لابد في هذا الباب من ضابطٍ يعرف يه ما يجوز على الله سبحانه وتعالى مما لا يجوز في النفي والإثبات.

إذ الاعتماد في هذا الباب على مجرد نفي التشبيه، أو مطلق الإثبات من غير تشبيه ليس بسديد، وذلك أنه ما من شيئين إلا بينهما قدر مشترك وقدر مميّز.

فالنافي إن اعتمد فيما ينفيه على أن هذا تشبيه، قيل له: إن أردت أنه مماثل له من كل وجه فهذا باطل، وإن أردت أنه مشابه له من وجه دون وجه أو مشارك له في الاسم لزمك هذا في سائر ما تثبته، وأنتم إنما أقمتم الدليل على إبطال التشبيه والتماثل الذي فسرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع عليه، ويجب له ما يجب له ومعلوم أن إثبات التشبيه بهذا التفسير مما لا يقول عاقل يتصور ما يقول، فإنه يعلم بضرورة العقل امتناعه، ولا يلزم من نفي هذا نفي التشابه من بعض الوجوه، كما في الأسماء والصفات المتواطئة.

ولكن من الناس من يجعل التشبيه مفسراً بمعنى من المعاني، ثم إن كان كل من أثبت ذلك المعنى قالوا إنه مشبه، ومنازعهم يقول: المعنى ليس من التشبيه.

وقد يفرق بين لفظ "التشبيه" و "التمثيل"، وذلك أن المعتزلة ونحوهم من

ص: 307

نفاة الصفاة يقولون: كل من أثبت لله صفة قديمة فهو مشبِّه ممثَّل، فمن قال: إنّ لله علماً قديماً، أو قدرة قديمة، كان عندهم مشبهاً ممثلاً؛ لأن "القدم" عند جمهورهم هو أخصّ وصف الإله، فمن أثبت لله صفة قديمة فقد أثبت له مِثلاً قديماً، فيسمونه بهذا الاعتبار.

ومثبتة الصفات لا يوافقونهم على هذا، بل يقولون: أخصّ وصفه حقيقة ما لا يتصف به غيره، مثل كونه رب العالين، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه إلهٌ واحد، ونحو ذلك، والصفة لا تُوصف بشيء من ذلك.

ثم من هؤلاء الصفاتية من لا يقول في الصفات: إنها قديمة، بل يقول: الرب بصفاته قديم؛ ومنهم من يقول: هو قديم وصفته قديمة، ولا يقول: هو وصفاته قديمان، ولكن يقول: ذلك لا يقتضي مشاركة الصفة له في شيء من خصائصه، فإن القدم ليس من خصائص الذات المجردة، بل من خصائص الذات الموصوفة بصفات، وإلا فالذات المجردة لا وجود لها عندهم، فضلاً عن أن تختص بالقدم، وقد يقولون: الذات متصفة بالقدم وليس الصفات إلهاً ولا ربّاً، كما أن النبي محدَث وصفاته محدَثة، وليست صفاته نبياً.

فهؤلاء إذا أطلقوا على الصفاتية اسم "التشبيه" و"التمثيل" كان هذا بحسب اعتقادهم الذي ينازعهم فيه أولئك، ثم يقول لهم أولئك: هب أن هذا المعنى قد يسمى في اصطلاح بعض الناس تشبيهاً، فهذا المعنى لم ينفه عقل ولا سمع، وإنما الواجب نفي ما نفته الأدلة الشرعية والعقلية.

والقرآن قد نفى مسمَّى "المثل" و "الند" ونحو ذلك، ولكن يقولون: الصفة في لغة العرب ليست مثل الموصوف ولا كفأه ولا نده فلا تدخل في النص، وأما العقل فلم ينف مسمَّى "التشبيه" في اصطلاح المعتزلة.

وكذلك أيضاً يقولون: إن الصفات لا تقوم إلا بجسم متحيز، والأجسام

ص: 308

متماثلة، فلو قامت به الصفات للزم أن يكون مماثلاً لسائر الأجسام، وهذا هو التشبيه.

وكذلك يقول هذا كثير من الصفاتية الذي يثبتون الصفات وينفون علوه على العرش وقيام الأفعال الاختيارية به ونحو ذلك، ويقولون: الصفات قد تقوم بما ليس بجسم، وأما العلو على العالم فلا يصح إلا إذا كان جسماً، فلو أثبتنا علوه للزم أن يكون جسماً، وحينئذٍ فالأجسام متماثلة فيلزم التشبيه.

فلهذا تجد هؤلاء يسمُّون من أثبت العلو ونحوه مشبِّهاً، ولا يسمُّون من أثبت السمع والبصر والكلام ونحوه مشبِّهاً، كما يقوله صاحب "الإرشاد" وأمثاله.

وكذلك قد يوافقهم على القول بتماثل الأجسام القاضي أبو يعلى وأمثاله من مثبتة الصفات والعلو، ولكن هؤلاء قد يجعلون العلو صفة خبرية، كما هو أول قولي القاضي أبي يعلى، فيكون الكلام فيه كالكلام في الوجه، وقد يقولون: إن ما يثبتونه لا ينافي في الجسم، كما يقولونه في سائر الصفات، والعاقل إذا تأمّل وجد الأمر فيما نفوه كالأمر فيما أثبتوه لا فرق.

وأصل كلام هؤلاء كلهم على أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم، والأجسام متماثلة، والمثبتون يجيبون عن هذا تارة بمنع المقدمة الأولى، وتارة بمنع المقدمة الثانية، وتارة بمنع كلتا المقدمتين، وتارة باستفصال.

ولا ريب أن قولهم بتماثل الأجسام قول باطل، سواء فسّروا الجسم بما يشار إليه، أو بالقائم بنفسه، أو بالموجود، أو بالمركب من الهيولي والصورة، ونحو ذلك.

فأما إذا فسروه بالمركب من الجواهر المفردة على أنها متماثلة، فهذا يُبنى على صحة ذلك، وعلى إثبات الجواهر المفردة وعلى أنها متماثلة، وجمهور العقلاء يخالفونهم في ذلك.

والمقصود أنهم يطلقون التشبيه على ما يعتقدونه تجسيماً بناء على تماثل الأجسام، والمثبتون ينازعهم في اعتقادهم، كإطلاق الرافضة لـ "النَّصب" على من تولى أبا بكر وعمر رضي الله عنهما، بناءً على من أحبهما فقد أبغض

ص: 309

علياً رضي الله عنه، ومن أبغضه فهو ناصبي؛ وأهل السنة ينازعونهم في المقدمة الأولى.

ولهذا يقول هؤلاء: إن الشيئين لا يشتبهان من وجه ويختلفان من وجه، وأكثر العقلاء على خلاف ذلك، وقد بسطنا الكلام على هذا في غير هذا الموضع، وبيّنّا فيه حجج من يقول بتماثل الأجسام وحجج من نفى ذلك، وبيّنا فساد قول من يقول بتماثلها.

وأيضاً فالاعتماد بهذا الطريق على نفي التشبيه اعتمادٌ باطل، وذلك أنه إذا ثبت تماثل الأجسام فهم لا ينفون ذلك إلا بالحجة التي ينفون بها الجسم، وإذا ثبت أن هذا يستلزم الجسم، وثبت امتناع الجسم، كان هذا وحده كافياً في نفي ذلك، لا يحتاج نفي ذلك إلى نفي مسمى "التشبيه" لكن نفي الجسم يكون مبنياً على نفي هذا التشبيه، بأن يُقال: لو ثبت له كذا وكذا لكان جسماً، ثم يقال: والأجسام متماثلة، فيجب اشتراكهما فيما يجب ويجوز ويمتنع، وهذا ممتنع عليه، لكن حينئذ يكون من سلك هذا المسلك معتمداً في نفي التشبيه على نفي التجسيم، فيكون أصل نفيه نفي الجسم، وهذا مسلك آخر سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى.

وإنما المقصود هنا أن مجرد الاعتماد في نفي ما يُنفى على مجرد نفي التشبيه لا يفيد، إذ ما من شيئين إلا ويشتبهان من وجه ويفترقان من وجه، بخلاف الاعتماد على نفي النقص والعيب، ونحو ذلك مما هو سبحانه وتعالى مقدّس عنه، فإن هذه طريقة صحيحة.

وكذلك إذا أُثبت له صفات الكمال، ونُفي مماثلة غيره له فيها، فإن هذا نفي المماثلة فيما هو مستحق له، وهذا حقيقة التوحيد، وهو أن لا يشركه شيء من الأشياء فيما هو من خصائصه، وكل صفة من صفات الكمال فهو متصف بها على وجه لا يماثله فيه أحدٌ، ولهذا كان مذهب سلف الأمة وأئمتها إثبات ما وصف به نفسه من الصفات، ونفي مماثلته لشيء من المخلوقات.

فإن قيل: إن الشيء إذا شابه غيره من وجه جاز عليه ما يجوز عليه من

ص: 310

ذلك الوجه، ووجب له ما وجب له، وامتنع عليه ما امتنع عليه.

قيل: لازم هذا القدر المشترك ليس ممتنعاً على الرب تعالى؛ فإن ذلك لا يقتضي حدوثاً، ولا إمكاناً، ولا نقصاً، ولا شيئاً مما ينافي صفات الربوبية.

وذلك أن القدر المشترك هو مسمى "الوجود" أو "الموجود" أو "الحياة" أو "الحي"، أو "العلم" أو "العليم"، أو "السمع" و"البصر" أو "السميع" و"البصير"، أو "القدرة" أو "القدير"، والقدر المشترك مطلق كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر، فلم يقع بينهما اشتراك فيما يختص بالممكن المحدَث، ولا فيما يختص بالواجب القديم، فإن ما يختص به احدهما يمتنع اشتراكهما فيه.

فإذا كان القدر المشترك الذي اشتركا فيه صفة كمال: كالوجود والحياة والعلم والقدرة، ولم يكن في ذلك ما يدل على شيء من خصائص المخلوقين، كما لا يدل على شيء من خصائص الخالق ـ لم يكن في إثبات هذا محذور أصلاً، بل إثبات هذا من لوازم هذا من لوازم الوجود، فكل موجودَين لا بد بينهم من مثل هذا، ومن نفى هذا لزمه تعطيل وجود كل موجود.

ولهذا لما اطّلع الأئمة على أن هذا حقيقة قول الجهمية سموهم معطِّلة، وكان جهم ينكر أن يُسمَّى الله شيئاً، وربما قالت الجهمية: هو شيء لا كالأشياء، فإذا نفى القدر المشترك مطلقاً لزم التعطيل التام.

والمعاني التي يوصف بها الرب سبحانه وتعالى، كالحياة والعلم والقدرة، بل الوجود والثبوت والحقيقة ونحو ذلك، وتجب له لوازمها؛ فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم، وخصائص المخلوق التي يجب

ص: 311

تنزيه الرب عنها ليس من لوازم ذلك أصلاً، بل تلك من لوازم ما يختص بالمخلوق من وجود وحياة وعلم ونحو ذلك، والله سبحانه وتعالى منزّه عن خصائص المخلوق وملزومات خصائصه.

وهذا الموضع من فهمه فهماً جيداً، وتدبره، زالت عنه عامة الشبهات، وانكشف له غلط كثير من الأذكياء في هذا المقام، وقد بسط هذا في مواضع كثيرة، وبُيِّن فيها أن القدر المشترك الكلي لا يوجد في الخارج إلا معيّناً مقيداً، وأن معنى اشتراك الموجودات في أمر من الأمور هو تشابهها من ذلك الوجه، وأن ذلك المعنى العام يطلق على هذا وهذا، لا أن الموجودات في الخارج يشارك أحدهما الآخر في شيء موجود فيه، بل كل موجود متميّز عن غيره بذاته وصفاته وأفعاله.

ولما كان الأمر كذلك كان كثير من الناس يتناقض في هذا المقام، فتارة يظن أن إثبات القدر المشترك يوجب التشبيه الباطل، فيجعل ذلك له حجة فيما يظن نفيه من الصفات لمن احتج به من النفاة.

ولكثرة الاشتباه في هذه المقام وقعت الشبهة في أن وجود الرب هل هو عين ماهيته، أو زائد على ماهيته؛ وهل لفظ "الوجود" مقول بالاشتراك اللفظي، أو بالتواطؤ، أو التشكيك، كما وقع الاشتباه في إثبات الأحوال ونفيها، وفي أن المعدوم هل هو شيء أم لا؟ وفي وجود الموجودات هل هو زائد على ماهيتها أم لا؟

وقد كثر من أئمة النظار الاضطراب والتناقض في هذه المقامات، فتارة يقول أحدهم القولين المتناقضين، ويحكي عن الناس مقالات ما قالوها، وتارة يبقى في الشك والتحيُّز، وقد بسطنا من الكلام في هذه المقامات، وما وقع من الاشتباه والغلط والحيرة فيها لأئمة الكلام والفلسفة ما لا تتسع له هذه الجمل المختصرة.

وبيَّنا أن الصواب هو أن وجود كل شيء في الخارج هو ماهيته الموجودة

ص: 312

في الخارج، بخلاف الماهية التي في الذهن فإنها مغايرة للموجود في الخارج، وأن اللفظ "الوجود" كلفظ:"الذات"، و"الشيء" و"الحقيقة" ونحو ذلك، وهذه الألفاظ كلها متواطئة، وإذا قيل: إنها مشكِّكة، لتفاضل معانيها، فالمشكك نوع من المتواطئ العام الذي يراعى فيه دلالة اللفظ على القدر المشترك، سواء كان المعنى متفاضلاً في موارده، أو متماثلاً.

وبيَّنا أن المعدوم شيء أيضاً في العلم والذهن، لا في الخارج، فلا فرق بين الثبوت والوجود، لكن الفرق ثابت بين الوجود العلمي والعيني، مع أن ما في العلم ليس هو الحقيقة الموجودة، ولكن هو العلم التابع للمعالم القائم به.

وكذلك الأحوال التي تتماثل فيها الموجودات وتختلف، لها وجود في الأذهان، وليس في الأعيان إلا الأعيان الموجودة، وصفاتها القائمة بها المعيَّنة، فتتشابه بذلك وتختلف به.

وأما هذه الجمل المختصرة فإن المقصود بها التنبيه على جمل مختصرة جامعة، من فهمها عَلِمَ قدر نفعها، وانفتح له باب الهدى، وإمكان إغلاق باب الضلال، ثم بسطها وشرحها له مقام آخر، إذ لكل مقام مقال.

والمقصود هنا أن الاعتماد على مثل هذه الحجة فيما ينفى عن الرب، وينزَّه عنه ـ كما يفعله كثير من المصنفين ـ خطأٌ لمن تدبَّر ذلك، وهذا من طرق النفي الباطلة.

فصل

وأفسد من ذلك ما يسلكه نفاة الصفاة أو بعضها، إذا أرادوا أن ينزهوه عما يجب تنزيهه عنه مما هو من أعظم الكفر، مثل أن يريدوا تنزيهه عن الحزن والبكاء ونحو ذلك، ويريدون الرد على اليهود الذين يقولون: إنه بكى على الطوفان حتى رمد وعادته الملائكة، والذين يقولون بإلهية بعض البشر، وأنه الله.

ص: 313

فإن كثيراً من الناس يحتج على هؤلاء بنفي التجسيم أو التحيّز ونحو ذلك، ويقولون: لو اتصف بهذه النقائص والآفات لكان جسماً أو متحيزاً، وذلك ممتنع.

وبسلوكهم مثل هذه الطريق استظهر عليهم الملاحدة، نفاة الأسماء والصفات، فإن هذه الطريق لا يحصل لها المقصود لوجوه:

• أحدهما: أن وصف الله تعالى بهذه النقائص والآفات أظهر فساداً في العقل والدين من نفي التحيّز والتجسيم، فإن هذا فيه من الاشتباه والنزاع والخفاء ما ليس في ذلك، وكفر صاحب ذلك معلوم بالضرورة من دين الإسلام، والدليل معرفِّ للمدلول، ومبين له، فلا يجوز أن يُستدل على الأظهر الأبين بالأخفى، كما لا يُفعل مثل ذلك في الحدود.

• الو جه الثاني: أن هؤلاء الذين يصفونه بهذه الآفات يمكنهم أن يقولوا: نحن لا نقول بالتجسيم والتحيّز، كما يقوله من يثبت الصفات وينفي التجسيم، فيصير نزاعهم مثل نزاع مثبتة صفات الكمال، فيصير كلام من وصف الله بصفات الكمال وصفات النقص واحداً، ويبقى رد النفاة على الطائفتين بطريق واحد، وهذا في غاية الفساد.

• الوجه الثالث: أن هؤلاء ينفون صفات الكمال بمثل هذه الطريقة، واتصافه بصفات الكمال واجب، ثابت بالعقل والسمع، فيكون ذلك دليلاً على فساد هذه الطريقة.

• الوجه الرابع: أن سالكي هذه الطريقة متناقضون، فكل من أثبت شيئاً منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من الإثبات، كما أن كل من نفى شيئاً منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من النفي، فمثبتة الصفات كالحياة والعلم والقدرة والكلام والسمع والبصر، إذا قالت لهم النفاة كالمعتزلة: هذا تجسيم؛ لأن هذه الصفات أعراض، والعرض لا يقوم إلا بالجسم، فإنا لا نعرف موصوفاً بالصفات إلا جسماً.

قالت لهم المثبتة: وأنتم قد قلتم: أنه حي عليم قدير، وقلتم: ليس بجسم، وأنتم لا تعلمون موجوداً: حياً عالماً قادراً إلا جسماً، فقد أثبتموه

ص: 314

على خلاف ما علمتم، فكذلك نحن، وقالوا لهم: أنتم أثبتم حيّاً عالماً قادراً، بلا حياة ولا علم ولا قدرة، وهذا تناقض يُعلم بضرورة العقل.

ثم هؤلاء المثبتة إذا قالوا لمن أثبت أنه يرضى ويغضب ويحب ويبغض، أو من وصفه بالاستواء والنزول والإتيان والمجيء، أو بالوجه واليد ونحو ذلك، إذا قالوا: هذا يقتضي التجسيم؛ لأنا لا نعرف ما يوصف بذلك، إلا ما هو جسم، قالت لهم المثبتة: فأنتم قد وصفتموه بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، وهذا هكذا، فإن كان هذا لا يوصف به إلا الجسم فالآخر كذلك، وإن أمكن أن يُوصف بأحدهما ما ليس بجسم فالآخر كذلك، فالتفريق بينهم بين المتماثلين.

ولهذا لما كان الرد على من وصف الله تعالى بالنقائص بهذه الطريق طريقاً فاسداً لم يسلكه أحد من السلف والأئمة، فلم ينطق أحد منهم في حق الله تعالى بالجسم لا نفياً ولا إثباتاً، ولا بالجوهر والتحيز ونحو ذلك؛ لأنها عبارات مجملة لا تحق حقاً، ولا تُبطل باطلاً، ولهذا لم يذكر الله في كتابه فيما أنكره على اليهود وغيرهم من الكفار ما هو من هذا النوع، بل هذا هو من الكلام المبتَدَع الذي أنكره السلف والأئمة.

فصل

وأما في طرق الإثبات فمعلوم أيضاً أن المثبت لا يكفي في إثباته مجرد نفي التشبيه، إذ لو كفى في إثباته مجرد نفي التشبيه لجاز أن يوصف الله سبحانه وتعالى من الأعضاء والأفعال بما لا يكاد يحصى مما هو ممتنع عليه مع نفي التشبيه، وأن يوصف بالنقائص التي لا تجوز عليه مع نفي التشبيه، وكما لو قال المفتري: يأكل لا كأكل العباد، ويشرب لا كشربهم، ويبكي ويحزن لا كبكائهم ولا حزنهم، كما يقال: يضحك لا كضحكهم، ويفرح لا كفرحهم، ويتكلم لا ككلامهم، ولجاز أن يقال: له أعضاء كثيرة لا كأعضائهم، كما قيل: له وجه لا كوجوههم، ويدان لا كأيديهم، حتى يذكر

ص: 315

المعدة والأمعاء والذكر، وغير ذلك مما يتعالى الله عز وجل عنه، سبحانه وتعالى عمّا يقول الظالمون علواً كبيراً.

فإنه يقال لمن نفى ذلك مع إثبات الصفة الخبرية وغيرها من الصفات: ما الفرق بين هذا وبين ما أثبته إذا نفيت التشبيه، وجعلت مجرد نفي التشبيه كافياً في الإثبات، فلا بد من إثبات فرق في نفس الأمر.

فإن قال: العمدة في الفرض هو السمع، فما جاء السمع به أثبته، دون ما لم يجئ به السمع.

قيل له: أولاً: السمع هو خبر الصادق عما هو الأمر عليه في نفسه، فما أخبره به الصادق فهو حق من نفي أو إثبات، والخبر دليل على المخبَر عنه، والدليل لا ينعكس، فلا يلزم من عدمه عدم المدلول عليه، فما لم يرد به السمع يجوز أن يكون ثابتاً في نفس الأمر، وإن لم يرد به السمع، إذا لم يكن قد نفاه، ومعلوم أن السمع لم ينف كل هذه الأمور بأسمائها الخاصة، فلابد من ذكر ما ينفيها من السمع، وإلا فلا يجوز حينئذٍ نفيها، كما لا يجوز إثباتها.

وأيضاً فلا بد في نفس الأمر من فرق بين ما يثبت له وينفى عنه، فإن الأمور المتمثلة في الجواز والوجوب والامتناع يمتنع اختصاص بعضها دون بعض بالجواز والوجوب والامتناع، فلا بد من اختصاص المنفي عن المثبَت بما يخصه بالنفي، ولابد من اختصاص الثابت عن المنفي بما يخصه بالثبوت. وقد يعبر عن ذلك بأن يقال: لابد من أمر يوجب نفي ما يجب نفيه عن الله تعالى، كما أنه لابد من أمر يُثبت له ما هو ثابت، وغن كان السمع كافياً كان مخبراً عما هو الأمر عليه في نفسه، فما الفرق في نفس الأمر بين هذا وهذا؟

فيقال: كل ما نافى صفات الكمال الثابتة لله فهو منزه عنه، فإن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر، فإذا عُلم أنه موجود واجب الوجود بنفسه، وأنه قديم واجب القدم، عُلم امتناع العدم والحدوث عليه، وعُلم

ص: 316

أنه غني عما سواء، فالمفتقر إلى ما سواه في بعض ما يحتاج إليه نفسه ليس هو موجوداً بنفسه، بل بنفسه وبذلك الآخر الذي أعطاه ما تحتاج إليه نفسُه، فلا يوجد إلا به، وهو سبحانه وتعالى قدير قوي، فكل ما نافى قدرته وقوته فهو منزه عنه، وهو سبحانه حيّ قيوم، فكل ما نافى حياته وقيوميته فهو منزه عنه.

وبالجملة فالسمع قد أثبت له من الأسماء الحسنى وصفات الكمال ما قد ورد، فكل ما ضاد ذلك فالسمع ينفيه، كما ينفي عنه المثل والكفؤ، فإن إثبات الشيء نفي لضده ولما يستلزم ضده، والعقل يعرف نفي ذلك، كما يعرف إثبات ضده، فإثبات أحد الضدين نفي للآخر ولِمَا يستلزمه.

وكذلك احتج القرامطة على نفي جميع الأمور حتى نفوا النفي، فقالوا: لا يقال موجود ولا ليس بموجود، ولا حيّ ولا ليس بحي؛ لأن ذلك تشبيه بالموجود أو المعدوم، فلزمهم نفي النقيضين، وهو أظهر الأشياء امتناعاً.

ثم إن هؤلاء يلزمهم من تشبيه بالمعدومات والممتنعات والجمادات أعظم مما فروا منه من التشبيه بالأحياء الكاملين، فطرق تنزيهه وتقديسه عما هو منزه عنه متسعة لا تحتاج إلى هذا.

وقد تقدم أن ما ينفى عنه سبحانه وتعالى ينفى لتضمن النفي الإثبات، إذ مجرد النفي لا مدح فيه ولا كمال، فإن المعدوم يوصف بالنفي، والمعدوم لا يشبه الموجود، وليس هذا مدحاً له؛ لأن مشابهة الناقص في صفات النقص نقص مطلق، كما أن مماثلة المخلوق في شيء من الصفات تمثيل وتشبيه، ينزّه عنه الرب تبارك وتعالى.

والنقص ضد الكمال، وذلك مثل أنه قد عُلم أنه حيّ والموت ضد ذلك

ص: 317

فهو منزّه عنه، وكذلك النوم والسِّنة ضد كمال الحياة، فإن النوم أخو الموت، وكذلك اللغوب نقص في القدرة والقوة، والأكل والشرب ونحو ذلك من الأمور فيه افتقار على موجود غيره، كما أن الاستعانة بالغير والاعتضاد به ونحو ذلك يتضمن الافتقار إليه والاحتياج إليه، وكل من يحتاج إلى من يحمله أو يعينه على قيام ذاته، أو أفعاله، فهو مفتقر إليه ليس مستغنياً بنفسه، فكيف من يأكل ويشرب، والآكل والشارب أجوف والمُصْمَت الصمد أكمل من الآكل الشارب، ولهذا كانت الملائكة صمداً لا تأكل ولا تشرب.

وقد تقدم أن كل كمال ثبت لمخلوق فالخالق أولى به، وكل نقص تنزّه عنه مخلوق فالخالق أولى بتنزيهه عن ذلك، والسمع قد نفى ذلك في غير موضع كقوله:{اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] ، والصمد الذي لا جوف له ولا يأكل ولا يشرب، وهذه السورة هي نسب الرحمن1، وهي الأصل في هذه الباب.

وقال في حق المسيح وأمه: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلآ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] ، فجعل ذلك دليلاً على نفي الألوهية، فدل ذلك على تنزيهه بطريق الأوْلى والأحرى.

والكبد والطحال ونحو ذلك هي أعضاء الأكل والشرب، فالغني المنزه عن ذلك منزه عن آلات ذلك، بخلاف اليد فإنها للعمل والفعل، وهو سبحانه وتعالى موصوف بالعمل والفعل، إذ ذلك من صفات الكمال، فمن يقدر أن يفعل أكمل ممن لا يقدر على الفعل.

وهو سبحانه منزه عن الصاحبة والولد وعن آلات ذلك وأسبابه، وكذلك البكاء والحزن هو مستلزم للضعف والعجز الذي ينزه الله عنه، بخلاف

1 انظر الحديث الوارد في ذلك في مسند الإمام أحمد (5/133 ـ 134) وسنن الترمذي (9/299 ـ230) .

ص: 318

الفرح والغضب فإنه من صفات الكمال، فكما يوصف بالقدرة دون العجز، وبالعمل دون الجهل، وبالحياة دون الموت، وبالسمع دون الصمم، وبالبصر دون العمى، وبالكلام دون البكم، فكذلك يوصف بالفرح دون الحزن، وبالضحك دون البكاء، ونحو ذلك.

وأيضاً فقد ثبت بالعقل ما أثبته من أنه سبحانه وتعالى لا كفؤ له، ولا سمي له، وليس كمثله شيء فلا يجوز أن تكون حقيقته كحقيقة شيء من المخلوقات، ولا حقيقة شيء من صفاته كحقيقة شيء من صفات المخلوقات، فنعلم قطعاً أنه ليس من جنس المخلوقات، لا الملائكة ولا السموات ولا الكواكب، ولا الهواء ولا الماء ولا الأرض، ولا الآدميين ولا أبدانهم ولا أنفسهم، ولا غير ذلك، بل يُعلم أن حقيقته عن مماثلة شيء من الموجودات أبعد من سائر الحقائق، وأن مماثلته لشيء منها أبعد من مماثلة حقيقة شيء من المخلوقات لحقيقة مخلوق آخر.

فإن الحقيقتين إذا تماثلتا جاز على كل واحدة ما يجوز على الأخرى، ووجب لها ما وجب لها، وامتنع عليها، فيلزم أن يجوز على الخالق القديم الواجب بنفسه ما يجوز على المحدَث المخلوق من العدم والحاجة، وأن يثبت لهذا ما يثبت لهذا ما يثبت لذاك من الوجوب والغنى، فيكون الشيء الواحد واجباً بنفسه غير واجب بنفسه، موجوداً معدوماً، وذلك جمع بين النقيضين.

وهذا مما يعلم به بطلان قول المشبهة الذين يقولون: بصر كبصري، ويد كيدي، ونحو ذلك، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً.

وليس المقصود هنا استيفاء ما يثبت له، وما ينزه عنه، واستيفاء طرق ذلك؛ لن هذا مبسوط في غير هذا الموضع، وإنما المقصود هنا التنبيه على جوامع ذلك وطرقه، وما سكت عنه السمع نفياً وإثباتاً، ولم يكن في العقل ما يثبته ولا ينفيه، سكتنا عنه فلا نثبته ولا ننفيه، فنثبت ما علمنا ثبوته، وننفي ما علمنا نفيه، ونسكت عما لا نعلم نفيه ولا إثباته، والله سبحانه وتعالى أعلم".

ص: 319

معاني الكلمات:

ضابط: ضبط الشيء أي حفظه بالجزم.

في هذا الباب: أي باب الصفات.

نفي التشبيه: أي نفي التشبيه بدون إثبات كمال الضد وإثبات الصفات الواردة في الكتاب والسنة.

الأسماء المتواطئة: التواطؤ: اتفاق اللفظ والمعنى.

قدر الاشتراك: هو المعنى العام.

عناصر الموضوع:

1 ـ موضوع القاعدة السادسة:

أـ هو الضابط الذي يعرف به ما يجوز على الله سبحانه وتعالى وما لا يجوز.

ب ـ بيان خطأ طريقة في النفي والتنزيه.

2 ـ على من يرد شيخ الإسلام بالقاعدة السادسة:

يرد شيخ الإسلام بالقاعدة بين شيخ الإسلام أن الصفات معلومة لنا باعتبار المعنى مجهولة لنا باعتبار الكيفية والحقيقة، فناسب بعد ذلك أن يضع ضابطاً إثبات الصفات اللائقة بالله والضابط في نفي الصفات، وبيان خطأ من خالف هاتين الطريقتين من المعطلة.

3 ـ الصلة بين القاعدتين الخامسة والسادسة:

في القاعدة الخامسة بين شيخ الإسلام أن الصفات معلومة لنا باعتبار المعنى مجهولة لنا باعتبار الكيفية والحقيقة، فناسب بعد ذلك أن يضع ضابطاً لإثبات الصفات اللائقة بالله والضابط في نفي الصفات، وبيان خطأ من خالف هاتين الطريقتين من المعطلة.

4 ـ شرح القاعدة السادسة:

صفات الله تعالى دائرة بين النفي والإثبات، فتثبت لله جميع ما وصف به نفسه، أو وصف به رسوله عليه السلام، وينفي ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله عليه السلام كما قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ

ص: 320

السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، وإنما جمع الله في نفسه بين النفي والإثبات، لأنه لا يتم كمال الموصوف إلا بنفي صفات النقص وإثبات صفات الكمال، فكل الصفات التي نفاها عن نفسه صفات نقص، وكل ما أثبته الله لنفسه فهي صفات كمال على وجه لا نقص فيها بحال من الأحوال، لقوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى} [النحل: 60] ، والمثل الأعلى هو الوصف الأكمل الذي لا يماثله شيء.

وأما الضابط في النفي أن ينفي عن الله:

أولاً: كل صفة عيب كالعمى والصم والخرس والنوم والموت ونحو ذلك.

ثانياً: كل نقص في كماله كنقص في حياته أو علمه أو قدرته أو عزته أو حكمته، أو نحو ذلك.

ثالثاً: مماثلته للمخلوقين كأن يجعل علمه كعلم المخلوق، أو وجهه كوجه المخلوق أو استواءه على عرشه كاستواء المخلوق، ونحو ذلك.

فمن أدلة انتفاء الأول عنه: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأعْلَى} [النحل: 60] ، فإن ثبوت المثل الأعلى وهو الوصف الأعلى يستلزم انتفاء كل صفة عيب.

ومن أدلة انتفاء الثاني: قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالآرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ آيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] .

ومن أدلة انتفاء الثالث: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] .

5 ـ ما تدور عليه هذه القاعدة:

تدور هذه القاعدة على مسألتين:

1ـ الضابط الصحيح في النفي والإثبات.

2ـ بيان خطأ طريقة المتكلمين، وضابطهم في النفي أو الإثبات.

ص: 321

6 ـ طريقة المتكلمين في التنزيه:

للمتكلمين طريقتان للتنزيه:

الأولى: التنزيه بنفي التشبيه.

الثانية: التنزيه بنفي التجسيم.

7 ـ الفرق بين التشبيه والتمثيل:

الفرق بينهما من وجهين:

1ـ أن التمثيل ورد نفيه بالنص، وأما التشبيه فمن غير نصَّ.

2ـ أن التمثيل فيه مشابهة من جميع الوجوه، وأما التشبيه فمن بعض الوجوه.

8 ـ وجه بطلان طريقة المتكلمين في التنزيه وذلك بنفي التشبيه:

لا يصح الاعتماد على طريقة المتكلمين في التنزيه على مجرد نفي التشبيه وذلك لوجهين:

1ـ أنه إذا أريد بالنفي التشابه المطلق، فإن هذا لغو من القول، ولم يقل أحد بتساوي الخالق والمخلوق من كل وجه بحيث يثبت لأحدهما من (الجائر والممتنع) ما يثبت للآخر.

2ـ إذا أريد بالنفي نفي التشابه من بعض الوجوه فهذا النفي لا يصح؛ إذ ما من شيء إلا وبينهما قدر مشترك وقدر مختص يتميز به كل واحد عن الآخر.

فالحياة مثلاً وصف مشترك بين الخالق والمخلوق، لكن حياة الخالق كاملة من جميع الوجوه لم تسبق بعدم ولا يلحقها فناء بخلاف المخلوق، فإنها حياة ناقصة مسبوقة بعدم متلوة بفناء.

9 ـ وجه بطلان طريقة المتكلمين في التنزيه وذلك بنفي التجسيم:

لا يصح الاعتماد في ضابط النفي على مجرد نفي التجسيم وذلك للوجوه الآتية:

ص: 322

1ـ أن طريقة التنزيه بنفي التجسيم لم ترد في الكتاب ولا في السنة، ولم يذكرها الله في كتابه في إنكاره على اليهود والكفار.

2ـ أن هذه الطريقة في النفي لم يسلكها أحد من السلف ولم ينطقوا بها نفياً ولا إثباتاً فهي عبارة مجملة لا تحق حقاً، ولا تبطل باطلاً.

3ـ أن من ينزه الله بنفي التجسيم يدخل فيه نفي صفاته الواردة في الكتاب والسنة؛ لأن إثباتها في نظرة تجسيم.

4ـ أن من يسلكون هذه الطريقة في النفي متناقضون، فمثلاً: إذا قالت الأشاعرة بإثبات صفة الحياة والعلم والقدرة، ترد عليهم المعتزلة: بأن هذا يستلزم التجسيد، فتقول الأشاعرة وأنتم تثبتون الأسماء الحسنى مع عدم التجسيم، فكذلك نثبت صفات العلم والقدرة بلا تجسيم.

5ـ أن هذه الطريقة ابتدعها المتكلمون لذا أنكرها السلف.

10 ـ إثبات القدر المشترك:

ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك، فمن نفى القدر الفارق فقد مثل، ومن نفى القدر المشترك فقد عطل، فالنافي للصفات إن اعتمد فيما ينفيه على نفي التشبيه قيل له: إن أردت أنه مماثل له من كل وجه فهذا باطل.

وإن أردت أنه متشابه له من وجه دون وجه أو مشارك له في الاسم فإن هذا هو الحق الذي يلزم في سائر الصفات، فالله سبحانه موجود والمخلوق موجود، ولكن وجود الله ليس كوجود المخلوق واتفاقهما في الاسم العام لا يقتضي مماثلتهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتخصيص والتقييد ولا في غيره.

11 ـ المخالفون لأهل السنة في ضابط الإثبات:

خالف المتكلمون أهل السنة في ضابط الإثبات عند أهل السنة واتخذوا ضابطاً خاصاً بهم ألا وهو مجرد الإثبات، وهذا الضابط لا يصح؛ لأنه لو صح لجاز أن يثبت المفتري لله كل صفة نقص مع نفي التشبيه، فيصفه بالحزن والبكاء ويقول: إن الله يحزن لا كحزن العباد ويبكي لا كبكائهم.

ص: 323

ولجاز أيضاً أن يثبت المفتري لله أعضاء كثيرة مع نفي التشبيه، فيقول: إن لله كبداً لا كأكباد العباد، وأمعاء لا كأمعائهم ونحو ذلك.

12 ـ الأدلة على نفي مماثلة الله لخلقه:

الأدلة على نفي مماثلة الله لخلقه كثيرة منها:

1 ـ الأدلة النقلية: كقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ} [النحل: 74] ، وقوله:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم:65]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ} [الإخلاص: 4] {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أنْدَادًا} [البقرة:22] .

2 ـ الأدلة العقلية: لو قلنا بالتماثل لزم أن يجب له ما يجب للمخلوقين وأن يجوز عليه ما يجوز على المخلوقين، وهذا باطل، لأنه يلزم منه أن يكون الخالق القديم الواجب بنفسه جائزاً عليه العدم والحاجة، ويكون للمخلوق صفة الوجوب والقدم فيكون الشيء الواحد واجباً بنفسه وغير واجب بنفسه قديماً ومحدثاً، وذلك جمع بين النقيضين وهو ممتنع ومن هنا يعلم بطلان قول المشبهة اللذين يقولون: له بصر كبصري وله يد كيدي كما سبق النقل عن إسحاق بن راهوية: "إنما يكون التشبيه إذا قال: يد مثل يدي، أو سمع مثل سمعي؛ فهذا التشبيه"1.

الأسئلة والأجوبة الواردة على القاعدة السادسة:

س1 ـ ما الفرق بين التشبيه والتمثيل؟

ج ـ الفرق بينهما من وجهين:

• الوجه الأول: أن التمثيل ورد نفيه بالنص، وأما التشبيه فمن غير نص.

• الوجه الثاني: أن التمثيل فيه مشابهة من جميع الوجوه، وأما التشبيه فمن بعض الوجوه.

1 رواه الترمذي 1/128.

ص: 324

س2 ـ ما هي طرق التنزيه عتد المتكلمين؟

ج ـ طرق التنزيه بنفي التشبيه.

الأولى: التنزيه بنفي التشبيه.

الثانية: التنزيه بنفي التجسيم.

س3 ـ اذكر شبهة تعدد القدماء، ومن القائلون بها، وما الرد عليهم؟

ج ـ شبهتهم: أن كل من أثبت لله صفة قديمة فقد جعل له شريكاً يماثله في القدم، وبناء عليه لا يجوز القول بتعدد الصفات لأنه قول بتعدد القدماء عندهم، وهو تشبيه وكفر بإجماعهم.

* والقائلون بها هم المعتزلة ونحوهم من نفاة الصفات.

* والرد عليهم من أربعة أوجه:

• أولاً: منع أن يكون أخص وصف للإله هو القدم بل أخص وصف هو ما لا يتصف به غيره مثل رب العالمين، وأنه بكل شيء عليم، وأنه على كل شيء قدير، وأنه إله واحد، والصفات لا توصف بهذه الأوصاف.

• ثانياً: إذا سلمنا ذلك فإن وصف الصفات بالقدم لا يلزم منه تعدد القدماء وإثبات شريك لله وذلك لأمرين:

1ـ أن القدم إنما هو وصف لذات متصفة بصفات وليس وصفاً للذات المجردة عن الصفات.

2ـ إذا قيل: إن الصفات متصفة بالقدم فلا تكون إلهاً؛ لأنها قائمة بذات الله كما أننا لو قلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم محدث وصفاته محدثة فلا تكون صفاته نبياً.

• ثالثاً: أن الشرع لم ينف هذا التشبيه وإنما نفى (المثل) كما في قول تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] . والصفة ليست مثلاً للموصوف وكذلك نفي (الكفء) كما في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أحَدٌ} [الإخلاص: 4] ، والصفة ليست كفؤاً للموصوف. فلا تدخل هذه الصفات فيما نفاه الشرع لغة.

ص: 325

• رابعاً: وكذلك فإن العقل لم ينف هذا المعنى، فإن الصفات قائمة بالذات فوصفها بالقدم لا يدل على التمثيل بل قدم الصفات تابع لقدم الذات ويستحيل في الخارج وجود ذات مجردة عن أي صفة.

س4 ـ اذكر الطرق الصحيحة في النفي أي التنزيه؟

ج ـ الطرق الصحيحة في النفي هي ثلاثة:

• الأولى: هي نفي ما نفاه الله عن نفسه تصريحاً، وهي طريقة نقلية نصية كقوله تعالى:{لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا آحَدٌ} .

• الثانية: نفي النقص والعيب عن الله تعالى كالعمى والصمم والجوع وغيرها وضابط النقص والعيب أحد أمرين:

1ـ كل ما يضاد الكمال الذي وصف الله به نفسه فإذا قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] كان ضده نقصاً ـ كالصمم والعمى.

2ـ إذا نفى عن نفسه نقصاً دل على اتصافه بما هو من لوازم ذلك النقص فمثلاً: نفى الصاحبة والولد دليل على عدم اتصافه بالشهوة ونحوها من اللوازم.

• الثالثة: نفي مماثلته للمخلوقين فكل صفة كمال فهو متصف بها لا يماثله فيها شيء، وهذا مذهب سلف الأئمة وأئمتها، إثبات ما وصف الله به نفسه بلا تمثيل.

س5 ـ اذكر وجوه بطلان طريقة التنزيه بنفي التشبيه؟

ج ـ وجوه بطلانها ما يلي:

1ـ إن أردت أنه مماثل من كل وجه باطل لأن بين الخالق والمخلوق فروقاً تعلم ضرورة، ويكفي فرقاً أن هذا خالق وذاك مخلوق فضلاً عن البون العظيم بينهما.

2ـ وإن أردت أنه مشابه من وجه دون وجه أو مشارك له في الاسم لزمك النفي في سائر ما تثبته الوجود لأنه يشترك مع

ص: 326

وجود المخلوقات في مسمى الوجود، وإن قلت بأن وجوده يختص به، قلنا وكذلك ذاته وصفاته تختص به.

3ـ وإن أردت ما فسرتموه بأنه يجوز على أحدهما ما يجوز على الآخر، ويمتنع عليه ما يمتنع على الآخر، ويجب له ما يجب على الآخر، فإثبات مثل هذا التشبيه لا يقول به عاقل فهو ممتنع بضرورة العقل ومستلزم للجمع بين النقيضين، ولأن الله تعالى واجب الوجود والمخلوق ممكن، فلو جاز للواجب أن يكون ممكناً أصبح هذا جمعاً بين النقيضين.

س6ـ اذكر وجوه بطلان طريقة التنزيه بنفي التجسيم؟

ج ـ هذه الطريقة باطلة من وجوه خمسة:

• أولالاً: إن وصف الله بهذه النقائص أظهر فساداً من نفي التجسيم فإن فيها اشتباهاً ونزاعاً بينما كفر القائل بهذه النقائض أظهر، ولا يجوز أن يكون الدليل وهو نفي التجسيم أخفى من المدلول وهو نفي النقائص عن الله، مثل الحدود (التعريفات) فلا يصح أن يكون التعريف أخفى من المعَرَّف، كمن يعرِّف الخمر بأنها العقار، فإنه أخفى من الخمر.

• ثانياً: إن هذا الذي يصفه بالبكاء والرمد وغيره من النقائص يمكنه أن يقول نحن لا نقول بالتجسيم، مثل من يثبت الصفات دون تجسيم، فيصبح نزاع هؤلاء الكفار مثل نزاع مثبتة الكمال، ويبقى رد نفاة التجسيم على من وصف الله بالنقص ومن وصفه بالكمال بطريق واحد، وهذا في غاية الفساد فإن الطريق الذي يسوي بين الحق والباطل من أفسد طرق الرد.

• ثالثاً: إن من ينفي التجسيم ينفي صفات الكمال بهذه الطريقة فراراً من التجسيم بزعمه، فيقول: لا أثبت الصفات فراراً من التجسيم واتصافه بصفات الكمال واجب عقلاً ونقلاً وقد عارضها بنفي التجسيم، فيكون ذلك دليلاً على فساد طريقته هذه.

• رابعاً: إن من يسلكون هذه الطريقة متناقضون، فكل من أثبت أو نفى

ص: 327

شيئاً من الصفات ألزمه الآخر بما يتفقون عليه من النفي أو الإثبات كما سبق مع الأشاعرة.

• خامساً: ومما يبين بطلان هذه الطريقة في النفي أنها لم يسلكها السلف ولم ينطق أحد منهم بالجسم نفياً ولا إثباتاً ولا الجوهر والتحيز؛ لأنها عبارات مجملة لا تحق حقاً ولا تبطل باطلاً، ولم يذكرها الله في كتابه في إنكاره على اليهود والكفار بل هو من الكلام المبتدع الذي أنكره السلف.

س7 ـ كيف نجيب على من زعم أن إثبات القدر المشترك يستلزم أن يجوز على الله ما يجوز على المخلوقات، وأن يجب له ما يجب لهم، وأن يمتنع عليه ما يمتنع عليهم؟

ج ـ نجيب على هذا السؤال بما يلي:

1ـ أنه لو فرضنا أن قول المعترض صحيح فإذا كان القدر المشترك لا يستلزم إثبات ما يمتنع على الله أو نفي ما يجب عليه، فعندها لا يكون ها الاشتراك ممتنعاً.

2ـ وأيضاً فإننا إذا قلنا: إن الله تعالى موجود حي عليم سميع بصير، وسمى بعض عباده حياً سميعاً عليماً بصيراً، فهو مطلق لا فيما يختص بالخالق أو المخلوق من خصائص.

3ـ بل إثبات هذا القدر المشترك الكلي من لوازم الوجود فكل موجودين لا بد أن يشتركا في هذا المعنى العام الذي هو ضد العدم، ومن نفى هذا المعنى العام لزمه تعطيل الوجود، لذلك لما تفطن الأئمة لحقيقة قول الجهمي وأنه يفضي إلى نفي وجود الله سموهم معطلة، وكان جهم ينكر أن يسمى اله شيئاً مع أن كل موجود شيء، وقد ورد إطلاق الشيء على الله تعالى كما في قوله تعالى:{قُلْ أيُّ شَيْءٍ أكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ} [الأنعام: 19] ، ولكن أتباعه الجهمية قالوا شيء لا كالأشياء، ومرادهم بذلك نفي الصفات.

4ـ وجميع المعاني التي يوصف الله تعالى بها كالحياة والعلم والقدرة تثبت لله تعالى مع لوازمها، فحياة الله تعالى يلزم منها عدم الموت والأزلية

ص: 328

ونحوها من خصائص الخالق وعلمه يلزم منه الكمال المطلق.. وهكذا، فخصائص المخلوق ليست من لوازم تلك الصفات لأن الله تعالى منزه عن خصائص المخلوقات وملزوماته كالحدوث والافتقار، فبذلك لا يكون في إثبات القدر المشترك تشبيه.

س8 ـ اذكر أمثلة لبعض المتكلمين الذين شهدوا على أنفسهم بالحيرة والاضطراب؟

ج ـ من المتكلمين الذين شهدوا على أنفسهم بالحيرة والاضطراب ما يلي:

1ـ محمد بن نامار الخُونَجِي وكان عالماً بالفلسفة والمنطق، روي أنه قال عند موته:(أموت وما علمت شيئاً إلا أن الممكن يفتقر إلى الواجب ثم قال الافتقار وصف عدمي، أموت وما علمت شيئاً) .

2ـ محمد بن واصل الحموي وكان مؤرخاً وعالماً بالمنطق، روي أنه قال:(أبيت بالليل واستلقي على ظهري وأضع الملحفة على وجهي، وأبيت أقابل أدلة هؤلاء بأدلة هؤلاء وبالعكس، وأصبح وما ترجح عندي شيء) .

3ـ الشهرستاني: وكان مما قال في إنشاده ما يلي:

لعمري قد طفت المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

فلم أر إلا واضعاً كف حائر

على ذقن أو قارعاً سن نادم

4ـ فخر الدين الرازي وكان مفسراً أصولياً متكلماً ومن قوله ما يلي:

نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسوم

وحاصل دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثاً طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

وقال لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما وجدتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن. أقرأ في الإثبات:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] وفي النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ

ص: 329

شَيْءٌ} [الشورى: 11] وهذه طريقة أهل السنة المنزهة عن التناقض والاضطرب.

5ـ الوليد بن أبان الكرابيس أحد أئمة الكلام، قال لبنيه عند وفاته:(تعلمون أحداً أعلم بالكلام مني؟ قالوا: لا قال: فتتهموني؟ قالوا: لا، قال: فإني أوصيكم أتقبلون؟ قالوا: نعم. قال: عليكم بما عليه أصحاب الحديث فإني رأيت الحق معهم) . وشهادات المتكلمين على أنفسهم بالشك والاضطراب أكثر من أن تحصى.

س9 ـ ما القول الحق في المسائل التالية:

أـ وجود الرب هل هو عين ماهيته، أو زائد عنها؟

ب ـ لفظ الوجود هل هو من قبيل المشترك اللفظي، أم المتواطئ، أم المشكك؟

ج ـ إثبات الأحوال؟

د ـ هل المعدوم شيء أم لا؟

هـ ـ هل وجود الموجودات عين ماهيتها أم لا؟

ج ـ هذه المسائل من المسائل التي وقع فيها اضطراب المتكلمين بسبب الاضطراب في الاشتراك والقول الحق فيها ما يلي:

أـ أن وجود الموجودات هو عين ماهيتها ـ خصائصها الذاتية ـ أو حقيقتها في الخارج، لكنه زائد عن ماهيتها في الذهن، فإنه في الذهن يكون عاماً كلياً وفي الخارج يزيد بتقييدات وتخصيصات هي عين حقيقته الخارجية الزائد عما في الذهن.

ب ـ القول الصحيح فيها هو أن الوجود متواطئ؛ أي متحد لفظاً ومعنى والفرق بين التواطؤ اتفاق في اللفظ والمعنى مع الاتحاد في المعنى الكلي، كلفظ (الإنسان) فإن زيداً وعمراً متفقان في الإنسانية ولا يتفاوتان فيها. أما التشكيك: فهو اتفاق في اللفظ والمعنى أيضاً، ولكن مع التفاوت في المعنى الكلي مثل البياض فإن الثلج والإنسان متفقان في البياض مع التفاوت بين بياض كل منهما.

ص: 330

ج ـ الحق في إثبات الأحوال أنها لا وجود لها إلا في الأذهان، وأما في الأعيان فلا توجد إلا الذوات وصفاتها القائمة بها.

د ـ الصواب أن المعدوم شيء في العلم والذهن، وليس بشيء في الخارج، وهذا التفصيل هو الذي تجتمع عليه الأدلة خلافاً للمعتزلة القائلين بأنه شيء مطلقاً.

* ومن أدلة كونه شيئاً في العلم:

• قوله تعالى: {إِنَّمَا أمْرُهُ إِذَا أرَادَ شَيْئًا} [يس: 82]، فالشيء هنا غير موجود لكنه معلوم مراد. ومثل قوله سبحانه:{إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] ، فهي لم تقع لكنها معلومة.

* وأدلة كونه ليس بشيء في الخارج:

• قوله تعالى: {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم:67] ، أي في الخارج. فالمعدوم شيء علمي لا عيني.

هـ ـ الصواب أن الموجودات هي عين ماهيتها في الخارج، وزائدة على ماهيتها في الذهن.

س10 ـ هل يكفي الاعتماد في النفي على مجرد عدم ورود السمع، ولماذا؟

ج ـ لا يكفي الاعتماد في النفي على مجرد عدم ورود السمع؛ لأن هناك لوازماً عقلية تتوافق مع الأدلة النقلية، فتثبت بمجموعها كمال الصفات لله، وخلاصة الأمر: أن كل ما نافى صفات الكمال الثابتة لله فهو منزه عنه؛ لأن ثبوت أحد الضدين يستلزم نفي الآخر؛ كالنقص والعيب والمماثلة للخلق. وهذه هي القاعدة العامة في التنزيه، لا طريقة نفي التشبيه، أو التجسيم التي تناقض فيها المتكلمون.

س11ـ كيف ترد على من سوى بين وصف الله بالنقائص، كالمعدة والأمعاء والبكاء، ووصفه بالكمال؛ كالوجه والضحك والفرح؟

ج ـ يرد عليه ببيان الفرق بين صفات الكمال الثابتة لله تعالى، وصفات

ص: 331

النقص، ويجاب عليه بالقاعدة العامة في التنزيه؛ وهي:

1ـ أن الله حي والموت ضد الحياة فينزه الله عنه، وكذلك النوم والسنة ضد كمال الحياة.

2ـ أن اللغو نقص في كمال القدرة والقوة فينزه عنه من وجوه:

3ـ الأكل والشرب يستدل على نفيهما عنه من وجوه:

أـ أن فيهما افتقاراً إلى موجود غيره، وهو الطعام والشراب.

ب ـ أن الملائكة صمد لا تأكل ولا تشرب، وهذا كمالها لها، وهو دليل على تنزيهه ـ سبحانه ـ عن ذلك بطريق الأولى؛ فكل كمال اتصف به المخلوق فالخالق أولى به.

ج ـ في قوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة: 75] عن عيسى وأمه عليهما السلام جعل الأكل دليلاً على نفي الألوهية؛ فالله أولى بالتنزه عنه.

4ـ أما المعدة والأمعاء وأعضاء الأكل والشرب؛ فالغني المنزه عن الأكل والشرب، منزه عن آلات ذلك ولوازمه بخلاف اليد فإنها للفعل والله موصوف بالفعل، فهو كمال فالفاعل أكمل ممن لا يقدر على الفعل بالإضافة إلى ثبوتها في النصوص.

5ـ وأما البكاء والحزن فمستلزم للضعف والعجز، بخلاف الفرح والغضب والضحك فإنها من صفات الكمال الثابتة شرعاً؛ فكان يوصف بالبكاء والقدرة دون العجز، فكذلك يوصف بالفرح دون الحزن، وبالضحك دون البكاء؛ لعدم منافاتها لصفات الكمال.

ودليل ثبوت الفرح قوله: صلي الله عليه وسلم: " الله أفرح بتوبة عبده من من أحدكم.. الحديث " رواه البخاري ومسلم (2747) . ودليل ثبوت الضحك قوله: صلي الله عليه وسلم "يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة ".. رواه البخاري ومسلم (1890) .

ص: 332

س12 ـ اذكر أدلة نفي التمثيل نقلاً وعقلاً؟

ج ـ ثبت نفي التمثيل نقلاً وعقلاً:

* فمن النقل: قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأمْثَالَ} [النحل: 74] ، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} [مريم: 65] ، {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أنْدَادًا} [البقرة: 22] .

* ومن العقل: لو قلنا بالتماثل؛ لزم أن يجب له ما يجب للمخلوقين، وأن يجوز عليه ما يجوز على المخلوقين، وهذا باطل، لأنه يلزم أن يكون الخالق القديم الواجب بنفسه جائزاً عليه العدم والحاجة، ويكون للمخلوقين صفة الوجوب والقدم؛ فيكون الشيء الواحد واجباً غير واجب بنفسه قديماً ومحدثاً؛ وذلك جمع بين النقيضين، وهو ممتنع.

ص: 333