الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القسم الثاني
مقدمة ابن تيمية
الفصل الأول:
الأصل الأول "التوحيد والصفات
"
الأصل الأول: التوحيد والصفات
…
الأصل الأول
التوحيد والصفات
قال شيخ الإسلام:
"فأما الأول وهو التوحيد في الصفات فالأصل في هذا الباب أن يوصف الله تعالى بما وصف به نفسه وبما وصفته به رسله نفياً وإثباتاً، فيُثبَت لله ما أثبته لنفسه ويُنفَى عنه ما نفاه عن نفسه، وقد عُلِم أن طريقة سلف الأمة وأئمتها إثبات ما أثبته من الصفات من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريف ولا تعطيل، وكذلك ينفون عنه ما نفاه عن نفسه مع ما أثبته من الصفات من غير إلحاد لا في أسمائه ولا في آياته، فإن الله ذمَّ الذين يلحدون في أسمائه، وآياته كما قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 18.]، وقال تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمَّنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40] .
فطريقتهم تتضمن إثبات الأسماء والصفات مع نفي مماثلة المخلوقات إثباتاً بلا تشبيه، وتنزيهاً بلا تعطيل، كما قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، ففي قوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} رد للتشبيه والتمثيل، وقوله:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} رد للإلحاد والتعطيل.
والله سبحانه وتعالى بعث رسله بإثبات مفصّل، ونفيٍ مجمل، فأثبتوا له الصفات على وجه التفصيل، ونفوا عنه ما لا يصلح له من التشبيه
والتمثيل، كما قال تعالى:{فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65]، قال أهل اللغة:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} أي نظيراً يستحق مثل اسمه، ويقال: مسامياً يساميه. وهذا معنى ما يُروى عن ابن عباس: هل تعلم له مثلاً أو شبيهاً.
وقال تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 3ـ4]، وقال تعالى:{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 22]، وقال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّه} [البقرة: 165] .
وقال تعالى: {وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ*بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنعام: 100ـ 101]، وقال تعالى:{َتبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً*الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْك} [الفرقان: 1ـ2]، وقال تعالى:{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ*أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ*أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ*وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ*أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ*مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ*أَفَلا تَذَكَّرُونَ*أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ*فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ*وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ*سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ*إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 149ـ160.] إلى قوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ*وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ*وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 18.ـ182] ، فسبَّح نفسه عما يصفه المفترون المشركون، وسلّم على المرسلين؛ لسلامة ما قالوه من الإفك والشرك، وحمد نفسه إذ هو سبحانه المستحق للحمد بما له من الأسماء والصفات وبديع المخلوقات.
وأما الإثبات المفصّل فإنه ذكر من أسمائه وصفاته ما أنزله في محكم آياته، كقوله تعالى:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [البقرة: 255] الآية بكمالها، وقوله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ*لَمْ يَلِدْ وَلَمْ
يُولَدْ*وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الاخلاص: 1ـ4]، وقوله:{وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 2]، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] ، {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ، {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [ابراهيم: 4] ، {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:1.7] ، {وَهوالْغَفُورُ الْوَدُودُ*ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ*فعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} ، [البروج: 14ـ16] ، {هو الأول وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ*هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 3ـ4] ، {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28] ، {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] ، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] ، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء: 93] ، {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر: 1.] ، {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [البقرة:21.] ، {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] ، {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164] ، {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم: 52] ، {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62] ، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يّس: 82] ، {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ*هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ*هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22ـ24] .
إلى أمثال هذه الآيات والأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في أسماء الربّ تعالى وصفاته، فإن في ذلك من إثبات ذاته وصفاته على وجه التفصيل،
وإثبات وحدانيته بنفي التمثيل ما هدى الله به عباده إلى سواء السبيل، فهذه طريقة الرسل صلى الله عليهم أجمعين".
معاني الكلمات:
سلف الأمة: السلف في اللغة: كل من تقدم، وفي الاصطلاح: هم أصحاب القرون الثلاثة الفاضلة من الصحابة والتابعين دون من رمي ببدعة أو شهر بلقب غير مرضي.
تكييف: مأخوذ من الكيف وهو الهيئة، والمقصود: إثبات كيفية معينة للصفات أو السؤال عنها بكيف.
التمثيل: هو التسوية والمشابهة بين الخالق والمخلوق.
التحريف: ويراد به التغيير والإمالة لكلام الله لفظاً ومعنى.
التعطيل: هو جحد ما وصف الله به نفسه من الصفات وإنكار قيامها بذاته وتجريده من صفات الكمال.
الإلحاد: وهو مأخوذ من اللحد وهو الميل: والمراد به هنا: الميل عن الحق في باب الأسماء والصفات.
التنزيه: عبارة عن تبعيد الرب عن مشابهة البشر، التنزيه لغة: هو: التباعد والترفع عن النقائص، وقال الأزهري: تنزيه الله: تبعيده وتقديسه عن الأنداد والأشباه1، وليس في إثبات الصفات الواردة في الكتاب والسنة تشبيه.
التشبيه: من اعتقد أن صفات الله من جنس صفات المخلوقين فالمثبت لصفات الكمال ليس مشبهاً ولا مجسماً.
عناصر الموضوع:
1 ـ موضوع الأصل الأول:
موضوع الأصل الأول هو في الصفات نفياً أو إثباتاً فيثبت لله تعالى ما أثبت لنفسه وينفي ما نفاه عن نفسه.
1 لسان العرب (13/548) .
2 ـ الصلة بين الأصل الأول وما سبق:
تقدم أن موضوع الرسالة التدمرية هو الكلام في أصلين عظيمين.
الأول: التوحيد والصفات.
الثاني: القدر والشرع.
فشرع شيخ الإسلام في بيان الأصل الأول تأصيلاً وتفصيلاً، وسيتكلم في توحيد الأسماء والصفات دون الربوبية لأمرين:
الأول: لأن الأسماء والصفات متضمن للربوبية.
الثاني: لكثرة الخلاف في الأسماء والصفات دون الربوبية.
فنبدأ بذكر القاعدة الأصلية في هذا الباب، وهي أن يوصف الله بما وصف نفسه نفياً وإثباتاً، فيثبت ما أثبته الله لنفسه لقوله:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} وينفي ما نفاه عن نفسه لقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] .
الأدلة التي نثبت بها أسماء الله وصفاته هي كتاب الله وسنة رسوله، فلا نثبتُ أسماء الله وصفاته بغير دليل، ودليل ذلك السمع والعقل.
فأما السمع: فقوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأنعام: 155]، {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [لأعراف: 158] .
والدليل العقلي: من المعلوم أن تفصيل القول فيما يمتنع أو يجب أو يجوز في حق الله من أمور الغيب التي لا يمكن إدراكها بالعقل، يجب الرجوع فيها إلى ما جاء في الكتاب والسنة، قال ابن قتيبة: "فنحن نقول كما قال تعالى، وكما قال رسوله ولا نتجاهل.
ولا يحملنا ما نحن فيه من نفي التشبيه على أن ننكر ما وصف به نفسه، ولكنّا نقول: كيف والله وضع عنا أن نفكر كيف كان؟، وكيف قدر؟
وكيف خلق؟ ولم يكلفنا ما لم يجعله في تركيبنا ووسعنا"1.
ونقتصر على جملة ما قاله الله ورسوله في الكتاب والسنة ونمسك عما لم يرد فيهما.
3 ـ على ما يدور الأصل الأول:
مدار الأصل الأول على مسألتين:
1 ـ تقرير مذهب السلف في باب الصفات.
2 ـ الرد على المنحرفين في هذا الباب.
4 ـ على من يرد شيخ الإسلام بالأصل الأول:
يرد شيخ الإسلام بهذا الأصل على طائفتين:
• الأولى: الغلاة في الإثبات، وهم الذين غلوا في إثبات الأسماء والصفات بدون التنزيه حتى مثلوها بصفات المخلوقين.
• الثانية: الغلاة في التنزيه بدون إثبات ما أثبته الله من صفات، حتى أدى بهم تنزيههم إلى أن يكون إلهاً معدوماً وهم المعطلة.
5 ـ طريقة السلف في باب الأسماء والصفات:
طريقة السلف في باب الأسماء والصفات أنهم يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفته به رسله إثباتاً بلا تمثيل وتنزيهاً بلا تعطيل كما جمع الله تعالى بينهما في قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فقوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} نفي متضمن لكمال صفاته مبطل لمنهج أهل التمثيل، وقوله:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} إثبات لأسمائه وصفاته وإبطال لمنهج أهل التحريف التعطيل، فنثبت ما أثبته الله
1 انظر: عقيدة الإمام ابن قتيبة (ص134) .
لنفسه وننفي ما نفى الله عن نفسه من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكيف ولا تمثيل.
6 ـ الأدلة على صحة طريقة السلف:
منهج السلف وطريقتهم في باب الصفات منهج سليم مبنيٌّ على العلم والحكمة والسداد في القول والاعتقاد؛ لأنه مأخوذ من أدلة الشرع المؤيد بالعقل السليم الخالي من الشبهات، وسأذكر دليلين، أحدهما أثري سمعي والآخر عقلي على صحة طريقة السلف.
• أما الدليل الأثري السمعي فمنه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 18.]، وقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقوله تعالى:{وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الاسراء: 36] .
• أما النظري العقلي: فلأن القول في أسماء الله وصفاته من باب الخبر المحض الذي لا يمكن للعقل إدراك تفاصيله، فوجب الوقوف فيه على ما جاء به السمع.
7 ـ طريقة السلف في الإثبات:
الإثبات عندهم إثبات بلا تشبيه وبيان ذلك في الآتي:
أـ الإيمان والتسليم بما ورد من الأسماء والصفات:
يجب الإيمان بالأسماء والصفات الثابتة بالكتاب والسنة دون تجاوزها بالنقص أو الزيادة.
قال ابن خزيمة: "إن الأخبار في صفات الله موافقة لكتاب الله تعالى نقلها الخلف عن السلف قرناً بعد قرن من لدن الصحابة والتابعين إلى عصرنا هذا على سبيل الصفات لله تعالى والمعرفة والإيمان به، والتسليم لما أخبر الله
تعالى في تنزيله ونبيه عليه الصلاة والسلام مع اجتناب التأويل والجحود، وترك التمثيل والتكييف"1.
وقال أبو بكر الإسماعيلي: "اعلموا رحمني الله وإياكم أن مذهب أهل الحديث أهل السنة والجماعة الإقرار بالله وكتبه ورسله، وقبول ما نطق به كتاب الله وصحت به الرواية عن رسول الله لا معدلٍ عما ورد به، ولا سبيل إلى رده إذ كانوا مأمورين باتباع الكتاب والسنة مضموناً لهم الهدى فيهما مشهوداً لهم بأن نبيهم عليه الصلاة والسلام يهدي إلى صراط مستقيم محذرين في مخالفته الفتنة والعذاب الأليم، ويعتقدون أن الله مدعو بأسمائه الحسنى، موصوف بصفاته التي سمى ووصف بها نفسه ووصفه بها نبيه"2.
فجميع نصوص الأسماء والصفات يمرُونَها صريحة على ظواهرها كما أتت، ويسلمون لما تقتضيه تلك الصفات من كمالات تليق بالله، من غير تحريف ولا تكييف لكل ما نص عليه كتاب الله وحديث رسول الله وجب الإيمان به، فمن أنكر فإنه يخشى عليه الكفر بعد ثبوت الحجة عليه كما قال الشافعي:"لله تعالى أسماء وصفات جاء بها كتابه وأخبر بها نبيه لا يسع أحداً من خلق الله تعالى قامت عليه الحجة ردها لأن القرآن نزل بها، وصح عن رسول الله القول بها، فإن خالف ذلك بعد ثبوت الحجة عليه فهو كافر بالله، فأما قبل ثبوت الحجة عليه من جهة الخبر فمعذور بالجهل"3.
ب ـ إن أسماء الله عز وجل وصفاته كلها عندهم توقيفية:
فلا يطلقون على الله شيئاً منها إلا بإذن من الشرع، فما ورد من الشرع وجب إطلاقه، وما لم يرد به فلا يصح إطلاقه، قال عبد الرحمن بن قاسم العُنَقي:"لا ينبغي لأحد أن يصف الله إلا بما وصف به نفسه في القرآن"4.
1 ذمّ التأويل لابن قدامة (ص14.) ، ضمن مجموع الرسائل الكمالية.
2 ذمّ التأويل لابن قدامة (ص139) ، ضمن مجموع الرسائل الكمالية.
3 ذم التأويل (ص143) .
4 أصول السنة لابن أبي زمنين (1/212) .
وقال الجزي: "قد اتفقت الأئمة على أن الصفات لا تؤخذ إلا توقيفاً، وكذلك شرحها لا يجوز إلا بتوقيف، ولا يجوز أن يوصف الله سبحانه إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله عليه الصلاة والسلام"1.
وذلك لأن الإيمان بصفات الله وأسمائه من الإيمان بالغيب، ولا يمكن معرفة الغيب إلا عن طريق الرسل الذين يبلغون وحي الله.
ج ـ إثباتهم للصفات إثبات وجود معلوم المعنى مجهول الكيفية:
سُئل الإمام مالك عن قول الله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] كيف استوى؟ قال: "الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"2.
فبيَّن أن الاستواء معلوم المعنى، مجهول الكيفية، وهكذا بقية الصفات، يقال فيها ما قيل في الاستواء.
قال أبو سليمان الخطابي: "فإذا كان معلوماً أن إثبات البارئ سبحانه وتعالى، هو إثبات وجود، لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته، إنما هو إثبات وجود، لا إثبات تحديد وتكييف"3.
وقال الحافظ أبو القاسم التميمي: "وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات الصفات
…
وعلى هذا مضى السلف كلهم"4.
وقال السجزي: "إن الله تعالى إذا وصف نفسه هي معقولة عند العرب والخطاب ورد عليهم بما يتعارفون بينهم، ولم يبيّن سبحانه أنها بخلاف ما يعقلونه، ولا فسّرها النبي صلى الله عليه وسلم بتفسير يخالف الظاهر فهي على ما يعقلونه"5.
1 كتاب الحرف والصوت (ص139) .
2 أخرجه الصابوني في عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص17ـ18) .
3 الأربعين في صفات رب العالمين (ص117) ، والعلو (ص173) كلاهما للذهبي.
4 الحجة في بيان المحجة (ص34) .
5 الحرف والصوت (ص183) وانظر أصول الدين عند الإمام أبي حنيفة (ص288ـ29.) .
وقال السرخسي الحنفي: "وأهل السنة والجماعة أثبتوا ما هو الأصل المعلوم بالنص ـ أي بالآيات القطعية والدلالات اليقينية ـ وتوقفوا فيما هو المتشابه وهو الكيفية ولم يجوزوا الاشتغال بذلك"1.
وقال البزدوي الحنفي: "إثبات الوجه واليد حق عندنا معلوم بأصله، متشابه بوصفه، ولا يجوز إبطال الأصل بالعجز عن إدراك الوصف بالكيف، وإنما ضلّت المعتزلة من هذا الوجه، فإنهم ردوا الأصول لجهلهم بالصفات فصاروا معطلة"2.
د ـ الإثبات عندهم يكون على وجه التفصيل:
وهذه هي طريقة القرآن، فالإثبات للصفات في كتاب الله يكون مفصلاً، والنفي يكون مجملاً3.
ومن شواهد الإثبات المفصل قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ*هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ*هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22ـ24] .
والمراد بالتفصيل:
التعيين والتخصيص، وذلك بذكر الأسماء والصفات معينة منصوصاً عليها، لا مجملة في لفظ عام كقوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 18.] .
هـ ـ صفات الله كلها كاملة عندهم:
ما ورد في الكتاب والسنة وصفاً لله تعالى إنما هو عندهم من صفات الكمال الواجبة لله تعالى، ولو لم يتصف بها للزم النقص في حقه تعالى وتقدس. ومما يدل على ذلك أن الله تعالى ذكر أن الأصنام لا توصف
1 شرح الفقه الأكبر للقاري (ص6.) .
2 أصول البزدوي مع شرحه كشف الأسرار لعلي الدين البخاري (1/6ـ61) .
3 شرح العقيدة الطحاوية (ص53) .
بالكلام ولا بالنطق ولا بالنفع ولا بالضر، وهذا دليل على عدم استحقاقها للعبادة. وإذا كان كذلك فهذه الصفات صفات كمال والفاقد لها لا يستحق أن يكون متصفاً بالألوهية.
قال تعالى عمن عبد العجل من دونه: {وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 148]، وقال تعالى:{فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ*أَفَلا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً} [طه: 88] .
فالكمال المطلق الذي لا نقص فيه ثابت لله تعالى.
وـ أسماء الله كلها حسنى عندهم:
أسماء الله جميعها حسنى؛ لأنها دالة على صفات كمال عظيمة، ولو كانت أعلاماً محضة لم تكن حسنى1، لذلك أمر الله عباده أن يدعوه بها، لأنها وسيلة مقربة إليه يحبها ويحب من يحفظها ويتعبد بها2.
قال تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 18.] .
فكل اسم من أسماء الله دال على جميع الصفة التي اشتق منها، مستغرق لجميع معناها، ودلالة الأسماء على الذات والصفة تكون بالمطابقة إذا فسرنا الاسم بجميع مدلوله وبالتضمن إذا فسرناه ببعض مدلوله، وبالالتزام إذا استدللنا به على غيره من الأسماء التي يتوقف عليها هذا الاسم، مثال ذلك:
الرحمن: دلالته على الرحمة والذات دلالة مطابقة، وعلى أحدهما دلالة تضمّن؛ لأنها داخلة في الضمن، ودلالة الأسماء لا توجد
1 انظر: مجموع الفتاوى (3/8) .
2 انظر: تيسير كلام المنان (3/12.، 121، 5/145) .
الرحمة إلا بثبوتها كالحياة والعلم والقدرة ونحوها دلالة التزام1.
فالمقصود أن أسماء الله أعلامٌ وأوصافٌ دالّة على معانيها، وكلها أوصاف مدح وثناء.
8 ـ طريقة السلف في التنزيه:
التنزيه الذي دلّ عليه الكتاب والسنة وفهمه سلف الأمة هو تنزيه الله عن مشابهة الخلق بلا تعطيل، لما أثبت الله لنفسه، وأثبت له رسوله عليه الصلاة والسلام، وليس نفي الصفات الثابتة في الكتاب والسنة من التنزيه في شيء، بل هو عين التنقص.
وأهل السنة ينفون ما نفاه الله عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله عليه الصلاة والسلام مع اعتقادهم ثبوت كمال ضده، ولا يتعرضون لصفات الكمال ونعوت الجلال بنفي ولا تحريف.
وإثبات الصفات الثابتة في الكتاب والسنة ليس من التشبيه في شيء، بل التشبيه في نفي الصفات لا في إثباتها.
والتنزيه عند السلف بُني على أصول هي:
أـ تنزيه الله تعالى عن النقائص والعيوب مع إثبات الصفات الواردة في الكتاب والسنة إثباتاً بلا تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل، فينُزَّه الله عن كل ما يوجب النقص أو العيب سواء كان متصلاً بالموت والعجز والسنة والنوم والذل والسَّفه والنسيان والغفلة والحاجة والتعب واللغوب، أو كان منفصلاً كالشريك والظهير والشفيع بدون إذنه والولد والوالد واتخاذ صاحبة والكفؤ والند والولي من الذل.
ب ـ النفي عندهم مجمل: تقدم أن الإثبات عند السلف يكون إثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته رسوله على وجه التفصيل من غير تكييف ولا تمثيل ولا تعطيل، أما النفي فهو مجمل عندهم كما في القرآن الكريم،
1 انظر: بدائع الفوائد (1/162) بتصرف.
قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقال تعالى:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] .
والمراد بالإجمال: التعميم والإطلاق، والنفي المجمل: هو الذي لا يُتعرض فيه لنفي عيوب ونقائص معينة فقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، وقوله:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} هو نفي مجمل؛ لأنه نفي للمماثلة في جميع الصفات، فلم يقل ليس كمثله شيء في علمه أو في قدرته أو في سمعه أو في بصره، وما ذكر من الإجمال في النفي والتفصيل في الإثبات إنما هو في الغالب، وإلا فإنه قد يأتي النفي مفصلاً كما يأتي الإثبات مجملاً، فالأول كقوله تعالى:{لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، وقوله تعالى:{وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49]، والثاني كقوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 18.]، وقوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] .
ج ـ لا يصفون الله بالنفي المحض: ومع نفيهم عن الله ما نفاه عن نفسه أو نفاه رسوله عليه الصلاة والسلام فهم يثبتون ضد الصفات المنفية كقوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] ، فهم يثبتون كمال عدله.
وكقوله تعالى: {لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّة} [سبأ: 3] ، فهم يثبتون كمال علمه.
وكقوله تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [قّ: 38] ، فهم يثبتون كمال قدرته.
وكقوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255] ، فهم يثبتون كمال حياته وقيُّوميته؛ لأن النفي الصرف لا مدح فيه ولا كمال لأنه عدم محض، العدم المحض ليس بشيء1.
1 شرح العقيدة الطحاوية (ص52) .
9 ـ الجمع بين النفي والإثبات في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] :
إن الله تعالى فيما وصف به نفسه في هذه الآية جمع بين النفي والإثبات، لأنه لا يتم كمال الموصوف إلا بنفي صفات النقص، وإثبات صفات الكمال، وكل الصفات التي نفاها الله عن نفسه فهي صفات نقص.
فهذه الآية ونحوها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة من إثبات الصفات ونفي مماثلة المخلوقات، فالله لا يماثله شيء من مخلوقاته، لا في ذاته ولا في أسمائه، لا في ذاته لا في صفاته ولا في أفعاله، لأن أسماء الله كلها حسنى وصفاته صفات كمال وعظمة، وأفعاله سبحانه أوجد بها مخلوقاته العظيمة من غير مشارك، فليس كمثله شيء لانفراده وتوحده بالكمال من كل وجه.
والآية فيها رد على الممثلة موافقة لظاهر الآية في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وعلى المعطلة في قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، وليس كافياً في هذا الباب مجرد نفي التشبيه بدون إثبات، أو مطلق الإثبات بدون تنزيه.
1.
ـ الآيات التي ذكرها المؤلف الدالة على النفي المجمل1.
والمراد بالإجمال: التعميم والإطلاق، والنفي المجمل لا يُتعرض فيه لنفي عيوب ونقائص معينة.
الآيات الدالة على النفي المجمل
الشاهد ووجهه
1ـ {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] أي نظيراً يستحق مثل اسمه.
فيها استفهام إنكاري وهو نفي مجمل.
2 ـ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الاخلاص: 3ـ4] أي مكافئاً ومثيلاً.
النفي المجمل في قوله: {َلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} وما قبلها مفصل.
1التوضيحات الأثرية (ص4.) .
الآيات الدالة على النفي المجمل
الشاهد ووجهه
3 ـ {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادا} [البقرة: 165] .
الدلالة على نفي الأنداد من دلالة العبارة ولم يصرح بها لكنها مفهومة.
4 ـ {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة: 22] والند هو الشبيه والنظير.
النهي عن الأنداد متضمن لنفيها وهو مجمل.
فيها شواهد: 1 ـ نفي الشركاء بدلالة العبارة.
2 ـ سبحانه: تنزيه عن النقائص ففيه معنى النفي المجمل.
3 ـ تعالى: تقدس وتعاظم عن النقائص فهو متضمن للنفي المجمل بمفهومه.
فيهما شاهدان: 1 ـ تبارك: دوام وجوده وكثرة خيره ومجده وعلوه وعظمته وتقدسه، فهو متضمن لنفي النقائص بمفهومه.
2 ـ ولم يكن له شريك: نفي مجمل.
7 ـ {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} ..
إلى قوله: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّايَصِفُونَ} [الصافات: 148ـ182] .
سبحان الله: تنزيه عن جميع النقائص.
8 ـ {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ*وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ*وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 18.ـ182] .
{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} كما سبق فيه نفي مجمل.11 ـ الآيات التي ذكرها المؤلف الدالة على الإثبات المفصل1.
والمراد بالتفصيل: التعيين والتخصص، وذلك بذكر الأسماء والصفات معينة منصوص عليها.
1 المرجع السابق (ص41) .
الآيات الدالة على الإثبات المفصل
الشاهد
1 ـ {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [البقرة: 255] .
2 ـ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ} [الاخلاص: 1ـ2] .
الحي، القيوم، الأحد، الصمد.
3 ـ {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 2] .
4 ـ {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] .
العليم، الحكيم، القدير.
5 ـ {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]
6 ـ {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم} [ابراهيم: 4] .
السميع، البصير، العزيز.
7 ـ {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 1.7] .
8 ـ {وَهوالْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 14ـ16] .
الغفور، الرحيم، الودود.
9 ـ {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ*فعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 15ـ16]
المجيد، الفعال لما يريد.
1.
ـ هو الأول وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [الحديد: 3] .
الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، العليم.
الخالق، استوى على العرش، العليم، وهو معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير.
12 ـ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28] .
إثبات السخط.
13 ـ {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]
إثبات صفة المحبة لله.
14 ـ {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8] .
إثبات صفة الرضا.
15 ـ {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء: 93] .
إثبات صفة الغضب.
16 ـ {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر: 1.] .
إثبات صفة المقت وهي شدة الكراهية.
17 ـ {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ} [البقرة: 21.] .
إثبات إتيان الله.
18 ـ {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا} [فصلت: 11] . ملاحظة: الاستواء هنا بمعنى القصد لأنه لم يتعد بعلى وإنما تعدى بإلى على الراجح مع إثبات العلو.
إثبات القول والكلام لله تعالى
19 ـ {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164] .
2.
ـ {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم: 52] .
1 ـ إثبات صفة الكلام لله
2 ـ إثبات المناداة والمناجاة
21 ـ {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص: 62]
إثبات المناداة والقول
22 ـ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يّس: 82]
إثبات الإرادة، الكلام
23 ـ {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ*هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ*هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 22ـ24] . الله عالم الغيب والشهادة، الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، الباريء، المصور، العزيز، الحكيم.
12 ـ النفي قد يأتي مفصلاً والإثبات مجملاً في القرآن:
ما ذكر من الإجمال في النفي والتفصيل في الإثبات إنما هو في الغالب والأمانة، وقد يأتي النفي مفصلاً كما قد يأتي الإثبات مجملاً لأسباب تعرف عن طريق معرفة أسباب نزول الآية، كقوله تعالى:{لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة: 255]، وقوله تعالى:{وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49]، والثاني كقوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [لأعراف: 18.]، وقوله تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2] ،
13 ـ الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر من الصفات التي نفاها عن نفسه:
الصفات الثبوتية التي أخبر الله بها عن نفسه أكثر من الصفات التي نفاها عن نفسه؛ وذلك لأن الصفات الثبوتية التي وصف الله بها نفسه صفات كمال؛ لأنه كلما كثر الأخبار عنها وتنوعت دلالاتها ظهر من كمال الموصوف بها وعلم مالم يكن من الصفات المنفية التي نفاها الله عن نفسه فكلها صفات نقص لا تليق بالله تعالى، والغالب فيها الإجمال؛ لأن ذلك أبلغ في تعظيم الموصوف وأكمل في التنزيه.
14 ـ الكمال ثابت لله تعالى بمقتضى الأدلة النقلية والعقلية:
الكمال المطلق ثابت لله تعالى، دلّ على ذلك الأدلة النقلية والعقلية، فدلالة القرآن على مسائل الاعتقاد، ومنها الدلالة على إثبات الكمال لله تعالى نوعان:
أـ خبر الله الصادق:
فالله أعلم بما يستحقه من صفات الكمال من غيره، وكذلك رسوله صلى الله عليه وسلم أعلم بصفات ربه من غيره؛ فوجب إثبات صفات الكمال لله تعالى الواردة في الكتاب والسنة.
ب ـ دلالة القرآن:
فثبوت معنى الكمال قد دلّ عليه القرآن كما في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 6.] .
فالمثل الأعلى هو المتضمن لإثبات الكمالات لله وحده1.
15 ـ ثبوت الكمال لله تعالى مستقر في الفطر السليمة:
فإن معنى الكمال لله تعالى مستقر في فطر الناس، فالناس مفطورون
1 الصواعق المرسلة (3/1.3.) .
عليه كفطرتهم على الإقرار لخالقهم، فإنهم كذلك مفطورون على أنه تعالى أعظم وأجلّ وأكبر وأعلم وأكمل من كل شيء1.
16 ـ ما يقدح في توحيد الأسماء والصفات عند السلف:
يقدح في هذا التوحيد خمسة أمور كلها من ضروب الإلحاد في أسمائه الذي ذمه الله وأهله في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف:180] .
وهذه القوادح هي: التشبيه والتعطيل، وتسميته ووصفه بما لا يليق به.
قال ابن القيم: " الإلحاد في أسماء الله أنواع:
أحدهما: أن يسمي الأصنام بها كتسمية اللات من الإله، والعزى من العزيز تسميتهم الصنم إلهاً.
الثاني: تسميه بما لا يليق بجلاله كتسمية النصارى له أباً، وتسميته الفلاسفة له موجباً بذاته أو علة فاعلة.
ثالثها: وصفه بما يتعالى عنه ويتقدس من النقائص، كقول أخبث اليهود: إنه فقير، وقولهم: إنه استراح بعد أن خَلَقَ خلقه، ولقولهم: يد الله مغلولة، وأمثال ذلك.
رابعها: تعطيل الأسماء عن معانيها وجحد حقائقها كقول من يقول من الجهمية وأتباعهم: إنها ألفاظ مجردة لا تتضمن صفات ولا معاني.
خامسها: تشبيه صفاته بصفات المخلوقين تعالى عما يقول المشبهة علواً كبيراً2.
1 مجموع الفتاوى (6/72) .
2 بدائع الفوائد (1/169ـ17.) .
cc17 ـ الأسئلة والأجوبة على مقدمة الأصل الأول: (التوحيد والصفات) :
س1 ـ اذكر القاعدة العامة في باب الصفات.
ج ـالقاعدة العامة في باب الصفات هي: (أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم نفياً وإثباتاً) .
فيثبت ما أثبته لنفسه كقوله سبحانه: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} ، وينفي ما نفاه عن نفسه كقوله سبحانه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} .
س2 ـ ما خصائص طريقة السلف؟
ج ـ تتميز طريقة السلف عن غيرها بخصائص كثيرة منها:
1 ـ أنها مستمدة من الكتاب والسنة.
2 ـ أنها مؤيدة بالعقل والفطرة.
3 ـ أنها وسط بين الإفراط والتفريط والتمثيل والتعطيل، فالمشبهون أفرطوا في الإثبات وفرطوا في التنزيه، والمعطلة أفرطوا في التنزيه وفرطوا في الإثبات، فكانت طريقة السلف لبناً سائغاً بين دم التشبيه وفرث التعطيل.
4 ـ أنها أصح المذاهب وأسلمها من التناقض وأحكمها تأصيلاً واستدلالاً.
5 ـ أنها خلت من جميع المعاني الباطلة وهي التحريف والتعطيل والتكييف والتمثيل والإلحاد.
س3 ـ ما هي أصول السلف في الإثبات والنفي؟
ج ـ أولاً ـ أصولهم في الإثبات ما يلي:
1 ـ أنه متلقى من الوحي.
2 ـ أنه إثبات بلا تمثيل.
3 ـ أن الكيف مجهول عندهم، وإن كان للصفات كيفية ولكنها
مجهولة، فإنهم قالوا: الكيف مجهول ولم يقولوا: إنه غير موجود.
4 ـ أن المعاني المثبتة كلها معلومة.
5 ـ أن الأصل في إثباتهم التفصيل كما في القرآن.
6 ـ إثبات الكمال المطلق لله.
7 ـ استخدام المثل الأعلى في حق الله.
8 ـ إثباتها على وجه الحسن والجمال (ولله الأسماء الحسنى) .
ثانياً ـ أصولهم في النفي ما يلي:
1 ـ أن النفي متلقى من الوحي ضمناً أو تصريحاً.
2 ـ أن غالبه الإجمال على وفق النصوص.
3 ـ أن النفي متضمن لإثبات كمال الضد ففي قوله تعالى: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] إثبات لكمال عدله، وقوله:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ} [فاطر: 44] إثبات لكمال قدرته.
4 ـ أنه يتضمن تنزيهاً بلا تعطيل.
5 ـ أن النفي منه متصل كنفي الجهل والعجز والنوم، ومنه ما هو منفصل كالولد والصاحبة والشريك. والمتصل نفي النقائص عن ذات الله، والمنفصل نفي ما يضاد كماله من الخارج.
س4ـ اذكر منهج الرسل في صفات الله نفياً وإثباتاً؟ واشرح قوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] ؟
ج ـ طريقة الرسل أنهم يثبتون لله الصفات على وجه التفصيل، وينفون عنه ما لا يصح له من التشبيه والتمثيل على وجه الإجمال على طريقة قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .
* وقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} قال أهل اللغة: هل تعلم له نظيراً يستحق مثل اسمه، وقال ابن عباس: هل تعلم له مثلاً أو شبيهاً، ويقال: مسامياً يساميه.
س5 ـ أوضح بالتفصيل مع ذكر السبب هل قوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ*وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الاخلاص: 3ـ4] في النفي المفصل أو المجمل؟
ج ـ إن طريقة القرآن التي جاءت بها الرسل واتبعها السلف هي الإثبات المفصل، أي المعين والمخصص في كل صفة كقوله تعالى:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، وقوله:{وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} ، والنفي المجمل وهو العام المطلق كقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} . وقد يأتي العكس قليلاً فيأتي الإثبات مجملاً كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} والنفي مفصلاً كقوله تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} ولكن الإجمال في النفي أبلغ في التعظيم لذلك فهو الأكثر، وإنما قد يأتي العكس قليلاً فيأتي الإثبات مجملاً والنفي مفصلاً لأسباب منها:
1 ـ نفي ما ادعاه الكاذبون في حقه تعالى كقوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] وأمثاله.
2 ـ دفع توهم نقص في كماله كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [قّ: 38] أي إعياء وتعب، ولأنه بعد خلقها قد يتوهم التعب فدفع ذلك.
3 ـ كون الصفة كمالاً عند المخلوق فيتوهم كمالها في حقه تعالى فينفيها كقوله تعالى {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} ، وكقوله تعالى:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} من النفي المجمل.
س6 ـ اذكر ثلاث آيات ثدل على إثبات مفصل ونفي مجمل، وبيّن وجه الاستشهاد فيها؟
ج ـ من الإثبات المفصل قوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} ، وقوله:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ} ، وقوله:{وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} ومن النفي المجمل قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ، وقوله:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} ، وقوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} .
* وقد يأتي الإثبات مجملاً كقوله: {وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} كما يأتي النفي مفصلاً كقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} . للأسباب وقد ذكرناها في السؤال السابق. ووجه الاستشهاد فيها: أن هذه الطريقة هي التي جاءت بها الرسل واتبعها السلف.
طريقة الزائغين عن سبيل الرسل وأتباعهم
في أسماء الله وصفاته
قال شيخ الإسلام:
"وأما من زاغ وحاد عن سبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب ومن دخل في هؤلاء من الصابئة والمتفلسفة والجهمية والقرامطة الباطنية ونحوهم فإنهم على ضد ذلك، فإنهم يصفونه بالصفات السلبية على وجه التفصيل ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل، وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان، فقولهم يستلزم غاية التعطيل وغاية التمثيل‘ فإنهم يمثلونه بالممتنعات والمعدومات والجمادات ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلاً يستلزم نفي الذات.
فغالبيتهم يسلبون عنه النقيضين فيقولون: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، لأنهم بزعمهم إذا وصفوه بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإذا وصفوه بالنفي شبهوه بالمعدومات، فسلبوا النقيصين، وهذا ممتنع في بدائه العقول، وحرّفوا ما أنزل الله تعالى من الكتاب وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، ووقعوا في شر مما فروا منه فإنهم شبهوه بالممتنعات، إذ سلب النقيضين كجمع النقيضين، كلاهما من الممتنعات، وقد علم بالاضطرار أن الوجود لا بد له من موجد واجب بذاته غني عما سواه، قديم أزلي، لا يجوز عليه الحدوث ولا العدم، فوصفوه بما يمتنع وجوده فضلاً عن الوجوب أو الوجود أو القِدَم.
وقاربهم طائفة من الفلاسفة وأتباعهم فوصفوه بالسلوب والإضافات دون
صفات الإثبات، وجعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق، وقد علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن لا فيما خرج عنه من الموجودات وجعلوا الصفة هي الموصوف، فجعلوا العلم عين العالم مكابرة للقضايا البديهيات، وجعلوا هذه الصفة هي الأخرى فلم يميزوا بين العلم والقدرة والمشيئة جحداً للعلوم الضروريات.
وقاربهم طائفة ثالثة من أهل الكلام من المعتزلة ومن اتبعهم فأثبتوا له الأسماء دون ما تضمنته من الصفات، فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير كالأعلام المحضة المترادفة، ومنهم من قال: عليم بلا علم، قدير بلا قدرة، سميع بصير بلا سمع ولا بصر، فأثبتوا الاسم دون ما تضمنه من الصفات، والكلام على فساد مقالة هؤلاء وبيان تناقضها يصريح المعقول المطابق لصحيح المنقول مذكور في غير هذه الكلمات.
وهؤلاء جميعهم يفرون من شيء فيقعون في نظيره وفي شر منه، مع ما يلزمهم من التحريفات والتعطيلات، ولو أمعنوا النظر لسوّوا بين المتماثلات، وفرّقوا بين المختلفات كما تقتضيه المعقولات، ولكانوا من الذين أوتوا العلم الذين يرون أن ما أنزل الله إلى الرسول هو الحق من ربه ويهدي إلى صراط العزيز الحميد، ولكنهم من أهل المجهولات المشبهة بالمعقولات يسفسطون في العقليات، ويقرمطون في السمعيات".
معاني الكلمات:
زاغ: الزيغ هو الميل عن الحق إلى الباطل.
سبيلهم: أي طريقتهم.
الكفار: كلمة جامعة تشمل كل من لم يسلم، وزيغهم في هذا الباب هو كفرهم بالرحمن كما قال تعالى:{وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [الرعد: 3.] .
المشركون: الشرك هو مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله، وزيغهم في هذا الباب وقوعهم في التمثيل كما قال تعالى:{إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 98] والشرك من أعظم أنواع التمثيل.
أوتوا الكتاب: هم اليهود والنصارى، وزيغ اليهود وقوعهم في التعطيل، وزيغ النصارى وقوعهم في التشبيه.
الصابئة: من الصبوة، يقال: صبا الرجل إذا مال وخالف دين آبائه، وقيل: غير ذلك، والصابئة نوعان:
حنفاء موحدون، ومشركون، وزيغهم في هذا الباب وقوعهم في التمثيل.
المتفلسفة: أصل الفلسفة بلسان اليونان هي محبة الحكمة وسيأتي بيان زيغهم في باب الصفات.
الجهمية: أتباع الجهم بن صفوان، وأطلق السلف هذا اللقب على كل من عطل الصفات أو بعضها.
القرامطة الباطنية: نسبة إلى حمدان قرمط، وسموا بالباطنية لزعمهم أن للنصوص ظاهراً عند العامة وباطناً عند الخاصة.
السلبية: أي المنفية عن الله نفياً لايتضمن إثبات كمال الضد.
وجوداً مطلقاً: هو الوجود العام الكلي، الذي يصدق على كثيرين في الذهن.
الأعيان: أي عالم المشاهدة.
غاية التعطيل: قولهم يؤدي إلى نفي وجود ذات الله تعالى.
غاية التمثيل: لأنهم إذا نفوا وجوده شبهوه بالمعدومات، وإذا نفوا وجوده وعدمه شبهوه بالممتنعات، لأن نفي الوجود والعدم ممتنع وإذا نفوا بعض الصفات شبهوه بالجمادات.
عناصر الموضوع:
مذاهب الناس في الأسماء والصفات:
الناس في باب الأسماء والصفات على ثلاثة أصناف:
• الصنف الأول ـ المؤمنون الموحدون:
هم الذين يصفون الله بما وصف به نفسه ووصفه به رسوله عليه الصلاة
والسلام من صفات الكمال على الوجه اللائق بجلال الله وعظمته، من غير تمثيل ولا تشبيه، ومن غير تحريف ولا تعطيل لشيء من أوصاف الله1.
قال الصابوني: "إن أصحاب الحديث المتمسكين بالكتاب والسنة يعرفون ربهم عز وجل بصفاته التي نطق بها وحيه وتنزيله، أو شهد له بها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما وردت الأخبار الصحاح به ونقلته العدول الثقات عنه، ويثبتون له جل جلاله منها ما أثبتها لنفسه في كتابه وفي لسان رسوله عليه الصلاة والسلام لا يعتقدون فيها تشبيهاً لصفاته بصفات خلقه ولا يحرفون كلاماً عن مواضعه، وقد أعاذ الله تعالى أهل السنة من التحريف والتكييف والتشبيه، ومنَّ عليهم بالتعريف والتفهيم، حتى سلكوا سبل التوحيد والتنزيه، وتركوا القول بالتعطيل والتشبيه واتبعوا قول الله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]2.
• الصنف الثاني ـ المشبهة:
وهم الذين يشيهون صفات الله بصفات المخلوقين، كقول بعضهم: لله سمع كسمعي، وبصر كبصري، قال إسحاق بن راهويه:"إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يد أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فهذا هو التشبيه"3.
وقال ابن تيمية: "من قال: علم كعلمي، أو قوة كقوتي أو حب كحبي، أو رضاء كرضائي، أو يدان كيدي، أو استواء كاستوائي كان مشبهاً ممثلاً لله بالحيوانات"4.
ومن التشبيه التعرض التعرض لكيفية صفات الرب وحقيقتها التي لايعلمها إلا الله5.
1 انظر: كتاب الحق الواضح المبين (ص12) ـ ط. السلفية، وص2.، ط دار ابن القيم.
2 اعتقاد السلف أصحاب الحديث (ص3ـ4) .
3 جامع الترمذي (3/5.،51) .
4 مجموع الفتاوى (3/16) .
5 انظر مقدمة كتاب عقيدة السلف أصحاب الحديث (ص4) بتصرف.
قال ابن القيم: عن إلحاد المشبهة: "فهذا الإلحاد في مقابلة إلحاد المعطلة، فإن أولئك نفوا صفات كماله وجحدوها، وهؤلاء شبهوها بصفات خلقه فجمعهم إلحاد وتفرقت بهم طرقه"1.
• الصنف الثالث ـ المعطلة:
وهم الذين عطّلوا الرب عما يجب أن يثبت له من الأسماء والصفات.
والتعطيل على ثلاث مراتب:
1 ـ وصف الله بسلب النقيضين، هو مذهب غلاة المعطلة، فإنهم يقولون: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، لأننا لو وصفناه بالإثبات لشبهناه بالمخلوقات، ولو شبهناه بالنفي لشبهناه بالمعدومات.
2 ـ وصف الله بالسلب والإضافة دون صفات الإثبات وهو مذهب المعطلة من الفلاسفة والجهمية، وهؤلاء كلهم ينفون الأسماء والصفات.
3 ـ إثبات الأسماء دون الصفات وهو مذهب المعتزلة ومن تبعهم2.
والمعطلة قسمان: أهل تأويل وأهل تجهيل:
أما أهل التأويل: فهم الذين يصرفون معاني نصوص الكتاب والسنة عن معانيها الظاهرة بغير حجة، وهذا التحريف بعينه3.
وأما أهل التجهيل: فهم الذين ينُكرون معاني الأسماء والصفات ويثبتون ألفاظاً لا معاني لها4.
2 ـ وجه مفارقة المعطلة بطريقة الرسل في الصفات:
المعطلة فارقت طريقة الرسل من وجوه:
1 ـ أن المعطلة لا يصفون الله إلا بالصفات السلبية التي لا تتضمن إثبات
1 بدائع الفوائد (1/17.) .
2 مجموع الفتاوى (3/7ـ8) بتصرف.
3 درء تعارض العقل والنقل (1/8،9) .
4 مختصر الصواعق (ص54) .
كمال الضد بل هي نفي محض، وأما طريقة الرسل وصف الله بصفات الإثبات، وإما النفي فهو إثبات كمال الضد.
2 ـ أن المعطلة يفصلون في النفي ولا يجملون، بينما طريقة الرسل: الإجمال في النفي ولا يأتي التفصيل إلا لأسباب.
3 ـ المعطلة لا يثبتون إلا وجوداً لله مطلقاً وهو الوجود العام الكلي الذي يكون في الذهن.
4 ـ أن المعطلة ينفون عنها ما لم ينفه الله عن نفسه، بينما طريقة الرسل ما لم يرد الشرع بنفيه وسكت عنه فإنهم يسكتون عنه.
3 ـ المعطلة يستخدمون القياس العقلي في صفات الله:
المعطلة يقيسون الخالق بما يُقاس به المخلوق، فلم يفهموا من نصوص الصفات الشرعية إلا ما يليق بالمخلوقين، وهذا خلاف ما فطر الله عليه العباد من أنه ليس كمثله شيء.
فلا يجوز أن يشترك هو والمخلوق في القياس سواء كان قياساً تمثيلياً ففيه تسوية بين المقيس والمقيس عليه، فهو يستلزم التمثيل بين الله وبين خلقه، وهذا ما يسمى بالقياس بين الغائب والشاهد.
وكذلك لا يجوز أن يشترك هو والمخلوق في قياس شمولي وهو القياس المنطقي بحيث تستوي الأفراد في كلٍ يشملها وهذا ممتنع على الله؛ لأن فيه تمثيل الله بمخلوقاته، ولكن يستعمل في حقه قياس الأولى أو القياس الأولوي، وهو المثل الأعلى، وهو ما جاءت به الأدلة الشرعية قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} [النحل: 60] ، ومضمونه أن كل من اتصف به المخلوقين من صفات الكمال وصح أن يتصف به الخلق فالخالق أولى به، وكل ما يُنزه عنه المخلوق من نقص، فالخالق أولى بالتنزيه عنه.
4 ـ المعطلة يقولون بتأويل الصفات الذي هو التحريف
المعطلة لا يثبتون الصفات الواردة في الكتاب والسنة وإنما يتأولون النصوص الدالة عليها على خلاف ظاهرها، والقول بالتأويل يعتبر محاولة
لتكييف الصفة على نحو ما غير ظاهره بينما كان منهج القرآن والسنة هو إثبات وجود الصفة كما وردت لا إثبات كيفيتها؛ لأن الكيف هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله، فترك الوحي واتباع الرأي والتأويلات الفاسدة، عزل للكتاب والسنة كمصدرين للهداية في واقع الحياة، وليس بعد الهداية إلا الغواية قال تعالى:{فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلال} [يونس: 32] .
5 ـ الأصول التي بنى عليها المعطلة قولهم بالتأويل:
إن للمعطلة أصولاً كثيرة بنوا عليها بالقول بالتأويل، وسأذكر بعض هذه الأصول وهي كالتالي:
1 ـ معارضة نصوص الوحي بالعقول وإخضاعها للآراء البشرية، فقدموا العقل على النقل.
2 ـ القول بالمجاز في نصوص الشرع، والمجاز هو خلاف الحقيقة عندهم، فنصوص الصفات على خلاف ظاهرها إذ لا يعرف هذا القول إلا بعد القرن الثاني، وهو لفظ جهمي اعتزالي.
3 ـ قولهم بأن نصوص الشرع أدلة نقلية لا تفيد اليقين، وهذا قول مبتدع لا يعرف أحد من المتكلمين سبق الرازي إليه، ومقصودهم رد خبر السنة الصحيحة إذا خالفت عقولهم.
6 ـ لوازم القول بالتأويل البدعي:
اعلم أن القول بالتأويل البدعي الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره بدعوى أنه ليس مراداً؛ يلزم عليه لوازم باطلة منها على سبيل المثال لا الحصر:
1 ـ أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد ترك الناس في ذلك بدون بيان للحق الواجب سلوكه، ولم يهد الأمة بل رمز إليه رمزاً أو لغز ألغازاً، ومعلوم أنه ليس في الرموز والألغاز بيان.
2 ـ أن يكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد تكلّم في هذا الباب ـ باب الصفات ـ بما ظاهره خلاف الحق، ولم يتكلم في ذلك كلمة واحدة توافق مذهب الخلف المتكلمين من النفاة.
3 ـ الطعن في القرآن الذي هو تبيان لكل شيء وهدى ورحمة وقول فصل ليس بالهزل، وأن من قال به فقد هُديَ إلى صراط مستقيم، وأين الهداية إذا كان ما يقوله المتأولون حقاً؟!
4 ـ الطعن في وظيفة الرسول التي هي البلاغ، والله وصفه بأنه قد بلغ البلاغ المبين، وقد نزل قوله تعالى قبل وفاته:{الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسْلامَ دِيناً} [المائدة: الآية3) ، فإن كان حقاً ما ذهب إليه المتأولون، فأين كمال الدين وتمام النعمة؟! بل أين البلاغ المبين وأين الهدى والبيان؟!
هذا وقد وقف شيخ الإسلام في وجه أولئك الذين سمّاهم بأهل التحرف والتبديل وقفة مسلم يَغَارُ على دينه، فمن المحال أن يكون الرسول قد ترك الناس في هذا الأمر الأهم بلا بيان لما يجب اعتقاده، حتى يأتي أمثال الخلف والعقول القاصرة من المتكلمين ليبينوا للناس ما أنزل إليهم من ربهم.
ومحال أن يكون الرسول قد استعمل في خطابه ألفاظاً لا يفيد ظاهرها إلا الإلحاد والضلال والتشبيه.
ومحال على من أرسله الله هادياً وممبيناً أن يستعمل في خطابه رموزاً وطلاسماً لا يفهمها المخاطب، فاللهم ثبّتنا على صرطك المستقيم.
7 ـ المعطلة يقولون بالتفويض إذا تعذر عندهم التأويل:
المعطلة إذا تعذر عندهم التأويل يقولون بالتفويض، وهو إمرار النصوص على ظاهرها من غير اعتقاد لها قال صاحب الجوهرة:
وكلّ نصٍّ أوهم التشبيها
أوِّله أو فوِّض ورُمْ تنزي
وهذا المسلك وهو التفويض قال عنه شيخ الإسلام إنه من شر أقوال أهل البدع والإلحاد فالصفات عندهم غير معروفة المعنى بمنزلة الكلام الذي لا معنى له.
8 ـ اللوازم التي تستلزم طريقة المعطلة في الصفات:
قول المعطلة في الصفات يستلزم منه لازمين كلٌّ بحسب مدى تعطيله:
الأول: أن طريقتهم تؤدي إلى الوقوع في غاية التعطيل؛ إذ يلزم من قولهم نفي وجود الله فقد شبهوه بالمعدومات.
وإذا نفوا وجود الله وعدمه معاً شبهوه بالممتنعات، وإذا نفوا بعض الصفات شبهوه بالجمادات.
9 ـ المحاذير التي وقعت فيها المعطلة:
كل طائفة من طوائف المعطلة واقعون في محاذير لا ينفكون عنها:
الأول: مخالفتهم لطريقة السلف.
الثاني: تعطيل النصوص المراد بها.
الثالث: تحريف النصوص إلى معاني غير مرادة بها.
الرابع: تعطيل الله عن صفات الكمال التي تضمنتها هذه النصوص.
الخامس: تناقض طريقة المعطلة فيما أثبتوه وفيما نفوه.
1.
ـ المعطلة يفرون من شيء فيقعون في نظيره أو أشر منه:
المعطلة تفرُّ من شيء فتقع في نظيره أو أشر منه، مع ما يلزمهم من التحريف للنصوص الشرعية، ولو أمعنوا النظر والفكر لخرجوا بنتائج عقلية صحيحة وهي:
أـ التسوية بين الأسماء والصفات والذات من حيث الإثبات فإنها من باب واحد من حيث دلالة النصوص عليها.
ب ـ التفريق بين المختلفات وهي ما يليق بالله من الغنى والكمال المطلق، فإنه يفارق تماماً ما يتصف به المخلوق من الحدوث والافتقار
والنقص مما يجعل صفات الله لائقة باقتداره، وصفات المخلوق مناسبة لافتقاره.
ج ـ السير على طريقة أهل العلم أتباع الرسل من السلف وأتباعهم الذين يعتقدون جازمين أن ما جاءت به الرسل فيه كفاية للعالمين كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كُفيتم"1.
11 ـ المعطلة يجمعون بين التمويه والتحريف:
المعطلة يجمعون بين التمويه والتحريف والخداع والمغالطة في الأمور العقلية الثابتة؛ لجحدهم معاني نصوص الصفات أو بعضها، وموهوا مع علمهم بما دلت عليه من الباطل، لذا حرفوا نصوص الصفات، فقرمطوا في النقليات وسفسطوا في العقليات، ووجه قرمطتهم: أنهم جعلوا للنص معنى باطناً يخالف معناه الظاهر.
12 ـ مذهب الباطنية في الصفات وشبهتهم والرد عليها:
أـ مذهبهم في الصفات: أنهم أنكروا في حق الله تعالى الإثبات والنفي، فنفوا عنه الوجود والعدم والحياة والموت، وقالوا: إنه لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت.
ب ـ وشبهتهم: أنهم اعتقدوا أنهم إنْ وصفوا الله بالإثبات شبهوه بالموجودات، وإن وصفوا بالنفي شبهوه بالمعدومات.
• الرد عليهم من وجوه:
1 ـ أن تسمية الله ووصفه بما سمَّى ووصف به نفسه ليس تشبيهاً، ولا يستلزم التشبيه، فإن الاشتراك في الاسم والصفة لا يستلزم تماثل المسميات والموصوفات، وتسميتكم ذلك تشبيهاً ليس إلا تمويهٌ وتلبيسٌ على العامة والجهال، ولو قبلنا مثل هذه الدعوى الباطلة لأمكن كل مبطل أن يسمي الحق بأسماء ينفر بها الناس عن قبوله.
1 رواه الدارمي.
2 ـ أن إنكارهم الإثبات والنفي يستلزم نفي النقيضين معاً وهذا ممتنع؛ لأن النقيضين لا يمكن اجتماعهما ولا ارتفاعهما، بل لا بد من وجود أحدهما وحده فيلزم على قياس قولهم تشبيه الله بالممتنعات، لأنه يمتنع أن يكون الشيء لا موجوداً ولا معدوماً إلا أمراً يقدره الذهن ولا حقيقة له ووصف الله بهذا كفر صريح بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.
13 ـ مذهب غلاة الجهمية والقرامطة ومن تبعهم في الصفات وشبهتهم والرد عليهم:
أـ مذهبهم في الصفات أنهم ينكرون الأسماء والصفات ولا يصفون الله تعالى إلا بالنفي المجرد عن الإثبات، ويقولون: هذا الموجود المطلق بشرط الإطلاق، أي أنه مطلق عن أي صفة ثبوتية؛ لأن الصفة تقيد الموصوف.
ب ـ وشبهتهم: أنهم اعتقدوا أن إثبات الأسماء والصفات يستلزم التشبيه والتعدد.
ج ـ الرد عليهم:
1 ـ أن الله تعالى جمع فيما سمى ووصف به نفسه بين النفي والإثبات، فمن أقر بالنفي وأنكر الإثبات، فقد آمن ببعض الكتاب دون البعض، والكفر ببعض الكتاب كفر بالكتاب كله.
2 ـ أن الوجود المطلق بشرط الإطلاق لا ودود له في الخارج المحسوس وإنما هو أمر يفرضه الذهن ولا وجود له في الحقيقة؛ وتكون حقيقة القول به نفي وجود الله تعالى إلا في الذهن، وهذا غاية التعطيل والكفر.
3 ـ أنه لا يلزم من تعدد الصفات تعدد الموصوف كما أن المشاركة في الاسم أو الصفة لا تستلزم تماثل المسميات والموصوفات.
4 ـ قولهم: إن الصفة عين الموصوف، وإن كل صفة عين الصفة الأخرى؛ مكابرة في المعقولات وسفسطة في البديهيات.
14 ـ مذهب المعتزلة ومن تبعهم في الصفات وشبهتهم والرد عليهم:
مذهبهم أنهم يثبتون لله تعالى الأسماء دون الصفات، ويجعلون الأسماء أعلاماً محضة، ثم منهم من يقول إنها مترادفة، فالعليم والقدير والسميع شيء واحد، ومنهم من يقول: إنها متباينة، ولكنه عليم بلا علم، وقدير بلا قدرة، وسميع بلا سمع ونحو ذلك.
* وشبهتهم: إنهم اعتقدوا أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه.
• الرد عليهم:
1 ـ إما أن تثبتوا الأسماء والصفات جميعاً، فتوافقوا السلف، وإما أن تنفوا الجميع فتوافقوا غلاة الجهمية والباطنية، وإما أن تفرقوا بين الأسماء والصفات فتقعوا في التناقض.
2 ـ لو كانت أسماء الله أعلاماً محضة لكانت غير دالة على معنى سوي تعيين المسمى فضلاً عن أن تكون حسنى ووسيلة في الدعاء.
3 ـ أن من لا يتصف بصفات الكمال لا يصلح أن يكون ربّاً ولا إلهاً، إذ إن كل موجود لا بد له من صفة، ولا يمكن وجود ذات مجردة عن الصفات، وحينئذٍ لا بد أن يكون الخالق الواجب الوجود متصفاً بالصفات اللائقة به.
4 ـ أن القول بأن الله تعالى عليم بلا علم، وسميع بلا سمع؛ قول باطل مخالف لمقتضى اللسان العربي وغير العربي؛ إذ من المعلوم أن المشتق دال على المعنى المشتق منه وإنه لا يمكن أن يقال عليم لمن لا علم له.. وهكذا.
15 ـ مذهب الأشاعرة والماتريدية في الصفات وشبهتهم والرد عليهم:
مذهبهم: أنهم أثبتوا لله الأسماء وبعض الصفات، ونفوا حقائق أكثرها، وردوا ما يمكن رده من النصوص إما بالتفويض أو بالتأويل الذي هو التحريف، فأثبتوا لله من الصفات سبع صفات: الحياة والعلم، والقدرة، والإرادة، والكلام، والسمع، والبصر.
* وشبهتهم: أن العقل قد دل على ذلك فإن إيجاد المخلوقات يدل على القدرة وتخصيص بعضها بما يختص بها يدل على الإرادة، وإحكامها يدل
على العلم، وهذه الصفات: القدرة والإرادة والعلم، تدل على الحياة، والحي إما أن يتصف بالكلام والسمع والبصر وهذه صفات كمال، أو بضدها وهو الخرس والصمم والعمى وهذه صفات نقص ممتنعة على الله، فوجب ثبوت الكلام والسمع والبصر.
• الرد عليهم:
1 ـ أن الرجوع إلى العقل في هذا الباب مخالف لما كان عليه السلف الصالح.
2 ـ أن الرجوع إلى العقل في هذا الباب مخالف للعقل، لأن هذا الباب من الأمور الغيبية التي ليس للعقل فيها مجال.
3 ـ أنهم إذا صرفوا النصوص عن ظاهرها إلى معنى زعموا أن العقل يوجبه، فإنه يلزمهم في هذا المعنى نظير ما يلزمهم في المعنى الذي نفوه مع ارتكابهم تحريف الكتاب والسنة.
4 ـ أن الاشتراك في الأسماء والصفات لا يستلزم تماثل المسميات والموصوفات.
5 ـ إن كان إثبات الصفات يستلزم التشبيه، فإن ما أثبتوه يستلزم التشبيه أيضاً. فإن منعتم ذلك لزمكم منعه فيما نفيتموه إذ لا فرق، وحينئذٍ إما أن تقولوا بالإثبات في الجميع فتوافقوا السلف، وإما أن تقولوا بالنفي في الجميع فتوافقوا المعتزلة ومن ضاهاهم، وأما التفريق فتناقض ظاهر.
16 ـ الأسئلة والأجوبة على ما تقدم:
س1 ـ اذكر بعض الزائغين في هذا الباب مع التعريف بهم وبمذهبهم؟
ج ـ من الطوائف الزائغة في هذا الباب ما يلي:
1 ـ الكفار: كلمة جامعة تشمل كل من لم يسلم، كالمشركين وأهل الكتاب والمجوس وغيرهم، ولكن لما عطف المؤلف بعض هذه الطوائف على الكفار دلّ على المغايرة، فيكون معنى الكفر هنا: التكذيب بالله ورسله والاستكبار عنهم وإنكار اليوم الآخر.
* ومذهبهم في هذا الباب: هو كفرهم بالرحمن كما قال تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 3.] .
2 ـ المشركون: الشرك مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله.
* ومذهبهم في هذا الباب: هو وقوعهم في التمثيل في الألوهية أو الربوبية أو الأسماء والصفات كما قال تعالى عنهم: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 98] . وإن كان الشرك أعظم أنواع التمثيل.
3 ـ أهل الكتاب: وهم اليهود والنصارى.
* ومذهب اليهود في هذا الباب: هو وقوعهم في التعطيل.
* ومذهب النصارى في هذا الباب: هو وقوعهم في التشبيه.
4 ـ الصابئة: من الصبوة، يقال: صبا الرجل إذا مال.
قال شيخ الإسلام وغيره: الصابئة نوعان:
أـ صابئة حنفاء موحدون.
ب ـ صابئة مشركون.
* مذهبهم في هذا الباب: هو التمثيل.
5 ـ المتفلسفة: أصل الفلسفة بلسان اليونان هي محب الحكمة، ويقصد بالمتفلسفة من دخلوا في الفلسفة من أهل الإسلام لأن الفلاسة قسمان: دهريون ملحدون، وإلهيون وهم المقصودون كالفارابي وابن سينا، وكل من حاول الجمع بين الفلسفة والشرع فهو متفلسف.
* مذهبهم:
1 ـ أنهم وصفوا الله بالسلوب والإضافات، والسلوب أي الصفات السلبية وهي الصفة التي تدل على النفي المحض دون الدلالة على معنى قائم به.
كقولهم: (موجود) أي مسلوب عنه العدم، وقولهم:(واحد) أي مسلوب عنه القسمة والشركة.
والإضافات: هي الصفات الإضافية وهي صفات اعتبارية لا وجود لها
في الخارج لا تعقل إلا بتعقل ما يقابلها، كالأولية باعتبار أن المخلوقات حادثة.
2 ـ أنهم جعلوه هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق؛ أي الوجود الكلي المجرد عن الإضافة الذي يتصوره الزمن، لكنهم يقولون: بشرط الإطلاق أي بشرط أن لا يقيد بشيء فيزيدونه امتناعاً.
3 ـ وجعلوا الصفة الثبوتية هي عين الموصوف أي لا تدل على معنى زائد عن الذات فهي من جنس الأعلام المحضة، فالعلم ـ أي صفة العلم ـ عندهم هو عين العالم ليس معنى زائداً عن ذات الله تعالى.
6 ـ الجهمية: هم أتباع جهم بن صفوان السمرقندي الضال الذي أخذ مقالته في التعطيل عن الجعد بن درهم وأخذها الجعد عن أبان بن سمعان عن طالوت عن لبيد الساحر اليهودي.
* ومذهبهم: أنهم ينفون الأسماء والصفات فيقولون: لا موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير بل هذه الأسماء لمخلوقاته، أي هي مجرد مجازات لا حقيقة لها.
* شبهتهم: شبهتهم في ذلك أن الإثبات يستلزم التشبيه بالموجودات الحية العليمة القديرة.
7 ـ القرامطة الباطنية: نسبة إلى حمدان قرمط، وسموا بالباطنية لزعمهم أن للنصوص ظاهراً عند العامة وباطناً عند الخاصة، ولهم تحريفات شنيعة وانحرافات فظيعة ومن الباطنية الآن: الدروز، والنصيرية، والإسماعيلية، وغلاة الرافضة، وغلاة المتصوفة، ومنهم البَهَرة شيعة الهند الجامعين بين الرفض والتصوف والحلول والغلو، وهم طائفة من الإسماعيلية.
* ومذهبهم: نفي النقيضين فيقولون: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، والصحيح أن الحياة والموت والعلم والجهل نقيضان.
شبهتهم: زعموا أن وصف الله تعالى بالإثبات تشبيه له بالموجودات
ووصفه بالنفي تشبيه له بالمعدومات، فلذلك رفعوا السلب والإيجاب أي النفي والإثبات.
8 ـ المعتزلة: هم أتباع واصل بن عطاء الغزال، وهو الذي اعتزل مجلس الحسن البصري في مسألة صاحب الكبيرة فقط فنسبت إليه الفرقة، وهذا أشهر ما قيل في ذلك. ثم تطور مذهبهم وافترقوا فرقاً كثيرة:
منهم معتزلة الصرة كالجاحظ وواصل نفسه والنظَّام والجبائيين.
ومنهم معتزلة بغداد كأحمد بن أبي دؤاد والكعبي وعبد الجبار.
* وتجتمع أصولهم في خمسة نذكرها للفائدة وهي كما يلي:
1 ـ التوحيد: ويدخلون فيه نفي الصفات ويثبتون الأسماء فقط.
2 ـ العدل: ويدخل فيه نفي خلق العبد لفعله، ونفي القدر.
3 ـ والوعد والوعيد: ويريدون به تخليد مرتكب الكبيرة في النار.
4 ـ المنزلة بين المنزلتين: أي صاحب الكبيرة بين الإيمان والكفر في الدنيا وهي سبب اعتزال واصل بن عطاء الغزال لمجلس الحسن البصري رحمه الله.
5 ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: ويدخلون فيه الخروج على ولاة الأمور.
* مذهبهم: إثبات الأسماء دون ما تتضمنه من الصفات.
* شبهتهم: أن إثبات الصفات يستلزم التجسيم.
س2 ـ ما المقصود بمن زاغ عن طريق الرسل في صفات الله، وما مذهبهم في ذلك، وما الذي يستلزمه مذهبهم الباطل، ولماذا؟
ج ـ المراد بمن زاغ عن طريق الرسل هو من حاد عن طريقتهم وسبيلهم من الكفار والمشركين والذين أوتوا الكتاب، ومن دخل في هؤلاء من الصابئين والفلاسفة والجهمية والقرامطة والباطنية ونحوهم.
* ومذهبهم في الصفات ضد مذهب السلف يصفون الله بالصفات السلبية على وجه التفصيل فيقولون: ليس له وجه ولا يغضب ولا ينزل
ونحو ذلك. ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل، وإنما يرجع إلى وجود في الأذهان يمتنع تحققه في الأعيان، ومعنى هذا أن سلب الصفات عن الله غايته ونهايته أن الله غير موجود أصلاً؛ لأن الموجود المطلوب وهو المجرد عن الصفات لا حقيقة له إلا في الأذهان ولا وجود له في الخارج لأن الذات لا بد لها من صفة وقد نفوا الصفة فانتفت الذات، وهذا مذهب باطل يستلزم التعطيل والتمثيل بالممتنعات والمعدومات والجمادات ويعطلون الأسماء والصفات تعطيلاً يستلزم نفي الذات.
س3 ـ ما المراد بالإلحاد؟
ج ـ الإلحاد: الإلحاد لغة: الميل، ومنه سمي الشق في جانب القبر لحداً؛ لأنه مائل عن وسط الحفرة.
واصطلاحاً: الميل عن الحق والصراط المستقيم علماً وعملاً، وقد خصه المصنفون في الملل والمذاهب بالجحد للخالق، فإذا قالوا: ملحد أي منكر للخالق، والمعنى اللغوي أعم من ذلك.
والمراد بالإلحاد في باب الأسماء والصفات ما يلي:
• أولاً ـ الإلحاد في أسماء الله تعالى ويكون في عدة أشياء منها:
1 ـ تسمية المخلوق بها كما قال صلى الله عليه وسلم: "أخنع الأسماء عند الله يوم القيامة رجل تسمى بملك الأملاك"1.
2 ـ تجريد الأسماء عن معانيها كما قالت المعتزلة: سميع بلا سمع، وعليم بلا علم.
3 ـ نفي أسماء الله وهو سبيل الجهمية ومن هذا قوله تعالى: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 3.] .
4 ـ تسمية الله بما لم يسم به نفسه كتسمية النصارى له بالأب والفلاسفة بالعلة الفاعلة.
1 أخرجه مسلم (6/174) .
5 ـ الاشتقاق منها كتسمية المشركين لآلهتهم، فالعزى من العزيز، ومناة من المنان.
• ثانياً ـ الإلحاد في صفات الله ويكون بأشياء منها:
1 ـ تحريف المعنى الظاهر.
2 ـ تفويض المعنى وإبطال دلا لته.
3 ـ تكييف الصفات.
4 ـ إثبات صفات مماثلة في حقائقها للمخلوقين.
وانظر الإلحاد في آيات الله الكونية والشرعية في كتاب التوضيحات الأثرية على متن الرسالة التدمرية لأبي العالية المحسي ص34.
س4 ـ عرّف المصطلحات الآتية: واجب الوجود، الممكن، المعدوم، الممتنع، النقيضان، الضدان، المتضايفان، الملكة والعدم.
ج ـ واجب الوجود: هو الذي وجوده واجب وعدمه ممتنع وهو الله تعالى.
والوجود: قسمان: واجب وممكن.
أـ الوجود الواجب: هو ما لم يسبق بعدم ولا يلحقه فناء (ولا يفتقر إلى غيره في الإيجاد) وهو وجود الله تعالى.
ب ـ الوجود الممكن: هو ما جاز عليه العدم (وافتقر إلى غيره في الإيجاد) وهو وجود المخلوقات جميعها.
المعدوم: وهو قسمان:
أـ المعدوم الممكن: وهو المعدوم الذي يجوز وجوده كغراب أخضر وبحر من زئبق وغيرها، فهي معدومة لكنه لا يستحيل وجودها.
ب ـ المعدوم الممتنع: وهو المعدوم المستحيل وجوده كالجمع بين الضدين مثل: إنسان وجماد معاً.
ونوضح هذه المصطلحات في الشكل الآتي1:
1 ـ الوجود 2 ـ العدم
واجب ممكن ممكن ممتنع
(وهو الله تعالى)(المخلوقات)(بحر زئبق)(حي وميت معاً)
النقيضان: وهو تقابل أمري أحدهما وجودي والآخر عدمي بحيث لا يجتمعان ولا يرتفعان بل يجب وجود
أحدهما دون الآخر، مثل السلب والإيجاب.
الضدان: وهو تقابل أمرين وجوديين لا يجتمعان معاً ولكن يمكن ارتفاعهما مثل السواد والبياض، لا يجتمعان في محل واحد ولكن يجوز أن يرتفعا بالأحمر أو الأخضر مثلاً.
المتضايفان: هما أمران وجوديان لا يمكن إدراك أحدهما إلا بالإضافة إلى الآخر مثل الأبوة والبنوة والقبل والبعد.
الملكة والعدم: وهو تقابل بين أمرين أحدهما وجودي والآخر عدمي بحيث لا يجتمعان ولا يرتفعان عن المحل الذي شأنه أن يتصف به كالعمى والبصر.
جدول توضيحي للتقابل بين هذه الأشياء2
1 ـ نقيضين 2 ـ ضدين 3 ـ متضايفين 4 ـ ملكة، وعدم
(السلب والإيجاب)(السواد والبياض)(الأبوة والبنوة)(البصر ملكة، والعمى عدم)
1 انظر التوضيحات الأثرية (ص65) .
2 انظر المرجع السابق (ص67) .
س5 ـ اذكر مذاهب الباطنية في الصفات، وشبهتهم، والرد عليهم؟
ج ـ مذهبهم: في الصفات: نفي النقيضين وقد سبق تعريفه، فيقولون: لا موجود ولا معدوم، ولا حي ولا ميت، ولا عالم ولا جاهل، والصحيح أن الحياة والموت والعلم والجهل نقيضان.
شبهتهم: زعموا أن وصف الله تعالى بالإثبات تشبيه له بالموجودات ووصفه بالنفي تشبيه له بالمعدومات، فلذلك رفعوا السلب والإيجاب أي النفي والإثبات.
الرد عليهم من وجوه:
1 ـ أن نفي النقيضين ممتنع في بدائه العقول، أي يحكم بامتناعه من أول وهلة دون نظر أو استدلال.
2 ـ أن مذهبهم هذا تحريف لما أنزل الله من الكتاب ولما جاءت به الرسل في هذا الباب.
3 ـ أنهم وقعوا في شر مما فروا منه فإنهم فروا من تشبيهه بالموجودات فوقعوا في تشبيهه بالمعدومات التي يستحيل وجودها أصلاً، فإن رفع النقيضين معاً ممتنع كجمعهما عند عامة العقلاء، فكما أنه لا يمكن أن يكون الشيء موجوداً معدوماً في آن واحد، فكذلك لا يمكن أن يكون غير موجود وغير معدوم في آن واحد، بل لا بد أن يكون إما موجوداً أو معدوماً.
4 ـ ثم إنه علم بالاضطرار؛ أن جميع الموجودات لا بد لها من موجد واجب لذاته لا بغيره لا يقبل الحدوث ولا العدم غني عما سواه قديم أزلي، وفي هذا إثبات لموجد موصوف بالصفات وهي الوجود والغنى والأولوية.
5 ـ ويظهر مدى انحرافهم في أنهم (وصفوه بما يمتنع وجوده فضلاً عن الوجوب أو الوجود أو القدم)
س6 ـ اذكر مذهب الفلاسفة في الصفات وشبهتهم والرد عليهم؟
ج ـ مذهب الفلاسفة وأتباعهم كباطنية الشيعة وباطنية الصوفية: أنهم
يصفون الله بالسلوب ـ وهو الأمر المنفي ـ مثل قولهم: إن الله ليس بجسم ولا عَرَض، كما يصفونه بالإضافات، مثل قولهم: إن الله مبدأ الكائنات وعلة الموجودات، وهي الأمور المتضائفات التي لا يعقل الواحد منها إلا بتعقل متعلقه دون صفات الإثبات كالحياة والعلم ونحوهما. وغاية قولهم أنهم جعلوه سبحانه هو الموجود المطلق أي المجرد عن الصفات بشرط الإطلاق، أي جعلوا وجوده سبحانه بحيث تسلب عنه كل صفة ثبوتية وسلبية.
• والرد عليهم من وجوه:
أن مما علم بصريح العقل أن هذا لا يكون إلا في الذهن لا فيما خرج عنه إلى الوجود، أي من سلب عنه الصفات الثبوتية والعدمية فلا وجود له في الواقع والخارج وإنما يتصوره الذهن فقط.
2 ـ جعلهم كل صفة هي عين الذات ـ الموصوف ـ مكابرة للبديهيات العقلية فضلاً عن الشرعية؛ لأن لازم ذلك أن جميع الصفات لا يتميز بعضها عن بعض فيكون العلم هو القدرة وهو الكلام ويكون معنى قوله تعالى: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29] بمعنى قوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] وهكذا مما يعلم بطلانه بداهة.
3 ـ أنهم جحدوا الضروريات في قولهم بالموجود المطلق وكون الصفة عين الذات، وهذا غاية الضلال.
الرد الإجمالي على المخالفين لطريقة السلف
قال شيخ الإسلام:
"وذلك أنه قد علم بضرورة العقل أنه لا بد من موجد قديم غني عما سواه إذ نحن نشاهد حدوث المحدثات كالحيوان والمعدن والنبات، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع، وقد علم بالاضطرار أن المحدَث لا بد له من محدِث والممكن لا بد له من واجب كما قال تعالى:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] ، فإذا لم يكونوا خلقوا من غير خالق ولا هم الخالقون لأنفسهم تعين أن لهم خالقاً خلقهم، وإذا كان من المعلوم بالضرورة أن في الوجود ما هو قديم واجب بنفسه وما هو محدث ممكن يقبل الوجود والعدم، فمعلوم أن هذا موجود وهذا موجود ولا يلزم من اتفاقهما في مسمى الوجود أن يكون وجود هذا مثل وجود هذا، بل وجود هذا يخصه ووجود هذا يخصه، واتفاقهما في اسم عام لا يقتضي تماثلهما في مسمى ذلك الاسم عند الإضافة والتقييد والتخصيص ولا في غيره، فلا يقول عاقل إذا قيل: إن العرش شيء موجود وإن البعوض شيء موجود، إن هذا مثل هذا لاتفاقهما في مسمى الشيء والوجود لأنه ليس في الخارج شيء موجود غيرهما يشتركان فيه بل الذهن يأخذ معنى مشتركاً كلياً هو مسمى الاسم المطلق، وإذا قيل: هذا موجود، وهذا موجود، فوجود كل منهما يخصه لا يشركه فيه غيره مع أن الاسم حقيقة في كل منهما.
ولهذا سمى الله نفسَه بأسماء وسمَّى صفاته بأسماء، فكانت تلك
الأسماء مختصة به إذا أضيفت إليه لا يشركه فيها غيره، وسمّى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مضافة إليهم توافق تلك الأسماء إذا قطعت عن الإضافة والتخصيص، ولم يلزم من اتفاق الاسمين تماثل مسماهما واتحاده عند الإطلاق والتجريد عن الإضافة والتخصيص، لا اتفاقهما، ولا تماثل المسمى عند الإضافة والتخصيص، فضلاً عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص.
فقد سمى الله نفسه حيّاً فقال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] وسمى بعض عباده حياً فقال: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيّ} [الروم: 19] وليس هذا الحي مثل هذا الحي؛ لأن قوله: {الْحَيَّ} اسم الله مختص به، وقوله:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيّ} اسم للحي المخلوق مختص به، وإنما يتفقان إذا أطلقا وجُرِّدا عن التخصيص، ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج، ولكن العقل بفهم من المطلق قدراً مشتركاً بين المسميين، وعند الاختصاص يقيّد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق، والمخلوق عن الخالق.
ولا بد من هذا في جميع أسماء الله وصفاته، ويُفهم منها ما دلّ عليه الاسم بالمواطأة والاتفاق، وما دلّ عليه بالإضافة والاختصاص، المانعة من مشاركة المخلوق للخالق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى.
وكذلك سمّى الله نفسه عليماً حليماً، وسمّى بعض عباده عليماً حليماً، فقال:{وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28] ، يعني إسحاق، وسمّى آخر حليماً، فقال:{فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 1.1] يعني: إسماعيل، وليس العليم كالعليم، ولا الحليم كالحليم.
وسمّى نفسه سميعاً بصيراً فقال: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 58] .
وسمّى بعض خلقه سميعاً بصيراً فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الانسان: 2] ، وليس السميع كالسميع، ولا البصير كالبصير.
وسمّى نفسه بالرؤوف الرحيم، فقال:{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143]، وسمّى بعض عباده بالرؤوف الرحيم فقال:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128] ، وليس الرؤوف كالرؤوف ولا الرحيم كالرحيم.
وسمّى نفسه بالملك، فقال:{الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر: 23]، وسمّى بعض عباده بالملك فقال:{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79]، و {وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف:5.] وليس الملك كالملك.
وسمّى نفسه بالمؤمن، فقال:{الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر: 23] ،وسمّى بعض عباده بالمؤمن، فقال:{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] ، وليس المؤمن كالمؤمن.
وسمّى نفسه بالعزيز، فقال:{الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّر} [الحشر: 23] ، وسمّى بعض عباده بالعزيز، فقال:{قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} [يوسف: 51] ، وليس العزيز كالعزيز.
وسمّى نفسه الجبار المتكبر، وسمّى بعض خلقه بالجبار المتكبر، فقال:{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35] وليس الجبار كالجبار ولا المتكبر كالمتكبر.
ونظائر هذا متعددة.
وكذلك سمّى صفاته بأسماء، وسمّة صفات عباده بنظير ذلك، فقال:{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، وقال:{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِه} [النساء: 166]، وقال:{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58]، وقال:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] .
وسمّى صفة المخلوق علماً وقوة، فقال:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الاسراء: 85]، وقال:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] ،
وقال: {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْم} [غافر: 83]، وقال:{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54]، وقال:{وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52]، وقال:{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] أي: بقوة، وقال:{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} [صّ: 17] أي: ذا القوة، وليس العلم كالعلم، ولا القوة كالقوة.
وكذلك وصف نفسه بالإرادة، ووصف عبده بالإرادة، فقال:{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ*وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير:28ـ29]، وقال:{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً *وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} [الانسان: 29ـ3.] .
وكذلك وصف نفسه بالإرادة، ووصف عبده بالإرادة فقال:{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لأنفال: 67] .
ووصف نفسه بالمحبة ووصف عبد بالمحبة فقال: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، وقال:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} [آل عمران: 31] .
ووصف نفسه بالرضا، ووصف عبده بالرضا، فقال:{رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119] . ومعلوم أن مشيئة الله ليست مثل مشيئة العبد، ولا إرادته مثل إرادته، ولا محبته مثل محبته، ولا رضاه مثل رضاه.
وكذلك وصف نفسه بأنه يمقت الكفار، ووصفهم بالمقت فقال:{إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْأِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر: 1.] وليس المقت مثل المقت.
وهكذا وصف نفسه بالمكر والكيد، وكما وصف عبده بذلك فقال:{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [لأنفال: 3.]، وقال:{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً*وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق: 15ـ16] ، وليس المكر كالمكر، ولا الكيد كالكيد.
ووصف نفسه بالعمل فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يّس: 71] . ووصف عبده بالعمل، فقال:{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] وليس العمل كالعمل.
ووصف نفسه بالمناداة والمناجاة في قوله: {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم: 52]، وقوله:{وَيَوْمَ يُنَادِيهِم} [القصص: 62]، وقوله:{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} [الأعراف: 22]، ووصف عبده بالمناداة والمناجاة فقال:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4]، وقال:{إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} [المجادلة: 12]، وقال:{إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المجادلة: 9] ، وليس المناداة كالمناداة، ولا المناجاة كالمناجاة.
ووصف نفسه بالتكليم في قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164]، وقوله:{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]، وقوله:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253]، ووصف عبده بالتكليم في مثل قوله:{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54] ، وليس التكليم كالتكليم.
ووصف نفسه بالتنبئة، ووصف بعض الخلق بالتنبئة فقال:{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3] وليس الإنباءُ كالإنباءِ.
ووصف نفسه بالتعليم، ووصف عبده بالتعليم، فقال:{الرَّحْمَنُ*عَلَّمَ الْقُرْآنَ*خَلَقَ الإنْسَانَ*عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1ـ4]، وقال:{تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة: 4]، وقال:{لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة} [آل عمران: 164] ، وليس التعليم كالتعليم.
وهكذا وصف نفسه بالغضب في قوله: {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ} [الفتح: 6]، ووصف عبده بالغضب في قوله:{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} [الأعراف: 15.] وليس الغضب كالغضب.
ووصف نفسه بأنه استوى على عرشه، فذكر في سبع آيات من كتابه أنه استوى على العرش، ووصف بعض خلقه بالاستواء على غيره في مثل قوله:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِه} [الزخرف: 13]، وقوله:{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28]، وقوله:{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيّ} [هود: 44] وليس الاستواء كالاستواء.
ووصف نفسه ببسط اليدين، فقال:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64] ، ووصف بعض خلقه ببسط اليد، في قوله:{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] ، وليس اليد كاليد، ولا البسط كالبسط، وإذا كان المراد بالبسط الإعطاء والجود فليس إعطاء الله كإعطاء خلقه، ولا جوده كجودهم. ونظائر هذا كثيرة.
فلا بد من إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي مماثلته لخلقه، فمن قال: ليس لله علم ولا قوة ولا رحمة، ولا كلام، ولا يحب ولا يرضى، ولا نادى ولا ناجى، ولا استوى؛ كان معطلاً جاحداً، ممثلاً لله بالمعدومات والجمادات.
ومن قال: له علم كعلمي، أو قوة كقوتي، أو حب كحبي، وأو رضى كرضاي، أو يدان كيديّ، أو استواء كاستوائي؛ كان مشبهاً، ممثلاً لله بالحيوانات، بل لا بد من إثبات بلا تمثيل، وتنزيه بلا تعطيل. ويتبين هذا بأصلين شريفين، وبمثلين مضروبين، ولله المثل الأعلى، وبخاتمة جامعة".
معاني الكلمات:
القديم: هو الأول عند أهل السنة وهو القِدَم المطلق.
الحادث: معنى الحادث هو المخلوق.
الممكن: ما استوى وجوده وعدمه.
الواجب: ما كان وجوده ضرورياً، فالله سبحانه واجب الوجود.
الممتنع: هو ما كان عدمه ضرورياً كوجود خالقين مثلاً، أو الشريك لله فإنه لا يمكن أن يكون لله شريكاً.
الاسم المطلق: وهو الاسم العام الذي لا تقييد فيه، فمن هذه الناحية: يشترك وجود الله تعالى والخلق في الوجود المطلق العام، لأنه مفهوم عام مطلق غير مقيد.
لكن إذا قيل الوجود بإضافته إلى الله تعالى صار فيه تخصيص، وكذا إذا أضيف الوجود إلى المخلوق صار فيه تخصيص، لأن كل صفة تناسب موصوفها فوجود الله تعالى غير وجود الخلق.
تماثلها: هو كون الشيئين متساويين متشابهين من كل وجه.
اتفاقهما: الاتفاق: هو كون الشيئين متفقين في اللفظ والمعنى.
الإضافة: ضم الشيء إلى الشيء للتخصيص والتعريف.
التقييد: الوصف بأمر زائد عن الحقيقة.
التخصيص: هو قصر المعنى العام على بعض أفراده.
عناصر الموضوع:
1 ـ الرد على المعطلة إجمالاً:
بعد أن بيَّن شيخ الإسلام أصول فرق المعطلة، بدأ بإبطال تلك المذاهب فبدأ هنا بالرد الإجمالي ثم سيفصل الرد عليهم عند كلامه عند الأصلين والرد الإجمالي مركب من وجهين:
الوجه الأول: في الوجود.
الوجه الثاني: في الاتفاق في الأسماء.
وإليك تفصيل الوجه الأول: هو أن الموجود إما خالق وهو الله، وإما
مخلوق وهو العبد، ولكل منهما وجود يخصه، فلا بد من موجود قديم تنتهي إليه المخلوقات المحدثة إذ إن وجود المخلوقات من غير موجد ممتنع. والخالق والمخلوق كل منهما يتفقان في الوجود، ومع ذلك لم يلزم من اتفاقهما في المعنى العام وهو لفظ الوجود تماثلهما.
الوجه الثاني: أن الاشتراك في الأسماء والصفات لا يستلزم تماثل المسميات والموصوفات كما دل على ذلك السمع والعقل والحس.
2 ـ الأدلة على الاشتراك في الأسماء والصفات لا يستلزم منه تماثل المسميات دل على ذلك السمع والعقل والحس، وإليك التفصيل:
1 ـ أما دليل السمع فقد قال الله تعالى عن نفسه: {ِإِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 58]، وقال عن الإنسان:{إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:2] ، ونفى أن يكون السميع كالسميع والبصير كالبصير، فقال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وأثبت لنفسه علماً وللإنسان علماً فقال عن نفسه: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} [البقرة: 235] . وقال عن الإنسان: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 1.] ، وليس علم الإنسان كعلم الله، فقد قال تعالى عن علمه:{وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طه: 98]، وقال عن علم الإنسان:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الاسراء: 85] .
وأما العقل فمن المعلوم بالعقل أن المعاني والأوصاف تتقيد وتتميز بحسب ما تضاف إليه، فكما أن الأشياء مختلفة في ذواتها فإنها كذلك مختلفة في صفاتها وفي المعاني المضافة إليها، فإن صفة كل موصوف تناسبه لا يفهم منها ما يقصر عن موصوفها أو يتجاوزه، ولهذا نصف الإنسان باللين والحديد المنصهر باللين، ونعلم أن اللين متفاوت المعنى بحسب ما أضيف إليه وأما الحس: فإننا نشاهد للفيل جسماً وقدَمَاً وقوةً، وللبعوضة جسماً وقدماً وقوة، ونعلم الفرق بين جسميهما وقدميهما وقوتهما.
فإذا علم أن الاشتراك في الاسم والصفة في المخلوقات لا يستلزم
التماثل في الحقيقة مع كون كل منهما مخلوقاً ممكناً فانتفاء التلازم في ذلك بين الخالق والمخلوق أولى، وأجلى، بل أن التماثل في ذلك بين الخالق والمخلوق ممتنع غاية الامتناع.
3 ـ أمثلة لأسماء سمى الله بها نفسه وسمى بعض عباده بها:
سمى الله نفسه بأسماء وسمى مخلوقاته ببعض هذه الأسماء، ولكن أأسماء الله تعالى مختصة به، وأسماء المخلوقات مختصة بهم، فمجرد الاتفاق في الاسم لا يدل على الموافقة في الحقيقة والكنه، وإليك هذه الأمثلة التي ذكرها شيخ الإسلام في هذا الجدول الآتي:
الاسم
دليل تسمية الله به نفسه
دليل تسميه بعض عباده به
الحي
{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} [البقرة: 255]
{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيّ} [الروم: 19]
العليم، الحليم
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} [النساء: 12]
{وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الذاريات: 28] ، {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ}
[الصافات: 1.1]
السميع، البصير
إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 58] .
{إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً}
[الانسان: 2]
الرؤوف، الرحيم
{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}
[البقرة: 143]
الملك
{الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر: 23]
{وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ} [الكهف: 79]
{وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ} [يوسف: 5.]
المؤمن
{الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ} [الحشر: 23]
{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كَانَ فَاسِقاً لا يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18]
الجبار
المتكبر
{الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّر} [الحشر: 23]
{كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35]
العزيز
{وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 24]
{قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ} [يوسف: 51]
4 ـ أمثلة لصفات وصف الله بها نفسه وهي تليق به ووصف بها المخلوق:
ذكر شيخ الإسلام هذه الأمثلة للصفات التي اتصف الله بها وهي تليق به واتصف بها المخلوق وهي تناسبه.
فكل هذه الصفات الاتفاق فيها في المعنى الكلي فقط دون الكيفيات والخصائص إليك التفصيل كما في الجدول الآتي:
الصفة
دليل اتصاف الخالق بها ما تليق بعظمته
دليل اتصاف المخلوق بها بما يناسب ضعفه
القوة
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58]{هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ [الذاريات: 47]
{ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً} [الروم: 54]{وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52]{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} [صّ: 17]
العلم
{وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255]{أَنْزَلَهُ بِعِلْمِه} [النساء: 166]
{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً} [الإسراء: 85]{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]{فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْم} [غافر: 83]
المشيئة
وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}
[التكوير: 29]
{لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ} [التكوير:28]{وَمَا تَشَاءُونَ} [التكوير: 29]{فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً} [الإنسان: 29]
الإرادة
وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [لأنفال: 67] .
{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [لأنفال: 67] .
المحبة
{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ} [المائدة: 54]{يُحْبِبْكُمُ اللَّه}
[آل عمران: 31] .
{وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ} [آل عمران: 31] .
الرضا
{رضي الله عنهم} [البينة: 8]
{وَرَضُوا عَنْهُ} [البينة: 8]
المقت
{لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [غافر: 1.]
{مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [غافر: 1.]
المكر
{وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [لأنفال: 3.]
{وَيَمْكُرُونَ} [لأنفال: 3.]
الكيد
{وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق: 16]
{إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً} [الطارق: 15]
العمل
{عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يّس: 71] . ووصف
{جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
[السجدة: 17]
المناداة
والمناجاة
{وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم: 52]{وَيَوْمَ يُنَادِيهِم} [القصص: 62]{وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا} [الأعراف: 22]
{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [الحجرات: 4]{إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ} [المجادلة: 12]{إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالْإثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المجادلة: 9] ،
التكليم
{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: 164]{وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} [الأعراف: 143]{مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} [البقرة: 253]
فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ} [يوسف: 54]
التنبئة
{قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3]
{فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ
…
فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} [التحريم: 3]
التعليم
{عَلَّمَ الْقُرْآنَ*
…
عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1ـ4]{عَلَّمَكُمُ اللَّهُ}
[المائدة: 4]
{تُعَلِّمُونَهُنَّ} [المائدة: 4]{وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَة} [آل عمران: 164]
الغضب
{وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ}
[الفتح: 6]
{وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} [الأعراف: 15.]
الاستواء
في سبعة مواضع: [الأعراف: 54]، [يونس: 3] ، [الحديد: 4] ، [الرعد: 2] ، [طه: 5] ، [الفرقان: 59] ،
[السجدة: 4]
{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِه} [الزخرف: 13]{فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28]{وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيّ} [هود: 44]
بسط اليدين
{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] وإذا كانت بمعنى الإعطاء والجود فكذلك بلا تمثيل
{وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الاسراء: 29] ونظائرها كثيرة
5 ـ معنى قول شيخ الإسلام: "ولا يثبتون إلا وجوداً مطلقاً لا حقيقة له عند التحصيل..":
معناه: أن هؤلاء الكفار من فلاسفة اليونان ومن معهم من المتفلسفة والجهمية والمعطلة لا يؤمنون بصفات الله تعالى، ولا يصفون الله تعالى بشيء من صفاته التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم، وإنما يعتقدون أنه وجود مطلق خال عن الصفات التي تقيد الموصوف، والشيء إذا لم يكن له صفة فهو غير معقول؛ ولا يكون له وجود خارج الأذهان وإنما وجوده وجود ذهني.
فالذهن يتصوره ولكن لا وجود له في الخارج فهو شيء معدوم؛ لأن المعدوم لا صفة له.
فالله تعالى على قول هؤلاء الجهمية معدوم في الحقيقة ولا وجود له لأنهم يصفونه بصفات المعدوم بل الممتنع.
فيقولون: إنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل بالعالم ولا منفصل عنه، ولا فوقه ولا تحته ولا كذا ولا كذا، فهؤلاء مع كونهم غلاة المعطلة فهم مشبهة أيضاً لأنهم شبهوا الله بالمعدومات.
6 ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وجعلوا هذه الصفة الأخرى فجعلوا العلم عين العالم مكابرة
…
":
هذه حكاية مذهب آخر لنوع آخر من المعطلة الغلاة وهذا المذهب شبيه بالمذهب الأول:
ولكنه أخف كفراً، والأول أشد كفراً.
لأن الأولين كانوا يصفون الله بالوجود المطلق عارياً عن الصفات.
وأما هؤلاء المعطلة فقد وصفوه بالسلوب، وأيضاً وصفوه بالصفات الإضافية نحو: قبل كل شيء وبعد كل شيء، ونحو ذلك من الصفات التي هي صفات بالنسبة إلى شيء آخر.
فهؤلاء بسبب إثباتهم الصفات الإضافية صاروا أخف كفراً من الأولين.
ولكنهم مع هذا كله قولهم في غاية التعطيل الذي يستلزم كون الله تعالى معدوماً بل ممتنعاً مثل المذهب الأول؛ لأنهم لا يميزون بين الصفة وموصوفها، فيقولون باتحاد العالم والعلم فجعلوا الصفة هي الموصوف وجعلوا العلم هو العالم، كما أنهم لا يميزون بين صفة وأخرى، فيقولون باتحاد العلم والقدرة وهذا معلوم فساده بالبداهة الضرورية.
هذا هو المذهب الثاني يتلوه المذهب الثالث.
7 ـ قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فمنهم من جعل العليم والقدير والسميع والبصير كالأعلام المحضة المترادفات":
أقول: هذا نوع ثالث من المعطلة وهم كثير من المعتزلة فهم أثبتوا لله تعالى الأسماء ولكن بدون ما تدل عليه من المعاني التي هي صفات كمالية.
فجعلوا أسماء الله تعالى كأسماء الأعلام المجردة عن المعاني نحو زيد وعمر وبكر بدون ملاحظة أي صفة وأي معنى هذا هو معنى (الأعلام المحضة) فالعلم المحض لا معنى له غير المسمى نحو زيد، فمعنى زيد هو المسمى بزيد لا غير، وهكذا جعلوا أسماء الله تعالى أعلاماً محضة بدون معنى مع أن أسماء الله تعالى نحو السميع والبصير والعليم مع دلالتها على الله تعالى تدل على معانٍ هي صفات كمالية، وهي السمع والبصر والعلم.
فليست أسماء الله تعالى كالأعلام المحضة بل هي أسماء مع دلالتها على الصفات الكمالية، ولذلك سميت حسنى لدلالتها على الصفات الحسنة.
8 ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية "
…
المترادفات":
الأسماء المتعددة الدالة على مسمى واحد بدون تعدد المعاني تسمى مترادفات؛ كأن يكون لشيء واحد أسماء عديدة بدون ملاحظة معانيها، كالأسد والغضنفر للحيوان المفترس المعروف.
فهؤلاء الجهمية جعلوا أسماء الله تعالى: من السميع والبصير والقدير والعليم. أسماء لمسمى واحد بدون ملاحظة معانيها وهي السمع والبصر والقدرة والعلم؛ وهذا تعطيل سافر وإلحاد.
9 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومنهم من قال: عليم بلا علم، وقدير بلا قدرة، سميع بصير بلا سمع ولا بصر
…
":
أقول: هذا صنف آخر من المعتزلة الجهمية.
وقولهم لا يختلف عن قول الصنف الأول إلا في التعبير، وإلا فكلهم يثبتون الأسماء دون ما تدل عليه من الصفات الكمالية والمعاني الحسنة.
غير أن الأولين لا يصرحون بأن الله عليم بلا علم بل يقولون عليم وسميع ولا صفة له، ولكن هؤلاء يفسرون قولهم فيقولون: إنه عليم بلا علم سميع بلا سمع.
10ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولو أمعنوا النظر لسوّوا بين المتماثلات، وفرّقوا بين المختلفات كما تقتضيه المعقولات":
معناه: أن زيداً وعمراً وبكراً قد يكونون من المتماثلات وصفاتهم من المتماثلات فالعقل يجوز أن زيداً مثل عمرو وصفة زيد مثل صفة عمرو مثلاً.
والخالق والمخلوق من المختلفات.
فالعقل يحكم أن الخالق لا يشبه المخلوق فهكذا صفة الخالق لا تشبه صفة المخلوق.
وهؤلاء يدعون أنهم من أهل المعقولات.
ولكنهم في الحقيقة من أهل المجهولات وأهل السفسطة والقرمطة وكذلك تراهم يفرقون بين المتماثلات ويسوون بين المختلفات فيزعمون أنه لو ثبت لله تعالى صفة لكان مشابهاً للمخلوق فسووا بين المختلفات.
ونفوا القدر المشترك بين الصفات ففرقوا بين المتماثلات.
11 ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ولكنهم من أهل المجهولات المشبهة بالمعقولات":
معناه: أن هؤلاء المعطلة بسبب تعطيلهم. ليسوا أصحاب العقول والعلوم والأدلة والبراهين المعلومة، بل هم أصحاب الأمور الجهلية المجهولة، التي لا تزيدهم إلا جهلاً على جهل وعمى على عمى وضلالاً على ضلال وظلمات على ظلمات، وهي شبهات وليست أدلة ولكن هذه الشبهات المجهولة اشتبهت عليهم فظنوها أدلة قطعية وبراهين قوية، مع أنها مكسورة وشبهات محضة.
12 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع":
أقول: الحادث في الاصطلاح العام للمناطقة والمتكلمين ما وجد بعد أن لم يكن، فهو مرادف للمخلوق.
وقد يطلق "الحادث" ويراد به المتجدد ـ فيكون أعم من المخلوق.
فالحادث على هذا قد يكون مخلوقاً كالحوادث اليومية في الكون وكذا الكون نفسه، وقد لا يكون مخلوقاً مع كونه متجدداً؛ نحو قوله تعالى:{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَث} [الأنبياء: 2] .
فالذكر المحدث هو القرآن.
وهو غير مخلوق وإن كان متجدداً.
والمراد من "الحادث" في كلام الشيخ هو المعنى الأول وهو المخلوق. و"الممكن" ما استوى طرفاه أي وجوده وعدمه، أي وجوده وعدمه غير ضروري.
فالممكن إذا ترجح جانب وجوده فالله تعالى يخلقه ويوجده بعد أن لم يكن.
و"الواجب" ما كان وجوده ضرورة، فإن وجود الله واجب أي ضروري
"والممتنع" هو ما كان عدمه ضرورياً كوجود خالقين مثلاً أو الشريك لله تعالى.
فإنه لا يمكن أن يكون لله شريك لا عقلاً ولا شرعاً.
13 ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "بل الذهن يأخذ معنى مشتركاً كلياً هو مسمى الاسم المطلق":
أقول: إن الجهمية يزعمون أنه لو ثبت لله الصفات لكان مشابهاً للمخلوقات.
فرد عليهم شيخ الإسلام وقال لهم: إنه لاشك أن الله تعالى يطلق عليه أنه موجود والمخلوق يطلق عليه أنه موجود.
فكلاهما يشتركان في الوجود العام الكلي المطلق الذي لا خصوص فيه ولا تقييد.
فهذا هو معنى "الاسم المطلق" أي الاسم العام الذي لا خصوص فيه ولا تقييد فيه.
فمن هذه الناحية يشترك الله تعالى والخلق في الوجود المطلق العام.
وهذا هو القدر المشترك.
لأن كل واحد موجود، ولكن سرعان ما يزول التشبيه ويتحقق الفارق بين وجود الله تعالى وبين وجود المخلوق.
لأن "الوجود" قبل الإضافة كان له مفهوم عام مطلق غير مقيد وغير مخصص.
ولكن إذا قيد (الوجود) بإضافته إلى الله تعالى صار فيه تخصيص وتقييد، وكذا إذا أضيف (الوجود) إلى المخلوق صار فيه تخصيص وتقييد.
لأن كل صفة تناسب موصوفها فوجود الله تعالى غير وجود الخلق ووجود الخلق غير وجود الخالق، فمن ههنا ارتفع التشبيه وتحقق الفارق فلا تشبيه إذاً في إثبات الصفات لله تعالى فزالت شبهة الجهمية.
14 ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "ولكن ليس للمطلق مسمى موجود في الخارج، ولكن العقل يفهم من المطلق قدراً مشتركاً بين المسميين وعند الاختصاص يقيد ذلك بما يتميز به الخالق عن المخلوق والمخلوق عن الخالق":
أقول: هذا الكلام تفصيل وتفسير وتوضيح للكلام السابق.
وخلاصته: أن "العلم" مثلاً له جهتان جهة العموم الإطلاق وعدم التخصيص وعدم التقييد.
فلا شك أنه بهذا الاعتبار كلي واسم مطلق وأمر عام، ومشترك بين علم الله تعالى وبين علم المخلوق.
ولكن "العلم" بهذا الاعتبار لا وجود له في الخارج لأن الاعتبار الكلي والاسم المطلق والشيء العام لا يوجد في الخارج.
وإنما يتصوره الذهن فقط دون وجوده في الأعيان؛ لأن الشيء من حيث عمومه لا وجود له في الواقع، وإنما الموجود هو الأفراد بخصوصها لا بعمومها فالعلم المطلق من حيث إنه كلي مشترك لا وجود له في الخارج وإنما وجوده وجود ذهني فقط، يتصور العقل وجوده في الأذهان دون الأعيان.
ولكن إذا قيد "العلم" ويقال: "علم" الله تعالى، أو "علم" المخلوق فحينئذٍ يوجد في الخارج لأنه صار مقيداً خاصاً بسبب الإضافة وهذه هي الجهة الثانية فالآن لا اشتراك فيه ولا تشبيه فإذا قيل: علم الله وعلم المخلوق تميز علم الخالق عن علم المخلوق.
15 ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ما دل عليه الاسم بالمواطأة..":
أقول: هذا أيضاً شرح للكلام السابق وتفسير له.
وحاصله: أن "العلم" مثلاً قبل الإضافة وقبل التقييد وقبل التخصيص: يطلق على "علم" الله تعالى وعلى "علم" المخلوق إطلاقاً سوياً،
فعلم الله أيضاً "علم" وعلم المخلوق أيضاً "علم" والعلم يطلق عليهما على حد سواء.
هذا هو معنى "المواطأة" ومعنى "الاتفاق"؛ فالكلي المتواطئ هو ما يدل ويطلق على أفراد على حد سواء كالإنسان فإنه يطلق على زيد وبكر على السواء، ويقابله الكلي المشكك كالأبيض فإنه يطلق على أفراد ولكن مع التفاوت والزيادة والشدة في بعض أفراده دون بعض، فإن بياض هذا الجدار أشد من بياض ذلك الجدار مثلاً.
16 ـ الأسئلة والأجوبة على ما تقدم:
س1 ـ كيف نرد على هذه الفرق رداً إجمالياً؟
ج ـ الرد الإجمالي عليهم مركب من وجهين:
الأول: في الوجود.
الثاني: في الاتفاق في الأسماء.
• الوجه الأول ـ في الموجود: وهو أن الموجود إما خالق وإما مخلوق ولكل منهما وجود يخصه، والمعنى أنه لا بد من موجود قديم واجب بنفسه تنتهي إليه المخلوقات المتحدثة، وبرهانه في مقدمتين:
المقدمة الأولى: أننا نشاهد حدوث المخلوقات كالحيوان والمعدن والنبات، وهذه المحدثات ممكنة وليست واجبة لأنها مسبوقة بالعدم، كما أنها ليست ممتنعة لأنها موجودة الآن، والممتنع لا يتحقق وجوده.
المقدمة الثانية: فما دامت هذه المخلوقات محدثة ممكنة فإنه يعلم ضرورة أنه لا بد لها من خالق واجب بنفسه تنتهي إليه لئلا يلزم التسلسل الممتنع عند عامة العقلاء وهو كون الموجود مفتقراً إلى موجود والموجود إلى موجود وهكذا.
والدليل النقلي على هذا البرهان العقلي قوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] المقصود من الآية الكريمة ما يلي:
1 ـ أنهم وجدوا من غير موجد.
2 ـ أو أنهم أوجدوا أنفسهم.
3 ـ أو أوجدهم الله تعالى.
فالأول: إيجادهم من غير موجد ممتنع لأن المُحدَث لا بد له من مُحدِث.
والثاني: أنهم أوجدوا أنفسهم: إما أن نفس المخلوق أوجد نفسه أو أن المخلوق أوجده مخلوق مثله، فالأول: باطل لأنه يلزم أن بكون المخلوق متقدماً على نفسه باعتباره محدثاً ومتأخراً باعتباره حادثاً وتقدم الشيء على نفسه وتأخره عنه محال في غاية الامتناع.
والثالث: كون المخلوق أوجده مخلوق آخر محال لإفضائه إلى التسلسل كما سبق. فلزم بانقضاء هذه الأسباب إيجاد الخالق لهم وهو الواجب القديم الغني عما سواه.
• الوجه الثاني: الاتفاق في الأسماء: فالاتفاق في الأسماء لا يوجب تماثل المسميات، ولهذا سمى الله نفسه بأسماء وسمى صفاته بأسماء فتكون هذه الأسماء خاصة به لائقة بعظمته لا يشركه فيها غيره، وكذلك سمى بعض مخلوقاته بأسماء مختصة بهم مناسبة لافتقارهم مع أنها توافق أسماء الله عند الإطلاق ولكن تخالفها عند التقييد لاختلاف خصائص الله تعالى عن خصائص خلقه. انتهى الجواب.
* وهنا بعض الألفاظ ينبغي بيانها للفائدة وهي:
1 ـ التسوية بين المتماثلات: والمقصود بها الأسماء والصفات فإنها من باب واحد من حيث دلالة النصوص عليها بطريق سواء ومن حيث اتصاف الله بها ومن حيث ما يلزم عليها وما لا يلزم.
2 ـ التفريق بين المختلفات: وهي ما يليق بالله تعالى من الغنى والكمال المطلق فإنه يفارق تماماً ما يتصف به المخلوق من الحدوث والافتقار والنقص، مما يجعل صفات الله لائقة باقتداره وصفات المخلوق
مناسبة لافتقاره، فالتسوية بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات مما تقتضيه المعقولات.
3 ـ السفسطة في العقليات: السفسطة مصدر سفسط يسفسط سفسطة وهي كلمة يونانية مركبة من جزئين (سوفيا) بمعنى الحكمة، و (اسطس) بمعنى المموهة فالمعنى (الحكمة المموهة) . ويقصد شيخ الإسلام بالسفسطة في العقليات: التمويه والمغالطة في الأمور العقلية الثابتة، فإنه يرى أن كل من جحد حقاً معلوماً وموّه فيه بالباطل فهو مسفسط وليست السفسطة مذهباً عاماً لطائفة معينة.
4 ـ القرمطة في النقليات: نسبة إلى القرامطة لأنهم أعظم الطوائف تحريفاً للنقليات.
والخلاصة: أن لمسمى الوجود ثلاث حالات:
1 ـ حالة الإطلاق: وهو المعنى الكلي الذهني ولا يوجد في الخارج.
2 ـ حالة الإضافة إلى الخالق.
3 ـ حالة الإضافة إلى المخلوق.
* وهنا لا بد من ملاحظة الفرق بين ما ذكر في هذه الخلاصة بما يلي:
أولاً: ما يدل عليه الاسم عند الإضافة والاختصاص التي تمنع من مشاركة المخلوق للخالق في خصائصه. نذكر مثالاً على ذلك مما ذكره شيخ الإسلام وهو لفظ (الحيّ) فإذا أضيف إلى الله اختص به وإذا أضيف إلى المخلوق اختص بفنائه وافتقاره.
س2 ـ ما المقصود بالقديم؟ وهل هو من أسماء الله؟ وضح ذلك؟
ج ـ المراد بالقديم: هو المتقدم على غيره وهو نوعان:
1 ـ تقدم أزلي: وهو ما لا نهاية له في الماضي وهو القدم المطلق ولا يصح إلا لله تعالى.
2 ـ تقدم نسبي: وهو التقدم بين المخلوقات بالنسبة إلى بعضها كما قال تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يّس: 39] فالقديم أعم من الأزلي لأنه يشمل الأزلي والنسبي، فلذلك قيد شيخ الإسلام ـ القديم بالأزلي.
* اختلف العلماء في إطلاق القديم على الله ورجح المحققون أنه من باب الإخبار عن الله تعالى وليس من أسمائه الحسنى، كما يقال: واجب الوجود، وشيء، وقائم بنفسه، وغير ذلك، فهو خبر وليس اسماً.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم" فلا يدل على التسمية لأنه لم يطلق عليه تعالى وإنما يدل على الإخبار كما سبق. وهذا الحديث صححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (باب ما يقال عند دخول المسجد، ج1/ح441/ص93) .
ولإخبار: أن يخبر عن الله تعالى بألفاظ وإن لم تكن واردة إن دلت على معنى صحيح، وأما الأسماء الحسنى فهي كمال مطلق يتعبد بألفاظها ومعانيها، فباب الإخبار أوسع من باب الأسماء.
س3 ـ لماذا سمي أهل الكلام بهذا الاسم؟
ج ـ سموا بأهل الكلام:
أـ لأنهم أتوا بزيادة كلام لا يفيد، كما قال ابن أبي العز، إنما سمي هؤلاء أهل الكلام لأنهم لم يفيدوا علماً لم يكن معروفاً وإنما أتوا بزيادة كلام قد لا يفيد.
ب ـ وإما لمقابلتهم الفلاسفة في تسميتهم فناً من فنون علمهم بالمنطق، والمنطق والكلام مترادفان.
س4 ـ قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ} [البقرة: 165] ، ما المقصود بالمحبة هنا؟ وعدد أقسامها، وما حكم كل قسم؟
ج ـ هذه الآية تدل على ذم الكفار في اتخاذهم الأنداد والنظراء ومساواتهم
بالتعظيم لهم مع الله، وأثنى على المؤمنين بأنهم أشد حباً وتعظيماً لله من هؤلاء لأندادهم.
* والمقصود بالمحبة هنا المحبة الشركية المستلزمة للخوف والتعظيم، وهذه صرفها لغير الله شرك ينافي التوحيد بالكلية.
* وأقسام المحبة خمسة ترجع إلى ثلاثة وهي:
1 ـ محبة طبيعة: وهي ميل الإنسان إلى ما يلائمه كمحبة المال والولد ونحو ذلك وهذه لا تحرم إلا إذا ألهت عن طاعة الله.
2 ـ محبة شرعية: يدخل فيها ما يلي:
أـ محبة الله.
ب ـ محبة ما يحبه الله كالطاعات.
ج ـ محبة في الله كمحبة أوليائه ومحبة عباده الصالحين وحكمها فرض ولا تكفي محبة الله وحدها ـ لأن المشركين يحبون الله بل لا بد من محبة ما يحبه الله.
3 ـ محبة شركية: وهي محبة مع الله وهي حرام.
س5 ـ اذكر ثلاثة آيات تدل بمنطوقها على صفات الكمال وبالتضمن على نفي صفات النقص.
ج ـ قال تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 284] هذه الآية دلت بمنطوقها على إثبات صفة الكمال لله وهي (القدرة) وبالتضمن على نفي صفة النقص وهي (العجز) .
2 ـ قال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان: 58] هذه الآية دلت بمنطوقها على إثبات صفة الكمال لله وهي (الحياة) وبالتضمن على نفي صفة النقص وهي (الموت) .
3 ـ قال تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النساء: 176] هذه الآية دلت بمنطوقها على إثبات صفة الكمال لله سبحانه وهي (العلم) وبالتضمن على نفي صفة النقص وهي (الجهل) .
س6 ـ قال تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [البقرة: 255] ، ما وجه كون هذه الآية أعظم آية في كتاب الله؟ وما الفرق بين السِّنة والنوم؟ ووضح معنى (القيوم) عند السلف، وعند النفاة، وبين نوع النفي فيها؟
ج ـ وجه كونها أعظم آية في كتاب الله لاشتماله على كثير من الأسماء والصفات مما لم يشتمل عليه غيرها.
* والفرق بين السِّنة والنوم: أن السِّنة هي النوم الخفيف والمراد به النعاس وهو ما يكون في الرأس فإذا وصل إلى القلب صار نوماً.
* أما معنى (القيوم) عند السلف فهو القائم على كل شيء الذي لا يحتاج إلى أحد، والمقيم لغيره. وعند الخلف ـ عند النفاة ـ هو الذي لا يتحرك قاصدين بذلك نفي المجيء والنزول والإتيان عن الله سبحانه وتعالى.
* ونوع هذا النفي: هو من النفي المفصل.
س7 ـ ما معنى قول الشيخ: "ولو أمعنوا النظر لسوّوا بين المتماثلات وفرقوا بين المختلفات كما تضمنته المعقولات"؟ ومن هم المعنيون بهذا القول؟
ج ـ معنى قوله أن هؤلاء النفاة لو نظروا بعين البصيرة والتأمل لسوّوا بين الأمور المتماثلة وفرقوا بين الأمور المختلفة فمن يثبت الأسماء وينفي الصفات فقد فرق بين المتماثلات لأن الأسماء والصفات بابها واحد من حيث دلالة النصوص عليها بطريق سواء، ومن اتصاف الله بها ومن حيث ما يلزم عليها وما لا يلزم، ومن يثبت بعض الصفات وينفي بعضها كذلك فرق بين المتماثلات لأن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر.
والتفريق بين المختلفات: وهي ما يليق بالله تعالى من الغنى والكمال المطلق فإنه يفارق تماماً ما يتصف به المخلوق من الحدوث والافتقار والنقص، مما يجعل صفات الله لائقة به وصفات المخلوق مناسبة لافتقاره فالتسوية بين المتماثلات والتفريق بين المختلفات مما تقتضيه المعقولات.
* والمعنيون بذلك: هم المعتزلة وأتباعهم الذين ينفون الأسماء والصفات أو من يثبت بعض الصفات وينفي البعض الآخر.
س8 ـ ما معنى قول الشيخ: يسفسطون في العقليات ويقرمطون السمعيات ـ النقليات؟
ج ـ السفسطة ـ التغليظ والتمويه ـ نفي الحقائق الثابتة مع العلم بها وسفسطتهم في الصفات أنهم جحدوا معاني نصوص الصفات عن علمهم بما دلت عليه، والقرمطة، تفسير النصوص بمعان تخالف ما هو مقتضى لفظها والانحراف بها عن حقيقة المقصود منها. ووجه قرمطتهم أنهم جعلوا للنص معنى باطناً يخالف معناه الظاهر.
س9 ـ كيف ترد على من عطل الله عن الوجود، وأوضح الدليل العقلي على وجود الله من قوله:{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] ؟
ج ـ يرد عليهم بما علم من ضرورة العقل بأنه لا بد من موجد قديم غني عما سواه إذ نحن نشاهد حودث المحدثات كالحيوانات ونحوها، والحادث ممكن ليس بواجب ولا ممتنع وقد علم بالاضطرار أن المحدث لا بد له من محدِث والممكن لا بد له من موجد.
تنبيه: تدل هذه الآية على احتمالات ثلاثة:
الأول: أن العدم خلق هذا العالم.
الثاني: أن العالم خلق نفسه.
الثالث: أن الله خلق هذا العالم.
فالاحتمالان الأولان باطلان ببداهة العقل، فثبت أن الله هو الخالق لهذا الكون بما فيه.
س10 ـ هل يلزم من مطلق اشتراك المسميات في الاسم اتفاقهما في المسمى؟ وضح ذلك بالتمثيل والتعليل، وهل اشتراك المسميين يكون في الذهن والخارج؟ أم ماذا؟
ج ـ لا يلزم من اشتراك المسميات في الاسم اتفاقهما في المسمى.
فمثلاً: العرش شيء موجود فلا يقول عاقل: إن العرش موجود مثل البعوض لاتفاقهما في مسمى الشيء الموجود؛ لأنه ليس في الخارج شيء موجود يشتركان في المعنى العام الكلي، وهذا لا وجود له إلا في الذهن لا في الحس، بل الذهن يأخذ معنى كلياً مشتركاً وهو مسمى الاسم المطلق والاشتراك المطلق يكون في الذهن من ناحية المعنى العام فهو يخالف البعض الآخر، فإذا قيل: هذا موجود وهذا موجود فلكل منهما وجود يخصه ولا يشركه في غيره مع أن الاسم حقيقة في كل منهما.
س11 ـ هل اتفاق المسميين في الاسم الواحد يستلزم تماثل مسماهما؟ وضح ذلك؟
ج ـ لا يستلزم ذلك اتفاقهما وتماثلهما عند الاطلاق والتجريد فضلاً عن أن يتحد مسماهما عند الإضافة والتخصيص، فهو سبحانه سمى نفسه (حياً) وسمى بعض عباده (حياً) وليس هذا (الحي) مثل هذا (الحي) أبداً، وكذلك سمى نفسه (سميعاً بصيراً) وسمى الإنسان (سميعاً بصيراً) ولا يلزمه هذا تماثل المسمى.
الرد التفصيلي على المخالفين لطريقة السلف
قال شيخ الإسلام:
"ويتبين هذا بأصلين شريفين ومثلين مضروبين {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى} وبخاتمة جامعة فأما الأصلان":
معاني الكلمات:
يتبين هذا: أي ما تقدم من عدم التلازم بين الإثبات والتمثيل وبطلان قول المخالفين للسلف وتناقضهم.
أصلين شريفين: هما القول في بعض الصفات كالقول في البعض والقول في الصفات كالقول في الذات.
مثلين مضروبين: هما الجنة والروح.
عناصر الموضوع:
1 ـ مناسبة هذا الفصل لما سبق:
تقدم فيما سبق أنه يجب إثبات ما أثبته الله لنفسه مع نفي المماثلة، فمن نفى صفات الله كان معطلاً جاحداً من جهة وممثلاً له بالمعدومات والجمادات من جهة أخرى، ومن قال: إن صفات الله مثل صفات خلقه كان مشبهاً بالحيوانات، أي بالحيوانات الحية تعالى الله عن ذلك، وهذا هو حقيقة التشبيه الذي نفته النصوص وهو الذي جرى السلف على التنفير منه.
قال إسحاق بن راهويه: "إنما يكون التشبيه إذا قال: يد كيد، أو مثل يد، أو سمع كسمع، أو مثل سمع، فهذا هو التشبيه" وأما مجرد إثبات الصفات فليس من التشبيه في شيء، فلذلك فإن قاعدة السلف في هذا الباب هي: الإثبات بلا تمثيل والتنزيه بلا تعطيل.
وتتبين صحة هذه القاعدة وصحة ما تقرر سابقاً ببيان أصلين شريفين ومثلين مضروبين وخاتمة جامعة تشتمل على سبع قواعد نافعة هي:
1 ـ صفات الله نفي وإثبات.
2 ـ حكم ما يُضاف إلى الله من الأسماء والصفات.
3 ـ معنى ظاهر النصوص وحكم القول بأنه مراد أو غير مراد.
4 ـ المحاذير التي يقع فيها من يتوهم التمثيل ثم ينفيها.
5 ـ أنا نعلم ما أخبر الله به من الغيبيات من وجه دون وجه.
6 ـ الضابط الذي يعرف به ما يجوز لله وما لا يجوز له نفياً وإثباتاً.
7 ـ دلالة العقل على كثير مما دل عليه السمع.
الرد على الأشعرية والمعتزلة بالأصل الأول
قال شيخ الإسلام:
"فأما الأصلان: فأحدهما: أن يقال: القول في بعض الصفات كالقول في بعض. فإن كان المخاطب ممن يقر بأن الله حي بحياة، عليم بعلم، وقدير بقدرة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، مريد بإرادة، ويجعل ذلك كله حقيقة وينازع في محبته ورضاه وغضبه وكراهيته، فيجعل ذلك مجازاً ويفسره إما بالإرادة وإما ببعض المخلوقات من النعم والعقوبات، قيل له: لا فرق بين ما نفيته وبين ما أثبته بل القول في أحدهما كالقول في الآخر. فإن قلت: إن إرادته مثل إرادة المخلوقين فكذلك محبته ورضاه وغضبه، وهذا هو التمثيل، وإن قلت: له إرادة تليق به، كما أن للمخلوق إرادة تليق به، قيل لك: وكذلك له محبة تليق به، وللمخلوق محبة تليق به وله رضا وغضب يليق به وللمخلوق رضا وغضب يليق به، وإن قال: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، قيل له: والإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، فإن قلت: هذه إرادة المخلوق، قيل لك: وهذا غضب المخلوق.
وكذلك يُلزم بالقول في كلامه وسمعه وبصره وعلمه وقدرته، إن نفى عنه الغضب والمحبة والرضا ونحو ذلك ما هو من خصائص المخلوقين، فهذا منتفٍ عن السمع والبصر والكلام وجميع الصفات، وإن قال: إنه لا حقيقة لهذا إلا ما يختص بالمخلوقين فيجب نفيه عنه.
قيل له: وهكذا السمع والبصر والكلام والعلم والقدرة.
فهذا المفرِّق بين بعض الصفات وبعض، يقال له فيما نفاه كما يقوله هو
لمنازعه فيما أثبته، فإذا قال المعتزليُّ: ليس له إرادة ولا كلام قائم به لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بالمخلوقات، فإنه يُبيَّن للمعتزلي أن هذه الصفات يتصف بها القديم، ولا تكون كصفات المحدثات، فهكذا يقول له المثبتون لسائر الصفات من المحبة والرضا، ونحو ذلك.
فإن قال: تلك الصفات أثبتها العقل؛ لأن الفعل الحادث دل على القدرة، والتخصيص دل على الإرادة، والإحكام دل على العلم، وهذه الصفات مستلزمة للحياة، والحي لا يخلو عن السمع والبصر والكلام أو ضد ذلك.
قال له سائر أهل الإثبات: لك جوابان:
أحدهما: أن يقال: عدم الدليل المعيَّن لا يستلزم عدم المدلول المعيَّن، فهب أن ما سلكته من الدليل العقلي لا يثبت ذلك فإنه لا ينفيه، وليس لك أن تنفيه بغير دليل؛ لأن النافي عليه الدليل كما على المثبت، والسمع قد دل عليه، ولم يعارض ذلك معارض عقلي ولا سمعي، فيجب إثبات ما أثبته الدليل السالم عن المعارض المقاوم.
الثاني: أن يُقال: يمكن إثبات هذه الصفات بنظير ما أثبتَّ به تلك من العقليات، فيقال: نفع العباد بالإحسان إليهم يدل على الرحمة، كدلالة التخصيص على المشيئة، وإكرام الطائعين يدل على محبتهم وعقاب الكفار يدل على بغضهم، كما قد ثبت بالشاهد والخبر من إكرام أوليائه وعقاب أعدائه، والغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته ـ وهي ما تنتهي إليه مفعولاته ومأموراته من العواقب الحميدة ـ تدل على حكمته البالغة كما يدل التخصيص على المشيئة وأوْلى، لقوة العلة الغائية، ولهذا كان ما في القرآن من بيان ما في مخلوقاته من النعم والحكم أعظم مما في القرآن من بيان ما فيها من الدلالة على محض المشيئة.
وإن كان المخاطب ممن ينكر الصفات، ويقرّ بالأسماء كالمعتزلي، الذي يقول: إنه حي عليم قدير، وينكر أن يتصف بالحياة والعلم والقدرة.
قيل له: لا فرق بين إثبات الأسماء وبين إثبات الصفات، فإنك إن قلت: إثبات الحياة والعلم والقدرة يقتضي تشبيهاً وتجسيماً، لأنّا لا نجد
في الشاهد متصفاً بالصفات إلا ما هو جسم. قيل لك: ولا تجد في الشاهد ما هو مسمى بأنه حي عليم قدير إلا ما هو جسم، فإن نفيت ما نفيت لكونك لم تجده في الشاهد إلا لجسم فانفِ الأسماء، بل وكل شيء؛ لأنك لا تجده في الشاهد إلا لجسم.
فكا ما يحتج به من نفى الصفات، يحتج به نافي الأسماء الحسنى، فما كان جواباً لذلك كان جواباً لمثبتي الصفات.
وإن كان المخاطب من الغلاة، نفاة الأسماء والصفات، وقال: لا أقول هو موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، بل هذه الأسماء لمخلوقاته، أو هي مجاز، لأن إثبات ذلك يستلزم التشبيه بالموجود الحي العليم القدير.
قيل له: وكذلك إذا قلت: ليس بموجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، كان ذلك تشبيهاً بالمعدومات، وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات.
فإن قال: أنا أنفي النفي والإثبات.
قيل له: فيلزمك التشبيه بما اجتمع فيه النقيضان من الممتنعات، فإنه يمتنع أن يكون الشيء موجوداً معدوماً، أو لا موجوداً ولا معدوماً، ويمتنع أن يوصف باجتماع الوجود والعدم، والحياة والموت، والعلم والجهل، أو يُوصف بنفي الوجود والعدم، ونفي الحياة والموت، ونفي العلم والجهل.
فإن قلت: إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلاً لهما وهذا يتقابلان تقابل العدم والمَلَكة، لا تقابل السلب والإيجاب، فإن الجدار لا يقال له: أعمى ولا بصير، ولا حي ولا ميت، إذ ليس بمقابل لهما.
قيل لك: أولا: هذا لا يصح في الوجود والعدم، فإنهما متقابلان تقابل السلب والإيجاب، باتفاق العقلاء، فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر.
وأما ما ذكرته من الحياة والموت، والعلم والجهل، فهذا اصطلاح اصطلحت عليه المتفلسفة المشاؤون والاصطلاحات اللفظية ليست دليلاً على نفي الحقائق العقلية، وقد قال تعالى:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ*أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 2.ـ21] ، فسمى الله الجماد ميتاً، وهذا مشهور في لغة العرب وغيرهم.
وقيل لك: ثانياً: فما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت والعمى والبصر، ونحو ذلك من المتقابلات أنقص مما يقبل ذلك، فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل واحداً منهما، فأنت فررت من تشبيهه بالحيوانات القابلة لصفات الكمال، ووصفته بصفات الجمادات التي لا تقبل ذلك.
وأيضاً فما لا يقبل الوجود والعدم أعظم امتناعاً من القابل للوجود والعدم، بل ومن اجتماع الوجود والعدم، ونفيهما جميعاً، فما نفيت عنه قبول الوجود والعدم كان أعظم امتنعاعاً، مما نفيت عنه الوجود والعدم، وإذا كان هذا ممتنعاً في صرائح العقول فذلك أعظم امتناعاً، فجعلت الوجود الواجب الذي لا يقبل العدم هو أعظم الممتنعات، وهذا غاية التناقض والفساد.
وهؤلاء الباطنية منهم من يصرّح برفع النقيضين: الوجود والعدم، ورفعهما كجمعهما، ومنهم من يقول: لا أثبت واحداً منهما، وامتناعه عن إثبات أحدهما في نفس الأمر لا يمنع تحقق واحد منهما في نفس الأمر، وإنما هو كجهل الجاهل، وسكوت الساكت، الذي لا يعبر عن الحقائق.
وإذا كان ما لا يقبل الوجود ولا العدم أعظم امتناعاً مما يُقدَّر قبوله لهما ـ مع نفيهما عنه ـ فما يُقدَّر لا يقبل الحياة ولا الموت، ولا العلم ولا الجهل، ولا القدرة ولا العجز، ولا الكلام ولا الخرس، ولا العمى ولا البصر، ولا السمع ولا الصمم، أقرب إلى المعدوم والممتنع مما يُقدَّر قابلاً لهما مع نفيهما عنه، وحينئذٍ فنفيهما مع كونه قابلاً لهما أقرب إلى الوجود والممكن، وما جاز لواجب الوجود قابلاً، وجب له، لعدم توقف صفاته على غيره، فإذا جاز القبول وجب، وإذا جاز وجود المقبول وجب.
وقد بسط هذا في موضوع آخر وبيَّن وجوب اتصافه بصفات الكمال التي لا نقص فيها بوجه من الوجوه.
وقيل له أيضاً: اتفاق المسميَّيَن في بعض الأسماء والصفات ليس هو التشبيه والتمثيل، الذي نفته الأدلة السمعيات والعقليات، وإنما نفت
ذما يستلزم اشتراكهما فيما يختص به الخالق، مما يختص بوجوبه أو جوازه أو امتناعه، فلا يجوز أن يَشركه فيه مخلوق، ولا يُشركه مخلوق في شيء من خصائصه سبحانه وتعالى.
وأما ما نفيتَه فهو ثابت بالشرع والعقل، وتسميتك ذلك تشبيهاَ وتجسيماً تمويه على الجهّال، الذين يظنون أن كل معنى سمّاه مسمٍّ بهذا الاسم يجب نفيه، ولو ساغ هذا لكان كل مبطل يسمي الحق بأسماء ينفر عنها بعض الناس، ليكذب الناس بالحق المعلوم بالسمع والعقل.
وبهذه الطريقة أفسدت الملاحدة على طوائف من الناس عقولهم ودينهم حتى أخرجوهم إلى أعظم الكفر والجهالة، وأبلغ الغيّ والضلالة.
وإن قال نفاة الصفات: إثبات العلم والقدرة والإرادة يستلزم تعدد الصفات، وهذا تركيب ممتنع.
قيل: وإذا قلتم: هو موجود واجب، وعقل عاقل ومعقول، وعاشق ومعشوق، ولذيذ وملتذ ولذة، أفليس المفهوم من هذا هو المفهوم من هذا؟، فهذه معانٍ متعددة متغايرة في العقل وهذا تركيب عندكم، وأنتم تثبتونه وتسمونه توحيداً.
فإن قالوا: هذا توحيد في الحقيقة وليس هذا تركيباً ممتنعاً.
قيل لهم: واتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيد في الحقيقة وليس هو تركيباً ممتنعاً.
وذلك أنه من المعلوم بصريح المعقول أنه ليس معنى كون الشيء عالماً هو معنى كونه قادراً، ولا نفس ذاته هو نفس كونه عالماً قادراً، فمن جوّز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى، وأن تكون الصفة هي الموصوف فهو من أعظم الناس سفسطة، ثم إنه متناقض، فإنه إن جوّز ذلك جاز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا، فيكون الوجود واحداً بالعين لا بالنوع.
وحينئذٍ فإذا كان وجود الممكن هو وجود الواجب كان وجود كل مخلوق ـ يُعدم بعد وجود، ويُوجد بعد عدمه ـ هو نفس وجود الحق القديم الدائم الباقي الذي لا يقبل العدم.
وإذا قدَّر هذا، كان الوجود الواجب موصوفاً بكل تشبيه وتجسيم، وكل نقص وكل عيب كما يصرح بذلك أهل وحدة الوجود، الذين طردوا هذا الأصل الفاسد، وحينئذٍ فتكون أقوال نفاة الصفات باطلة على كل تقدير.
وهذا باب مطرد، فإن كل واحد من النفاة لِما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من الصفات، لا ينفي شيئاً ـ فراراً مما هو محذور ـ إلا وقد أثبت ما يلزمه فيه نظير ما فرّ منه، فلا بدّ له في آخر الأمر من أن يثبت موجوداً واجباً قديماً متصفاً بصفات تميّزه عن غيره، ولا يكون فيها مماثلاً لخلقه، فيقال له: وهكذا القول في جميع الصفات، وكل ما نثبته من الأسماء والصفات فلا بدّ أن يدل على قدر مشترك تتواطأ فيه المسميّات، ولولا ذلك لما فُهم الخطاب، ولكن نعلم أن ما اختص الله به، وامتاز عن خلقه أعظم مما يخطر بالبال أو يدور في الخيال".
معاني الكلمات:
المخاطب: هو الأشعري ومن يسلك مسلك الأشاعرة، ولم يسمهم شيخ الإسلام واقتصر على مذهبهم ليشمل الرد كل من يوافقهم من الماتريدية وغيرهم.
مجازاً: هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له.
عناصر الموضوع:
1 ـ القول في الصفات جميعها من باب واحد:
الصفات الواردة في الكتاب والسنة هي من باب واحد؛ إذ لا فرق بينهم البتّة؛ لأن الموصوف بها واحد، وهو جل وعلا لا يشبهه الخلق في سيء من صفاته البتة.
فكما أنكم يا معشر الأشاعرة أثبتم سمعاً وبصراً لائقين بجلاله لا يشبهان شيئاً من أسماع المخلوقين وأبصارهم، فكذلك يلزم أن تجروا هذا بعينه في صفة الاستواء والنزول والمجيء إلى غير ذلك من صفات الجلال والكمال التي أثنى الله بها على نفسه، واعلموا أن رب السماوات والأرض يستحيل
عقلاً أن يصف نفسه بما يلزمه محذور ويلزمه محال، أو يؤدي إلى نقص.
كل ذلك مستحيل عقلاً، فإن الله لا يصف نفسه إلا بوصف بالغ من الشرف والعلو والكمال ما يقطع علائق أوهام المشابهة بينه وبين صفات المخلوقين على حد قوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .
2 ـ موضوع الأصل الأول:
موضوع الأصل الأول في الرد على من أثبت بعض الصفات ونفى البعض الآخر وهم الأشاعرة.
ففيه من الإلزام والقوة في الرد على المخالف مما يجعله يذعن ويستسلم للحق ممن يطلبه؛ لأن من الأمور البديهية عدم التفريق بين المتماثلين إلا بدليل، وقد دلّ السمع والعقل على أنه لا يجوز التفريق بين الصفات وإلا كان تحكماً وقولاً على الله بغير علم وتنكباً للطريق المستقيم.
فمن حاول أن يثبت البعض وينفي البعض الآخر فهو واقع في التناقض والاضطراب وليس أمامه إلا أن يثبت جميع الصفات كما يليق بجلاله.
خلاصة القول أن هذا الأصل حجة لمن أثبت جميع الصفات على ما يليق بجلال الله وكماله، ولم يفرّق بين بينهما؛ لأن طريقها واحد من حيث الإثبات ونفي المماثلة وعدم العلم بالكيفية فالذي قال:{وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] هو الذي قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] والجميع لا نعلم كيفيته؛ لأنه سبحانه قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، وقال:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 3ـ4] .
1 ـ شرح الأصل الأول:
عقد شيخ الإسلام هذا الأصل، لبيان أن ما يجب اعتقاده في بعض الصفات يجب في بعضها الآخر، فإن وجب إثبات بعضها وجب إثبات بعضها الآخر ومن نفى بعضها لزمه نفي ما سواها، ومن زعم أن بعضها
يستلزم تشبيهاً كان كلها كذلك، فهذا الأصل مبني على القاعدة العقلية وهو وجوب التسوية بين المتماثلات، فحكم الصفات واحد، فهي متماثلة من حيث إنها لمسمى واحد ولموصوف واحد، ومن حيث الدليل فقد جاءت بها الأدلة من الكتاب والسنة.
2 ـ التعريف بالأشاعرة:
هم المنتسبون إلى الإمام أبي الحسن الأشعري، وهو: علي بن إسماعيل بن أبي بشر ينتهي نسبه إلى الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري، وكان أبو الحسن معتزلياً ثم أعلن رجوعه وتوبته وسلك طريقة عبد الله بن سعيد بن كُلاّب، ونسج على قوانينه في الصفات والقدر، ثم انتقل إلى متابعة الإمام أحمد وأهل الحديث ونصر مذهب السلف كما في كتبه الثلاثة: الإبانة، مقالات الإسلاميين، رسالة أهل الثغر، وتوفي سنة 324هـ، والأشاعرة المنتسبون إليه يتابعونه في مرحلته الثانية، لذلك يُقال الأشاعرة الكلاّبية ولهم أصول خالفوا فيها السلف في مختلف أبواب الاعتقاد1.
3 ـ مذهب الأشاعرة في الصفات:
يثبت عامة الأشاعرة أسماء الله الحسنى مع سبع من الصفات هي: الحياة والقدرة والعلم والكلام والإرادة والسمع والبصر، ويجعلون هذه الصفات حقيقة وليست مجازية ويرجعون بقية الصفات إلى الصفات السبع.
ومتقدموا الأشعرية يثبتون أكثر من ذلك.
4 ـ مواقف الأشاعرة من نصوص الصفات التي نفوها:
تقدم أن الأشاعرة يثبتون سبعاً من الصفات وينفون بقية الصفات الواردة في الكتاب والسنة، ويسلكون طريقتين في نفي الصفات من خلال النصوص:
1 شذرات الذهب (2/3.3) ، الخطط للمقريزي (2/358) ، الملل والنحل (1/94) .
• الطريقة الأولى: أنهم يفسِّرون الصفات التي نفوها بالصفات التي أثبتوها، فمن الصفات التي نفوها صفة المحبة، يقولون عنها إرادة الثواب، وكذلك صفة الغضب يفسرونها بإرادة الانتقام.
• الطريقة الثانية: يفسرون نصوص الصفة المنفية بلازمها، فيفسرون صفة المحبة التي نفوها بلازمها ألا وهو الإنعام، ويفسرون صفة الغضب بلازمها ألا وهي العقوبة.
5 ـ مقارنة بين طريقة السلف وطريقة الأشعرية من حيث الإثبات والنفي في نصوص الصفات:
أهل السنة
الأشعرية
1 ـ يثبتون نصوص الصفات الواردة في الكتاب والسنة إثباتاً بلا تشبيه وتنزيهاً بلا تعطيل.
1 ـ يثبتون الأسماء وسبع من الصفات.
2 ـ ينفون ما نفى الله عن نفسه ونفاه عنه رسوله بلا تعطيل للصفات الواردة في الكتاب والسنة.
2 ـ ينفون الصفات الواردة في الكتاب والسنة ما عدا السبع ويعتقدون في إثبات الصفات التشبيه، قال صاحب الجوهرة:"وكل نص أوهم التشبيه أوِّله..".
3 ـ يعظمون نصوص الصفات الواردة في الكتاب والسنة فلا يتعرضون لها بتحريف أو تبديل.
3 ـ يحرِّفون الكلم عن مواضعه بالتأويل الذي هو التحريف، وتحميل النصوص ما لا تحتمل.
4 ـ لم يفهموا نصوص الصفات إلا أنها تليق بالخالق لأن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله.
4 ـ لم يفهموا من نصوص الصفات إلا بما يليق بالمخلوقين وهذا خلاف ما فطر الله عليه الخلق والكلام في الذات فرع عن الكلام في الصفات.
5 ـ لا يخوضون في كيفية الصفات ولا يقيسون الخالق بما يقاس به المخلوق.
5 ـ يخوضون في كيفية الصفات ويتعرضون لمعانيها بالتحريف أو التفويض، نتيجة قياسهم الخالق بما يقاس به المخلوق.
6 ـ يجملون في النفي ويفصلون في الإثبات متبعين طريقة القرآن، فلا ينفون إلا ما نفاه الله عن نفسه كالسنة والنوم.
6 ـ يفصلون في النفي فيعمدون إلى ألفاظ مجملة سكت عنها الشارع فينفونها كلفظ: الجوهر والعرض.
6 ـ الرد على الأشاعرة في نفيهم بقية الصفات:
تقدم أن الأشاعرة يثبتون سبعاً من الصفات وينفون ما عداها من الصفات، فينفون صفة المحبة والرحمة والغضب وغيرها وفرقوا بين الصفات من حيث الإثبات والنفي والرد عليهم من وجوه:
1 ـ أنه لا فرق بين ما نفيتموه من الصفات كالرحمة والغضب والمحبة وبين ما أثبتموه، فإن القول فيهما واحد لأن القول في أحدهما كالقول الآخر.
2 ـ يلزم الأشعري في طريقته هذه بالتفريق بين الصفات ثلاثة لوازم:
أـ إثبات جميع الصفات على وجه التمثيل تمثيل الخالق بالمخلوق وهذا باطل وهو مذهب المشبهة.
ب ـ نفي جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة وهذا باطل فيلحق بغلاة المعطلة، فإذا بطل الوجهين السابقين فيبقى اللازم الأخير وهو الصحيح.
ج ـ إثبات جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة على ما يليق بالله تعالى مع نفي مشابهة الخالق للمخلوق، وهذا هو الحق وهو مذهب الرسل عليهم الصلاة والسلام.
7 ـ المثال التطبيقي لمحاورة السني مع الأشعري:
الأشعري يتبت الصفات السبع ـ كما تقدم ـ وينازع فيما عداها من صفة المحبة والغضب وغير ذلك، بدعوى أن إثبات هذه الصفات تشبيه، فلا يثبت صفة الغضب بزعمه أن الغضب هو غليان دم القلب بطلب الانتقام وهذا لا يليق بالله.
ردّ عليه السني فقال: أنت تثبت الإرادة، والإرادة التي تثبتها هي ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، وهذا لا يليق بالله.
فأجاب الأشعري: أن هذه الإرادة التي ذكرتها أيها السني هي إرادة المخلوق، أما إرادة الله فكما تليق به.
فرد عليه السني فقال: وهذا الغضب الذي ذكرته أيها الأشعري إنما هو غضب المخلوق لا غضب الله اللائق به، فهذا المفرق بين الصفات.
يقال فيما نفاه من الصفات الفعلية كما يقول هو لمنازعه في الصفات السبع، أي يرد عليه بنفس الردود التي يرد بها هو على المعتزلي، ألا وهي أن الله يتصف بالصفات اللائقة به والمخلوق يتصف بالصفات التي تناسبه وتليق به ولا يلزم من ذلك التشبيه.
8 ـ مثال تطبيقي لمحاورة بين أشعري ومعتزلي:
الداعي لذكر هذه المحاورة: أن الأشعري يرد على المعتزلي فيما يثبت من الصفات السبع وبمثل رده على المعتزلي يرد السني على الأشعري، وهذا من أبلغ الاحتجاج فهذا المفرق بين الصفات يقال له فيما نفاه كما يقول هو لمنازعه في الصفات السبع، أي يرد عليه بنفس الردود التي يرد بها هو على المعتزلي، وإليك مادة هذا الحوار:
ـ إذا قال المعتزلي: ليس لله صفات، وليس له إرادة ولا كلام قائم به ولا سمع ولا بصر؛ لأن هذه الصفات لا تقوم إلا بأجسام فيلزم التشبيه.
ـ فيرد الأشعري فيقول: بأن الله يتصف بالصفات السبع المذكورة، وهي لائقة بالله لا تشبه صفات المخلوقين ولا تكون كخصائص المحدثات.
ـ فيرد أهل السنة على الأشعري بعين رده على المعتزلي، فيقال: فهكذا يقول المثبتون في سائر الصفات من المحبة والرضا والغضب والرحمة وغير ذلك فيلزم الأشعري بعين ما ألزم به المعتزلي.
9 ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإن قلت: الغضب غليان دم القلب لطلب الانتقام، فيقال له: الإرادة ميل النفس إلى جلب منفعة أو دفع مضرة. فإن قلت: هذه إرادة المخلوق، قيل لك: وهذا غضب المخلوق".
أقول: هذان نقضان وإلزامان من جانب شيخ الإسلام للرد على هؤلاء الجهمية المعطلة الذين يعطلون بعض الصفات بشبهة التشبيه دون بعض
فيثبتون لله الإرادة، ولكن ينفون عنه الغضب بشبهة التشبيه، لأن الغضب عندهم غليان دم القلب بطلب الانتقام، والله تعالى منزه عن الدم والقلب فإذا ثبت لله تعالى "الغضب" صار مشابهاً لخلقه.
هذه كانت شبهة التشبيه فعارضهم شيخ الإسلام وقال لهم: قولكم هذا متناقض متهافت مضطرب لأنكم نفيتم "الغضب" بحجة التشبيه فهلا نفيتم عنه "الإرادة" مع أن الإرادة ميل النفس إلى جلب المنفعة أو دفع المضرة، والله تعالى منزه عن ميل النفس عندكم وكذا عن جلب المنفعة ودفع المضرة لأنه غني غير محتاج، هذه كانت المعارضة الأولى والمعارضة الثانية هي:
أنه إن قالوا في الجواب: إن هذه إرادة المخلوق لا إرادة الخالق، فيقال لهم: هذا غضب المخلوق دون غضب الخالق، فلا تشبيه البتة.
إذاً لا بد من إثبات الصفات كلها من غير تفريق.
10 ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "عدم الدليل المعين لا يستلزم عدم المدلول المعين".
معناه: أن المدلول (الدعوى) أو (المطلوب) قد تكون له أدلة كثيرة.
فإذا انتفى دليل واحد لا يستلزم ذلك انتفاء ذلك المدلول، لأن ذلك المدلول ثابت بأدلة أخرى غير ذلك الدليل.
فانتفاء الدليل المعين الخاص لا يستلزم انتفاء المدلول.
مثال ذلك: أن الشمس ثابتة بأدلة كثيرة منها الحس ومنها النور ومنها الحرارة فإذا انتفى دليل النور في الأعمى مثلاً لا يستلزم انتفاء الشمس.
لأن الشمس ثابتة بدليل النور وبدليل الحرارة أيضاً.
11 ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن قلت: إنما يمتنع نفي النقيضين عما يكون قابلاً لهما وهذا يتقابلان تقابل العدم والمَلَكة، لا تقابل السلب والإيجاب، فإن الجدار لا يقال له: أعمى ولا بصير، ولا حي ولا ميت
…
".
أقول: هذا الكلام يحتاج إلى ذكر عدة من المصطلحات المنطقية.
فأقول: النسبة بين الشيئين قد تكون نسبة التخالف فهما متخالفان.
1 ـ والمتخالفان إن كان أحدهما وجودياً والآخر عدمياً، فهما نقيضان نحو الإنسان واللا إنسان والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان.
2 ـ وإن كان كلاهما وجودياً لا يمكن أن يجتمعا ولكن يجوز ارتفاعهما نحو الإنسان والحجر فهما ضدان، أو متضادان فالإنسان والحجر لا يجتمعان في محل واحد.
فلا يقال: هذا الشيء إنسان وهذا حجر، ولكن يجوز ارتفاعهما.
فيقال: هذا الشيء لا حجر ولا إنسان لأنه كتاب.
3 ـ وإن كان تَعَقُّل أحدهما موقوفاً بتعقُّل الآخر فهما متضائفان. نحو الأب والابن.
فزيدٌ لا يمكن أن يكون أباً وابناً في جهة واحدة، ولكن يجوز أن يكون أباً لشخص آخر ولكن لا يتصور الأب بدون الابن ولا الابن بدون الأب.
4 ـ وإن أحدهما وجودياً والآخر عدمياً ولكن محل العدمي قابل للوجودي. فهما عدم وملكة نحو العمى والبصر.
فالعمى: عدم البصر عما من شأنه أن يكون بصيراً.
وإذا علمت هذا فاعلم: أن من الجهمية من قال: إن الله تعالى لا حي ولا ميت، ولا موجود ولا معدوم، فينفي عنه النفي والإثبات، فرد عليهم شيخ الإسلام بأن هذا رفع للنقيضين وهذا باطل بإجماع العقلاء.
فقال هؤلاء الجهمية: إن هذا ليس من قبيل رفع النقيضين، بل هذا من قبيل رفع العدم والملكة، ويجوز في العدم والملكة أن يرتفعا فيقال: هذا الجدار لا أعمى ولا بصير، لأن المحل إذا لم يكن قابلاً يجوز حينئذٍ أن تنفي عنه العدم والملكة.
فأجاب شيخ الإسلام: بأن الوجود والعدم ليسا من قبيل العدم والملكة بل هما من قبيل الإيجاب والسلب، أي هما من قبيل المتناقضين، ولا يجوز رفع المتناقضين كما لا يجوز اجتماعهما.
هذا أول جواب وهو يتعلق بالوجود والعدم.
والجواب الثاني: أن الحياة والموت والعلم والجهل وإن كانا من قبيل العدم والملكة عندكم، ولكن هذا اصطلاح خاص بكم لا نسلم به فإن هذا اصطلاح يصادم الشرع والعقل واللغة:
أما الشرع: فقد أطلق الله تعالى على الجماد أنه ميت، فقال تعالى:{أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ} [النحل: 21] فسمى الجماد ميتاً.
وهكذا أهل اللغة: يسمون الجماد ميتاً، والعقل يحكم أن الشيء إذ لم يكن حياً فهو ميت.
والجواب الثالث: أننا لو سلمنا اصطلاحكم، نقول لكم: إن المتصف بالحياة والبصر والعلم أفضل ممن لا يتصف بها، فكيف تنفون عن الله تعالى الحياة والبصر والعلم وتصفون المخلوق بهذه الصفات الكمالية.
فقد جعلتم المخلوق أفضل من الخالق وهذا غاية الشناعة في التشبيه.
12 ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهؤلاء الباطنية منهم من يصرّح برفع النقيضين: الوجود والعدم، ورفعهما كجمعهما".
أقول: معناه أن طائفة من الباطنية تزعم أن الله لا موجود ولا معدوم فيرفعون الوجود والعدم.
ولا شك أن نفي الوجود والعدم عن الله تعالى كجمعهما في البطلان، كمن قال: إن الله معدوم وموجود وكلاهما من أوضح الأباطيل.
13 ـ معنى قول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ومن يقول: لا أثبت واحداً منهما" إلى آخره.
معناه: أن هذا الباطني الجهمي المعطل الغالي يزعم أنه لا يقول: إن الله عالم كما لا يقول إنه جاهل، كما أنه لا يقول إنه حي كذلك لا يقول إنه ميت فلا يثبت هذا ولا هذا، بل يتوقف في ثبوت كل واحد منها.
أجاب شيخ الإسلام عن هذه الشبهة بجوابين:
• الجواب الأول: إن امتناع هذا الجهمي عن إثبات أحد هاتين الصفتين لا يستلزم نفيهما في نفس الأمر؛ لأن الامتناع عن إثبات شيء لا يمنع تحقق ضد ذلك الشيء في نفس الأمر، لأن جهل الجاهل وسكوت الساكت لا يعبر عن الحقائق لأن عدم العلم بالشيء ليس علماً بعدمه وامتناعه، فإن الجاهل بالشيء لا يقتضي جهله أن يحكم بأنه غير موجود، وكذا الساكت عن الشيء والمتوقف فيه لا يقتضي توقفه وسكوته بأنه غير موجود.
• والجواب الثاني: أن ما يقبل الحياة والموت والعلم والجهل أكمل حالاً مما لا يقبل الحياة ولا الموت ولا العلم ولا الجهل، فإن نفيت عن الله تعالى الحياة والعلم مثلاً فقد شبهت الله تعالى بما لا يقبل الحياة ولا العلم.
وما لا يقبل الحياة ولا العلم أقرب إلى الامتناع مما يقبل تلك الصفات.
فصار هذا المعطل أعظم مشبه، لأنه قد شبه الله تعالى بالمعدومات والممتنعات.
ولهذا قال شيخ الإسلام في الرد عليهم:
"وإذا كان ما لا يقبل الوجود ولا العدم أعظم امتناعاً مما يقدر قبوله لهما. فما يُقدَّر لا يقبل الحياة ولا الموت ولا العلم ولا الجهل ولا القدرة ولا العجز
…
أقرب إلى المعدوم والممتنع مما يُقدَّر قابلاً لهما مع نفيهما عنه
…
".
الرد على الممثلة والمعطلة بالأصل الثاني
قال شيخ الإسلام:
"وهذا يتبيّن بالأصل الثاني، وهو أن يُقال: القول في الصفات كالقول في الذات، فإن الله ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فإذا كان له ذات حقيقة لا تماثل الذوات، فالذات متصفة بصفات حقيقة لا تماثل صفات سائر الذوات.
فإذا قال السائل: كيف استوى على العرش؟
قيل له ـ كما قال ربيعة ومالك وغيرهما ـ: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عن الكيفية بدعة1. لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر، ولا يمكنهم الإجابة عنه.
وكذلك إذا قال: كيف ينزل ربنا إلى سماء الدنيا؟
قيل له: كيف هو؟
فإذا قال: أنا لا أعلم كيفيته.
قيل له ونحن لا نعلم كيفية نزوله، إذ العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، وهو فرع له، وتابع له، فكيف تطالبني بالعلم بكيفية سمعه وبصره وتكليمه ونزوله واستوائه، وأنت لا تعلم كيفية ذاته؟!
1 أخرج قول الإمام مالك ابن عبد البر في التمهيد (7/138) . وأما قول ربيعة فأخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة (3/398) .
وإذا كنت تقرّ بأن له ذاتاً حقيقة، ثابتة في نفس الأمر، مستوجبة لصفات الكمال، لا يماثلها شيء، فسمعه وبصره، وكلامه ونزوله واستواؤه ثابت في نفس الأمر، وهو متصف بصفات الكمال التي لا يشابهه فيها سمع المخلوقين وبصرهم، وكلامهم ونزولهم واستواؤهم.
وهذا الكلام لازم لهم في العقليات وفي تأويل السمعيات، فإن من أثبت شيئاً ونفى شيئاً بالعقل، إذاً ألزم فيما نفاه من الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة نظير ما يلزمه فيما أثبته، وطولب بالفرق بين المحذور في هذا وهذا لم يجد بينهما فرقاً.
ولهذا لا يُوجد لنفاة بعض الصفات دون بعض ـ الذين يوجبون فيما نفوه إما التفويض، وإما التأويل المخالف لمقتضى اللفظ ـ قانون مستقيم، فإذا قيل لهم: لِمَ تأوّلتم هذا وأقررتم هذا، والسؤال فيهما واحد؟ لم يكن لهم جوابٌ صحيح. فهذا تناقض في النفي.
وكذلك تناقضهم في الإثبات، فإن من تأوّل النصوص على معنى من المعاني التي يثبتها فإنهم إذا صرفوا النص عن المعنى الذي هو مقتضاه إلى معنى آخر، لزمهم في المعنى المصروف إليه ما كان يلزمهم في المعنى المصروف عنه، فإذا قال قائل: تأويل محبته ورضاه وغضبه وسخطه هو إرادته للثواب والعقاب، كان ما يلزمه في الإرادة نظير ما يلزمه في الحب والمقت والرضا والسخط، ولو فسِّر ذلك بمفعولاته وهو ما يخلقه من الثواب والعقاب، فإنه يلزمه في ذلك نظير ما فرّ منه، فإن الفعل المعقول لا بدّ أن يقوم أولا بالفاعل، والثواب والعقاب المفعول إنما يكون على فعل ما يحبه ويرضاه، ويسخطه ويبغضه المثيب والمعاقب، فهم إن أثبتوا الفعل على مثل الوجه المعقول في الشاهد للعبد مثَّلوا، وإن أثبتوه على خلاف ذلك، فكذلك سائر الصفات".
معاني الكلمات:
بالأصل: الأصل في اللغة: ما يبنى عليه غيره، ويطلق في الاصطلاح على معان منها الدليل والمعنى والجامع.
الذات: هي حقيقة الشيء وعينه.
عناصر الموضوع:
1 ـ موضوع الأصل الثاني:
موضوع الأصل الثاني هو الرد على الذين أثبتوا الأسماء ونفوا الصفات وهم المعتزلة.
فيقال لهم كما أنكم تثبتون لله تعالى ذاتاً حقيقة على ما يليق بجلاله من غير تشبيه لذات الخالق بذوات المخلوقين، فكذلك صفاته ثابتة بنفس المنهج وبنفس الطريقة؛ إذ لا يعقل أن توجد ذاتٌ مجردة عن الصفات، فكما أن لله ذاتاً لا تشبه ذوات المخلوقين، فكذلك لله صفاتٌ لا تشبه صفات المخلوقين.
وبهذه الطريقة نلزمهم إثبات الصفات على ما يليق بجلال الله وكماله، ولا ريب أن هذا الأصل ملزم للمعطلة جميعهم، فإما أن يثبتوا الصفات كما أثبتوا الذات من غير معرفة الكيفية، أو ينفوا الأسماء الواردة والصفات والذات، فيكونوا بذلك نافين لوجود الله؛ لأنه لا فرق بين الذات وبين الصفات من حيث الإثبات.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: "أما الكلام في الصفات: فإن ما رُوي منها في السنن الصحاح، مذهب السلف رضي الله عنهم إثباتها وإجراؤها على ظاهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها
…
والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرعٌ عن الكلام في الذات، ويحتذي في ذلك حذوه ومثاله.
فإذا كان معلوماً أن إثبات رب العالمين عز وجل إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف، فكذلك إثبات صفاته، إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف"1.
1 ذمّ التأويل لابن قدامة (ص14) ، وكذا ذكر الذهبي كلام البغدادي في تذكرة الحفّاظ (3/1142) .
2 ـ لماذا عقد شيخ الإسلام الأصل الثاني؟
عقد شيخ الإسلام هذا الأصل لبيان أن ما يجب اعتقاده في الذات يجب اعتقاده في الصفات، فكما أننا نثبت ذاتاً لائقة بالله عز وجل فكذلك نثبت صفاتٍ لائقة بالله تعالى.
فمن أثبت لله ذاتاً لا تماثل ذوات المخلوقين لزمه أن يثبت له صفات لا تماثل صفات المخلوقين، لأن القول في الصفات كالقول في الذات، فكما أن لله ذات حقيقية فصفاته حقيقية، وكما أنه لا يلزم من إثبات الذات تشبيهاً، فإنه لا يلزم من إثبات الصفات تشبيهاً، فليس له شبيهاً لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، وكما أننا لا نفهم كُنْهَ ذات الله لا نعلم أيضاً كُنْهَ صفات الله.
3 ـ الطوائف التي يرد عليها شيخ الإسلام بالأصل الثاني:
يرد شيخ الإسلام بهذا الأصل على جميع فرق المعطلة؛ لأن كل من لم يقر بوجود الله فإنه يقر بأن له ذاتاً لا تشبه ذوات المخلوقين، ومن أثبت ذاتاً لزمه أن يثبت له صفاتٍ وإلا شبهه بالمعدومات والطوائف التي يرد عليها بهذا الأصل هم: الفلاسفة الجهمية الذين ينفون جميع الصفات، والباطنية والمعتزلة فهؤلاء جميعاً يثبتون ذاتاً لله مجردة من الصفات، أما الأشاعرة فيكفي الأصل الأول في الرد عليهم وإبطال مذهبهم.
وكذلك يرد بهذا الأصل على الممثلة الذين يمثلون صفات الرب ويكيفونها فيقولون كيف استوى؟ وكيف ينزل؟ وكيف يجيء؟
4 ـ الرد على الممثلة:
يُردّ عليهم بجوابين:
1 ـ ما ورد عن السلف كمالك وربيعة وغيرهم أن كيفية الصفة غير معقولة لنا ولا يعلمه العباد؟ فنقول: إنما تعرف كيفية الشيء بمشاهدته أو مشاهدة نظير له والله لا نظير له، فالصفات معلومة المعنى مجهولة الكيفية.
2 ـ وهو رد عقلي وهو مستفاد من الأصل الثاني الذي ذكره شيخ
الإسلام، فإذا قال كيف ينزل ربنا إلى السماء الدنيا؟ نقول: كيف ذات الله؟ فإن قال: لا أعلم كيفية ذات الله. نقول: نحن لا نعلم كيفية صفات الله، فالعلم بكيفية الموصوف فرع للعلم بكيفية الصفة وتابع له.
فإذا امتنع العلم بكيفية الذات امتنع العلم بكيفية الصفات. فإذا كنت تقر بأن له ذاتاً لا تشبه سائر الذوات وأن له حقيقة ثابتة في نفس الأمر فيلزمك أن تقر بأن له صفات، وصفاته لا تشبه سائر الصفات.
5 ـ الممثلة وطريقتهم في الصفات، شبهتهم والرد عليهم:
الممثلة هو الذين غلوا في جانب الإثبات وقصّروا في جانب النفي.
وطريقتهم في الصفات: أنهم أثبتوا لله صفاتٍ على وجه يماثل صفات المخلوقين فقالوا: لله سمع كسمع المخلوقين ووجه كوجههم.
• شبهتهم: قالوا: إن الله خطبنا في القرآن بما نفهم ونعقل، ونحن لا نفهم ولا نعقل إلا ما كان مشاهدة فإذا خاطبنا عن الغائب بشيء وجب حمله على المعلوم في الشاهد.
• الرد عليهم: قولهم هذا باطل مردود لأن الله يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، وقال:{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ} [النحل: 74] ، ثم إن القول بالمماثلة بين الخالق والمخلوق يستلزم نقص الخالق سبحانه لأن تمثيل الكمال بالناقص يجعله ناقصاً.
6 ـ معنى قول الإمام مالك: الاستواء معلوم والكيف مجهول:
يقرر الإمام مالك أصلاً من أصول أهل السنة والجماعة ألا وهو أن الصفة معلومة المعنى بمقتضى اللسان العربي المبين الذي نزل به القرآن، وأن الكيفية مجهولة إذ استأثر الله بعلمها، فهي غير معلومة للعباد وإليك التفصيل فيما يأتي:
قول الإمام مالك: "الاستواء معلوم" أي: معلوم المعنى في اللغة العربية التي نزل الله بها القرآن، ولها معان بحسب إطلاقه وتقييده بالحرف.
فإذا قيد بـ "على" كان معناه العلو والاستقرار كما قال تعالى: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ
مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} [المؤمنون: 28]، وكذلك قوله:{لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِه ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: 13] ، فاستواء الله تعالى على عرشه علوه عليه علواً خاصاً يليق به على كيفية لا نعلمها ولا تماثل صفة المخلوقين، وليس هو العلو المطلق على سائر المخلوقات.
وقوله: "والكيف مجهول" أي: أن كيفية استواء الله على عرشه مجهولة لنا، وذلك لوجوه ثلاثة:
1 ـ أن الله أخبر أنه استوى على عرشه ولم يخبرنا كيف استوى.
2 ـ أن العلم بكيفية الصفة فرع عن العلم بكيفية الموصوف وهو الذات، فإذا كنا لا نعلم كيفية ذات الله، فكذلك لا نعلم كيفية صفاته.
3 ـ أن الشيء لا تعلم كيفيته إلا بمشاهدته، أو مشاهدة نظيره أو الخبر الصادق عنه وكل ذلك منتفٍ في استواء الله عز وجل على عرشه، وهذا يدل على أن السلف يثبتون للاستواء كيفية لكنها مجهولة لنا.
وقول: "والإيمان به واجب" أي: أن الإيمان بالاستواء على هذا الوجه واجب؛ لأن الله تعالى أخبر به عن نفسه، وهو أعلم بنفسه، وأصدق قولاً وأحسن حديثاًَ فاجتمع في خبره كمال العلم، وكمال الصدق وكمال الإرادة وكمال الفصاحة والبيان، فوجب قبوله والإيمان به.
وقوله: "والسؤال عنه" أي: عن كيفيته "بدعة"؛ لأن السؤال عنها لم يُعرف في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفائه الراشدين، وهو من الأمور الغيبية فكان إيراده بدعة، ولأن السؤال عن مثل ذلك من سمات أهل البدع، ثم إن السؤال عنه مما لا تمكن الإجابة عليه فهو من التنطع في الدين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:"هلك المتنطعون".
وهذا القول الذي قاله مالك وشيخُه يقال في صفة نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا وغيره من الصفات: إنها معلومة المعنى، مجهولة الكيفية، وأن الإيمان بها على الوجه المراد بها واجب، والسؤال عن كيفيتها بدعة.
7 ـ مذهب السلف وسط بين التمثيل والتعطيل:
أهل السنة والجماعة لا يمثلون صفاتِ الله بصفات خلقه، كما لا يمثلون ذاته بذات خلقه، ولا ينفون عنه ما وصف به نفسه ووصف به رسوله، فلا يعطلون أسمائه الحسنى وصفاته العلى، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، فهم وسط بين التعطيل والتمثيل، وكل واحد من فريقي التعطيل والتمثيل فهو جامع بين التعطيل والتمثيل، أما المعطلون فإنهم مثلوا أولاً إذ لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوق، ثم شرعوا في نفي تلك المفهومات فجمعوا بذلك بين التعطيل والتمثيل حيث مثلوا أولاً وعطّلوا آخراً، وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسمائه وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم، وتعطيلٌ لما يستحقه الله من الأسماء والصفات اللائقة به.
8 ـ كل ممثل معطل وكل معطل ممثل:
كل واحد من فريقي التمثيل والتعطيل فهو جامع بين التمثيل والتعطيل.
• أما الممثل: فقد عطّل الصفة الحقيقية تحت ستار التمثيل ففي قوله: استواء كاستوائي أو كأي استواء تعطيل للصفة الحقيقية التي عليها استواء الحق سبحانه وتعالى، حيث منع ظهورها على الوجه الحقيقي بالقول الباطل الذي رفعه.
• أما المعطلون: فلأنهم لم يفهموا من أسماء الله وصفاته إلا ما هو اللائق بالمخلوقات فقالوا: لو كان على العرش لكان محمولاً، ثم شرعوا في نفي تلك الصفة التي اعتقدوها وتعطيلها فجمعوا بين التعطيل والتمثيل.
ـ مثّلوا أولاً.
ـ وعطّلوا آخراً.
وهذا تشبيه وتمثيل منهم للمفهوم من أسماء الله وصفاته بالمفهوم من أسماء خلقه وصفاتهم.
9 ـ الممثل يعبد صنماً والمعطل يعبد عدماً:
• فالممثل: اعتقد أو تصور في ذهنه صورةً لربه نحتها من خياله وزعم أنها حقيقة ما دلّت عليه نصوص الكتاب والسنة ثم عبدها من دون الله؛ فهو في الحقيقة يعبد صنماً.
• أما المعطل: فلأن اعتقاده مبني على النفي المحض المفرغ من الإثبات والتنكر لمعظم الصفات، فهو لا يثبت شيئاً كما تقدم كان كالذي لا يعبد إلا العدم المحض.
1.
ـ الأسئلة والأجوبة الواردة على الأصلين الشريفين:
س1 ـ اذكر بإيجاز الأصلين اللذين ذكرهما الشيخ رداً على كل من الماتريدية والأشاعرة، والمعتزلة والجهمية في باب الأسماء والصفات؟
ج ـ الأصل الأول: لأن يقال إن القول في بعض الصفات كالقول في البعض الآخر.
فيقال للمفرق بين الصفات، إما أن تثبت جميع الصفات أو تنفيها معاً لأن الكل من باب واحد. فالذي يلزم من المحذور في بعضها يلزم في بعضها الآخر.
الأصل الثاني: أن القول في الصفات كالقول في الذات؛ فكما أن لله ذاتاً لا تشبه الذوات فكذلك له صفات لا تشبه الصفات، فالصفاتُ فرع من الذات فما يقال فيها يقال في الصفات.
س2 ـ عرّف الأشاعرة واذكر مذهبهم في الصفات مع الرد عليهم؟
ج ـ أولاً: التعريف بالأشاعرة: فالأشاعرة وهم المنسوبون إلى الإمام أبي الحسن الأشعري وهو علي بن إسماعيل بن أبي بشر ينتهي نسبه إلى الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري.
ثانياً ـ مذهب الأشاعرة في الصفات:
1 ـ أنهم يقرون بالأسماء مع سبع صفات وهي: (الحياة، والقدرة، والعلم، والكلام، والإرادة، والسمع، والبصر) .
2 ـ أنهم يجعلون هذه الصفات حقيقية وليست مجازية.
3 ـ أنهم ينازعون في غيرها من الصفات كالمحبة والغضب.
4 ـ أنهم يجعلون هذه الصفات مجازاً، ويفسرونها بأحد تفسيرين:
أـ بالإرادة: فيقولون: المحبة هي إرادة الثواب، والغضب إرادة الانتقام وهكذا.
ب ـ بالإنعام والعقوبة: فيقولون: المحبة هي الإنعام، والغضب هو العقوبة.
* وباختصار فمذهبهم: أنهم يثبتون لله الأسماء مع سبع صفات فقط وهي (الحياة، والقدرة، والعلم، والكلام، والإرادة، والسمع، والبصر) .
وهذه الصفات يثبتونها حقيقة ويؤولون باقي الصفات.
وحقيقة صفة الكلام عندهم هي المعنى النفسي، لا الكلام الحقيقي المشتمل على الحرف والصوت.
ثالثاً ـ الرد على مذهب الأشاعرة:
يقال لهم: لا فرق بين ما نفيتموه من الرحمة والغضب والمحبة وغيرها وبين ما أثبتموه من الإرادة والكلام
…
فإن القول في أحدهما كالقول في الآخر، ويلزمكم أحد ثلاثة لوازم:
1 ـ أن تقولوا: إن إرادته مثل إرادة المخلوق فكذا المحبة وغيرها، فتقعوا في التمثيل.
2 ـ أن تنفوا الجميع فراراً من الوقوع في التمثيل فتقعوا في التعطيل.
3 ـ أن تقولوا فيما تثبتونه من الإرادة والكلام إنها ثابتة له كما تليق به كما أن للمخلوق إرادة تليق به، وحينئذٍ يلزمكم هذا في المحبة والغضب فتقولوا: له محبة كما تليق به، كما أن للمخلوق محبة تليق به وهكذا.
س3 ـ هل الأشاعرة من أهل السنة والجماعة أو لا؟
ج ـ اختلف في ذلك على قولين:
• القول الأول: أنهم ليسوا من أهل السنة والجماعة وممن لم يعدهم من أهل السنة والجماعة ابن بطة صاحب كتاب (الإبانة في أصول الديانة)، والسجزي صاحب كتاب:(الصوت والحرف) .
• القول الثاني: أنهم يعدون من أهل السنة والجماعة في الأصول التي وافقوا فيها أهل السنة، وليسوا منهم في الأصول التي خالفوهم فيها، وممن قال بهذا الشيخ عبد العزيز عبد الله بن باز والشيخ الألباني رحمهما الله تعالى.
ـ فمن الأصول التي وافقوا فيها أهل السنة والجماعة ما يلي:
1 ـ في الصحابة: فالأشاعرة والماتريدية يوافقون أهل السنة والجماعة في الصحابة ولا يخالفونهم فيهم، فأفضلهم عندهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين ويمسكون عن ما شجر بينهم، ويترضون عليهم، ويوالون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2 ـ في الإمامة: يرون أنه لا بد من تعيين إمام وطاعته بالمعروف والجهاد معه ودم الخروج عليه.
3 ـ في مسائل اليوم الآخر: من الصراط والميزان والحوض والجنة والنار وأنهما مخلوقتان لا فناء لهما.
ومن الأصول التي خالفوا فيها أهل السنة والجماعة ما يلي:
1 ـ في التوحيد: فهم اقتصروا على توحيد الربوبية، وزعموا أن الغاية من خلق الخلق وإرسال الرسل هو توحيد الربوبية. وأنكروا توحيد الألوهية.
2 ـ في الصفات: فهم لم يثبتوا لله عز وجل إلا سبع صفات ويؤّولون باقي الصفات.
3 ـ في الإيمان: زعموا أن الإيمان هو تصديق بالقلب فقط.
4 ـ في القدر: زعموا أن العبد يكسب الفعل وليس له إرادة واختيار في كسبه. وهو مذهب الجهمية.
5 ـ في العقل والنقل: فهم يرون تقديم العقل على النقل في مسائل التوحيد والغيبيات والإيمان، ويطلقون على ذلك (العقليات والإلهيات) غير أنهم مسلمون بما ورد في الكتاب والسنة من اليوم الآخر ويسمونه (بالسمعيات) .
6 ـ في خبر الواحد: فهم لا يرون خبر الواحد في مسائل الاعتقاد.
7 ـ في مسائل التحسين والتقبيح العقليين.
س4 ـ إذا احتج الأشاعرة بدلالة العقل على ما يثبتونه فكيف ترد عليهم؟
ج ـ أولاً: ننقل احتجاجهم في إثبات الصفات السبعة ثم نرد عليهم.
احتج الأشاعرة في إثباتهم للصفات السبعة بأن العقل قد أثبت هذه الصفات ودل عليها وهي كما يلي:
1 ـ القدرة: دل عليها الفعل الحادث: فالفعل هنا مصدر بمعنى المفعول والمقصود وجود المخلوقات.
2 ـ الإرادة: دل عليها التخصيص: أي تميز كل شيء بميزة تخصه من صفة أو وقت أو مكان دليل على إرادة الله لذلك.
3 ـ العلم: دل عليه الإحكام والإتقان في المخلوقات، فهذا لا يكون إلا بكامل العلم.
4 ـ الحياة: لأن القدرة والإرادة والعلم لا تقوم إلا بالحي، فهي مستلزمة للحياة.
5 ـ السمع.
6 ـ البصر.
7 ـ والكلام: لأن الحي لا يخلو من السمع والبصر والكلام أو ضدها من الصمم والعمى والخرس، وهذه الأضداد نقائص يتنزه الله عنها فوجب إثبات الكمال له. وبهذه الدلالات العقلية أثبت الأشاعرة تلك الصفات.
ثانياً: جواب أهل السنة عليهم:
أجاب أهل السنة على ذلك بجوابين شافيين وهما كما يلي:
• الجواب الأول: على فرض التسليم: أي على فرض التسليم بأن العقل دل على هذه السبع الصفات ولم يدل على غيرها، ومضمون هذا الجواب من ثلاث مقدمات ونتيجة:
المقدمة الأولى: أن عدم الدليل المعين وهو هنا العقل لا يستلزم عدم المدلول المعين وهو هنا بقية الصفات، فلو قدرنا أن العقل لا يدل على بقية الصفات لكنه لا ينفيها لعدم مصادمتها للعقل.
المقدمة الثانية: وما دام أن العقل لا ينفيها فلا يجوز نفيها بلا دليل؛ لأن النافي عليه الدليل على نفيه كما أن المثبت عليه الدليل كما قال تعالى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى} [البقرة: 111] فهنا نفوا دخول الجنة لغيرهم فطالبهم الله بالدليل في قوله: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة: 111] .
المقدمة الثالثة: أن السمع ـ النقل ـ قد دل على بقية الصفات كما سبق سرد الآيات فيها، وهذا السمع لم يعارضه صريح العقل كما قلنا ولم يعارضه دليل في النقل أيضاً.
فالنتيجة: أنه يجب إثبات ما أثبته الدليل السالم من المعارض المقاوم له، وهو هنا دليل النقل فإنه سلم من أي معارض فالأصل بقاؤه، وهذا هو المطلوب.
• الجواب الثاني على فرض المنع:
هذا الجواب مبني على منع قولهم بأن العقل لا يدل على غير تلك الصفات السبع، بل نستطيع أن ندلل على باقي الصفات بنظير ما دللتم به على تلك الصفات من العقليات فنقول:
1 ـ الرحمة: يدل عليها نفع العباد بالإحسان إليهم كدلالة التخصيص على المشيئة عندكم.
2 ـ المحبة: يدل عليها إكرام الطائعين في الدنيا والآخرة.
3 ـ البغض: يدل عليه عقاب الكافرين عاجلاً وآجلاً.
4 ـ الحكمة: تدل عليها الغايات المحمودة في مفعولاته ومأموراته أي في مخلوقاته وشرائعه.
ودلالة العواقب الحميدة على الحكمة التي ينازع فيها الأشاعرة كدلالة التخصيص على الإرادة بل هي أولى.
س5 ـ قال شيخ الإسلام: "الأصل الأول: القول في بعض الصفات كالقول في بعض" على من يرد بهذا الأصل؟
ج ـ يرد بهذا الأصل على كل الطوائف السابقة وبالأخص الأشاعرة والمعتزلة والجهمية.
س6 ـ ما معنى العلة الغائية والعلة الفاعلية؟
ج ـ العلة نوعان:
1 ـ علة فاعلية.2 ـ علة غائية.
1 ـ علة فاعلية: وهي سبب وجود الشيء، فيقال: علة وجود الخلق قدرة الله وخلقه، مثالها في القرآن قوله تعالى:{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يّس: 82] .
2 ـ علة غائية: وهي الغاية من وجود الشيء، فيقال: علة وجود الخلق عبادة الله تعالى، ومثالها في القرآن قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] .
س7 ـ ما مذهب الجهمية وما شبهتهم؟ وكيف يجاب عنهم؟
ج ـ أولاًـ مذهبهم: أنهم ينفون الأسماء والصفات فيقولون: لا موجود ولا حي ولا عليم ولا قدير، بل هذه الأسماء لمخلوقاته، أو هي مجرد
مجازات لا حقيقة لها.
ثانياً ـ شبهتهم: شبهتهم في ذلك أن الإثبات يستلزم التشبيه بالموجودات الحية العليمة القديرة.
ثالثاً ـ الجواب على شبهتهم من وجهين:
• الوجه الأول: على فرض التسليم بأن الإثبات يستلزم التشبيه بالموجودات فكذلك النفي يستلزم التشبيه بالمعدومات، وذلك أقبح من التشبيه بالموجودات.
• الوجه الثاني: على فرض المنع، وهو أن إثبات الأسماء والصفات لا يستلزم التشبيه وغاية ما يحصل هو إثبات القدر المشترك الكلي عند الإطلاق، ولذا فإن التشبيه الذي نفته الأدلة النقلية والعقلية ليس هو الاتفاق في المسميات وإنما نفت ما يستلزم اشتراك الخالق والمخلوق فيما يختص به الخالق من صفات الكمال.
س8 ـ ما الاعتراض المشهور للباطنية وما الجواب عليه باختصار؟
ج ـ الاعتراض المشهور عندهم هو الاعتراض المبني على ما مقدمات ثلاث ونتيجة:
المقدمة الأولى: أن نفي النقيضين إنما يمتنع عما يكون قابلاً للنقيضين.
المقدمة الثانية: أن هذه المتقابلات هي من قبيل تقابل الملكة والعدم أي قد يرتفعان عن المحل الذي لا يقبلهما.
المقدمة الثالثة: أن الله تعالى ليس بقابل لهذه المتقابلات أصلاً.
ـ والنتيجة عندهم: أن الله لا يمتنع عليه رفع النقيضين لأنه ليس بقابل لهما أصلاً.
الجواب على هذا الاعتراض من ثلاثة وجوه:
• الوجه الأول ـ على فرض المنع: إن هذا الكلام وهو أن هذه المتقابلات من قبيل الملكة والعدم على نوعين:
1 ـ الوجود والعدم وهذا لا يصح كونهما في الملكة والعدم لأنهما من قبيل السلب والإيجاب، أي النقيضين عند عامة العقلاء فيلزم من رفع أحدهما ثبوت الآخر ويستحيل جمعهما أو رفعهما معاً؛ فلا بد أن يكون الشيء إما موجوداً وإما معدوماً لا ثالث لهما، وهذا مما لا يختلف فيه العقلاء.
2 ـ أما الحياة والموت والعلم والجهل فتسميتهما بالملكة والعدم ومع اتصاف الجمادات بها إنما هو اصطلاح المشائين وهم أتباع أرسطو، وسموا بذلك لأنه كان يلقي الدرس وهو يتمشى والتلاميذ يسيرون من حوله وهذا الاصطلاح مردود لوجوه منها:
أولاً: أنه معلوم عقلاً أن ما ليس بحي فهو ميت، وما ليس بعالم فهو جاهل والاصطلاحات لا تدل على نفي الحقائق العقلية الثابتة.
ثانياً: أن الله وصف الجمادات بالموت كما في قوله تعالى: {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل: 21] .
ثالثاً: أن تسمية الجمادات بالأموات مشهور في لغة العرب كتسميتهم الأرض الجرداء بالميتة ويقال: إحياء الموات، وغيره كثير.
• الوجه الثاني ـ على فرض التسليم:
لو سلمنا بأن الله تعالى لا يقبل المتقابلات وإنها كتقابل الملكة والعدم في حقه فيقال:
1 ـ إن ما لا يقبل الاتصاف بالحياة والموت والعمى والبصر وغيرها، أنقص مما يقبل ذلك، فالأعمى الذي لا يقبل الاتصاف بالبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل الاتصاف بالعمى ولا بالبصر، فأنت فررت من تشبيهه بالأحياء القابلة لصفات الكمال فوصفته بالجمادات غير القابلة لها.
2 ـ وأيضاً فإن ما لا يقبل الوجود والعدم أعظم امتناعاً مما يقبلهما، بل ما لا يقبلهما أعظم امتناعاً مما يقبل اجتماعهما أو ارتفاعهما، فإذا كان اجتماعهما وارتفاعهما ممتنعاً في صرائح العقول فعدم قبوله لهما أعظم امتناعاً، فبقولك هذا جعلت الواجب الذي لا يقبل أي عدم هو أعظم الممتنعات وهذا غاية التناقض والفساد.
• الوجه الثالث: أن اتفاق الشيئين في بعض الأسماء والصفات ليس هو التشبيه والتمثيل الذي نفته الأدلة النقلية والعقلية؛ وإنما التشبيه المنفي هو الذي يستلزم اشتراك المخلوق فيما يختص به الخالق، فما يجب على الله يختلف عما يجب على المخلوق كذلك ما يمتنع على الله يختلف عما يمتنع على المخلوق وهكذا الجواز، فهذه الخصائص لا يمكن أن تشترك بين الخالق والمخلوق. وأما ما نفاه هؤلاء فهو ثابت له تعالى وإنما سموه تشبيهاً وتجسيماً ليموّهوا على العوام وينفروا الجهال عن إثبات صفات الكمال، وبهذا أفسدوا على الناس دينهم وهذه طريقة أهل البدع.
س9 ـ تكلم عن شبهة التركيب: من حيث معناها، والقائلون بها، الرد عليهم؟
ج ـ أولاً: معنى شبهة التركيب:
معناها: أن إثبات العلم والقدرة والإرادة وغيرها يستلزم تعدد الصفات وها التركيب ممتنع لأنها صفات متغايرة فيلزم أن يكون الموصوف بها مركباً منها، وفي هذا تشبيه بالمخلوق فلذلك فهم يقولون: إن جميع الصفات بمعنى واحد وهي عين ذاته وليست شيئاً زائداً.
ثانياً: القائلون بهذه الشبهة:
القائلون بها هم الفلاسفة ومن تبعهم من المعتزلة وغيرهم من نفاة الصفات.
ثالثاً: الرد عليهم: من ثلاثة وجوه:
• الوجه الأول ـ على فرض التسليم: أي على فرض التسليم بأنه تركيب فأنتم أيضاً تقولون في الله هو موجود واجب، وعقل وعاقل ومعقول، وعاشق ومعشوق، ولذيذ وملتذ ولذة، وهذه المعاني متعددة متغايرة المعنى وأنتم تثبتونها فهو تركيب كذلك على مذهبكم وأنتم تسمونه توحيداً، وهذا غاية الاضطراب.
ـ وهذه المعاني مع كونها دليلاً عليهم لم يرد بها النص وفيها ما ينزه عنه تعالى من النقص.
* فالعقل: مأخوذ من المنع لأنه يضبط النفس لما فيها من القصور، وهذا لا يليق بالله تعالى.
* والعشق: هو الحب المفرط المتعلق بالشهوة، وهذا باطل ينزه الله عنه.
* واللذة: لم ترد بها النصوص الشرعية، فجميع هذه المعاني باطلة، وإن تعسفوا في تفسيرها.
اعتراض: إن قالوا إن هذه الإطلاقات توحيد وليست تركيباً ممتنعاً.
الجواب: أن اتصاف الذات بالصفات اللازمة لها توحيد كذلك وليس بتركيب ممتنع بل هي أولى لدلالة النقل عليها وموافقة العقل لها.
• الوجه الثاني ـ على فرض المنع: هذا الجواب مبني على منع قولهم: إن جميع الصفات بمعنى واحد وأنها هي عين ذاتها لا شيئاً زائداً، ويكون المنع بالإبطال من ثلاثة وجوه:
1 ـ أنه من المعلوم بصريح العقل الاختلاف بين كون الشيء عالماً وبين كونه قادراً وبين نفس الذات ومعاني الصفات، فإن كون الموصوف عالماً قادراً زائداً على مجرد الذات.
قمن جوَّز أن تكون هذه الصفة هي الأخرى أو هذه الصفة هي الموصوف فهو من أعظم الناس سفسطة وتمويهاً ومكابرة لصريح المعقول وصحيح المنقول.
2 ـ ثم في قولهم هذا تناقض واضح ووجهه: أنه إن لم يكن للواجب وهو الله تعالى صفات تميزه عن غيره لم يكن واجباً لأن الشيء المجرد عن جميع الصفات ممتنع الوجود فلا يكون واجباً ضرورة، وهؤلاء إنما نفوا التركيب لأنه يستلزم عندهم نفي الوجوب فوقعوا ـ بنفي التركيب ـ في نفي الوجوب الذي فروا منه ووقعوا في التناقض الواضح الفاضح.
3 ـ ثم إن جوزنا أن تكون الصفة هي عين الذات جاز أن يكون وجود هذا هو وجود هذا؛ لأن صفة الخلق والإحداث تصبح هي عين الخالق فيكون المخلوق هو الخالق، وهذا يقتضي أن الوجود واحد بالعين أي متحد بين الخالق ومخلوقاته وليس مشتملاً على أفراد متنوعة، وهذا مدخل أهل وحدة
الوجود، وهم: الذين لا يثبتون وجوداً متنوعاً بل عندهم وجود واحد والخالق هو المخلوق تعالى الله عن قولهم.
وعليه يكون وجود الممكن المخلوق هو عين وجود الواجب الذي لا يقبل العدم، وهذا القول هو الذي يفضي إليه زعمهم بأن الصفات عين الذات والله أعلم.
• الوجه الثالث ـ الاستفصال: وهو أن يستفصل عن هذا اللفظ فإن لفظ التركيب أصبح من الألفاظ المجملة التي عارض بها المبتدعة النصوص، وقد بين شيخ الإسلام حكم الألفاظ المجملة بقوله:"والمقصود هنا أن الأئمة الكبار كانوا يمنعون من إطلاق الألفاظ المبتدعة المجملة لما فيها من لبس الحق بالباطل مع ما توقعه في الاشتباه والاختلاف والفتنة".
وقال:"فمن لم يستفصل عنها المتكلم بها
…
كما كان السلف والأئمة صار متناقضاً أو مبتدعاً من حيث لا يشعر" وسيأتي تفصيل ذلك في القاعدة الثانية بإذن الله.
فيقال في التركيب إن له معان منها:
1 ـ المركب: ما كان متفرقاً فركبه غيره، وهذا لا يجوز وصف الله به بل ولم يعتقده أحد من طوائف الأمة.
2 ـ المركب: ما له أبعاض مختلفة، ويقبل التفريق والانفصال والله تعالى مقدس عن ذلك.
3 ـ المركب: ما يقيل الانقسام والتفريق وإن كان بسيطاً غير مركب من أعضاء كالماء، والله منزه عنه أيضاً فهذه المعاني لا تختلف في نفيها مع المتفلسفة والمعتزلة، ولكنهم لا يعنون بنفيهم للتراكيب ما سبق بل لكل منهم اصطلاحات خاصة في لفظ للتركيب أوجبوا نفيها وزعموا أن التوحيد لا يتم إلا بنفيها،
قال شيخ الإسلام: "وهؤلاء أحدثوا اصطلاحاً لهم في لفظ التركيب لم يسبقهم إليه أحد من أهل اللغة ولا من طوائف أهل العلم".
ومنها:
ـ أن التركيب هو ما تركب من الذات والصفات كمسمى الحي والعالم والقادر، وهذا إن سلمنا أنه تركيب فنفيه باطل كما سبق في الوجه الثاني.
س10 ـ إذا قال بعض النفاة: أنا أنفي النفي والإثبات فما مقصوده بذلك؟ وما الذي يلزمه تجاه ذلك.
ج ـ إذا قال بعض النفاة هذه المقولة فمقصوده أن ذلك لا يلزمه التشبيه بالموجودات ونقول له يلزمك التشبيه بالمعدومات بل بالممتنعات؛ لأنه يمتنع أن يكون الشيء موجوداً أو ممنوعاً وكما يمتنع أن يكون الشيء لا هو موجود ولا هو معدوم، فالأعمى الذي يقبل الاتصاف بالبصر أكمل من الجماد الذي لا يقبل الاتصاف به.
س11 ـ ما المراد بالتشبيه الذي نفته الأدلة السمعية والعقلية. وهل من ذلك اتفاق المسميين في بعض الأسماء والصفات؟
ج ـ المراد بالتشبيه المنفي هو الذي يستلزم اشتراك الخالق بالمخلوق فيما يختص به الخالق مما يختص (بوجوبه) كصفات الكمال، أو (جوازه) مثل كونه يحيي ويميت، أو (امتناعه) كاتخاذه الصاحبة والولد ونحوها.
* وليس من ذلك اتفاق المسميين في بعض الصفات.
س12 ـ ما غرض النفاة في كونهم جعلوا إثبات الأسماء والصفات تشبيهاً وتجسيماً، وما الذي يترتب على ذلك لو كان صحيحاً، وما نتيجة ذلك، وما هو لازم مقالة الملاحدة؟
ج ـ غرضهم التمويه على الجهال الذين يظنون أن كل معنى سمي له هذا الاسم يجب نفيه، وأما ما نفوه فهو ثابت في الشرع والعقل وليس منفياً.
* ولو ساغ هذا لكان كل مبطل يسمي الحق بأسماء ويستفسر منها بعض الناس ليكذبهم بالحق المعلوم بالسمع والعقل.
* ونتيجة ذلك: أن هؤلاء الملاحدة أفسدوا على طوائف الناس عقولهم ودينهم حتى أخرجوهم إلى أعظم الكفر والجهالة وأبلغ الغي والضلالة.
س13 ـ وضّح المقصود بالأصل الثاني: "القول في الصفات كالقول في الذات"؟
ج ـ المقصود منه: أن ما يجب اعتقاده في الذات يجب اعتقاده في الصفات فكما أننا نثبت ذاتاً لائقة بالله عز وجل فكذلك نثبت صفات لائقة بالله تعالى.
وقال ناظم مختصر خليل1:
وما نقول في صفات قدس
فرع الذي نقوله في نفس
وقال صاحب الكفاية في العقيدة والفِرَق:
وثاني الأصلين قل والقول في
صفاته كالقول في الذات يفي
س14 ـ اذكر أقوال الأئمة المؤيدة لهذا الأصل؟
ج ـ 1 ـ قال الإمام أبو الحسن الأشعري: "وأجمعوا على أن صفته عز وجل لا تشبه صفات المحدثين كما أن نفسه لا تشبه أنفس المخلوقين".
فالقول في الصفات كالقول في الذات.
2 ـ وقال الإمام السجزي: "ومع ذلك فلازم لهم في إثبات الذات مثل ما يلزمون أصحابنا في الصفات".
3 ـ قال الخطيب البغدادي: "والأصل في هذا أن الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات ويحتذى في ذلك حذوه، فإذا كان معلوماً أن إثبات الباري سبحانه وتعالى إثبات وجود لا إثبات كيفية، فكذلك إثبات صفاته، إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكييف".
4 ـ وقال الإمام أبو القاسم التيمي: "وإثبات الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية فكذلك إثبات الصفات ثم قال
…
وعلى هذا مضى السلف كلهم".
إلى غير ذلك فهذا مما اجتمع عليه سلف الأمة وعلماؤنا الأئمة2.
1 التوضيحات الأثرية لأبي العالية (ص14.) .
2 التوضيحات الأثرية لأبي العالية (ص141) .
س15 ـ تكلم عن معنى الذات مع ذكر الخلاف في دخول أل عليها؟
ج ـ معنى الذات: الذات: أصلها في اللغة: مؤنث ذو، بمعنى صاحب وصاحبة، ثم استعملت ذات الشيء بمعنى حقيقته وعينه، ومنه قول ابن عباس رضي الله عنهما:"تفكروا في كل شيء ولا تفكروا في ذات الله".
ـ وقال قوم من أهل العلم: ذات الله حقيقته.
ـ وقال التيمي في الحجة: (1/171) فصل في بيان ذكر الذات.
* واختلف أهل العلم في دخول (أل) عليها على قولين:
الأول: أنها تدخل عليها وهي عربية وهو قول جماعة من السلف.
الثاني: أنها لا تدخل عليها بل هي مما شاع عند المتأخرين فهي لفظ مولد وهو قول المحققين واختاره شيخ الإسلام.
والصواب أنها تأتي في اللغة مضافة وشواهده من الكتاب والسنة واللغة كثيرة ومنها ما يلي:
1 ـ من القرآن: قوله تعال {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154] .
2 ـ من السنة: قوله صلى الله عليه وسلم: "إن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات اثنتان في ذات الله" رواه البخاري ومسلم (2371) .
3 ـ ومن اللغة: أبيات خبيب الأنصاري في مقتله فإنه قال:
ولست أبالي حين أُقتل مسلماً
وذلك في ذات الإله وإن يشأ
على أي شق كان في الله مصرعي1
يبارك على أوصال شلو ممزع
16 ـ ما الرد على من سأل عن كيفية الصفات؟
ج ـ إذا سأل عن كيفية استواء الله تعالى فيجاب عليه بجوابين نقلي وعقلي:
1 المصدر السابق (ص143) .
أولاً ـ الجواب النقلي:
ـ قول الإمام ربيعة ومالك وغيرهما: "الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة "فالاستواء معلوم المعنى وقد فسره أئمة التابعين كما في البخاري في كتاب التوحيد (باب وكان عرشه على الماء)(13/4.3) فتح الباري. عن مجاهد: أن استوى بمعنى علا. وعن أبي العالية: بمعنى ارتفع. والكيف مجهول لقوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه: 11.] . والإيمان بالاستواء واجب والسؤال عن كيفيته بدعة لأنه سؤال عما لا يعلمه البشر، ولا يمكن الإجابة عنه، وهذا باب مطرد في جميع الصفات الثابتة لرب البريات وعلى هذا مضى السلف وأقوالهم متوافرة متواترة، وللاستزادة انظر الأصل (ص 1.6، 1.7) .
ثانياً ـ الجواب العقلي:
1 ـ يقال للسائل: كيف هو؟ أي كيف ذاته جل وعلا؟ فإذا قال: لا أعلم كيفية ذاته، قيل له: ونحن لا نعلم كيفية استوائه فإن العلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الذات الموصوفة، فالصفة فرع عن الموصوف، فكيف تطالبنا بالعلم بكيفية سمعه ونزوله واستوائه وأنت لا تعلم كيفية ذاته!
2 ـ فإذا كنت تقر بأن له ذاتاً حقيقية ثابتة مستوجبة لصفات الكمال لا يماثلها شيء فسمعه وبصره ونزوله واستواؤه ثابت متصف بالكمال لا يشابهه شيء من صفات المخلوقين.
وهذا الرد العقلي هو تطبيق لهذا الأصل وهو: "القول في الصفات كالقول في الذات".
س17 ـ ما حكم السؤال عن كيفية الصفة. علل لما تقول. وكيف تجيب من يسأل عن كيفية الصفة؟
ج ـ حكمه لا يجوز بل هو بدعة؛ لأنه سؤال عن كيفية لا يعلمها البشر ولا يمكنهم الإجابة عنه.
* والجواب على سؤاله يجاب عليه بجواب مالك بن أنس وربيعة الرأي فمثلاً لو سأل عن كيفية الاستواء يقال له: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة".
س18 ـ عندما يسأل المعطل كيف ينزل ربنا، كيف نجيب عليه؟
ج ـ إذا قال المعطل ذلك، أقول له: كيف هو؟ عند ذلك يقول هو لا أعلم كيفيته، فأقول له: وكذلك نحن لا نعلم كيفية نزوله؛ لأن العلم يكيفيته يستلزم العلم بكيفية الموصوف وهو فرع له وتابع له إذ الكلام في الصفات فرع من الكلام في الذات، فكيف تطالبني بمعرفة كيفية سمعه وبصره ونزوله واستوائه وأنت لا تعلم كيفية ذاته؟
س19 ـ قال ابن تيمية رحمه الله: "وهذا الكلام لازم له في العقليات وفي تأويل السمعيات". من المقصود بهذا الكلام؟ وما معنى ذلك؟ وما الذي يلزم من نفى شيئاً أو أثبت شيئاً بطريق العقل؟ وهل يجد المفرق بين الصفات فرقاً حقيقياً بينهما؟ وما الذي يلزم من عدم التفريق بين الصفات؟
ج ـ المقصود هنا هم الأشاعرة والماتريدية.
* معنى ذلك: أن الكلام السابق الذي ذكره المؤلف من حيث ثبوت جميع الصفات ونفي المماثلة وعدم العلم بالكيفية شامل لجميع الصفات.
* وهو لازم للأشاعرة في الصفات السبع التي يسمونها عقليات وفي البقية التي يسمونها سمعيات، ومن حاول التفريق بينهما تناقض، وإذا أثبت بعض الصفات بالعقل ونفى البعض الآخر لزمه فيما نفاه من الصفات التي جاء بها الكتاب والسنة نظير ما يلزمه فيما أثبته.
* لا يجد المفرق فرقاً بين المحذور فيما أثبته وهي الصفات السبع وبين المحذور فيما نفاه من الصفات.
* الذي يلزم من عدم التفريق بين الصفات هو أنه لا يوجد لنفاة بعض الصفات قانون مستقيم. فإذا قيل لهم لِمَ تأوّلتم هذا؟ وأثبتم هذا؟ لم يكن لديهم جواب صحيح.
س20. ـ وضح التناقض عند الأشاعرة والماتريدية في الإثبات؟ وما الذي يلزم من ذلك؟ بيّن ذلك بالتفصيل؟
ج ـ تناقض الأشاعرة والماتريدية في الإثبات هو تأويلهم النص من معنى إلى آخر.
* والذي يلزم من ذلك: أنهم إذا حرّفوا النص على المعنى الذي هو مقتضاه إلى المعنى الآخر لزمهم في المعنى المصروف إليه ما كان يلزمهم في المعنى المصروف عنه. فمثلاً، قوله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه} [آل عمران: 31] . يؤولون المحبة بإرادة القلوب فالذي يلزمهم من المحذور في الإثبات صفة المحبة وهو المعنى المصروف عنه لازم في صفة الإرادة وهو المعنى المصروف إليه.
س21 ـ كيف نجيب على الأشعري إن قال بأن صفات المحبة والغضب عبارة عما يخلقه الله من الثواب والعقاب؟
ج ـ يجاب عليه بجوابين:
• الأول: أن الفعل المعقول أي الذي يعقله العقلاء لا بد أن يقوم أولاً بالفاعل؛ فالثواب فعل يفعله الله في مخلوقاته فلا بد أن يوصف الفاعل بالإثابة لأنه فاعل للثواب فهو مثيب، وكذلك العقاب فحينئذٍ أثبتم لله الفعل والعبد يوصف بالفعل وهذا نظير ما فررتم منه فإن الإثابة والمعاقبة أفعال يتصف بها المخلوق، فإذا أثبتموها على الوجه الذي يتصف به المخلوق وقعتم في التشبيه إن أثبتموها كما يليق بالله فكذلك جميع الصفات.
• الثاني: أن الثواب والعقاب المفعول إنما يكون على ما يحبه ويرضاه المثيب ويسخطه ويبغضه المعاقب، فلزم من إثبات الثواب والعقاب إثبات تلك الصفات.
س22 ـ اذكر المسلكين اللذين بنى عليهما الأشاعرة معتقدهم؟
ج ـ المسلكان هما:
• الأول ـ التأويل: وهو صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال
المرجوح لغير دليل كقولهم في قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ} [صّ: 75] أي بقدرتي.
• الثاني ـ التفويض: وهو إمرار النصوص على ظاهرها من غير اعتقاد معنى لها، ففي المثال السابق يقولون:(اليد) لفظ لا يعلم معناه بل هو بمنزلة الحروف المقطعة في القرآن.
وكلا المسلكين يرجعان إلى التعطيل لأن في المسلكين نفياً للمعاني الصحيحة.
المباينة بين مخلوق ومخلوق دليلٌ على المباينة بين الخالق والمخلوق
قال شيخ الإسلام"
"وأما المثلان المضروبان: فإن الله سبحان وتعالى أخبرنا عما في الجنة من المخلوقات من أصناف المطاعم والمشارب والملابس والمناكح والمساكن، فأخبرنا أن فيها لبناً وعسلاً وخمراً وماء ولحماً وفاكهة وحريراً وذهباً وفضة وحوراً وقصوراً، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء1"، فإذا كانت تلك الحقائق التي أخبر الله عنها هي موافقة في الأسماء للحقائق الموجودة في الدنيا، وليست مماثلة لها، بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله، فالخالق سبحانه وتعالى أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق، ومباينته لمخلوقاته أعظم من مباينة موجود الآخرة لموجود الدنيا، إذ المخلوق أقرب إلى المخلوق الموافق له في الاسم من الخالق إلى المخلوق. وهذا بَيِّنٌ واضحٌ، ولهذا افترق الناس في هذا المقام ثلاث فرق:
ـ فالسلف والأئمة وأتباعهم: آمنوا بما أخبر الله به عن نفسه، وعن اليوم الآخر، مع علمهم بالمباينة التي بين ما في الدنيا وبين ما في الآخرة، وأن مباينة الله لخلقه أعظم.
ـ والفريق الثاني: الذين أثبتوا ما أخبر الله به في الآخرة من الثواب
1 أورده ابن جرير الطبري في تفسيره (1/391ـ392) .
والعقاب، ونفوا كثيراً مما أخبر به من الصفات، مثل طوائف من أهل الكلام:[المعتزلة] ومن وافقهم.
ـ والفريق الثالث: نفوا هذا وهذا، كالقرامطة الباطنية والفلاسفة أتباع المشائين، ونحوهم من الملاحدة الذين ينكرون حقائق ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر.
ثم إن كثيراً منهم يجعلون الأمر والنهي من هذا الباب، فيجعلون الشرائع المأمور بها، والمحظورات المنهي عنها، لها تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها، كما يتأولون الصلوات الخمس:، وصيام شهر رمضان، وحج البيت، فيقولون: إن الصلوات الخمس: معرفة أسرارهم، وإن صيام شهر رمضان: كتمان أسرارهم، وإن حج البيت: السفر إلى شيوخهم، ونحو ذلك من التأويلات التي يعلم بالاضطرار أنها كذب وافتراء على الرسل صلوات الله عليهم، وتحريف لكلام الله ورسوله عن مواضعه، وإلحاد في آيات الله.
وقد يقولون: إن الشرائع تلزم العامة دون الخاصة، فإذا صار الرجل من عارفيهم ومحققيهم وموحديهم رفعوا عنه الواجبات، وأباحوا له المحظورات.
وقد يوجد في المنتسبين إلى التصوف والسلوك من يدخل في بعض هذه المذاهب.
وهؤلاء الباطنية الملاحدة أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى.
وما يحتج به أهل الإيمان والإثبات على يَشرِك هؤلاء في بعض إلحادهم، فإذا أثبت لله تعالى الصفات، ونفى عنه مماثلة المخلوقات، كما دلّت على ذلك الآيات البيّنات كان ذلك هو الحق الذي يوافق المنقول والمعقول
ويهدم أساس الإلحاد والضلالات.
والله سبحانه وتعالى لا تضرب له الأمثال التي فيها مماثلة لخلقه، فإن الله لا مثل له، بل له المثل الأعلى، فلا يجوز أن يشترك هو والمخلوق في قياس تمثيل، ولا في قياس شمول تستوي أفراده، ولكن يُستعمل في حقه المثل الأعلى، وهو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال فالخالق أَوْلى بالتنزيه عنه، فإذا كان المخلوق منزهاً عن مماثلة المخلوق مع الموافقة في الاسم، فالخالق أَوْلى أن يُنزّه عن مماثلة المخلوق وإن حصلت موافقة في الاسم.
وهكذا القول في المثل الثاني وهو الروح التي فينا، فإنها قد وصفت بصفات ثبوتية وسلبية، وقد أخبرت النصوص أنها تعرج وتصعد من سماء إلى سماء، وأنها تُقبض من البدن، وتُسل منه كما تُسل الشعرة من العجين.
والناس مضطربون فيها:
فمنهم طوائف من أهل الكلام يجعلونها جزءاً من البدن، أو صفة من صفاته، كقول بعضهم: إنها النفس أو الريح التي تتردد في البدن، وقول بعضهم: إنها الحياة أو المزاج، أو نفس البدن.
ومهم طوائف من أهل الفلسفة يصفونها بما يصفونه به واجب الوجود عندهم، وهي أمور لا يتصف بها إلا ممتنع الوجود، فيقولون: لا هي داخل البدن ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة له، ولا متحركة ولا ساكنة، ولا تصعد ولا تهبط، ولا هي جسم ولا هي عَرَض، وقد يقولون: إنها لا تدرك الأمور المعينة، والحقائق الموجودة في الخارج، وإنما تدرك الأمور الكلية المطلقة، وقد يقولون: إنها لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباينة له ولا مداخلة.
وربما قالوا: ليست داخلة في أجسام العالم ولا خارجة عنها، مع تفسيرهم للجسم بما يقبل الإشارة الحسية، فيصفونها بأنها لا يمكن الإشارة إليها ونحو ذلك من الصفات السلبية التي تلحقها بالمعدوم والممتنع.
وإذا قيل لهم: إثبات مثل هذا ممتنع في ضرورة العقل.
قالوا: بل هذا ممكن، بدليل أن الكليات ممكنة موجودة، وهي غير مشار إليها.
وقد غفلوا عن كون الكليات لا توجد كلية إلا في الأذهان لا في الأعيان فيعتمدون فيما يقولونه في المبدأ والمعاد على مثل هذا الخيال الذي لا يخفى فساده على غالب الجهال.
واضطرب النفاة والمثبتة في الروح كثير، وسبب ذلك أن الروح ـ التي تسمى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة ـ ليست هي من جنس هذا البدن، ولا من جنس العناصر والمولدات منها، بل هي من جنس آخر مخالف لهذه الأجناس، فصار هؤلاء لا يعرّفونها إلا بالسلوب التي توجب مخالفتها للأجسام المشهودة وأولئك يجعلونها من جنس الأجسام المشهودة، وكلا القولين خطأ.
وإطلاق القول عليها بأنها جسم، أو ليست بجسم يحتاج إلى تفصيل، فإن لفظ (الجسم) للناس فيه أقوال متعددة اصطلاحية غير معناه اللغوي.
فأهل اللغة يقولون: الجسم هو الجسد والبدن، وبهذا الاعتبار فالروح ليست جسماً، ولهذا يقولون: الروح والجسم، كما قال تعالى:{وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِم} [المنافقون: 4]، وقال تعالى:{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْم} [البقرة: 247] .
وأما أهل الكلام، فمنهم من يقول: الجسم هو الموجود ومنهم من يقول: هو القائم بنفسه، ومنهم من يقول: هو المركب من الجواهر المنفردة.
ومنهم من يقول: هو المركب من المادة والصورة، وكل هؤلاء يقولون: إنه مشار إليه إشارة حسية.
ومنهم من يقول: ليس بمركب لا من هذا ولا من هذا، بل هو ما يشار إليه ويقال: إنه هنا أو هناك.
فعلى هذا إذا كانت الروح مما يشار إليه ويتبعه بصر الميّت كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الروح إذا خرج تبعه البصر"1، وإنها تقبض ويعرج بها إلى السماء كانت الروح جسماً بهذا الاصطلاح.
والمقصود، أن الروح إذا كانت موجودة حية عالمة قادرة، سميعة بصيرة، تصعد وتنزل، وتذهب وتجيء، ونحو ذلك من الصفات، والعقول قاصرة عن تكييفها وتحديدها، لأنهم لم يشاهدوا لها نظيراً، والشيء إنما تدرك حقيقته إما بمشاهدته أو بمشاهدة نظيره، فإذا كانت الروح متصفة بهذه الصفات مع عدم مماثلتها لما يشاهد من المخلوقات، فالخالق أوْلى بمباينته لمخلوقاته مع اتصافه بما يستحقه من أسمائه وصفاته،
وأهل العقول هم أعجز أن يحدّوه أو يكيّفوه (منهم عن أن يحدّوا الروح أو يكيفوها) .
فإن كان من نفى صفات الروح جاحداً معطلاً لها، ومن مثَّلها بما يشاهده من المخلوقات جاهلاً ممثلاً لها بغير شكلها، وهي مع ذلك ثابتة بحقيقة الإثبات مستحقة لما لها من الصفات فالخالق سبحانه وتعالى أوْلَى أن يكون من نفى صفاته جاحداً معطلاً، ومن قاسه بخلقه جاهلاً به ممثلاً، وهو سبحانه ثابت بحقيقة الإثبات، مستحقٌ لما له من الأسماء والصفات".
معاني الكلمات:
المثال: هو قياس شيء على شيء، فالأمثال أقيسة عقلية تقرب المعاني إلى الأفهام.
المباينة: المفارقة.
الحقائق: جمع حقيقة.
عناصر الموضوع:
1 ـ لماذا عقد شيخ الإسلام هذا المبحث؟
عقد شيخ الإسلام هذا المبحث لتقرير صفات الرب سبحانه وتعالى وأن إثباتها لا يستلزم تشبيهاً.
1 أخرجه الإمام مسلم في صحيحه (2/634) برقم 92. من حديث أم سلمة رضي الله عنها.
2 ـ المقصود بالمثل الأول وهو نعيم الجنة:
أن الله تعالى أخبرنا أن في الجنة نعيماً سواء في المأكل والمشرب والمسكن والملبس وكل ما سماها من المسميات لها نظير في الدنيا، فموجودات الآخرة من النعيم مثل موجودات الدنيا من النعيم والاسم والمعنى العام ولكن الحقيقة والكنه مختلف كما قال ابن عباس:"ليس في الدنيا شيء من الآخرة إلا الأسماء" فالاتفاق هو الأسماء والمعنى الكلي العام المشترك وأما الحقائق فهي مختلفة.
3 ـ شرح للمثل الأول:
أخبر الله تعالى أن في الجنة طعاماً وشراباً ولباساً، وزوجات ومساكن ونخلاً وفاكهة، ولحماً وخمراً ولبناً وحلية من ذهب وفضة وغير ذلك، وكله حق على حقيقته وهو في الاسم موافق لما في الدنيا من حيث المعنى لكنه مخالف في الحقيقة.
أما موافقته لما في الدنيا في المعنى فلأن القرآن عربي، ولولا موافقته له في المعنى لما فهمناه ولا عقلناه وأما مخالفته له في الحقيقة؛ لأن في الجنة ما لا عين رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء، فإذا كانت هذه الأسماء دلالة مسمياتها حقيقة وكان اتفاقهما مع ما في الدنيا من الأسماء لا يستلزم اتفاق المسميات في الحقيقة بل بينهما من التباين ما لا يعلمه إلا الله فإن مباينة الخالق للمخلوق أعظم وأظهر من مباينة المخلوق للمخلوق، لأن في التباين بين المخلوقات تباين بين مخلوق ومخلوق مثله.
4 ـ الداعي لإثبات قدر مشترك بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة:
لو لم نثبت القدر المشترك وهو الاتفاق في الاسم وفي المعنى الكلي العام لما فهم الخطاب، فلا بدّ من إثبات قدر مشترك عام تتواطأ فيه المسميات، أي تتفق في المعاني العامة:
وأما الحقائق فهي مختلفة فإن نعيم الجنة مباين لنعيم الدنيا، والدليل على مباينة نعيم الجنة لنعيم الدنيا قول الله في الحديث القدسي:"أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر"، ثم قال الرسول عليه الصلاة والسلام: "اقرؤوا إن شئتم {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17] .
فإن قيل: هذا فيما لم يذكر من نعيمها في القرآن؟
قيل: هذا يتناول هذا وذاك كما في الأسماء والصفات فإنه يشمل ما ذكر وما استأثر الله بعلمه.
5 ـ أقسام الناس فيما أخبر الله من نعيم الجنة واليوم الآخر:
افترق الناس في الأمور الغيبية فيما أخبر الله عن نفسه وعن اليوم الآخر إلى ثلاث فرق:
• الأولى: السلف والأئمة واتباعهم آمنوا بما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر، وأنه حق على حقيقته، مع اعتقادهم التباين بين ما في الدنيا وما في الآخرة، وأن التباين بين الخالق والمخلوق أولى ولأعظم وأبين لقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] .
• الثانية: طوائف من أهل الكلام يؤمنون بما أخبر الله به عن اليوم الآخر من الثواب والعقاب، وينفون كثيراً مما أخبر الله به عن نفسه من الصفات.
• الثالثة: القرامطة والباطنية والفلاسفة لا يؤمنون بما أخبر الله به عن نفسه ولا عن اليوم الآخر بل ينكرون حقائق هذا وهذا.
فمذهبهم فيما أخبر الله عن نفسه وعن اليوم الآخر أنه تخيل لا حقيقة له، وأما في الأمر والنهي فكثير منهم يجلبون للمأمورات والمنهيات تأويلات باطنة تخالف ما يعرفه المسلمون منها، فيقولون: المراد بالصلوات: معرفة أسرارهم، وبالصيام: كتمان أسرارهم، وبالحج: السفر إلى شيوخهم، ونحو ذلك مما يعلم بالضرورة من دين الإسلام أنه كذب وافتراء وكفر. وإلحاد
وقد يقولون: إن الشرائع تلزم العامة دون الخاصة، فإذا وصل الرجل إلى درجة العارفين والمحققين عندهم ارتفعت عنه التكاليف فسقطت عنه الواجبات، وحلت له المحظورات، وقد يوجد في المنتسبين إلى التصوف والسلوك من يدخل في بعض هذه المذاهب، وهؤلاء الباطنية هم الملاحدة الذين أجمع المسلمون على أنهم أكفر من اليهود والنصارى، لعظم إلحادهم ومخالفتهم لجميع الشرائع الإلهية.
6 ـ شرح المثل الثاني الذي ضربه شيخ الإسلام من المباينة لمباينة الروح بالمخلوقات:
يسهب شيخ الإسلام بتمهيد طويل عن الروح بذكر مذاهب الناس فيها واضطراب الناس في حقيقتها واختلافهم اختلافاً شديداً متبايناً، وسأضرب صفحاً عن هذا الاستطراد حتى لا يتشتت ذهن القارئ وأُبيِّن المقصود فيه.
وإيضاح هذا المثل: أن الروح التي بها الحياة، وهي أقرب شيء إلى الإنسان وقد وصفت بأنها تقبض من البدن ويصعد بها إلى السماء ويعاد بها إلى البدن ولا ينكر أحد وجودها حقيقة، وقد عجز الناس عن إدراك كنهها وحقيقتها إلا ما علموه عن طريق الوحي، فإذا كانت الروح حقيقة واتصافها بما وصفت به في الكتاب والسنة حقيقة مع أنها لا تماثل الأجسام المشهورة كان اتصاف الخالق بما يستحقه من صفات الكمال مع مباينة للمخلوقات من باب أولى، وكان عجز أهل العقول عن الله أو يكيفوه أبين من عجزهم عن حد الروح وتكيفها.
7 ـ تعريف القدر المشترك:
القدر المشترك هو: "المعنى الكلي الذي لا يوجد إلا في الذهن".
وبعبارة أخرى: فإن القدر المشترك بين الأسماء والصفات المقولة على الرب وعلى غيره، هو المعنى اللغوي الذي نفهمه من لغة التخاطب ـ اللغة العربية ـ التي نزل بها الوحي، وهو المشترك المعنوي الذي تتفاضل أفراده، وهو المشكك أحد أقسام المتواطئ وهو شبه بين هذه الأسماء
والصفات من هذا الوجه مع التفاضل والتباين من وجه آخر.
8 ـ القدر المشترك ضروري لفهم الخطاب:
تقدّم بيان أن القدر المشترك ضروري لفهم الخطاب إجمالاً.
وسأذكر ذلك تفصيلاً من كلام شارح الطحاوية ابن أبي العز ـ رحمه الله تعالى ـ فقال: "وأعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ إلا أن يعرف عينها أو ما يناسب عينها ويكون بينها قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى، وإلا فلا يكن تفهيم المخاطبين بدون هذا قط.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لما بيَّن لنا أموراً لم تكن معروفة قبل ذلك، وليس في لغتهم لفظ يدل عليها بعينها وأتي بألفاظ تناسب معانيها تلك المعاني وجعلها أسماء لها، فيكون بينها قدر مشترك كالصلاة والزكاة والصوم والإيمان والكفر.
وقد يكون الذي يخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم لم يدركوا مثله الموافق له في الحقيقة من كل وجه لكن في مفرداته ما يشبه مفرداتهم من بعض الوجوه كما إذا أخبرهم عن الأمور الغيبية المتعلقة بالله واليوم الآخر، فلا بد أن يعلموا معنى مشتركاً وشبهاً بين مفردات تلك الألفاظ، وبين مفردات ألفاظ ما علموه في الدنيا بحسهم وعقلهم فإذا كان ذلك المعنى الذي في الدنيا لم يشهدوه بعد، ويريد أن يجعلهم يشهدونه شهادة كاملة، ليفهموا به القدر المشترك بينه وبين المعنى الغائب أشهدهم إياه وأشار لهم إليه، وفعل فعلاً يكون حكاية له وشبهاً به يعلم المستمعون أن معرفتهم بالحقائق المشهود هي الطريق التي يعرفون بها الأمور الغائبة، فينبغي أن تعلم هذه الدرجات:
أولها: إدراك الإنسان المعاني الحسية المشاهدة.
ثانيها: عقله لمعانيها الكلية.
ثالثها: تعريف الألفاظ الدالة على تلك المعاني الحسية المعقولة.
فهذه المراتب الثلاثة لا بد لها منها في كل خطاب، فإذا أخبرنا عن الأمور الغائبة فلا بد من تعريفنا للمعاني المشتركة بينها وبين الحقائق
المشهودة، والاشتباه الذي بينهما وذلك بتعريفنا الأمور المشهودة، ثم إن كانت مثلها لم يحتج إلى ذكر الفارق وإن لم يكن مثلها، وبين بذكر الفارق، بأن يقال: ليس ذلك مثل هذا ونحو ذلك وإذا تقرر انتفاء المماثلة، كانت الإضافة وحدها كافية في بيان الفارق، وانتفاء التساوي، لا يمنع من وجود القدر المشترك، الذي هو مدلول اللفظ المشترك، وبه صرنا نفهم الأمور الغائبة ولولا المعنى المشترك ما أمكن ذلك قط"1.
9 ـ مثال يوضح المقصود من القدر المشترك:
سبق بيان القدر المشترك بمثال وهو: نعيم الآخرة، فإن الله تعالى أخبرنا بما وعدنا في الدار الآخرة من النعيم والعذاب، وأخبرنا بما يؤكل ويشرب وينكح، ويفرش وغير ذلك، فلولا معرفتنا بما يشبه ذلك في الدنيا لم نفهم ما وعدنا به ونحن نعلم من ذلك أن تلك الحقائق ليست مثل هذه فبين هذه الموجودات في الدنيا وتلك الموجودات في الآخرة مشابهة وموافقة واشتراك من بعض الوجوه، وبه فهمنا المراد وأحببنا ورغبنا فيه أو أبغضناه ونفرنا منه، وبينهما مباينة ومفاضلة لا يقدر قدرهما في الدنيا، وهذا من التأويل الذي لا نعلمه نحن، بل يعلمه الله تعالى فما أخبرنا الله من صفات المخلوقين نعلم تفسيره ومعناه، ونفهم الكلام الذي خوطبنا به، ونعلم معنى العسل واللحم واللبن والحرير والذهب والفضة، نفرق بين مسميات هذه الأسماء، وأما حقائقها على ما هي عليه، فلا يمكن أن نعلمها نحن، ولا نعلم متى تكون الساعة، وتفصيل ما أعده الله لعباده: لا يعلمه ملك مقرب ولا نبي مرسل، بل هذا من التأويلات الذي لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى.
فإذا كان هذا في هذين المخلوقين، فالأمر بين الخالق والمخلوق أعظم فإن مباينة الله لخلقه وعظمته وكبريائه وفضله أعظم وأكبر مما بين مخلوق ومخلوق.
فإذا كانت صفات ذلك المخلوق مع مشابهتها لصفات هذا المخلوق،
1 شرح العقيدة الطحاوية (1/64ـ68) .
بينهما من التفاضل والتباين ما لا نعلمه في الدنيا بل هو من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وصفات الخالق عز وجل أولى أن يكون بينها وبين صفات المخلوق من التباين والتفاضل ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى، وأن يكون هذا من التأويل الذي لا يعلمه إلا الله1.
وقال شيخ الإسلام: "ولولا أن هذه الأسماء والصفات تدل على معنى مشترك كلي يقتضي من المواطأة والموافقة والمشابهة ما به نفهم ونثبت هذه المعاني لله؛ لم نكن قد عرفنا عن الله شيئاً ولا صار في قلوبنا إيمان به ولا علم ولا معرفة ولا محبة ولا إرادة لعبادته ودعائه وسؤاله ومحبته وتعظيمه.
فإن جميع هذه الأمور لا تكون إلا مع العلم، ولا يمكن للعلم إلا بإثبات تلك المعاني التي فيها من الموافقة والمواطأة ما به حصل لنا ما حصل من العلم لما غاب عن شهودنا2.
وهذا القدر المشترك الضروري هو وجه الشبه بين ما يقال على الله تعالى من الأسماء وعلى المخلوق "وكون الله شبيهاً بخلقه من بعض الوجوه متفق عليه بين سائر المسلمين لاتفاقهم على أن الله تعالى موجود وشيء وعالم وقادر، فما من موجود إلا وله شبيه من بعض الوجوه، لاشتراكهما في الوجود"3.
هذا الشبه هو المعنى اللغوي، ولا يقتضي أبداً مماثلة في كيفية ولا قدر بل هو موجود مع المفاضلة والمباينة.
وعلى هذا لا يصح أن ينفي الشبه بين الله وبين خلقه مطلقاً في أصل اللغة إنما يكتفي بنفي المماثلة فحسب، ولذلك جاء القرآن والسنة بالثاني دون الأول.
ففي القرآن قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ولم
1 انظر شرح حديث النزول (ص1.4ـ1.9) .
2 المصدر السابق (ص111) .
3 نقض التأسيس (1/382) .
يأت في شيء من القرآن والسنة (ولا يشبهه) لما ذكرنا.
وأما ما جاء عن بعض الأئمة من نفي الشبه، فهو مصطلح معين يقصد به نفي المماثلة فقط، لا نفي المعنى اللغوي والقدر المشترك.
ومن هذا نعلم أن نفي الشبه من الألفاظ المجملة1، فإن قصد به نفي المماثلة فهو صحيح، وإن قصد ما يقصده الجهمية من نفي القدر المشترك فهو باطل، والأولى في هذا، الاقتصار على ألفاظ النصوص ـ والله أعلم ـ ولذلك لم يعبر شيخ الإسلام في (العقيدة الواسطية) إلا بنفي المماثلة، لما في نفي الشبه من الإجمال والتلبيس.
1.
ـ أقسام الناس في القدر المشترك:
انقسم أهل الكلام في القدر المشترك إلى قسمين:
• القسم الأول: من أهل الكلام من قال: إن إثبات القدر المشترك وهو كون هذه الأسماء والصفات حقيقة في حق الخالق وفي حق المخلوق يلزم أن يكون مماثلاً للمخلوقات2، ولزم أن يجوز ويجب ويمتنع على المخلوق وما يجوز وما يجب وما يمتنع على الخالق، فنفوا ما نفوه من الصفات أو الأسماء والصفات أو بعض الصفات بناءً على ذلك.
وهذه هي شبهة التشبيه المشهورة عند المعتزلة وغيرهم، وقد رد عليهم الأئمة وبينوا أنه لا يلزم من إثبات هذا القدر المشترك إثبات مماثلة بين الله وبين خلقه وأن نفيه يلزم منه تعطيل الله سبحانه وتعالى عن صفاته، وإنكار ما وصف به نفسه وهذا هو الكفر.
قال نعيم بن حماد: "من شَبّه الله بشيء من خلقه فقد كفر، ومن أنكر ما وصف الله به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه".
وقال إسحاق بن راهويه: "علامة جهمٍ وأصحابه: دعواهم على أهل
1 انظر: منهاج السنة (2/11.ـ112) ، وشرح العقيدة الطحاوية (1/57) .
2 انظر مجموع الفتاوى (3/77) .
السنة والجماعة أنهم مشبهة، بل هم المعطلة"1.
وقال: "إنما يكون التشبيه إذا قال: يد مثل يدي، أو سمع مثل سمعي، فهذا تشبيه، وأما إذا قال كما قال الله: يد وسمع وبصر، فلا يقول: كيف ولا يقول مثل، فهذا لا يكون تشبيهاً عنده قال تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]2.
وقال أبو عمر الطلمنكي: "قال قوم من المعتزلة والجهمية: لا يجوز أن يسمى الله عز وجل بهذه الأسماء على الحقيقة، ويسمى بها المخلوق، فنفوا عن الله الحقائق وأثبتوها لخلقه.
فإذا سئلوا: ما حملكم على هذا الزيغ؟
قالوا: الاجتماع في التسمية يوجب التشبيه.
قلنا: هذا خروج عن اللغة التي خوطبنا بها؛ لأن المعقول في اللغة أن الاشتباه في اللغة لا يحصل بالتسمية وإنما تشبيه الأشياء بأنفسها أو بهيئات فيها كالبياض بالبياض، والسواد بالسواد، والطويل بالطويل، والقصير بالقصير، ولو كانت الأسماء توجب اشتباهاً لاشتبهت الأشياء كلها لشمول اسم الشيء لها وعموم تسمية الأشياء به فنسألهم: تقولون إن الله موجود؟
فإن قالوا: نعم، قيل لهم: يلزمكم على دعواكم أن يكون مشبهاً للموجودين.
وإن قالوا: موجود ولا يوجب وجوده الاشتباه بينه وبين الموجودات، قلنا: كذلك هو حي عليم قادر مريد سميع بصير متكلم يعني ولا يلزم من ذلك اشتباهه بمن اتصف بهذه الصفات3.
وقال عثمان بن سعيد الدارمي: "وقد يجوز أن يدعى البشر ببعض هذه الأسماء وإن كانت مخالفة لصفاتهم، فالأسماء فيها متفقة والتشبيه والكيفية
1 نقله عنهما ابن أبي العز في شرح العقيدة الطحاوية (1/85) .
2 نقله عنه الترمذي في جامعه.
3 نقله عنه الذهبي في (العلو) كما في (مختصر العلو)(ص264) .
مفترقة، كما يقال: ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء، يعني في الشبه والطعم والذوق والمنظر واللون، فإذا كان كذلك فالله أبعد من الشبه وأبعد، فإن كنا مشبَّهة عندك إن وحدنا الله إلهاً واحداً بصفات أخذناها عنه وعن كتابه، فوصفناه بما وصف به نفسه في كتابه، فالله في دعواكم أول المشبهين بنفسه، ثم رسوله الذي أنبأنا ذلك، فلا تظلموا أنفسكم ولا تكابروا العلم إذ جهلتموه، فإن التسمية من التشبيه بعيدة1.
• القسم الثاني:
قالوا: إن هذه الأسماء والصفات المقولة على الرب تعالى وعلى المخلوق مقولة بالاشتراك اللفظي فقط2من غير أن يكون بين المسميين معنى عام.
وهذا هو عين التعطيل لأسماء الله وصفاته، وهو نوعٌ من أنواع تفويض المعاني للصفات، وهو أنَّا نتلو اللفظ من غير أن نفهم منه أي معنى، وهذا فيه مع ما فيه من أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يفهموا معاني الصفات، بل يجعلون الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ قرآناً بما لا يفهم معناه، وتكلم بأحاديث الصفات وهو لا يفهم معناها ولم يدر ما يقول، ولا يجوز لعاقل أن يظن هذا بأحد العقلاء، فضلاً عن أفضل الخلق وأعلمهم بالله وأفصحهم وأنصحهم للخلق، ومع هذا يجعلونه هو قول السنة وأنه معنى قوله تعالى:{وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] ، ولو تصوروا حقيقة ما قالوه ولوازمه لعلموا أنه يلزمهم ما هو من أقبح أقوال الكفار في الأنبياء، وهم لا يرتضون مقالة من يقدح في الأنبياء، إذن لاستحلوا قتله وهم مصيبون في ذلك.
وقولهم هذا أعظم القدح في الأنبياء لكن لم يعرفوا ذلك، ولازم القول ليس بقول، وهذا ضلال عظيم وهو أحد أنواع الضلال في كلام الله
1 نقضه على المرسي (1/3.) .
2 انظر: شرح حديث النزول (ص82) ، وشرح العقيدة الطحاوية (1/63) .ر
ورسوله1، بل إن قول أهل التفويض من شر أقوال أهل البدع والإلحاد2.
11 ـ سبب اضطراب أهل الكلام في القدر المشترك:
سبب اضطراب وحيرة أهل الكلام في هذا الباب ما يلي:
• السبب الأول:
أن هذه الأسماء والصفات التي يسمى ويوصف الخالق بها الخالق والمخلوق وضعت عند الإطلاق لخصائص المخلوقين، وهذا واضح جلي في كلامهم مثل قول بعضهم: ننزه الله عن اليدين لأن اليد جارحة تتكون من لحم وعظم وعصب وهذا كله جهل وضلال، في الشرع وكذب وخطأ، فإن العرب إنما وضعت للإنسان ما أضافته إليه، فإذا قال سمع العبد وبصره فهذا خاص بالإنسان، وإذا قيل سمع الله وبصره فهذا خاص بالرب سبحانه وتعالى لائقة به، فهذه الأسماء والصفات لم توضع لخصائص المخلوقين عند الإطلاق ولا عند الإضافة إلى الله، ولكن عند الإضافة إليهم، وإذا أطلقت ولم تضف إلى شيء أصبحت كلية لا توجد إلا في الأذهان، ثم هي عند أهل اللغة بحسب ما تضاف إليه، وهي عند الإطلاق تكون قدراً مشتركاً، ويكون هذا القدر المشترك هو أن نسبة كل صفة إلى موصوفها، فإذا أضيف العلم إلى الإنسان وإلى الملك وإلى الجني فنسبة علم الملك والجني إليها كنسبة علم الإنسان إليه، وكذلك الوجه وسائر الصفات3.
• السبب الثاني:
أنه اشتبه عليهم ما يتصور في الأذهان بما يوجد في الأعيان فظنوا أن هذه الأسماء العامة الكلية يكون مسماها المطلق الكلي هو بعينه ثابتاً في هذا المعنى، أي أن هذه الأسماء والصفات التي تطلق على الخالق والمخلوق
1 انظر: شرح حديث النزول (ص2.5ـ23.) .
2 انظر: درء التعارض (1ـ2.5) .
3 انظر: مجموع الفتاوى (2/218) .
إذا أطلقت بدون إضافة كما إذا قيل: "الحي، الموجود، السميع
…
" أن ذلك موجود في الخارج وفي الأعيان لا في الأذهان فقط وهذا سبب غلطهم، فإن الأسماء المطلقة الكلية لا توجد في الخارج والأعيان وإنما توجد في الخارج والأعيان إذا أضيفت إلى معين1.
ولكي يتضح أكثر نضرب هذا المثال:
"القدر المشترك الكلي مطلق لا يوجد إلا في الذهن" نذكر هذا المثال وهو: أنك لو طلبت من شخص مثلاً أن يحضر لك الإنسان أو الحيوان، أو يخبرك عن العلم أو الوجود أو نحو ذلك لقال لك: أي إنسان تريد؟ أو أي حيوان تريد؟ فإذا عينته له أحضره لك، لأن الإنسانية المطلقة أو الحيوانية المطلقة ليس لها في الخارج وجود، وإنما هي كلية تطلق على كثيرين لا توجد إلا في الذهن، ولا يمكن وجودها في الخارج إلا معينة.
وكذلك في المثال الآخر: فإنه لن يخبرك إلا عن العلم المطلق فيعرفه لك أو يعرف لك الوجود، فإنه ينقسم
إلى ممكن وواجب ونحو ذلك، وهذا لا يوجد إلا في الذهن ليس له وجود في الخارج، وليس في الخارج إلا المعينات، فلا يمكنه أن يخبرك إلا أن تقول له علم زيد ووجود زيد مثلاً، فلا يشتبه ما في الأذهان بما في الأعيان، وهؤلاء طالما لم يفرقوا بين ما في الأذهان وما في الأعيان وقعوا في الاضطراب والحيرة والغلط2.
12 ـ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإن قال نفاة الصفات، إثبات العلم والقدرة والإرادة مستلزم تعدد الصفات وهذا تركيب ممتنع":
أقول: حاصل هذا الكلام: أن من شبهات الجهمية أنهم يزعمون أنه لوثبت لله صفات متعددة كالعلم والبصر والحياة والكلام مثلاً.
يستلزم ذلك تركيباً في الله تعالى، والله منزه عن التركيب.
1 انظر: شرح حديث النزول (ص 83ـ87) ، وشرح العقيدة الطحاوية (1/63) .
2 انظر: صفة النزول الإلهي لعبد القادر محمد (ص367) .
فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله عن هذه الشبهة بقوله:
إنكم أيها الجهمية الباطنية:
قد قلتم إن الله تعالى موجود واجب، وعقل وعاقل ومعقول، ومعشوق ولذيذ وملتذ ولذة؛ أليست هذه صفات متعددة؟!
أليس هذا تركيباً في الله تعالى؟!
فما بالكم تُسمون تركيبكم توحيداً وتسمون توحيدنا تركيباً وتشبيهاً؟!
13 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "واجب الوجود":
أقول: الواجب الوجود:
هو الذي وجوده واجب وعدمه ممتنع وهو الله تعالى وضده "ممتنع الوجود" وهو الذي عدمه واجب ووجوده ممتنع كشريك الباري، وقصد شيخ الإسلام أن هؤلاء المعطلة يحاولون أن يثبتوا أن الله تعالى واجب وجوده، ولكنهم لأجل تعطيلهم جعلوا الله تعالى ممتنع الوجود لأنهم وصفوه بصفات المعدوم والممتنع.
فدليلهم الذي أقاموه على إثبات كون الله تعالى واجب الوجود هو في الحقيقة دليل على كون الله تعالى ممتنع الوجود، فقد هدموا بنيانهم بأيديهم!
14 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "إنها لا تدرك الأمور المعينة والحقائق الموجودة في الخارج وإنما تدرك الأمور الكلية المطلقة":
أقول: "الأمور المعينة" يقصد بها الجزئيات الخارجية التي هي أفراد واقعية في العالم المحسوس.
كأفراد الإنسان نحو زيد وعمرو وبكر وخالد ومحمد وأحمد فإن الإنسان الكلي باعتبار مفهومه العام لا يوجد في الخارج لأنه أمر ذهني.
وإنما يوجد في الخارج هو أفراد ذلك المعنى الكلي.
قوله: "والحقائق الموجودة في الخارج" بيان وتفسير وشرح لقوله: "الأمور المعينة".
وقوله: "الأمور الكلية المطلقة".
معناه: الكلي من حيث العموم لا من حيث حصوله في أفراده.
والمعنى: أن الروح عند هؤلاء لا تدرك الأمور الجزئية بل تدرك الأمور العامة الكلية غير المقيدة.
أقول: هذا مذهب باطل لا دليل عليه، بل الروح تدرك الأمور الجزئية كما تدرك الأمور الكلية، فإن الروح موصوفة بأنها تعرج وتصعد وتقبض وتُسلُ وغير ذلك من الأمور الكلية والجزئية التي وردت في الكتاب والسنة مع بيان أن الروح تدركها.
15 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "وقد غفلوا عن كون الكليات لا توجد كلية إلا في الأذهان لا في الأعيان":
أقول: الكليات جمع كلي، وهو خلاف الجزئي، والكلي عند المناطقة، ما لا يمنع نفس تصور مفهومه عن وقوع الشركة فيه كالإنسان العام، فإنه يشترك فيه زيد ومحمد وبكر فيدخل جميع أفراد الإنسان في مفهومه العام بخلاف الجزئي، نحو زيد؛ فإنه لا يصدق إلا على هذا الفرد الواحد فقط لا غير.
وإذا عرفت تعريف الكلي، فاعلم أن الكلي من حيث العموم أمر ذهني لا يوجد في الخارج، لأن الخارج لا يوجد فيه إلا الأعيان دون الأمور الذهنية، فالكي يتصوره الذهن فقط فلا وجود له في الخارج.
الحاصل: أن هؤلاء المعطلة يصفون الله تعالى بصفات تقتضي أن لا يكون الله تعالى موجوداً في الخارج، بل تجعله موجوداً ذهنياً فقط فلا شك في إبطال هذا المذهب لأن الله تعالى موجود بذاته خارج الأذهان في الخارج.
16 ـ معنى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله "هو المركب من الجواهر المنفردة ومنهم من يقول: هو المركب من المادة والصورة..".
أقول: اختلف المتفلسفة تبعاً للفلاسفة الكفرة في تركيب الجسم، ما هو الجسم؟ ومن أي شيء يتركب فذكر شيخ الإسلام ههنا عدة أقوال لهم في الجسم وتركيبه مع اتفاقهم على أن الجسم يشار إليه إشارة حسية بأنه هنا أو هناك أو ههنا؟
فبعضهم يقول: الجسم ما كان مركباً من الجواهر المنفردة.
والجواهر المنفردة جمع الجوهر المفرد.
الجوهر المفرد هو الجزء الصغير الذي لا يمكن تقسيمه؛ أي لا يقبل القسمة والانقسام قطعاً.
ويقال له: الجزء الذي لا يتجزأ، أي لا ينحل.
فالجوهر خلاف العرض؛ فالجوهر ما كان قائماً بنفسه كالجسم مثلاً.
والعرض ما كان قائماً بغيره كاللون مثلاً نحو بياض الثلج، وسواد الزنجي، وهي قائمة بغيرها لا تقوم بأنفسها.
والمفرد أي الجزء المتفرد الذي لا ينقسم إلى جزئين فصاعداً.
وبعضهم يقول: الجسم ما كان مركباً من المادة والصورة.
والمراد من "المادة" أصل الشيء، والمراد من "الصورة" وضع الشيء بعد تركيبه، أي هيئته وشكله وتناسب بعض أجزائه مع بعض.
(المادة) ههنا جوهر، (والصورة) ههنا عرض.
وأقول: مقصود شيخ الإسلام من هذا المبحث الطويل تبكيت المتكلمة ومناظرتهم بقواعدهم وعلومهم ومصطلحهم، فيريد شيخ الإسلام إثبات أمور.
• الأمر الأول: أن الروح مما يشار إليه إشارة حسية فالروح سواء كانت جسماً أم لا ولكنها متصفة بعدة صفات؛ كالوجود والحياة، والعمل
والسمع والبصر والصعود والنزول والذهاب والمجيء ونحوها من الصفات وهي فينا ومعنا، وهي مخلوقة.
ومع ذلك نرى أن العقول قاصرة عن إدراك حقيقتها؛ فكيف تصل العقول إلى إدراك حقيقة صفات الله تعالى وذاته وكنهه وكيفية صفاته وتحديدها.
• الأمر الثاني: أن من نفى صفة من صفات الروح، كان جاحداً معطلاً مبطلاً؛ فما بالك بمن نفى صفة من صفات الله تعالى فإنه يكون معطلاً جاحداً مبطلاً بالطريق الأولى.
• الأمر الثالث: أن من شبه صفة الروح بصفات غيرها من المخلوقات كان مشبهاً.
فكذلك من شبه صفة من صفات الله تعالى بصفات خلقه، كان مشبهاً بالطريق الأولى.
• والأمر الرابع: وهو الأهم: وهو أن الروح مخلوقة وموجودة فينا وهي معها وهي متصفة بعدة صفات كما سبق بيانه، فإذا آمنا بصفات الروح ووصفنا الروح بتلك الصفات التي اتصفت بها الروح ولم يلزم من ذلك أن نكون مشبهين، فكذلك إذا آمنا بصفات الله تعالى ووصفنا الله تعالى بصفاته اللائقة به سبحانه وتعالى من غير تكييف ولا تشبيه ـ لا يلزم من ذلك أن نكون مشبهين الله تعالى بخلقه.
17 ـ الأسئلة والأجوبة على المثلين المضروبين:
س1 ـ بين المراد من إيراد هذين المثلين: (الجنة والروح) مع ذكرهما بإيجاز؟
ج ـ المراد من إيرادهما هو توكيد الأصلين السابقين وتوكيد ما ينفي من مماثلة الله لخلقه.
• المثل الأول: إنه لا يلزم من اشتراك المسميات في الاسم العام اشتراكهما في المسمى والحقيقة، فمثلاً ما في الجنة ـ من نعيم ومقام ـ ليس مثل ما في الدنيا بل بينهما تباين عظيم لا يعلمه إلا الله فقد قال ابن
عباس رضي الله عنهما: (ليس في الدنيا شيء مما في الجنة إلا الأسماء) . فالخالق سبحانه أعظم مباينة للمخلوقات من مباينة المخلوق للمخلوق ومباينته سبحانه للمخلوقات أعظم من مباينة موجود للآخرة من موجودات الدنيا ذلك لأن المخلوق أقرب إلى المخلوق الموافق له في الاسم من الخالق إلى المخلوق.
• المثل الثاني: أنه لا يلزم من كون الشيء موجوداً معرفة كيفية صفاته، لأن الروح موجودة فينا لا ينكر وجودها أحد، ولكن مع ذلك لا يقدر أحد على تكييف صفاتها. فكذلك صفات الله تعالى لا يمكن تكييفها.
س 2 ما المقصود بضرب المثال بالجنة؟ وعلى من يردّ بهذا المثال؟
ج ـ المقصود بهذا المثل: أن التشابه بين موجودات الدنيا وموجودات الآخر في الأسماء والمعاني دون الحقائق والكيفيات، فإذا كان هذا التباين واقعاً بين المخلوقات فمن باب أولى أن يقع بين الخالق ومخلوقاته.
* يرد بهذا المثال: على من زعم أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه بناء على الاتفاق في الاسم، فإن جميع ما في الجنة يتفق مع ما في الدنيا ومع ذلك لم يستلزم التشبيه فكيف بالخالق جل وعلا، فالمباينة بين الخالق والمخلوق أعظم من مباينة المخلوق للمخلوق، وأعظم من مباينة موجود الآخر لموجود الدنيا، وهذا جد واضح.
س3 ـ اذكر مواقف الناس فيما أخبر الله به من الغيبيات؟
ج ـ للناس ثلاث مذاهب من الغيبيات:
• المذهب الأول: مذهب السلف والأئمة وأتباعهم: آمنوا بجميع ذلك مع علمهم بالمباينة بين ما في الآخرة وما في الدنيا، وأن مباينة الله لخلقه أعظم وأولى كما صرحت بذلك الأدلة.
• المذهب الثاني: هم الذين أثبتوا ما أخبر الله به عن الآخرة ولكنهم نفوا كثيراً مما أخبر به عن نفسه فمنهم من نفاه جميعاً ـ الأسماء والصفات ـ كالجهمية، ومنهم من نفى الصفات كالمعتزلة، ومنهم من نفى بعضها
كالأشاعرة والماتريدية، فالجميع يؤمنون بما جاء عن اليوم الآخر وينفون تفاصيل الصفات إذا اعتبرنا مسألة الرؤية في الآخرة من مسائل الصفات لأنهم ينفونها باعتبار تعلقها بالله تعالى ويزعمون امتناعها في حقه.
• المذهب الثالث: نفوا جميع ذلك وهم القرامطة الباطنية والفلاسفة المشاؤون، وزعموا أن أخبار اليوم الآخر خيالات جاءت بها الرسل لإصلاح الخلق أو يسمونه "بمصلحة الجمهور".
* فالفريق الأول: هم أهل التنزيل. والثاني: هم أهل التعطيل، والثالث: هم أهل التخييل.
س4 ـ اذكر مذهب الباطنية في الأحكام مع بعض الأمثلة لتأويلاتهم، وأنواعهم، والحكم عليهم؟
ج ـ أولاً ـ مذهبهم في الأحكام: كثير منهم جعل الأمر والنهي أي الشرائع من هذا الباب، أي من باب الأمور التي لها ظاهر وباطن كالغيبيات عندهم فتأويلاتهم في عامة أبواب الدين.
ثانياً ـ أمثلة لتأويلاتهم في الأحكام:
1 ـ الصلوات الخمس عندهم: هي معرفة أسرارهم.
2 ـ صيام رمضان عندهم: يؤولونه بكتمان أسرارهم.
3 ـ حج البيت عندهم: هو السفر إلى شيوخهم.
4 ـ الربا عندهم: هو إيصال الرغبة في الإكثار في الخير.
5 ـ الزنا عندهم: هو إيصال المستجيب من غير شاهد. ونحو ذلك من أنواع التحريف والإلحاد.
ثالثاً ـ من تلزمهم الشرائع عندهم:
يقولون إن هذه الشرائع تلزم العامة دون الخاصة فإذا صار الرجل من عارفيهم وموحديهم رفعوا عنه الواجبات وأباحوا له المحرمات.
رابعاً ـ أنواع الباطنية: وهم نوعان:
1 ـ باطنية قرامطة: وهم بعض فرق الرافضة.
2 ـ باطنية صوفية: وقد تبنوا رفع الشرائع عن الخاصة وغيرها.
خامساً ـ حكم الباطنية:
* أجمع المسلمون على أن الباطنية الملاحدة أكفر من اليهود والنصارى لوجهين:
1 ـ أن كفر الباطنية باطن كالمنافقين، وأما اليهود والنصارى فهم يعلنون كفرهم.
2 ـ أن الباطنية في حقيقتهم ينكرون الرسالات وينكرون الخالق والمعاد، وأما اليهود والنصارى فيقرون بجنس النبوة فهم أقل كفراً ممن ينكر أصلها، ويقرون بالخالق والمعاد.
* وهم أخطر من المنافقين الذين كانوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لوجهين:
1 ـ أن المنافقين دخلوا الإسلام خوفاً لحقن دمائهم وحفظ أموالهم، وأما الباطنية فدخلوه للكيد منه.
2 ـ أن المنافقين كانوا يقرون ما يقر به أهل زمانهم من إثبات الخالق والمعاد، وقد يقرون بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم باطناً لكنهم لم يتابعوه، وأما الباطنية فجحدوا الشرائع والنبوات ظاهراً وباطناً.
س5 ـ اذكر الأقيسة الجائزة وغير الجائزة في حق الله تعالى مع التعليل؟
ج ـ الأقيسة على ثلاث أقسام:
1 ـ قياس التمثيل: وهو القياس الأصولي وهو مساواة فرع بأصل في حكم لعلة جامعة بينهما.
وهذا القياس ممتنع في حق الله تعالى لأنه يستلزم التمثيل بينه وبين خلقه لأن فيه التسوية بين المقيس والمقيس عليه.
مثاله عند المتكلمين: قولهم بافتقار الله إلى العرش قياساً على افتقار المخلوق إذا استوى على العرش.
فالفرع عندهم: استواء الله.
والأصل: استواء المخلوق.
والعلة: الاستواء.
والحكم: هو الافتقار.
2 ـ قياس الشمول: وهو القياس المنطقي وهو ما كان مركباً من مقدمتين فأكثر ونتيجة بحيث تستوي الأفراد في كلي يشملها.
وهذا القياس ممتنع في حق الله تعالى لأن فيه تمثيلاً لله بمخلوقاته.
ومثاله عند المتكلمين: كل متصف بالصفات فهو جسم، والله متصف بالصفات فالنتيجة أن الله جسم فركبوا القياس ثم نفوا الصفات حتى لا يقعوا في التجسيم وهذا مسلك المعتزلة.
وهذان القياسان لا يجوز استخدامها في حق الله، وهما اللذان ينصب عليهما نهي السلف رحمهم الله.
3 ـ قياس الأوْلَى: وهو أن كل كمال اتصف به المخلوق فالخالق أولى به وكل نقص تنزه عنه المخلوق فالخالق أولى بالتنزيه عنه، وهذا يجوز في حق الله بضابطين:
• الضابط الأول: أن يكون الكمال ليس فيه نقص بأي وجه من الوجوه، فالأكل والشرب كمال عند المخلوق لكن فيه نقص من وجه وهو الافتقار والحاجة إليهما، فلا يصح أن يتصف بهما الخالق لهذا النقص.
• الضابط الثاني: أن يكون الكمال قد دل عليه النقل ثم يأتي القياس تعضيداً وتعزيزاً فقط.
* وقياس الأولى: مستفاد من النصوص الشرعية ومنها ما يلي:
1 ـ قوله تعالى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [النحل: 6.] أي وصف الكمال المطلق.
2 ـ وقوله تعالى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الروم: 27] .
س6 ـ ما حكم ضرب الأمثال لله تعالى؟ ولماذا؟ وما المثل الأعلى الذي يجب لله؟
ج ـ لا يجوز ضرب الأمثال لله تعالى التي فيها مماثلة بخلقه. لأنه سبحانه لا مثيل له بل له المثل الأعلى.
والمراد بالمثل الأعلى الذي يجب لله: هو أن كل ما اتصف به المخلوق من كمال جاز أن يتصف به الخالق فالخالق أولى به، وكل مل ينزه المخلوق عنه من نقص فالخالق أولى بالتنزيه عنه، فإذا كان المخلوق كنزهاً عن مماثلة المخلوق وإن حصلت موافقة في الاسمية، فالله تعالى أولى بذلك.
س7 ـ ما هو مراد شيخ الإسلام من إيراده بحث الروح هنا؟ وما سبب اختلاف واضطراب النفاة والمثبتة فيها، مع ذكر بعض من أقوال النفاة فيها؟
ج ـ مراده بيان أن الروح متصفة بصفات والبدن متصف بالصفات ولم يوجب ذلك أن تكون الروح مثل البدن فالرب سبحانه متصف بصفات وكذلك المخلوق، وليست صفات الخالق كصفات المخلوق.
وسبب اضطراب النفاة والمثبتة في الروح أن الروح التي تسمى بالنفس الناطقة عند الفلاسفة ليست هي من جنس هذا البدن ولا من جنس العناصر والمولدات منها، بل هي من جنس آخر مخالف لهذه الأجناس فصار هؤلاء لا يعرفونها إلا بالسلوب التي توجب مخالفتها في الأجسام المشهودة وطائفة أخرى يجعلونها من أجزاء البدن أو صفة من صفاته كقول بعضهم إنها الحياة أو المزاج أو نفس البدن.
والخلاصة أن سبب اختلافهم فيها:
ـ مخالفة النفس للمحسوس مما جعلهم يختلفون في تعريفها.
س8 ـ يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وإطلاق القول على
الروح بأنها جسم أو ليست بجسم يحتاج إلى تفصيل.." اشرح هذا التفصيل؟
ج ـ إطلاق القول على الروح بأنها جسم
…
أو ليست بجسم.. يحتاج إلى تفصيل. لأن في لفظ الجسم أقوالاً للناس متعددة الاصطلاح غير معناه الأصلي اللغوي، فأصل الجسم عند أهل اللغة: هو الجسد والبدن وبهذا الاعتبار ليست الروح جسماً وبهذا ليست الروح جسماً وبهذا يقولون: الروح، والجسم فيقرنون بينهما كما قال الله تعالى:{وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْم} [البقرة: 247]، وأما أهل الكلام فعندهم أن الجسم هو القائم بنفسه أو المركب من الجواهر المفردة أو المركب من المادة والصورة أو ليس مركباً مما ذكر.. بل هو ما يشار إليه. ويقال: إنه هنا وهناك، وهذا القول هو الصحيح الذي يشهد له العقل والنقل في تعريف الجسم وهو ما يقبل الإشارة الحسية ويمكن رؤيته، ومتصف بالصفات وعليه يصح أن تسمى الروح جسماً، لأنه مما يصح أن يشار إليه ويتبعها بصر الميت وإنها تقبض فيعرج بها إلى السماء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
س9 ـ اذكر مذاهب الناس في الروح؟
ج ـ أولاً: مذهب أهل السنة والجماعة أنها حقيقة موجودة موصوفة بصفات ثبوتية وسلبية، وقد أخبرت النصوص بأنها تعرج وتصعد كما في قوله تعالى:{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْه} [المعارج: 4]، وتقبض من البدن كما في قوله صلى الله عليه وسلم:"إن الروح إذا قبض تبعه البصر"، وتسل كما تسل الشعرة من العجين كما في حديث البراء بن عازب الذي أخرجه أحمد وغيره وصححه الألباني في أحكام الجنائز ص159، وغير ذلك من الصفات.
ثانياً: مذهب أهل الكلام وهم على قولين:
القول الأول: القائل بأنها من جنس الأجسام المشاهدة ثم يختلفون في تفسيرها كما يلي:
1 ـ أنها نفس البدن كما نقل عن عبد الرحمن بن الأصم وهو من معتزلة البصرة.
2 ـ أنها جزء من البدن.
3 ـ أنها هي النفس أو الريح المترددة في البدن كما نقل عن الباقلاني.
القول الثاني: القائل بأنها صفة من صفات البدن أي من جنس الأعراض ثم يفسرونها بما يلي:
أـ أنها الحياة.
ب ـ أنها المزاج.
ثالثاً: مذهب الفلاسفة: يصفون الروح بما يصفون به إلههم واجب الوجود فلا يصفونها إلا بالصفات السلبية الممتنعة كما سبق فيقولون: لا هي داخل البدن ولا هي خارجه، ولا مباينة ولا مداخلة، ولا متحركة ولا ساكتة، ولا تصعد ولا تهبط ولا جسم ولا عرض، ولهم أقوال أخرى.
س1. ـ عرّف ما يلي: النفس الناطقة، الجسم، الجواهر المفردة، الهيولى، الصورة والمادة؟
ج ـ النفس الناطقة: هي العاقلة المفكرة المدبرة التي تدرك الأمور الكلية والجزئية.
الجسم: في اللغة: هو الجسد والبدن الخارجي كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4] .فائدة: إذا كان الجسم هو الجسد والبدن الخارجي إذاً فلا يصح أن تسمى الروح في اللغة جسماً.
أما في الاصطلاح: فقد اختلف المتكلمون في الجسم على عدة أقوال منها:
1 ـ أن الجسم: هو الموجود وبهذا الإطلاق يصح تسمية الروح جسماً.
2 ـ أن الجسم هو القائم بنفسه ويصدق هذا على الروح بعد القبض أي بعد الموت لأنها تستقل عن الجسد.
3 ـ أن الجسم: هو المركب من الجواهر المفردة. وهذا لا يصدق على الروح.
4 ـ أن الجسم: هو المركب من المادة والصورة وهذا لا يصدق على الروح.
الجواهر المفردة: هي الأجزاء التي لا تقبل انقساماً لا في الخارج ولا في الفرض العقلي. وهذا عند المتكلمين، يخالفهم فيها جمهور العقلاء.
المادة: هي أصل الشيء، والجوهر الذي تقوم عليه الأشياء كالطين مثلاً وتسمى (الهيولى) .
الصورة: هي وضع الشيء وشكله بعد تركيبه وهو العرض القائم بالمادة كتشكيل ذلك الطين، فاجتماع الطين مع شكله يكون جسماً.