الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني: حياته العلمية
أولاً ـ نشأته العلمية:
ترعرع ابن تيمية في بيئة علمية صالحة، حيث نشأ تحت رعاية والده، وكان من العلماء الصالحين، وعني بتعليم ابنه وتهذيبه منذ نعومة أظافره، وساعد على ذلك: أن بدا عليه النجابة منذ حداثة سنه، وذلك لأمور: أولاً: الجد والاجتهاد والانصراف التام إلى طلب العلم وتحصيله، لا يلهو لهو الصبيان ولايعبث عبثهم. قال البزار:"ولم يزل إبان صغره مستغرق الأوقات في الجد والاجتهاد"1.
ثانياً: رزقه الله الذاكرة الحادة، والعقل المتيقظ، والفكر المستقيم، والنبوغ المبكر، قال البزار:"خصّه الله بسرعة الحفظ، وإبطاء النسيان، ولم يكن يقف على شيء أو يستمع لشيء غالباً إلا ويبقى على خاطره إما لفظه، أو معناه، وكان العلم كأنه اختلط بلحمه ودمه"2.
كان أول ما يتلقاه طلاب العلم في ذلك الوقت حفظ القرآن الكريم، ثم بعد ذلك يوجهون عنايتهم إلى دراسة الحديث النبوي الشريف وسائر العلوم الشرعية الأخرى، فحفظ القرآن الكريم في صغره، ثم اشتغل بحفظ الحديث مع ملازمته لمجالس الذكر وسماع الحديث والآثار، فسمع عدة مرات على عدد من الشيوخ ذوي الروايات الصحيحة العالية: مسند أحمد،
1 الأعلام العلية (ص17) .
2 الأعلام العلية (ص18) .
وصحيح البخاري، ومسلم، وجامع الترمذي، وسنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، والدارقطني، وأول كتاب حفظه في الحديث: الجمع بين الصحيحين للإمام الحميدي1.
قال ابن عبد الهادي: "وأقبل على الفقه وقرأ العربية على عبد القوي، ثم فهمهما وأخذ يتأمل كتب سيبويه حتى فهم النحو، وأقبل على التفسير إقبالاً كلياً حتى حاز فيه قصب السبق، وأحكم أصول الفقه وغير ذلك، هذا كله وهو يُعد ابن بضع عشرة سنة، فانبهر أهل دمشق من فرط ذكائه وسيلان ذهنه وقوة حافظته وسرعة إدراكه"2.
وقال الذهبي: "نشأ ـ يعني الشيخ تقي الدين رحمه الله في تصوّن تام وعفاف وتألّه وتعبُّد واقتصادٍ في الملبس والمأكل، وكان يحضر المدارس والمحافل في صغره، ويناظر ويفحم الكبار، ويأتي بما يتحيَّر منه أعيان البلد في العلم، فأفتى وله تسع عشرة سنة؛ بل أقل، وشرع في الجمع والتأليف من ذلك الوقت، وأكبّ على الاشتغال، ومات والده ـ وكان من كبار الحنابلة وأئمتهم ـ فدرّس بعده بوظائفه وله إحدى وعشرون سنة، واشتهر أمره، وبعُدَ صِيته في العالم"3.
وكان من أسرة عريقة في العلم كما تقدم.
ثانياً ـ أشهر شيوخه:
رأينا من قبل ابن تيمية اتصل بالعلماء منذ حداثة سنه4. فتلقى عن كل شيخ من شيوخ دمشق وامتاز به، وبلغ شيوخه الذين سمع منهم أكثر من مائتي شيخ5 ومن أشهرهم6:
1 الأعلام العلية (ص17ـ 18) .
2 العقود الدرية (ص4 ـ 5) .
3 المرجع السابق (ص4 ـ 5) .
4 المرجع السابق (ص5) .
5 المرجع السابق (ص18) .
6 الأسماء مرتبة على تاريخ الوفاة.
1 ـ زين العابدين أحمد بن عبد الدائم المقدسي، مسند الشام وفقيهها ومحدثها توفي في سنة (668هـ)1.
2 ـ المجد بن عساكر، محمد بن إسماعيل بن عثمان بن مظفر بن هبة الله الدمشقي، توفي في سنة (669هـ)2.
3 ـ عبد الرحمن بن سليمان بن سعيد بن سليمان البغدادي، توفي سنة (67.هـ)3.
4 ـ محمد بن علي الصابوني بن محمود بن أحمد المحمودي، توفي سنة (67.هـ)4.
5 ـ تقي الدين إسماعيل بن إبراهيم بن أبي اليسر، مسند الشام، توفي في سنة (672هـ)5.
6 ـ كمال الدين بن عبد العزيز بن عبد المنعم بن الخضر بن شبل الدمشقي، توفي في سنة (672هـ)6.
7 ـ سيف الدين يحيى بن عبد الرحمن بن نجم الدين بن عبد الوهاب الحنبلي، توفي في سنة (672هـ)7.
8 ـ المؤمل بن محمد البالسي ثم الدمشقي توفي في سنة (677هـ)8.
9 ـ يحيى بن أبي منصور الصيرفي، توفي سنة (687هـ)9.
1 فوات الوفيات (1/81) ، شذرات الذهب (5/325) .
2 شذرات الذهب (5/331) ، العقود الدرية (ص5) .
3 شذرات الذهب (5/332) .
4 شذرات الذهب (5/333) .
5 شذرات الذهب (5/338) ، فوات الوفيات (1/17.) .
6 شذرات الذهب (5/338) .
7 المرجع السابق (5/34.) .
8 المرجع السابق (5/36.) .
9 المرجع السابق (5/363) .
10ـ أحمد بن أبي الخير سلامة بن إبراهيم الدمشقي الحداد الحنبلي، توفي سنة (678هـ)1.
11 ـ أبو بكر بن عمر بن يونس المزي الحنفي، توفي سنة (68.هـ)2.
12 ـ عبد الرحيم بن عبد الملك بن يوسف بن قدامة المقدسي، توفي في سنة (68.هـ)3.
13 ـ المسلم بن محمد المسلم بن خلف القيسي، توفي في سنة (68.هـ)4.
14 ـ القاسم بن أبي بكر بن القاسم بن غنيمة الأربلي، توفي في سنة (68.هـ)5.
15 ـ إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم الدرجي القرشي الحنفي، توفي سنة (681هـ)6.
16 ـ المقداد بن أبي القاسم، هبة الله القيسي توفي سنة (681هـ)7.
17 ـ عبد الحليم بن عبد السلام، ابن تيمية والد شيخ الإسلام، ودرس عليه الفقه والأصول، توفي سنة (682هـ)8.
18 ـ محمد بن أبي بكر العامري الدمشقي، توفي سنة (682هـ)9.
19 ـ إسماعيل بن أبي عبد الله بن العسقلاني، توفي سنة (682هـ)10.
1 شذرات الذهب (5/36.) .
2 المرجع السابق (5/37.) .
3 المرجع السابق (5/366) .
4 المرجع السابق (5/369) .
5 المرجع السابق (5/367) .
6 المرجع السابق (5/373) .
7 المرجع السابق (5/374) .
8 المرجع السابق (5/376) .
9 المرجع السابق (5/381) .
10 المرجع السابق (5/375) .
20 ـ محمد بن عبد المنعم القواس، توفي سنة (682هـ)1.
21 ـ محمد بن عامر بن أبي بكر الصالحي، توفي سنة (684هـ)2.
22 ـ أحمد بن شيبان بن حيدرة الشيباني الصالحي العطار، ثم الخيّاط، توفي سنة (685هـ)3.
23 ـ الجمال أحمد بن أبي بكر الحموي، توفي سنة (687هـ)4.
24 ـ يوسف بن يعقوب المجاور، توفي سنة (69.هـ)5.
25 ـ الشيخة الجليلة: أم العرب فاطمة ينت أبي القاسم علي بن عساكر، توفيت في سنة (683هـ)6.
26 ـ الشيخة الصالحة: أم الخير بنت العرب بنت حي بن قايماز الدمشقية الكِندية، توفيت سنة (684هـ)7.
27 ـ الشيخة الصالحة: زينب بنت أحمد بن عمر بن كامل المقدسية، توفيت سنة (722هـ)8.
28 ـ الشيخة الصالحة: زينب بنت مكي بن علي بن كامل الحراني، توفيت سنة (688هـ)9.
1 شذرات الذهب (5/38.) .
2 المرجع السابق (5/389) .
3 المرجع السابق (5/39.) .
4 المرجع السابق (5/4..) .
5 المرجع السابق (5/416) .
6 المرجع السابق (5/383) .
7 المرجع السابق (5/385) .
8 المرجع السابق (5/4.4) .
9 المرجع السابق (6/56) .
هذا وقد صرّح شيخ الإسلام بالأخذ عن هؤلاء الشيوخ كما في الجزء (18/76 ـ 122) من مجموع فتاوى شيخ الإسلام.
ثالثاً ـ من أشهر تلاميذه:
1 ـ أحمد بن إبراهيم بن عبد الرحمن الواسطي، توفي سنة (711هـ)1.
2 ـ علي بن المظفر بن إبراهيم الكندي الاسكندراني ثم الدمشقي، توفي سنة (716هـ)2.
3 ـ محمد بن سعد بن عبد الأحد الحرّاني ثم الدمشقي، توفي سنة (723هـ)3.
4 ـ محمد بن النجا التنوخي الدمشقي، توفي سنة (724هـ)4.
5 ـ عبد الله بن موسى الجزري، توفي سنة (725هـ)5.
6 ـ أبو بكر بن شريف بن محصن بن معن بن عمار الصالحي، توفي سنة (728هـ)6.
7 ـ عبد الله بن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن محمد المقدسي الصالحي، توفي سنة (737هـ)7.
8 ـ عبادة بن عبد الغني بن عبادة الحراني ثم الدمشقي، توفي سنة (738هـ)8.
9 ـ محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن
1 الرد الوافر (ص124) .
2 المرجع السابق (ص187) .
3 المرجع السابق (ص187) .
4 ذيل طبقات الحنابلة (2/377) .
5 الرد الوافر (ص172) .
6 المرجع السابق (ص221) .
7 المرجع السابق (ص169) .
8 شذرات الذهب (6/117) .
قدامة المقدسي، توفي سنة (744هـ)1.
10ـ بهاء الدين بن علي بن عبد الولي بن خولان، البعلي، الفقيه الحنبلي، توفي في سنة (744هـ)2.
11 ـ أحمد بن محمد بن عبد الغني الحراني ثم الدمشقي الفقيه الحنبلي، توفي سنة (745هـ)3.
12 ـ محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي الشافعي، إمام المعدلين والمجرحين وناقد المحدثين، توفي سنة (748هـ)4.
13 ـ عمر بن سعد الله بن عبد الأحد الحراني ثم الدمشقي الفقيه الحنبلي، توفي سنة (749هـ)5.
14 ـ محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي ثم الدمشقي، المعروف بابن القيم، وهو أبرز تلامذة شيخ الإسلام وأشهرهم وأكثرهم أخذاً عن الشيخ وتأثراً به، توفي سنة (751هـ)6.
15 ـ محمد بن أبي بكر بن معالي بن إبراهيم بن زيد الأنصاري الخزرجي الدمشقي، المعروف ابن المهيني، توفي سنة (755هـ)7.
16 ـ صلاح الدين خليل بن الأمير سيف الدين بن عبد الله العلائي مولاهم الدمشقي الشافعي، توفي سنة (761هـ)8.
1 شذرات الذهب (6/141) .
2 المرجع السابق (6/142) .
3 المرجع السابق (6/142) .
4 المرجع السابق (6/142) .
5 الرد الوافر (ص65) .
6 شذرات الذهب (6/162) .
7 شذرات الذهب (6/168) .
8 الرد الوافر (ص163) .
17 ـ محمد بن إبراهين محمد الأنصاري، الخزرجي البيساني الدمشقي المقدسي، توفي سنة (762هـ)1.
18 ـ أحمد بن موسى الزرعي الحنبلي، توفي سنة (762هـ)2.
19 ـ محمد بن مفلح بن محمد المقدسي، ثم الصالحي الحنبلي، توفي سنة (763هـ)3.
2.
ـ إبراهيم بن مؤيد الدين أبي المعالي بن العز التميمي بن القلانسي الدمشقي الشافعي، توفي سنة (765هـ)4.
21 ـ أحمد بن الحسن بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن قدامة المقدسي، توفي سنة (771هـ)5.
22 ـ إسماعيل بن عمر بن كثير بن ضوء بن كثير، صاحب التفسير الشهير، توفي سنة (774هـ)6.
23 ـ محمد بن عبد الله بن أحمد بن المحب السعدي المقدسي ثم الصالحي الحنبلي، توفي سنة (788هـ)7.
24 ـ أحمد بن محمد بن عبد الله بن الحسن الحميري، المصري الأصلي ثم الدمشقي8.
25 ـ أحمد بن الحسن بن عبد الله بن الشيخ أبي عمر9.
1 الرد الوافر (ص8.) .
2 شذرات الذهب (6/197) .
3 شذرات الذهب (6/199) .
4 الرد الوافر (ص145) .
5 الرد الوافر (ص132) .
6 شذرات الذهب (6/231) .
7 الرد الوافر (ص91) .
8 الرد الوافر (ص122) .
9 ذيل طبقات الحنابلة (2/453) .
رابعاً ـ مكانته العلمية وثناء العلماء عليه:
كان ابن تيمية إماماً مجتهداً، تعددت مجالاته العلمية، فنبغ في العلوم لا سيما في علم العقيدة والحديث والتفسير، وأتقن العربية أصولاً وفروعاً. قال الحافظ أبو الفتح اليعمري: يصف نبوغ ابن تيمية وسعة علمه: "إن تكلم في التفسير فهو حامل رايته، وإن أفتى في الفقه فهو مدرك غايته، أو ذاكر بالحديث فهو صاحب علمه، وذو روايته، أو حاضر بالنِّحَل والمِلَل لم يُرَ أوسع من نحلته، ولا أرفع من درايته، برز في كل فن على أبناء جنسه"1.
وكان له مع ذلك اطلاع واسع وإدراك لعلوم كثيرة أخرى، كالحساب والجبر والمقابلة وأنواع الفلسفة. وقال عنه ابن العماد:"أحكم أصول الفقه والفرائض والحساب والمقابلة وغير ذلك من العلوم، ونظر في الكلام والفلسفة وبرز في ذلك على أهله، وردّ على رؤسائهم وأكابرهم"2.
وسوف أقدم في هذا البحث حديثاً موجزاً عن هذه الجوانب العلمية مقتصراً على العلوم الشرعية:
· أولاً ـ في العقيدة:
كان ابن تيمية واسع المعرفة العقدية وآراء أصحابها، وليس أدلّ على ذلك من كتبه:(درء تعارض العقل والنقل) ، و (تلبيس الجهمية) ، و (الاستقامة) ، و (الصفدية) ، و (منهاج السنة) .
ففيها عرضٌ كامل للعقيدة الإسلامية الصحيحة والرد على المذاهب الكلامية والمخالفة لمنهج السلف، فقد ناقش مذهب الجهمية والمعتزلة
1 ذيل طبقات الحنابلة (2/39.) .
2 شذرات الذهب (6/18) .
والمرجئة والشيعة، وتدلّ ردوده على هذه المذاهب على سعة معرفته بأصولها.
قال البزّار: "أبانَ بحمد الله تعالى فيما ألَّف فيها لكل بصير الحق من الباطل، وأعانه بتوفيقه حتى رد عليهم بدعهم وآراءهم، وخدعهم وأهواءهم، مع الدلائل بالطريقة العقلية حتى يجيب عن كل شبهة من شبههم بعدة أجوبة جلية واضحة، يعقلها كل ذي عقل صحيح، ويشهد لصحتها كل عاقل صحيح"1.
ولم يكتف رحمه الله بمعرفة مذاهب أهل البدع؛ بل قرأ كتب الفلاسفة وأهل المنطق وأحاط بها ورد عليها في كتبه، خاصة كتاب (نقض المنطق) ، و (الرد على المنطقيين) ، و (الصفدية) .
قال الذهبي: "عرَف أقوال المتكلمين ورد عليهم، ونبّه على خطئهم وحذّر منهم، ونصر السُّنة بأوضح حجج وأبهر براهين"2.
كذلك: قرأ كتب النصارى ودرسها دراسة "فاحصة" وردّ عليهم في كتابه القيم (الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح) ، فقد كان يعد نفسه للدفاع عن الإسلام في كل الميادين؛ لذلك أكثر من التصنيف والتأليف في العقيدة وأصول الدين.
قال البزار: "ولقد أكثر رضي الله عنه التصنيف في الأصول فضلاً عن غيره من بقية العلوم، فسألته عن سبب ذلك والتمست منه تأليف نص في الفقه يجمع اختياراته وترجيحاته ليكون عمدة في الإفتاء، فقال لي ما معناه: الفروع أمرها قريب، ومن قلّد فيها المسلم أحد العلماء المقلدين، جاز له العمل بقوله ما لم يتيقن خطأه.
وأما الأصول: فإني رأيت أهل البدع والضلالات والأهواء كالمتفلسفة والباطنية، والملاحدة، والقائلين بوحدة الوجود، والدهرية، والقدرية،
1 الأعلام العلية (ص35) .
2 ذيل طبقات الحنفية (2/389) .
والنصيرية، والجهمية، والحلولية، والمعطِّلة، والمجسِّمة، والمشبِّهة، والراوندية، والكلابية، والسليمية، وغيرهم من أهل البدع، فقد تجاذبوا فيها بأزِمَّة الضلال وبَان لي أن كثيراً منهم إنما قصدوا إبطال الشريعة المقدسة المحمدية، الظاهرة العلية على كل دين، وأن جمهورهم أوقع الناس في التشكيك في أصول دينهم؛ ولهذا قلَّ أن سمعتُ أو رأيتُ معرضاً عن الكتاب والسنة مقبلاً على مقالاتهم إلا تزندق، أو صار على غير يقين في دينه واعتقاده.
فلما رأيت الأمر على ذلك بَانَ لي أنه يجب على كل من يقدر دفع شبههم وأباطيلهم، وقطع حجتهم وأضاليلهم أن يبذل جهده ليكشف رذائلهم وزيف دلائلهم ذباً عن الملة الحنيفية والسنة الصحيحة الجلية.
ولا ـ والله ـ ما رأيتُ فيهم أحداً ممن صنّف في هذا الشأن وادّعى علو المقام إلا وقد ساعد بمضمون كلامه على هدم قواعد دين الإسلام.
وسبب ذلك: إعراضه عن الحق الواضح المبين، وعن ما جاءت به الرسل الكرام عن رب العالمين، واتباعه طرق الفلسفة وفي الاصطلاحات التي سموها بزعمهم: حكميات وعقليات وإنما هي: جهالات وضلالات، وكونه التزمها معرضاً عن غيرها أصلاً ورأساً، فغلبت عليه حتى غطت على عقله السليم، فتخبط حتى خبط فيها عشواء، ولم يفرق بين الحق والباطل وإلا فالله أعظم لطفاً بعباده ألا يجعل لهم عقلاً يقبل الحق ويثبته، ويبطل الباطل وينفيه، لكن عدم التوفيق وغلبة الهوى أوقع من أوقع في الضلال، وقد جعل الله العقل السليم من الشوائب ميزاناً يزن به العبد الواردات، فيفرق به بين ما هو من قبيل الحق، وما هو من قبيل الباطل.
ولم يبعث الله الرسل إلا إلى ذوي العقل، ولم يقع التكليف إلا مع وجوده، فكيف يقال: إنه مخالف لبعض ما جاءت به الرسل الكرام عن الله تعالى؟.
هذا باطل قطعاً يشهد له كل عقل سليم، لكن {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:4.] .
قال الشيخ الإمام ـ قدّس الله روحه ـ: "فهذا ونحوه هو الذي أوجب أني صرفت جلّ همي إلى الوصول، وألزمني أن أوردت مقالاتهم وأجبتُ عنها، بما أنعم الله تعالى به من الأجوبة النقلية والعقلية"1.
· ثانياً ـ في الحديث:
علم الحديث لا يؤخذ إلا بالسماع على الشيوخ ليسند روايته على من قرأ عليه، ورأينا من قبل: أن ابن تيمية بدأ في طلب الحديث وسماعه في حداثة سنه، وشيوخه الذين سمع منهم أكثر من مائتي شيخ، فسمع أكثر من مرة مسند الإمام أحمد، والكتب الستة، ومعجم الطبراني الكبير، وما لا يحصى من الكتب والأجزاء.
قال ابن عبد الهادي: "قرأ بنفسه الكثير، وطلب الحديث، وكتب الطباق والإثبات، ولازم السماع بنفسه مدة سنتين"2.
وقال الذهبي: "كان عجيباً في معرفة علم الحديث، فأما حفظه متون الصحاح وغالب متون السنن والمسند فما رأيت من يدانيه في ذلك أصلاً"3.
وذكر الحافظ أبو الفتح اليعمري: أن ابن تيمية كاد يستوعب السنن والآثار حفظاً4.
أما معرفته بعلم الجرح والتعديل والصحيح والضعيف: فذكر الذهبي: " أن له خبرة تامة بالرجال وتعديلهم وطبقاتهم وله معرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، والصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه التي انفرد به فلا يبلغ أحد في العصر رتبته ولا يقاربه، وهو عجيب في استحضاره واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى الكتب الستة والمسند بحيث
1 الأعلام العلية (ص33ـ 35)
2 العقود الدرية (ص248) .
3 ذيل الطبقات للحنابلة (2/391) .
4 ذيل طبقات الحنابلة (2/39.) .
يصدق عليه أن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث"1.
وقال البزار: "أما معرفته بصحيح النقل وسقيمه: فإنه في ذلك من الجبال التي لا تُرتَقى ذروتها، ولايُنال سنامها، قلَّ إن ذكر له قول إلا وقد أحاط علمه بمبتكره وذاكره وناقله وأثره، أو راوٍ وقد عرف حاله من جرح ٍ وتعديل بإجمال وتفصيل"2.
· ثالثاً ـ في التفسير:
ابن تيمية إمامٌ في التفسير وصاحب تصنيف فيه.
قال الذهبي: "أما التفسير فمسلّم إليه، وله من استحضار الآيات من القرآن وقت إقامة الدليل بها على المسألة قوة عجيبة، ولفرط إمامته في التفسير وعظم اطلاعه بيَّن خطأ كثير من أقوال المفسرين، ويوهي أقوالاً عديدة وينصر قولاً واحداً موافقاً لما دل عليه القرآن والحديث"3.
قال البزار: "أما غزارة علومه فمنها: ذكر معرفته بعلوم القرآن المجيد واستنباطه لدقائقه، ونقله لأقوال العلماء في تفسيره، واستشهاده بدلائله، وما أودعه الله تعالى فيه من عجائبه، وفنون حكمه، وغرائب نوادره، وباهر فصاحته، وظاهر ملاحته، فإنه فيه من الغاية التي يُنتهى إليها، والنهاية التي يعوّل عليها، ولقد كان إذا قُرئ في مجلسه آيات من القرآن العظيم يشرع في تفسيرها، فينقضي المجلس بجملته، والدرس برمته وهو في تفسير بعض آية منها، وكان مجلسه في وقتٍ مقدَّرٍ بقدر ربع النهار يفعل ذلك بديهة من غير أن يكون له قارئ معين يقرأ له شيئاً معيناً يبيته ليستعدّ لتفسيره، بل كان من حضر يقرأ ما تيسر ويأخذ هو في القول على تفسيره.
وكان غالباً لا يقطع إلا ويفهم السامعون أنه لولا مضي الزمن المعتاد لأورد أشياء أُخَرَ من معنى ما هو فيه من التفسير، لكن يقطع نظراً في مصالح
1 ذيل طبقات الحنابلة (2/391) .
2 الأعلام العلية (ص3.) .
3 الأعلام العلية (ص3.) .
الحاضرين، ولقد أملى من تفسير:{قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]
مجلداً كبيراً، وقوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] نحو خمس وثلاثين كراسة.
ولقد بلغني أنه شرع في تفسير لو أتمه لبلغ خمسين مجلداً"1.
· رابعاً ـ في الفقه:
كان ابن تيمية رحمه الله على مذهب الإمام أحمد بن حنبل إلا أنه لم يكن يلزمه في آرائه وفتاويه، بل كان مجتهدا يقول ويفتي بما قام عليه الدليل عنده.
قال الذهبي: "وفاق الناس في معرفة الفقه واختلاف المذاهب وفتاوى الصحابة والتابعين بحيث إذا أفتى لم يلتزم
بمذهب بل بما يقوم عليه الدليل"2.
وقال كمال الدين بن الزِّمْلِكاني: "كان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جالسوه استفادوا في مذاهبهم منه أشياء، ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم سواء كان في علم الشرع أو غيرها إلا فاق فيه أهله، واجتمعت فيه شروط الاجتهاد على وجهها"3.
وذكر الصفدي أن ابن تيمية: "أقبل على الفقه دقائقه، وغاص على مباحثه، ونظر في أدلته وقواعده وحججه والإجماع والاختلاف حتى كان يقضى منه العجب، إذا ذكر مسألة من الخلاف استدل ورجح واجتهد"4.
فمن المسائل التي أفتى فيها باجتهاده وخالف فيها أهل المذاهب الأربعة، أو خالف فيها المشهور ما نقله تلميذه (ابن عبد الهادي) في (العقود الدرية) 5، وإليك بعضاً منها:
1 الأعلام العلية (ص2.ـ21) .
2 ذيل طبقات الحنابلة (2/389) .
3 شذرات الذهب (6/82) .
4 الوافي بالوفيات (7/16) .
5 العقود الدرية (ص212) .
1 ـ القول: بوجوب الكفارة في الحلف بالطلاق، وإن الطلاق الثلاث بلفظ واحد لا يقع إلا واحدة، وإن الحلف بلفظ الطلاق لا يقع به الطلاق إذا حنث وليس على الحالف إلا كفارة اليمين.
2 ـ القول: بقصر الصلاة في كل ما يسمى سفراً طويلاً كان أو قصيراً دون اشتراط مسافة معينة، كما هو عند بعض الصحابة.
3 ـ القول: بأن سجود التلاوة لا يُشترط له وضوء كما يشترط للصلاة.
4 ـ القول: بأن من أكل في شهر رمضان معتقداً أنه بليل فبان الوقت نهاراً لا قضاء عليه كما هو الصحيح عن عمر بن الخطاب، وإليه ذهب بعض التابعين.
5 ـ القول: بإباحة وطء الوثنيات بملك يمين، أي مثل إماء أهل الكتاب.
6 ـ القول: بأن المتمتع يكفيه سعي واحد بين الصفا والمروة، كما هو في القارن والمفرد.
7 ـ القول: بجواز بيع الأصل بالعصير: كالزيتون بالزيت.
8 ـ القول: بأن المائع لا ينحبس بوقوع النجاسة فيه إلا أن يتغير قليلاً كان أو كثيراً.
وفي الجملة: فالإمام (ابن تيمية) قد فاق أهل عصره برجحان عقله وسعة علمه وصدق جهاده وصحة اجتهاده، حتى أكثر العلماء من الثناء عليه، ومن أبلغ ما قاله إمام الجرح والتعديل (الحافظ المزي) المتوفى (742هـ) حيث قال:"ما رأيت مثله، ولا هو رأى مثل نفسه، وما رأيت أحداً أعلم بكتاب الله وسنة رسوله ولا أتبع لهما منه"1.
· خامساً ـ مؤلفاته:
الإمام (ابن تيمية) من المكثرين في التأليف، فقد وصفه ابن عبد الهادي، بقوله: "ولا أعلم أحداً من متقدمي الأمة ولا متأخريها جمع مثل جمع،
1 شذرات الذهب (6/84) .
ولا صنف نحو ما صنف ولا قريباً من ذلك، مع أن أكثر تصانيفه إنما أملاها من حفظه، وكثير منها صنفها في الحبس وليس عنده ما يحتاج إليه من الكتب"1.
وتبلغ تصانيف (ابن تيمية) خمسمائة مجلد، ذكر ذلك الذهبي2.
أما ابن عبد الهادي: فيذكر أن للشيخ من المصنفات والفتاوى والقواعد والأجوبة والرسائل وغير ذلك من الفوائد ما لا ينضبط3، ولو أراد الشيخ ابن تيمية أو غيره حصرها لما قدروا.
وعلّل على ذلك بقوله: "قد متّ الله عليه سرعة الكتابة ويكتب من حفظه من غير نقل، وكان يكتب في السؤال الواحد مجلداً وأما جواب السؤال فيكتب فيه خمسين ورقة أو أربعين أو عشرين فكثير، وكان يكتب الجواب فإن حضر من يبيضه وإلا أخذ السائل خطه وذهب.
ويكتب قواعد كثيرة في فنون من العلم فإن وجد من نقله بخطه وإلا لم يشتهر ولم يعرف، وربما أخذه بعض أصحابه فلا يقدر على نقله ولا يرده إليه فيذهب، وكان كثيراً يسأل عن الشيء فيقول: قد كتبت في هذا، فلا يدري أين هو؟ فيلتفت إلى أصحابه ويقول: ردوا خطي، وأظهروه لينقل، فمن حرصهم عليه لا يردونه، ومن عجزهم لا ينقلونه، فيذهب ولا يُعرف اسمه، فهذا تعذر إحصاء ما كتبه وصنفه"4.
وهذه طائفة من أهم مصنفاته:
1 ـ كتاب الإيمان ـ مجلد.
2 ـ درء تعارض العقل والنقل. طبع في عشرة مجلدات، بتحقيق د. محمد رشاد سالم رحمه الله.
1 انظر: العقود الدرية (ص2.ـ21) .
2 انظر: شذرات الذهب (6/84) .
3 انظر: العقود الدرية (ص2.) .
4 انظر: العقود الدرية (ص47ـ48) .
3 ـ كتاب الاستقامة. طبع في مجلدين بتحقيق د. محمد رشاد سالم.
4 ـ كتاب الصفدية. طبع في مجلدين بتحقيق د. محمد رشاد سالم.
5 ـ تلبيس الجهمية. طبع قسم منه في مجلدين بتصحيح الشيخ: محمد بن قاسم.
6 ـ الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح. طبع في سبع مجلدات.
7 ـ منهاج السنة. طبع في تسعة مجلدات بتحقيق د. محمد رشاد سالم.
8 ـ وقد جمع من رسائل شيخ الإسلام وفتاويه حتى بلغت (35) مجلداً تحت اسم: مجموعة فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية ـ طيب الله ثراه ـ قام بجمعها وترتيبها الشيخ: عبد الرحمن بن قاسم وساعده ابنه محمد.