المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ أقسام التوحيد ثلاثة: - شرح العقيدة السفارينية - جـ ١

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌ أقسام التوحيد ثلاثة:

بسم الله الرحمن الرحيم

‌تمهيد

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين،،، أما بعد:

فهذه المنظومة بين فيها المؤلف (1) رحمه الله عقيدة السلف رحمهم الله، وإن كان في بعضها شيء من المخالفات التي يأتي التنبيه عليها - إن شاء الله.

واعلم أن‌

‌ أقسام التوحيد ثلاثة:

توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات.

فأما توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية فلم يختلف فيه أهل القبلة، يعني لم يختلف فيه المسلمون، بل كل المسلمين مجمعون على توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، أي: أنه يجب إفراد الله عز وجل بالربوبية، ويجب إفراده بالعبادة.

وأما توحيد الأسماء والصفات فهو الذي اختلف فيه أهل القبلة، أي: المنتسبون إلى الإسلام اختلافا يمكن أن نقول انه على ستة أقسام في إجراء النصوص:

القسم الأول: من أجرى النصوص على ظاهرها اللائق بالله تعالى وترك ما وراء ذلك. وهؤلاء هم السلف وأتباعهم.

(1) هو العلامة الشيخ محمد بن أحمد بن سالم بن سليمان السفارني الشهرة والمولد، النابلسي الحنبلي، ولد عام 1114هـ، وتوفي عام 1188 هـ - رحمه الله تعالى -.

ص: 17

فـ (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) قالوا: إن ظاهره أن الله استوى على العرش، أي علا عليه، فنؤمن بأن الله سبحانه وتعالى نفسه علا على العرش ولا نلتفت لما وراء ذلك، لا نقول: أين الله قبل أن يخلق العرش؟ ولا نقول: هل استواؤه على العرش بمماسة أو بانفصال؟

ولا نقول: إن استواءه على العرش للحاجة إليه، بل يجب أن نقول إنه ليس للحاجة إليه، وفرق بين الأمرين.

فنقول: إن استواء الله على العرش ليس لحاجته إلى العرش، بخلاف استواء الإنسان مثلا على السرير أو على الدابة فهو للحاجة إليها، ولهذا لو أزيل السرير من تحته لسقط أما الرب عز وجل فان استواءه على عرشه لظهور عظمته عز وجل، وتمام ملكه، وليس لأنه محتاج إلى العرش، بل إن العرش وغيره في حاجة إلى الله عز وجل في إيجاده وإمداده. فلا يمكن أن نقول: إن استواء الله على العرش للحاجة إليه.

ولا نقول: إن استواء الله على العرش يقتضي أن يكون الله جسما أو ليس بجسم؛ لأن مسألة الجسيمية لم ترد في القرآن ولا في السنة إثباتا ولا نفيا، ولكن نقول بالنسبة للفظ لا ننفي ولا نثبت، فلا نقول جسم ولا غير جسم.

لكن بالنسبة للمعنى نستفصل ونقول للقائل: ماذا تعني بالجسم؟ هل تعني انه الشيء القائم بنفسه، المتصف بما يليق به، الفاعل بالاختبار، القابض، الباسط؟

إن أردت هذا فهو حق ومعنى صحيح، فالله تعالى قائم بنفسه، فعال

ص: 18

لما يريد، متصف بالصفات اللائقة به، يأخذ ويقبض ويبسط، ويقبض السماوات بيمينه ويهزها.

وإن أردت بالجسم الشيء الذي يفتقر بعضه إلى بعض، ولا يتم ألا بتمام أجزائه، فهذا ممتنع على الله؛ لأن هذا المعنى يستلزم الحدوث والتركيب، وهذا شيء ممتنع على الله عز وجل.

والمهم أننا نقول: إن من أهل القبلة من أجرى النصوص على ظاهرها اللائق بالله عز وجل دون أن يتعرض لشيء، وهؤلاء هم السلف، وطريقة السلف على هذا الوجه اسلم وأعلم وأحكم:

فهي اسلم لأنهم لم يتعرضوا لشيء وراء النصوص.

وأعلم لأنهم أخذوا عقيدتهم عن كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وأحكم لأنهم سلكوا الطريق الواجب سلوكها، وهو إجراء النصوص على ظاهرها اللائق بالله عز وجل.

ومن هم هؤلاء السلف؟

هم الصحابة رضي الله عنهم والتابعون لهم بإحسان وأئمة المسلمين؛ كالإمام احمد بن حنبل، ومالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وسفيان الثوري، والأوزاعي، وغيرهم من أئمة المسلمين.

وهل يمكن أن تكون السلفية في وقتنا الحاضر؟

نعم يمكن ونقول: هي سلفية عقيدة، وإن لم تكن سلفية زمنا؛ لأن السلف سبقوا زمنا، لكن سلفية هؤلاء سلفية عقيدة، بل عقيدة وعمل في

ص: 19

الواقع، وهم بالنسبة لمن بعدهم سلف، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام في زيارة المقابر:((أنتم سلفنا ونحن بالأثر)) (1)

القسم الثاني: من اجروا النصوص على ظاهرها، وقالوا: النصوص على ظاهرها لكنها من جنس صفات المخلوقين، فقالوا: إن لله يدا كأيدينا، ووجها كوجوهنا. وهؤلاء هم الممثلة، وهم بلا شك ضالون، لم يقدروا الله حق قدره، ولو قدروا الله حق قدره ما جعلوا صفاته كصفات خلقه.

وهم أيضا متناقضون، لأنهم لم يجعلوا الذات الإلهية كالذات المخلوقة، ومعلوم أن الصفات فرع عن الذات، فإذا كانت الذات لا تماثل ذوات المخلوقين، فالصفات أيضا لا تماثل صفات المخلوقين؛ لان صفة كل ذات تناسبها.

أرأيت رجل البعير ورجل الذرة هل يتماثلان؟ الجواب: لا يتماثلان، بل بينهما فرق عظيم جدا.

فإذا قال قائل: عندي رجل جمل، وقال الثاني: عندي رجل ذرة، هل يفهم أحد من الناس أن الذي عند الثاني كالذي عند الأول؟

فالجواب: لا؛ لان ذات الجمل ليست كذات الذرة، إذا صفات الجمل ليست كصفات الذرة.

وأيضا قوة الفيل وقوة الذرة، كلاهما قوة، ولكنهما غير متماثلين؛ لان قوة الذرة صغيرة تعجز عن شيء يسير، أما الفيل فقوته تساعده على حمل الأشياء العظيمة.

(1) رواه الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما يقوم الرجل إذا دخل المقابر، رقم (1053) .

ص: 20

فإذا قال الله عن نفسه عز وجل:) بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) (المائدة: الآية 64)(لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)(صّ: 75) فلا يمكن لعاقل أبدا أن يعتقد أو يتصور أن يد الله عز وجل كيد المخلوق. وكيف يمكن ذلك والله عز وجل يقول:) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (الزمر: 67) ويقول تعالى:) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ) (الأنبياء: 104) .

فالإنسان الكاتب يطوي الكتاب بسهولة، لكن هل يمكن للبشر كلهم أن يطووا واحدة من السماوات؟ لا يمكن أبدا. إذا هؤلاء الممثلة ضالون لم يقدروا الله حق قدره.

وهل هم كافرون بذلك؟ نعم كافرون لان الله عز وجل يقول:) لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: الآية 11)) فإذا قال قائل: بل مثله شيء فقد كذب الخبر، وتكذيب خبر الله كفر، ولهذا قال نعيم بن حماد الخزاعي رحمه الله شيخ البخاري:((من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها)) (1) ، فإذا هؤلاء ضالون وكفار أيضا.

ومن هذا ما ينشر في الأفلام الكرتونية حيث إنهم يشبهون الله عز وجل بشيخ رهيب، مزعج المنظر، ذي لحية طويلة، عملاق، فوق السحاب، يسخر الرياح ويعمل ما يريد، والحقيقة أني اشهد الله أن هذا نشر للكفر الصريح، لان الصبي إذا شاهد مثل هذا وفي أول تمييزه، سوف ينطبع في

(1) انظر مجموع الفتاوى 5/110.

ص: 21

نفسه إلى أن يموت ألا ما شاء الله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)) (1) .

ولهذا أقول: إن الذين يعرضون هذه الأشياء لصبيان المسلمين، سوف يحاسبون عند الله حسابا عسيرا يوم القيامة؛ لأنهم يريدون - شاءوا أم أبوا - أن يضل الناس بهذا ضلالا مبينا.

وعلينا جميعا إذا كانت الأفلام على هذا الوجه أن نحذر منها أهل البيوت؛ حتى لا يقعوا في هذا الشر المستطير الذي هو أعظم من شر الأغاني وغيرها؛ لان كون الإنسان يمثل الله عز وجل بهذه الصورة البشعة لا شك انه من أعظم المنكر والعياذ بالله.

وأقول: انظر إلى أعداء الله كيف يريدون أن يهينوا رب العزة والجلال بهذه الأشياء التي تسري على الناس سريان النار في الفحم من غير أن يشعر بها، وسريان السم في الجسد من غير أن يشعر به.

والواجب علينا نحن المسلمين ولا سيما في بلادنا هذه أن نكون حذرين يقظين؛ لان بلادنا هذه مغزوة في العقيدة وفي الأخلاق، وفي الأعمال، ومن كل وجه.

ولا تظن أن الغزو أن يقبل العدو بجحافله ودباباته وصواريخه ليهدم الديار ويقتل الناس فحسب، بل الغزو هو هذا الغزو المشكل الذي يدخل الناس من حيث لا يشعرون، والإنسان بشر مدني متكيف، ينفر من الشيء أول ما يسمعه، ولكن بعد مدة يرتاح إليه ويألفه، ويكون كأنه أمر عادي،

(1) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب إذا اسلم الصبي فمات هل يصلى عليه؟ ،

رقم (1358) ، ومسلم، كتاب القدر، باب معنى كل مولود على الفطرة وحكم موت

، رقم (2658) .

ص: 22

حتى الأمراض التي في الجسم، أول ما يدخل فيروس المرض ينفر منه الجسم ويتأثر ويسخن، لكنه ربما يتحمله بعد ذلك.

وعلى كل حال فأنا أود من طلبة العلم، أن يؤدوا ما عليهم من مسؤولية، بأن يحذروا الناس من هذه الأفلام، مادامت تعرض مثل هذه الأمور التي لا يشك مؤمن بالله عز وجل أن عرضها قيادة للأطفال إلى الكفر بالله عز وجل، وإهانة الله سبحانه وتعالى.

ونحن أهل الجزيرة علينا مسؤولية عظيمة ليست على بقية الناس، فمن هنا ظهر الإسلام وإليه يعود، في هذه الجزيرة، قال رسول البرية عليه الصلاة والسلام في مرض موته:((اخرجوا المشركين من جزيرة العرب)) (1) وقال: ((لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب حتى لا أدع ألا مسلما)) (2)، وقال:((أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب)) (3) .

وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام أمرنا بإخراج أجسادهم، فإنه يأمرنا أمراً أولوياً بإخراج أفكارهم وأخلاقهم التي يبثونها بين الناس ليضلوا عباد الله عز وجل، ولو أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمامنا الآن يقول في

(1) رواه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب هل يستشف إلى أهل الذمة

، رقم (3053) ، ومسلم، كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس عنده شيء يوصي به، رقم (1637) .

(2)

رواه مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب إخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب، رقم (1767) .

(3)

رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب هل يستشفع إلى أهل الذمة..، رقم (3053) بفظ المشركين بدلا من اليهود والنصارى، ومسلم، كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس عنده شيء،

، رقم (1637) .

ص: 23

مرض موته وهو على فراش الموت: ((اخرجوا المشركين من جزيرة العرب)) هل لأنهم أجسام بشر مثلنا؟ !!

لا. بل لأنهم يبثون شركهم وشرورهم بيننا، فهذه الجزيرة لها شان عظيم وميزان كبير في نظر الشرع باعتبار حماية الدين الإسلامي، فأنا اجعلها أمانة في أعناق طلبة العلم أن يحرصوا غاية الحرص على التحذير من هذه الأفلام.

وهذه كلمة مهمة جداً، لكنها معترضة بالنسبة لموضوعنا، وسببها الاستطراد في مسألة المماثلة، وأن من مثل الله بخلقه فهو كافر.

وعلى كل حال فقد أشترك هذان القسمان في إجراء النصوص على ظاهرها، وافترقا في أن السلف أجروها على اللائق بالله عز وجل، وهؤلاء أجروها على وجه التمثيل بالمخلوقات، وهذا فرق عظيم.

القسم الثالث: من أجروا النصوص على خلاف ظاهرها إلى معان ابتكروها بعقولهم، وهؤلاء الذين يدعون أنهم العلماء والحكماء، ويقولون: طريقة السلف طريقة الذين يقرأون الكتاب أماني ولا يعرفون، أما نحن أهل العلم والحكمة، ولهذا قالوا: طريقة الخلف أعلم وأحكم، وقد ذكرنا في كتاب تلخيص الحموية بيان بطلان هذا القول. (1)

هؤلاء الذين يجرون النصوص على خلاف الظاهر إلى معان عينوها بعقولهم، فقالوا:((استوى على العرش)) أي استولى على العرش، ((يد الله)) : أي قوته أو نعمته، ((وجه الله)) : ثوابه، ((محبة الله)) : ثوابه، ((غضب

(1) فتح رب البرية بتلخيص الحموية ص5

ص: 24

الله)) : انتقامه، وهكذا قالوا لزعمهم: إن المعنى الظاهر ممتنع على الله عز وجل، ثم قالوا: إذا كان ممتنعا فلنا عقول نتصرف فيها.

ونرد عليهم فنقول وبكل سهولة: إذا كان الأمر كما قلتم فلماذا يتحدث الله عن نفسه بعبارات غير مقصودة، ويجعل الأمر موكولا إلى عقولنا؟ .

فالصواب انه ليس إلى العقل بل إلى الهوى المختلف الذي يقول فيه فلان: هذا واجب، ويقول فلان الثاني: هذا ممتنع على الله، والثالث يقول: هذا جائز.

فلماذا يجعل الله عز وجل الحديث عن صفاته بكلمات لا يراد بها ظاهرها؟!

وهل هذا إلا تعمية، وخلاف البيان الذي قال الله تعالى فيه:(يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)(النساء: الآية 176) ؟ وقال:) يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ) (النساء: الآية 26) ؟

ولماذا يجعل الأمر موكولا إلى ما تقتضيه عقولنا التي هي ليست عقلا في الواقع بل هي وهم؟!

قالوا: لأجل أن يزيد ثوابنا بتحويل النص إلى معناه، لأنك إذا أخذت النص على ظاهره لم تتكلف، لكن إذا صرفته عن ظاهره يحتاج إلى دليل من اللغة وشواهد وجهد كبير حتى تصل إلى المعنى المراد، فهذه التعمية الواردة في أعظم الأخبار المقصود بها كثرة الثواب.

يا سبحان الله العظيم، أيضيع الله أصلا عظيما في التحدث عن نفسه من أجل أن يزيد ثوابنا بالتعب! ثم إن التعب الذي يأتي لغير سبب لا يثاب عليه الإنسان.

ص: 25

ولو قال قائل مثلا: الناس الآن يحجون على الطائرة وعلى السيارة، وأنا سأحج على حمار أعرج، أركبه تارة وأسوقه تارة حتى أصل إلى مكة لان هذا فيه تعب عظيم وأجر كبير فهل يؤجر الإنسان على هذا؟

الجواب: لا يؤجر؛ لان هذا تعب حصل باختياره هو، ولهذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام الرجل الذي نذر أن يقف في الشمس، أمره أن يدخل في الظل، ونهاه (1) عن تعذيب نفسه، والله عز وجل يقول:) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً) (النساء: 147) .

فالحاصل أن هؤلاء لا شك أنهم مخطئون ضالون، مرتكبون لضلالين يتضمن كل ضلال منهما القول على الله بلا علم.

فقولهم: إن الله لم يرد كذا، هذا قول على الله بلا علم، إذ كيف لم يرد وهو ظاهر لفظه. وقولهم: أراد كذا، هذا أيضا قول على الله بلا علم؛ لأنه إذا انتفت إرادة الظاهر بقي ما يخالف الظاهر قابلا للاحتمالات الكثيرة؛ إذ ليس هناك ما يجعل هذا الاحتمال المعين هو المراد دون غيره من الاحتمالات. ولهذا نقول إن هؤلاء ضالون.

القسم الرابع: قالوا: نسكت ونفوض، ولا نقول معناها كذا ولا كذا، نقرأ القرآن والحديث وكأنما نقرأ لغة لا نعرفها، كأننا عرب نقرأ باللغة الإنجليزية ولم نعرف اللغة الإنجليزية، أو كأننا عامة لا يعلمون الكتاب ألا أماني.

وهؤلاء يقولون: كل نصوص الصفات غير معلومة المعنى. فإذا قلت

(1) رواه البخاري، كتاب الإيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، رقم (6704) .

ص: 26

لأحدهم: ما تقول بارك الله فيك وهداك إلى الصواب في قوله تعالى:) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5) ؟ وقوله تعالى:) بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) (المائدة: من الآية 64) ؟ وقوله تعالى:) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) (الرحمن: الآية 27) . قال: الله اعلم.

فسبحان الله!! نعم كل شيء الله اعلم به، لكنه عز وجل أنزل علينا كتابا مبينا) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) (صّ: 29) ،) وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (النحل: الآية 89) فأي فائدة لنا في قران لا نعرف معناه؟! وهل يمكن أن نمتثل أمر الله، وأن نعظم الله عز وجل، وأن ننفي عنه النقائص ونحن لا نعلم ما أراد بكلامه؟! والجواب: لا، لا يمكن.

وإذا كنتم انتم معنا تقولون: إن آيات الأحكام وأحاديث الأحكام معلومة المعنى، حيث يعرف الناس معنى الصلاة والزكاة والصيام والحج، فلماذا لا تجعلون آيات الصفات معلومة المعنى لأنها تتعلق بذات الخالق عز وجل وهي أعظم من آيات الأحكام التي تتعلق بعمل المخلوق فهي أولى بالعلم؟!

والمهم أن هؤلاء يسمون عند أهل السنة بالمفوضة. وهناك من العلماء من يقول: إن التفويض هو مذهب السلف، ويقول: إن أهل السنة قسمان: مؤولة ومفوضة وهذا واقع.

ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول وصدق فيما قال: ((قول أهل التفويض من شر أقوال أهل البدع والإلحاد، وذكر تعليلات عظيمة قوية

ص: 27

في كتابه المعروف بدرء تعارض العقل والنقل، وذكر الأدلة على ذلك، وقال هذا الذي فتح علينا باب الفلاسفة (1) ، وهذا الذي جعل أهل التخييل ينكرون اليوم الآخر والجنة والنار، وقالوا: إذا كنتم لا تعلمون معاني هذه الصفات فنحن نعلمها، وإذا كنتم لا تعرفون ما يتعلق بالرب فنحن نعرف ما يتعلق بالرب؛ فقالوا: الرب كله ليس له أصل، وإنما هو تخويف من عباقرة من البشر من اجل أن يستقيم الناس على ما طلب منهم.

وصدق شيخ الإسلام رحمه الله فيما قال: إذ كيف ينزل الله علينا كتابا، ورسوله عليه الصلاة والسلام يخبرنا بأخبار فيما يتعلق بذات الرب عز وجل وصفاته، ويقال: كل هذا ليس له معنى، ولا يجوز أن نتكلم في معناه؟ .

هذا من أعظم ما يكون من الإلحاد والكفر، وفيه من الاستهانة بالقرآن الكريم والذم له ما لا يعلمه ألا من تأمل هذا القول الفاسد الباطل.

القسم الخامس: قالوا: نحن لا نتكلم بل علينا أن نمسك. فيجوز أن يكون المراد بها الظاهر اللائق بالله ويجوز أن المراد بها الظاهر المماثل للمخلوقين ويجوز أن يكون المراد بها خلاف الظاهر ويجوز أن لا يكون المراد بها شيء، كل هذا ممكن وجائز، وما دامت الاحتمالات قائمة فالواجب الإمساك.

والفرق بينهم وبين المفوضة أن المفوضة يقولون: لا نقول شيئا أبداً، وهؤلاء يقولون: يحتمل كذا، وكذا، وكذا، وكذا، ونكف عن القول لان

(1) انظر درء تعارض العقل والنقل 1/205.

ص: 28

الاحتمالات كلها واردة، وإذا وجد الاحتمال بطل الاستدلال.

والقسم السادس: قوم اعرضوا عن هذا كله وقالوا: لا نقول شيئا في صفات الله، نحن نقرأ القرآن ونتعبد الله بقراءته ولا، تعرض لمعناه فيما يتعلق بالصفات إطلاقا، فهم لا يقولون بقول أحد الأقسام الخمسة السابقة، بل يسكتون ولا يقدرونها بقلوبهم ولا ينطقون بها بألسنتهم، بل يسكتون عن هذا كله.

وهؤلاء غير سالمين بل واقعون في الخطأ، فالقرآن تبيان لكل شيء، والقرآن يراد به لفظه ومعناه الدال عليه لفظه، ومن لم يقل بذلك فهو على ضلال، والقرآن نزل بألفاظه ومعانيه، لكن علينا أن نتأدب مع الله عز وجل ولا نتجاوز القرآن ولا نتجاوز الحديث. ولو أن أحدا أراد أن يتكلم عن صفة شخص ليس حاضرا، فلا يسوغ له أن يتكلم عن صفته وهو لا يعلم، فكيف يتكلم عن صفات الخالق أو يحكم بعقله على هذه الصفات العظيمة التي لا يمكنه أن يدركها بعقله أبداً؟!

وغاية ما عندنا نحن أن ندرك المعنى، أما الحقيقة والكيفية فهذا شيء لا يمكن إدراكه، ولهذا يحرم على الإنسان أن يتخيل أو أن يتصور شيئا من صفات الله عز وجل، فلا يجوز أن تتصور أو تتخيل يد الله كيف هي مثلا، ولهذا سألني سائل ذات مرة فقال: ما تقول في أصابع الله؟ كم هي؟ أعوذ بالله. فقلت: هل أحد يسأل هذا السؤال؟! يا أخي اتق ربك، أنت لست ملزما بهذا، أثبت أن لله أصابع كما قال الرسول عليه الصلاة والسلام، وأما كم فلا يمكن لك أن تتكلم بهذا.

ص: 29

فوالله ما أنت بأحرص على العلم بالله من الصحابة رضي الله عنهم، والصحابة رضي الله عنهم لما قال الرسول عليه الصلاة والسلام ((إن الله يجعل السماوات على إصبع والأرضين على إصبع)) (1) . إلى آخر الحديث، ما قالوا: يا رسول الله هل لله أكثر من هذه الأصابع؛ لأنهم أكمل أدبا، وأشد تعظيما لله ممن أتى بعدهم، وإذا كنت صادقا في عبادة الله فلا تتجاوز ما أخبر الله به عن نفسه، كما انك لا تتجاوز ما شرعه الله لعباده، فلو أردت أن تصلي الظهر خمسا لقال لك الناس كلهم هذا خطأ، إذاً لا تتكلم فيما اخبر الله به عن نفسه، أو اخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم ألا بمقدار ما بلغك فقط.

وأنت إذا سلكت هذا - والله - تسلم من أمور كثيرة؛ تسلم من شبهات يوردها الشيطان على قلبك، ومن شبهات يوردها عليك غيرك، ولما قيل للإمام مالك: يا أبا عبد الله:) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5) كيف استوى؟ أطرق حتى علاه العرق من شدة هذا السؤال وعظمته - لان هذا السؤال منكر - ثم قال: ((الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة)) فانظر كلام السلف رحمهم الله كيف أن كل إنسان يسال عما لم يسأل عنه السلف - الصحابة رضي الله عنهم خاصة - فهو مبتدع.

وكذلك قول القائل: إنه ثبت أن الله ينزل إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، ونحن نشاهد أن الثلث يدور على الأرض إذا الله ينزل كل الليل. أعوذ بالله فمن قال هذا؟! قف يا أخي حيث جاءت

(1) رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله:((وما قدروا الله حق قدره)) ، رقم (4811) ، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، بدون ذكر الباب، رقم (2786) .

ص: 30

النصوص وتسلم من هذا التقدير، اعتقد أن الله ليس كمثله شيء وتسلم من هذا التقدير، فلو طلع الفجر هنا في المملكة وهو ثلث الليل في المغرب. فيكون النزول بالنسبة لنا انتهى وبالنسبة لهؤلاء الذين عندهم الثلث الأخير موجود. نحن في الثلث وأهل المشرق قد طلع عليهم الفجر، فالنزول بالنسبة لأهل المشرق انتهى، وبالنسبة لنا بدأ، ولا تتعدى هذا يا أخي، ولست ملزما بهذه التقديرات أبدا.

والله لو كان خيرا لسبقنا إليه الصحابة رضي الله عنهم، فالصحابة أحرص منا على الخير.

فإذا قال قائل: ربما لم يكن في قلوبهم هذا التقدير لأنهم ما عرفوا عن كروية الأرض على وجه مفصل، ولا عرفوا أن الشمس تغرب مثلا عن أهل المدينة قبل أن تغرب عن أهل المغرب فلهذا لم يسألوا؟ .

فنقول: لو كان هذا من شرع الله لقيض الله له من يسال حتى يتبين؛ ولهذا لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أيام الدجال، فيها يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كأسبوع، انطق الله الصحابة رضي الله عنهم وقالوا: اليوم الذي كسنة تكفينا فيه صلاة يوم واحدة؟ قال: لا، اقدروا له قدره (1) . فلا تظن أبداً أن شيئا يلزمنا في ديننا يمكن أن يغفل إطلاقا، لو لم يتكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم ابتداء فسوف يقيض الله له من يسال عنه لان الله يقول:) الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً) (المائدة: الآية 3) .

لما انقسم أهل القبلة - يعني الذين ينتسبون إلى الإسلام - هذه الانقسامات صار الناس يؤلفون الكتب المبنية على الجدل والنزاع والخصومات التي لا

(1) 12- رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته

، رقم (2937) .

ص: 31

نهاية لها، وإذا طالعت كتب هؤلاء خصوصا أهل التحريف الذين يسمون أنفسهم أهل التأويل، عجبت من التقديرات التي يقدرونها ويفصلون فيها ويجادلون فيها، في أمر لا يمكنهم إدراكه بالنسبة لما يتعلق بصفات الله عز وجل، وجعلوا الحكم راجعا إلى ما تقتضيه عقولهم لا إلى ما يقتضيه الكتاب والسنة، فضلوا في ذلك ضلالا بيناً، وصاروا يتخبطون خبط عشواء، لا يعرفون من الحق شيئا.

ولقد ألف أهل السنة - الذين سلكوا مسلك السلف - كتبا كثيرة في العقيدة، مختصرة ومطولة ومتوسطة، ومن جملة ما ألف، هذه المنظومة التي نظمها السفاريني رحمه الله على مذهب أهل السنة والجماعة، على أن فيها بعض الأشياء التي تحتاج إلى بيان، وسنبينه بحسب موضعه إن شاء الله.

ص: 32

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

1-

الحمد لله القديم الباقي

مقدر الآجال والأرزاق

ــ

الشرح

قوله: (الحمد لله) : يقول العلماء رحمهم الله: الحمد هو وصف المحمود بالكمال على وجه المحبة والتعظيم، فإن كرر الوصف صار ثناء، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن الله تبارك وتعالى يقول:((قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين فإذا قال الحمد لله رب العالمين قال: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال: أثنى علي عبدي)) (1) .

فنفسر الحمد بأنه: وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم.

وقوله: (الحمد)((أل)) هنا قالوا: إنها للاستغراق، يعني جميع المحامد ثابتة لله، واللام في قوله:((لله)) قالوا: إنها للاستحقاق، أو للاختصاص، وإن شئنا قلنا: إنها للاستحقاق وللاختصاص؛ للاستحقاق لان الله تعالى مستحق للحمد، وللاختصاص لان المحامد كلها لا تكون ألا لله وحده فقط.

وقوله: (لله) : الله، علم على الرب سبحانه وتعالى، رب العالمين، وهو علم مختص به لا يمكن أن يكون لغيره، وهذا العلم يكون دائما متبوعا لا تابعا، بمعنى انه هو الذي يتبع بالأسماء وليس بتابع؛ فمثلا قال الله تعالى:) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة: 2) قال: ((لله)) ، ثم قال ((رب العالمين)) ، ولم يقل ((الحمد لرب العالمين الله)) وقال: بسم الله الرحمن الرحيم، ولم

(1) رواه مسلم، كتاب الصلاة باب وجوب قراءة الفاتحة في كل ركعة

، رقم (395) .

ص: 33

يقل: بسم الرحمن الرحيم الله، فدائما هو الذي تتبعه الأسماء وتلحق به.

وقوله (القديم) القديم يعني السابق لغيره، فهو بمعنى الأول فقد قال الله تعالى:) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (الحديد: 3) ولكن هذا الاسم بهذا اللفظ لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة، وإذا لم يرد لا في الكتاب ولا في السنة فليس لنا أن نسمي الله به، لأننا إذا سمينا الله بما لم يسم به نفسه فقد قفونا ما ليس لنا به علم، وقلنا على الله ما لا نعلم، والله تعالى قد حرم ذلك فقال:) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33) .

وقال تعالى:) وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) (الإسراء: 36) .

وإذا سمينا الله بما لم يسم به نفسه فذلك جناية وعدوان، أرأيت لو أن شخصا سماك بغير اسمك ألا تعتبر ذلك جناية عليك؟

كذلك إذا سميت الله عز وجل بما لم يسم به نفسه فهذه جناية وعدوان في حق الخالق عز وجل، فلا يحل لك ذلك، وإذا نظرنا في القرآن والسنة فلن نجد انه جاء من أسماء الله.

إذا: لا يجوز أن نسمي الله به أولا: لأنه لم يرد في الكتاب ولا في السنة.

وثانيا: لأن القديم ليس من الأسماء الحسنى، والله عز وجل يقول (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) (الأعراف: 180) فالقديم ليس من الأسماء الحسنى لأنه لا

ص: 34

يدل على الكمال، فإن القديم يطلق على السابق لغيره سواء كان حادث أم أزليا، قال الله تعالى:) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) (يّس: 39) ، والعرجون القديم هو عذق النخلة الذي يلتوي إذا تقدم به العهد، ولا شك أنه حادث وليس أزليا، والحدوث نقص، وأسماء الله تعالى كلها حسنى لا تحتمل النقص بأي وجه.

فتبين بذلك أن تسمية الله بالقديم لا تجوز بدليل عقلي وبدليل سمعي؛ الدليل السمعي قول الله تعالى) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33)، وقوله تعالى:) وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) (الإسراء: 36)

أما الدليل العقلي فهو أن القديم ليس من الأسماء الحسنى لأنه يتضمن نقصا، حيث إن القديم قد يراد به الشيء الحادث، ومعلوم أن الحدوث نقص، فلو قال المؤلف رحمه الله بدل القديم: الحمد لله العليم أو العظيم أو الكريم أو ما أشبه ذلك من الأسماء التي أثبتها الله لنفسه لكان أولى.

والأفضل من القديم: الأول، وذلك للأسباب الآتية:

الأول: لان الله تسمى به وهو اعلم بأسمائه.

والثاني: انه يدل على أن الله قبل كل شيء، وأنه أزلي.

والثالث: أن الأول قد يكون له معنى آخر غير السبق في الزمن، وهو المآل، فالأول يعني الذي تؤول إليه الأشياء، فيكون مأخوذا من الأول بمعنى الرجوع؛ لان مرجع كل شيء إلى الله، فيكون أوسع دلالة من القديم.

ص: 35

إذاً تسمية الله بالقديم مما يؤخذ على المؤلف رحمه الله.

وقوله: (الباقي) يعني الذي يبقى بعد كل شيء، فهو بمعنى الآخر، أي الذي ليس بعده شيء، والآخر من أسماء الله، قال الله تعالى:) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ عَلِيمٌ) (الحديد: 3) فكأن المؤلف رحمه الله أتى بالقديم بإزاء الأول وأتى بالباقي بإزاء الآخر، ولكن في هذا نظر، فلم يرد من أسماء الله عز وجل أنه الباقي، وإنما جاء) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام) (الرحمن: 27) .

والصفة لا يشتق منها اسم، وقد ذكرنا في كتابنا ((القواعد المثلى)) أن كل اسم متضمن لصفة، وليس كل صفة يشتق منها اسم (1) .

فإذا قال الله تعالى: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) فلا يعني ذلك انه يجوز أن نسمي الله بالباقي.

فالصواب أن يجعل بدل هذين الاسمين الأول والآخر كما ثبت ذلك في القرآن والسنة.

وقوله: (مقدر الآجال والأرزاق) مقدر: أي جاعلها على قدر معلوم، والآجال: جمع أجل، وهو منتهى الشيء وغايته، ومنه عمر الإنسان، فإنه مقدر عند الله عز وجل بأجل معلوم؛ لا يتقدم ولا يتأخر، وكذلك ما يحدث من الحوادث فهي مقدرة بأجل معلوم لا تتقدم ولا تتأخر.

والأرزاق جمع رزق: وهو العطاء، والله سبحانه وتعالى هو مقدر الأرزاق؛ يقسمها بين عباده حسب ما تقتضيه حكمته، وقد جاء في

(1) انظر القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى ص 8

ص: 36

الحديث: ((إن من عبادي من لو أغنيته لأفسده الغنى، وإن من عبادي من لو أفقرته لأفسده الفقر)) (1) والله عز وجل يرزق من يشاء، لكن حسب حكمته ورحمته، فقد يبتلي الله الإنسان بالفقر ليعلم أيصبر أم يجزع، وقد يبتلي الله الإنسان بالغنى ليعلم أيشكر أم يكفر، والله تعالى يقدر الأرزاق كلها.

فإذا قال قائل: إذا كان الله مقدر الآجال والأرزاق فهل يسوغ لنا أن لا نفعل ما يكون به الرزق؟

فالجواب.: انه لا يسوغ؛ لان الله تعالى إذا قدر شيئا فإنه يقدره بأسبابه، فإذا قدر الرزق لشخص فإنه يقدره لأسباب يقوم بها الشخص، وقد يكون لأسباب لا يقوم بها الشخص، كما لو مات للإنسان ميت فورثه فهذا ليس من فعله، لكن على كل حال تقدير الله تعالى للأشياء لا يستلزم ولا يسوغ أن ندع الأسباب النافعة.

(1) رواه الخطيب في تاريخ بغداد 6/504، وابن الجوزي في العلل المتناهية 26.

ص: 37

ثم قال المؤلف رحمه الله:

2-

حي عليم قادر موجود

قامت به الأشياء والوجود

ــ

الشرح

قوله: (حي) : الحي من أسماء الله، قال الله تعالى:) اللَّهُ لا إِلَهَ ألا هُوَ الْحَيُّ) (البقرة: الآية 255) فالله سبحانه وتعالى هو الحي ذو الحياة الكاملة، التي لم تسبق بعدم ولا يلحقها زوال، أي الحياة الكاملة بجميع صفات الكمال.

وقوله: (عليم) العليم: أي ذو علم: والعلم إدراك الشيء على ما هو عليه، وعلم الله سبحانه وتعالى شامل لكل شيء) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ) (آل عمران: 5) وقال تعالى:) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) (قّ: الآية 16) أي ما تحدثه به نفسه، وإن لم يخرجه للناس، بل يعلم سبحانه وتعالى ما سيحدث فضلا عن الحادث.

وقوله: (قادر) القدرة صفة يتمكن بها الفعال من الفعل بلا عجز، فالله عز وجل قادر بقدرة هي وصفه، فهو يفعل عز وجل دون أن يعجز. والقوة: صفة يتمكن الفاعل بها من الفعل بلا ضعف. واضرب مثلا يتبين به الفرق:

إذا قيل لشخص: ارفع هذا الحجر فإذا زحزحه وعجز عن رفعه، نقول انه غير قادر، وإذا حمله لكن بمشقة شديدة، نقول: قادر ولكنه ليس بقوي، وإذا حمله بسهولة نقول: انه قوي.

وعلى هذا فالقوة أكمل من القدرة، كما أن القوة أيضا اشمل من

ص: 38

القدرة؛ لأنها - أي القوة - يوصف بها ذو الشهور وغيره، فيقال للإنسان قوي، وللحيوان قوي، وللحديد قوي، وللصخر قوي، أما القدرة فلا يوصف بها ألا ذو الشعور، ولهذا لا نقول للحديث انه قادر، ولا للصخر إنه قادر، لكن نقول إنه قوي.

فالرب عز وجل قادر، قال الله تعالى:) وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (المائدة: الآية 120) وقدرته لا يستعصي عليها شيء، فهو قادر على كل شيء، وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان ما يتعلق به القدرة في كلام المؤلف رحمه الله.

وقوله: (موجود) كلمة موجود في الحقيقة إنها مقحمة إقحاما لا وجه له؛ لأنه يغني عنها قوله: ((حي)) ؛ لان الحي موجود غير معدوم، وكلمة موجود ليست من الصفات الكاملة؛ لان الموجود قد يكون ناقصا وقد يكون كاملا، لكن يعتذر عن المؤلف رحمه الله بأنه أتى بها من باب الخبر لا من باب التسمية، ويصح أن نخبر عن الله بأنه موجود، لن لا نسميه بذلك، كما يصح أن نقول إنه متكلم ولكن لا نسميه بذلك؛ لان الكلام ليس صفة مدح على كل حال، قد يتكلم الإنسان بالسوء فيكون كلامه نقصا، لكن أقول انه يتسامح عن المؤلف بأنه قصد الخبر.

وقوله: (قامت به الأشياء والوجود) قامت به - أي بالله عز وجل الأشياء كلها؛ بل الوجود كله، ولولا الله عز وجل ما كان الوجود، ولا كانت الأشياء، ولولا الله عز وجل يمد هذه الأشياء والوجود بما تبقى به ما بقيت، فكل شيء قائم بالله عز وجل، لقوله تعالى:) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأمره) (الروم: الآية 25) فكل شيء من الأشياء والوجود قائم بالله عز وجل؛ فهو الذي أوجدها، وهو الذي أمدها حتى بقيت، وهو الذي

ص: 39

أعدها أي هيأها لما تكون صالحة له.

وقيام الشيء بالله عز وجل يشمل ثلاثة أشياء: الإيجاد، والإمداد، والإعداد.

أولاً: الإيجاد: فلولا الله عز وجل ما وجدت الأشياء، فهو الذي أوجد الأشياء عز وجل بقدرته وبحكمته، وهذه الأشياء الموجودة منها ما معلوم لنا، ومنها ما هو غير معلوم، فنحن لا نعلم ألا ما أعلمنا الله تعالى منها، ومع ذلك فما لم يعلمنا الله به أكثر مما أعلمنا عنه، قال الله تعالى: مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (الكهف: الآية 51) فنحن لا نعرف ألا السماء والأرض والشمس والقمر والنجوم والعرش والكرسي، لكن هناك مخلوقات من قبل لا ندري عنها؛ لان الله سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال فعال، والفاعل والفعل لابد أن ينتج عن مفعول، فإذا قلنا إن من صفاته الأزلية أنه فعال، لزم من ذلك أن يكون هناك مفعول، فكل الأشياء كائنة بالله تعالى.

ثانياً: الإمداد فالله تعالى هو الذي أمدها حتى تبقى، أرأيت النبات ينبت في الأرض، فإذا منع الله المطر فني النبات، وإذا أنزل الله المطر بقي النبات وزاد! إذا فإمداد هذه الموجودات بما يبقيها وينميها من عند الله عز وجل.

ثالثاً: الإعداد: ويعني تهيئتها لما هي صالحة له، فالإبل مثلا للركوب، قال تعالى:) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ) (يّس: 71)) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ) (يّس: 72) فالله أعدها وجعلها صالحة لما خلقت له، من حيث القوة والشكل واحدوداب الظهر حتى تقوى على التحمل، وإيجاد الشحم الكثير على ظهرها لئلا يرهقها الحمل، أو

ص: 40

تنكسر العظام، أو يخل بها، إلى غير ذلك من الأشياء التي تكون مهيأة للشيء الذي أعدت له.

فقيام الأشياء بالله عز وجل يكون من حيث الإيجاد والإمداد والإعداد، وكل هذا قائم بالله عز وجل.

ودليل هذا قول الله تعالى:) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأمره) (الروم: الآية 25)) فلولا أمر الله عز وجل الكوني ما قامت السماوات والأرض، وصلاح الأرض والسماء بالقيام بأمر الله الشرعي أيضا، ولهذا تعد معصية الله من الإفساد في الأرض.

ودليل آخر قوله تعالى:) اللَّهُ لا إِلَهَ ألا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم) (البقرة: الآية 255) لان معنى القيوم القائم بنفسه القائم على غيره.

ودليل ثالث قوله تعالى:) أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ) (الرعد: الآية 33) يعني: كمن ليس كذلك، ومعلوم أن القائم على كل نفس بما كسبت هو الله عز وجل، فصار الوجود كله قائما بالله تعالى إيجادا، وإمدادا، وإعدادا.

ص: 41

ثم قال المؤلف رحمه الله:

3-

دلت على وجوده الحوادث

سبحانه فهو الحكيم الوارث

ــ

ي فائدة لنا في قران لانعرف معناه؟ ! وهل يمكن أن نتم

الشرح

أراد المؤلف رحمه الله أن يستدل على وجود الله عز وجل فاستدل بالحوادث على وجوده سبحانه وتعالى، يعني: أن حدوث الأشياء دليل على وجود الله عز وجل، وتقرير هذا الدليل أن نقول: كل حادث لا بد له من محدث، وإذا تتبعنا الأشياء وجدنا أنه لا محدث لهذا الحادث ألا الله عز وجل، ودليل هذا قوله تعالى:) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور: 35) الجواب: لا هذا ولا ذاك، يعني: لا هم خلقوا من غير خالق، ولا خلقوا أنفسهم، وحينئذ يتعين أن يكون لهم خالق.

والذي خلقهم هو الله سبحانه وتعالى، لأنه لا أحد يستطيع أن يقول عن نفسه: أنا الذي خلقت، حتى الأب والأم لا يستطيعان أن يقولا خلقنا ما في بطن الأم. فلو قال الأب أنا الذي خلقت ابني وجعلت له عينين ولسانا وشفتين وأصابع يدين ورجلين، قال الناس له: كذبت ملء شدقيك. أين أنت من الجنين في بطن أمه؟ ! هل شققت البطن وجعلت تسوي هذا؟! هل نفخت فيه الروح؟ إذاً من يدعي ذلك كذاب، ولا يمكن أن يدعي ذلك أحد.

ولو قال قائل: إن الذي خلقه فلان الولي العظيم الكبير. فأين هو هذا الولي؟ أليس في قبره؟! والحق أن قائل هذا كذاب ألف مرة، ولو ذهب إلى قبر هذا الذي زعم لوجده إما أن يكون قد أكلته الأرض، أو هو جثة لا يملك لنفسه شيئا. فكيف يملك لغيره؟!

ص: 42

إذاً فالحوادث دليل على وجود الله لدليل سمعي ودليل عقلي.

فالدليل السمعي: قوله تعالى:) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) (الطور: 35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) (الطور: 36) .

والدليل العقلي: أن كل حادث لابد له من محدث، ولا محدث للحوادث ألا الله عز وجل.

ولكن ينبغي أن نسأل: هل المؤلف رحمه الله أراد حصر الدليل على وجود الله عز وجل بهذه الطريق فقط؟ والجواب: لا. فإن كان أراد ذلك فلا شك أن هذا قصور، لان الأدلة على وجود الله عز وجل كثيرة؛ شرعية وعقلية وحسية وفطرية.

فدلالة الفطرة على وجود الله أقوى من كل دليل لمن لم تجتاله الشياطين، ولهذا قال الله تعالى:) فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا) (الروم: من الآية 30) بعد قوله:) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً) (الروم: الآية 30) فالفطرة السليمة تشهد بوجود الله، ولا يمكن أن يعدل عن هذه الفطرة ألا من اجتالته الشياطين، ومن اجتالته الشياطين فقد وجد في حقه مانع قوي يمنع هذا الدليل.

إذا فكل حادث لابد له من محدث، والحقيقة أن دلالة الحوادث على المحدث دلالة حسية عقلية، أما كونها حسية فلأنها مشاهدة بالحس، وأما كونها عقلية فلأن العقل يدل على أن كل حادث لابد له من محدث، ولهذا سئل أعرابي بم عرفت ربك؟ فقال: الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، فسماء ذات أبراج، وأرض ذات فجاج، وبحار ذات أمواج ألا تدل على السميع البصير؟ والجواب: بلى.

ص: 43

فهذا أعرابي استدل بعقله الفطري على أن هذه الحوادث العظيمة تدل على خالق عظيم عز وجل، هو السميع البصير.

فالحوادث دليل على وجود المحدث، ثم كل حادث منها يدل على صفة مناسبة غير الوجود، فنزول المطر يدل بلا شك على وجود الخالق، ويدل على رحمته، وهذه الدلالة غير الدلالة على الوجود. وكذلك وجود الجدب والخوف والحروب تدل على وجود الخالق، وتدل على أمر ثان وهو غضب الله عز وجل وانتقامه، فكل حادث له دلالتان؛ دلالة كلية عامة تشترك فيها جميع الحوادث، وهي وجود الخالق، أي وجود المحدث، ودلالة خاصة في كل حادث بما يختص به؛ كدلالة الغيث على الرحمة ودلالة الجدب على الغضب، وهكذا.

كذلك فإن هناك أدلة أخرى على وجود الخالق؛ فجميع الشرائع دالة على الخالق، وعلى كمال علمه، وحكمته، ورحمته؛ لان هذه الشرائع لابد لها من مشرع، والمشرع هو الله عز وجل.

وأيضا فإن هناك دلالة أخرى وهي النوازل التي تنزل لسبب، فهي دالة على وجود الخالق؛ مثل دعاء الله عز وجل ثم استجابته للدعاء، فهو دليل على وجوده عز وجل، وهذه وإن كانت من باب دلالة الحادث على المحدث لكنها أخص، ولهذا لما دعا النبي صلى الله عليه وسلم الله أن يغيث الخلق قال:((اللهم أغثنا اللهم أغثنا)) (1) . ثم نشأ السحاب وأمطر قبل أن ينزل من المنبر، وهذا يدل على وجود الخالق، وهذا أخص من دلالة العموم.

(1) رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب الاستسقاء في خطبة الجمعة،

، رقم (1014) ، ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، رقم (897) .

ص: 44

ومن الدلائل رابعاً: الفطرة، فالفطرة السليمة تدل على وجود الخالق، وليست الفطرة التي فطر عليها الإنسان فقط، بل التي فطر عليها جميع الخلق، حتى البهائم العجم تعرف خالقها، قال الله تعالى:() تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ ألا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (الاسراء: الآية 44)) ، (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ) يعني ما من شيء ألا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم، والمسبح لا يسبح ألا من يعرفه.

إذا: فالأدلة على وجود الخالق عز وجل أربعة: الحوادث على سبيل العموم، والشرائع، والحوادث الخاصة التي تكون لسبب، والفطرة.

ثم قال: (سبحانه فهو الحكيم الوارث) قوله: (سبحان) اسم مصدر سبح، والمصدر تسبيح، وأصل هذه المادة يدل على البعد، ومنه السبح في الماء لان السابح يذهب بعيدا، والمراد بتسبيح الله عز وجل تنزيهه المتضمن لبعده عن كل نقص، والنقص إما أن يكون في أصل الصفة، وإما أن يكون بمقارنتها بغيرها.

ففي أصل الصفة نقول: هو حي، عليم، قادر، حكيم، عزيز، فكل صفاته ليس فيها نقص، فهو حي حياة لا نقص فيها، سميع سمعا لا نقص فيه، عليم علما لا نقص فيه، فلا نقول مثلا إن علمه عز وجل مسبوق بجهل، أو أنه يلحقه نسيان.

والنقص باعتبار مقارنتها بغيرها: بأن ننزهه عن مماثلة المخلوقين؛ لان تمثيله بالمخلوقين يعتبر نقصا، فلا نقول مثلا إن وجه الله عز وجل كوجه المخلوق.

ص: 45

فصار - بذلك - النقص دائرا بين شيئين:

الأول: نقص الصفة بذاتها فصفاته غير ناقصة.

والثاني: نقصها باعتبار مقارنتها بصفة المخلوق، فإنه لا مقارنة بين صفات الخالق وصفات المخلوق، فهو منزه عن النقص في صفاته، وعن النقص بمشابهته أو بمماثلته بالمخلوقين.

ونحن نقول في كل صلاة: (سبحان ربي الأعلى)، فهل نحن حينما نقول:(سبحان ربي الأعلى) نستحضر هذا المعنى أم نقول: (سبحان ربي الأعلى) باعتبار انه ذكر وثناء على الله؟ والجواب: أن الغالب على الناس عموما وخصوصا إنهم إذا قالوا: (سبحان ربي الأعلى) لا يشعرون ألا بالثناء على الله والتنزيه المطلق، ولا يستحضرون معنى: اللهم إني أنزهك يا ربي عن مماثلة المخلوقين، وعن كل نقص في صفاتك، فلا يشعر القائل بهذا المعنى ألا قليلا.

وقوله: (فهو الحكيم الوارث) . الحكيم مأخوذ من الحكم والإحكام؛ فالإحكام الذي هو فعل الحكمة أو وصف الحكمة، والحكم الذي هو القضاء، فلله عز وجل الحكم، وحكمه كله إحكام: أي إتقان، والإتقان يعني الحكمة؛ لان الإتقان أن يوضع الشيء في موضعه على وجه لا خلل فيه، والله سبحانه وتعالى في أفعاله وأحكامه كذلك.

قال العلماء رحمهم الله: والحكم حكمان: حكم كوني، وحكم شرعي.

فمثال الحكم الكوني: قوله سبحانه وتعالى عن أحد إخوة يوسف (() فَلَنْ

ص: 46

أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي) (يوسف: الآية 80)) هذا حكم كوني وليس حكما شرعيا؛ لأنه من حيث الحكم الشرعي قد حكم الله له، فهذا حكم يتعين أن يكون حكما كونيا.

ومثال الحكم الشرعي قوله تعالى: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)(المائدة: 50) هذا حكم شرعي ولا يتضمن حكما كونيا.

أما قوله تعالى: (له الحكم وإليه ترجعون)[القصص: 88] ) فهذا يشمل الكوني والشرعي، وكذلك قوله تعالى:(أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)(التين: 8) يشمل الحكم الكوني والحكم الشرعي. إذا أحكام الله عز وجل كونية وشرعية.

فإذا قال قائل: نحن لا نشك في أن أحكام الله تعالى كونية وشرعية. لكن ما الفرق بينهما؟

فالجواب: أن الفرق بينهما من وجهين:

أولا: الحكم الكوني واقع لا محالة وشامل لكل أحد.

أما الحكم الشرعي فقد يقع وقد لا يقع، بمعنى أنه قد ينفذ وقد لا ينفذ، أما من حيث إن الله حكم به فهو واقع لا شك فيه. فالحرام حرام واقع، لكن هل ينفذ أو لا؟ قد ينفذ وقد لا ينفذ، وإذا قضى الله عز وجل بأن هذا واجب على العباد فقد يفعلونه وقد لا يفعلونه، لكن إذا حكم كونا بأن هذا واجب على العباد، أي: واقع عليهم فلابد أن يقع.

ثانيا: الحكم الكوني يكون فيما يرضاه الله وما لا يرضاه، فقد يحكم الله عز وجل بان يقع الكفر والشرك والزنا والفواحش، لكنه لا يرضاها شرعا.

ص: 47

أما الحكم الشرعي فلا يكون ألا فيما يرضاه الله عز وجل، إما أن يرضى وجوده وإما أن يرضى عدمه، فإن كان مأمورا به فقد رضي وجوده، وإن كان منهيا عنه فقد رضي عدمه.

وقوله (الحكيم) سبق أن الحكيم بمعنى الحاكم وبمعنى المحكم، وكل أحكام الله سبحانه وتعالى الكونية والشرعية كلها محكمة مبنية على الحكمة، فما من حكم كوني حكم الله به ألا وهو مطابق للحكمة، وما من حكم شرعي حكم الله به ألا وهو مطابق للحكمة.

والحكمة نوعان: غائية وصورية:

أما الغائية: فهي بمعنى أن الشيء إنما كان لغاية حميدة.

والصورية: بمعنى أن كون الشيء على هذه الصورة المعينة لحكمة، فإذا تدبرت الصلاة وكونها على هذا الوجه: قيام، ثم ركوع، ثم قيام، ثم سجود، ثم قعود، هذه صورية مطابقة للحكمة تماما.

كذلك الغاية منها أيضا حكمة؛ فالغاية منها: الثواب والأجر عند الله عز وجل.

وهكذا أيضا المخلوقات؛ فكون الشمس بهذا الحجم، وبهذه الحرارة وبهذا الارتفاع هذه صورية، هذا مناسب للحكمة تماما. ثم الثمرات الناتجة عن الشمس غائية.

فالحاصل أن حكمة الله عز وجل تتعلق بالشيء من حيث صورته، ومن حيث غايته، وكل ذلك مطابق للحكمة.

ولكن هل الحكمة معلومة للخلق؟ . والجواب: أن الحكمة قد تكون معلومة، وقد تكون غير معلومة، لكن كونها غير معلومة، وقد تكون غير معلومة، لكن كونها غير معلومة لا يعني إنها معدومة، بل إنها موجودة لكن لقصورنا أو تقصيرنا لم نصل إليها.

ص: 48

والأحكام الشرعية إذا لم يعلم العلماء حكمتها سموها بالأحكام التعبدية، ولهذا لو قال قائل: ما الحكمة في أن تكون صلاة الظهر أربعا دون ثمان؟ ، قلنا: الحكمة تعبدية ليس للعقل فيها مجال.

فهم يقولون: إن علمت حكمة الحكم فهو حكم معقول المعنى، مع ما فيه من التعبد لله، وإن لم تعلم فهو حكم تعبدي ليس لنا أمامه ألا التعبد. وأيهما أقوى في التعبد: الامتثال لحكم التعبدي أو للحكم المعقول المعنى؟ الأول ابلغ في التذلل، فكونك تقبل الحكم وإن لم تعرف حكمته هذا أبلغ؛ لان كون الإنسان لا يقبل الحكم ألا إذا علم حكمته فيه نوع من الشرك، وهو عبادة الهوى، وأنه إذا وافق الشيء هواه وأدرك حكمته قبله واطمأن إليه ورضي به، وإن لم يكن صار عنده فيه تردد.

والناظر إلى الناس اليوم يجد أن أكثرهم يطلبون العلة العقلية، حتى إن بعضهم إذا قلت له: قال الله ورسوله. يقول: وما الحكمة؟ فهلا علم هؤلاء أنهم مأمورون إن كانوا مؤمنين أن تكون الحكمة عندهم قول الله ورسوله، ولهذا لما سئلت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها:((ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة؟)) فأجابت: ((كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة)) (1) ، إذا هذه هي الحكمة التي نجيب بها على هذا السؤال، وبهذه الحكمة لا يمكن لأحد أن يتكلم بعد ذلك إن كان مؤمنا.

لكن إذا ذهبنا نأتي بعلل معقولة، قد تكون مقصودة للشرع وقد لا تكون، أوردوا علينا وناقضونا؛ لان هؤلاء إنما يريدون الجدل، فكلما أتيت

(1) رواه مسلم، كتاب الحيض، باب وجود قضاء الصوم على الحائض دون الصلاة، رقم (335) .

ص: 49

بعلة نقضوها، ولهذا نقول لكل من سال: ما الحكمة في هذا؟ نقول: الحكمة قول الله ورسوله إن كنت مؤمنا لان الله عز وجل يقول: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أمرهمْ)(الأحزاب: الآية 36) وبهذا نسد عليه الباب، فإن أراد أو حاول أن يجادل فإيمانه ضعيف لا شك؛ لان فرض المؤمن أن يقول: سمعنا وأطعنا.

وخلاصة القول أن باب الحكمة باب عظيم، ينبغي للإنسان أن يعقله وأن يؤمن به إيمانا تاما، وأن يعلم أن أفعال الله مقرونة بالحكمة، خلافا لمن قال: إن أمره وفعله لغير حكمة بل لمجرد المشيئة، فإن في هذا من تنقص الله عز وجل ما هو معلوم.

وقوله: (الوارث) هذا الاسم جاء في القرآن الكريم بصيغة الجمع وبالفعل؛ قال تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا)(مريم: الآية 40) وقال تعالى: (وكنا نحن الوارثين)(القصص: 40)، فالوارث معناه: الذي يرث من قبله، ولا شك أن الله هو الآخر الذي ليس بعده شيء، فإذا كان الآخر الذي ليس بعده شيء لزم أن يكون الوارث لكل شيء، فالله سبحانه وتعالى هو الوارث لكل شيء. كل من سواه فإن الله سبحانه وتعالى بعده، فهو الآخر الذي ليس بعده شيء.

فالحاصل أن هذه الأبيات الثلاثة الأولى كلها ثناء على الله عز وجل، وقد اعتاد المصنفون رحمهم الله أن يبدأوا مصنفاتهم بالثناء على الله عز وجل، ثم بالصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم لان القصد الأول هو الله عز وجل، والنبي صلى الله عليه وسلم دال على الطريق الموصل إلى الله، فكان حقه بعد حق الله سبحانه وتعالى.

ص: 50

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

4-

ثم الصلاة والسلام سرمدا

على النبي المصطفى كنز الهدى

ــ

الشرح

قوله: (ثم الصلاة والسلام سرمدا) ثم: أي بعد الثناء على الله أثنى بذكر حق الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك بالصلاة والسلام عليه، وأعظم حقوق البشر حق النبي صلى الله عليه وسلم، فهو أحق من الوالدين وأحق من الأقارب، بل وأحق من النفس ولهذا يجب تقديم محبته صلى الله عليه وسلم على النفس، فيجب فداؤه بالنفس عليه الصلاة والسلام، ولا أحد من الخلق يجب فداؤه بالنفس ألا محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أحد من الخلق يجب تقديم محبته على النفس ألا محمد صلى الله عليه وسلم، ولهذا لا يؤمن الإنسان حتى يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ولا يمكن أن يؤمن الإنسان حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه حتى من نفسه.

وقوله: (ثم الصلاة والسلام سرمدا) يعني أبداً. والصلاة تكلم العلماء رحمهم الله في معناها، ولكن أصح الأقوال فيها ما قاله أبو العالية الرياحي من أنها: ثناء الله على عبده في الملأ الأعلى (1) ، فصلاة الله على رسوله يعني ثناءه عليه في الملا الأعلى، ومعنى ثنائه عليه في الملأ الأعلى أن الله تعالى يذكر أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم الحميدة عند الملائكة ويثني عليه.

وذهب بعض أهل العلم رحمهم الله إلى أن الصلاة هي الرحمة ولكن قولهم هذا ضعيف، والدليل على ذلك أن الله سبحانه وتعالى ذكر الرحمة والصلاة في آية واحدة، فغاير بينهما، فقال:(أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ)(البقرة: الآية 157) والعطف يقتضي المغايرة.

(1) رواه البخاري بصيغة الجزم

ص: 51

ووجه آخر أن العلماء رحمهم الله اتفقوا على جواز الدعاء بالرحمة لأي شخص من المؤمنين، واختلفوا في جواز الصلاة، وهذا يدل على أن الصلاة غير الرحمة، فالرحمة عامة، والصلاة أخص من مطلق الرحمة، والصحيح جوازها ما لم يتخذ شعارا لهذا الشخص المعين، فإن اتخذ شعارا لهذا الشخص المعين فهو ممنوع، لأنه خصه بخصيصة يفهم منها معنى فاسد.

فالصلاة إذا ثناء الله على عبده في الملأ الأعلى، فإذا صليت على النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: اللهم صل على محمد، فالمعنى: اللهم أثن عليه في الملأ الأعلى، فإن قلت ذلك مرة فإن الله يصلي عليك عشرا، يعني إذا سألت الله أن يثني على رسوله مرة واحدة أثنى الله عليك عشر مرات.

وقوله: (والسلام) بمعنى السلام من كل آفة، والسلام على الرسول صلى الله عليه وسلم من كل آفة.

فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات، فما معنى الدعاء له بالسلامة؟

فالجواب: أن دعاءنا له بالسلامة يشمل السلامة في الدنيا والسلامة في الآخرة.

ففي الآخرة: إذا لم يسلم الله البشر هلكوا، ولهذا كان النبي يمرون على الصراط، وكان دعاء الأنبياء يومئذ:((اللهم سلم اللهم سلم)) (1) .

وفي الدنيا: ندعو أن الله يسلم الرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك بان يسلمه من العدوان عليه، أي على جسده، أفليس قد ذكر في التاريخ أن رجلين أرادا أن يستلبا جسد النبي عليه الصلاة والسلام؟ إذا فنحن ندعو الله

(1) رواه البخاري، كتاب الأذان، باب فضل السجود، رقم (806) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، رقم (182) .

ص: 52

أن يسلمه حتى في الدنيا أي يسلم جسده.

ثم ربما يقال إن المسالة أوسع من ذلك، بأننا نسأل الله تعالى أن يسلمه في الدنيا أي يسلم شريعته من أن ينالها أحد بسوء؛ لان شريعة الإنسان لا شك أنه يذود عنها كما يذود عن نفسه، فالإنسان يذود عن مبدئه وعن شريعته وعن طريقه كما يذود عن نفسه، وما أكثر الذين يستميتون من اجل تحقيق دعوتهم.

إذا: فالسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون في الدنيا والآخرة، ويكون بسلامته عليه الصلاة والسلام نفسه، وبسلامة شريعته.

وقوله: (على النبي) : النبي: هل هو بالهمز وخفف أو بالياء التي أصلها الواو؟ قيل: إن أصله من النبوة، من نبا ينبو نبوا، وهو الارتفاع؛ لان نبا بمعنى ارتفع، ولا شك في ارتفاع رتبة النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فيكون النبي أصلها النبيو لكن اجتمعت الواو مع الياء وسبقتها الياء بالسكون فقلبت الواو ياء فصارت النبي.

وقيل: إنه من النبأ بمعنى الخبر، لان النبي منبأ ومنبئ، ولكن سهلت الهمزة إلى ياء لكثرة الاستعمال، فأصلها النيئ، ثم سهل صارت النبي.

والقاعدة: أنه إذا احتمل اللفظ معنيين لا يتنافيان حمل عليهما جميعا، فنقول هو مشتق من هذا ومن هذا؛ لان النبي صلى الله عليه وسلم رفيع المنزلة، وهو أيضا منبئ ومنبأ.

وقوله: (المصطفى) : يعني المختار، لأنه مأخوذ من الصفوة، وصفوة الشيء خياره، فهو صلى الله عليه وسلم مصطفى أي مختار على جميع الخلق، فهو صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل، والرسل أفضل الخلق.

ص: 53

والدليل على أنه أفضل الرسل:

أولا: أن الله تبارك وتعالى قال: () وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ) (آل عمران: الآية 81) فالتزموا بذلك: (قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ)(آل عمران: الآية 81) فهذه الآية نص صريح في أن محمدا صلى الله عليه وسلم إمام الأنبياء، وأنه يجب عليهم أتباعه؛ لان الذي جاء مصدقا لما معهم، هو الرسول عليه الصلاة والسلام، كما قال الله تبارك وتعالى:(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)(المائدة: الآية 48) .

ثانيا: أنه في ليلة المعراج، لما صلى الأنبياء كان إمامهم محمدا صلى الله عليه وسلم، فهو صفوة الصفوة عليه الصلاة والسلام، ولهذا نقول: المصطفى.

فإذا قال قائل: أليس الله تعالى قد اتخذ إبراهيم خليلا، والخلة أعلى أنواع المحبة؟

فالجواب: بلى، لكنه قد اتخذ أيضا محمدا خليلا، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:(إن الله اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا)(1) .

فإن قال قائل: أليس الله تعالى قد كلم موسى تكليما؟

فالجواب: بلى، ولكنه أيضا كلم محمدا صلى الله عليه وسلم تكليما، فإذا كان الله قد كلم موسى وموسى في الأرض، فقد كلم سبحانه وتعالى محمداً ومحمد فوق السماوات السبع. فما من صفة كمال لنبي من الأنبياء ألا ولرسول الله

(1) رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور، رقم (532) .

ص: 54

صلى الله عليه وسلم مثلها أو خير منها، وما من آية لنبي ألا كان لمحمد صلى الله عليه وسلم مثلها أو لإتباعه، ومعلوم أن الكرامات للأتباع كالمعجزات للنبي المتبوع.

وهناك كلمة يقولها من يزعمون أنهم يعظمون الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث يقولون: محمد حبيب الله وإبراهيم خليل الله، وهذا نقص في جانب الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لان الخلة أعلى من المحبة، ولهذا نقول إن الله يحب المحسنين والمتقين، ولا نقول أنه خليل للمحسنين والمتقين، ويحب الأنبياء، ولا نقول إنه خليل لهم ألا لمحمد وإبراهيم، ومن سواهم من الأنبياء لا نثبت لهم الخلة، بل نثبت لهم المحبة - بلا شك -، ونثبت المحبة للمؤمنين وللمحسنين وللمقسطين وما أشبه ذلك، لكن الخلة أعظم وأكمل.

مسالة: هل المصطفى من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم؟

الجواب: لا، بل الظاهر أنه من أوصافه، والعجيب أن بعض الناس يكرر فيقول: قال المصطفى

وقال المصطفى

مع أن الصحابة رضي الله عنهم اشد منا تعظيما للرسول عليه الصلاة والسلام، وأعلم منا بمناقبه ولم يقولوا ذلك؛ فلم يقل أبو هريرة: قال المصطفى، ولا قاله أحد من الصحابة، وفي كل كتب الحديث يقول الصحابي: قال رسول الله، قال نبي الله، قال أبو القاسم، وما أشبه ذلك، لكن الناس في الوقت الحاضر ابتلوا بصياغة الألفاظ، ولم ينظروا إلى من سبقهم، والحقيقة أنه ينبغي لنا أن ننظر إلى من سبق.

ومثل ذلك ما يقوله بعض الناس الآن إذا أراد أن يقول: قال الله تعالى، يقول: قال الحق، وهذا قول الحق. ولا شك أن الله هو الحق المبين لكن يا

ص: 55

أخي قل: قال الله. فالنبي عليه الصلاة والسلام وهو لا شك أنه اعلم بالله منك، وأشد تعظيما لله منك - كان إذا أراد أن يتحدث عن الله عز وجل بالحديث القسي يقول:((قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك)) (1) . ولم يقل صلى الله عليه وسلم: قال الحق، ولكن بعض الناس يريد أن يجدد، والتجديد في مثل هذه الأمور لا ينبغي، وإتباع السلف في هذه الأمور أولى من التجديد.

وقوله: (كنز الهدى) : يعني أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الكنز، لكن ليس كنز الذهب والفضة، ولكنه كنز الهدى، أي: هدى الدلالة والإرشاد، فالنبي عليه الصلاة والسلام هو العلم والمنار الذي يهتدي به، لكنه ليس كنز الهدى الذي بمعنى التوفيق، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يستطيع أن يهدي أحداً أبداً.

ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم يستطيع أن يهدي أحداً لهدى عمه أبا طالب الذي أحسن إليه، ودافع عنه، وناضل عنه، وحماه. ومع ذلك كان يقول له عند موته:((يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله)) (2) ، ولكنه والعياذ بالله قد حقت عليه كلمة العذاب، فلم يقل هذا، وإنما كان آخر قوله: هو على ملة عبد المطلب، فأبى أن يقول لا إله ألا الله، ولكن من اجل أن هذا الرجل دافع عن الإسلام، وحمى النبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه، جازاه الله عز وجل بجزاء لم يكن لغيره من لكافرين، فأذن الله لنبيه أن يشفع فيه فشفع فيه النبي عليه الصلاة والسلام، أي في أبي طالب، فكان في ضحضاح من نار وعليه

(1) رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب من أشرك في عمله غير الله، رقم (2985) .

(2)

رواه البخاري، كتاب المناقب، باب قصة أبي طالب، رقم (3884) .

ص: 56

نعلان من نار يغلي منهما دماغه، أعوذ بالله، وهو أهون أهل النار عذابا (1) ، إذا كان الدماغ يغلي وهو أبعد ما يكون عن النعلين، فما بالك بما تحته؟!.

ولهذا نقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم (كنز الهدى) ، أي هدى العلم والدلالة دون التوفيق والعمل، فإنه لا يستطيع أن يهدي أحداً هداية توفيق وعمل، وإذا كان هذا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم ففي حق غير الرسول من باب أولى، وبناء على ذلك فنحن لا نملك هداية الناس هداية توفيق، وإنما علينا أن نهديهم هداية دلالة وإرشاد، ونسأل الله أن يعيننا على ذلك، فما أكثر ما قصرنا حتى في الدلالة والإرشاد، فنحن وظيفتنا أن ندل ونرشد ونبين وندعو ونأمر وننهي ونغير، وكل هذا بقدر الاستطاعة.

فهنا بيان ودعوة وأمر وتغيير. وكثير من الناس يظنون أن معناها واحد، وليس كذلك:

فالبيان: أن تبين بيانا عاما للناس.

والدعوة: أن تقول افعلوا - يا أيها الناس - وتدعوهم، كالذي يدعو الغنم للشرب وما أشبه ذلك.

والأمر: أن تقول يا فلان افعل كذا، فالأمر أخص من مجرد الدعوة، ثم بعد ذلك التغيير وهو أعلى شيء كما لو رأيت مثلا آلة لهو فلا تنهى وتقول: يا فلان لا تستعملها، بل تأخذها وتكسرها.

وكل هذا والحمد لله منوط بالاستطاعة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه)) (2)

(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب أهون أهل النار عذابا، رقم (212، 213) .

(2)

رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان

، رقم (49) .

ص: 57

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

5-

وآله وصحبه الأبرار

معادن التقوى مع الأسرار

ــ

الشرح

قوله: (وآله وصحبه الأبرار) الآل تطلق على معان، وأصح ما تقول فيها: إنها إن قرنت بالإتباع فالمراد بها المؤمنون من قرابته، وذلك مثل أن نقول: وآله وأتباعه؛ وذلك لان العطف يقتضي المغايرة، وإذا ذكرت وحدها ولم تقرن بالإتباع، فالمراد بآله أتباعه على دينه، ويشمل المؤمنين من قرابته، وهذا هو أصح ما قيل في الآل.

وعبارة المؤلف رحمه الله ليس فيها ذكر الأتباع، حيث قال:(وآله وصحبه) إذا نقول: المراد بآله هم أتباعه على دينه.

وفي التشهد نقول: ((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد)) فالمراد بالآل هنا أتباعه على دينه، لأنه لم يذكر الأتباع، لكن إذا قلنا: اللهم صل على محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان. صار المراد بالآل المؤمنين من قرابته، وقد قال الناظم:

آل النبي هم أتباع ملته من الأعاجم والسودان والعرب

لو لم يكن آله ألا قرابته صلى المصلي على الطاغي أبي لهب

لان أبا لهب من قرابته، لكن الصواب أن الذين قالوا إن الآل هم القرابة لا شك أنهم يريدون المؤمنين من قرابته؛ لأنه لا يمكن أبداً لأي مؤمن أن يقول: إنني إذا قلت: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، أنني اقصد

ص: 58

أبا لهب، بل يجب علينا أن نتبرأ من أبي لهب ومن غيره من أقارب الرسول علي الصلاة والسلام ممن مات على الكفر.

مسالة: هل زوجات النبي صلى الله عليه وسلم يعتبرون من آله؟

الجواب: الصحيح أنهن من آله.

وقوله: (وصحبه) ، الصحب والأصحاب والصاحب - في اللغة العربية - تدل على المرافق الملازم، ولهذا نقول إن أصحاب النار هم أهلها الخالدون فيها، ولا يكون الإنسان صاحبا ألا بملازمة طويلة، ألا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن مجرد الملاقاة مع الإيمان به تكون بها الصحبة؛ فالصحابي من اجتمع برسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على ذلك، حتى وإن لم يجتمع به ألا لحظة واحدة فهو صحابي.

وقوله: (الأبرار) : جمع بر، وضدها الفجار، قال تعالى:(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ)(المطففين: 7) وبعد ذلك قال: (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ)(المطففين: 18) .

فالأبرار جمع بر، وضده الفاجر، والبر في الأصل كثير الخير، ومنه قوله تعالى:(إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)(الطور: 28) فالأبرار هم الذين أكثروا من الأعمال الصالحة.

ولا نعلم أحداً من الخلق أكثر عملا في الصالحات من الصحابة رضي الله عنهم، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) (1) ويجب علينا نحن خلف الأمة أن نعرف لهؤلاء

(1) رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا اشهد، رقم (2652) ، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة رضي الله عنهم، رقم (2533) .

ص: 59

السلف حقهم وقدرهم، وأن نحترمهم في أقوالهم وأفعالهم ما وجدنا لها مكانا في الاحترام.

ومن المؤسف أن من الخلف اليوم ولا سيما بعض المدعين للاجتهاد، الذين يدعى أنهم مجتهدون على الإطلاق، وإنهم كالثريا بالنسبة للثرى مع العالم الآخر، من المؤسف أن هؤلاء عندما تقول لهم: قال فلان من الصحابة المعروفين بالفقه والعلم، يقول: هذا قول صحابي، ولا نوافق، وبهذه البساطة يتكلم بهذا الكلام، ويقول: قول صحابي ولا نعمل به.

حتى إن بعضهم قال: إن الأذان الأول للجمعة بدعة لان النبي صلى الله عليه وسلم لم يسنه، فإذا قيل له: إنه سنة الخليفة الراشد الذي أمرنا بإتباعه، عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال: وإن سنه، أنه ليس سنة الرسول عليه الصلاة والسلام.

وبهذا حكم على خليفة المسلمين الثالث، وعلى المسلمين عموما بالضلال، لأني لا اعلم إلى ساعتنا هذه أن أحداً من الصحابة أنكر على عثمان رضي الله عنه هذا الأذان، فيكون الصحابة رضي الله عنهم مجمعين على إقرار الضلالة، ويكون الخليفة الراشد ضالا؛ لان كل بدعة ضلالة.

وهذا - والعياذ بالله - غرور بالنفس وزهو، ولا شك أن من ترافع إلى هذا الحد سوف يضعه الله، وان من تواضع لله رفعه الله، ويجب علينا أن نعرف لهؤلاء السلف حقهم ومنزلتهم عند الله، في العلم، وفي العبادة، صحح إذا قال أحدهم قولا مخالفا للكتاب والسنة - والإنسان غير معصوم - فلنا أن نرده لكن نرده مع الاعتذار عنهم، أما أن نرد بهذه الوقاحة في أمر اجتهادي،

ص: 60

قد يكون الصواب مع الصحابة لا معك، هذا غلط.

وحدثني بعض الأخوة أنه جاءهم رجل وقال لهم: إن التكبير: ((الله اكبر الله اكبر لا إله ألا الله، والله اكبر الله اكبر ولله الحمد)) ، هذا ليس بصحيح، ولا يقال، لأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأغفل أنه مروي عن عمر وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما؛ خليفتان من خلفاء المسلمين، أن صفة التبكير:((الله اكبر الله اكبر لا إله ألا الله، والله اكبر الله اكبر ولله الحمد)) ، وعن ابن مسعود وغيره من الصحابة رضي الله عنهم التكبير ثلاث مرات، فكيف نقول: إن هذا لا يقال لأنه قول صحابي وليس فيه حديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم؟!

ثم إن قول الصحابي خير من قولك، وأنا لا أقول عين هذا القول، ولكن أقول لا تنكر هذا القول لان الإنكار يحتاج إلى دليل، وقول الصحابي إذا لم يخالف الدليل دليل، وهذا على قاعدة الإمام أحمد ابن حنبل رحمه الله، وعلى ظاهر الأدلة العامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) (1) .

فالمهم أنه ينبغي لنا أن نحذر من هؤلاء وطريقتهم، الذين لا يقيمون وزنا للسلف الصالح، ولا يحترمونهم، ويعدون القول منهم كقول السوقة من الناس اليوم، فإن الواجب أن نحترم أقوالهم، وإذا رأيناها مخالفة للدليل نطلب لهم العذر؛ ونقول لعله لم يبلغه، أو لعله تأول، والصحابة رضي الله

(1) تقدم تخريجه ص 59.

ص: 61

عنهم لما علموا أن عثمان رضي الله عنه بإتمامه الصلاة في منى ليس على صواب، ما شنعوا عليه ولا انفصلوا عنه في الصلاة، بل أتموا الصلاة.

ومن ذلك أنا رأينا في المسجد الحرام أقواما إذا صلوا خمس تسليمات انصرفوا، بحجة أن هذا الإمام مبتدع، وسبب ذلك عندهم قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها:((كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة)) (1) . إذا فما زاد على ذلك فهو بدعة.

وكأنه نسي أن الذي كان لا يزيد على إحدى عشرة ركعة، قال حين سأله السائل عن صلاة الليل:((صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح، صلى واحدة)) (2) ولم يحدد الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بعدد بل قال: إذا خشيت الصبح - ولو كنت مصليا مائتي ركعة -، فصل ركعة توتر لك ما صليت.

ثم نسي قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((إنما جعل الإمام ليؤتم به)) (3) وهذا إمام شرعي مجعول في المسجد الحرام أو المسجد النبوي أو غيره من المساجد.

وكأنه نسي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له

(1) رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب قيام النبي صلى الله عليه وسلم بالليل، رقم (1147) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل

، رقم (738) .

(2)

رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب الحلق والجلوس في المسجد، رقم (473) ، ومسلم كتاب صلاة المسافرين، باب صلاة الليل مثنى مثنى، رقم (749) .

(3)

رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في السطوح

، رقم (378) ، ومسلم كتاب الصلاة، باب ائتمام المأموم بالإمام، رقم (411) .

ص: 62

قيام ليلة)) (1) ولو كان نبينا عليه الصلاة والسلام قال: من زاد عن احدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة فلا تصلوا خلفه، لكان انصراف هذا الرجل على حق، لكن أنى له ذلك؟! بل قال:((من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة) .

فأنا أحذر من هؤلاء وطريقتهم، وأقول: إنه يجب علينا أن نحترم أقوال سلفنا الصالح، ولكننا لا نعتقد عصمتهم، بل نقول: إن الخطأ جائز عليهم كما هو علينا أجوز، ولكن إذا رأينا خطأ بينا مخالفا للكتاب والسنة فإننا لا نقبله، ولكن نعتذر عمن علمنا حسن قصده.

حتى من بعد الصحابة رضي الله عنهم، فهناك أئمة يخطئون، وهناك أتباع للأئمة لكنهم أئمة في مذاهبهم يخطئون، ولكن لا نتخذ من هذا الخطأ جفاء معهم ولا ينبغي الكلام عليهم بما لا ينبغي، بل إذا أخطئوا اعتذرنا عنهم، وقلنا: نحن لا نتبع ألا ما قام الدليل عليه، ولكن هؤلاء اخطئوا وربما يكون لهم عذر، ومن قرأ كتاب شيخ الإسلام رحمه الله رفع الملام عن الأئمة الإعلام، تبين له كيف يعامل الأئمة والعلماء رحمهم الله.

أما أن نستعز بأنفسنا ويرى الواحد منا نفسه كأنه رسول يوحى إليه، فهذا خطأ عظيم. والغالب أن هؤلاء يحرمون بركة العلم، ولا أعني ببركة العلم ألا يكون عندهم علم واسع، بل قد يكون عندهم علم واسع، لكن يحرمون بركته؛ من خشية الإنسان لربه عز وجل وإنابته إليه، والحقيقة أن

(1) رواه الترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء في قيام شهر رمضان، رقم (806) ، والنسائي، كتاب قيام الليل وتطوع النهار، باب قيام شهر رمضان، رقم (1605) ، وابن ماجه، كتاب إقامة الصلاة والسنة فيها، باب ما جاء في قيام شهر رمضان، رقم (1317) .

ص: 63

العلم إذا لم يثمر خشية الله عز وجل، والإنابة إليه، والتعلق به سبحانه وتعالى، واحترام المسلمين، فإنه علم فاقد البركة، بل قد يختم لمن سلك هذا الملك بخاتمة سيئة، مثلما علمنا أناسا علماء فطاحل، لكنهم - والعياذ بالله - ختم لهم بسوء الخاتمة لأنهم اعتزوا بأنفسهم، وفخروا بأنفسهم، وازدروا غيرهم، وهذا خطير جدا نسأل الله أن يعافينا وبقية إخواننا المسلمين من ذلك.

وقوله: (معادن التقوى مع الأسرار) المعدن: أصل الشيء، ومنه المعادن الأرضية التي هي أصل هذه الجواهر النفيسة.

وقوله: (التقوى) : أصلها وقوى مأخوذة من الوقاية، والتقوى: هي اتخاذ الإنسان وقاية من عذاب الله، بفعل أوامره واجتناب نواهيه. وهذا هو اجمع ما قيل فيها.

إذاً: فالتقوى اسم جامع لفعل الأوامر وترك النواهي، لكن أحيانا يقال: البر والتقوى، فإذا قيل البر والتقوى، صار البر فعل الطاعات والتقوى ترك المنهيات.

وإلا فإن ذكرت التقوى وحدها شملت البر، وإن ذكر البر وحده شمل التقوى.

وقوله: (مع الأسرار) : الأسرار جمع سر، والمراد به هنا الاطلاع على خفايا العلوم والمناهج. والمناهج يعني السبل والطرق والأخلاق التي يتخلقون بها، فلا أحد أعمق علما من الصحابة رضي الله عنهم، ولا أحد أقل تكلفا من الصحابة رضي الله عنهم، ولذلك لو جمعت كل ما روي عن

ص: 64

الصحابة رضي الله عنهم في أبواب العلم لوجدته ينقص كثيرا عن مؤلف من مؤلفات علماء الكلام؛ الذي ليس فيه ألا حشو الكلام الذي لا منفعة فيه، بل فيه مضرة؛ أدناها إضاعة الوقت.

وأنت تجد كلام الصحابة رضي الله عنهم سهلا واضحا سلسلا، ليس فيه تكلف ولا تشدد، بل كله مبني على السهولة، لما افطر الناس في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه قبل أن تغرب الشمس - لأنها كانت غيما - ثم طلعت الشمس، قالوا: يا أمير المؤمنين إن الشمس قد طلعت، قال:((الخطب سهل إننا لم نتجانف لإثم)) كلمات يسيرة واضحة سهلة بينت الحكم والحكمة، الخطب سهل لأننا لم نتجانف لإثم، إذا لا شيء علينا، وفي رواية أخرى قال:((الخطب سهل نقضي يوما مكانه)) فيكون له في المسألة قولان.

فعلم السلف رحمهم الله وخصوصا الصحابة رضي الله عنهم، وخصوصا الخلفاء الراشدين، تجده سهلا بينا واضحا، حتى النفس تلتذ له ولسماعه، فهذا هو المقصود بقول المؤلف رحمه الله (الأسرار) فالأسرار إذا جمع سر، والمراد بها خفايا العلوم والأخلاق التي تكون عند الصحابة رضي الله عنهم، بدون تكلف وبدون تعمق، بل بكل سهولة تجري على النفوس وعلى القلوب مجرى سهلا هيناً.

ص: 65

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

6-

وبعد فاعلم أن كل العلم

كالفرع للتوحيد فاسمع نظمي

7-

لأنه العلم الذي لا ينبغي

لعاقل لفهمه لم يبتغ

ــ

الشرح

قوله: (وبعد فاعلم) بعد: أي بعد ما ذكر من الحمد والثناء على الله عز وجل، والصلاة والسلام على رسوله وآله، (فاعلم

) وبعدها مضمومة ضمة بناء؛ لأنه حذف المضاف إليه ونوي معناه، وهذه الكلمات - بعد وأخواتها - يقول النحويون فيها إنها لا تخلو من أربع حالات:

الحال الأولى: أن يحذف المضاف إليه وينوى معناه وحينئذ تبنى على الضم.

الحال الثانية: أن يحذف المضاف إليه وينوى لفظه وحينئذ تعرب بالحركات غير منونة، فتجر في حال الجر؛ وتنصب في حال النصب، وما أمكن أن يرفع منها يرفع في حال الرفع لكن غير منون؛ لأنه قد نوى لفظ المضاف إليه، والكلمة إذا أضيفت لا تنون، كما قيل:

كأني تنوين وأنت إضافة فأين تراني لا تحل مكاني

الحال الثالثة: أن يذكر المضاف إليه فتعرب بالحركات حسب العوامل ولكن بغير تنوين.

الحال الرابعة: أن يحذف المضاف إليه ولا ينوى لا لفظه ولا معناه،

ص: 66

وحينئذ تعرب بالحركات منونة، قال الشاعر:

فساغ لي الشراب وكنت قبلا أكاد أغص بالماء الفرات

فقال: وكنت قبلا.

وأكثر ما ترد هذه الكلمات مبنية على الضم؛ لان المضاف إليه يكون محذوفا وينوى معناه.

إذا: (وبعد) هنا مبنية على الضم؛ لأنه حذف المضاف إليه ونوى معناه.

وقوله: (فاعلم) الفاء رابطة في جواب شرط مقدر، لان التقدير (وبعد) هو (وأما بعد) .

(فاعلم أن كل العلم كالفرع للتوحيد) أمر المؤلف رحمه الله أن تعلم؛ لان المقام مقام ينبغي أن يهتم به، وهو أن يعلم الإنسان أن جميع العلوم كالفرع للتوحيد؛ كعلم الفقه والتفسير والحديث وغيرها كلها فرع لعلم التوحيد؛ لان التوحيد هو الأصل الذي ينبني عليه دين العبد، ولا يمكن أن يقوم دين ألا بتوحيد (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ ألا اللَّهُ) (محمد: الآية 19) .

وقول المؤلف رحمه الله: (كالفرع للتوحيد) يعني بأقسامه الثالثة: توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، فكل العلوم بل والأعمال أيضا، مدارها على التوحيد، فالتوحيد هو الأصل وما سواه فهو فرع.

وقوله: (فاسمع نظمي) أمر بان تعلم وان تسمع.

ص: 67

(نظمي) أي منظومي الذي سأنظمه وأقوله؛ لان ما سينظمه رحمه الله في علم التوحيد، ولهذا أمر بان تسمع إليه سماع انتفاع.

ثم علل كون العلوم كالفرع للتوحيد بقوله:

لأنه العلم الذي لا ينبغي لعاقل لفهمه لم يبتغ

قوله: (لأنه) : أي علم التوحيد.

وقوله: (العلم الذي لا ينبغي) أي لا يصلح ولا يستقيم ولا يمكن للإنسان العاقل أن لا يبتغي فهمه، اللام في قوله:((لفهمه)) زائدة، يعني لا ينبغي لعاقل لم يبتغ فهمه، أي: أنه لا ينبغي لعاقل أن يدع فهم علم التوحيد، لأنه الأصل، وإذا كان هو الأصل وجب أن يقدم على غيره، لان الفرع لا يبنى ألا على أصل.

ص: 68

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

8-

فيعلم الواجب والمحالا

كجائز في حقه تعالى

ــ

الشرح

قوله: (فيعلم) يعني من جملة علم التوحيد، أن به يعلم الواجب والمحال والجائز في حق الله تعالى.

فيعلم الواجب في حق الله، ويعلم المستحيل في حق الله، ويعلم الجائز في حق الله، فالأقسام إذا ثلاثة: واجب، ومستحيل، وجائز، ويقال للواجب أحيانا اللازم، ويقال للمحال أحيانا الممنوع، ويقال للجائز أحيانا الممكن، والمدار على المعنى.

أما الواجب في حق الله تعالى: فهو ما لا يتصور عدمه بالنسبة إليه، فكل شيء لا يتصور عدمه بالنسبة لله فهو واجب، فمثلا الحياة من الواجب، والعلم من الواجب، والقدرة من الواجب، والقوة من الواجب، والأمثلة في هذا كثيرة، فكل ما لا يتصور عدمه فهو واجب.

وأما المستحيل: فهو كل ما لا يتصور وجوده، فالذي لا يتصور وجوده هو المستحيل، مثل الموت والعجز والضعف والجهل والنسيان وما أشبه ذلك. فهذا كله ممتنع في حق الله عز وجل.

والضابط في هذا أن كل كمال فهو من الواجب في حق الله تعالى، وكل نقص فهو من الممتنع في حق الله عز وجل.

وأما الجائز: فهو ما جاز وجوده وعدمه بالنسبة للخالق، مثل النزول إلى

ص: 69

السماء الدنيا، والاستواء على العرض، وخلق شيء معين كخلق ذباب مثلا، وخلق السماوات، وخلق الأرض، هذا من الأمور الجائزة، لأنه يجوز أن لا يخلق الله هذا لاشيء ويجوز أن يخلقه؛ فلو لم يخلقه لم يكن ذلك نقصا، ولو خلقه لم يكن نقصا، والاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا كلها من الأمور الجائزة.

فإذا قال قائل: إن إثبات الجائز في حق الله ممنوع لأنه إن كان وجوده كمالا كان عدمه نقصا، وإن كان عدمه كمالا كان وجوده نقصا، وحينئذ لابد أن يكون إما موجودا فيكون من الواجب أو معدوما فيكون من المستحيل، فلا يتصور شيء جائز في حق الله؟

فالجواب على هذا أن نقول: هو كمال في حال وجوده، نقص في حال عدمه إن كان من الموجودات، أو هو كمال في حال عدمه نقص في حال وجوده، فمثلا إذا اقتضت الحكمة أن يوجد هذا الشيء فوجد صار كمالا، ووجوده قبل اقتضاء الحكمة نقص، وإذا اقتضت الحكمة عدمه كان وجوده نقصا، ووجوده في حال اقتضاء الحكمة عدمه نقص.

وبهذا يمكن أن نقول إن هناك شيئا جائزا في حق الله، ويكون وجوده في حال اقتضاء الحكمة كمالا، ويكون عدمه في حال اقتضاء الحكمة كمالا، فنزول الله إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، في هذه الحال كمال، وفي غير هذه الحال لا يكون كمالا؛ لان الله عز وجل اقتضت حكمته أن يكون نزوله في هذا الوقت فقط، ولو اقتضت الحكمة أن ينزل في غير هذا الوقت ولم ينزل كان عدم النزول نقصا، وهذا شيء مستحيل في

ص: 70

حق الله عز وجل.

فالحاصل: أنه لو أورد علينا إنسان إيرادا، وقال: إن تقسيمكم الأشياء إلى ثلاثة: واجب ومستحيل وجائز، تقسيم غير صحيح. فالشيء إما واجب وإما مستحيل، أما جائز فلا؛ لأنه إن كان وجوده كمالا وجب أن يكون موجودا دائما، وإن كان عدمه كمالا وجب أن يكون معدوما دائما، نقول هو كمال في حال وجوده إذا اقتضت الحكمة وجوده، وهو كمال في حال عدمه إذا اقتضت الحكمة عدمه، وحينئذ يصح هذا التقسيم.

قال: (كجائز في حقه تعالى) سبق أن مثلنا للواجب بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر وأشياء كثيرة، وللممنوع: بالموت والعجز والضعف والجهل وما أشبه ذلك، وللجائز بالنزول للسماء الدنيا، وكذلك الاستواء على العرش، وكذلك الكلام باعتبار أفراده، فإن الله يجوز أن يتكلم بهذا أو ألا يتكلم به.

ص: 71

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

9-

وصار من عادة أهل العلم

أن يعتنوا في سبر ذا بالنظم

10-

لأنه يسهل للحفظ كما

يروق للسمع ويشفي من ظمأ

ــ

الشرح

قوله: (وصار من عادة أهل العلم) : العادة: هي الشيء الذي يعود ويتكرر فيألفه الناس ويكون من عادتهم، فصار أهل العلم رحمهم الله من عادتهم (أن يعتنوا) أي: يبذلوا العناية (في سبر ذا) أي في سبر علم التوحيد، والمراد بالسبر: التتبع والاستقراء، فصاروا يسبرونه بالنظم.

ولا شك أن هذا التركيب فيه تطويل، ومعناه أنه صار من عادة أهل العلم أن يبحثوا في هذا الموضوع الذي هو علم التوحيد بالنظم، وهناك عادة أخرى غير النظم وهي النثر، فالنثر كثير، وكلام العلماء في علم التوحيد نثرا أكثر من كلامهم فيه نظما، لكن مع ذلك النظم شائع مشهور معتاد عندهم أن ينظموا العقائد وعلم التوحيد، حتى يكون كما أشار إليه المؤلف رحمه الله بقوله:

لأنه يسهل للحفظ كما يروق للسمع ويشفي من ظمأ

والنظم الذي كان العلماء رحمهم الله يعتادونه في هذا الباب على بحر الرجز، كما هو الحال هنا في هذه القصيدة، وقد يكون على بحر الكامل، أو الطويل أو البحور الأخرى المعروفة في علم العروض، لكن أكثر ما يكون

ص: 72

على الرجز؛ لان الرجز خفيف عند القراءة، وسهل عند النظم، لان غير الرجز لابد أن يلتزم الإنسان قافية معينة، وهذا قد يصعب على الإنسان غير الشاعر، أما الرجز فكل بيت له قافية معينة، لا يحتاج الراجز ألا إلى مراعاة الشطر الأول واشطر الثاني فقط.

قال: (لأنه يسهل للحفظ) هذه فائدة؛ فالنظم يسهل للحفظ أكثر من النثر.

وقوله: (كما يروق للسمع) يروق يعني يحسن ويطرب له السمع، ولهذا لو جاء إنسان يقرأ خطبة قراءة عادية لا تجد أنه يهز مشاعرك، أو يوجب انتباهك، لكن إذا كان نظما فإنه يروق لك.

أما قوله: (ويشفي من ظما) فكون هذا خاصا بالشعر فيه نظر، لان الشفاء من الظمأ يكون في الشعر ويكون في النثر، لكن لعله يريد رحمه الله تكميل البيت بهذه الجملة، وإلا فإن الشفاء من الظمأ يكون في النثر وفي النظم، بل قد يكون في النثر أكثر، لان النظم أحيانا يضطر فيه الناظم إلى استعمال عبادات أو تركيبات من الكلام توجب تعقيد المعنى وعدم فهمه.

ص: 73

ثم قال رحمه الله تعالى:

11-

فمن هنا نظمت لي عقيدة

أرجوزة وجيزة مفيدة

12-

نظمتها في سلكها مقدمة

وست أبواب كذاك خاتمة

ــ

الشرح

قوله: (فمن هنا أي من هذا الباب، أو من هذا المأخذ، (نظمت لي عقيدة) أصل النظم هو ضم الخرزات بعضها إلى بعض في سلك، ويطلق على ضم الكلمات بعضها على بعض في بيت تشبيها بخرزات السبحة أو غيرها مما ينظم.

وقوله: (نظمت لي عقيدة) يحتمل أن اللام هنا بمعنى من، أي: نظمت مني عقيدة لإخواني المسلمين، ويحتمل أن اللام للاختصاص، يعني: نظمت لنفسي عقيدة، لكن الظاهر أن المراد المعنى الأول، أي: نظمت عقيدة لإخواني المسلمين مني.

وقوله: (عقيدة) : فعيلة بمعنى مفعولة، أي شيء معتقد، والعقيدة في الأصل من العقد، وهو إحكام الشد، وضده الحل، وهذا في الأصل، أي في اللغة العربية.

وأما في الاصطلاح: فهي حكم الذهن الجازم، يعني أن تحكم على الشيء حكما جازما، وتحكم عليه ذهنا، يعني تعتقد في قلبك بأن هذا كذا نفيا أو إثباتا، جازما به؛ فلا عقيدة مع الشك، لأنه لابد من أن يكون هناك جزم، ولا عقيدة باعتبار نطق اللسان، لان نطق اللسان يقع حتى من المنافق، فالمنافق يقول لا إله ألا الله ولكن ليس عنده عقيدة.

ص: 74

إذا العقيدة تعريفها اصطلاحا: حكم الذهن الجازم.

فقولنا حكم الذهن خرج به قول اللسان لأنه لا يعتبر عقيدة؛ إذ قد يقول الإنسان ما لا يعتقد.

وخرج بقولنا: الجازم الشك فإن الشاك لم يعتقد. ولا يشترط أن يكون الحكم مطابقاً للواقع، فإن طابق الواقع فالعقيدة صحيحة، وإن خالف الواقع فالعقيدة فاسدة.

فاعتقاد النصارى أن الله ثالث ثلاثة هذه عقيدة، ولكنها فاسدة لأنها غير مطابقة للواقع. واعتقاد أهل التحريف أن الاستواء بمعنى الاستيلاء عقيدة، لكنها فاسدة لأنها خلاف الواقع، لكن هم يجزمون بذلك ويعتقدون هذا.

قال: (أرجوزة وجيزة مفيدة) فذكر أنه من أجل ذلك نظم عقيدة من بحر الرجز، ووصفها بأنها (وجيزة) يعني غير مطولة، وهو كذلك، فإنها ليست مطولة لأنه يذكر فيها رحمه الله القواعد العامة بدون تفصيل، وأنها أيضا (مفيدة) يعني تفيد قارئها وسامعها وكاتبها أيضا.

فقوله: إنها أرجوزة وجيزة هذا ليس فيه مدح، لكن قوله مفيدة فيه مدح.

فإذا قال قائل: كيف يسوغ للإنسان أن يمجد ما كان من صنعه وتأليفه، وهل هذا ألا افتخار؟!

فالجواب: يسوغ ذلك إذا لم يقصد بهذا الافتخار على الخلق، وإنما قصد بيان الواقع، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:((أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) (1) وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ((لو اعلم أن أحداً اعلم مني بكتاب الله

(1) رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة بني إسرائيل، رقم (3148) ، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ذكر الشفاعة، رقم (4308) .

ص: 75

تبلغه الإبل لرحلت إليه)) (1) وهذا يتضمن بلا شك أنه على علم عظيم بكتاب الله عز وجل، لكن ابن مسعود رضي الله عنه، لم يقل هذا القول ليمدح نفسه ويفتخر بل ليحث الناس على التلقي عنه وعن غيره من أهل العلم.

والعلماء رحمهم الله إذا صنفوا يذكرون فوائد مصنفاتهم، كما قال ابن مالك رحمه الله في ألفيته:

تقرب الأقصى بلفظ موجز وتبسط البذل بوعد منجز

وتقتضي رضا بغير سخط

فائقة ألفية ابن معطي

وهذا ثناء عليها لا ليفتخر بها لأنها من تأليفه، ولكن من أجل أن يحث الناس على تلقيها وتعلمها.

وهكذا المؤلف رحمه الله هنا قال: ((مفيدة)) ، لأجل أن تحرص عليها وعلى ما فيها من فوائد.

قال: (نظمتها في سلكها) هذا يسميه علماء البلاغة الاستعارة، لان هذه الأرجوزة ليس لها سلك لكنه شبهها بخرزات السبحة التي لها سلك فتنظم، لينضم بعضها إلى بعض؛ ولا يضيع بعضها عن بعض، ولا تتفرق وتتشتت.

وتشتمل على مقدمة وستة أبواب وخاتمة قال:

................. مقدمة وست أبواب كذاك خاتمة

فيكون المجموع ثمانية: مقدمة وخاتمة وستة أبواب

(1) رواه البخاري، كتاب فضائل القرآن، باب القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (5002) ، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن مسعود

، رقم (2463) .

ص: 76

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

13 -

وسمتها بالدرة المضية

في عقد أهل الفرقة المرضية

ــ

الشرح

قوله: (وسمتها) أي جعلت عليها علامة لان الوسم هو العلامة، وفي بعض النسخ ((سميتها)) والمعنى متقارب، يعني إنني سميت هذه المنظومة، أو وسمتها أي جعلت عليها علامة (بالدرة المضية) أصل المضية المضيئة، لكن سهلت الهمزة لأجل استقامة البيت، و (الدرة) هي أعلى ما يقتنصه أهل البحر من البحار، و (المضية) يعني التي لها إضاءة لقوة صفائها وحسنها، وهذا الاسم مطابق لمسماه، فإن هذه المنظومة درة مضية، مضيئة لمن قرأها وتأملها؛ لان فيها فوائد كثيرة عظيمة فيما يتعلق بالعقدية.

وقوله: (في عقد أهل الفرقة المرضية) عقد: بمعنى اعتقاد، فهي اسم مصدر لان اعتقد يعتقد، المصدر اعتقاد، وعقد اسم مصدر، واسم المصدر يقول النحويون، ما دل على معنى المصدر ولم يشتمل على حروفه فكل ما دل على معنى المصدر ولكنه لم يشتمل على حروفه، فإنه يسمى اسم مصدر.

وقوله: (أهل الفرقة) الفرقة بالضم يعني الاختلاف والافتراق، والفرقة بالكسر يعني الطائفة، والمراد هنا الطائفة، وليس المراد أهل الفرقة، فهم ليسوا بأهل الفرقة، بل هم أهل اجتماع، لكن المراد أهل الفرقة يعني الطائفة (المرضية) التي ارتضاها الله ورسوله والمؤمنون، وهم أهل السنة والجماعة، الذين كانوا على مثل ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وضد هذه الفرقة المرضية أصحاب الفرق المسخوطة من أهل البدع، على اختلاف أصنافهم وأنواعهم.

ص: 77

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

14-

على اعتقاد ذي السداد الحنبلي

إمام أهل الحق ذي القدر العلي

15-

حبر الملا فرد العلا الرباني

رب الحجى ماحي الدجى الشيباني

ــ

الشرح

قوله: (على اعتقاد ذي السداد الحنبلي) : يعني إنها مبنية على اعتقاد ذي السداد، والسداد يعني الصواب المسدد الموافق للحق.

وقوله: (الحنبلي) صفة لذي لا للسداد، يعني على اعتقاد الحنبلي، وهو الإمام أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني رحمه الله الإمام المشهور، فنسبته إلى حنبل لأنه جده.

وقوله: ((إمام أهل الحق)) يعني الذي يقتدي به أهل الحق، لكن إمامته رحمه الله وإمامة غيره من الأئمة ليست إمامة مستقلة، بل هي إمامة تابعة للإمامة العظمى، وهي إمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولا ائتمام هؤلاء الأئمة به صلى الله عليه وسلم ما صاروا أئمة، قال الله تعالى:(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)(السجدة: 24) فهؤلاء الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين صاروا أئمة لأنهم أهل للإمامة بما أعطاهم الله تعالى من الصبر واليقين.

وقوله: (ذي القدر العلي) القدر يعني الشرف، العلي ضد النازل، فالإمام أحمد رحمه الله له قدر علي بين أهل الحق، تكاد تكون الأمة كلها مجمعة على الثناء عليه حتى إن بعض العلماء رحمهم الله قال: إنه يجوز أن

ص: 78

نشهد له ولأمثاله بالجنة؛ لان الأمة اتفقت على الثناء عليه، وقد قال الله تعالى:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)(البقرة: الآية 143) فإذا شهدت الأمة لشخص بالصلاح فلنا أن نشهد له بالجنة. والمسالة هذه فيها خلاف.

لكن الكلام على أن الرجل قد اتفق على أنه رحمه الله من اجل أئمة الدين وأعظمهم قدرا، وحصل له من المحنة في الدفاع عن السنة ما يعلم من ترجمته، كما ذكر ذلك ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (1) ، وغيره من تكلموا عن سير الرجال (2) .

وقوله: (حبر الملا) حبر بمعنى عالم، ويقال حبر؛ بفتح الحاء وكسر الحاء حبر الملا أو حبر الملا، وهي موافقة للبحر في الاشتقاق الأكبر لأنها موافقة لها في الحروف دون الترتيب، فحبر وبحر حروفها واحدة: الباء، والحاء، والراء، لكن اختلفت في الترتيب. إذا فهو العالم الواسع العلم، والعالم الواسع العلم يسمى حبرا، وقوله:(الملا) يعني الخلق.

ومن المعلوم أنه رحمه الله واسع العلم وكثير العلم، ولا سيما علم المأثور، مع أنه يتكلم بعلم المعقول كلاما جيدا، كما يعرف من كلامه في الرد على الجهمية، لكنه في علم المأثور أكثر منه في علم المعقول.

وقوله: (فرد العلا) يعني المتفرد بالعلا والشرف، ولا شك أن هذه الأوصاف التي تدل على الإطلاق، لا شك أن المؤلف رحمه الله لا يريد بها

(1) انظر البداية والنهاية 7/345.

(2)

انظر سير أعلام النبلاء 11/137 و177.

ص: 79

الإطلاق، لان مثل هذه الأوصاف على الإطلاق لا تنطبق ألا على الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنها أوصاف نسبية يعني بالنسبة لمن دونه، وكان من الأولى والأفضل أن تكون الألفاظ مطابقة للواقع، بحيث لا يحصل فيها غلو؛ لان الغلو قد يخرج بالإنسان إلى الكذب.

وتوجيه مثل هذا الكلام المطلق أن يقال إنه حبر الملا في وقته، فرد العلا في وقته، وأما أن نقول على سبيل العموم؛ هذا غير مراد للمؤلف.

وقوله: (الرباني) يعني الذي تلقى علمه من شريعة الله؛ لان الشريعة ألصق ما تكون بالربوبية، فهو رحمه الله تلقى علمه من شريعة الرب عز وجل.

وقيل إن الرباني هو المخلص لله في علمه، النافع لعباد الله، المربي لهم على شريعة الله، وهذا المعنى واضح.

فالمخلص لله: لا يقصد ألا الرب، والنافع لعباد الله بالعلم، المربي لهم تربية خلقية، وتربية علمية، فيشمل الأمرين.

فالتربية العلمية، قال العلماء رحمهم الله: معناها: أن يربي الطلبة بصغير العلم قبل كبيره، فإن هذا من التربية العلمية، فلا يأتي للطالب المبتدئ مثلا ويقول له: اقرأ قواعد ابن رجب، فإنه إذا قرأ الطالب المبتدئ قواعد ابن رجب فإنه لا يفهم أبداً، ولكن يربيه بصغار العلم، فيأتي مثلا بكتاب مختصر ومبسط وتدرج به شيئا فشيئاً.

ففي النحو مثلا؛ إذا كان لا يعرف منه شيئا، فلا بد أن تربيه وتبدأ بأصغر كتب النحو حتى يترقى شيئا فشيئا، وفي أصول الفقه كذلك، وفي كل

ص: 80

العلوم ينبغي أن يرقى الطالب درجة، أما أن تقفز به من أسفل درجة لأعلى درجة فهذا لا يمكن، وربما يكون في ذلك ضرر كبير عليه، فإنه إذا لم يفهم انغلق ذهنه، يعني يحصل له رد فعل فلا يعرف من المسائل شيئا، حتى لو كررت عليه مائة مرة، لكن إذا بدا يتلقى العلم كما يتلقى الطفل اللبن يمصه شيئا فشيئا فإنه ينتفع به.

وأما التربية الخلقية فينبغي للمعلم أن يبحث مع طلابه هل طبقوا العلم أو لم يطبقوه، وأن يتفقدهم، وإذا ذكر له عن شخص مخالفة، يتكلم معه بالكلام الذي يناسب، وفي الوقت المناسب، وفي المكان المناسب، أما أن يملأهم من العلوم ويدعهم من العمل فهذا بلا شك قصور جدا؛ لان ثمرة العلم هي العمل، فإذا لم نعمل فإن علمنا أدنى من الحبر على الورق.

إذاً العالم الرباني من اخلص لله في علمه ونفع عباد الله به، ورباهم في ذلك تربية علمية وخلقية.

وقوله: (رب الحجى) : (رب) بمعنى صاحب، و (الحجى) : بمعنى العقل: يعني صاحب العقل.

وقوله: (ماحي الدجى) : أي الظلمة بما لديه من نور الرسالة وهذا علمه بالأثر.

فالإمام أحمد رحمه الله عنده علم المعقول وعلم المنقول، ومن راجع كتبه ورسائله عرف أن الرجل يتكلم بالمعقول كما يتكلم بالمنقول، وإن كان هو في علم الأثر أقوى منه في علم النظر؛ لان الأمة الإسلامية في عهده لم

ص: 81

تكن بلغت مبلغا كبيرا في الاستدلال بالنظر والمعقول، لكن مع ذلك يجادل أهل الباطل بالمعقول؛ لان المعقولات التي تشعبت في الأمة الإسلامية هي من علم المنطق الذي قال عنه شيخ الإسلام رحمه الله:((إنه لا يحتاج إليه الذكي ولا ينتفع به البليد)) (1) . والناس يعرفون الجدل والمناظرة حتى قبل ظهور علم المنطق اليوناني.

فالحاصل أن هذا الشطر من البيت يدل على أن الإمام أحمد رحمه الله عنده علم بالمعقول وعلم بالمنقول، علم المعقول في قوله (رب الحجى) والمنقول في:(ماحي الدجى) .

وقوله: (الشيباني) : يعني أنه رحمه الله من بني شيبان وهذا نسبه.

ومن أراد المزيد من العلم بحياته فليرجع إلى ما صنف في تاريخ حياته، وقد صنف في تاريخ حياته مصنفات مستقلة، وذكر أيضا على سبيل التبع في كتب الرجال (2) وكتب التاريخ (3)

(1) انظر مجموع الفتاوى (9/82)

(2)

انظر تقريب التهذيب لابن حجر (س89) .

(3)

انظر الكامل في التاريخ لابن الأثير 6/3.

ص: 82

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

16-

فإنه أمام أهل الأثر

فمن نحا منحاه فهو الأثري

17-

سقى ضريحا حله صوب الرضا

والعفو والغفران ما نجم أضا

18-

وحله وسائر الأئمة

منازل الرضوان أعلى الجنة

ــ

الشرح

قوله: (فإنه إمام أهل الأثر) فإنه: أي الإمام أحمد رحمه الله، إمام أهل الأثر يعني إمام السلفيين الذين يأخذون بالأثر في علم العقائد، كما يأخذون بالأثر في المسائل العملية.

وذلك أن الإمام أحمد رحمه الله بلغ الإمامة في عصر المأمون، في المحنة التي ابتلي بها علماء السلف في ذلك العهد (1) ، فإن المأمون ادخل على الأمة الإسلامية من علم اليونان وعلم الكلام ما يستحق عليه الجزاء من الله عز وجل؛ لأنه ادخل على الأمة علوما أفسدت العقائد، ونصر البدعة والعياذ بالله نصرا عزيزا، وحصل منه إيذاء لأهل السنة، فكان يحبسهم، ويشهر بهم، ويطوف بهم في الأسواق، ويضربهم والعياذ بالله، مما اضطر كثير من العلماء إلى أن يوافقوه ولو ظاهرا على سبيل أنهم مكروهون، ومنهم من يتأول.

ولكن الإمام أحمد رحمه الله ومحمد بن نوح أصرا على أن يعلنا الحق بدون تأويل، وحصل للإمام أحمد من الإيذاء والإهانة ما لا يصبر عليه إلا

(1) انظر البداية والنهارية لابن كثير (7/278) .

ص: 83

أمثاله، حتى كانوا يجرونه في الأسواق بالبغلة والعياذ بالله، ويضربونه بالسياط حتى يغمى عليه، وهو صابر ومصمم على أن يبقى على ما هو عليه من قول الحق، لأنه لو قال خلاف الحق في ذلك الوقت ولو بالتأويل لضل الناس؛ إذ إن الناس ينتظرون ماذا يقول الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله.

فبذلك استحق أن يكون إماما؛ لأنه صبر وكان موقنا بما هو عليه من الحق والصواب، وقد قال الله تعالى:(وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ)(السجدة: 24) فبذلك صار رحمه الله إماما لمن بعده، ولكن هذه الإمامة نسبية لأنها إمامة تابعة لإمامة عظمى، وهي إمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه صلى الله عليه وسلم هو الإمام الأعظم الذي يتفرع من إمامته إمامة الأئمة، فإمامة الأئمة من هذه الأمة إمامة فرعية لا إمامة أصلية، ولهذا لو خالف هذا الإمام هدي الإمام الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم لوجب أن يطرح قوله وأن يؤخذ بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فقوله: (إمام أهل الأثر) نقول: ليست هذه إمامة مطلقة أصلية، ولكنها إمامة نسبية فرعية تابعة للإمامة العظمى، وهي إمامة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولا أن هذا الإمام تابع لإمامة الرسول عليه الصلاة والسلام ما استحق أن يكون إماما، ألا أن يكون إمام ضلال، فإن الضلال له أئمة كما قال تعالى:(وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يُنْصَرُونَ)(القصص: 41) .

وقوله: (فمن نحا منحاه فهو الأثري) : أي من سلك مسلكه فهو الأثري، نسبة إلى الأثر، والعلوم نوعان: أثرية ونظرية. فما كان متلقى من الكتاب والسنة فهو اثري، وما كان متلقى من العقل فهو نظري.

ص: 84

واعلم أن العلم الأثري لا ينافي العلم النظري بل كلاهما يؤيد الآخر، والأصل عند أهل السنة هو الأثر، سواء في الأمور العلمية أو الأمور العملية، بل أنهم يحكمون كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم في كل شيء.

والأصل عند أهل البدع هي العلوم النظرية، ولهذا يقدمون ما يدعون أنه عقل على الآثار من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فضلوا بذلك عن سواء السبيل، وأضلوا أمماً لا يعلمهم إلا الله.

إذاًَ الأثري: هو الذي نحا منحى الإمام أحمد رحمه الله في الرجوع إلى الكتاب والسنة، ولهذا أقول: من الممكن أن نقول إن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إمام أهل الأثر في مسلكه لا في أقواله، ومعنى في مسلكه أنه سلك تحكيم الكتاب والسنة، وليس المعنى إمام أهل الأثر أي يؤخذ قوله؛ وحينئذ لا نحتاج إلى تقييد الإمامة بالنسبة له؛ لأننا نقول هذه الإمامة صحيحة، وهي أن يكون الإنسان متبعا لما جاء به الكتاب والسنة.

وفي قوله: (الأثر) و (الأثري) جناس ناقص لزيادة الياء في الثاني.

قال: (سقى ضريحا حله صوب الرضا) الضريح يعني القبر.

(حله) : أي: نزل فيه، يعني يسأل الله سبحانه وتعالى أن يسقي ضريحه صوب الرضا من الله عز وجل، فالجملة هنا خبرية لكنها دعائية، يعني يسال الله تعالى أن يسقي ضريح الإمام أحمد صوب الرضا، والصوب والصيب معناهما واحد، أي: الصيب من الرضا، والصيب في الأصل هو الماء النازل من السماء فهو المطر، صوب الرضا من الله.

ص: 85

واعلم أن الله سبحانه وتعالى إذا رضي عن العبد أرضى الناس عنه، وإذا سخط على العبد اسخط الناس عليه، فإذا كنت تريد أن يرضى الناس عنك فاتبع رضا الله، ولكن لا تتبع رضا الله من اجل أن يرضى الناس عنك، فتطلب الأعلى للأدنى، ولكن اجعل رضا الله هو الأصل، وثق بان الله إذا رضي عنك رضي عنك الناس، ولكن إياك أن تنوي بطلب رضا الله رضا الناس فتكون متوسلا بالأعلى إلى الأدنى؛ لأنه ربما إذا نويت هذه النية لا يرضى الله عنك، وحينئذ يفوتك مقصودك مع ضعف مقصودك.

قال: (والعفو والغفران) العفو عن ترك الواجبات، والغفران عن فعل المحرمات، هذا إذا اقترن العفو بالمغفرة، أما إذا انفصل أحدهما عن الآخر فكل واحد منهما يتضمن معنى الثاني، لكن إذا قيل عفا الله عنك وغفر لك، صار عفا الله عنك ما أهملته من واجبات، وغفر لك ما اقترفته من سيئات؛ لان الغفر بمعنى الستر مع التجاوز، والعفو بمعنى النزول عن الحق والإبراء منه.

وقوله: (والعفو والغفران ما نجم أضا) يعني مدة إضاءة النجم، وهذا طويل إلى ما لا نهاية له، وأيضا يقول:(ما نجم) فهو نكرة يشمل كل نجم.

وقوله: (وحله وسائر الأئمة) يعني أنزله وأنزل سائر الأئمة (منازل الرضوان أعلى الجنة) . الأئمة يعني أئمة الإسلام، وليس المراد بذلك الأئمة الأربعة فقط، بل هو شامل لكل إمام في دين الله من الأئمة الأربعة وغيرهم، وسواء كان إماما في الخلافة وتدبير الملك، أو إماما في العلم وتوجيه الناس، فإنه يدخل تحت قوله:

وحله وسائر الأئمة منازل الرضوان أعلى الجنة

ص: 86

المقدمة

19-

اعلم هديت أنه جاء الخبر

عن النبي المقتفى خير البشر

20-

بأن ذي الأمة سوف تفترق

بضعا وسبعين اعتقادا والمحق

21-

ما كان في نهج النبي المصطفى

وصحبه من غير زيغ وجفا

ــ

الشرح

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (المقدمة) ، والمؤلف رحمه الله بين أن كتاب هذا يشتمل على ستة أبواب ومقدمة خاتمة (1) ، والمقدمة ذكر فيها ما يدل على الثناء على أهل السنة والجماعة المتبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:

قوله: (اعلم) يعني علم يقين.

وقوله: (هديت) جملة معترضة دعائية، يعني وفقت للخير وعلمت الخير.

وقوله: (أنه جاء الخبر) يعني الحديث، والخبر في اللغة: كل قول يحتمل الصدق والكذب لذاته، يعني بقطع النظر عن قائله، لان في القول ما لا يحتمل الكذب باعتبار قائله، وفي القول ما لا يحتمل الصدق باعتبار قائله، ونحن لا نتكلم باعتبار القائل بل باعتبار القول. فكل خبر يتضمن الصدق والكذب لذاته لا للمخبر به فإنه يسمى خبرا.

فقول الله تعالى وقول الرسول عليه الصلاة والسلام لا يحتمل الكذب باعتبار المخبر به.

(1) انظر ص: 74.

ص: 87

أما قول مدعي النبوة بعد النبي صلى الله عليه وسلم فلا يحتمل الصدق لكن باعتبار المخبر به. فلو قال المخبر: إني رسول الله، فكلمة: إني رسول الله، هذه خبر، لأنه يحتمل الصدق والكذب لذاته، لكن لو قاله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان صدقا، ولو قاله مسيلمة الكذاب كان كذباً.

أما في الاصطلاح: فالخبر ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من قول أو فعل أو تقرير.

وقوله: (عن النبي المقتفى) النبي يقال: النبي بدون همزة، ويقال النبئ بهمزة، فعلى الهمز تكون مشتقة من النبأ وهو الخبر لان النبي صلى الله عليه وسلم مخبر مخبر، مخبر من قبل الله ومخبر للخلق بما يتلقاه عن الله عز وجل.

ويقال: النبي بالياء، فقيل: إن أصله النبيء لكن سهلت الهمزة ياء وأدغمت الياء في الياء، وقيل: بل أصله النبيو بالواو من النبوة وهي الارتفاع، فسمي نبيا لارتفاع مرتبته، ونحن نقول: إن اللفظ صالح للوجهين، أي: صالح لان يكون أصله النبيء ولكن سهل، ولأن يكون أصله من النبوة وهو الارتفاع؛ لان النبي رفيع المقام وهو مخبر ومخبر.

وقوله: (المقتفى) يعني الذي يجب اقتفاءه، ومعنى الاقتفاء: أن تكون خلفه نقفو أثره، فالنبي صلى الله عليه وسلم مقتفى أي واجب الاقتفاء، يعني يجب على أمته أن تقتفي به، أي أن تقفوا أثره وأن تتبعه.

وقوله: (خير البشر) البشر هم بنو آدم، وسموا بشرا لان ابشارهم ظاهرة بادية، والمخلوقات الأخرى ابشارها مستورة، وهذا من رحمة الله

ص: 88

عز وجل، لأن الحيوانات الأخرى لابد أن يسترها شيء يقيها من الحر والبرد، أما بنو آدم فجعل الله تعالى الستر لهم، فهم الذين يسترون أنفسهم بالثياب التي رزقهم الله عز وجل، وهذه حكمة عظيمة من اجل أن يعرف الإنسان أنه بحاجة إلى ستر عورته المعنوية، كما أنه بحاجة إلى ستر عورته الحسية، فيحاول ستر عورته المعنوية كما يستر عورته الحسية.

إذا النبي عليه الصلاة والسلام خير البشر، فكل البشر، حتى الأنبياء والرسل، فإنه صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل، وهذه الخيرية تشمل كل الخيرات؛ خير البشر في النسب، وخير البشر في الخلق، وخير البشر في العلم، وخير البشر في الهداية، وخير البشر في العبادة، فهي خيرية مطلقة من جميع الوجوه.

ومع هذا فإنه ليس له حق في خصائص الربوبية، فليس يعلم الغيب، وليس يملك لنفسه الضر والنفع، ولا يملك لغيره كذلك، والناس بالنسبة لرسول الله في هذا الباب بين طرفين ووسط؛ بين طرف غال مفرط في المدح والثناء حتى جعلوه بمنزلة الرب، وبين طرف آخر يتنقص النبي صلى الله عليه وسلم ويجعله لا فرق بينه وبين البشر في الأمور التي يختص بها، وقسم ثالث عرف للنبي صلى الله عليه وسلم حقه فأنزله منزلته، وقال: هو عبد الله ورسوله وليس له حق فيما يختص بالرب عز وجل، وهو أعلى من البشر فيما خصه الله به وهذا هو مذهب أهل الحق.

وقوله: (بان ذي الأمة سوف تفترق) ذي هنا اسم إشارة، وليست بمعنى

ص: 89

صاحب والأمة هنا منصوبة، يعني بان هذه الأمة سوف تفترق.

وقوله: (الأمة) المراد بالأمة هنا أمة الإجابة؛ لان أمة الدعوة تشمل اليهود والنصارى والمشركين، لكن المراد بذلك أمة الإجابة الذين ينتسبون إلى رسالة النبي صلى الله عليه وسلم.

والأمة في اللغة تأتي لعدة معان؛ فتأتي بمعنى الزمن، وبمعنى الملة وبمعنى الإمامة، وبمعنى الطريقة، وبمعنى الطائفة، فهذه خمسة معان:

1-

فتأتي بمعنى الزمن، مثل قوله تعالى:(وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ)(يوسف: الآية 45) أي بعد زمن

2-

وتأتي بمعنى الملة مثل قوله تعالى: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)(المؤمنون: الآية 52)

3-

وتأتي بمعنى الإمامة كقوله تعالى: (إن إبراهيم كان أمة)(النحل: 120) أي إماما.

4-

وتأتي بمعنى الطريقة مثل قوله تعالى: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ)(الزخرف: الآية 23) .

5-

وتأتي بمعنى الطائفة كما في كلام المؤلف.

فقوله: (بان ذي الأمة) يعني الطائفة، وهي أمة الإجابة (سوف تفترق بضعا وسبعين اعتقادا) البضع ما بين الثلاثة إلى التسعة، والمراد به هنا الثلاثة، كما جاء في الحديث: ((افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت

ص: 90

النصارى على ثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة)) (1) فهذه بضع وسبعون، وإنما افترقت على ثلاث وسبعين، لان الرسول صلى الله عليه وسلم قال عن هذه الأمة:((لتتبعن سنن من كان قبلكم، قالوا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!)) (2) .

والمتبع لسنة من كان قبله مخالف لشريعته، فإذا كان اليهود إحدى وسبعين، والنصارى ثنتين وسبعين، وارتكب أحد من هذه الأمة طريقة النصارى، صار الضلال في اثنتين وسبعين فرقة واحدة هي التي خرجت عن مشابهة اليهود والنصارى، وصارت على ملة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولهذا قال المؤلف رحمه الله تعالى:

.......................... .............................. والمحق

ما كان في نهج النبي المصطفى وصحبه من غير زيغ وجفا

ولذلك ذكر المؤلف في أول المقدمة أنه جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بان هذه الأمة ستفترق، على ثلاث وسبعين فرقة، وهذه الفرق كلها في النار ألا واحدة، قالوا: ومن هي يا رسول الله؟ قال: ((ما أنا عليه وأصحابي)) .

وقوله صلى الله عليه وسلم: ((كلها في النار)) ليس معنى هذا إنها من أصحاب النار لكن ما خرجت به عن السنة فهو من عمل أهل النار؛ لان أهل النار مخالفون

(1) رواه الترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء في افتراق هذه الأمة

، رقم 2640، وابن ماجه، كتاب الفتن، باب افتراق الأمم، رقم (3991) .

(2)

رواه البخاري، كتاب الاعتصام، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لتتبعن سنن من كان قبلكم، رقم (7320) ، ومسلم، كتاب العلم، باب أتباع سنن اليهود والنصارى، رقم (2669) .

ص: 91

لأهل الجنة، وكل من خرج عن عمل أهل الجنة فقد دخل في عمل أهل النار، ولا يلزم أن يكون من أصحاب النار، وفرق بين قوله:(في النار) وقوله: (من أصحاب النار) لان أصحاب النار هم أصحابها الذين هم أهلها وأما (في النار) فقد يكون المراد أنه يعذب بحسب ما خرج به عن أهل الحق، ولكن لا يخلد فيها.

والغريب أن هذه الفرق كلها تدعي إنها على الحق، فالذي على الحق منها أمره واضح، والذي على غير الحق ويدعي أنه على الحق، نقول: هذا لا تخلو حاله من أحد أمرين: إما شبهة عرضت له فظن أن ما هو عليه هو الحق، وإما شهوة عرضت له، أراد بذلك الرئاسة والجاه، فبقي على الضلال مدعيا أنه على الحق.

فالعوام المتبعون لأئمة البدع الذي حملهم على الخروج عن الحق شبهة لان العامي لا يدري، فظن أن هذا هو الحق، وأئمة البدع الضالون هؤلاء عرض لهم شهوة؛ لان الغالب عليهم أنهم يعرفون الحق، لكن أصروا على ما هم عليه من أجل البقاء على رئاستهم وعلى قيادتهم والعياذ بالله؛ مثل ما صنع أئمة الكفر في الجاهلية كأبي جهل وغيره، حين بقوا على الضلال مع علمهم بالحق، وكما فعل فرعون، حيث كان يعلم أنه على باطل، وأن الحق فيما جاء به موسى، ومع ذلك بقي على باطله.

إذا نقول: إن هذه الفرق الثلاث والسبعين كل واحدة منها تعتقد إنها على صواب وعلى الحق، فالذين أصابوا ما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه

ص: 92

هؤلاء على الحق ولا شك، والذين خالفوه عرضت لهم إما شبهة وإما شهوة.

قوله: (والمحق) يعني الذي على الحق (ما كان في نهج النبي المصطفى) في للظرفية، يعني ما كان في الدائرة التي كان فيها الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقوله: (المصطفى يعني المختار، الذي اختاره الله عز وجل واصطفاه من خلقه حتى جعله رسولا للعالمين إلى يوم القيامة.

وقوله: (وصحبه) يعني الصحابة رضي الله عنهم، (من غير زيغ وجفا) من غير زيغ: أي من غير ميل عن الحق بالغلو، ومن غير جفا: أي تقصير، والحقيقة أن التقصير زيغ، لكن لما ذكر المؤلف رحمه الله الزيغ ثم ذكر الجفا، وجب أن نحمل الزيغ على الغلو والجفا على التقصير، يعني: فالذين على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم من غير غلو ولا تقصير هؤلاء هم المحقون.

فإذا قال قائل: بأي شيء ندرك أن هذا منهج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟

فالجواب: بالرجوع إلى كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والآثار الواردة عن الصحابة رضي الله عنهم.

وفهم من كلام المؤلف رحمه الله أن قول الصحابة رضي الله عنهم حجة، لقوله:(في نهج النبي المصطفى وصحبه) وهذا أحد احتمالين:

الأول: أن يكون مراده بذلك أن قول الصحابي حجة.

الثاني: أن يكون مراده أن نهج الصحابة الرجوع إلى الكتاب والسنة، فمن كان على نهجهم ورجع إلى الكتاب والسنة فهو على صواب، ولا

ص: 93

يلزم على هذا الاحتمال أن يكون قول الصحابي حجة؛ لأنه - أي الصحابي - قد يرجع إلى الكتاب والسنة ويكون لديه خطأ في الفهم، أو خطأ في الدليل، لخفاء الدليل عليه أو لخفاء الدلالة.

وعلى كل حال كلام المؤلف يحتمل وجهين:

الوجه الأول: أن يكون قول الصحابي مرجعا يرجع إليه.

والوجه الثاني: أن تكون طريقة الصحابي في استخراج الأحكام والعقائد مرجعا يرجع إليه.

والوجه الأخير اسلم للمرء، يعني إذا قال: أنا لا أريد ألا أن اتبع الكتاب والسنة لان هذا هو نهج الصحابة رضي الله عنهم، فهو خير من أن يقول: اتبع الكتاب والسنة وما جاء عن الصحابة، ولكن اعلم أن ما اجمع عليه الصحابة فهو حق؛ لان الإجماع دليل مستقل بنفسه، وكلامنا في الاحتمالين - اللذين ذكرناهما - إنما هو في قول الواحد من الصحابة، وأما إذا اجمعوا فلا شك أن إجماعهم حجة وانه دليل مستقل.

ص: 94

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

22-

وليس هذا النص جزما يعتبر

في فرقة ألا على أهل الأثر

23-

فأثبتوا النصوص بالتنزيه

من غير تعطيل ولا تشبيه

ــ

الشرح

قوله: (وليس هذا النص جزما)، جزما: عائد على النفي، وليس متعلقا بقوله (يعتبر)، يعني: بحيث أنه يعتبر ظنا، والمعنى أن هذا النص جزماً لا يعتبر في فرقة ألا على أهل الأثر. والنص، قوله صلى الله عليه وسلم:((كلها في النار ألا واحدة)) فهذه الواحدة نجزم جزما بأنها هي فرقة أهل الأثر، والأثر يعني الكتاب والسنة، لان الدليل أما اثر وإما نظر، فإن كان الدليل عقليا فهو نظر، وإن كان الدليل شرعيا فهو أثر.

وأهل الأثر هم الذين اتبعوا الآثار، فاتبعوا الكتاب والسنة وأقوال الصحابة رضي الله عنهم، وهذا لا يتأتى في أي فرقة من الفرق ألا على السلفية وأهل السلف، أي: الذين التزموا طريق السلف.

وقوله: (فأثبتوا النصوص بالتنزيه) : (أثبتوا) : الضمير هنا يعود على أهل الأثر، أثبتوها لفظا، وأثبتوها عقيدة، وأثبتوها عملا بمقتضاها، فالإثبات يتناول ثلاثة أشياء: إثباتها لفظا، وإثباتها عقيدة، وإثباتها عملا بمقتضاها، ثم إثباتها اللفظي يتفرع عليه الإثبات المعنوي فيحسن أن نقول إثباتها لفظها ومعنى، وإثباتها اعتقادا، وإثباتها عملا بمقتضاها.

مثال ذلك: من أسماء الله تعالى: السميع

ص: 95

أثبتوا هذا الاسم لفظا، وأثبتوه معنى أي أنه دال على السمع، واعتقدوا لله السمع، واعتقدوا أن الله تعالى متصف بالسمع، وعملوا بمقتضى ذلك، وهو أنهم إذا اعتقدوا أن الله يسمع نزهوا ألسنتهم عن قول ما لا يرضاه الله عز وجل، كما انك - ولله المثل الأعلى - لو كنت تعلم أن عندك رجلا ينقل كلامك إلى الملك فلن تتكلم بما لا يرضاه الملك، كذلك إذا علمت أن الله يسمع كل قول تقوله فانك إذا كنت مؤمنا بذلك فلن تتكلم بما لا يرضاه الله عز وجل.

ومن أسماء الله تعالى البصير: أثبتوا هذا الاسم لفظا، وأثبتوه معنى أي: أنه دال على البصر، وباعتقاد ذلك وليس مجرد العلم، فليس مجرد العلم كافيا، بل لابد من عقيدة، والرابع: العمل بمقتضاه، ومقتضاه: الإيمان بان الله يرى، لا افعل شيئا لا يرضاه الله، ولا أتحرك بأي حركة لا يرضاها الله عز وجل، لأني أؤمن أن من أسماء الله عز وجل البصير، وأن البصير متضمن البصر، واعتقد ذلك بقلبي، إذا جوارحي لابد أن تعمل بمقتضى ذلك الاعتقاد.

وسبق أن العلم لا يستلزم العقيدة، فأبو طالب كان يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول من عند الله، لكن لم ينفعه؛ لأنه ما اعتقد ولا انقاد.

فقول المؤلف رحمه الله: (أثبتوا النصوص) ، نقول أثبتوها لفظا ومعنى واعتقادا وعملا بمقتضاها.

وقوله: (النصوص) جمع نص، والمراد به: الكتاب والسنة، وقوله:(بالتنزيه) ، الباء للمصاحبة؛ يعني أثبتوها إثباتا مصاحبا للتنزيه، والمراد

ص: 96

بالتنزيه: تنزيه الله عز وجل عن كل نقص.

فمثلا يثبتون أن الله قدير، وأن هذا الاسم متضمن لمعناه وهي القدرة، ويعتقدون أن الله تعالى قادر بقدرة لا يلحقها نقص ولا يلحقه بها عجز، ويعملون بمقتضى ذلك، والعمل بمقتضى ذلك بان يعلموا أنه لو شاء الله عز وجل لأخذهم أخذ عزيز مقتدر إذا خالفوا أمره، فالإنسان له قدرة، لك هذه القدرة فيها نقص؛ لان الإنسان لا يقدر على كل شيء، أما قدرة الله فليس فيها نقص، فإن الله على كل شيء قدير.

وهكذا جميع النصوص يثبتونها مع عدم النقص في إثباتها؛ سمع لا يعتريه صمم، وبصر لا يعتريه عمى، وكلام لا يعتريه خرس ولا عي؛ فكل النقص ينزهون الله سبحانه وتعالى عنه.

قال: (من غير تعطيل) يعني أنهم ينزهون الله تعالى تنزيها خاليا عن التعطيل.

والتعطيل: هو تخلية الله سبحانه وتعالى عما يجب له من الأسماء والصفات؛ لان أصل التعطيل التخلية، والشاهد على أن التعطيل بمعنى التخلية قوله تعالى:(وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ)(الحج: الآية 45) أي مخلاة متروكة، فالتعطيل معناه تخلية الله عما يجب له من الأسماء والصفات.

ويجوز أن نقول إن التعطيل يعود على النصوص، فيكون المعنى: تعطيل النصوص عما دلت عليه، وحينئذ فيكون للتعطيل وجهان: إما تعطيل الخالق أو النصوص، فإن كان الخالق؛ فمعنى تعطي الخالق: أن الله تعالى لا يوصف بما وصف به نفسه، وإن كان من النصوص فتعطيلها أن لا يعمل

ص: 97

بها، ويكون تعطيلها بإنكار دلالتها على الشيء، فلا يعمل بها، فيكون مثلا سميعا بلا سمع، كمن يقول في قوله تعالى:(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ)(إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)(القيامة: 23) أي منتظرة لثواب ربها، فيعطل النص عما أريد به.

وفي قوله تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً)(الفجر: 22)، أي: وجاء أمر ربك فهو بهذا قد عطل النص وعطل الله. عطل الله عن مجيئه الحقيقي وعطل النص بان حرفه فعطل معناه المراد به لان المراد بالنص (وجاء ربك)، أي: جاء الله عز وجل نفسه. فإذا قال: جاء أمر ربك فقد عطل النص عن معناه المراد به.

والذين يحرفون النصوص قالوا على الله بلا علم، في الإثبات وفي النفي، فقالوا: إن الله أراد كذا، وهو لم يرد، وقالوا: لم يرده، وهو قد أراده.

ولو قال قائل: كيف تجزمون بأنه أراده؟ أليس يحتمل أن يكون مراده ما حرفوه إليه؟

فالجواب: أن الله سبحانه وتعالى يخاطبنا بما تقتضيه عقولنا، وكلام الله سبحانه وتعالى موجه إلينا، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يترك شيئا ألا وبينه، فلو كان المراد غير ظاهره لبينه النبي صلى الله عليه وسلم، إذا نحن نجزم أن ظاهره مراد، لأنه لم يرد خلافه عن النبي عليه الصلاة والسلام، ولو كان المراد خلفه لبينه الرسول عليه الصلاة والسلام، ولهذا يصح أن نقول: اجمع الصحابة رضي الله عنهم على أن الله يجيء بنفسه.

فإذا قال قائل: هاتوا لنا حرفا واحدا عن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو

ص: 98

علي أو ابن مسعود أو ابن عباس أو غيرهم أن الله يجيء بنفسه؟ فنقول: لو كان المراد خلاف ذلك لنقل عنهم، فلما كانوا يقرؤون هذا صباحا ومساء ولم يرد عنهم ما يخالفه دل على أنهم يقولون به.

فلا حاجة إلى أن نأتي عن الصحابة في كل صفة من الصفات بقول من أقوالهم، فهذا ليس بلازم؛ لان الصحابة يقرؤون القرآن ويعرفون معناه، ولم يأت عن أحد منهم أنه قال بخلافه، فكان سكوتهم عن قول خلافه، أو كان عدم النقل عنهم عن قول خلافه، دليلا على أنهم قالوا به، ولهذا يصح أن تقول اجمع الصحابة على أن الله استوى على عرشه حقيقة وانه ينزل إلى السماء الدنيا حقيقة وهكذا، وليس المراد استوى على عرشه ولا المراد ينزل أمره.

فإذا قال قائل: أين الإجماع؟

فنقول: إن عدم نقل ما يخالف الظاهر عنهم دليل على أنهم أجروه على ظاهره.

وهذه فائدة تنفعك عند المناظرة لأهل التحريف لان أهل التحريف قد يطالبونك ويقولون: إئت لنا بخبر واحد يدل على أن الصحابة قالوا: إن الله يجيء بنفسه، أو إن الله ينزل بنفسه، أو إن الله استوى على العرش بنفسه، أين الدليل؟ ، فلو أنك رجعت إلى المسانيد والكتب المؤلفة في هذه الأمور بالإسناد قد لا تجد، لكن نقول: إن عدم نقل ما يخالف ظاهر القرآن عنهم يدل على أنهم قالوا بظاهر القرآن، لان القرآن عربي، وهم يتلونه صباحا ومساء، ويعتقدونه بمقتضى دلالة ذلك اللسان العربي، فلو نقل الإنسان

ص: 99

إجماع الصحابة في ذلك لكان نقله للإجماع صحيحا.

فالحاصل أن كلا المعنيين متلازمان يعني أنه إذا عطل الله عما يجب له فقد عطل النصوص عما دلت عليه.

فأهل التعطيل يعطلون النصوص عن مدلولها، ويخلون الله عز وجل عما يتصف به مما تقتضيه هذه النصوص، وأهل السنة يتبرؤون من ذلك.

وإنما قال المؤلف رحمه الله: (بالتنزيه من غير تعطيل) لان المعطلة الذين أنكروا صفات الله، أو أنكروا بعضها، أو أنكروا الأسماء والصفات، أيضا يقولون: أنهم ينزهون الله، ويدعون أنهم منزهون لله، فيقولون: إن إثبات هذه الصفات يقتضي التشبيه، والله منزه عن المشابهة، فإذا يجب أن ننكر هذه الصفات، والغالون قالوا: يجب أن ننكر حتى الأسماء، لان إثبات الأسماء على زعمهم ينافي تنزيه الله سبحانه وتعالى، حيث أنه يقتضي التشبيه عندهم.

أما أهل السنة فينزهون الله عن النقص، ولا يعطلون النصوص الواردة في إثبات الصفات.

قال: (ولا تشبيه) يعني أنهم لا يشبهون الله بخلقه، ومراد المؤلف رحمه الله بالتشبيه: التمثيل، ولهذا لو عبر به لكان أولى، فلو عبر بدلا عن قوله:(ولا تشبيه) بقوله: ولا تمثيل، لكان أولى من وجوه ثلاثة:

الوجه الأول: أن الذي جاء به القرآن والسنة نفي التمثيل لا نفي التشبيه، فليس في القرآن ولا في السنة نفي التشبيه وإنما الوارد نفي التمثيل، كما قال الله تعالى:(هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً)(مريم: الآية 65) وقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ

ص: 100

وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى: الآية 11)

وقال تعالى: (فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ)(النحل: الآية 74) ومعلوم أن المحافظة على لفظ النص لا سيما في هذه الأمور الدقيقة أولى من الإتيان بلفظ آخر، ولو ادعى من أتى به أنه مرادف للفظ الذي جاء به النص.

الوجه الثاني: أن نفي التشبيه فيه إجمال، لأنه إن أراد نفي التشبيه من كل وجه فهذا غلط، وإن أراد نفي التشبيه في كل الصفات فهذا هو نفي التمثيل، ومع ذلك أنه إن أراد نفي التشبيه من كل وجه؛ أي أنه لا يشابه الخلق في أي شيء، وفي أي وجه من الوجوه فهذا خطأ، وإن أراد نفي التشبيه، يعني نفي أنه مشابه للخلق من كل وجه وفي كل معنى فهذا يكفي عنه التمثيل، لان هذا هو نفي التمثيل، وهو كاف عنه.

أما الأول: وهو إن أراد نفي المشابهة من كل وجه، يعني أنه لا يشبههم بأي وجه من الوجوه فهذا باطل؛ لأنه ما من شيئين موجودين إلا وبينهما تشابه من بعض الوجوه، واشتراك في بعض المعاني، فمثلا الحياة يتصف بها الخالق ويتصف بها المخلوق، فبينهما تشابه من حيث أصل الصفة وهي الحياة، ولولا هذا التشابه المشترك بين صفات الله وصفات المخلوق ما عرفنا معاني صفات الله فلابد أن يكون هناك اشتراك وتشابه من بعض الوجوه.

كذلك لله علم وللمخلوق علم، وبين علم الله وعلم المخلوق تشابه من حيث أصل المعنى فالمخلوق يدرك ما يعلمه والخالق عز وجل كذلك، فهناك اشتراك في أصل المعنى.

كذلك للمخلوق بصر وللخالق بصر، فالبصر للخالق والمخلوق مشتركان في أصل الرؤية، فبينهما تشابه من هذا الوجه لكنهما لا يتماثلان؛

ص: 101

لان المماثلة هي التساوي في كل وجه، والمشابهة: الاشتراك ولو في بعض الوجوه.

الوجه الثالث: أن نفي التشبيه صار عند كثير من الناس يعني نفي الصفات مطلقا، وذلك عند من يقول: إن كل من اثبت لله صفة فهو مشبه، فإذا قلنا: من غير تشبيه، صار معنى هذا الكلام عندهم أي من غير إثبات صفة، فيوهم هذا أن مذهب أهل السنة والجماعة هو مذهب أهل التعطيل؛ لأنهم يرون أن معنى نفي التشبيه هو نفي الصفات، حيث يزعمون أن كل من اثبت لله صفة فهو مشبه، فيصير قولنا من غير تشبيه مساويا لقولنا من غير إثبات صفة، وهذه المسألة تحتاج إلى الانتباه لأهميتها، فإن أكثر ما يقرأ في الكتب في هذا الباب: من غير تشبيه، وهذا التعبير كما علم فيه نقص، والأولى أن يعبر عنه من غير تمثيل للوجوه الثلاثة التي ذكرناها:

الأول: أن نفي التمثيل هو الذي ورد به النص، بخلاف لفظ نفي التشبيه، فإنه لا في القرآن ولا في السنة.

قال تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(الشورى: الآية 11) ولم يقل ليس كشبهه شيء.

الثاني: ((من غير تشبيه) فيه إجمال، فإن أراد من غير مشاركة في أي نوع من المشاركة فهذا خطأ، وإن أراد من غير مشابهة يعني من غير مساواة في كل شيء فهذا صحيح، لكن يغني عنه لفظ نفي التمثيل، وهو أوضح منه.

الثالث: أن نفي التشبيه صار يطلق على نفي الصفات مطلقا عند من يرى

ص: 102

أن إثبات الصفات يستلزم التشبيه.

فالحاصل أن المؤلف رحمه الله تابع في قوله ولا تشبيه عبارة كثير ممن كتبوا أو تكلموا في هذا الباب، والصواب أن نقول من غير تمثيل، ولهذا عبر شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الواسطية بذلك (1)، فقال:((من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل) ، وعند المناظرة على العقيدة عندما جلس له مناظره عند الوالي، فقال له: لماذا لم تقل: ولا تشبيه؟ ، قال:((لان التمثيل هو الذي ورد به القرآن، فعبرت باللفظ الذي جاء به القرآن) ، ولم يذكر الوجهين الآخرين، لكن ذكر احدهما في العقيدة التدمرية (2) -وهو أن نفي التشبيه صار يطلق على نفي الصفات مطلقاً-.

(1) انظر العقيدة الواسطية (ص5) .

(2)

انظر العقيدة التدمرية (ص 104) .

ص: 103

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

24-

فكل ما جاء من الآيات

أو صح في الأخبار عن ثقات

25-

من الأحاديث نمره كما

قد جاء فاسمع من نظامي واعلما

ــ

الشرح

قوله: (فكل ما جاء من الآيات) ، (فكل ما) ليست (كلما) التي هي أداة تكرار، بل (كل) هنا مضافة إلى (ما) الموصولة؛ يعني كل الذي جاء من الآيات.

وهنا قال المؤلف: (فكل ما جاء من الآيات) ولم يقل: وكل ما جاء في الأخبار، وذلك لان القرآن كله صحيح فهو محفوظ، أما السنة ففيها الموضوع وفيها الضعيف، ولهذا قيد فقال:(أو صح في الأخبار) .

هذه قاعدة ذكرها المؤلف رحمه الله، أن كل ما جاء في كتاب الله أو صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأحاديث فإننا نمره كما قد جاء، وهذا هو المروي عن السلف، أنهم يقولون في آيات الصفات وأحاديثها:((أمروها كما جاءت بلا كيف) .

فالواجب علينا أن نمرها كما جاءت وهذا الإمرار ليس إمرارا لفظيا فقط بل هو إمرار لفظي معنوي، أما إمرارها لفا فقط فإنه مذهب باطل، ويسمى مذهب أهل التفويض أو المفوضة، وهو كما قال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:((من شر أقوال أهل البدع والإلحاد)(1) ؛ لأنهم بهذا

(1) - انظر درء تعارض العقل والنقل (1/205) .

ص: 104

المذهب ارتكبوا خطأ عظيما، حيث جعلوا المسلمين يجهلون معاني آيات الصفات وأحاديثها، وهذا خطر عظيم، إذا كنا متعبدين بألفاظ الأحكام الشرعية كالصلاة والوضوء والتيمم والزكاة والحج، فكيف لا نتعبد بآيات الصفات حتى نفهم معناها؟!

فالمهم إننا نمره كما جاء، ومن المعلوم أنه لفظ جاء لمعنى، فالواجب إثبات هذا اللفظ ومعناه المراد به.

فإذا قال قائل: هل المعنى المراد هو الظاهر أو الاحتمال المرجوح؟

فالجواب: أنه هو الظاهر؛ لان صرف اللفظ عن ظاهره إلى احتمال مرجوح يحتاج إلى دليل، وهذا الدليل إذا لم يكن معلوما لنا كان ادعاؤه من أتباع الهوى والتحكم على الله عز وجل.

وعلى هذا فنمر آيات الصفات الفعلية، وآيات الصفات الخبرية، وآيات الصفات الذاتية، - نمرها - على ما هي عليه، فالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والعزة والقوة وما أشبه ذلك من الصفات الذاتية، نمرها كما جاءت، ونقول: إن لله حياة وعلما وقدرة وسمعا وبصرا وقوة وعزة: إلى آخره، ولا يجوز أن نصرفها عن ظاهرها؛ لان صرفها عن ظاهرها خروج بها عما يراد بها.

كذلك الصفات الفعلية نمرها كما جاءت، مثل المجيء والإتيان، والغضب، والسخط، والرضا، والفرح، والعجب، وغير ذلك من الصفات الفعلية، فنقول: المراد بالرضا المعنى الحقيقي، وبالسخط المعنى الحقيقي، وبالفرح المعنى الحقيقي، وبالكراهة المعنى الحقيقي، وهكذا

ص: 105

لأنها ألفاظ جاءت لمعناها، فإذا صرفناها عن معناها الظاهر صار ذلك من باب أتباع الهوى لا الهدى.

والصفات الخبرية: هي التي تدل على مسمى هو أبعاص لنا وأجزاء، مثل: الوجه، واليد، والقدم، والأصابع، والعين، فكل هذه ألفاظ تدل على مسميات هي بالنسبة إلينا أبعاض وأجزاء، أما بالنسبة لله فلا نقول إنها أبعاض وأجزاء؛ لان البعض والجزء ما يمكن انفصال بعضه عن بعض، وهذا بالنسبة لله عز وجل مستحيل، ولهذا لم نر أحداً يقول: إن يد الله بعض منه أو جزء منه، أو إن وجهه جزء منه أو بعض منه، فلا يقال هذا في حق الله عز وجل؛ لان البعض والجزء ما صح انفصاله عن الأصل، وهذا بالنسبة لله أمر مستحيل، إذا نسميها يدا ووجها وعينا وأصبعا وقدما، وما أشبه ذلك، لكننا لا نسميها بعضا أو جزءا.

وعكس طريق السلف في هذا الباب: الذين أجروها على خلاف ظاهرها، أو أجروها على ظاهرها وجعلوها من جنس صفات المخلوقين، أو لم يجروها على ظاهرها ولا على غير ظاهرها، فسكتوا.

فمثلا: الذين أجروها على ظاهرها وجعلوها من جنس صفات المخلوقين فهؤلاء الممثلة، وحقيقة الأمر أنهم لم يجروها على ظاهرها، وإن ادعوا أن هذا هو الظاهر فهم كاذبون.

ولنضرب لذلك مثلا باليد، فإذا قالوا إن ظاهر اليد أن تكون مثل أيدي المخلوقين، قلنا: كذبتم ليس هذا ظاهرها؛ لان هذه اليد أضيفت إلى الله، فلا يمكن أن يكون المضاف إلى الله كالمضاف للمخلوقين، بل المضاف إلى الله يكون لائقا بالله عز وجل، ووصف كل موصوف يناسبه.

ص: 106

أرأيت يد الإنسان، هل تفهم من هذه اليد المضافة إلى الإنسان إنها مثل اليد المضافة إلى الذرة؟! أبدا، ولا يمكن أن يفهم هذا إلا من فيه هوس، فكذلك اليد المضافة إلى الله لا يمكن أن يكون مدلولها كاليد المضافة إلى الإنسان؛ لأنها يد أضيفت إلى موصوف بها، وصفة كل موصوف تليق به وتناسبه بحسبه، فقولكم: إن ظاهر النصوص هو التمثيل، وأننا اسعد بإتباع ظواهر النصوص ممن نفي التمثيل، فنقول إن قولكم هذا ليس بصواب.

والذين نفوا هذا الظاهر، وقالوا: إن المراد باليد القوة أو النعمة، وقالوا: نحن أسعد بتنزيه الله منكم، نقول لهم: كذبتم، لستم أسعد بتنزيه الله منا، بل انتم وصفتم الله تعالى وكلامه بالنقائص، حيث زعمتم أن الكتاب لا يراد به ظاهره، بل يراد به معنى يخالف الظاهر تتصرفون فيه انتم بعقولكم كما تشاءون، ولذلك نجدكم متفرقين في المعنى المراد بهذا اللفظ؛ منكم من يقول: المراد كذا؛ ومنكم من يقول: المراد كذا، وكل إنسان يأتي بما أراد مما يراه عقليات وهي وهميات وليست عقليات.

إذا نقول: إن هؤلاء الذين قالوا: إن المراد بها خلاف الظاهر، هم أيضا لم يتبعوا ما يلزمهم من إجرائها على ظاهرها.

أما ظاهرها فهو المعنى اللائق بالله حقيقة دون المجاز، فالمراد باليد يد حقيقية تأخذ وتتصرف وتقبض وتبسط، وكذلك أيضا المراد بالأصابع أصابع حقيقية يأخذ الله بها ما أراد من خلقه، وكذلك المراد بالعين، وهكذا بقية الصفات.

فنحن نمرها كما جاء لفظا ومعنى، لأنها ألفاظ جاءت لمعان، فمن نفي

ص: 107

اللفظ فإنه لم يمره، ومن نفى المعنى فإنه لم يمره، بل الواجب أن نمرها كما جاءت، ولا نتعرض بقولنا: كيف؟ ولم؟ لان هذا التعرض من سبيل أهل البدع بدليل قول الإمام مالك رحمه الله عندما سئل عن الاستواء كيف استوى؟ قال: الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، ولا أراك إلا رجل سوء، فأمر به فأخرج (1) .

فقال: ((والسؤال عنه بدعة)) ، فلا يجوز أبداً أن نسأل عن صفة من صفات الله فنقول: كيف؟ ، ولا يجوز أيضا أن نقول: إذا صح هذا لزم منه هذا مما يمتنع على الله، يعني مثل الذين يقولون: إذا صح نزوله إلى السماء الدنيا لزم أن تكون السماء الثانية فوقه، فهذا حرام ولا يجوز، ولا يمكن أن يقدر هذا التقدير من عرف الله وقدره قدره، بل نحن موقفنا في هذه الأمور هو التسليم، وعدم التعرض لأي سؤال مثل هذه الأسئلة.

أما لو قال: ما معنى النزول؟ أو ما معنى المجيء؟ أو ما معنى الضحك؟ فهذا لا باس أن يسأل عن المعنى حتى يبين له معنى الاستواء مثلا، لكن كيف استوى؟ كيف ينزل؟ كيف يجيء؟ كيف عينه؟ كيف يده؟ كيف قدمه؟ فهذا لا يجوز.

فالحاصل أن موقف أهل السنة والجماعة من الآيات والأحاديث الواردة في صفات الله عز وجل أن يمروها كما جاءت من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، فهي ألفاظ جاءت لمعنى وهم يمرون اللفظ والمعنى، وقلنا هذا احترازا من مذهب المفوضة الذين يقولون: نمر لفظها، دون أن

(1) انظر شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للاكائي 3/398.

ص: 108

يتعرضوا لمعناها.

فمثلا (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)(طه: 5) : نثبت أن الله عز وجل مستو على العرش بدون كيف، ولا نتعرض لمعناها، بل المعنى معلوم ولكن بدون التكييف، والذين يقرؤون اللفظ ولا يتعرضون للمعنى هم أهل التفويض. أما نحن فنقول:(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) نمره كما جاء وهو لفظ جاء لمعنى، والمعنى هو أنه عز وجل علا على عرشه علوا يليق بجلاله وعظمته، ولا نكيفه ولا نمثله.

وكذلك أثبت الله عز وجل عن نفسه أنه يجيء، فقال:(وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً)(الفجر: 22) نثبتها ونقول: إن الله عز وجل يجيء حقا مجيئا يليق بجلاله سبحانه وتعالى، ولا نقول كيف؟ بل نثبت المعنى.

وأما أهل التفويض فيقولون: نقرأ (وَجَاءَ رَبُّكَ) ولا نتعرض للمعنى.

ص: 109

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

26-

ولا نرد ذاك بالعقول

لقول مفتر به جهول

27-

فعقدنا الإثبات يا خليلي

من غير تعطيل ولا تمثيل

ــ

الشرح

قوله: (ولا نرد ذاك بالعقول)، ولا نرد ذاك: أي ما جاءت به النصوص من الآيات والأحاديث لا نرده بالعقول، وإنما قال ذلك إشارة إلى قول من يقول: إن المرجع في إثبات الصفات أو نفيها هو العقل، فما اقتضى العقل ثبوته أثبتناه وما اقتضى العقل نفيه نفيناه، سواء كان موجودا في القرآن والسنة أم غير موجود، وما لا يقتضي العقل إثباته ولا نفيه فأما أن نتوقف فيه، وإما أن ننفيه، وأكثرهم نفى ذلك.

الأول: ما اقتضى العقل ثبوته فيثبتونه، سواء كان ثابتا في الكتاب والسنة أم لا.

الثاني: ما اقتضى العقل نفيه فينفونه، سواء كان ذلك موجودا في الكتاب والسنة أم لا.

الثالث: ما لا يقتضي العقل إثباته ولا نفيه. فانقسموا فيه إلى قسمين: قسم نفاه وهم الأكثر، وقسم توقف فيه، وقال: لا نثبت ولا ننفي؛ لان العقل لا يقتضي إثباته ولا نفيه، فالذين نفوه وهم الأكثر قالوا: لان العقل لم يدل عليه، وما لم يدل عليه الدليل فالواجب نفيه، والذين توقفوا فيه قالوا: إن العقل لم يدل على نفيه ولم يدل على إثباته، فالواجب التوقف.

ص: 110

لكن كل هذه القاعدة قاعدة مبنية على شفا جرف هار؛ لأنها قاعدة تقتضي تقديم المعقول على المنقول، والعقل يقتضي تقديم المنقول على المعقول.

وهذا من العجب؛ أن يقولوا: نحن نبع العقل، وهم يهدمون العقل بما يدعونه عقلا؛ لان العقل يقتضي أن هذه الأمور الغيبية نقتصر فيها على الخبر المجرد، لان العقل لا يمكن أن يتحكم فيها أو يدركها، فكان مقتضى العقل الصريح أن يرجع فيها إلى النقل فالخبر المحض الذي لا تدركه بعقلك كيف ترجع إلى عقلك فيه؟!

فمثلا: لو رجعت إلى عقلك بالنسبة إلى حال شخص من البشر، فلا يمكن أن تحكم بعقلك على أحواله، ولكن تعتمد في الحكم على أحواله على ما نقله عن نفسه أو ما نقل عنه بخبر الصادق، أما أن تحكم عليه بعقلك فهذا غير صحيح؛ فكل له تصرف يختص به، فأنت ربما في بيتك تقوم وتفطر وتروح لعملك، وربما هو يقوم ولا يفطر بل يروح إلى العمل قبل أن يفطر، وبذلك يختلف عنك، هذا وهو بشر، حاله قريبة من حالك، كيف بالله عز وجل؟! كيف تحكم على الله بعقلك والعقل يقتضي أن تعتمد في ذلك على النقل، لان هذا لا يثبت إلا بالخبر المحض.

ولهذا نقول: انتم يا أصحاب العقول هدمتم العقول؛ لأنكم تقولون: العقل يقتضي أن لا يوصف الله بذلك، وهو قد وصف به نفسه، وهو خبر عن أمر لا يدرك بالعقل فالواجب فيه الاعتماد على النقل، وتقولون هذا ثابت لله، والله لم يثبته لنفسه، وهذا أيضا إثبات للعقل بما ينافي العقل، لان

ص: 111

الذي يقتضيه العقل أن ما لم يبلغك خبره في أمر غائب عنك أن تتوقف فيه، وأما أن تثبته مع نفي الله له، فهذا زيادة في العدوان.

فالحاصل أن قول المؤلف رحمه الله (لا نرد ذاك بالعقول) يشير به إلى رد قول من يقول: إن المرجع في صفات الله إلى العقل، ونقول هلم:

أولا: أن هذه القاعدة باطلة من أساسها لأنها تقتضي تقديم المعقول على المنقول، والعقل يقتضي تقديم المنقول على المعقول.

ثانيا: أن هذه القاعدة تبطل الاعتماد على العقل؛ لان العقل يقتضي أن ما طريقه الخبر المجرد يعتمد فيه على النقل وعلى الخبر ما دامت العقول لا تدركه، فالواجب أن يعتمد على ما اخبر الله به عن نفسه أو أخبرت به عنه رسله.

ثالثا: أن نقول: تحكيم العقل في هذا الباب تحكيم من لا يحيط بالحكم علما؛ وذلك لان ما يصف الله به نفسه لا يمكن للعقل أن يدركه، فإذا كان الله يقول:(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ)(الأنعام: الآية 103) ، والإدراك بالبصر إدراك بمحسوس، فكيف تدركه العقول؟ ! العقول لا تدركه كنه حقيقة صفات الله عز وجل أبداً، قال تعالى:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: الآية 11) .

رابعا أن هذه العقول التي زعمتم إنها مرجع ومحكم في صفات الله عقول متناقضة؛ لان هؤلاء العقلاء - كما يدعون - يتناقضون، فنجد بعضهم يقرر وجوب ذلك عقلا، والآخر يقرر امتناع ذلك عقلا، وفرق واسع شاسع بين الواجب والممتنع، وكل منهم يدعي أنه من ذوي العقول، هذا يقول: هذا ممتنع على الله ولا يجوز وصفه به، وهذا يقول: هذا واجب لله فيجب

ص: 112

وصفه به، فأين العقل؟! وبأي شيء يوزن ما يجب لله تعالى وما يمتنع؟! وبأي عقل يوزن إن قلنا بعقل زيد، قال عمرو: ما لكم تتركون عقلي؟ وإن قلنا بعقل عمرو، قال زيد: ما لكم تتركون عقلي؟ فبأي عقل يوزن؟ فهم متناقضون.

بل إنه كما قال شيخ الإسلام رحمه الله وغيره من أهل العلم إن الواحد من هؤلاء الذين يحكمون العقل يكون متناقضا، فيكتب في بعض مصنفاته أن هذا واجب لله، ويكتب في المصنفات الأخرى أنه ممتنع على الله.

خامسا: أن في الاعتماد على العقل ارتكاب محظورين عظيمين:

الأول: أن نقول على الله ما لا نعلم.

الثاني: أن ننفي عن الله ما أثبته لنفسه.

وهذا محظور عظيم لا يمكن لمؤمن أن يرتكبه بل ولا يمكن لعاقل أن يرتكبه فضلا عن مؤمن.

وهؤلاء ارتكبوا ذلك بحجة أن العقل يمنع هذا على الله، أو بحجة أن العقل يوجب على الله هذا الشيء.

إذا الرجوع إلى العقل باطل من هذه الوجوه الخمسة.

والواجب أن نرجع إلى النقل، فإذا وجب الرجوع إلى النقل فهناك مرحلة أخرى واجبة، وهي أن نأخذ بظاهر هذا النقل ولا نحرفه، فلا نقول المراد به كذا وكذا مما يخالف الظاهر، بل الواجب أن نأخذ بظاهره.

فإذا قال قائل: إذا أخذت بظاهره فقد مثلت الله بخلقه، ولنفرض انك أخذت بظاهر اليد وأن لله يدين، فانك إذا قلت: إن المراد باليدين هما ما

ص: 113

يؤخذ بهما ويقبض فقد مثلت الله بخلقه، وحينئذ وقعت فيما هو كفر؟.

وجوابنا على ذلك أن نقول: من قال إن ظاهر اليدين حقيقة يقتضي المماثلة؟ ؛ بل لنا أن نقول إن ظاهر اليدين المضافتين إلى الله حقيقة يقتضي امتناع المماثلة؛ وذلك لأنها يد أضيفت إلى متصف بها، ومن المعلوم أن ما أضيف إلى الشيء فإنه يكون لائقا به، فاليدان اللتان أضافهما الله إلى نفسه يدان لائقتان بالله عز وجل، لا يمكن أن تماثل أيدي المخلوقين، الست تقول: يد إنسان، وتقول: يد حمار، وتقول: يد جمل، وتقول: يد هر، وتقول: يد أسد، وتقول: يد ذرة؟! فهل أحد من الناس يعتقد التماثل في هذه الأيدي؟! أبداً؛ لأنها أيد مضافة إلى متصف بها، فتكون هذه الأيدي لائقة بالموصوف بها، لكن لو قلت: يد أسد، ويد أسد آخر، صارت مماثلة. إذا علم التباين بين المخلوقات بعضها مع بعض فالتباين بين الخالق والمخلوق من باب أولى.

ومن اعتقد أن ظاهر نصوص الكتاب والسنة التمثيل فقد كفر، لان تمثيل الله بخلقه كفر، ومن زعم أن ظاهر الكتاب والسنة ما يقتضي الكفر فهو كافر؛ لان الكتاب والسنة يقرران الإيمان وينكران الكفر، ولهذا قال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري رحمه الله: من شبه الله بخلقه فقد كفر، ومن جحد ما وصف به نفسه فقد كفر، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيها (1)

فالحاصل أن نقول: إننا إذا أخذنا بظاهر النصوص لم نكن ممثلين بل

(1) انظر مجموع الفتاوى 5/110

ص: 114

نحن أبعد الناس عن التمثيل، والممثل حقيقة هو الذي صرف النصوص عن ظاهرها، فهذا الذي جعل النصوص دالة على التمثيل هو الذي صرفها عن ظاهرها؛ لأنه لم يصرفها عن ظاهرها إلا حيث اعتقد أن ظاهرها يقتضي التمثيل، فلما اعتقد هذه العقيدة الباطلة ذهب يصرفها عن ظاهرها، ولهذا نقول: كل معطل فهو ممثل؛ لأنه لم يعطل إلا حيث اعتقد أن ظاهرها التمثيل فذهب يصرفها عن ظاهرها ويعطل مدلولها عما أراده الله.

أما القائلون بتحكيم العقل فهم الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والماتريدية، وكل أهل التأويل يقولون بتحكيم العقل في هذا الباب، وسيأتي إن شاء الله في كلام المؤلف رحمه الله أن الأشاعرة لا يثبتون من الصفات إلا سبعا؛ ادعوا أن العقل يقتضيها، وأنكروا بقية الصفات بحجة أن العقل لا يقتضيها، ولكننا نقول بان العقل يؤيد ما جاءت به النصوص من هذه الصفات الكمالية، التي اتصف الله سبحانه وتعالى بها.

قال: (ولا نرد ذاك بالعقول) أما الذين رجعوا إلى العقول فقد ردوها؛ لأنهم أنكروا دلالتها على المراد بها. فمثلا قالوا في قوله تعالى: (وَجَاءَ رَبُّكَ) أي وجاء أمر ربك، فردوها، إذ قالوا: نحن لم نردها ولم نكذب بمجيء الله، ولكن المراد بمجيئه مجيء أمره، وما هذا في الحقيقة إلا رد؛ إذ ما معنى الرد إذا لم يكن هذا ردا؟ فربنا عز وجل يقول:(وَجَاءَ رَبُّكَ) وانتم تقولون: لم يجئ ربك، بل الذي جاء أمره - سبحان الله! - هل الله يبين لعباده خشية أن يضلوا، أو يعمي على عباده ليضلوا؟!

الجواب: الأول بلا شك قال تعالى: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)(النساء: الآية 176)، فلو كان الله يريد بقول:(وَجَاءَ رَبُّكَ) : وجاء أمر ربك لكان هذا ابلغ ما يكون في التعمية، ولكان هذا من عدم البيان، بل من التلبيس على

ص: 115

العباد، وإذا كان الله سبحانه وتعالى أوجب على عباده أن يعرفوه بصفاته فكيف يقول:(وَجَاءَ رَبُّكَ) وهو يريد وجاء أمر ربك؟!

فإذا قال قائل: إن الله يقول: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)(النحل: الآية 1) فيجب أن نحمل (وَجَاءَ رَبُّكَ) على هذه الآية؟

فالجواب: أن هذه الآية التي استدللتم بها حجة عليكم وليست حجة لكم، لان اختلاف التعبير في الموضعين يدل على أن احدهما غير الآخر، فلو كان الله يريد بقوله:(وَجَاءَ رَبُّكَ) : وجاء أمر ربك، لقالها، كما قاله في الآية الثانية (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) .

ثم إن الله قال: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً)(الفجر: 22) ، ومعلوم أن الذي جاءهم الملائكة أنفسهم وليس أمرهم، ففي الآية أيضا قرينة لفظية تدل على امتناع تفسيرها بمجيء أمره.

ولا تعجب أن يكون كل دليل استدل به المبطل دليلا عليه؛ لان استدلاله به يدل على أنه فيه إشارة إلى هذا المعنى لكنه إشارة على غير ما أراده. وقد التزم شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه: درء تعارض العقل والنقل بألا يأتي مبطل بحجة يحتج بها على باطله إلا جعلها دليلا عليه لا له (1)

إذاً: نقول للذين يحكمون العقل: إنكم انتم الذين خرجتم بآيات الصفات وأحاديثها عن ظاهرها، أما نحن فإننا أخذنا بظاهرها لان الله تعالى إنما انزل الكتاب تبيانا لكل شيء، وأراد من عباده أن يهتدوا بهذا القرآن لا أن يضلوا فيه، وإذا كنتم انتم تعملون بظاهر النصوص في العبادات

(1) انظر درء تعارض العقل والنقل.

ص: 116

والمعاملات وهي أيضا - اعني العبادات والمعاملات - فيها ما يرجع فيه إلى العقل كالمسائل القياسية، فكيف لا ترجعون فيها إلى مجرد النقل وتمنعون القياس كما منعه أهل الظاهر؟! مع أن هؤلاء الذين يرجعون إلى العقل في باب الصفات فيها ولا يأخذون بظاهر النصوص في باب الصفات، وهذا من التناقض في الاستدلال.

فالحاصل أنه لا يجوز الاعتماد في باب الصفات على العقل لعلل منها:

الأولى: تناقض العقلاء فيما بينهم فيما يثبت وما ينفى.

والثانية أن نقول: لو حكمنا العقل في هذا لكان مقتضى ذلك أن نرجع إلى المنقول؛ لان صفات الله عز وجل من باب الخبر المحض التي يعتمد فيها على النقل المحض.

والثالثة: أن العقول لا يمكنها إدراك ما يجب لله ويمتنع ويجوز على سبيل التفصيل.

أما على سبيل الإجمال فيمكن إدراكه وذلك بان الله موصوف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص، لكن على سبيل التفصيل لا يمكن.

والرابعة: أنه يمتنع عقلا أن تتحدث عن شخص تجهل حقيقة صفاته فكيف تتحدث عن الخالق الذي لا مثيل له؟

والخامسة: أن الذين رجعوا إلى العقول في هذا ارتكبوا محذورين: أنهم يقولون على الله ما لا يعلمون، وينفون عن الله ما قاله عن نفسه، وهؤلاء ارتكبوا محظورا عظيما بحجة أن العقل يمنع هذا على الله، أو بحجة أن

ص: 117

العقل يوجب على الله هذا الشيء، ولهذا قال المؤلف رحمه الله:(ولا نرد ذاك بالعقول) .

وقوله: (لقول مفترٍ) اللام هنا للتعليل أي من اجل قول مفتر، والمفتري هو الكاذب.

وقوله: (مفتر به جهول) : أي كاذب به جهول، ويجوز أن نجعل (به) متعلقا بجهول، أي جهول به، وإنما قال المؤلف: مفتر، وجهول لان من خالف النص وقال إن المراد به كذا، فهو إما كاذب وإما جاهل؛ إما كاذب إن تعمد مخالفة النص وهو يعلم أن النص يدل على كذا ولكن قال نرجع إلى كذا؛ وإما جهول إن كان لا يدري أنه خالف النص، فالذين خالفوا النصوص في هذا الباب لا يخرجون عن أحد هذين الوصفين؛ إما الكذب إن علموا أن النص يدل على خلاف قولهم ولكن ارتكبوا خلافه عن عمد؛ وإما الجهل إن ارتكبوا خلاف النص عن غير عمد.

ثم قال رحمه الله: (فعقدنا الإثبات يا خليلي) عقدنا - يعني - اعتقادنا الإثبات من غير تعطيل ولا تمثيل.

وقوله: (فقعدنا الإثبات) : أي ما أثبته الله لنفسه، ولا شك أن في العبارة قصورا؛ لان عقدنا: الإثبات فيما أثبته الله لنفسه، والنفي فيما نفاه الله عن نفسه، والتوقف فيما لم يرد إثباته ولا نفيه ما لم يتضمن نقصا، فإن تضمن نقصا محضا فهو مما ينفى عن الله عز وجل، فصار اعتقادنا على النحو التالي:

الأول: إثبات ما أثبته الله لنفسه، كالحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والوجه، والعين ، واليد، والقدم، والأصبع، وغير ذلك: فهذا

ص: 118

نثبته لان الله أثبته لنفسه.

والثاني: نفي ما نفاه الله عن نفسه، كالظلم، والجهل، والغفلة، والنسيان والعور، وغير ذلك، فننفي ما نفاه الله عن نفسه.

والثالث: التوقف فيما لم يرد إثباته ولا نفيه ما لم يتضمن نقصا محضا، فإن تضمن نقصا محضا فإننا ننفيه عن الله وإن لم يرد نفيه، وأما فيما لم يرد إثباته ولا نفيه فمثاله الجسم، فلو قال لنا قائل: هل تقولون إن الله جسم؟

فالجواب: لا نقول إنه جسم، وتأمل العبارة: لا نقول إنه جسم، وهذه العبارة غير أن نقول: أنه ليس بجسم: والصحيح قول: لا نقول إنه جسم. ونحن إذا قلنا: أنه ليس بجسم نفينا أنه جسم، أما إذا قلنا: لا نقول أنه جسم فقد نفينا القول بأنه جسم.

وفرق بين النفيين؛ لان الأول وهو قول: أنه ليس بجسم حكم بانتفاء الجسمية عن الله، وهذا ليس عندنا علم فيه، والثاني وهو قول: لا نقول أنه جسم نفي للقول بذلك، ونحن ننفي أن نقول بذلك لأننا لا نعلم.

إذا الجسم: لا نثبته ولا ننفيه؛ لان الله لم ينفه عن نفسه ولم يثبته، فإذا لم ينفه عن نفسه ولم يثبته فليس لنا دخل في هذا، فنقف حيث وقف النص، ولكن نسأل عن المعنى المراد بالجسم؛ فإن أردت بالجسم الشيء القائم بنفسه المتصف بما يستحقه من الصفات، فهذا المعنى صحيح، فإن الله تعالى شيء قائم بنفسه متصف بما يليق به من الصفات: يستوي، ويأتي، وينزل، ويضحك، ويفرح، ويغضب، ويرضى، ونحن نؤمن بذلك، وإن أردت بالجسم الشيء المركب من أجزاء يفتقر بعضها إلى بعض، ويجوز انفصال بعضها عن بعض كما في الأجسام المخلوقة فهذا باطل.

ص: 119

كذلك أيضا الجهة، هل الله في جهة؟ نقول: أما اللفظ فإننا نتوقف فيه، وما لنا وله! وأما المعنى فنستفصل: ماذا تريد بالجهة؟ إن أردت أن الله تعالى في جهة تحيط به إحاطة الظرف بالمظروف فهذا ممتنع وباطل، وإن أردت بذلك جهة سفل ومخالطة للمخلوقات فهذا أيضا باطل وممتنع على الله، فليس الله في جهة السفل وليس في جهة تحيط به إحاطة الظرف بالمظروف، وإن أردت أنه في جهة عليا عدمية لا تحيط به، ما ثم إلا هو عز وجل فهذا حق، والنبي عليه الصلاة والسلام اعلم الخلق بالله قال للجارية:((أين الله) ؟ قالت: في السماء (1) . فاستفهم باين التي يستفهم بها عن المكان، والمرأة أجابت بفي الدالة على الظرفية، أي: الظرفية العدمية، يعني: لا شيء محيط بالله، فما ثم فوق المخلوقات إلا الله عز وجل.

وفي خطبة يوم عرفة التي لم يشهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا المسلمون اجتماعا أعظم منها ولا اكبر منها في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، قال وهو يخطب الناس:((ألا هل بلغت) ؟ قالوا: نعم، فقال:((اللهم اشهد) يشير بالسبابة إلى السماء وينكث بها إلى الناس. ((ألا هل بلغت) قالوا، نعم. ففعلها مرة أخرى:((ألا هل بلغت) ؟ (2) قالوا: نعم ففعلها ثلاث مرات. وهذه الإشارة تعني أن الله في جهة وهي جهة العلو.

فالحاصل انك إذا أردت بالجهة جهة علو عدمية، أي ليس فوق إلا الله وحده فهذا صحيح، ومع ذلك ونظرا لكون البسطاء من الناس يفهمون من

(1) رواه مسلم، كتاب المساجد، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، رقم (537) .

(2)

رواه مسلم، كتاب الحج، باب حجة النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (1218) .

ص: 120

الجهة أنه في كل مكان مثلا، فنقول: لا تطلق أن الله في جهة أو في غير جهة، بل لابد من التقييد على حسب التفصيل الذي ذكرنا.

وكذلك الحيز، فاللفظ نتوقف فيه، والمعنى نستفصل، فإن أريد أن الله في حيز يحيط به ويحوزه فهذا باطل وممتنع؛ لان الله عز وجل لا يحيط به شيء من مخلوقاته، وإن أريد أنه منحاز عن المخلوقات بائن منها غير مختلط فيها ولا هي حالة فيه فهذا حق.

إذا قول المؤلف رحمه الله: (فعقدنا الإثبات) فيه قصور؛ لان الواقع أن عقدنا إثبات ونفي وتوقف، ولكن في باب النفي؛ هل الله تعالى متصف بصفات هي نفي محض؟ الجواب: لا، بل صفات الله سبحانه وتعالى المنفية متضمنة لثبوت كمال، ويجب أن نؤمن بأنها متضمنة لثبوت كمال، لأنها يراد بها بيان كمال الصفة المضادة فلا يظلم الله الناس شيئا (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) (يونس: الآية 44) وذلك لكمال عدله، فهذا النفي إنما هو من أجل كمال الضد، فقد يكون في الإنسان عدل لكن يكون فيه أيضا ظلم، فيقال: فلان عدل، لكن ظلم في القضية الفلانية، فلا ينتفي عنه الظلم، لكن الله عز وجل ينتفي عنه الظلم، لان العدل لديه كامل لا يمكن أن يرد في حقه الظلم؛ لا في قليل ولا في كثير، فانتفى الظلم عنه لكمال العدل في حقه عز وجل.

ولو قلت: أنا أقول: لا يظلم ولا أقول لكمال العدل، قلنا: هذا ليس بصحيح لان صفات الله عز وجل كلها عليا، وظلم لا يتضمن كمال العدل ليس من الصفات العليا؛ لان نفي الظلم إذا لم يكن لكمال العدل فقد يكون نقصا، وقد يكون لعدم القابلية، فلا يمدح بنقص ولا كمال، فإذا قلت فلان

ص: 121

رجل طيب لا يظلم، الناس يضربونه فيقول: اللهم اعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك وأعني على الصبر، يأخذون ماله فيقول: الله اغنني؛ لأنه غير قادر، فهو ضعيف جدا، بل يخاف إن تكلم أن يضرب زيادة، فهل هذا يعتبر مدحا إذا قلنا: إنه لا يظلم؟ لا، ولهذا قال الشاعر:

قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل

لو سمعت قوله: لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل، قلت: ما شاء الله هؤلاء ناس أهل وفاء، وأهل عدل، لا يغدرون، ولا يظلمون، لكن الواقع أنه يسبهم بأنهم لا يقدرون على الغدر ولا على الظلم، ويقول الشاعر أيضا:

لكن قومي وإن كانوا ذوي حسب ليسوا من الشر في شيء وإن هانا

يحزون من ظلم أهل الظلم مغفرة ومن إساءة أهل السوء إحسانا

فليت لي بهم قوما إذا ركبوا شنوا الإغارة فرسانا وركبانا

فهذا الرجل يذم قومه وليس يمدحهم، ولهذا قال: فليت لي بهم قوما: أي بدلهم.

إذا نفي النقص لعدم القدرة عليه يعتبر نقصا، وقد يكون نفي النقص لان المحل غير قابل له، لا لكمال المحل، كما لو قلت: جدارنا لا يظلم الناس، وسيارتي لا تظلم أحداً، فهذا لا يعتبر مدحا؛ لأنه لا يقبل الظلم ولا العدل.

قال المؤلف رحمه الله: (من غير تعطيل ولا تمثيل) يعني يجب علينا أن

ص: 122

نثبت بلا تعطيل والتعطيل نوعان: تعطي للنص، وتعطيل للصفة؛ فأما تعطي النص: فتعطيله عن دلالته، وأما تعطيل الصفة فنفيها عن الله عز وجل.

مثلا: اليد تعطيلها باعتبار تعطيل الصفة بان يقول: ليس لله يد حقيقية، وتعطيل النص بان يقول في قوله تعالى:(لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ)(ص: الآية 75) أي بقدرتي أو بنعمتي.

فالتعطيل إذا إما تعطيل للنصوص بمنع دلالاتها على ما أريد بها، وإما تعطيل للصفات بنفيها عن الله سبحانه وتعالى مع ثبوتها له.

فأهل السنة والجماعة يتبرؤون من التعطيلين؛ لأنهم يجرون النصوص على ظاهرها، ولأنهم يثبتون لله ما أثبته الله لنفسه.

ثم اعلم أن التعطيل الذي ينفيه أهل السنة والجماعة ينقسم إلى أقسام:

الأول: تعطيل جزئي: يكون بإثبات الأسماء، وإثبات سبع من الصفات، وإنكار الباقي، وهذا مذهب الأشاعرة، فالأشاعرة يثبتون الأسماء لله عز وجل، ويثبتون سبعا م الصفات، وينكرون الباقي، فإذا جاءت النصوص بدلالة على الباقي حرفوها، فيكون هؤلاء عطلوا النصوص وعطلوا الصفات فيما نفوه، فمثلا يقولون: في قول الله تعالى: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه)(التوبة: الآية 100) يقولون: معنى رضي الله عنهم: أي أثابهم، فيفسرون الرضى بالمفعول المنفصل عن الله وهو الثواب، فهؤلاء عطلوا الصفة وهي الرضا، وعطلوا النص فصرفوا دلالته عن الرضا إلى الثواب، فعطلوه عن مدلوله.

ص: 123

الثاني: تعطيل هو فوق ذلك. وهو تعطيل الصفات كلها دون الأسماء فينفون الصفات عن الله ويثبتون له الأسماء ومنهم من يقر بالحياة والعلم والقدرة لأنه لابد للرب منها، وما عدا ذلك يحرفونه، وهؤلاء هم المعتزلة، وهذا هو المشهور عنهم؛ أنهم يقرون بالأسماء، وينكرون الصفات أو يقرون بثلاث صفات وينكرون الباقي.

الثالث: تعطيل فوق ذلك، وهو إنكار الأسماء والصفات. فيقولون: إن الله لا يسمى سميعا ولا يثبت له سمع، وكل ما سمى الله به نفسه يجعلونه اسما للمخلوقات، فليس الله هو السميع بل السميع خلقه، وأضيف السمع إليه لأنه هو الذي خلقه في هذا، فيجعلون الأسماء والصفات كلها للمخلوقات لا للخالق عز وجل، وهؤلاء غلاة الجهمية، يقولون: لا نؤمن بان الله له أسماء ولا بان الله له صفات.

الرابع: تعطيل قوم فوق ذلك وهم الذين لا يثبتون لله أي صفة ثبوتية. فكل شيء ثبوتي لا يثبتونه لله، وإنما يثبتون لله السلبيات فقط، فيقولون مثلا: ليس بمعدوم، ليس بجاهل، ليس بأعمى، ليس بأصم، وأما إثبات الصفة فهي ممنوعة، لا الأسماء ولا الصفات، وهؤلاء هم القرامطة وأشباههم.

الخامس: تعطيل فوق ذلك وهم الذين يعطلون النفي والإثبات، فلا يصفون الله بصفة ثبوتية ولا بصفة سلبية، فلا يثبتون الإثبات ولا النفي، فيقولون: لا نقول أنه يرضى ولا نقول أنه لا يرضى ولا نقول حي ولا ميت، لا سميع ولا أصم، لا بصير ولا أعمى. فينفون عنه النفي والإثبات.

قالوا: لأنك لو اثبت لشبهته بالمثبتات، ولا نفيت لشبهته بالمنفيات.

ص: 124

فأنت واقع في التشبيه سواء أثبت أم نفيت، فنقول لهم: هل تقولون أنه موجود؟ فيقولون: لا. هل تقولون معدوم؟ فسيقولون: لا. إذا لا موجود ولا معدوم! وهل هذا ممكن أن يكون الشيء لا موجودا ولا معدوما؛ أو موجودا معدوما؟! لا يمكن.

إذا انتم الآن فررتم من تشبيهه بالمنفيات أو بالمثبتات وشبهتموه بالممتنعات. والممتنع طبعا لا وجود له أصلا.

وانظر كيف يلعب الشيطان ببني ادم إلى هذا الحد؛ فيقول: إن قلت: حي فقد شبهت، وإن قلت: ليس بحي، فقد شبهت. وإن قلت: سميع فقد شبهت؛ وإن قلت: ليس بسميع فقد شبهت. فماذا نصنع؟ ! قل: لا سميع ولا غير سميع، وإن قلت: موجود شبهت، وإن قلت: لا موجود شبهت، إذا ماذا أقول؟! قل: لا موجود، ولا لا موجود. وهذا غاية ما يكون من الامتناع.

وقال لهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ما معناه: أنتم إذا فررتم من تشبيهه بالمثبتات والمنفيات - مع أن المثبتات والمنفيات أمر ممكن - فقد شبهتموه بالممتنعات؛ لان تقابل النفي والإثبات بإجماع العقلاء من باب تقابل النقيضين (1) ، يعني لو سلمنا جدلا بان الحياة والموت من باب تقابل العدم والملكة، وأنه يصح أن نقول لا حي ولا ميت فيما لا يقبل الحياة ولا الموت، كالجماد مثلا، فالجدار نقول: لا حي ولا ميت لأنه لا يقبل الحياة ولا الموت، فلو سلمنا جدلا بأننا نوافقكم على أن تقابل الحياة والموت والسمع

(1) انظر مجموع الفتاوى (12/356-357)

ص: 125

والصمم من باب تقابل العدم والملكة التي جوز أن تنفى عمن لا يكون محلا قابلا لها - لكن لا يمكن أن تخرجوا عن الإثبات والنفي، لان تقابل الإثبات والنفي من باب تقابل النقيضين، يعني ليس هناك شيء إلا موجود أو معدوم؛ إلا ثابت أو منفي.

فإذا نفيتم الإثبات والنفي، أو الوجود والعدم فقد أتيتم بما أجمع العقلاء على امتناعه؛ وذلك لان تقابل الوجود والعدم، والإثبات والنفي من باب تقابل النقيضين اللذين اجمع العقلاء على إنهما لا يجتمعان ولا يرتفعان، فانتم لابد أن تصفوه أما بالوجود وإما بالعدم، فإما أن تقولوا: ليس بموجود أو ليس بمعدوم، أما أن تقولوا: لا موجود ولا معدوم فهذا شيء ممتنع، وقال بذلك غلاة القرامطة والباطنية، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

والحاصل أن التعطيل خمسة أنواع، وأهل السنة والجماعة يتبرؤون من جميع هذه الأنواع، ويثبتون لله كل ما أثبته لنفسه.

وأقول لهؤلاء: إنكم ما فررتم من شيء إلا ووقعتم في شر منه، لا في مثله فحسب بل في شر منه، لان هؤلاء إذا فروا مما يعتقدون في تشبيهه وأثبتوا صفة أخرى، نقول لهم: هذه الصفة موجودة في المخلوق فقد وقعتم فيما فررتم منه من حيث التشبيه بالمخلوق، وشر منه تحريف النص.

ونضرب مثلا: الذين يقولون إن الله ليس له يد حقيقية وإنما له قوة. لماذا لم يثبتوا اليد الحقيقية؟ قالوا: لان هذا يقتضي التشبيه بالمخلوق الذي له يد وجارحة. فنقول: والقوة كذلك: أليس للمخلوق قوة؟ فلن يستطيع أن

ص: 126

يقول: لا، والله يقول:(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً)(الروم: من الآية 54) فأنتم كان لكم ضعف ثم قوة ثم ضعف، فإذا قلتم: له قوة وقعتم في التشبيه على قاعدتكم؛ لان للمخلوق قوة، فيلزم على قاعدتكم أن تكونوا مشبهين لله تعالى بخلقه.

وقلنا: أنهم وقعوا في شر مما يفرون منه وهو تحريف النص، حيث حرفوا معنى النص إلى معنى خلاف الظاهر، وهكذا كل الذين يتكلمون بالتعطيل نقول: هم فروا من شيء ووقعوا في شر منه.

قوله: (ولا تمثيل) يعني: نثبت بلا تمثيل، وهذا من المؤلف جيد جدا حيث أتى بنفي التمثيل دون نفي التشبيه، فإن هذا أولى لوجوه ثلاثة:

الوجه الأول: أن نفي التمثيل هو الذي جاء به النص، كما قال الله تعالى:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(الشورى: الآية 11)، وقال تعالى:(فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ)(النحل: الآية 74) .

ولا شك أن استعمال الألفاظ التي جاءت بها النصوص أولى بكثير من استعمال ألفاظ جديدة لأمور:

أولا: انك إذا استعملت الألفاظ التي جاءت بها النصوص ربطت الناس بالنصوص، وربط الناس بالنصوص له اثر جيد محبوب.

وثانيا: أنك إذا استعملت الألفاظ التي جاءت بها النصوص سلمت من أي اعتراض، لان النصوص محكمة وليس فيها تناقض ولا اختلاف.

وثالثا: انك إذا استعملت الألفاظ التي جاءت بها النصوص فإن ذلك

ص: 127

أدق وأبين مما إذا استعملت عبارات أخرى، وإن كانت فيما يبدو للسامع مرادفة لما جاءت به النصوص.

الوجه الثاني: أن نفي التشبيه من كل وجه لا يصح؛ لأنه ما من شيئين موجودين إلا وبينهما تشابه في الجملة، ولولا هذا التشابه ما استطعنا أن نعرف المعنى أبداً، فلله حياة وللإنسان حياة، فهناك نوع من التشابه، لكن هل هناك تشابه فيما يختص فيه كل واحد؟ الجواب: لا. لان للمخلوق حياة تتميز عن حياة الخالق، وللخالق حياة تتميز عن حياة المخلوق، كما أن للخالق ذاتا تتميز عن ذات المخلوق وكذلك للمخلوق ذات تتميز عن ذات الخالق.

الوجه الثالث: أن نفي التشبيه صار يطلق على نفي الصفات؛ لان من الناس من يقول إن كل من أثبت لله صفة فهو مشبه، فإذا قلت: من غير تشبيه صار معناها عند هذا القائل من غير إثبات صفات، وهذا معنى باطل.

وعلى هذا فما نقرؤه من كلمة: (من غير تشبيه) في كثير من الكتب المؤلفة في هذا الباب إنما يريدون به من غير تمثيل؛ لان نفي التشبيه من كل وجه لا يصح، ولان بعض الناس يعتقد أن كل من اثبت لله صفة فهو مشبه، فيكون المعنى على هذا الاعتقاد: من غير إثبات صفات.

ص: 128

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

28 -

فكل من أول في الصفات

كذاته من غير ما إثبات

29-

فقد تعدى واستطال واجترى

وخاض في يبحر الهلاك وافترى

ــ

الشرح

(كل) : مبتدأ، والخبر:(فقد تعدى) وقرن المؤلف رحمه الله الخبر بالفاء لان المبتدأ يشبه الشرط في العموم، قال العلماء رحمهم الله: وإذا كان المبتدأ يشبه الشرط في العموم حسن اقتران خبره بالفاء، ومثلوا ذلك بقولهم: الذي يأتيني فله درهم. وهذا مثله (كل من أول فقد تعدى) .

وقوله: (فكل من أول في الصفات) من: اسم موصول يشمل كل مؤول، يعني سواء كان تأويله عاما أو خاصا، فإذا أول أي نص من غير ما إثبات، فإنه يكون متعديا، وسواء أول في الصفات الخبرية أو في الصفات الفعلية أو في الصفات الذاتية، فإنه يعتبر متعديا.

فمن قال مثلا: إن المراد باليدين النعمة فهو مؤول، ومن قال: إن المراد بالوجه الثواب فهو مؤول، ومن قال: إن المراد بالاستواء الاستيلاء فهو مؤول، وتسميتنا إياه تأويلا من باب التسامح، وإلا فالحقيقة أن هذا تحريف، فكل تأويل ليس له أصل فإنه ينبغي أن نسميه تحريفا، كما نطق به القرآن:(يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ)(النساء: الآية 46) ، فكل من أول الكلم عن موضعه وحمله على معنى آخر فقد حرف.

وقوله: (كذاته) يعني كما أن من أول في ذات الله من غير إثبات فهو

ص: 129

معتد، فكذلك من أول في الصفات، وهذا إشارة من المؤلف رحمه الله بأن القول في الصفات كالقول في الذات، فكما إننا نثبت لله عز وجل ذاتا لا تشبه ذات المخلوقين، فإننا نثبت له صفات لا تشبه صفات المخلوقين.

وقوله: (من غير ما إثبات) يعني من غير ما دليل على تأويله، فإنه يكون متعديا، فإن وجد دليل للتأويل فإن ذلك لا باس به، ولا يعد هذا تعديا، مثاله قوله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي:((ولا يزال عبد يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه)(1)

فلو قال قائل: ظاهر الحديث أن الله يكون سمع الإنسان وبصره ويده ورجله، فلماذا تؤولون هذا الحديث وتقولون: إن المراد أن الله يسدد هذا الرجل في سمعه وبصره ومشيه وبطشه؟

فالجواب أن نقول: لان عندنا دليلا يدل على ذلك، وهو قول الله عز وجل في الحديث القدسي:((من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تتقرب إلى عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ورجله التي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه) .

فهنا يوجد عابد ومعبود لقوله: ((ما تقرب إلى عبدي) ، ويوجد متقرب ومتقرب إليه ((ما تقرب إلي عبدي) ، ويوجد فارض ومفروض عليه ((مما

(1) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم (6502) .

ص: 130

افترضت عليه) وفيه أيضا سائل ومسئول، ومعطي ومعطى، ومستعيذ ومستعاذ به، في قوله:((ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه) . وكل هذا يدل على التباين بين هذا وبين هذا، فإذا كان هذا دالا على التباين فكيف يكون هذا الشيء المباين بعضا من الشيء المباين؟! وكيف يكون سمعه وبصره ويده ورجله؟! فهذا مستحيل.

وأيضا السمع والبصر واليد والرجل بعض من المخلوق ولا يمكن أن يكون بعض المخلوق هو الخالق، فهذا شيء مستحيل.

إذا فعندنا دليل على هذا التأويل، وإذا قام الدليل على التأويل فإننا نقول: ليس ظاهر الحديث مقصودا، بل لنا أن نقول: أن هذا الظاهر الذي ادعي ليس هو ظاهر الحديث؛ لان ظاهر الحديث يناقض سياقه × ومعلوم أن ظاهر الكلام ما يقتضيه سياقه، وليس كل لفظ من الألفاظ له معنى منفرد، بل الألفاظ يكون معناها بضم بعضها إلى بعض. فنحن لم نخرج عن ظاهر الحديث ولم نؤول، وإذا تنزلنا جدلا وقلنا: إن هذا تأويل، فإننا نقول: إن هذا التأويل قد دل عليه الدليل، وإذا دل عليه الدليل من كلام من تأولنا كلامه لم نكن خرجنا بكلامه عن ظاهره، لان المتكلم اعلم بمراده؛ ومثل ذلك أيضا ما جاء في الحديث الصحيح أن الله تعالى يقول:((عبدي جعت فلم تطعمني، ومرضت فلم تعدني)(1) فإنا لو أخذنا بظاهر هذا اللفظ لقلنا إن الله يمرض وإن الله يجوع، وهذا شيء مستحيل على الله، لكن هذا قد فسر في نفس الحديث حيث قال:((إن عبدي فلانا جاءك فلم تطعمه، ومرض فلم تعده)) ،

(1) رواه مسلم، كتاب البر والصلة، باب فضل عيادة المريض، رقم (2569) .

ص: 131

فهذا يدل على أن هذا اللفظ الذي يدعى أنه ظاهر غير مراد؛ لان الله تعالى بينه بنفسه.

فالحاصل أن المؤلف رحمه الله أعطانا قاعدة وهي أن جميع من أول في الصفات من غير إثبات ولا دليل يدل على تأويله فإنه معتد.

وأيضا كما أننا لا نؤول في الذات يجب أن لا نؤول في الصفات، لان الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات.

ثم قال رحمه الله:

فقد تعدى واستطال واجترى وخاض في بحر الهلاك وافترى

هذه خمس صفات - والعياذ بالله من ذلك -: تعدى، واستطال، واجترى، وخاض في بحر الهلاك، وافترى. كل هذه أوصاف لمن أول في الصفات من غير دليل.

قوله: (فقد تعدى) تعدى على النصوص وعلى المتكلم بالنصوص؛ لان هذا التأويل تعد على اللفظ وإخراج له عن ظاهره، وتعد على قائل النص حيث كلم الناس بما لا يريد، وهذا نوع من التعمية، وهو خلاف قوله تعالى:(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(النحل: الآية 44) وخلاف قوله تعالى: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)(النساء: الآية 176) وخلاف قوله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(النساء: من الآية 26) ، فكل إنسان يؤول فقد تعدى على النص وعلى المتكلم بالنص وهو الله ورسوله.

وقوله: (واستطال) استطال من الطول وهو الغنى، كما في قوله

ص: 132

تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ)(النساء: الآية 25) أو من الاستطالة وهي العلو والترفع، والثاني انسب يعني أنه استطال واستعلى وترفع والعياذ بالله، واعتد برأيه، وأنكر رأي الآخرين.

وقوله: (واجترى) من الجرأة، وهي الإقدام، أي: إقدام الإنسان على ما ليس له بحق، وقد تجرأ فلان على كذا: يعني أقدم على شيء ليس له فيه حق، وكذلك الذي يؤول في الصفات؛ فإنه قد أقدم على شيء ليس له بحق.

وقوله: (وخاض في بحر الهلاك) الخوض في الأصل يطلق على العمل الذي ليس بمركز ولا منظم، ومنه الخوض في الوحل، والخوض في الماء، والخوض في الطين، قال تعالى:(فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ)(الطور: الآية 12) .

وقوله: (في بحر الهلاك) الهلاك هنا معنوي، يعني يبقى حيا لكن هو في الحقيقة حي ميت، بل الميت على الحق خير من هذا الذي بقي على الباطل.

وقوله: (وافترى يعني كذب ووجه كذبه أنه قال: إن الله لم يرد كذا وأراد كذا، فكذب في النفي وكذب في الإثبات:

مثلا: في قوله تعالى: (بِيَدَيَّ)(صّ: الآية 75) قال: إن الله لم يرد اليدين وأراد النعمة فكذب في النفي وكذب في الإثبات، وقوله:(اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش)(الأعراف: الآية 54) قال: إن الله لم يستو على العرش ولكن استولى أو لم يرد العلو وإنما أراد الاستيلاء. فنقول: كذبت في الأول وفي الثاني.

ص: 133

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

30-

ألم تر اختلاف أصحاب النظر

فيه وحسن ما نحاه ذو الأثر

31-

فإنهم قد اقتدوا بالمصطفى

وصحبه فاقنع بهذا وكفى

ــ

الشرح

لما ذكر المؤلف رحمه الله أنه لا يجوز الرد إلى العقول في باب الصفات، وذكر تحريم التأويل وانه استطالة وجرأة وافتراء، ذكر دليلا حسيا ملموسا، فقال:

(ألم تر اختلاف أصحاب النظر فيه) يعني الم تعلم أن أصحاب النظر والمراد بأصحاب النظر أصحاب الكلام، الذين يرجعون في إثبات الصفات أو نفيها إلى العقل، فهؤلاء اختلفوا واضطربوا اضطرابا كثيرا عظيما، حتى إن بعضهم يوجب ما يرى الآخر أنه مستحيل. احدهم يقول: هذا واجب لله، والثاني يقول: هذا مستحيل على الله، والأخر يقول: هذا جائز، وهذا من التناقض فاضطربوا اضطرابا كثيرا فيما هم عليه.

ولا ريب أن اختلاف الأقوال واضطرابها يدل على ضعفها وأنه ليس لها أساس؛ لان الأقوال كلما قويت أساساتها تقاربت، ولهذا تجد المسائل المنصوصة في القرآن أو السنة الخلاف فيها قليل، وأضرب لك مثلا بالمواريث فإن الخلاف بين العلماء رحمهم الله في المواريث قليل بالنسبة للخلاف في غيره، وذلك لان غالب أحكامه منصوص عليها، والمنصوص عليه لا

ص: 134

يختلف الناس فيه. كذلك أهل الزكاة مثلا، فأهل الزكاة الثمانية لا تكاد تجد خلافا بين العلماء رحمهم الله فيهم إلا قليلا بالنسبة للخلاف في المسائل الأخرى، لان أصحاب الزكاة منصوص عليهم، فكلما كانت الأقوال مؤيدة بالنصوص كان الخلاف فيها أقل، لان النص يجمع أطراف الخلاف.

أما إذا كانت المسائل ليست مبنية على نص ولا على أصل فانك ترى فيها الخلاف العجيب، ولو شئت لقلت، إن الخلاف أكثر من أصحابه، فإذا كانوا عشرة اختلفوا على خمسة عشر قولا.

فإذا قال قائل: كيف يكون الخلاف أكثر من أصحابه؟!

فنقول: يكون للواحد عدة أقوال. فإذا كانوا عشرة وكل واحد له خمسة أقوال صار الخلاف خمسين وجها.

فأصحاب النظر، الذين يدعون أنهم أصحاب عقول وأن غيرهم عامة وحشوية وبلهاء وما أشبه ذلك، هم أكثر الناس اختلافا في هذا الباب، ومن طالع ما ينقل عنهم رأى العجب العجاب، حتى إنك لا تكاد تتصور القول من شدة فساده.

فإذا كان هذا حال أصحاب النظر فكيف يعتمد على هؤلاء فيما هو أساس الرسالات، وهو معرفة الرب جل وعلا بأسمائه وصفاته؟! وكيف نعتمد على هذه الأقوال المتناقضة التي لا تنبني على أصل؟! ولهذا فإن المؤلف رحمه الله جاء باختلاف أهل النظر دليلا على فساد أقوالهم، لان الاختلاف والاضطراب يدل على الفساد.

فإن قيل: من هم أصحاب النظر؟

ص: 135

فالجواب: هم أصحاب الكلام كما يسميهم أهل العلم، وعلمهم علم الكلام، وسموا أصحاب النظر لأنهم قدموا النظر على الأثر. وأصحاب النظر - هؤلاء المتكلمون - هم أكثر الناس فسادا واضطرابا في الأقوال؛ لأنهم لم يبنوا على أسس صحيحة، وإنما بنوا على وهميات ظنوها عقليات، فبنوا عليها عقيدتهم.

ولعله قد مر بك أن أساطينهم ورؤساءهم أقروا بأنهم على ضلال، فمن جملتهم الرازي الذي يقول: لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية فما رأيتها تروي غليلا ولا تشفي عليلا، ووجدت اقرب الطرق طريقة القرآن، اقرأ في الإثبات قول الله تعالى:(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)(طه: 5)، وقوله:(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)(فاطر: الآية 10)، وأقرأ في النفي:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(الشورى: الآية 11)، (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً) (طه: الآية 110) ، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.

هذا هو الرازي أحد أساطينهم وكبرائهم وعلمائهم يقول: هذه المناهج والطرق ما رأيتها تروي غليلاً ولا تشفي عليلاً، أي، لا تسمن ولا تغني من جوع، ويقول: رأيت أقرب الطرق طريقة القرآن، يعني: طريقة تحكيم النصوص في هذا الباب، ثم ضرب مثلا: اقرأ في الإثبات: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)(طه: 5) فأؤمن بأنه استوى على العرش، واقرأ:(إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ)(فاطر: الآية 10) فأؤمن بأنه في العلو، واقرأ في النفي:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(الشورى: الآية 11) وهي نفي للتمثيل، واقرأ:(َلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)(طه: الآية 110) وهي نفي التكييف، ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.

ص: 136

ويقول:

نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وغاية دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

والقيل والقال محصول ليس بجيد، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن قيل وقال (1) . هؤلاء بحثوا طول عمرهم وما استفادوا إلا قيل وقالوا، وغاية دنياهم أذى ووبال والعياذ بالله؛ لان غاية دنياهم - نسأل الله العافية -الشك والحيرة، فأكثر الناس شكا عند الموت هم أهل الكلام، لأنهم ليس عندهم عقيدة يبنون عليها معبودهم عز وجل، بل لا يعرفونه إلا بوهمياتهم التي يدعون إنها عقليات، فلذلك إذا جاءت الساعة وجاء وقت الامتحان والمحك ضاعوا وما وجدوا حصيلة.

فكانوا أكثر الناس شكا عند الموت نسأل الله العافية، حتى إن بعضهم يقول: ها أنا أموت على عقيدة أمي، أمه الأمية التي لا تعرف، والثاني يقول: أموت على عقيدة عجائز نيسابور. فرجعوا إلى عقيدة العجائز لأنها فطرية، وهم عقيدتهم نظرية وهمية في الواقع.

فإذا نظرنا إلى هؤلاء والى مآلهم والى أحوالهم - فهل يمكن لنا أن نقول أنهم على حق وندع الأثر لنظرهم؟! لا يمكن أبداً فكل إنسان عاقل لا يمكن أي يتولى مثل هؤلاء ويأخذ من أقوالهم؛ لأنها أقوال فاسدة متناقضة ليس لها أساس لا من كتاب الله ولا من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا من أقوال السلف.

(1) رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب ما يكره من كثرة السؤال، رقم (7292) ومسلم، كتاب الاقضية، باب لنهي عن كثرة المسائل من غير حاجة، رقم (1715) .

ص: 137

والعجيب أن الرازي يقول: أرواحنا في وحشة من جسومنا، إلى هذا الحد: روحه مستوحشة من جسده، لا تود أن تقر فيه، كأنما يتمنون الموت الآن ومفارقة الروح الجسد الذي هي في وحشة منه؛ لان الإنسان - نسأل الله العافية والسلامة والثبات - إذا لم يكن له عقيدة ضاع، اللهم إلا أن يكون قلبه ميتا، لان الذي قلبه ميت يكون حيوانيا لا يهتم بشيء أبداً، لكن الإنسان الذي عنده شيء من الحياة في القلب إذا لم يكن له عقيدة فإنه يضيع ويهلك، ويكون في قلق دائم لا نهاية له، فتكون روحه في وحشة من جسمه وقوله:(وحسن ما نحاه ذو الأثر) نحاه بمعني اتبعه، يعني: وألم تر حسن ما اتبعه ذوي الأثر، والجواب: أننا نرى ذلك، فنحن نطالع كتب هؤلاء وأقوالهم، ونطالع كتب أولئك وأقوالهم، فنجد أن هؤلاء الأثريين، إذا قالوا قولاً فإنما يقولون بقول الله ورسوله، مطمئنين منشرحة صدورهم. أما أولئك فهم على العكس من هذا، دائماً في صراع قيل وقال، وجدل لا نهاية له، وفرضيات وهمية ليس لها أصل، فتجدهم في حيرة وقلق.

لكن ما نحاه أهل الأثر واتبعوه يقرأ احدهم كلام الله عز وجل: (وَجَاءَ رَبُّكَ)(الفجر: 22)(فيقول: سبحانه وتعالى يجيء كما يليق بجلاله، ويقرأ: (استوى على العرش)(فيقول: استوى سبحانه وتعالى على عرشه كما يليق بجلاله، ويقرأ: (بل يداه مبسوطتان) (يقول: له يدان لكنها ليست كأيدي المخلوقين؛ لان الله ليس كمثله شيء وهكذا يقرأ في القرآن والسنة نصوصا واضحة بينة.

ووالله لو خلوا من التقديرات التي يقدرونها ما وجدوا إلا خيرا، أي

ص: 138

شيء يضير الإنسان إذا قال: أنا أؤمن بان لله يدين؛ لأن الله أثبتهما لنفسه، ولكني أؤمن بأنه لا مثيل لهاتين اليدين، هل عليه ضير؟ أبداً، بل ينشرح صدره، ويستريح من التقديرات التي لا أساس لها، ولذلك تجد أهل السنة والجماعة في هذا الباب هم أريح الناس بالا، وأشرحهم صدرا، وأكثرهم اطمئنانا وأبعدهم إشكالا. أما أن نذهب نقدر ونقول: اليد جارحة، والجارحة ممتنعة، والجارحة بعض من كل، وما أشبه ذلك. وهذا جسم وهذا عرض، فإننا سوف نتعب في هذا.

والأولى لنا أن نؤمن بأن لله يدا ونقول: سبحان الله العظيم، وبأن له وجها وبأن له عينا، وبأنه مستو على العرش، وبأنه يجيء يوم القيامة، وبأنه ينزل إلى السماء الدنيا، إلى غير ذلك بدون أن نقدر تقديرات، فلسنا نحن الذين نحكم على الله، بل الله هو الذي يحكم علينا ولنفسه بما شاء، أما نحن فليس لنا إلا التسليم في هذه الأمور، ولهذا قال:(حسن ما نحاه ذو الأثر) .

وأنا أجزم جزما أنك لو تلوت على أحد من العامة حديثا في صفات الله عز وجل، تجده يسبح بلسانه، ويعظم الله بقلبه، ويقشعر من ذلك جلده، لكن لو تلوته على واحد من أهل الكلام ما أحس بهذا أبداً، بل ذهب يتصور أن الله مناف للمخلوق، ثم يحاول أن يصرف هذا النص إلى معنى يدعي أنه معقول، وتجده يتعب نفسه، وذاك العامي يسبح ويهلل ويمجد الله، ولا يتعب نفسه. وذاك يذهب يبحث عن القرائن، ولا يكون في قلبه من تعظيم الله مثل ما يكون في قلب العامي، وهذا أمر محسوس، ولهذا ما أوتي قوم الجدل إلا ضلوا.

ص: 139

فأنت إذا أخذت النصوص على ظاهرها سلمت من كل شيء، وعظمت الله حق تعظيمه، ولن تحتاج إلى أن تتكلم في ذات الله كأنما تشرح جسما من أجسام الآدميين، كما يوجد عند بعض الناس الآن، حتى إني رأيت كتابا لبعض الناس يسال: هل يقال أن الله ذكر أو أنثى؟ أعوذ الله إلى هذا الحد - نسأل الله العافية؟!

والله إن هذا الإنسان ليس في قلبه تعظيم لله عز وجل وهو يفرض هذا الفرض، فتجد من يقول: أقم دليلا على أن الله ذكر؟! وتجد من يفرض ويقول: هل الله واحد أو متعدد؟ والله يقول: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ)(الحجر: الآية 9) فنحن هنا جماعة؟! فإذا أراد الإنسان السلام فليدع هذه الأشياء، فماذا أنت يا ابن ادم بالنسبة للسماء وبالنسبة للأرض وبالنسبة للأشجار؟! لست بشيء فكيف تتكلم في خالق السموات والأرض بأشياء ما تكلم بها عن نفسه، ولا تحدث بها رسوله عليه الصلاة والسلام، ولا قالها من هم احرص منك على الخير وأشد منك تعظيما لله؛ وهم الصحابة رضي الله عنهم.

ولما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له.. إلى آخره)(1) لم يفكر الصحابة رضي الله عنهم كيف ينزل الله تعالى وكيف يصعد، بل فكروا كيف يستغلون هذا الوقت بالاستغفار والدعاء والسؤال، وهذا هو الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم منهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما أراد منهم أن يفكروا كيف نزل ومتى يصعد وكيف

(1) رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب الدعاء في الصلاة من آخر الليل، رقم (1145) ، ومسلم، كتاب صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه، رقم (857) .

ص: 140

صعد بل أراد منهم أن ينتهزوا هذه الفرصة في هذا الجزء من الليل الذي يقول الله فيه: من يدعوني؟ من يسألني؟ من يستغفرني؟

فالمهم أن الواجب علينا أن نعرض عما قاله أهل الكلام في هذا كله، ونحن نحاجهم بكلمة بسيطة وهم أهل جدل، فنقول: أأنتم أعلم باله أم الله؟ إن قالوا: نحن أعلم بالله من الله فهم كرة بذلك. وإن قالوا: الله أعلم، فنقول: ألم يقل عن نفسه كذا وكذا. فلماذا لا تقبلون؟! ولماذا تحاولون الزيغ يمينا ويسارا؟! والله عز وجل وضح وبين وكلامه أبين الكلام (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ)(النساء: الآية 26)(يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا)(النساء: الآية 176)(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)(النحل: الآية 44) .

فالقرآن مبين، والرسول عليه الصلاة والسلام مبين، ولا يمكن أبداً بحال من الأحوال أن يبين الله لنا كيف نبول، وكيف نتغوط، وكيف نلبس، وكيف ندخل، وكيف نخرج، وكيف نأكل، وكيف نشرب، وكيف ننام، وكيف نستيقظ، ثم يدع البيان فيما يتعلق بأسمائه وصفاته التي هي زبدة الرسالة، ونحن إذا لم نعرف الله ما عبدناه، وإذا عرفناه فيجب أن نعرفه كما وصف نفسه، بعيدا عما أشار المؤلف إليه من اختلاف أصحاب النظر، فإن هذا يصدنا عن سبيل الله ويبعدنا كثيرا.

إذا بأي شيء يكون: (حسن ما نحاه ذو الأثر) ؟ يكون بإتباع الآثار، وهذا الحسن يتمثل في طمأنينة القلب، وانشراح الصدر، وركود النفس، والانبساط، وعدم القلق، وعدم الحيرة. وكل هذا موجود ولله الحمد فيما نحاه أهل الأثر، حيث يقولون: سمعنا وأطعنا.

قوله: (فإنهم قد اقتدوا بالمصطفى وصحبه) : (فإنهم) أي أهل الأثر، (قد

ص: 141

اقتدوا بالمصطفى) وهو محمد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، فاتبعوه ظاهراً وباطناً، ومن اتبع المصطفى عليه الصلاة والسلام فقد هدى إلى صراط مستقيم، كما قال الله تعالى:(وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ)(الشورى: الآية 52) ، ومن وفق لذلك فقد وفق لمحبة الله له، قال تعالى:(كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّه)(آل عمران: الآية 31) ، ومن وفق لذلك فقد شرح صدره، قال تعالى:(أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ)(الزمر: الآية 22) .

فإذا وفق المسلم لإتباع الرسول عليه الصلاة والسلام في العقيدة، والقول والعمل، والفعل والترك، فقد وفق لكل خير. وقد قال بعض السلف: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن في لجالدونا عليه بالسيوف. الله اكبر! فانك لو سالت أهل الدنيا: من انعم الناس؟ لقالوا: الملوك وأبناء الملوك.

لكن أهل العبادة انعم من هؤلاء، انعم، واسر بالا، وأشرح صدرا وأهدأ نفسا، لأنهم متصلون بالله عز وجل في قيامهم وقعوهم ومنامهم ويقظتهم، دائما مع الله، والله تعالى معهم، فهم انعم الناس في الدنيا والآخرة، ولهذا قال: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف.

لكن الملوك إذا اخذوا بما اخذ به هؤلاء صاروا انعم منهم، ولهذا قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: إما عادل، وشاب نشأ في طاعة الله

) (1) فبدأ هؤلاء السبعة بالإمام العادل؛ العادل

(1) رواه البخاري، كتاب، الأذان، باب من جلس في المسجد ينتظر الصلاة وفضل المساجد، رقم (629) ، ومسلم، كتاب الزكاة، باب إخفاء الصدقة، رقم (1031) .

ص: 142

في معاملة الله وفي معاملة عبد الله.

فالمهم إننا نقول: إن الاقتداء بالرسول عليه الصلاة والسلام فيه كل الخير، فاحرص على أتباعه ظاهرا وباطنا، في العقيدة، والأقوال، والأعمال، والأفعال والتروك، لكن ما فعله على سبيل التعبد فانك تفعله عبادة وتقربا إلى الله هه، وما فعله لا على سبيل التعبد فإن من الناس من يفعله لمحبته للرسول عليه الصلاة والسلام، لا للتقرب إلى الله به، بل يفعله لان الرسول صلى الله عليه وسلم فعله فيحب ما عله الرسول صلى الله عليه وسلم فقط لا تعبدا لله. كما أن الإنسان إذا أحب شخصا تجده يقلده وإن كان لا يعتقد أن في ذلك عبادة وتقربا إلى الله عز وجل.

ومن ثم كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يتتبع آثار الرسول صلى الله عليه وسلم حتى في غير الأمور العبادية، حتى أنه كان يتحرى المكان الذي نزل فيه الرسول عليه الصلاة والسلام ليبول فيه في الطريق فينزل ويبول، لكن هذه القاعدة خالفه فيها أكثر الصحابة رضي الله عنهم، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله.

ثم قال: (وصحبه) صحب الرسول صلى الله عليه وسلم هم كل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنا به ومات على ذلك، ولكن نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم طبقات وليسوا طبقة واحدة، كما قال تعالى:(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)(الحديد: الآية 10) حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لخالد بن الوليد لما نازع عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما: ((لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أنفق

ص: 143

أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد احدهم ولا نصيفه) (1) ، ففرق بين خالد الذي تأخر إسلامه وبين عبد الرحمن بن عوف الذي يعتبر من السابقين إلى الإسلام.

والمهم أن الصحب طبقات؛ طبقات في الصحبة، وطبقات في الهجرة، وطبقات في العلم وطبقات في كل شيء ولا يوجد أحد من الصحابة أفضل من أبي بكر رضي الله عنه؛ لان الله تعالى نص على صحبته في القرآن الذي يتلى إلى يوم القيامة، قال تعالى:(إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)(التوبة: الآية 40) ، فاثبت الصحبة له، وأثبت المعية الخاصة له مع الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قال:(إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)(التوبة: الآية 40) .

ثم يليه بلا شك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي اختاره أبوبكر، ونحن نشهد الله عز وجل أن أبا بكر اشد الناس أمانة وأصدقهم فراسة فأشد الناس أمانة لأننا نعلم لو كان الرجل يريد الخيانة ما ولى عمر رضي الله عنه ولولى أحد أبنائه أو أحد قومه، لكنه أمين على هذه الأمة، فأدى الأمانة رضي الله عنه حيا وميتاً.

ونعلم أنه أصدق الناس فراسة لأنه ولى عليهم من هو خير الناس بعده، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان دائما يقول: ذهبت أنا وأبوبكر وعمر، وجئت أنا وأبوبكر وعمر، ودائما يقترن اسم هذين الرجلين باسم الرسول عليه الصلاة والسلام.

ولهذا شاء الله سبحانه وتعالى بحكمته أن يكون هؤلاء الثلاثة قرناء في

(1) رواه البخاري، كتاب المناقب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت متخذا خليلا

، رقم (3673) ، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب تحريم سب الصحابة، رقم (2540) .

ص: 144

الحياة وفي الممات، فقبورهم في مكان واحد، ويوم القيامة يقومون من قبورهم قيام رجل واحد، وهذه هي الميزة والفضيلة.

والمهم أن الصحب يختلفون، لكن على كل حال لا أحد يساوي الصحابة رضي الله عنهم في فضل الصحبة أبداً أما في العلم فربما يوجد من التابعين من هو اعلم من بعض الصحابة رضي الله عنهم، فإن الرجل الأعرابي لو جاء للرسول صلى الله عليه وسلم، وآمن به وأخذ منه ما أخذ من الشريعة وانصرف إلى قومه ولم يأت إلى المدينة للتعلم لا شك أن من التابعين من هو اعلم منه، ولكن الصحبة التي هي رؤية النبي عليه الصلاة والسلام مع الإيمان به لا توجد في غير الصحابة رضي الله عنهم.

قال: (فاقنع بهذا وكفى)، ونقول للمؤلف رحمه الله: سمعا وطاعة، نقنع بهذا إن شاء الله تعال، ونسأل الله تعالى أن يميتنا عليه، (اقنع بهذا) أي: بإتباع آثار المصطفى صلوات الله وسلامه عليه وصحبه، (وكفى) أي: كفى عن كل شيء، كفى عن أهل النظر، وعن مجادلاتهم، وعن معقولاتهم التي هي وهميات، ففي هذين البيتين اكبر دليل على بطلان ما عليه أهل النظر، وأكبر دليل على صحة ما عليه أهل الأثر. والله اعلم.

ص: 145