المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الأول في معرفة الله تعالى - شرح العقيدة السفارينية - جـ ١

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌الباب الأول في معرفة الله تعالى

‌الباب الأول في معرفة الله تعالى

32-

أول واجب على العبيد

معرفة الإله بالتسديد

33-

بأنه واحد لا نظير

له ولا شبه ولا وزير

ــ

الشرح

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (الباب الأول) والذي مضى من هذه العقيد (المقدمة)(1) .

قال: (الباب الأول: في معرفة الله عز وجل معرفة الله سبحانه وتعالى نوعان: معرفة ذاته بالوجود، ومعرفة صفاته كذلك، ومعرفة ذاته في الكنه والحقيقة، ومعرفة صفاته كذلك، يعني نقول: هي قسمان: معرفة وجود ومعاني ومعرفة كنه وحقيقة.

أما معرفة الوجود والمعاني فهذا هو المطلوب منا، وأما معرفة الكنه والحقيقة فهذا غير مطلوب منا، فلا أحد يعرف حقيقة ذات الله سبحانه وتعالى ولا حقيقة صفاته، والوصول إلى ذلك مستحيل فمستحيل أن تعرف الله عز وجل في حقيقة ذاته.

فالإنسان تعرف حقيقة ذاته، فهو لحم ودم وعظم وباقي مكونات الجسم، لكن الرب عز وجل لا تعرف عنه هذا، وصفات الإنسان كذلك

(1) انظر ص 74

ص: 147

تعرف حقيقتها وكنهها التي هي عليه، فتعرف وجه الإنسان؛ وتعرف العين؛ وتعرف القدم؛ وتعرف اليد؛ وتعرف الأصابع لكن صفات الله عز وجل لا تصل إلى حقيقتها وكنهها والمطلوب إذا معرفة الذات بالوجود ومعرفة الصفات بالمعاني، أما معرفة الكنه والحقيقة فهذا مما لا يعلمه إلا الله عز وجل

فصار قول المؤلف رحمه الله في معرفة الله لا بد فيه من هذا التسديد.

أول واجب على العبيد

معرفة الإله بالتسديد

فأول واجب على الإنسان أن يعرف الله، والمراد أول واجب لذاته، وأما أول واجب لغيره فهو النظر والتدبر الموصل إلى معرفة الله. فالعلماء رحمهم الله قالوا: أول ما يجب على الإنسان أن ينظر، فإذا نظر وصل إلى غاية وهي المعرفة، فيكون النظر أول واجب لغيره، والمعرفة أول واجب لذاته.

وقال بعض أهل العلم: إن النظر لا يجب لا لغيره ولا لذاته؛ لان معرفة الله عز وجل معلومة بالفطرة والإنسان مجبول عليها، ولا يجهل الله عز وجل إلا من اجتالته الشياطين، ولو رجع الإنسان إلى فطرته لعرف الله دون أن ينظر ويفكر. قالوا ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم:((كل مولود يولد على الفطرة)(1)، ولقول الله تعالى في الحديث القدسي:((إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين)(2) ، فصار الصارف عن مقتضى الفطرة حادث وارد على

(1) تقدم تخريجه ص 22

(2)

رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها

، باب الصفات التي يعرف بها في الدنيا

، رقم (2865) .

ص: 148

فطرة سليمة.

فأول ما يولد الإنسان يولد على الفطرة، ولو ترك ونفسه في أرض برية ما عبد غير الله، ولو عاش في بيئة مسلمة ما عبد غير الله، وحينئذ تكون عبادته لله، وإذا عاش في بيئة مسلمة يكون المقوم لها شيئين هما الفطرة والبيئة، لكن إذا عاش في بيئة كافرة فإنه حينئذ يحدث عليه هذا المانع لفطرته من الاستقامة، لقول النبي عليه الصلاة والسلام:((فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه)(1) .

إذا معرفة الله عز وجل لا تحتاج إلى نظر في الأصل، ولهذا نجد عوام المسلمين الآن ما فكروا ونظروا وقرءوا في الآيات الكونية والآيات الشرعية حتى عرفوا الله، بل عرفوه بمقتضى الفطرة، ولا شك أن للبيئة تأثيرا لكنهم ما نظروا، بل إن بعض الناس - نسأل الله العافية - إذا نظر وأمعن ودقق وتعمق وتنطع ربما يهلك، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام:((هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون)(2) .

فالصحيح إذاً ما قاله المؤلف رحمه الله أن أول واجب معرفة الله، وأما النظر فلا نقول أنه واجب، لكن لو فرض أن الإنسان احتاج إلى النظر فحينئذ يجب عليه النظر، مثل لو كان إيمانه فيه شيء من الضعف ويحتاج إلى تقوية فحينئذ لابد أن ينظر، ولهذا قال الله تعالى:(أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ)(الأعراف: الآية 185) ، وقال (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ)

(1) تقدم تخريجه، ص 22

(2)

رواه مسلم، كتاب العلم، باب هلك المتنطعون، رقم (2670) .

ص: 149

(المؤمنون: الآية 68)، وقال:(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ)(صّ: الآية 29) .

فإذا وجد الإنسان في إيمانه ضعفا حينئذ يجب أن ينظر ولكن لا ينظر من زاوية الجدل والمعارضات والإيرادات؛ لأنه إن نظر من هذه الزاوية يكون مآله الضياع والهلاك، ويورد عليه الشيطان من الإشكالات والإيرادات ما يقف معها حيران لكن ينظر من زاوية الوصول إلى الحقيقة، فمثلا إذا نظر إلى الشمس - هذا المخلوق العظيم الكبير الوهاج - فلا يقل: من الذي خلقه؟ خلقه الله. فمن خلق الله؟ فهذا لا ينبغي، بل يقول: خلقه الله ويقف؛ لان الرسول صلى الله عليه وسلم أمرنا أن ننتهي إذا قال لنا الشيطان من خلق الله؟ لنقطع التسلسل، لأنك لو قلت من خلق الله؟ وقلت مثلا: خلقه شيء ما، سيقول لك الشيطان: فمن خلق هذا الشيء؟ ثم تتسلسل إلى ما لا نهاية له، وتضيع في البحر الذي لا ساحل له.

فالحاصل أن النظر لا يحتاج إليه الإنسان إلا عند الضرورة كالدواء، فإذا ضعف إيمانه أو رأى من نفسه ضعفا فلينظر، وإلا فمعرفة الله مركزة في الفطر.

قال المؤلف رحمه الله: (معرفة الإله بالتسديد) أي بالصواب، لكن ما هو الطريق إلى معرفة الله عز وجل؟ الطريق: قلنا بالفطرة قبل كل شيء، فالإنسان مفطور على معرفة ربه وأن له خالقا، وإن كان لا يهتدي إلى معرفة صفات الخالق عل التفصيل، لكن يعرف أن له خالقا كاملا من كل وجه.

ومن الطرق التي توصل إلى معرفة الله عز وجل الأمور العقلية، فإن

ص: 150

العقل يهتدي إلى معرفة الله إذا كان القلب سليما من الشبهات، فينظر إلى ما في الناس من نعمة فيستدل به على وجود المنعم، وعلى رحمة المنعم، لأنه لولا وجود المنعم ما وجدت النعم، ولولا رحمته ما وجدت النعم.

وينظر إلى إمهال الله عز وجل للعاصين فيستدل به على حلم الله؛ لأن الله يقول: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ)(فاطر: الآية 45) وصدق الله لو أن الله واخذ الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة لأن أكثر الناس على الكفر فلو أراد الله أن يؤاخذهم بأعمالهم ما ترك ما على ظهرها من دابة.

وننظر في السموات والأرض فنستدل به على عظمة الله وقدرته؛ لأن عظم المخلوق يدل على عظم الخالق، وهكذا.

ونستدل أيضاً إلى معرفة الله تعالى بإجابة الدعاء، فالإنسان يدعو فيستجيب الله دعاءه، فنعرف بهذا وجود الله، وقدرة الله، ورحمة الله، وصدق الله عز وجل، قال تعالى:(ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(غافر: الآية 60) إلى غير ذلك مما تستلزمه إجابة الدعاء.

ومن الطرق التي يستدل به الإنسان على معرفة الله الواقع، فأخذ الله سبحانه وتعالى للكافرين بالنكبات والهزائم تدل على أن الله شديد العقاب وانه من المجرمين منتقم، ونصر الله لأوليائه يدل على انه عز وجل ينصر من شاء من العباد، وانه قادر على ذلك ولو كثر خصومهم.

ثم إن المراد بالمعرفة ما يترتب عليها من التصديق والقبول للأوامر والإذعان لها، وأما مجرد المعرفة بدون أن يركن الإنسان إليها ويقول

ص: 151

بمقتضاها فإنها لا فائدة منها؛ لأنه حتى الكفار يعرفون الله.

ثم قال المؤلف رحمه الله: (بأنه واحد) بأنه: أي الله عز وجل واحد، واحد في ذاته وصفاته وأحكامه الكونية والشرعية، فهو واحد في ذاته لا نظير له ولا شبه ولا وزير، وواحد أيضاً في ربوبيته فلا أحد يتصرف معه، ولا أحد يملك معه، ولا أحد يعينه، بل لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه لكمال سلطانه.

وكذلك هو واحد في ألوهيته فلا يعبد إلا هو عز وجل، ولا يتأله إلا إليه، ويجب أن يصرف الإنسان حبه وتعظيمه كله لله عز وجل، فلا يحب إلا ما يحبه الله، ولا يرضى إلا بما يرضي الله، ويكره ما كرهه الله، ويبغض ما أبغضه الله، حتى يكون قلبه كله وإرادته لله عز وجل، فيوحد الله في القصد والعبادة.

كذلك واحد واد في صفاته، فليس له نظير في صفاته، لا الصفات المعنوية لا الصفات الخبرية، لا الذاتية اللازمة ولا الفعلية المتعلقة بمشيئته عز وجل.

قوله: (بأنه واحد لا نظير له ولا شبه) النظير: يعني المماثل والمشابه، وعليه فقوله:(ولا شبه) من باب عطف المتماثلين أو المترادفين، كقول الشاعر:

فألفى قولها كذبا ومينا

.......................

فالكذب والمين معناهما واحد وإن اختلفا في اللفظ، وكذلك النظير والشبه معناهما واحد وإن اختلفا في اللفظ، وهذا من باب التوكيد اللفظي.

ص: 152

وقوله: (ولا شبه) سبق أن الأولى أن يعبر بقوله: (لا مثل) للوجوه الثلاثة السابقة. فالله تعالى لا نظير له في ذاته ولا شبه له في ذاته، وكذلك لا شبيه هـ في صفاته سبحانه وتعالى وفي أفعاله، قال تعالى:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: الآية 11) .

وقوله: (ولا وزير) الوزير: أي المعين، ومنه قوله تعالى عن موسى:(وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي)(طه: 29)) ، وهي مأخوذة من المؤازرة وهي المعاونة. فالله سبحانه وتعالى ليس له أحد يعينه لأنه قادر على كل شيء، قال تعالى:(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(يّس: 82)، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المعنى في قوله:(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ)(سبأ: 22)(يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ)(طه: الآية 109) ، فهم لا يملكون مثال ذرة في السموات ولا في الأرض على سبيل الاستقلال، وما لهم فيهما من شرك على سبيل المشاركة، والفرق بين الاستقلال والمشاركة واضح. فمثلا هذا لي أنا مستقل به، وهذا بيني وبينك أنا شريك فيه. فهم لا يملكون شيئا على سبيل الاستقلال ولا على سبيل المشاركة مع الله عز وجل، و (وَمَا لَهُ) أي ما لله (مِنْهُمْ) من هؤلاء المدعوين (مِنْ ظَهِيرٍ) أي معين، فهم لا يعاونون الله بشيء.

ثم مع ذلك لا تستطيع هذه الآلهة أن تشفع (لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ) ، وبنفي هذه الأمور الأربعة تنقطع الأسباب التي يتعلق بها

ص: 153

المشركون، لأن غاية ما يتعلقون به أنهم يقولون: إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى، فقط الله كل سبب.

فإن قال قائل: أليس هناك ملائكة موكلون بحفظ أعمال بني آدم، وملائكة موكلون بالقطر، وملائكة موكلون بالنبات، والملائكة موكلون بالحفظ العام لبني آدم؟

فالجواب: بلى هذا موجود، لكن لم يوكلهم الله تعالى استعانة بهم، بل وكلهم الله بذلك ليبين عظمته وكمال سلطانه، كما أن الملك في الدنيا - ولله المثل الأعلى -له من يتولى شئون ملكته، لكن الملوك في الدنيا يفعلون ذلك لقصورهم وعدم إحاطتهم، أما الله عز وجل فلا، إنما فعل ذلك سبحانه وتعالى ليظهر عظمة ملكه وسلطانه، وأنه المدبر سبحانه وتعالى، وان له جنودا لا يستعين بهم ولكن يمتثلون بأمره ويكلفهم عز وجل بما شاء، قال تعالى:(وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ)(المدثر: الآية 31) ، ولكن ليسوا جنودا يعينونه كجنود الملوك في الدنيا، بل جنود تظهر بهم عظمته وكمال سلطانه.

ص: 154

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

34-

صفاته كذاته قديمه

أسماؤه ثابتة عظيمه

35-

لكنها في الحق توقيفيه

لنا بذا أدلة وفيه

ــ

الشرح

قوله: (صفاته كذاته قديمه) صفاته: مبتدأ، والخبر: قديمة، ذاته: حال، يعني صفاته حال كونها كذاته قديمة.

والصفات: هي ما يتصف به الموصوف.

وقول المؤلف: (صفاته قديمه) مجمل يحتاج إلى تفصيل، فالصفات بالنسبة لله عز وجل ثلاثة أقسام: صفات ذاتية، وصفات فعلية، وصفات خبرية.

(1)

الصفات الذاتية: هي صفات المعاني الثابتة لله أزلاً وأبدا، مثل الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والعزة، والحكمة، إلى غير ذلك وهي كثيرة فهذه نسميها صفات ذاتية؛ لأنه متصف بها أزلا وأبدا ولا تفارق ذاته.

(2)

الصفات الفعلية: هي التي تتعلق بمشيئته، إن شاء فعلها، وإن شاء لم يفعلها، مثل الاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا، والمجيء للفصل بين العباد، والفرح بتوبة التائب، والضحك إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة، والغضب على الكافرين، والرضا للمؤمنين، وغيرها، فهذه نسميها صفات فعلية؛ لأنها من فعله، وفعله يتعلق بمشيئته.

ص: 155

(3)

لكن هذا القسم من صفات الله آحاده حادثة، تحدث شيئا فشيئا، وأما جنس الفعل فإنه أزلي أبدي، فجنس كون الله فعالا - أي جنس الفعل في الله عز وجل أزلي، فلم يزل ولا يزال فعالا، لم يأت وقت من الأوقات يكون الله تعالى معطلا فيه عن الفعل، فإن الله لم يزل ولا يزال فعالا لما يريد سبحانه وتعالى.

لكن نوع الفعل أو آحاده هي التي تكون حادثة، مثلا الاستواء على العرش نوع من أنواع الفعل، وهو حادث لأنه كان بعد خلق العرش، كذلك النول إلى السماء الدنيا نوع من أنواع الفعل، وهو حادث لأنه كان بعد خلق العرش، كذلك النزول إلى السماء الدنيا نوع من أنواع الفعل، وهو حادث لأنه كان بعد أن خلق السماء الدنيا، كذلك الرضا والغضب نوع من أنواع الفعل، وهو حادث لأنه إذا فعل العبد فعلا يقتضي الرضا، رضي الله عنه، وإذا فعل فعلا يقتضي الغضب غضب الله عليه.

وهذه تسمى الصفات الفعلية، وربما تسمي الأفعال الاختيارية؛ لأن هذه الأفعال تتعلق بمشيئة الله تعالى واختياره قال تعالى:(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ)(القصص: الآية 68) ، لكن - كما سبق - كل صفة فعلية فإنها حادثة النوع أو الفرد، لكنها قديمة الجنس، فمثال النوع الاستواء على العرش، والنزول إلى السماء الدنيا فهذا نوع، لكن نزوله كل ليلة فهذا فرد، لأن نزوله الليلة ليس هو نزوله البارحة.

(4)

الصفات الخبرية: وهي التي نعتمد فيها على مجرد الخبر، وليست من المعاني المعقولة، بل هي من الأمور المدركة بالسمع المجرد فقط، ونظيرها أو نظير مسماها بالنسبة إلينا أبعاض وأجزاء، مثل اليد، والوجه، والعين،

ص: 156

والقدم، والإصبع، فهذه نسميها الصفات الخبرية، لأنها ليست معنى من المعاني، فاليد غير القوة، القوة معنى، واليد صفة من نوع آخر. مسماها بالنسبة إلينا أبعاض وأجزاء، فاليد بعض من أو جزء منا، والوجه كذلك والعين كذلك.

ولكن بالنسبة لله لا نقول أنها جزء أو بعض؛ لأن البعضية والجزئية لم ترد بالنسبة إلى الله لا نفيا ولا إثباتا، ولهذا نقول لمن قال: إن الله واحد لا يتجزأ ولا ينقسم وما أشبه ذلك، نقول: هذه ألفاظ بدعية. فليس هناك دليل على أن تصف الله بهذا النفي، وما أنت اعلم بالله من الله، ولا اعلم بالله من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا اعلم بالله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما قال واحد منهم قط: إنه لا يتبعض ولا يتجزأ، فاحبس لسانك عما حبسوا ألسنتهم عنه، ولا تتكلم بأشياء فارغة، وليس هناك داع لأن تقول: لا يتجزأ، فلا أحد يتصور أن الله تعالى - وله الحمد والفضل - يتجزأ، لا أحد يتصور هذا حتى تنفيه، فدع ذلك، وإنما ينفى مثل هذا الكلام لو أن أحداً قاله، إما ولم يقله أحد فليس له داع، بل يقال: لله يد، وله وجه، وله عين، ودع عنك: لا يتجزأ ولا يتبعض، فلم يتعبدنا الله بهذا، ولا ورد عن الله انه يتبعض أو يتجزأ، أو لا يتبعض ولا يتجزأ، بل قال تعالى:(قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ)(البقرة: الآية 136) وقال: (اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ)(البقرة: الآية 255) وقال تعالى: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ*اللَّهُ الصَّمَدُ)(الإخلاص: 2) .

وكل هذا لم يرد، وما لم يرد فالأدب مع الله ورسوله أن نمسك عنه، قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(الحجرات: 1) ، فلو نفيت ما لم ينفه ما لم ينفه الله عن نفسه فقد تقدمت بين

ص: 157

يدي الله ورسوله، ولو أثبت ما لم يثبته فقد تقدمت بين يدي الله ورسوله.

فالحاصل أن الصفات الخبرية هي التي مسماها أبعاض وأجزاء لنا، لكن بالنسبة لله فلا نقول انه بعض أو جزء؛ لأن إثبات البعضية أو الجزئية أو نفي البعضية أو الجزئية بالنسبة لله، من الألفاظ المبتدعة التي يجب على الإنسان أن يتحاشاها، فلم يتعبدنا الله لا في كتابه ولا على لسان رسوله بان نثبت البعضية أو ننفي البعضية ونحن نؤمن بان اليد غير الذات؛ يد الله غير ذاته؛ ووجه الله غير ذاته، فهو شيء آخر زائد عن الذات، وقد يعبر الله تعالى عن نفسه بوجهه، كما قال الله تعالى:(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام)(الرحمن: 27) ، ونحن لا ننكر الوجه ولا ننكر أن يعبر به عن النفس.

وهذه مع أنها صفات خبرية، فهي في نفس الوقت صفات قديمة؛ لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال متصفا بها، وصفات الله الذاتية والخبرية كلها قديمة، إما صفاته الفعلية فهي قديمة الجنس، حادثة النوع والآحاد، لذلك فإطلاق الوصف على صفات الله بأنها قديمة ليس بصحيح.

وقول المؤلف رحمه الله: (كذاته) أي ذات الله تعالى.

فأصل الذات كلمة مولدة بالمعنى المراد بها؛ لأن المراد بها عند القائلين - كلمة ذات وصفات - أرادوا بها: النفس، فذات الإنسان يعني نفس الإنسان، فالله سبحانه وتعالى لم يعبر عن نفسه بالذات، إنما عبر عن نفسه بالنفس فقال:(وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ)(آل عمران: الآية 28) وقال عز وجل عن عيسى عليه الصلاة والسلام: (تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ)(المائدة: الآية 116) وأصل الذات في اللغة العربية بمعنى صاحبة، فيقال مثلا: ذات علم، ذات

ص: 158

قدرة، ويقال لامرأة: ذات جمال، فهي ذات بمعنى صاحبة تضاف إلى صفة، نقلها المتكلمون من كونها تضاف إلى صفة وجعلوها اسما للموصوف.

فقالوا: كل موصوف قائم بنفسه فهو ذات، فمثلا أصل ذات الله يعني ذات الإلوهية، فنقلوا كلمة ذات إلى الشيء القائم بنفسه وقطعوه عن الإضافة، ولم تكن من كلام العرب، ولا يعرفها العرب بهذا المعنى؛ أي بأنها قائمة مقام النفس. لكن هم لما قالوا:((ذات علم)، قالوا: إن علم) صفة، و ((ذات) موصف، فأطلقوا على الموصوف اسم ذات، فقالوا: الذات، والصفات بدل الله وصفاته، لكن لا مشاحة في الاصطلاح، فإن العلماء رحمهم الله تقبلوا هذا، وصاروا يقولون: ذات وصفات، صفات الذات وصفات الأفعال، وإلا فهي في الأصل ليست من كلام العرب.

وذات الله تعالى قديمة، والقديم عند المتكلمين هو الذي لا ابتداء له، وليس هو القديم في اللغة العربية، بل القديم في اللغة العربية هو ما سبق غيره، ولو كان حادثا، إما القديم عند المتكلمين فهو الذي لم يسبق بعدم، بل دائما وأبدا موجود، فالذي لا أول له - أي لم يسبق بعدم - هو القديم عند المتكلمين، لكن اللغة العربية تقول: إن القديم ما تقدم غيره ولو كان حادثا، ومنه قوله تعالى:(حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ)(يّس: الآية 39) .

وصفات الله سبحانه وتعالى كلها كمال، سواء كانت مطلقة أو مقيدة، فما كان كمالا محضا فهو مطلق؛ أي في كل حال وغير مقيد، وما كان كمالا في حال دون حال فهو مقيد.

ص: 159

فمثلا الخلق والزرق والكلام وما أشبه ذلك، هذا كمال مطلق، فيوصف الله به على الإطلاق، فيقال: إن الله متكلم رازق خالق، وما أشبه ذلك.

وما كان كمالا في حال دون حال فإنه لا يجوز إطلاقه على الله، وإنما يوصف به مقيدا، مثل المكر، والخديعة، والاستهزاء، والكيد، فهذا يكون كمالا في حال ونقصا في حال، فلا يوصف الله به إلا على وجه الكمال.

فالمكر مثلا لا يجوز أن تصف الله بالمكر على سبيل الإطلاق فتقول: إن الله ماكر، فهذا حرام؛ لأنه يفهم من ذلك النقص والعيب، فإن المكر عند الإطلاق صفة قدح وذم، لكنه عند المقابلة يكون صفة مدح، فتقو: إن الله يمكر بمن يمكر به وبرسله، وهنا صار المكر صفة كمال ومدح، أي انه أعلى من مكر أعدائه. كذلك إذا وصفت المكر بما يدل على الكمال فلا باس، مثل أن تقول: الله خير الماكرين، كما قال الله تعالى:(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّه)(الأنفال: الآية 30) ثم قال: (وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)(الأنفال: الآية 30)

وكذلك الخداع لا يجوز أن تصف الله بأنه خادع، أو من صفاته الخداع على سبيل الإطلاق، لكن يجوز أن تصفه به على سبيل المقابلة، فتقول: إن الله تعالى يخدع المنافقين، أو خادع المنافقين، أو خادع من يخدعه، أو ما أشبه ذلك؛ لأنها في هذه الحال تكون صفة كمال، ولا يجوز أن تصفه بها على سبيل الإطلاق لأنها تحتمل معنى صحيحا ومعنى فاسداً.

أما ما كان نقصا من الصفات فإنه لا يدخل في صفات الله عز وجل أبدا، وإنما جاء الكلام عليه في التقسيم من أجل الحصر.

فصفات النقص لا تدخل في صفات الله تعالى أبدا، لا علي سبيل

ص: 160

الإطلاق؛ ولا على سبيل التقييد، مثال ذلك: الخيانة، فالخيانة لا تدخل في صفات الله؛ لأنها ذم وقدح بكل حال، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:((لا تخن من خانك)(1) وقال: ((الحرب خدعة)) (2) ، فأذن بالخدعة في محلها وهو الحرب، ونهى عن الخيانة في محلها. فقال:((لا تخن من خانك) .

مع أن الإنسان قد تسول له نفسه أن يخون من خانه؛ لأن الله تعالى قال: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ)(البقرة: الآية 194)، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:((لا تخن من خانك) فإذا ائتمنك إنسان بشيء وقد خانك من قبل فلا تخنه فيه؛ لأن الخيانة وصف ذم على الإطلاق، وبهذا نعرف خطأ قول العامة: خان الله من يخون. فهذا القول لا يجوز، وهو قول باطل. لكن لو قيل: خدع الله بمن يخدع. فهذا صحيح.

إذا يمكن أن نقول: إن الصفات بالنسبة لله عز وجل على ثلاثة أقسام:

1-

صفات كمال محض: فهذه يوصف بها على سبيل الإطلاق.

2-

وصفات كمال في حال دون حال: فلا يوصف بها إلا مقيدا بالحال التي تكون فيها كمالا.

3-

وصفات نقص على الإطلاق: فلا يوصف الله بها مطلقا.

فإذا قال قائل: هل هناك فرق بين الأسماء والصفات في هذا الباب؟ بمعنى أن الاسم إذا كان متضمنا لنقص فإنه لا يسمى به الله في حال الكمال؟

فالجواب: لا؛ لأن الله تعالى قال في الأسماء: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)

(1) رواه الترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي للمسلم، أن يدفع إلي الذمي الخمر، رقم (1264) .

(2)

رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الحرب خدعة ـ رقم (3029) ، ومسلم، كتاب الجهاد والسير باب جواز الخداع في الحرب، رقم (1740) .

ص: 161

(الأعراف: الآية 180) ، أي البالغة في الحسن كمالها، وحينئذ لا يسمى الله تعالى باسم يتضمن نقصا ولو في بعض الأحوال.

ولهذا لا يسمى الله بالمتكلم مع أن الله يخبر بأنه متكلم ويوصف بذلك، فلا تقول: يا متكلم اغفر لي، وكذلك يوصف الله بالإرادة لكن لا يسمى بالمريد. فلينتبه للفرق: وهو أن الأسماء الحسنة من القسم الأول فقط، أي أنها من الكمال المطلق فقط، فلا تتضمن كمالا ونقصا في حال دون حال، بل هي كمال مطلق، والدليل على ذلك وصف الله تعالى إياها بأنها حسنى.

بخلاف الصفات - التي كما سبق - منها الكمال المطلق الذي يوصف الله به على سبيل الإطلاق، والنقص المطلق، وهذا لا يوصف الله به مطلقا، والكمال في حال دون حال، وهذا يوصف به الله حال كونه كمالا، ولا يوصف به حال كونه نقصا.

قال المؤلف رحمه الله: ((أسماؤه ثابتة عظيمة) : أسماء الله سبحانه وتعالى ثابتة عظيمة، (ثابتة) : بمعنى أنها حق واقع يجب الإيمان بها وإثباتها. (عظيمة) لاشتمالها على أحسن الصفات وأكملها، قال تعالى:(وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)(الأعراف: 180)

وأسماء الله سبحانه وتعالى البحث فيها من عدة أوجه:

البحث الأول: أسماء الله سبحانه وتعالى كلها حسنة ليس فيها نقص بوجه من الوجوه ولا بحال من الأحوال، قال الله تعالى:(وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)

ص: 162

(الأعراف: 180)) . وقال تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ)(الحشر: 23)(هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)(الحشر: الآية 24) فوصفها باسم التفضيل فليس فيها نقص بوجه من الوجوه.

البحث الثاني: أن أسماء الله تعالى مشتقة، أي أنها تتضمن معاني وأوصافا فكل اسم منها يتضمن الصفة التي اشتق منها، حتى اسم (الله) يتضمن صفة وهي الإلوهية، فأسماء الله تعالى إذاً أعلام دالة على صفة، ولولا ذلك ما كانت حسنى، لأنها إذا لم تتضمن معنى صارت أسماء جامدة لا معنى لها، وإذا كانت أسماء جامدة لا معنى لها فلا توصف بالحسنة، والله عز وجل وصفها بأنها حسنة أي بالغة في الحسن كماله.

إذا ما من اسم إلا ويتضمن صفة وقد يتضمن بعضها صفتين أو أكثر، عن طريق الالتزام، يعني من باب دلالة اللزوم أو الالتزام.

فمثلا الخلاق من أسماء الله، قال تعالى:(إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)(الحجر: 86) ، فالخلاق يتضمن صفة الخلق، ويستلزم صفة العلم والقدرة إذ لا خلق إلا بعلم وقدرة، فهو إلى على الخلق بمقتضى مادته، ودال على العلم والقدرة بلازمه، فالخلاق دال على الخلق بمقتضى المادة، لأن الخلاق من الخلق، ودال على العلم والقدرة دلالة التزام؛ لأن من لازم الخلق العلم والقدرة، فمن لا علم عنده لا يمكن أن يخلق، إذ كيف يخلق وهو لا يعرف أن يخلق؟ ومن لا قدرة عنده لا يخلق؛ إذ كيف يخلق وهو ضعيف؟

ونضرب مثلا في الإنسان، فإذا قيل لإنسان: اصنع لنا مسجلا، وهو

ص: 163

إنسان عنده المواد الخام، وعنده قدرة ونشاط وذكاء، لكن ليس عنده علم. فهذا لا يمكن أن يصنع المسجل لعدم علمه.

وإذا كان هناك إنسان عنده علم، فهو مهندس ودارس ويقرأ ويعرف، لكنه مشلول لا يقدر أن يصلح شيئا، فهذا لا يقدر أن يصنع المسجل لعدم القدرة.

إذا اسم الله الخلاق تضمن ثلاث صفات: الخلق، والعلم، والقدرة، ولهذا قال الله عز وجل:(اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً)(الطلاق: 12) ، يعني أخبرناكم بذلك لتعلموا أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما، ولولا علمه وقدرته ما خلق السموات والأرض.

ويعبر عن هذا البحث بأن أسماء الله أعلام وأوصاف، فباعتبار دلالتها على الذات هي أعلام؛ وباعتبار دلالتها على المعاني هي أوصاف.

ويترتب على هذا البحث: هل أسماء الله متباينة أو مترادفة؟

والجواب أن نقول: إما باعتبار دلالتها على الذات فهي مترادفة؛ لأنها دلت على شيء واحد وهو الله، وأما باعتبار دلالتها على المعنى فهي متباينة؛ لأن لكل اسم منها معنى غير المعنى في الاسم الآخر.

والمترادف: هو متعدد اللفظ متحد المعنى، والمتباين: هو متعدد اللفظ والمعنى، فحجر وإنسان متباين؛ لأن اللفظ مختلف والمعنى مختلف، وبشر وإنسان مترادف؛ لأن اللفظ متعدد والمعنى واحد.

فالله والرحمن، والرحيم، والملك، والقدوس، والسلام، إلى آخر ما

ص: 164

ذكر في سورة الحشر باعتبار دلالتها على الله، فهي مترادفة لأنها تدل على شيء واحد، وباعتبار دلالة كل واحد منها على معناه فهي متباينة.

الوجه الثالث: أسماء الله عز وجل غير محصورة بعدد معين، ولا يمكن حصرها لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور - حديث ابن مسعود رضي الله عنه في دعاء الغم والهم قال: ((أسالك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي

) (1) إلى آخره، الشاهد قوله:((أو استأثرت به في علم الغيب عندك) وهذا يدل على أن من أسماء الله ما استأثر الله به، وما استأثر الله به فلا يمكن الوصول إليه؛ لأنه لو أمكن الوصول إليه لم يكن مستأثرا به، ولهذا قال:((استأثرت به في علم الغيب عندك) ، فإذا ليست أسماء الله محصورة، ولا يمكن حصرها.

فإذا قال قائل: كيف نجمع بين هذا وبين قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة) ؟ (2)

فالجواب: أن هذا الحديث الثاني لا يدل على الحصر، وإنما يدل على حصر معين، وهو أن من أسماء الله تسعة وتسعين اسما إذا أحصيتها دخلت الجنة، يعني إذا أحصيت تسعة وتسعين اسما من أسماء الله فانك تدخل الجنة.

ونظيره لو قلت: عندي عشر سيارات أعددتها لحمل البطحاء، فليس

(1) رواه احمد (1/391) ، والطبراني في الكبير (10/169) وابن أبي شيبة (6/40) وأبو يعلي (9/199) .

(2)

رواه البخاري، كتاب الشروط، باب ما يجوز من الاشتراط، رقم (2736) ، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء باب في أسماء الله تعالى..، رقم (2677) .

ص: 165

معنى ذلك انه ليس عندك إلا هذه العشر، لكن هذه العشر خصت بأنها معدة لحمل البطحاء، وقد يكون عندك سيارات أخرى معدة لحمل الخشب، وأخرى معدة لحمل الرجال، وأخرى لحمل الأمتعة، ومثل هذا التعبير لا يدل على الحصر.

فإذا قال قائل: ما الفائدة من هذا الكلام إذا قلنا إنه لا يدل على الحصر؟

قلنا: الفائدة من أجل أن يبحث المكلف عن هذه الأسماء من الكتاب والسنة حتى يدركها، وإلا لسردها لنا النبي صلى الله عليه وسلم سردا ونستريح، لكن من أجل أن يبتلي الله الإنسان الحريص من غير الحريص. فالحريص هو الذي يبحث عن الشيء حتى يصل إليه وغير الحريص هو الذي يقول إن كان الشيء سهلا أخذته، وإن كان صعبا يحتاج إلى مراجعة والى بحث فلا حاجة لي به.

البحث الرابع: حكم التسمي بأسماء الله سبحانه وتعالى؟

إن من أسماء الله ما لا يسمى به غيره، مثل الله، فلا يمكن أن نسمي أحداً بهذا الاسم لا على سبيل إرادة المعنى، ولا على غيره، كذلك اسم الرحمن أيضاً، قال العلماء رحمهم الله: لا يجوز أن يسمى به غيره ولا يوصف به غيره؛ لأن الإلوهية والرحمة الواسعة الشاملة التي هي وصف لازم للراحم؛ هذه لا تكون إلا لله.

أما بقية الأسماء فهي إن قصد بها ما يقصد بأسماء الله من الدلالة على العلمية والوصفية فإنها ممنوعة، وإن قصد بها مجرد العلمية فليست ممنوعة،

ص: 166

فالحكم والحكيم من أسماء الله، فإذا سمينا شخصا بالحكم أو بحكيم ولم نقصد معنى الحكمة فيه ولا معنى الحكم فهنا لا باس به، وفي الصحابة رضي الله عنهم من اسمه حكيم، وفيهم من اسمه الحكم.

وإن قصدنا بذلك المعنى الذي اشتققنا منه هذا الاسم فهذا لا يجوز، لأن هذا من خصائص أسماء الله، فهي التي يراد بها الاسم والوصف، ولهذا إذا سمينا رجلا بصالح فإنه جائز ولا يغير الاسم، لأننا ما قصدنا بذلك التزكية، أي وصفه بالصلاح وأننا ما سميناه صالحا إلا لأنه صالح؛ سمينا صالحا مجرد علم.

كذلك إذا سمينا شخصا بسلمان فليس لأنه سالم، بل قد يكون من أتعس الناس، يوما تكسر رجله، ويوما تكسر يده؛ ويوما يفلق رأسه، ويوما يخدش ظهره، وليس فيه السلامة، ومع ذلك نسميه سلمان، وكذلك سليمان. فالمهم انه إذا لم يقصد المعنى في الاسم فإنه جائز لمجرد العلم فقط.

البحث الخامس: أن أسماء الله تعالى توقيفية وليس لنا أن نسمي الله بما لم يسم به نفسه.

قال المؤلف رحمه الله: (لكنها في الحق توقيفية) : (لكنها) : أي أسماء الله عز وجل، (في الحق) أي في القول الحق الصحيح، (توقيفية) أي موقوفة على ورود الشرع بها، والتوقيفي هو الذي يتوقف إثباته أو نفيه على قول الشارع، فهي توقيفية لا يجوز لنا أن نسمي الله بما لم يسم به نفسه.

ص: 167

ودليل ذلك من الأثر والنظر:

أما من الأثر: فقوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(الأعراف: 33) وإثبات اسم من أسماء الله لم يسم به نفسه هذا من القول عليه بلا علم، فيكون حراما، وقال تعالى:(وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)(الإسراء: 36) وإثبات اسم لله لم يسم به نفسه من قفو ما ليس لنا به علم.

أما من النظر: أولا: فلأن اسم المسمى لا يكون إلا بما وضعه لنفسه، وإذا كان الناس يعدون من العدوان أن يسمى الإنسان بما لم يسم به نفسه أو بما لم يسمه به أبوه، فإن كون ذلك عدوانا في حق الخالق من باب أولى، فلو أن رجلا اسمه محمد وناداه آخر: يا عبد الله، وكلما ناداه أو راسله سماه عبد الله، لغضب من ذلك، ورأى أن ذلك تعد عليه، فإذا كان هذا في حق المخلوق، فهو في حق الخالق أعظم.

ثانياً: من الدليل النظري أيضاً أن الله قال: ((وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى)(الأعراف: الآية 180)) ، الحسنة البالغة في الحسن كماله، وأنت إذا سميت الله باسم فليس عندك علم أنه بلغ كمال الحسن، بل قد تسميه باسم تظن انه حسن، وهو سيئ ليس بحسن.

وهذا أيضاً دليل عقلي يدل على انه لا يجوز أن نسمي الله بما لم يسم به نفسه. فهذه أربعة أدلة؛ دليلان أثريان أو شرعيان؛ ودليلان عقليان نظريان.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (لنا بذا أدلة وفيه) . (لنا بذا) : المشار إليه

ص: 168

القول بأنها توقيفية. (أدلة وفية) أي كافية وافية بالمقصود.

وهنا يرد سؤال وهو: هل الصفات كالأسماء توقيفية؟

والجواب: سبق أن ذكرنا أن الصفات ثلاثة أقسام: كمال محض، ونقص محض، وكمال في حال دون حال.

فالكمال المحض يوصف الله به، والنقص المحض لا يوصف الله به، والمتردد بين هذا وهذا يوصف الله به في حال الكمال، ولا يوصف به في حال النقص ولا على الإطلاق، أي أن الذي يكون كمالا في حال دون حال يوصف الله به مقيدا في حال الكمال.

إذا فليست كالأسماء توقيفية.

ولهذا يمكن أن نشتق من كل فعل من أفعال الله صفة، فنقول: إن الله تعالى مزجي السحاب لقوله: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً)(النور: الآية 43) ونقول: إن الله تعالى ماكر بمن يمكر به لقوله: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ)(الأنفال: 30)، ونقول: إن الله مستهزئ بمن يستهزئ به لقوله: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ)(البقرة: 15) لما قالوا: (إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ)(البقرة: 14)، ونقول: إن الله خادع من يخدعه لقوله: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ)(النساء: 142) وعلى هذا فقس.

مسألة: ما الضابط في التفريق بين الأسماء والصفات؟

نقول: الضابط هو أن ما دل على معنى وذات فهو اسم، وما دل على معنى فقط فهو صفة.

ص: 169

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

36-

له الحياة والكلام والبصر

سمع إرادة وعلم واقتدر

37-

بقدرة تعلقت بممكن

كذا إرادة فع واستبن

ــ

الشرح

شرع المؤلف رحمه الله في بيان الصفات على سبيل التفصيل، فقال:(له الحياة) : له: الضمير يعود على الله عز وجل (الحياة والكلام والبصر سمع) هذا على تقدير عاطف، أي: وسمع، (إرادة) كذلك على تقدير عاطف، أي: وإرادة وعلم (واقتدر) أي القدرة.

فهذه سبع صفات أثبتها المؤلف رحمه الله لله عز وجل، وقد يظن أن في كلامه هنا إيهاما بأنه لا يثبت إلا هذه الصفات السبع، ولكن له كلام آخر بأنه يجب إثبات كل ما وصف الله به نفسه في قوله فيما سبق:

فكل ما جاء من الآيات

أو صح في الأخبار عن ثقات

من الأحاديث نمره كما

قد جاء فاسمع من نظامي واعلما

فن كلامه السابق يدل على إننا نثبت لله تعالى كل ما أثبته لنفسه من الصفات.

قال هنا ولا: (له الحياة) أي لله عز وجل، و (أل) في الحياة هنا للاستغراق، يعني الحياة الكاملة، أو لبيان الحقيقة، وتعرف الحقيقة بحسب ما تضاف إليه الصفة، فالحياة المضافة إلى الله ليست كالحياة المضافة إلى البشر

ص: 170

أو إلى المخلوق على صفة العموم، فحياة الله عز وجل أزلية أبدية، أي لم يزل ولا يزال حيا، ثم هي حياة أيضاً كاملة لا يعتريها نقص بوجه من الوجوه، قال الله سبحانه وتعالى:(وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ)(الفرقان: من الآية 58) فهذا فيه الامتناع عن زوال هذه الحياة، وقال تعالى:(اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)(البقرة: الآية 255) وهذا منع لوصفها بالنقائص، فهي حياة كاملة ليس فيها سنة ولا نوم، حياة دائمة ليس فيها موت، حياة أزلية لأنها لم تسبق بعدم، وكل حياة البشر بل كل المخلوقات حياتها مسبوقة بعدم، وكذلك أيضاً جميع حياة الإحياء قابلة للزوال غير الله عز وجل، حتى ما خلق للبقاء كالروح، وغلمان أهل الجنة، والحور؛ هذه خلقت للبقاء وستبقى، لكنها قابلة للزوال لو شاء الله تعالى لأهلكها.

إما حياة الله عز وجل فإنها غير قابلة للزوال ولا للنقص ولا للابتداء، فيستحيل عليه ابتداء الحياة وزوالها ونقصها، ولهذا قال الله عز وجل:(لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)(البقرة: 255) بخلاف حياة الإنسان فإنه وإن حاول أن يمتنع عن النوم فلابد أن يأخذه النوم أو يهلك، ولهذا عبر بقوله:(لا تَأْخُذُهُ) : أي لا تغلبه، ولم يقل: لا ينام؛ لأن البشر قد يحاول إلا ينام، ولكن لو حاول أن لا ينام فلنقصه؛ لأنه لابد أن تأخذه السنة والنوم أو يهلك.

إما الرب عز وجل فلا تأخذه السنة ولا النوم، وفي الحديث الصحيح:((إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام)(1) فانتفى بذلك غلبة النوم والسنة عليه عز وجل بنص القرآن، وأنه لا ينام ولا بإرادته؛ لأن ذلك من المستحيل عليه، لقوله:((ولا ينبغي له أن ينام) ؛ لأن النوم نقص، ونحن إنما ننام لنقصنا لا

(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب في قوله عليه الصلاة والسلام:((إن الله لا ينام وفي قوله حجابه النور لو كشفه لأحرق سبحات وجهه ما انتهي إليه بصره من خلقه)) ، رقم (179)

ص: 171

لكمالنا، ننام من أجل الراحة مما مضى واستجلاب القوة لما يستقبل أما الله عز وجل فإنه لم يزل ولا يزال قويا، وخلق السموات والأرض في ستة أيام وما مسه من لغوب.

فالحاصل أن الله له الحياة الكاملة أزلا: ابتداء وانتهاء واستمرارا، فابتداء حيث لم تسبق، وانتهاء حيث لا يلحقها زوال، واستمرارا حيث أنها حياة كاملة لا يعتريها سنة ولا نوم ولا نقص بأي نوع من أنواع النقص:(لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ)(البقرة: 255) .

ثانياً: (له الكلام) : فهو سبحانه وتعالى يتكلم، والكلام كمال، ولهذا يعد الخرس عيبا ونقصا، فله الكلام، وكلامه سبحانه وتعالى بحرف وصوت؛ لأننا نجد أن ما يتكلم الله به حروف، ونعلم أن كلامه يسمع ويرد عليه.

أما الأول: وهو أن كلامه بحرف، فهو أشهر من أن يذكر، فكل الكلام الذي ذكره الله عن نفسه نجده بحروف، فمثلا القرآن الكريم سماه الله تعالى كلاما له، فقال:(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ)(التوبة: الآية 6) ومعلوم أن القرآن حروف، ثم إن الله يقول:(وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ)(المائدة: الآية 116)، (إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) (صّ: 71)) ، (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) (البقرة: الآية 35) ، كل هذه المقولات حروف متتابعة وليست متقارنة، فقوله:(يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ)(آل عمران: الآية 55) ، فعيسى بعد ((يا)، وقوله:((إني متوفيك) بعد عيسى فهي متتابعة بعضها بعد بعض، وليست متقارنة ولا يمكن أن تكون متقارنة.

وكذلك فكلام الله بصوت، لقوله تعالى:(وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً)(مريم: 52) فالمناداة بصوت مرتفع، والمناجاة بصوت.

ص: 172

منخفض، وكل ذلك وصف الله به نفسه قال:(وَنَادَيْنَاهُ) وقال: (وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً) فهذه كلها صفة للصوت.

وفي السنة ((يقول الله تعالى: يا آدم! فيقول: لبيك وسعديك. فينادى بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار)(1)

ثم إن المحاورة التي تقع بين الله وبين رسله تكون بشيء مسموع بلا شك، فإن موسى عليه الصلاة والسلام لما كان الله يحاوره قال:(وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى)(طه: 17)(قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى)(طه: 18)(قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى)(طه: 19)(فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى)(طه: 20)(قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى)(طه: 21) وموسى صلى الله عليه وسلم كان يسمع هذا ولا يمكن أن يسمع شيئا بلا صوت، فلابد من صوت. فكلام الله إذا بحرف وصوت.

وكلام الله أيضاً يتعلق بمشيئته ابتداء وانتهاء وكيفية، يعني متى شاء تكلم، ومتى شاء لم يتكلم، وبكيفية يشاءها، إن شاء تكلم بصوت مرتفع، وإن شاء تكلم بصوت غير مرتفع، إن شاء تكلم بالعربية، ،إن شاء تكلم بغير العربية فكلامه مع موسى بغير العربية؛ لأنه لو كلم موسى بالعربية ما فهم موسى شيئا، وكلامه لمحمد صلى الله عليه وسلم بالعربية، ولو تكلم بغير العربية ما فهمه محمد صلى الله عليه وسلم، إذا يتكلم كيف شاء ابتداء وانتهاء وكيفية.

ولهذا نجد أن المحاورة التي مع موسى لها ابتداء وانتهاء: (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى) ابتداء بالواو وانتهاء بالألف من قوله: (يَا مُوسَى)، قال:

(1) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب وترى الناس سكارى، رقم (4741) .

ص: 173

(أَلْقِهَا يَا مُوسَى) ابتداء بالهمزة وانتهاء بالألف.

والمهم أن الله عز وجل يبتدئ بالكلام وينتهي بالكلام، ويتكلم كذل كيف يشاء باللغة التي يشاء، فيكلم محمدا بالعربية ويكلم موسى بالسريانية، وهذا هو الظاهر لنا، وإن كان من الجائز أن يكلمه الله بالعربية، وان يلقي له فهما خاصا في تلك اللحظة يفهم به اللغة العربية، وهذا جائز عقلا، لكنه خلاف الظاهر، ونحن ليس لنا إلا الظاهر، إما ما وراء الظاهر فلا نعلمه، فمن ادعاه فعليه الدليل، فالله عز وجل يتكلم كيف شاء، وكذلك يتكلم بما شاء، بالأمر والنهي والخبر والاستخبار الذي هو الاستفهام وغير ذلك، ويتكلم بما شاء؛ لأن له الملك المطلق والتدبير المطلق، فله أن يتكلم بما شاء من الكلام، متى شاء، لأن الكلام يتعلق بمشيئته فمتى شاء تكلم، فالكلام الذي حصل لموسى كان حين أرسله، وكان حين جاء للميقات، قال تعالى:(وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ)(الأعراف: الآية 143) فيتكلم في أي وقت شاء، وكلامه في أي وقت شاء ضروري وهو أمر يوجبه العقل؛ لأننا نشاهد المحدثات لا تحدث إلا بإرادته، وإذا أراد شيئا فإنما يقو له: كن فيكون، إذا لابد أن يتعلق الكلام بمشيئته، متى شاء تكلم بما يريد عز وجل من الكلام الكوني ومن الكلام الشرعي.

المهم أن كلام الله تعالى يتعلق بمشيئته، ولهذا قال أهل العلم من أهل السنة: إن الله يتكلم بحرف وصوف، بما شاء، متى شاء، كيف شاء.

وهذا مذهب أهل السنة والجماعة في كلام الله عز وجل، وهو مذهب تؤيده الأدلة الشرعية والأدلة العقلة والأدلة اللغوية؛ لأن الكلام لا يعقل إلا

ص: 174

بحرف وصوت.

وقال أهل البدع قولا كثيرا في الكلام بلغ إلى ثمانية أقوال بالإضافة إلى قول أهل السنة والجماعة، ذكرها ابن القيم رحمه الله، في مختصر الصواعق المرسلة (1)، ونذكر منها قولين مشهورين:

القول الأول: قول الجهمية والمعتزلة وأتباعهما، يقولون: إن الله تعالى يتكلم بكلام يسمع، وبحرف، ومتى شاء، وبما شاء، ولكن ليس كلامه صفة فيه، بل كلامه مخلوق من مخلوقاته بائن منه، يخلق كلاما في الهواء أو في جهة معينة، ثم يسمع فيضاف إلى الله إضافة تشريف وخلق، كما أضاف الله إلى نفسه البيت في قوله:(وَطَهِّرْ بَيْتِيَ)(الحج: الآية 26)، وكما أضاف إلى نفسه الناقة في قوله:(نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا)(الشمس: الآية 13) وكما أضاف إلى نفسه المساجد في قوله: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ)(البقرة: الآية 114) فيقولون: إن إضافة الكلام إليه لا لأنه تكلم به وأنه صفة من صفاته، ولكن لأنه خلق، إما الله عز وجل فمحال أن يتكلم بكلام، وإنما يخلق كلاما في غيره ثم يضيفه إليه على سبيل التشريف والتكريم والتعظيم

أما مناداة إله لموسى في قوله تعالى: (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ)(مريم: الآية 52) فيقولون فيها: خلق الله في جانب الطور الأيمن صوتا نادى موسى من الشجرة: (أَنْ يَا مُوسَى)(القصص: الآية 30) فيزعمون أن الله خلق كلاما في الشجرة فسمعه موسى عليه الصلاة والسلام، فنقول: سبحان الله! كيف

(1) مختصر الصواعق المرسلة 2/472

ص: 175

يضيف الله سبحانه وتعالى الكلام إلى نفسه: (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ)(مريم: الآية 52) ويضيفه إلى نفسه في محاورته لموسى، ثم تقولون: إنه من الشجرة؟!

وعلى قاعدتكم هذه نقول: كل كلام يمكن أن يكون كلام الله، حتى كلام البشر يمكن أن نقول: إنه كلام الله؛ لأنه مخلوق في الإنسان، بل إن كلام البشر على قاعدتكم يكون أشرف من كلام الله، لأنه مسموع من البشر، الذي فضله الله على كثير ممن خلق تفضلا، وكلام الله عندكم مسموع من شجرة أو من جانب جبل أو ما أشبه ذلك!!

ومن ثم ادعى أهل الحلول أن كل كلام فهو كلام الله، حتى نعيق الطيور وأصواتها كلام الله، وقال قائلهم:

وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه

يعني كل كلام في الوجود فهو كلام الله، حتى من يتكلم باللعن والسب والشتم ويشتم الله ورسله وكتبه، فكل هذا يعتبر - والعياذ بالله - كلام الله عند أهل الحلول وهذا غير معقول.

لكن هذا القول وإن كان الجهمية والمعتزلة ينكرونه، لكنه لازم لهم؛ لأنهم إذا اعتقدوا أن ما يضاف إلى الله من الكلام يكون كلام غيره، فلا فرق بين أن يكون كلام البشر، أو كلام الشجرة، وجانب الطور، وما أشبه ذلك.

وعلى هذا المذهب لا يوصف الله تعالى بالكلام في الواقع، وإنما يوصف بأنه خالق الكلام، ومن ثم بنوا على هذا قولهم: إن القرآن مخلوق، وغير منزل واستدلوا بقوله تعالى:(اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)(الزمر: الآية 62) ، والكلام شيء

ص: 176

فيكون مخلوقا غر منزل، وقالوا: حتى لو قلنا انه منزل فليس كل منزل غير مخلوق؛ فالله انزل من السماء ماء، والماء النازل من السماء مخلوق، وقال تعالى (وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ) (الزمر: الآية 6) والأنعام مخلوقة، (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) (الحديد: الآية 25) والحديد مخلوق. فانظر كيف التلبيس! وهو من تلبيس إبليس، فبماذا نجيبهم على شبهتهم هذه؟!

نقول: إن المنزل إما أن يكون عينا قائمة بنفسها وحينئذ يكون خلوقا؛ لأنه بائن من الله عز وجل، وإما أن يكون وصفا لا يقوم إلا بغيره، وحينئذ يجب أن يكون من صفات الله، والكلام وصف لا يقوم إلا بغيره، وحينئذ إذا أضاف الله الكلام إلى نفسه فهو صفة من صفاته، إما الحديد فلا يكون من صفات الله، والماء النازل من السماء ليس من صفات الله، وكذلك الأنعام: الإبل والبقر والغنم ليست من صفات الله، بل هي أعيان قائمة بنفسها، أضافها الله تعالى إلى نفسه إضافة خلق وتكوين، وليست إضافة صفة إلى موصوفها.

ويمكن الرد عليهم فيما استدلوا به كما يلي:

أولا: أما الآية التي استدلوا بها، وهي قوله تعالى:(اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)(الرعد: الآية16) أي كل شيء يصلح للخلق، أي خالق كل شيء مخلوق، وأما القرآن فهو صفة من صفات الله عز وجل، وصفات الله غير مخلوقة، لأن الصفة تابعة للموصوف.

وأيضا فإن هذه الآية الكريمة تدل على خالق ومخلوق، فيجب أن يكون

ص: 177

المخلوق مخلوقا بائنا منفصلا عن خالقه، كما لو قلنا: صانع ومصنوع، فإننا إذا قلنا مثلا هذا صانع للقدر، فالقدر ليس من صفاته بل هو بائن عنه.

إذا فالمخلوق الذي خلقه الله بائن عن الله عز وجل، ومن المعلوم أن الكلام معنى يقوم بالغير، وليس عينا قائمة بنفسها، فإذا أضافه الله إليه فهو من باب إضافة الصفة إلى موصوفها.

أما بالنسبة لقولهم: أن الله انزل الحديد والأنعام والمطر وهي مخلوقة، فنقول: هذه أعيان قائمة بنفسها، لا يصح أن تكون صفة لله عز وجل، بخلاف الكلام.

إذا ما احتجوا به فهو باطل، وهم إذا أنكروا كلام الله الذي هو وصفه وقالوا إنه مخلوق، فإن إنكارهم هذا في الحقيقة يقتضي إنكار الشرع والقدر، لأنه يقتضي أن تكون المخلوقات بغير كلام الله، بل بمخلوق مثلها، ويقتضي أيضاً أن يكون الشرع بغير وحي الله، بل بمخلوق من المخلوقات، ولا يقتضي إلزام الناس به لأنه مخلوق.

ولهذا ذكر ابن القيم رحمه الله في النونية (1) أن هذا القول يترتب عليه إبطال الخلق والأمر جميعا، لأنه لا يكون الخلق بقوله:((كن)) ، ولا الشرع بقوله:((افعلوا)) ، وإنما بأشياء مخلوقة بمخلوقة، وهذا إبطال للشرع والقدر.

وقد ذكرنا انه يلزم على قولهم - غير ما ذكر ابن القيم رحمه الله من إبطال الشرع والقدر - أن يكون كل كلام الناس كلام الله، لأنهم إذا ادعوا أن الكلام المخلوق يكون كلاما لله، فنقول: إذا كلام المخلوقات كلام لله لأنه

(1) أنظر القصيدة النونية 1/127

ص: 178

مخلوق، وهذا شيء ممتنع.

إما القول الثاني: فقول الأشاعرة حيث قالوا: إن كلام الله صفة من صفاته وليس بمخلوق، ولكن الكلام الذي نقر به هو المعنى القائم بنفسه، وليس الشيء المسموع الذي يكون بالحروف، فإن هذا الشيء المسموع الذي يكون بالحروف خلق من مخلوقات الله، خلقه الله تعبيرا عما في نفسه، وليس هو كلام الله، لكن إضافته إلى الله من باب المجاز، فتجوز عما كان عبارة عن الشيء فسمي به الشيء، فسمي كلام الله لأنه عبارة عنه، وليس هو كلام الله، بل الكلام هو المعنى القائم بالنفس، وهو أزلي أبدي لا يتعلق بمشيئته، بل هو وصف لازم له كلزوم الحياة والعلم والقدرة.

وعلى زعمهم هذا فهو لا يتكلم متى شاء، كما أنه لا يعلم متى يشاء، بل علمه لازم لذاته، فهم يقولون: الكلام لازم لذاته ولا يتعلق بمشيئته، وعلى ذلك فالجهمية والمعتزلة خير منهم من هذا الوجه؛ لأنهم يقولون: إن كلام الله يتعلق بمشيئته لكنه مخلوق، وهم يقولون لا يتعلق بمشيئته ولا بإرادته.

ثم يقولون: إن ما يسمعه محمد صلى الله عليه وسلم وموسى وغيرهما من كلام الله، إنما هو شيء مخلوق، فهم قد شاركوا الجهمية والمعتزلة في أن ما يسمع مخلوق، لكن الجهمية قالوا: هو كلام الله، وهؤلاء قالوا: عبارة عن كلام الله، فوافقوا الجهمية في أن المسموع مخلوق، وخالفوهم في أنهم قالوا: إنه عبارة، وهؤلاء قالوا: إنه حقيقة.

فصار المعتزلة والجهمية خيراً منهم من هذا الوجه؛ لأن الجهمية والمعتزلة يقولون هذا كلام الله، وهم يقولون: هذا ليس كلام الله، بل هو عبارة عن كلام الله، مع أن الله يصرح أنه كلامه، لكنهم يقولون: لا، بل هو عبارة عن

ص: 179

كلام الله.

ونحن نقول: إن دعواهم بان الكلام هو المعنى القائم بالنفس هذه دعوى يكذبها الشرع وتكذبها اللغة وإذا كانت يكذبها الشرع وتكذبها اللغة فهي باطلة.

أما الشرع: فلأن الله تعالى وصف القرآن بأنه كلام الله، والأصل أن الصفة حقيقة في موصوفها، وهذا القرآن مسموع، وبحروف، ويتعلق بالمشيئة. فكذب دعواهم بأن الكلام هو المعنى القائم بالنفس.

وأما مخالفته للغة: فلأنه لا يقال في اللغة للكلام كلام حتى يخرج باللسان، وإنما يذكر الكلام القائم بالنفس كلاما مقيدا، فيقال حدث نفسه، ويقال: حديث النفس، ويقال يقول في نفسه، إما عند الإطلاق فإن القول والكلام لا يقال إلا لما يسمع ويكون بالحروف

فإذا قالوا: إن الله تعالى يقول: (وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُول)(المجادلة: الآية 8) قلنا: هذا رد عليكم وليس لكم، بل هو دليل عليكم وليس لكم؛ لأن الله لما أراد حديث النفس قال:(وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ) ولما أراد حديث اللسان قال: (بِمَا نَقُول) فأطلق، وذلك في قوله تعالى (لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُول) (المجادلة: الآية 8) ولم يقولوا: بما نقول في أنفسنا؛ لأنهم يقولون بألسنتهم، لكن يحدثون أنفسهم ويقولون: لولا يعذبنا الله بما نقول.

فحديث النفس لا يسمى قولا ولا كلاما ولا حديثا إلا مقيدا، وأما القول والحديث والكلام عند الإطلاق فإنما هو القول المسموع الذي يكون

ص: 180

بالحروف.

ثم إننا نقول لهم: أي فرق بين العلم والكلام على ما زعمتم، لأن حقيقة الأمر أنه إذا كان الكلام هو ما قدره الله في نفسه صار معناه العلم، فلا فرق بن العلم والكلام على زعمكم.

فإن قالوا: قال الشاعر:

إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا

قلنا: وهذا دليل عليكم أيضاً وليس لكم؛ لأن الشاعر يريد أن الكلام المعتبر هو الذي يخرج من القلب، ولكنه لا يسمى كلاما ولا يضاف إلى الإنسان حتى يقوم عليه الدليل، والدليل لا يكون إلا باللسان الذي ينطق فيسمع، ويكون بحروف.

هذا إذا تنزلنا وقبلنا أن نوافق على الاستشهاد بهذا البيت، وأما إذا قيل: إن القائل لهذا البيت هو الأخطل، فإنه لا ليل فيه؛ لأن الأخطل من النصارى، وهم يجوزون من الوهميات ما تجيزه العقول، فالنصارى يقولون: إن الله ثالث ثلاثة، ويقولون: نحن موحدون، وكيف يكون موحد من جعل الإله ثلاثة؟! فهم عندهم خطأ وعندهم ضلال، ولهذا وصفوا بأنهم ضالون، وإن قولا يستشهد له ويستدل له بأقوال النصارى لقول مبني على شفا جرف هار.

وعلى كل حال فنحن إذا سلمنا جدلا بالاستدلال بهذا البيت، فهو دليل عليهم لا لهم؛ لأن حقيقة القول أو حقيقة الكلام المعتبر، ما كان في القلب وعبر عنه اللسان، أما الكلام الذي لا يكون في القلب فهذا هذيان، فمثل

ص: 181

كلام النائم، أو المخرف البالغ من الكبر عتيا، لا يمكن أن نقول عنه انه كلام!

فمراد الشاعر: أن الكلام المعتبر هو الذي يكون في القلب، ثم يعبر عنه اللسان، ويدل عليه (إنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا) .

وعلى ذلك فإن الأشاعرة يخالفون أهل السنة في الكلام من وجوه:

أولاً: أنه معنى وليس بحرف وصوت.

ثانياً: أنه لازم لذات الله، ولا يتعلق بمشيئته وإرادته - وأهل السنة والجماعة يقولون: إنه متعلق بمشيئته وإرادته، فمتى شاء تكلم، ومتى شاء لم يتكلم.

وإذا قال قائل: على أي شيء بنى المعتزلة والأشاعرة قولهم؟

نقول: أما المعتزلة فبنوا قولهم على نفي الصفات عن الله؛ لأنهم ينفون صفة الكلام، وينفون أنه يتكلم. فهم يثبتون الأسماء ولا يثبتون الصفات.

وأما الأشاعرة فبنوا قولهم على امتناع قيام الحوادث بالله، وقالوا: الشيء الحادث الذي يقوم بالمشيئة لا يقوم بالله أبدا، قالوا: لأن الحادث لا يقوم إلا بحادث، فإذا قامت بالله الحوادث لزم من ذلك أن يكون حادثا، وهذا لا شك أنه خطأ.

أما مذهب المعتزلة والجهمية فظاهر خطؤه؛ لأنهم ينكرون جميع الصفات، ونحن نثبت لله جميع ما أثبته لنفسه.

وأما الأشعرية فنقول: من قال:، إن الحادث لا يقوم إلا بحادث؟! فقد يقوم الحادث بالقديم أي بالأزلي الأبدي، وهذا من كمال الله، أن يكون فعله متعلقا بمشيئته، وان يحدث من أمره ما شاء، ونقول لهم: ماذا تقولون في قوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(يّس: 82)

ص: 182

فالآية واضحة، بأنه عند إرادة الشيء يقول له كن فيكون.

والفاء في قوله: (كُنْ فَيَكُونُ) تدل على الترتيب والتعقيب، إذا فالأمر بالكون سابق للكون، لكنه مقارن يعني: متصل به (كُنْ فَيَكُونُ) .

فإن ادعوا أن المراد: يقول في الأزل: كن. فالجواب أن هذا خلاف الظاهر؛ لأن (كُنْ فَيَكُونُ) تدل على أن هذه عقب هذه، وهذا يستلزم أن يكون قوله حادثا عند وجود ما أراده عز وجل.

مسألة:

قال الأشاعرة: إن القرآن جاء به جبريل إلى محمد عليه الصلاة والسلام، وإذا جعلتموه صفة من صفات الله فكيف تنفك الصفة عن الموصوف؟ والجواب على هذا يسير؛ فأنا عندما أقول لشخص ما: بلغ فلانا بكذا وكذا، فالكلام كلامي أنا، وأما هذا فهو مبلغ فقط، فالكلام إنما يضاف إلى من قاله مبتدئا، لا إلى من قاله مبلغاً.

وهذا الكلام - أصلا - هو كلام الله، لكن تكلم جبريل به هذا مخلوق، إما المتكلم به فهو كلام الله، فعندما أقرأ (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الفاتحة: 2) (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ)(الفاتحة: 3)(مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)(الفاتحة: 4) فصوتي هذا مخلوق، لكن ما أصوت به هو صفة الله غير مخلوق

ولهذا وصف الله القرآن بأنه قول محمد صلى الله عليه وسلم وقول جبريل، ولا يمكن أن يكون قولا من قائلين؛ فقال تعالى:(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)(التكوير: 19)(ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ)(التكوير: 20) ، والمراد بالرسول هنا جبريل، وقال تعالى:(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)(الحاقة: 40)(وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ)

ص: 183

(الحاقة: 41)) ، والمراد بالرسول هنا محمد صلى الله عليه وسلم، فأضاف الله تعالى القول إلى محمد صلى الله عليه وسلم مرة، وأضافه مرة أخرى إلى جبريل.

ومن المعلوم انه قول القائل الأول له؛ وهو الله عز وجل وليس محمدا صلى الله عليه وسلم ولا جبريل؛ ويبين ذلك قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(الشعراء: 192)(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)(الشعراء: 193)) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (الشعراء: 194) ، وتنزيل رب العالمين هذا هو الأول من الثلاثة.

إذا فالكلام يضاف إلى أول من قاله، فلو قلت:(قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) . فالذي قال هذا الكلام هو امرؤ القيس، وأنا قلت هذا الآن، لكنني قلته إما مبلغ إن كنت قد أمرت بتبليغه، وإما حاكيا إن لم أؤمر بتبليغه.

ثالثاً: قال: (والبصر) ، يعني وله البصر، والبصر هو رؤية الأشياء، وقد أثبت الله في كتابه أنه بصير بما يعمل العباد، وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن لله بصراً في قوله:((حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)(1) ، وعلى هذا فالبصر ثابت لله تعالى بالكتاب والسنة.

لكن هذا الحديث الذي ذكرناه هو بصر الرؤية، إما بصر العلم فيستفاد من الآية، ولهذا نقول: إن بصر الله عز وجل نوعان: بصر رؤية، وبصر علم، وكلاهما يشمله قوله تعالى:(وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)(آل عمران: الآية 15) وقوله: (وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)(الحجرات: الآية 18) وما أشبه ذلك من الآيات، فإن هذا البصر شامل لبصر العلم وبصر الرؤية.

(1) رواه مسلم كتاب الإيمان في قوله عليه الصلاة والسلام إن الله لا ينام رقم179

ص: 184

أما قوله عليه الصلاة والسلام: ((لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) ، فإنه يختص ببصر الرؤية، وعلى كل حال فالبصر ثابت لله عز وجل، وهو من الصفات الذاتية التي لم يزل ولا يزال متصفا بها، فهو لم يزل ولا يزال عليما، ولم يزل ولا يزال بصيرا بخلقه عز وجل، أي يبصرهم.

ولا يلزم من البصر العين، ولولا النصوص الدالة على ثبوت العين لم يجز أن نثبتها بثبوت البصر، ولهذا كانت الأشاعرة يثبتون لله البصر ولا يثبتون له العين، فيقولون: إن الله يرى لكن لا بعين، فالعين لها نصوصها الدالة عليها والبصر له نصوصه الدالة عليه.

فإذا قال قائل: هل يمكن عقلا أن يرى بلا عين أو أن يحصل البصر بلا عين؟

فالجواب: نعم يمكن، فقد قال الله تعالى عن الأرض:(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا)(الزلزلة: 4) أي تخبر بما عمل الناس عليها، وعمل الناس قد يكون فعلا يرى، وقد يكون قولا يسمع، فالأرض تسمع بلا إذن وترى بلا عين، والله على كل شيء قدير.

وعلى كل حال فإننا نثبت لله البصر؛ بصر العلم وبصر الرؤية، ونرى أنه من الصفات الذاتية التي لم يزل ولا يزال الله متصفا بها.

رابعا: السمع: قال: (سمع)، وهذه معطوفة على قوله: الحياة، لكنها بإسقاط حرف العطف لضرورة النظم

والسمع الذي أثبته الله لنفسه نوعان: سمع إدراك المسموع، وسمع إجابة المسموع.

وهناك فرق بين الإدراك وبين الإجابة، قال الله تعالى: (وَلا تَكُونُوا

ص: 185

كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) (الأنفال: 21) ، (سَمِعْنَا)، أي: سمع إدراك، (وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي سمع استجابة، في قوله تعالى:(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُك)(المجادلة: 1) هنا سمع إدراك، وفي قوله تعالى:(إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ)(إبراهيم: الآية 39) ، أي سمع استجابة، وفي قول المصلي: سمع الله لمن حمده. سمع الأمرين جميعاً، يعني يسمع ويجيب من حمده بالإثابة.

إذا فسمع الله ينقسم إلى قسمين؛ سمع إدراك وسمع استجابة، لكن هل هما من الصفات الذاتية؟

أما سمع الإدراك فهو من الصفات الذاتية، وأما سمع الاستجابة فهو من الصفات الفعلية؛ لأنه إن شاء استجاب وإن شاء لم يستجب.

فأولوا الألباب الذين يقولون: (رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا)(آل عمران: الآية 193)، قال الله تعالى:(فَاسْتَجَابَ لَهُمْ)(آل عمران: الآية 195)، (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) (غافر: الآية 60) ، فالاستجابة حصلت بعد الدعاء، وكل شيء يكون له سبب من صفات الله فهو من الصفات الفعلية.

إذا فسمع الاستجابة من الصفات الفعلية، فمن استجاب الله له فقد سمعه، لكن سمع الإدراك من الصفات الذاتية، لكن الحادث هو المسموع لا السمع، فأنا مثلا اسمع الصوت الآن ولكن سمعي موجود من قبل، أي أن هذا الصوت المعين حادث، ولكن القوة السمعية موجودة في من قبل هذا الصوت، فقد تكون الصفة قديمة ومتعلقها حادث ولا مانع.

قال العلماء رحمهم الله: والسمع بمعنى الإدراك ينقسم إلى عدم أقسام: سمع عام لكل شيء، فهذا يشمل المؤمن والكافر، وما يرضاه الله وما لا

ص: 186

يرضاه ومثاله قوله تعالى: (وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(البقرة: الآية 224) هذا عام يشمل كل شيء.

وسمع خاص مقتضاه النصر والتأييد، وهذا السمع الخاص له أمثلة في كتاب الله، مثل قوله تعالى لموسى وهارون:(قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)(طه: 46)) فليس المراد هنا أن الله تعالى يسمعهما ويراهما مجرد سمع ورؤية، بل المراد أسمع وأرى فانتصر لكما، فهذا السمع مقتضاه النصر والتأييد.

وقد يكون للتهديد والوعيد مثل قوله تعالى: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا)(آل عمران: الآية 181)، وقوله تعالى:(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)(الزخرف: 80)) .

فصار السمع الخاص قد يكون مقتضاه النصر التأييد، وقد يكون مقتضاه الوعيد والتهديد.

فإذا قال قائل: ما هو الضابط لما يقتضيه هذا وهذا؟

فالجواب: أن الضابط: القرائن، فقرائن الأحوال، وسياق الكلام، تدل على أن مقتضاه كذا أو كذا.

خامسا: (إرادة) : بالرفع عطفا على الحياة، بإسقاط حرف العطف لضرورة النظم.

فقوله إرادة: يعني أن الله عز وجل له الإرادة، ودليل ذلك قوله تعالى:(وقوله تعالى: (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)(البروج: 16) وقول الله تعالى (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُم)

ص: 187

(النساء: 27) : (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(النساء: الآية 26) والآيات في الإرادة كثيرة.

قال أهل العلم رحمهم الله: والإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية: وهي التي بمعنى المشيئة، وإرادة شرعية: وهي التي بمعنى المحبة.

مثال الإرادة الشرعية: قوله تعالى: ((وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ)(النساء: الآية 27)) فهذه بمعنى المحبة وليست بمعنى المشيئة؛ لأنها لو كانت بمعنى المشيئة لتاب الله على جميع الناس، لكنها بمعنى المحبة فتتعلق بمشيئته إن شاء تاب، وإن شاء لم يتب. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى:(يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ)(البقرة: الآية 185) .

ومثال الإرادة الكونية التي بمعنى المشيئة قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ)(الحج: الآية 14) ، أي ما يشاء، بدليل قوله تعالى في الآية الثانية:(وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)(إبراهيم: الآية 27)

ومن أمثلة الإرادة الكونية أيضاً قوله تعالى: (إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ)(هود: الآية 34) فالإرادة هنا كونية؛ لأن الله تعالى لا يريد شرعا أن يغوي عباده، بل يريد شرعا أن يهديهم، قال تعالى:(يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ)(النساء26)(والله يُرِيدُ أن َيَتُوبَ عَلَيْكُمْ)(النساء: الآية 27) .

فالإرادة إذا قسمان: كونية وشرعية.

والفرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية من حيث الحكم من وجهين:

الوجه الأول: أن الإرادة الكونية يلزم فيها وقوع المراد، والإرادة الشرعية لا يلزم فيها وقوع المراد، فقد يريد الله الشيء شرعا ولا يقع.

ص: 188

الوجه الثاني: الإرادة الشرعية لا تكون إلا فيما يحبه الله، والإرادة الكونية تكون فيما يحبه وما لا يحبه. فمثلا الإيمان والعمل الصالح مراد لله شرعا لا كونا؛ لأن من الناس من لم يؤمن ومن لم يعمل صالحا، ولو كان مرادا لله كونا وقدرا للزم أن يؤمن الناس كلهم ويعملوا صالحا.

فإذا قال قائل: الكفر الواقع من بني آدم هل هو مراد لله؟

فنقول: مراد كونا لا شرعا؛ فمراد كونا لأنه واقع، وكل شيء يقع فهو مراد لله عز وجل (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يّس: 82) ، فهو مراد كوناً غير مراد شرعاً؛ لأن الله لا يريد من عباده الكفر، وإنما يريد منهم الإيمان.

ونمثل ذلك بالأشخاص فكفر أبي جهل مراد كونا، والدليل على أنه مراد كونا لأنه واقع، وكل شيء واقع فهو مراد كونا لا إشكال فيه، وليس هو مرادا شرعا؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا يحبه، وإذا كان الله لا يحب شيئا فإنه وإن وقع غير مراد لله شرعاً.

وإيمان أبي بكر رضي الله عنه، مراد كونا لوقوعه، ومراد شرعا لأنه محبوب إلى الله عز وجل؛ لأنه كما قلنا كل شيء واقع فهو مراد كونا، وإيمان أبي بكر واقع فهو مراد كونا.

وإيمان أبي لهب - أي تقديراً - مراد شرعاً لا كوناً؛ لأنه لم يقع، فمراد شرعاً لأن الله يحب منه الإيمان؛ لأنه محبوب إلى الله عز وجل.

وقد ذكرنا فيما سبق أن كفر أبي جهل مراد كونا لوقوعه، غير مراد شرعا لأن الله لا يحبه. وذكرنا أيضاً أن إيمان أبي لهب مراد شرعا لأن الله يحبه، غير مراد كونا لأنه لم يقع.

ص: 189

وهنا يرد علينا إشكال، وهو كيف يكون الشيء مرادا لله كونا وهو لا يحبه؟ وهل أحد يكرهه على أن يوقع ما لا يحب؟ وقد أجاب بعض المعتزلة فقال: كل ما وقع فهو مراد لله كونا وشرعا، حتى المعاصي قالوا: إن الله أرادها شرعا، ولكن هذا فيه إشكال

والجواب السديد في مثل هذه المسألة أن يقال: إن الله يكره كفر هذا الكافر ولم يكرهه أحد على أن يوقع شيئا يكرهه، لكن هذا الشيء مكروه لذاته محبوب لغيره، فالكفر الواقع هنا مكروه لذاته محبوب لغيره. ويكون الشيء محبوبا مكروها باعتبارين، لا باعتبار واحد فهذا ممتنع.

مثال ذلك: أنك ترى الرجل يأتي بالحديدة محماة حمراء من النار ليكوي بها ابنه المريض، لكن كيه لابنه ليس مرادا لذاته، بل مراد لغيره، ولهذا تجده محبوبا له مكروها، محبوبا من وجه، مكروها من وجه؛ من وجه إيلامه لابنه مكروه، ومن وجه أنه سبب لشفائه، محبوب.

وكذلك الكفر واقع بإرادة الله عز وجل، مكروه إلى الله لذاته، محبوب إليه لغيره. فلولا الكفر ما عرف الإيمان، ولولا الكفر لم يكن جهاد، ولولا الكفر لم يكن امتحان، ولولا الكفر لكان خلق النار عبثا، إلى غير ذك من المصالح العظيمة التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يقع الكفر بحكمته، ولهذا قال عمر:((لا ينقض الإسلام عروة عروة إلا من لم يدخل في الكفر) ، يعني أن من عرف قدر الإسلام لا ينقضه، ولا يعرف قدر الإسلام إلا إذا كان قد دخل في الكفر، فبضدهما تبين الأشياء.

وهكذا الله عز وجل يوقع في عباده ما يكرهه لكن من أجل مصلحة

ص: 190

أخرى أعظم من إيقاعه وذلك مثل قوله تعالى في الحديث القدسي: ((ما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره إساءته ولابد له منه)(1) ، فهذا مما يكرهه الله كونا لا شرعا، لكنه يوقعه عز وجل لما له من المصالح العظيمة، فإنه لابد من الموت حتى يجازي الإنسان بعمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر.

فالحاصل أن نقول جوابا على هذا الإيراد الشائك: إن هذا المكروه إلى الله مكروه إليه لذاته محبوب إليه لغيره فهو مكروه محبوب من وجهين.

سادسا: قال: (وعلم) ، أي من صفات الله تعالى العلم، والعلم صفة كمال، ولهذا يمتدح به الإنسان، ويكره أن يوصف بضده، فلو قلت لشخص: يا جاهل، وأنت من أعلم الناس قال لك: أنت الجاهل؛ لأنه يرى أن وصفه بالجهل عيب وقدح ومسبة لابد أن ترد.

فالعلم صفة كمال بلا شك، وعلم الله عز وجل شامل لكل شيء، حاضرا ومستقبلا وماضيا، قال الله سبحانه وتعالى:(لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً)(الطلاق: الآية 12)، وقال تعالى عن الملائكة:(رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْما)(غافر: الآية 7)، وقال تعالى:(وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)(البقرة: الآية 29) .

وكذلك أيضاً علم الله تعالى محيط بكل شيء تفصيلا، قال الله تعالى:(وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)

(1) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب التواضع، رقم (6502)

ص: 191

(الأنعام: 59) .

وعلمه سبحانه وتعالى شامل لما يتعلق بفعله وما يتعلق بفعل عباده، قال الله تعالى:(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)(قّ: الآية 16)، وقال تعالى:(وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ)(التغابن: الآية 4)، وقال تعالى:(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)(البقرة: الآية 283) فعلم الله شامل لكل ما يعمله العبد.

إذاً علم الله ثابت له بالكتاب، والسنة، وإجماع المسلمين، والنظر الصحيح.

بالكتاب: وما أكثر الآيات التي تصف الله بالعلم.

والسنة كذلك مملوءة بما يدل على أن الله تعالى بكل شيء عليم، كما في حديث الاستخارة وغيره.

وإجماع المسلمين ثابت بأن الله بكل شيء عليم

والنظر الصحيح يدل عليه، قول الله تعالى مستدلا على علمه بدلالة عقلية:(أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(الملك: 14) ، فالخالق لابد أن يكون عالما بمخلوقه، وعالما بخلقه كيف يخلق.

فالعلم دل عليه القرآن والسنة والإجماع والعقل جملة وتفصيلا.

سابعا: قال: (واقتدر بقدرة تعلقت بممكن) ، يعني من صفات الله تعالى القدرة، وقال: اقتدر، من باب المبالغة وهي أبلغ من قدر؛ لأن اقتدر تدل على صفة ذاتية لازمة، قال الله تعالى:(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ)(القمر: 54)(فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ)(القمر: 55)، وقال الله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(البقرة: الآية 20) ، والآيات في هذا كثيرة.

ص: 192

وقدرة الله تعالى قدرة مقرونة بالقوة، فهو القوي القادر، بخلاف المخلوق فإن قدرته محدودة، وقد تكون قدرة بقوة، وقد تكون قدرة بلا قوة.

لكن المؤلف رحمه الله قيد القدرة حيث قال: (تعلقت بممكن) ، وتعلقت بالواجب أيضاً من باب أولى، ولم تتعلق بالمستحيل؛ لأن المستحيل ليس بشيء، فضلا عن أن يكون مقدورا عليه.

لكن المستحيل الذي يتصور ذهننا أنه مستحيل: مستحيل لذاته، ومستحيل لغيره.

أما المستحيل لذاته فهو مستحيل لا يمكن، فلو أن أحداً قال هل الله قادر على أن يخلق مثله؟ لقلنا: هذا مستحيل، لكن الله قادر على أن يخلق خلقا أعظم من الخلق الذي نعلمه الآن، ونحن نعلم أن أعظم مخلوق نعلمه هو العرش، فهو أعظم من كل شيء من المخلوقات التي نعلمها، ومع ذلك نعلم أن الله قادر على أن يخلق أعظم من العرش، لكن الشيء المستحيل لذاته هذا غير ممكن.

كذلك نحن نعلم أنه يستحيل في العادة - وليس لذاته - أن يقع خسوف القمر في أول الشهر، فهذا مستحيل حسب العادة، ونعلم أيضاً أنه لا يمكن أن يهل الهلال ثم تخسف الشمس بعد غروبه، فهذا نعلم علم اليقين أنه لن يكون، لكن لغيره، أي حسب ما أجرى الله العادة، وإلا فإن الله قادر على أن يكسف القمر في أول الشهر وعلى أن يهل الهلال ثم تخسف الشمس بعد غروبه.

ص: 193

وظهور الهلال لا يمكن أن يكون قبل خسوف الشمس، بمعنى أنه إذا خسفت الشمس في ليلة قلنا: إنها أول ليلة في الشهر، فهذا شيء مستحيل؛ لأن من المعلوم أن كسوف الشمس سببه - الذي جعله الله سببا كونيا - حيلولة القمر بين الشمس والأرض، وحيلولة القمر بين الشمس والأرض يمنع أن يهل الهلال قبل الخسوف؛ لأنه إذا هل الهلال قبل الخسوف لا يمكن أن يتجاوز ثم يحول بين الشمس والأرض؛ لأن المعلوم أن القمر يتأخر عن الشمس.

فسبب الخسوف الذي جعله الله سببا للخسوف في العادة. هو: حيلولة القمر بين الشمس والأرض إذا فهل الشمس سبقت في هذا الحال أو لم تسبق؟ الجواب: أنها لم تسبقه. لأنها لو سبقته لم يكن خسوف، وإذا هل الهلال لزم أن تكون الشمس قد سبقت الهلال؛ لأن الهلال لا يكون هلالا إلا بعد غروب الشمس.

وإذا كان الشمس قد سبقت هل يمكن الخسوف؟ لا يمكن أبدا؛ لأن القمر لا يمكن بعد أن تأخر عن الشمس أن يذهب بسرعة حتى يكون تحتها، هذا مستحيل لغيره؛ يعني: مستحيل حسب ما أجرى الله العادة

لكن الله قادر على أن يحبس الشمس ويسرع في سير القمر حتى يخسف بعد الغروب.

إذاً قول المؤلف رحمه الله: ((تعلقت بممكن) نقول: ضده المستحيل، فالمستحيل لا تتعلق به القدرة؛ لأنه على اسمه مستحيل، ولكن يجب أن نعلم - حتى لا يتوهم واهم إننا خصصنا ما عممه أو قيدنا ما أطلقه - أن المستحيل نوعان: مستحيل لذاته ومستحيل لغيره.

ص: 194

فالمستحيل لذاته: لا يمكن أن تتعلق به القدرة، كما مثلنا وقلنا: لو قال قائل: هل يقدر الله أن يخلق مثله؟

قلنا: هذا مستحيل لذاته، لأن المماثلة مستحيلة، وأدنى ما نقول في ذلك: أن هذا مخلوق والرب خالق، فتنتفي المماثلة على كل حال.

والمستحيل لغيره: بمعنى أن الله تعالى أجرى هذا الشيء على هذه العادة المستمرة التي يستحيل أن تنخرم، ولكن الله قادر على أن يخرمها، فهذا نقول إن القدرة تتعلق به، فيمكن للشيء الذي نرى أنه مستحيل بحسب العادة أن يكون جائزا واقعاً بحسب القدرة، وهذا الشيء كثير، فكل آيات الأنبياء الكونية من هذا الباب (المستحيل لغيره) ؛ فانشقاق القمر للرسول عليه الصلاة والسلام مستحيل لغيره، لكن غير مستحيل لذاته لأنه وقع، والله قادر على أن يشق القمر نصفين، بل قادر على أن يشق الشمس نصفين.

ونحن - مثلا - نرى أن من المستحيل أن تنزل الشمس حتى تحاذي منارة المسجد، ومن ادعى ذلك كذبناه، وقلنا: هذا مستحيل. لكن لابد أن نعلم أن هذا مستحيل لغيره لا لذاته، أي أنه مستحيل حسب ما أجرى الله العادة، لكن الله قادر على أن ينزل الشمس حتى تحاذي المنارة، بل ودون المنارة، فإنها يوم القيامة تكون على رؤوس الناس بقدر ميل، بقدرة الله.

فعبارة المؤلف رحمه الله: (تعلقت بممكن) تحتاج إلى بيان، فإن ظاهر كلامه أن القدرة لا تتعلق بالمستحيل، ونحن نقول: لابد في ذك من التفصيل، فالمستحيل لذاته لا تتعلق به القدرة لأنه ليس موجودا، ولا يمكن أن يوجد، ولا يفرضه الذهن، كما انه لا يمكن أن يكون الشيء متحركا ساكنا في آن واحد؛ لأنه إن كان متحركاً فليس بساكن، وإن كان ساكناً فليس

ص: 195

بمتحرك.

أما المستحيل لغيره - يعني الذي يكون بحسب العادة غير ممكن - فهذا تتعلق به القدرة، والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، فإن كل آيات الأنبياء الكونية من هذا الباب، فلو أن أحداً من الناس قال: أنا اضرب هذا الحجر ضربة بعصاي فينفلق اثنتي عشرة عينا لقلنا: هذا مستحيل حسب العادة، فلو ضرب الحجر بعصا من حديد حتى يتفتت الحجر ما أتى باثنتي عشرة عينا، لكن هذا مستحل لغيره وليس مستحيلا لذاته، لأن الله تعالى جعله لموسى عليه الصلاة والسلام.

كذلك أن تصير العصا حية، هذا لا يمكن حتى في السحر؛ لأنه إنما تكون حية بالسحر حسب نظرنا وليس حقيقة، لكن يمكن أن تكون العصا حية حقيقة حسب قدرة الله تعالى، فكون العصا حية مستحيل لغيره لا لذاته، لكنه لقدرة الله ليس مستحيلا.

ولهذا كان عصا موسى عليه الصلاة والسلام ينقلب حية حقيقية تلقف وتأكل.

وكذلك فإن الإنسان مخلوق من الطين، فلو صنع شخص تمثالا على شكل طير وقام ينفخ فيه، وقال: صار طيرا وطار، فإننا لن نصدقه؛ لأن هذا مستحيل حسب العادة، لكنه مستحيل لغيره، وأما حسب القدرة فليس بمستحيل؛ لأنه غير مستحيل لذاته، ولهذا جعله الله آية لعيسى عليه الصلاة والسلام؛ يخلق تمثالا على شكل الطير ثم ينفخ فيه فيطير.

ص: 196

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

38-

والعلم والكلام قد تعلقا

بكل شيء يا خليلي مطلقا

ــ

الشرح

لما بين المؤلف رحمه الله هذه الصفات السبع، وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والإرادة، والكلام، بين متعلقات هذه الصفات، أما الحياة فلم يذكر متعلقاً لها كما سيأتي إن شاء الله أنه لا متعلق لها؛ لأنها لا تتعدى.

وأما القدرة: فقال المؤلف رحمه الله:

بقدرة تعلقت بممكن

كذا إرادة فع واستبن

وسبق لنا أن قوله: (بممكن) يخرج به المستحيل، وذكرنا أن المستحيل نوعان، مستحيل لذاته ومستحيل لغيره.

فخلق عيسى عليه الصلاة والسلام من غير أب أمر مستحيل في العادة، فلا يمكن أن يوجد ولد بلا أب، وكذلك خلق ولد بلا أم، فإن ذلك مستحيل في العادة، فما من ولد إلا وله أم، ولكن في حواء صار لها أب وليس لها أم.

كذلك أيضاً يستحيل في العادة أن يوجد بشر بلا أم ولا أب، ولكن هذا مستحيل لغيره، ولو شاء الله أن يخلقه لخلقه.

ص: 197

ثم أليس الناس إذا دفنوا في القبور فإن الأرض تأكل أجسامهم كلها إلا عجب الذنب ومع ذلك يتكون من هذا التراب البشر مرة أخرى، وآدم عليه الصلاة والسلام كان خلقه من الطين، وهذا مستحيل لغيره حسب العادة ولكن الله قادر عليه.

قوه: (كذا إرادة) ، يعني كذلك الإرادة تتعلق بالممكن أما المستحيل فلا يمكن. فالمستحيل لذاته لا يمكن أن يريده الله؛ لأن هذه الإرادة عبث والله منزه عن العبث، فلو قال قائل مثلا: إن الله يريد هذا الشيء أن يكون متحركا ساكنا، لأجيب بأن الله لا يريد هذا؛ لأنه متى كان الشيء متحركا لم يكن ساكنا، ومتى كان ساكنا لم يكن متحركا، وليس المراد أنه يكون متحركا ثم يسكن أو ساكناً ثم يتحرك فهذا ممكن.

فالإرادة إذاً تتعلق بالممكن، ولهذا نقول: إن الله إذا أراد أمراً فإنما يقول له: كن فيكون، وهذا يدل على أن الإرادة تكون في الأشياء الممكنة، التي يمكن أن يفعلها الله عز وجل.

قال: (والعلم والكلام قد تعلقا بكل شيء)، يعني: أن الله يمكن أن يتكلم بالشيء المستحيل، ويعلم بالشيء المستحيل، فالله سبحانه وتعالى يقول:(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)(الأنبياء: الآية 22) فقال بالمستحيل يعني تكلم عن شيء مستحيل، وكذلك قال تعالى:(لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)(الأنبياء: 22)(مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ)(المؤمنون: الآية 91) فتكلم بشيء مستحيل.

والعلم أيضاً يتعلق بالمستحيل والدليل قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)(الأنبياء: الآية 22) فهذا خبر يخبر الله فيه أنه لو كان في السماء

ص: 198

والأرض آلهة إلا الله لفسدتا، وهذا خبر عن شيءٍ مستحيل إذاً الكلام يتعلق بالمستحيل.

وكذلك يتعلق بالواجب من باب أولى، فالله تعالى يتكلم بالشيء الواجب، ومما تكلم به من الأمور الواجبة أن الله واحد لا شريك له، قال تعالى:(شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ)(آل عمران: 18) .

والعلم أيضاً يتعلق بالماضي والمستقبل والحاضر؛ لأن الله بكل شيء عليم. فكل شيء فالله عليم به.

ص: 199

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

39-

وسمعه سبحانه كالبصر

بكل مسموع وكل مبصر

ــ

الشرح

أي أن السمع يتعلق بالمسموعات لا بكل شيء، لا يتعلق بالمرئيات، فلا يقال: سمع الله فلانا أي نظر إليه؛ لان السمع يتعلق بالمسموعات. فالأقوال من شأن السمع، والبصر كذلك يتعلق بالمبصرات، فالأفعال، من شأن البصر؛ لأن الفعل يرى ولا يسمع، فالذي يسمع ليس الفعل وإنما هو حركة الفاعل.

إذاً الأفعال من متعلقات البصر، والأقوال من متعلقات السمع؛ ولهذا قال:(وسمعه سبحانه كالبصر بكل مسموع) كالأقوال، (وكل مبصر) كالأفعال.

أما الحياة فلا تتعلق بشيء بائن عن الله عز وجل؛ لان الحياة وصف لازم لذاته لا تتعدى لغيره، فلهذا لم يذكر لها المؤلف رحمه الله متعلقا.

فهذه سبع صفات ذكرها المؤلف رحمه الله، ولكنه لم يذكر غيرها؛ لأنها هي الصفات التي اتفق عليها السلف وأهل التأويل من الأشعرية ونحوهم، فلهذا خصها المؤلف بالذكر؛ لأنها محل اتفاق، أما السلف فيثبتون لله تعالى أكثر من هذه الصفات، يثبتون لله كل ما وصف به نفسه من الحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والإرادة والكلام والحفظ والرضا والغضب وغير ذلك مما وصف الله به نفسه، لكن الأشاعرة لا يثبتون إلا هذه الصفات السبع فقط؛ لأنهم يرون أن هذه الصفات السبع دل عليها العقل فأثبتوها لدلالة العقل عليها، وأما ما سواها فإن العقل لا يدل عليها فيجب أن تأول.

ص: 200

ثم فصلوا كيف دل عليها العقل فقالوا: الإيجاد دل على القدرة، حيث إن إيجاد الأشياء يدل على قدرة الموجد وهو الله عز وجل، والأشياء موجودة فإيجاد الأشياء دليل على القدرة.

وأحكام هذه الأشياء خلقا وصنعا يدل على العلم؛ لأن الجاهل لا يحكم الشيء.

والتخصيص يدل على الإرادة وذلك أن كون هذا ذكر وهذه أنثى، وهذه شمس وهذا قمر، وهذه أرض وتلك سماء، يدل على الإرادة، فأراد الله أن تكون السماء سماء فكانت وأن تكون الأرض أرضا فكانت، وأن يكون الإنسان إنسانا فكان، وأن يكون البعير بعيرا فكان، فالتخصيص يدل على الإرادة، وهذه ثلاث صفات.

ثم قالوا: وهذه الصفات الثلاث لا تقوم إلا بحي، أي من لازم المتصف بهذه الصفات الثلاث أن يكون حيا، فاثبتوا الحياة، فتكون الصفات بذلك أربع.

ثم يقولون: إذا ثبت أنه حي فإما أن يتصف بالسمع والبصر والكلام أو بضد ذلك، وضد ذلك ممتنع، لأن ضد السمع الصمم، وضد الكلام الخرس، وضد البصر العمى، وهذه الصفات صفات عيب لا يمكن أن يتصف بها الخالق، وهذا وجه دلالة العقل على هذه الصفات السبع.

أما الرحمة والرضا والحكمة والوجه واليدان فقالوا: لا نثبت لله رحمة، ولا نثبت لله رضا، ولا نثبت لله حكمة، ولا نثبت لله وجها، ولا نثبت لله يدين؛ لان هذه الصفات لا يدل عليها العقل، وإذا لم يدل عليها العقل فإنه لا يمكن أن نثبتها لله عز وجل.

ص: 201

ويجاب عليهم بثلاثة أجوبة وهي:

أولا: أن الرجوع إلى العقل في هذه الأمور باطل شرعا وعقلا.

أما شرعا فقال الله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(الإسراء: الآية 36)، وقال:(قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(الأعراف: 33) .

وأما بطلانه عقلا فلأن هذه الأمور من الأشياء التي تتلقى بالخبر؛ لأن الخالق عز وجل ليس كمثل الخلق، فلا يجوز عليه ما يجوز عليهم، ولا يمتنع عليه ما يمتنع عليهم، ولا يجب له ما يجب لهم، فهو مخالف للخلق، وإذا كان مخالفا للخلق فلا يحكم الخلق عليه بعقولهم، وكيف يحكم الخلق عليه وهم لم يشاهدوا الله، ولا نظيرا لله؛ فكان في الشرع والعقل ما يبطل الاعتماد على العقل في هذه الأمور.

ثانياً: هب أن العقل لا يدل على سوى هذه الصفات السبع، فقد دل عليها الشرع، وتعدد الدليل جائز عقلا وواقعا، فإذا انتفى أحد الدليلين ثبت المدلول بالدليل الآخر؛ لان انتفاء الدليل المعين لا يستلزم انتفاء المدلول، فقد يكون للمدلول دليل آخر غير الدليل الذي انتفى. فإذا فرضنا جدلا أن العقل لا يدل على هذه الصفات فإن الشرع دل عليها وإذا دل عليها وجب إثباتها.

ثالثاً: أننا يمكننا أن نثبت بالعقل ما نفيتم أن العقل دال عليه، يعني إننا نستدل بالعقل كما استدللتم بالعقل، فنقول: ما نفيتموه قد دل عليه العقل.

مثال ذلك: هذه النعم التي نشاهدها، وهذه النقم التي تندفع عنا مع

ص: 202

وجود أسبابها، فهذه تدل على الرحمة، ونزول المطر من آثار الرحمة، ونبات الأرض من آثار الرحمة، والنوم والراحة من آثار الرحمة، والعلم والرزق من آثار الرحمة، كل ما بنا من نعمة فهي من آثار الرحمة، ودلالة هذه الأشياء على الرحمة عقلا أوضح وأبين من دلالة التخصيص على الإرادة؛ لأن دلالة هذه الأشياء على الرحمة واضحة للعامي والعالم، ودلالة التخصيص على الإرادة لا يفهمها إلا عالم، وكذلك إثابة الطائعين وتعلية منازلهم دليل على الرضا عنهم لا الكراهة لهم؛ لأنه لو كرههم لعاقبهم.

وانتقامه سبحانه وتعالى من المجرمين يدل على الغضب، قال تعالى:(فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ)(الزخرف: الآية 55) .

فالمهم أن ما ذكروا أن العقل لا يدل عليه، فإنه يمكننا أن نثبته نحن بدلالة العقل.

لكن إثبات الأشاعرة لهذه الصفات السبع ليس كإثبات أهل السنة لها بل يختلف، فالكلام مثلا عند أهل السنة والجماعة ليس هو الكلام عند الأشاعرة وسبق أن الأشاعرة قالوا في الكلام قولا لا يقوله من له عقل بل قالوا قولا حقيقته نفي الكلام؛ لأنهم قالوا: إن الكلام هو المعنى القائم بالنفس والمسموع عبارة عن هذا الكلام خلقه الله ليعبر عما في نفسه.

وسبق بيان قولهم والرد عليهم (1) ،

(1) انظر ص 179

ص: 203

كذلك السمع والبصر يختلف إثباتهم لها عن إثبات أهل السنة والجماعة.

فلهذا نقول: إن مذهب أهل السنة والجماعة مع مذهب الأشاعرة متماثل في عد هذه الصفات السبع وثبوتها. وإن كان يختلف في كيفية إثباتها.

فصارت هذه الصفات الست:

اثنتان منها تتعلقان بكل شيء وهما: العلم والكلام. واثنتان تتعلقان بالممكن وجودا وعدما وهما: القدرة والإرادة. واثنتان تتعلقان بالموجود وهما: السمع والبصر.

ص: 204

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

40-

وأن ما جاء مع جبريل

من محكم القرآن والتنزيل

41-

كلامه سبحانه قديم

أعيا الورى بالنص يا عليم

ــ

الشرح

لما ذكر المؤلف رحمه الله ما ذكر من صفات الله عز وجل، وهي الصفات التي اتفق عليها أهل السنة والأشاعرة على خلاف بينهم في الإيمان بهذه الصفات؛ أي في كيفية الإيمان بها، ذكر الكلام على القرآن الكريم فقال:(وأن ما جاء مع جبريل) ويجوز (وأن ما جاء مع جبريل) عطفا على قوله: بأنه واحد، يعني ومن الواجب أن ما جاء مع جبريل من محكم الآيات كلامه، ولعل الكسر أظهر، وإن ما جاء مع جبريل هو من عند الله، كما قال تعالى:(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(الشعراء: 192)(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)(الشعراء: 193) عَلَى قَلْبِكَ) (الشعراء: الآية 194) .

قول المؤلف رحمه الله: (وأن ما جاء مع جبريل) بكسر (جبريل) مع أنه اسم لا ينصرف، والله تعالى يقول:(مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ)(البقرة: الآية 98) فجره بالفتحة، ولكن المؤلف هنا جره بالكسرة لضرورة الشعر. قال ابن مالك رحمه الله:

ولاضطرار أو تناسب صرف..........................

يعني عند الضرورة يصرف ما لا ينصرف

وجبريل أحد الملائكة الكرام العظام، وهو موكل بالوحي ينزل به على

ص: 205

الأنبياء، وربما وكل بغير ذلك، كما في قوله تعالى في قصة مريم:(فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً)(مريم: الآية 17) لكن العمل الموكول إليه في الأصل هو نزول الوحي على الأنبياء.

ولهذا يقال ثلاثة من الملائكة علمنا أنهم موكلون بما فيه الحياة: جبريل وميكائيل وإسرافيل، فجبريل موكل بما فيه حياة القلوب، وميكائيل موكل بما فيه حياة النبات، أي القطر، وإسرافيل موكل بما فيه بعث الأجساد بعد الموت وهو النفخ في الصور، وأشرفها وأعلاها ما فيه حياة القلوب.

وكان النبي عليه الصلاة والسلام يذكر هؤلاء الثلاثة في افتتاح صلاة الليل، حيث يقول في افتتاح صلاة الليل:((اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، أهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)(1) .

ووصف الله سبحانه وتعالى جبريل بأنه أمين، فقال:(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)(التكوير: 19)(ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ)(التكوير: 20)(مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ)(التكوير: 21) ووصفه بالقوة، فقال تعالى:(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)(النجم: 5)(ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى)(النجم: 6)) فاجتمع في حق جبريل عليه الصلاة والسلام القوة والأمانة، فبأمانته نعلم أنه لا زيادة ولا نقص في القرآن الذي أوحاه الله إليه ليلقيه على قلب النبي عليه الصلاة والسلام، وبالقوة نعلم أنه لا أحد تسلط على القرآن حين نزول جبريل به، أو غلبه عليه، أو توانى جبريل في تنزيله؛ لأنه قوي

(1) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل، رقم (770) .

ص: 206

يستطيع الدفع ولا يقربه أحد.

فجبريل عليه الصلاة والسلام نزل وجاء بالوحي من الله عز وجل، ولهذا قال المؤلف:(من محكم القرآن والتنزيل) ؛ محكم القرآن: هذا من باب إضافة الصفة إلى موصوفها؛ أي من القرآن المحكم، والقرآن محكم أي متقن، فهو متقن من كل وجه؛ أخباره محكمة ليس فيها كذب؛ أحكامه محكمة ليس فيها جور؛ دلالاته أو مدلولاته محكمة ليس فيها تناقض.

وليعلم أن الله تعالى وصف القرآن كله بأنه محكم وبأنه حكيم، ووصفه كله بأنه متشابه، ووصفه بأن بعضه متشابه وبعضه محكم، فهذه ثلاث صفات.

وصفه بأنه محكم في قوله: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ)(هود: الآية 1) وفي قوله: (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ)(يونس: الآية 1)(أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً)(يونس: الآية 2) .

ووصفه بأنه متشابه في قوله: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ)(الزمر: الآية 23) .

ووصفه بان بعضه محكم وبعضه متشابه في قوله: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)(آل عمران: الآية 7) ولكل من هذه الأوصاف وجه.

أما وصف كونه محكما؛ فلأن القرآن كله متقن، لا يكذب بعضه بعضا، ولا يناقض بعضه بعضا، وليس فيه شيء من الباطل، قال تعالى:(لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ)(فصلت: الآية 42)

وأما وصفه كله بأنه متشابه؛ فلأنه يشبه بعضه بعضا في الكمال والجودة

ص: 207

والمنافع العظيمة، وإن كان يتفاوت في هذا الوجه لكنه يشبه بعضه بعضا، والتفاوت باعتبار المتكلم به ممنوع؛ لان المتكلم به واحد وهو الله، وأما باعتبار مدلول الكلام فإن الاختلاف بينه واقع، فأعظم سورة في كتاب الله الفاتحة، وأعظم آية فيه آية الكرسي، و (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (الإخلاص: 1) تعدل ثلث القرآن، وليست السورة التي قبلها بمنزلتها في الدلالة العظيمة، فسورة تبت ليست في موضوعها ومدلولها كسورة (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) (الإخلاص: 1)

إذا هو متشابه من حيث الكمال والجودة فكله كامل وكله على غاية ما يكون من الجودة، وأما وصف بعضه بأنه محكم وبعضه بأنه متشابه؛ فأرجح الأقوال فيها أن المحكم ما اتضح معناه، والمتشابه ما خفي معناه؛ لأنه يشتبه على بعض الناس دون بعض، ولكن الذين أتاهم الله العلم يردون هذا المتشابه الخفي المعنى إلى المحكم الواضح، فيكون القرآن كله واضحا بهذا الاعتبار.

ولكن لو قال قائل: كيف نطلق على القرآن كله أنه محكم مع أن الله قال في كتابه: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)(آل عمران: الآية 7) ، فجعل منه آيات محكمات، وجعل منه أخر متشابهات؟

والجواب: أن الله قال في المحكمات (هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ)، أي: مرجع الكتاب، فإذا وجدنا متشابهات رددناه إلى الأم، والأم محكم، فيكون هذا المتشابه محكما، وحينئذ يكون التشابه في ابتداء الأمر، أما في النهاية فيكون محكما، وهذا كثير في القرآن، فتجد آيات مجملات فصلت بآيات أخرى، وتجد آيات ظاهرها التعارض يجمعها دليل آخر، وهكذا، وبهذا

ص: 208

يكون القرآن كله محكما.

وقوله: (من محكم القرآن والتنزيل) القرآن: ما يقرأ، فهو مصدر بمعنى اسم المفعول، والمصدر يأتي على وزن فعلان؛ كالغفران والشكران والكفران والطغيان وما أشبه ذلك.

إذا فالقرآن مصدر بمعنى اسم المفعول لأنه مقروء، وقيل بمعنى اسم الفاعل لأنه قارئ أي جامع؛ لأنه جامع لكل ما تتضمنه الكتب السابقة، كما قال تعالى:(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)(المائدة: الآية 48) .

وقوله: (والتنزيل) التنزيل: بمعنى المنزل؛ لان التنزيل فعل المنزل، وهنا منزل وتنزيل ومنزل إليه وواسطة، فالمنزل هو الله والتنزيل فعله الذي هو الكلام، تكلم الله عز وجل ثم أمر جبريل فنزل به على محمد عليه الصلاة والسلام، والمنزل إليه محمد صلى الله عليه وسلم، والواسطة جبريل عليه الصلاة والسلام.

وقوله: (من محكم القرآن والتنزيل) ، هذا من باب عطف المترادفين، فإن التنزيل هو القرآن.

وقوله: (كلامه سبحانه) هذا خبر (أن) ، يعني ما جاء مع جبريل من محكم الآيات والتنزيل الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام الله لفظا ومعنى، تكلم الله به جل وعلا فسمعه جبريل، فنزل به على محمد صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى:(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(الشعراء: 192)(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)(عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)(بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)(الشعراء: 195) وقال تعالى:

ص: 209

(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ)(التوبة: الآية 6) ، وعلى هذا فهذا القرآن كلام الله عز وجل تكلم به نفسه بحروفه وألفاظه، وسمعه جبريل فنزل به كما كان على محمد صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقص، ولهذا قال الله تعالى:(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)(التكوير: 19)(ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ)(التكوير: 20)، وقال:(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)(الشعراء: 193) ، فوصفه بالأمانة، ووصفه بالكرم، ووصفه بالقوة، وبهذا نعلم علم اليقين أن هذا القرآن الكريم لم يتغير فيه شيء، بل هو كلام الله نفسه.

وإذا علمنا أنه كلام الله لزم من ذلك أن نعظم هذا الكلام، ولهذا نهينا أن نمس هذا القرآن بلا طهارة، كما في حديث عمرو بن حزم المرسل الذي تلقته الأمة بالقبول:((لا يمس القرآن إلا طاهر) أي إلا طاهر متوضئ؛ لأن الوضوء طهارة، كما قال تعالى:(مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ)(المائدة: الآية 6) .

وأما من فسر الطاهر في قوله: ((لا يمس القرآن إلا طاهر)(1) بالمؤمن فقد أبعد؛ لأننا لا نجد في القرآن ولا في السنة التعبير بالطاهر عن المؤمن أبداً، وإن كان المؤمن لا ينجس لكن لم يعبر عنه بالطاهر، المؤمن يعبر عنه بالإيمان أو بالتقي أو ما أشبه ذلك.

وقوله: (كلامه سبحانه) سبحانه: جملة معترضة يراد بها تنزيه الله عز وجل، ولهذا يقولون: التسبيح بمعنى التنزيه، ويقولون: إن سبحان اسم مصدر فعله سبح، والمصدر تسبيح، وسبحان اسم مصدر، واسم المصدر:

(1) رواه مالك في الموطأ (1/199)

ص: 210

كل ما دل على معنى المصدر وليس فيه حروفه فإنه يسمى اسم مصدر، والكلام: اسم مصدر فعله كلم، والسلام اسم مصدر فعله سلم، فسبحان اسم مصدر فعله سبح.

فقوله: (سبحانه) أي تنزيها له عن صفات النقص، وعن نقص كماله، وعن مماثلة المخلوقين؛ لان الله منزه عن هذه الأشياء الثلاثة: عن نقص الكمال، وعن النقص المحض، وعن مماثلة المخلوقين.

مثال نقص الكمال الذي ينزه الله عنه: ما ادعاه اليهود - عليهم لعنة الله -، حيث قالوا: إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام فتعب واستراح، وقد كذب الله قولهم هذا في قوله:(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ)(قّ: 38)) ، فهؤلاء اثبتوا له القدرة، ولكن هذه القدرة ناقصة.

ومثال النقص المحض: قول اليهود أيضا: (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ)(آل عمران: الآية 181)، وقولهم: إن الله بخيل، في قوله تعالى:(يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ)(المائدة: الآية 64) . ومن ذلك أيضا من اثبت لله علما ولكنه قال: إن الله قد يخفى عليه شيء، فهذا لم يسبح الله.

ومثال مماثلة المخلوقين كقول النصارى: (إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ)(المائدة: الآية 73) فاثبتوا له مثيلاً، والله تعالى قد كذبهم في قوله:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(الشورى: الآية 11)(، وقوله: (قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ)(الأنعام: الآية 19) . ومن ذلك أيضا من قال: إن قدرة الله كقدرة المخلوق، فهذا لم يسبح الله

ص: 211

وقوله: (كلامه سبحانه قديم) ، القديم عندهم ما ليس له أول، يعني ما كان أزليا لم يسبقه عدم، وليس القديم عندهم هو القديم في اللغة؛ لان القديم في اللغة هو ما تقدم على غيره وإن كان حادثا غير أزلي، قال الله تعالى:(وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ)(يّس: 39)) ، والعرجون هو ما يكون فيه ثمر النخل يعني القنو، فالقنو القديم ينحني ويتقوس لكنه غير أزلي؛ لأنه حادث بعد أن لم يكن.

وعلى هذا يقول المؤلف: إن القرآن كلام الله القديم يعني الأزلي، أي أن القرآن قديم بقدم الله عز وجل، فهو أزلي؛ أي لم يزل هذا القرآن على زعمه موجودا من قبل خلق السموات، بل من قبل كل شيء.

ولا شك أن هذا القول باطل لان القرآن يتكلم الله به حين إنزاله، والدليل على هذا أن الله سبحانه وتعالى يتحدث عن أشياء وقعت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بصيغة الماضي، وهذا يدل على أن كلامه بها كان بعد وقوعها، قال الله تعالى:(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)(آل عمران: 121)، قال: غدوت بصيغة الماضي، وهذا القول قاله الله بعد غدو الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقال تعالى (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا)(المجادلة: الآية 1)، فقال تعالى:(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ) ، ولا يمكن أن يخبر الله عن شيء أنه سمعه وهو لم يقع، فقوله، قد سمع، يدل على أن هذا الكلام كان بعد وقوع الحادثة وهذا هو الحق، أن الله تكلم بالقرآن حديثا، كما قال تعالى: (مَا

ص: 212

يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ) (الأنبياء: الآية 2) .

والقول بان المراد بمحدث أي محدث إنزاله فهذا خطأ، بل هو محدث هذا الذكر؛ لان الله يتكلم متى شاء بما شاء، وعلى هذا لو أن المؤلف - عفا الله عنه - قال: عظيم بدل قوله: قديم فقال: (كلامه سبحانه عظيم) ؛ وذلك كما وصفه الله به، حيث قال سبحانه:(وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالقرآن الْعَظِيمَ)(الحجر: 87)) ، أو قال: كريم، كما وصفه الله تعالى حيث قال:(إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)(الواقعة: 77) ؛ لكان انسب وابعد عن الخطأ، وأما كلمة قديم فهي كلمة محدثة غير صحيحة بالنسبة للقران.

فإذا قال قائل: أليس قد جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ، ونزل إلى بيت العزة في السماء، ثم صار ينزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في الوقت المناسب الذي يؤمر بتنزيله فيه؟

والجواب: نعم روي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولكن ظواهر القرآن ترده، ونحن لا نطالب إلا بما دل عليه القرآن.

فأما قوله تعالى: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ)(البروج: 21)(فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)(البروج: 22)) ، فانه لا يتعين أن يكون القرآن نفسه مكتوبا في اللوح المحفوظ، بل يكون الذي في اللوح المحفوظ ذكره دون ألفاظه، وهذا لا يمتنع، أي أن يقال: إن القرآن في كذا والمراد ذكره، كما في قوله تعالى:(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)(الشعراء: 196)) ، وإنه: أي القرآن (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)(الشعراء: 196)) ، أي ذكره لا

ص: 213

القرآن نفسه؛ لان القرآن ما نزل على احد قبل محمد عليه الصلاة والسلام، ولكن المراد ذكره.

والدليل على أن المراد ذكره قوله تعالى: (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرائيلَ)(الشعراء: 197)) ، وكلنا يقرأ قوله تعالى:(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا)(المجادلة: الآية 1) ، ولو كان القرآن العظيم مكتوبا في اللوح المحفوظ بهذا اللفظ لأخبر الله عن سمع ما لم يكن، والله تعالى قال:(قَدْ سَمِعَ)، ثم قال:(والله يسمع) بالمضارع الدال على الحال والحاضر، وإذا كان الله عبر بقوله:(قَدْ سَمِعَ) عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه، فان سلمنا هنا أن نقول بهذا، فانه تمتنع مثل هذه الدعوى في قوله (وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا) (المجادلة: الآية 1) ، فان ((يسمع) فعل مضارع يدل على الحاضر.

فلو قال قائل: إن الله عبر في الآية عن المستقبل بالماضي لتحقق وقوعه كقوله تعالى: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ)(النحل: الآية 1) ؟ فالجواب أن هذا لا يصح؛ لان الله تعالى قال: (قَدْ سَمِعَ)، وإذا قلنا انه عبر عنه قبل وقوعه صح أن تقول: إنه لم يسمعه، ولا أحد يتجرأ أن يقول مثل هذا القول أبداً، وأما (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) (النحل: 1) فان الله ذكر في الآية ما يدل على انه لم يأت، حيث قال:(أَتَى أَمْرُ اللَّهِ) ، إذا هو لم يأت، ويصح أن نقول في (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) انه لم يأت؛ لان الله قال:(فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)، ولو كان قد أتى لم يستقم أن يقول:(فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ) .

فالراجح عندي أن القرآن تكلم الله عز وجل به حين نزوله، وأن ما في

ص: 214

اللوح المحفوظ فإنما هو ذكره (1) وأنه سيكون، وفيه ثناء عليه أيضا، كما قال تعالى:(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ)(البروج: 21)(فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)(البروج: 22) يعني ذكر في اللوح المحفوظ بالمجد وبالعظمة.

وعلى كل حال فقول المؤلف: (قديم) كلمة ضعيفة لا يجوز أن يوصف بها القرآن الكريم، فان القرآن الكريم يتكلم الله به عز وجل حينما ينزله على محمد صلى الله عليه وسلم.

يبقى النظر في كلام الله من حيث هو، لا في القرآن نفسه، فكلام الله

(1) كان هذا رأي شيخنا رحمه الله ثم رجع عنه. قال رحمه الله في شرح الأربعين النووية: ص 225 عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((والقرآن حجة لك أو عليك)) ، وكونه في الكتاب المكنون هل معناه أن القرآن كله كُتب في اللوح المحفوظ أو أن المكتوب ذكر القرآن وانه سينزل وسيكون كذا وكذا؟ الجواب: الأول، لكن يبقى النظر: كيف يكتب قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة وفيه العبارات الدالة على المضي مثل قوله تعالى: (إذ غَدَوتَ من أَهلِكَ تُبَوِىءُ المُؤمِنِين مَقاعِد للقِتال *واللهُ سَميعٌ عَلِيم)، ومثل قوله:(قَدْ سَمِعَ اللهُ قَولَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوجَها) ، وهو حين كتابته قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة لم يسمع قولها، لأن المجادلة لم تخلق أصلاً حتى تُسْمَع مُجَادلتها؟ فالجواب: أن الله قد علم ذلك وكتبه في اللوح المحفوظ. كما انه علم المقادير وكتبها في اللوح المحفوظ وعند تقديرها يتكلم الله عز وجل بقوله: (كن فيكون) هكذا قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو مما تطمئن إليه النفس، وكنت من قبل أقول: إن الذي في اللوح المحفوظ ذكر القرآن لا القرآن، بناء على انه يرد بلفظ المضي قبل الوقوع، وأن هذا كقوله تعالى عن القرآن الكريم (وإِنهُ لَفِي زُبر الأوَلِين) ، والذي في زبر الأولين ليس القرآن، بل ذكر القرآن والتنويه عنه. ولكن بعد أن اطلعت على كلام شيخ الإسلام رحمه الله تعالى انشرح صدري إلى أنه مكتوب في اللوح المحفوظ ولا مانع من ذلك، ولكن الله تعالى عند إنزاله إلى محمد صلى الله عليه وسلم يتكلم به ويلقيه إلى جبريل. هذا قول السلف وأهل السنة في القرآن والله اعلم.

ص: 215

من حيث هو ليس بقديم، لكن وصف الله تعالى بالكلام هذا أزلي، فالله سبحانه وتعالى لم يزل متكلما كما قال ابن القيم رحمه الله في النونية (1) .

والله ربي لم يزل متكلما....................

فالله لم يزل متكلما، وكلامه سبحانه وتعالى أزلي من حيث النوع، أما من حيث الآحاد فانه متعلق بمشيئته وليس أزليا.

والفرق بينهما ظاهر، فالله لم يزل يتكلم، ولكن آحاد كلامه ليست أزلية، قال تعالى:(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(يّس: 82) ، والمراد لله مُتَجَدِد؛ فالله تعالى يريد مثلا أن ينزل المطر فينزل، ويريد أن تنبت الأرض فتنبت، فإذا أراد شيئا قال له: كن فيكون. إذا فالقول يحدث بعد الإرادة، فتكون آحاد الكلام حادثة ليست أزلية، لكن الأصل في الكلام انه أزلي، فان الله تعالى لم يزل متكلماً ولا يزال متكلماً أيضاً، كلامه لا ينفدُ، قال تعالى:(قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً)(الكهف: 109)) ، وقال تعالى (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لقمان: 27)) .

والحاصل أن كلام الله من حيث الأصل أزلي، لم يزل الله عز وجل ولا يزال متكلما، أما من حيث الآحاد فهو حادث يتعلق بمشيئته سبحانه متى شاء تكلم بما شاء.

قال: (اعيا الورى بالنص يا عليم)(أعيا) بمعنى أعجزه، و (الورى) : أي الخلق، فلم يأت الخلق بمثل هذا القرآن، قال الله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ

(1) انظر القصيدة النونية 1/262.

ص: 216

الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القرآن لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (الإسراء: 88)) ، وقال تعالى:(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ)(البقرة: الآية 23)، وقال تعالى:(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ)(هود: الآية 13) ، فعجز العرب وهم أهل البلاغة عن أن يأتوا بمثل القرآن، فهذا دليل على أن هذا القرآن كلام الله؛ لأنه لو كان كلام المخلوق لأمكن للمخلوق أن يأتي بمثله، فلما عجز المخلوقون عن أن يأتوا بمثله عُلَمَ أنه صفة من صفات الله التي لا تماثلها صفات المخلوقين.

وقوله: (بالنص) : النص هو ما ذكرناه من الآيات السابقة.

وقوله: (يا عليم) : يعني يا ذا العلم، كأنه يقول: اعلم أنه أعيا الورى بالنص.

ص: 217

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

42-

وليس في طوق الورى من أصله

أن يستطيعوا سورة من مثله

ــ

الشرح

قوله: (وليس في طوق) بمعنى طاقة الورى، و (الورى) الخلق.

وقوله (ليس في طوق الورى من أصله) فيه إشارة إلى رد قول من يقول: إن الورى لا يستطيعون مثله بالصرفة، يعني أن الله صرفهم عن أن يأتوا بمثله، أما في الأصل فإنهم قادرون على أن يأتوا بمثله.

ولا شك أن هذا القول قول باطل؛ وذلك لأن القرآن كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته، وإذا كانت جميع صفات الله لا يمكن أن يتصف بمثلها المخلوق فكذلك الكلام لا يمكن أن يأتي بمثله المخلوق، وليس ذلك لان الله صرفهم عن معارضته، بل لأنهم عاجزون من أصله لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن.

وعلى فرض أن الله صرفهم فإن صرف الله عن معارضته دليل على أن القرآن حق، وإلا لسلط الله عليه من يعارضه، لكن هذا القول كما مر ضعيف، والذين أنكروه وقالوا: إن إعجاز القرآن ليس بالصرفة، قالوا: لأنه لو كان بالصرفة لكان في استطاعة الخلق أن يأتوا بمثله، فلا يكون آية، ولكن يرد عليهم في ذلك بأن القرآن لو كان آية بالصرفة كان آية من وجه آخر، وهو أن الله لم يسلطهم على معارضته بل منعهم.

لكننا قلنا من الأصل: إن هذا القول ضعيف، والصحيح الذي لا شك

ص: 218

فيه أن الخلق عاجزون عن معارض القرآن، وان يأتوا بمثله، لا لأنهم صرفوا عن ذلك ومنعوا منه قدرا، ولكن لأنهم عاجزون من الأصل، لأن القرآن كلام الله صفته، وصفات الله لا يمكن أن يشابهها صفات.

قال المؤلف رحمه الله: (أن يستطيعوا سورة من مثله) قال بعض العلماء رحمهم الله: بل أن يستطيعوا آية من مثله، وقالوا: إن الله سبحانه وتعالى تحدى الخلق بأربعة وجوه: أن يأتوا بمثل القرآن كله، أو بعشر سور منه، أو بسورة، أو بحديث؛ والحديث يشمل ما دون السورة.

فبالقرآن كله في قوله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القرآن لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ)(الإسراء: الآية 88)، وبعشر سور في قوله تعالى:(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ)(هود: الآية 13)، وبسورة في قوله تعالى:(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِه)(البقرة: الآية 23)، وبما دون السورة في قوله تعالى:(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ)(الطور: 33)(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ)(الطور: 34)) .

وخلاصة ما ذكره المؤلف رحمه الله: أننا نؤمن بأن ما نزل به جبريل من عند الله كلام الله عز وجل، لكن القول بأنه قديم ليس بصحيح (1) ، ولا يجوز أن نقول به؛ لأنه مخالف للقرآن. ثم إننا نؤمن بأن هذا القرآن لا يمكن لأحد أن يأتي بمثله من الأصل؛ لأنه صفة الله، وصفة الله لا يمكن أن يتصف بها المخلوق، وليس ذلك لان المخلوق يمكن أن يقول مثله لكنه صرف، بل لأن

(1) انظر ص 215.

ص: 219

المخلوقين عاجزون عن أن يأتوا بمثله.

ونؤمن بأنه غير مخلوق؛ لأنه لو كان مخلوقا لم يكن صفة من صفاته ولو جاز أن يكون مخلوقا لكان الخلق من صفات الله، ولكنت أنا وأنت صفة من صفات الله، والشمس صفة من صفات الله، والقمر صفة من صفات الله، وهكذا

، ومعلوم أن هذا منكر ولم يقل به أحد، فلم يقل أحد إننا صفات الله إلا من قال بوحدة الوجود، وهؤلاء معروف أنهم ملحدون.

إذاً فهو غير مخلوق؛ لأنه صفة من صفات الله، وصفات الله غير مخلوقة، ولو جاز أن نسمي القرآن صفة من صفات الله ومخلوقا، لجاز أن نسمي كل مخلوق بأنه صفة من صفات الله، يقول العلماء:(منه بدأ) . منه: أي من الله بدأ، فلم يبتدئه أحد قبله، وإذا كان منه بدأ فهو كلامه يرجع إليه.

فإن قال قائل: أليس الله يقول: (إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ)(الحاقة: 40)(وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ)(الحاقة: الآية 41)، فنسبه إلى محمد صلى الله عليه وسلم؟ لقلنا: إن الله تعالى نسبه إلى محمد لأنه مبلغ، والدليل على هذا أن الله نسبه في آية أخرى إلى جبريل، ومعلوم أن الكلام الواحد لا يصدر من متكلمين، فإذا نسبه إلى محمد صلى الله عليه وسلم والى جبريل فباعتبار أنهما قاما بتبليغه؛ جبريل بلغه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم بلغه إلى الأمة.

(ثم إليه يعود)، ومعنى إليه يعود على وجهين:

الوجه الأول: إليه يعود وصفاً فلا يوصف به غيره.

ص: 220

والوجه الثاني: إليه يعود في آخر الزمان؛ حيث جاء في الآثار أن هذا القرآن ينزع من صدور الناس ومن بطون المصاحف، حتى يصبح الناس وليس بين أيديهم قرآن، وليس في صدورهم قرآن، كما أن الكعبة تهدم وتمحى من الأرض، وذلك فيما إذا أعرض الناس عن ذلك القرآن إعراضا كليا، فان الله تعالى يغار على كلامه أن يبقى بين أناس معرضين عنه إعراضا كليا، والكعبة أيضا لا يسلط الله عليها أحدا إلا إذا لم يقم أهلها بما يجب لها من التعظيم، فإن الله يسلط عليها الرجل الحبشي فيقضها حجراً حجرا حتى تلقى في البحر (1) - نسال الله العافية -.

(1) رواه البخاري، كتاب الحج، باب هدم الكعبة، رقم (1595) .

ص: 221

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

43-

وليس ربنا بجوهر ولا

عرض ولا جسم تعالى ذو العلا

44-

سبحانه قد استوى كما ورد

من غير كيف قد تعالى أن يحد

ــ

الشرح

هذا الكلام من المؤلف رحمه الله يحتمل وجهين:

الوجه الأول: ولسنا نقول: - ربنا - جوهرا أو عرضا أو جسما، يعني لا نقول بذلك بل نسكت، وهذا الوجه صحيح، يعني لا يجوز لنا أن ننفي أن الله جوهر أو عرض أو جسم، كما لا يجوز لنا أن نثبت ذلك؛ لأنه لم يرد في القرآن ولا السنة إثبات ذلك ولا نفيه، والمعتمد في صفات الله هو الكتاب والسنة، فإذا لم يرد فيهما إثبات ولا نفي وجب علينا أن لا نقول بالإثبات ولا بالنفي.

الوجه الثاني لكلام المؤلف: نفي الجوهر لا نفي القول به، وعلى هذا الوجه يكون معناه القول بنفي الجوهر، يعني إننا نقول: إنه ليس بجوهر.

والفرق بين الوجهين ظاهر.

فقول المؤلف رحمه الله: (وليس ربنا بجوهر) يحتمل أن المعنى لا نقول إن ربنا ليس بجوهر أو أنه جوهر، يعني: لا نقول لا هذا ولا هذا، وهذا المعنى صحيح؛ لان ذلك لم يرد في الكتاب ولا في السنة، ويحتمل أن يكون معنى كلامه: إن الله ليس بجوهر، فحينئذٍ أثبت قوله وهو: نفي الجوهر

ص: 223

يعني أن الله ليس بجوهر.

أما الوجه الأول وهو نفي القول بأنه جوهر فهذا صحيح؛ لأنه ليس لنا أن نقول: إنه جوهر، ولا أن نقول: إنه ليس بجوهر.

وأما الوجه الثاني وهو القول بأنه ليس بجوهر فهذا غير صحيح.

وهو ظاهر كلام المؤلف، فالمؤلف رحمه الله يرى أن من عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم يقولون: إن الله ليس بجوهر ولا عرض ولا جسم، ولا شك أن هذا النفي ليس بصحيح، ولم يقل أهل السنة بذلك، وليس هذا مذهبهم؛ لأنهم لا يجزمون بنفي شيء أو إثباته إلا بدليل، وهذا ليس فيه دليل، لا إثباتا ولا نفيا.

والجوهر: هو ما قام بنفسه، والعرض: هو ما قام بغيره، والجسم: يعني ما له تمثال، يعني أنه شيء ملموس أو قائم مجسم.

فالمؤلف رحمه الله يرى أن من عقيدتنا أن ننفي هذه الثلاثة عن الله عز وجل، ولكن هذا ليس بصحيح وليس من مذهب أهل السنة والجماعة وذلك أن هذه الألفاظ ألفاظ حادثة لم تكن معروفة عند السلف فلا يوجد في أقوال السلف قول يقول: إن الله جسم ولا أنه ليس بجسم، ولا أن الله عرض ولا أنه ليس بعرض، ولا أن الله جوهر ولا انه ليس بجوهر، لا في القرآن ولا في السنة ولا في كلام السلف.

لكن المتكلمين لما حدثت فتنتهم صاروا يذكرون هذه الكلمات للتوصل بنفيها إلى نفي الصفات عن الله، فمثلا يقولون: النزول لا يكون إلا بجسم والله تعالى ليس بجسم، وإذا انتفى الملزوم انتفى اللازم، إذاً لا ينزل الله إلى

ص: 224

السماء الدنيا، كذلك الاستواء على العرش حقيقة يستلزم أن يكون الله جسماً، والله تعالى ليس بجسم، إذاً فنفي استواء الله على العرش، وهكذا أتى المتكلمون بمثل هذه العبارات ليتوصلوا بها إلى نفي صفات الله عز وجل، وإلا فليس لهم غرض في نفي هذا أو إثباته إلا هذه المسالة.

ولما كانت هذه الكلمات غير موجودة لا في القرآن ولا في السنة ولا في كلام الصحابة لا نفيا ولا إثباتا، فالواجب علينا أن نتوقف فلا ننفي أن الله جسم ولا نثبته، ولا أن الله عرض ولا نثبته، ولا أن الله جوهر ولا نثبته، بل نسكت ونستفصل في المعنى، فنقول لمن نفى أن يكون الله جسما: إن أردت بالجسم ما كان حادثا مركبا من أجزاء وأعضاء فنحن معك في نفيك، فالله ليس بحادث، ولا مركب من أعضاء وأجزاء بحيث يجوز أن يفقد شيء منها، لكن لا ننفي الجسم، بل نقول إن الله منزه عز وجل عن أن يكون له أبعاض كأبعاض المخلوقين، بحيث يكون جسما مركبا منها، ويفقد بعضها مع بقاء الأصل وما أشبه ذلك.

وإن أردت بالجسم الذات الموصوفة بالصفات اللائقة بها، فهذا حق نثبته، ولا يجوز لنا أن ننفيه، لكن مع ذلك لا نقول: إن الله جسم حتى إن أردنا هذا المعنى؛ لأن لفظ الجسم لم يرد في القرآن ولا في السنة، لا إثباتا ولا نفيا؛ ولأن إثبات الجسم إن أثبتناه مستلزم للتشبيه على رأي بعض الناس، وإن نفيناه فهو مستلزم للتعطيل على رأي آخرين، إذاً فلا نثبته ولا ننفيه.

وهذه هي العقيدة السليمة: أن لا نثبت باللفظ أن الله جسم أو ليس بجسم، بل نسكت، فما دام الله قد سكت عنه، ورسوله سكت عنه، والصحابة سكتوا عنه، فنسكت فلا نثبت ولا ننفي، لكن نؤمن بأن لله ذاتاً

ص: 225

موصوفة بالصفات اللائقة بها، وأن الله تعالى يقبض، ويبسط، ويأخذ بيمينه الصدقة، ويريبها، وينزل، ويأتي، فيجب علينا أن نؤمن بهذا، وما ورآء ذلك فلا نتعرض له.

قوله: (تعالى ذو العلا) تعالى: أي ترفع عن كل ما لا يليق به ترفعا معنويا، وترفع بذاته ترفعا حسيا، فهو سبحانه وتعالى متعال حسا ووصفا عن كل نقص، قال الله تعالى:(رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ)(غافر: الآية 15) .

وقوله: (سبحانه) أي تنزيها له عن أن يكون جسما أو جوهر أو عرضا، وهذا التنزيه ينبغي التنزه منه لا الاتصاف به؛ لأنه كما سبق: لا يجوز لنا أن نثبت ولا أن ننفي، ونفينا ذلك عن الله وادعاء أن ذلك تنزيه خطأ، فقول المؤلف:(سبحانه) أي تنزيها له عن أن يوصف بهذه الصفات، فالتنزيه أن ينزه الله عما لا يليق به، لا أن يؤتى بألفاظ مجملة وينزه الله عنها.

ثم قال: (قد استوى كما ورد من غير كيف) . ولم يذكر المؤلف رحمه الله متعلق الاستواء، لكن من المعلوم أن المراد: استوى على العرش كما ورد.

وقد ذكر الله سبحانه وتعالى الاستواء على العرش في سبعة مواضع من كتابه؛ ففي سورة الأعراف قال: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)(الأعراف: الآية 54)، وفي سورة يونس:(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)(يونس: الآية 3)، وفي سورة الرعد (اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (الرعد: الآية 2) ، وفي سورة طه (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5) ، والخامس في سورة السجدة (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي

ص: 226

سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (السجدة: الآية 4)، والسادس في سورة الفرقان (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرحمنُ فَاسْئَل بِهِ خَبِيراً) (الفرقان: الآية 59) ، والسابع في سورة الحديد (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ) (الحديد: الآية 4) .

ففي سبعة مواضع ذكر الله سبحانه وتعالى الاستواء على العرش نصاً صريحاً واضحاً، فأضاف الاستواء على العرش ((بعلى)) الدالة على العلو كقوله تعالى:(فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ)(المؤمنون: الآية 28)، أي علوت عليه واستقررت عليه وقال الله تعالى:(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ)(الزخرف: الآية 12)(لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ)(الزخرف: الآية 13) ، أي تعلوا عليها وتستقروا عليها.

والاستواء يرد في اللغة العربية على أربعة وجوه: مطلق، ومقيد بالى، ومقيد بعلى، ومقيد بالواو.

1-

فإذا كان مطلقا فالمراد به الكمال، كما قال تعالى:(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى)(القصص: الآية 14) ، أي كمل.

2-

وإذا ورد مقرونا بـ (إلى) صار معناه: الانتهاء إلى الشيء في كمال، كقوله تعالى:(ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ)(فصلت: الآية 11) .

3-

وإذا كان مقيدا بـ (على) كان معناه العلو والاستقرار، كالآيات التي سبق أن ذكرناها في قوله تعالى:(ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)(الرعد: الآية 2) .

4-

وإذا اقترن بالواو صار معناه المساواة كقولهم: استوى الماء والخشبة: أي ساوى الماء الخشبة.

ص: 227

واستوى على العرش في جميع مواقعها في اللغة العربية لا تقتضي إلا العلو والاستقرار. فمن أصول أهل السنة والجماعة الإيمان بأن الله تعالى استوى على عرشه، أي علا عليه واستقر عليه علوا واستقرارا يليق بجلاله عز وجل، لا يماثل استواء الإنسان على البعير، أو على الفلك.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (كما ورد) ويجوز أن تكون الكاف للتشبيه يعني استواء كالوارد، والوارد في استوائه أنه استواء يليق بجلاله. ويحتمل أن تكون الكاف للتعليل، أي استوى لأنه ورد في كتاب الله، والكاف تأتي للتعليل كما قال ابن مالك:

شبه بكاف وبها التعليل قد يعني............................

ومنه قوله تعالى: (وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ)(البقرة: الآية 198)، على أحد الوجهين: أي لهدايته إياكم، وقوله:(كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً)(البقرة: الآية 151)، وفي حديث التشهد:((اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم)(1) .

وعلى كل حال فإن مراد المؤلف بهذا أن نؤمن بأن الله استوى على العرش استواء يليق بجلاله استواء يليق بجلاله، ومعنى استوى عليه: أي علا واستقر، وأما بالنسبة لكيفية هذا الاستواء فإنه يقول:(من غير كيف) والمراد بقوله: (من غير كيف) أي من غير تكييف، وليس المراد من غير كيفية؛ لأننا نعلم أن الله استوى على العرش على كيفية يعلمها ونحن لا نعلمها، ولا يصح أن يراد بذلك نفي الكيفية، لأننا إذا نفينا الكيفية نفينا الأصل؛ إذ ما من شيء يكون

(1) رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً) ، رقم (3370) ، ومسلم، كتاب الصلاة، باب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (406) .

ص: 228

إلا وله كيفية، ولكن المنفي هو التكييف.

وعلى هذا يجب أن نصرف كلام المؤلف رحمه الله إن كان ظاهره خلاف ذلك إلى هذا المعنى ونقول من غير كيف: أي من غير تكييف.

وهذا الذي ذكره المؤلف رحمه الله هو الذي عليه أئمة السلف، فان مالكا رحمه الله سئل وهو في مجلسه، فقال له قائل: يا أبا عبد الله، (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) (طه: 5) كيف استوى؟ فسأله عن الكيفية، فاطرق رحمه الله برأسه حتى علاه العرق، من شدة وقع السؤال على قلبه، ثم رفع رأسه وقال: يا هذا، الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعاً، ثم أمر به فأُخرج (1) .

وهكذا ينبغي لأهل العلم إذا رأوا في صفوفهم مبتدعا أن يطردوه عن صفوفهم؛ لأن المبتدع وجوده في أهل السنة شر؛ لأن البدعة مرض كالسرطان لا يرجى برؤه إلا أن يشاء الله، وقوله:(إلا مبتدعاً)، يحتمل أنه أراد: إلا مبتدعا بهذا السؤال، أو: إلا أنك من أهل البدع؛ لأن أهل البدع هم الذين يكون ديدنهم السؤال عن المشتبهات من أجل التشويش على الناس، وأياً كان المعنى فهو يدل على أن من هدي السلف طرد المبتدعين عن صفوف المتعلمين، وهكذا ينبغي أن يُطردوا عن المجتمع كله، وأن يضيق النطاق عليهم حتى لا تنتشر بدعهم، ولا يقال: كل إنسان حر، بل يقال: إنه حر لكن في حدود الشرع، أما إذا خالف الشرع فإنه يجب أن يضيق عليه، ويبين له الحق، فإن رجع إليه فذاك، وإلا عومل بما تقتضيه بدعته، من

(1) انظر شرح اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي 3/398.

ص: 229

تكفير أو فسق.

إذاً معنى الاستواء على العرش هو العلو عليه، لكنه علو خاص بالعرش ليس كالعلو المطلق على جميع الكون، ولهذا قال الله تعالى:(رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ)(غافر: الآية 15)، وهو سبحانه (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ) (البروج: 15) (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)(البروج: 16) .

فالله تعالى عال علواً مطلقاً على جميع الكون، ويمكننا أن نضرب مثلا يبين الفرق بين العلو العام والعلو الخاص: فلو أن رجلا على السطح على السرير، كان علوه على السرير علوا خاصا، وعلوه على ما تحت السقف علوا عاما. فالاستواء على العرش اخص من مطلق العلو الشامل لجميع الكون، ولذلك نقول: إن الله تعالى علا على الأرض وعلى السماء، ولا نقول: استوى على الأرض أو على السماء.

وفي الاستواء عدة مباحث:

المبحث الأول: أن الاستواء بمعنى العلو لكنه علو خاص. وسبق الكلام على هذا المبحث.

المبحث الثاني: على أي كيفية كان الاستواء؟

الجواب: الله أعلم بها، له كيفية لكننا لا نعلمها، وحينئذ لا يحل لنا البحث فيها لا سؤالا ولا إجابة والله تعالى قد أخرَنا بأنه استوى ولم يخبرْنا كيف استوى، وعلى هذا فلا يمكننا أن نعرف ذلك لأنه من أمور الغيب، والله يقول:(وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(الإسراء: الآية 36)، ويقول تعالى (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ) (الأعراف: 33) ، فلو

ص: 230

سألنا سائل وقال: كيف استوى الله على العرش؟

فإننا نقول: إن هذا السؤال لا يجوز. ولا كان لنا في معرفة هذا خير لبينه الله لنا، ولا يمكن أن ندرك هذا؛ لأن كيفية صفات الله أعظم من أن تحيط بها عقولنا.

المبحث الثالث: هل استوى الله على العرش بمماسة أو بغير مماسة؟

الجواب أن نقول في هذا كما قلنا في الأول: السؤال عن هذا بدعة وليس لنا أن نقول بمماسة أو غير مماسة، بل نقول: استوى، ولا نتجاوز القرآن والحديث؛ لان هذه الأمور الغيبية لا يجوز للإنسان أن يسال عن شيء إلا عن معناها فقط، أما عن كيفيتها وما زاد عن المعنى فلا يحل لنا أن نبحث فيه؛ لا سؤالاً ولا إجابةً.

ولهذا نقول: لقد أخطأ بعض العلماء الذين قالوا: إن الله استوى على العرش بدون مماسة، وأنه ليس لهم الحق أن يقولوا بمماسة أو بدون مماسة؛ لأن ذلك لم يرد، بل ندع هذا وليسعنا ما وسع الصحابة الذين هم أحرص منا على العلم، وأشد منا تعظيما لله عز وجل. وعلى هذا فكلمة مماسة أو غير مماسة يجب أن تلغى وتحذف.

المبحث الرابع: هل نقول: إن الله استوى على العرش بذاته؟

والجواب على ذلك: أن كلمة بذاته ليس لنا فيها حاجة؛ لأن كل فعل أضافه الله إلى نفسه فهو إلى ذاته لا شك، ولهذا لا يقال: إن الله خلق السموات بذاته؛ لأنه هو نفسه الذي خلق السموات، ولا يقال: ينزل إلى السماء الدنيا بذاته، فما دام الفعل مضافا إلى الله فهو صادر منه.

ص: 231

لكن ورد في كلام بعض السلف قولهم: إن الله استوى على العرش بذاته ومرادهم بهذا الرد على قول من قال: إن الله استولى على العرش، كما قالوا: إن الله تعالى عال بذاته؛ رداً على قول من يقول: إن الله عال بصفاته لا بذاته، وإلا فإن القاعدة التي ليس فيها إشكال أن كل شيء أضافه الله إلى نفسه فهو إليه نفسه. فلا حاجة أن نقول: استوى على العرش بذاته؛ لأن الله قال: (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش)(الأعراف: الآية 54) أي نفسه، لكن إذا جاء أحد يشكك ويقول: إن استوى بمعنى استولى، وليس هناك استواء ذاتي، حينئذ نضطر إلى أن نقول: بذاته.

كذلك ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، فلا نزيد ونقول: ينزل بذاته وليس هناك حاجة لأن نزيد: بذاته؛ لأن الله أضاف النزول إليه نفسه، فإذا قال: ينزل إلى السماء الدنيا، يعني هو نفسه ينزل، وليس هناك حاجة أن نقول: بذاته، لكن لما قال المعطلون: ينزل أمره، احتاج أهل السنة أن يقولوا: إنه ينزل بذاته، يعني: ينزل ذاته، هذا قصدهم.

فلهذا نقول: استوى على العرش بذاته، لا حاجة إليها؛ لأنها معلومة بمجرد إضافة الفعل إلى الله.

المبحث الخامس: هل يجوز أن نفسر الاستواء بالاستيلاء كما قاله أهل التعطيل حيث قالوا: إن الله استوى على العرش أي استولى عليه، وليس معناه علا عليه؟

قالوا: لأننا لو قلنا: إن استوى على العرش أي علا عليه لزم أن يكون الله محدوداً، يعني له حد، ويقال: إن امرأة الجهم بن صفوان قدمت البصرة، فقيل لها: إن الله استوى على العرش، فقالت متعجبة منكرة:

ص: 232

محدود على محدود! ولا شك أن القول بذلك كفر، يعني: إذا استوى على العرش لزم أن يكون محدوداً، ولزم أن يكون جسماً، والحد ممتنع، والجسمية - على زعمهم - ممتنعة، فلهذا نقول استوى يتعين أن تكون بمعنى استولى.

ورداً عليهم نقول: إن هذا التأويل، بل هذا التحريف، خطأ من عدة وجوه:

الوجه الأول: إنه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف؛ فظاهر اللفظ (اسْتَوَى عَلَى الْعَرْش) ليس فيه استولى، والسلف أيضا مجمعون على أن استوى بمعنى علا، فإن قال قائل: وما الدليل على إجماعهم؟ فإننا نقول: لأن هذا هو معنى استوى على الشيء في اللغة العربية، والسلف لغتهم عربية، ولو كان المراد بالآية سوى ما تقتضيه اللغة العربية لتكلموا به وبينوه، فلما لم يأت عنهم ما يخالف مقتضى اللغة العربية في هذه الكلمة، علم بأنهم يقولون فيها بمقتضى اللغة العربية، فهم مجمعون على أن استوى بمعنى علا على العرش واستقر.

وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في النونية أنه ورد عن السلف في ذلك أربعة معان: علا واستقر وارتفع وصعد (1) .

الوجه الثاني: إننا إذا قلنا استوى بمعنى استولى؛ لزم أن يكون العرش قبل استواء الله عليه ملكاً لغيره، والله تعالى يقول:(إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)(الأعراف: الآية 54) ، فهل يكون قبل ذلك لغير الله؟! هذا لا شك أنه معنى باطل، لا يمكن أن يقول به قائل.

(1) انظر القصيدة النونية (1/233) .

ص: 233

الوجه الثالث: إننا لو قلنا: استوى بمعنى استولى، لصح أن يقال: إنه استوى على الأرض، وعلى الشمس، وعلى القمر، وعلى السماء، وغير ذلك مما هو ملك لله، فإذا كان استوى بمعنى استولى، فالله مستوٍ على كل شيء، ولا يمكن أن يقول بهذا قائل، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم.

الوجه الرابع: أنه ليس في اللغة العربية أن استوى تأتي بمعنى استولى، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، وليس في موضع واحد من المواضع السبعة التي ذكر الله فيها الاستواء - أنه استولى على العرش، بل المواضع السبعة كلها جاءت على وتيرة واحدة: استوى على العرش.

فإذا قالوا عندنا دليل وهو قول القائل:

قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مِهراق

ومعنى استوى بشر على العرق: أي استولى على العراق، فالجواب على ذلك:

أولاً: إن هذا البيت قائله مجهول ولا يدرى من قائله، ولا يمكن أن يستدل على شيء من العقيدة المتعلقة بالله عز وجل ببيت شعر مجهول قائله، فالاحتجاج به مردود من الأصل.

ثانيا: أن نقول: لو ثبت أن قائله من العرب العرباء الذين لم تغيرهم اللكنة ولا العجمة، فإن المانع من جعل الاستواء هنا بمعنى العلو قرينة ظاهرة، وهو أن بشراً لم يكن يرتفع على العراق حتى يكون العراق تحته كالكرسي، فيكون لدينا قرينة تمنع من إرادة العلو، ولم توجد هذه القرينة في قوله تعالى:(اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)(الأعراف: لآية 54) .

ص: 234

ثالثا: أنه يمكن أن نجعل استوى في هذا البيت أيضاً بمعنى علا، فيكون قوله:((قد استوى بشر على العراق) أي قد علا على العراق لكنه علو معنوي، كقوله تعالى:(فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ)(محمد: الآية 35) فليس معنى (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) إننا فوق المشركين وعلى رؤوسهم، لكن هذا علو معنوي، فيكون استوى بشر على العراق يعني علا عليه، لكن علواً معنوياً. هذا إن صح أن قائل هذا البيت من العرب العرباء، مع أنه لم يصح، فبطل الاستدلال بهذا البيت على أن استوى بمعنى استولى.

إذاً فعقيدتنا التي ندين الله بها، ونسال الله أن نكون عليها حتى نموت، هي أن استوى على العرش: أي علا عليه علواً خاصاً كما يليق بجلاله وعظمته، لا نكيفه، ولا نمثله.

أما العرش فهو ذلك المخلوق العظيم الذي فوق جميع المخلوقات، واختصه الله تعالى لنفسه، وهو محيط بالكون كله، وقد ورد أن السموات السبع والأراضين السبع بالنسبة للكرسي الذي وسع السموات والأرض كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، فالحلقة إذا ألقيت في فلاة من الأرض فإنها لا تمثل شيئا بالنسبة إليها، ولا تنسب إليها، قال:((وإن فضل الله على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة)(1) . إذاً فالعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل، ولا يمكن أن نتصور عظمة هذا العرش، ولهذا وصفه الله بأنه مجيد، وانه عظيم؛ لأنه اكبر المخلوقات التي نعلمها، وأعلى المخلوقات التي نعلمها، ولذلك هو عرش يليق بالله سبحانه وتعالى.

(1) رواه محمد بن أبي شيبة في العرش (58) ، وابن مردويه كما في تفسير ابن كثير 1/309، 310.

ص: 235

المبحث السادس: هل الله عز وجل باستوائه على العرش يكون العرش مُقِلاً له حاملاً له، كما يستوي الإنسان منا على السرير؟

الجواب: لا، ليس كذلك، لأننا لو قلنا إنه حامل له كحمل السرير لأحدنا، لزم من هذا أن يكون محتاجا إلى العرش، والله عز وجل مستغن عن كل شيء، وكل شيء محتاج إليه، فلا يمكن أن نقول إن العرش يقل الله أبداً.

فالله أعظم من أن يقله شيء من مخلوقاته، لكن هو الذي اختصه الله لنفسه بالاستواء فقط، وأما أن يقله، فلا لأننا لو قلنا بذلك لزم منه معنى فاسد لا يدل عليه القرآن، وهو احتياجه إليه كاحتياج الإنسان منا إلى السرير، ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إن العرش لا يقل الله، بمعنى أنه ليس محتاجاً إليه كما يحتاج الإنسان منا إلى السرير، فالإنسان منا يحتاج إلى السرر ليجلس عليه، ولو أزيل من تحتنا لسقطنا.

ثم قال المؤلف رحمه الله: (قد تعالى أن يحد) تعالى: يعني ترفع وتباعد عن الحد، (أن يحد) : يعني عن أن يحد، فإن وما دخلت عليه في تأويل مصدر منصوبة بنزع الخافض؛ لأن نزع الخافض مع أن وإن مطرد، كما قال ابن مالك رحمه الله:

نَقلاً وَفي أَنَّ وَأَنْ يَطَّردُ مع أمْنِ لَبْسٍ كَعَجِبْتُ أنْ يَدُواْ

وعلى كل حال فترتيب العبارة: تعالى عن أن يحد، أي تعالى عن الحد، ومعنى ذلك أن الله لا يحد.

وكلمة (الحد) من الألفاظ التي لم ترد في الكتاب ولا في السنة، فليس في الكتاب أن الله يحد، ولا أنه

ص: 236

لا يحد، ولا في السنة أن الله يحد، ولا أنه لا يحد.

وإذا كان كذلك فالواجب السكوت عن ذلك فلا يقال إنه يحد ولا إنه لا يحد، وليس هناك ضرورة أن نقول: إنه يحد أو لا يحد، ولو كان من الضروري أن نعتقد أن الله يحد أو لا يحد لبينه الله تعالى أو بينته السنة؛ لأن الله تعالى يقول:(وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء)(النحل: الآية 89) .

ولذلك اختلف كلام من تكلم به من السلف في: هل الله يحد أو لا يحد؟ فمنهم من أنكر الحد وقال: إنه لا يجوز أن نقول إن الله محدود، ومنهم من قال: يجب أن نقول إن الله محدود، وأن له حداً. ولكن يجب أن نعلم أن الخلاف يكاد يكون لفظيا؛ لأنه يختلف باختلاف معنى الحد المثبت والمنفي.

فمن قال: إن الله محدود أراد أنه بائن من الخلق ومحاد لهم ليس داخلاً فيهم ولا هم داخلون فيه، كما نقول: هذه أرض فلان، وهذه أرض فلان، كل واحدة منهما محدودة عن الأخرى، أي بينهما حد، فمن أثبت الحد أراد به هذا المعنى: أي أن الله تعالى منفصل بائن عن الخلق ليس حالا فيهم ولا الخلق حالُّون فيه، وهذا المعنى صحيح.

ومن قال: إنه غير محدود أراد أن الله تعالى أكبر من أن يحد، ولا يحده شيء من مخلوقاته، ولا يحصره شيء من مخلوقاته، فقد وسع كرسيه السموات والأرض، ولا يمكن أن يحده شيء من المخلوقات وهذا المعنى صحيح، وكل السلف متفقون على هذا، وعليه فيكون الخلاف بينهم لفظيا بحسب هذا التفصيل.

ص: 237

فقول المؤلف رحمه الله: (قد تعالى أن يحد) يدل على أن المؤلف ممن ينكر أن يوصف الله بالحد، فيحمل كلامه على أن المراد بالحد: الحد الحاصر الذي يحصر الله عز وجل، فإن الله تعالى - بهذا المعنى - غير محدود، فالله واسع عليم وسع كرسيه السموات والأرض، والسموات والأراضين كلها في كف الرحمن عز وجل كخردلة في كف أحدنا، وهذا على سبيل التقريب، وإلا فما بين الخالق والمخلوق أعظم مما بين كف الإنسان والخردلة، وعلى كل حال فإن المؤلف أراد بنفي الحد هنا الحد الذي يحصر الله عز وجل، ولم يرد الحد الذي يجعله بائنا من الخلق، فإن الحد الذي يراد به بينونة الله من خلقه أمر ثابت واجب اعتقاده.

على إننا كما قلنا: إن الكلام في الحد إثباتا ونفيا من الأمور التي ينبغي السكوت عنها؛ لأنها لم ترد في القرآن ولا في السنة لكن إذا ابتلينا وجب أن نفصل.

ص: 238

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

45-

فلا يحيط علمنا بذاته

كذاك لا ينفك عن صفاته

ــ

الشرح

قوله: (فلا يحيط علمنا بذاته) هذا مما يدل على أنه أراد بقوله: (قد تعالى أن يحد) أنه لا يمكن أن يكون حصوراً، يحاط به، ولهذا قال:(فلا يحيط علمنا بذاته) ، فذات الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يحيط بها العلم، وإذا كان الحس لا يحيط بها فالعلم من باب أولى، قال الله تعالى:(لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)(الأنعام: 103) ، فإذا كان البصر لا يدرك الله مع مشاهدته له، فكذلك العلم المبني على مجرد التخيل والتصور لا يمكن أن يحيط بالله عز وجل؛ لأن الله أكبر وأعظم من كل شيء تقدره - مهما قدرت - فالله أعظم، ومهما قدرت فأنت كاذب في تقديرك؛ لأن الله يقول:(وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)(طه: الآية 110) ، فكل ما يقدره ذهنك من تصور في ذات الله عز وجل فإنه كذب، والله أعظم وأجل، ولهذا نهى بعض السلف أن يفكر الإنسان في ذات الله، وقال: إنما التفكر في آيات الله، قال تعالى:(وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ)(آل عمران: الآية 191) ولم تأت آية - ولا حديث - تحثنا على أن نتفكر في الله نفسه، فالتفكر إنما يكون في آياته، وفي أسمائه، وفي صفاته، أما في ذاته فلا؛ لأنه مهما كان الأمر فلا يمكن أن تصل إلى نتيجة إلا إلى نتيجة محرمة، وهي أن تتصور مثالا ليس لك به علم، وقد قال الله تعالى:(وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(الإسراء: الآية 36)

ص: 239

إذاً: دَعِ التفكر في هذا، وتفكر في أسمائه؛ ومعنى كل اسم، وما يتضمنه من صفة، وتفكر أيضاً في آياته، وما تدل عليه؛ والشمس والقمر، واختلاف الليل والنهار، ومداولة الأيام بين الناس، وما أشبه ذلك، أما أن تجعل ذات الله عز وجل هي محط التفكير فهذا خطأ وضلال؛ لأنه مهما كان لا يمكن أن تدركها، ولهذا قال:

فلا يحيط علمنا بذاته كذاك لا ينفك عن صفاته

لما بين المؤلف رحمه الله: أنه لا يحيط علمنا بذاته، وذلك قد يوهم إلا نتحدث عن الصفات كما إننا لا نتحدث عن الذات، قال:(كذاك لا ينفك عن صفاته) : أي لم يزل ولا يزال متصفا بصفات الكمال، وإذا كان متصفاً بصفات الكمال فلنا أن نبحث عن الصفة من حيث المعنى، لا من حيث الكيفية والكنه التي هي عليه؛ لأن هذا غير مدرك لنا، لكن من حيث المعنى لنا أن نبحث عن الصفة؛ عن معنى الرحمة، ومعنى العزة، ومعنى الحكمة، وغيرها.

على أن قول المؤلف رحمه الله: (كذاك لا ينفك عن صفاته) فيه شيء من الإجمال يحتاج إلى تفصيل، وذلك أن صفات الله عز وجل تنقسم إلى قسمين:

القسم الأول: قسم لازم لذاته لا ينفك عنه أبداً، وهذا ما يعرف عند العلماء رحمهم الله بالصفات الذاتية، مثل العلم، والقدرة، والحكة، والعزة، وغيرها.

كذلك أيضاً لا ينفك عن الصفات الخبرية التي مسماها بالنسبة لنا أبعاض

ص: 240

وأجزاء، مثل اليد، فاليد صفة ثبتت بالخبر، ولولا الخبر لم يهتدِ العقل إليها إطلاقا، بخلاف القدرة، والقدرة ثبتت بالنص، وثبتت أيضاً بالعقل، حيث إن العقل يهتدي إلى أن الله لابد أن يكون قادراً، أما اليد فلا يثبت العقل ذلك إلا بعد ورود الشرع به، وهذه تسمى صفات خبرية، يعني أن مدارها على الخبر المحض، وليس للعقل فيها مجال إطلاقاً.

وهذه الصفات هي التي مسماها أبعاض وأجزاء بالنسبة لنا، فاليد بالنسبة لنا جزء منَّا وبعض، لكن لا يجوز أن نقول: إنها بالنسبة للخالق بعض وجزء؛ لأن البعض أو الجزء هو ما صح انفصاله عن الكل، ومعلوم أن صفات الله تعالى كاليد والقدم لا يمكن أن يتصور فيها أو أن يحكم فيها بجواز الإنفصال، إذاً فلا يصح أن نطلق عليها أنها بعض من الله أو جزء من الله. بل نقول: إنها صفة من صفات الله الذاتية أخبر إله بها عن نفسه فوجب علينا قبولها والإيمان بها.

القسم الثاني: صفات فعلية: وهذه باعتبار الجنس - أي جنس الفعل - صفة ذاتية؛ لأن الله لم يزل ولا يزال فعالاً سبحانه وتعالى، أفعاله لا تنقضي، وكذلك أقواله، قال تعالى:(قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً)(الكهف: 109)، لكن آحاد الفعل أو نوع الفعل؛ ينفك الله عنه؛ يعني: ليس لازماً لذاته.

مثال ذلك: النزول إلى السماء الدنيا، فهذا نوع وآحاد، نوع: لأنه لم يثبت له نظير قبل خلق السماء، وآحاد: لأنه يتجدد كل ليلة، فالأفعال نوعها قد يكون حادثاًً، وآحادها قد تكون حادثة، لكن جنسها أزلي أبدي،

ص: 241

يعني أن الله لم يزل ولا يزال فعالاً، فالنزول فعل نوعه حادث، وأفراده كل ليلة آحاد.

كذلك الاستواء على العرش أيضاً باعتبار أصل الفعل ضفة ذاتية، وباعتبار النوع فهو حادث،؛ وذلك لأنه لم يكن إلا بعد خلق العرش، فيكون الاستواء صفة فعلية، أما أن يكون صفة آحادية فلا نستطيع أن نقول بذلك؛ لأن الاستواء على العرش ثابت، ولا يمكن أن نقول: إن الله قد لا يستوي على العرش، لأننا ليس عندنا علم بهذا الشيء، بخلاف النزول إلى السماء الدنيا، فإنه لما كان مقيداً بزمن قلنا: إنه يحدث كل ليلة بالنسبة للسماء الدنيا.

إذاً قول المؤلف رحمه الله (كذاك لا ينفك عن صفاته) يجب أن يحمل على الصفات الذاتية والصفات الخبرية، وعلى جنس الصفات الفعلية.

ص: 242

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

46-

فكل ما قد جاء في الدليل

فثابت من غير ما تمثيل

47-

من رحمة ونحوها كوجهه

ويده وكل ما من نهجه

ــ

الشرح

قوله رحمه الله:

فكل ما قد جاء في الدليل فثابت من غير ما تمثيل

هذه قاعدة نافعة في باب الصفات، فكل ما جاء في الدليل فثابت، ولكن الدليل الذي يعتمد عليه في صفات الله عز وجل هو الأثر فقط عند أهل السنة والجماعة، والأثر يتمثل في أمور ثلاثة: الكتاب والسنة وأقوال الصحابة، فهذه هي مصادر التلقي بالنسبة للصفات.

أما عند غير أهل السنة والجماعة فالدليل المعتمد عليه في هذا الباب هو العقل، وهذا مذهب الأشاعرة، والمعتزلة والجهمية وغيرهم، فيقولون: ما اقتضى العقل إثباته أثبتناه وإن لم يوجد في الكتاب والسنة، وما اقتضى العقل نفيه نفيناه وإن وجد في الكتاب والسنة.

وما لا يقتضي العقل إثباته ولا نفيه فأكثرهم نفاه؛ لعدم وجود الدليل المثبت، والأصل العدم فما دام العقل لم يثبته فيجب نفيه، وبعضهم توقف فيه لعدم الدليل المثبت والنافي، وقال: لا نثبت لعدم وجود الدليل المثبت، ولا ننفي لعدم وجود الدليل النافي، لكن الأكثر على النفي لقولهم: إذا لم يوجد دليل مثبت فالأصل عدم الثوب؛ فنفيه.

ص: 243

وقوله: (فثابت) أي ما جاء فيه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وأقوال الصحابة رضي الله عنهم فإنه ثابت، لا يجوز أن ننفيه لا تكذيباً ولا تحريفاً، وهذا الأخير يسمى عندهم بالتأويل، وإن شئت فقل: لا تكذيبا ولا تأويلا بمعنى التحريف.

فمثلاً الاستواء على العرش: هذا ثابت بالدليل، وهو قوله تعالى:(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)(طه: 5)، فلا يجوز أن ننفيه بتكذيب فنقول إن الله لم يستوٍ؛ لأن من قال: إن الله لم يستوٍ فهو كافر كفراً مخرجاً عن الملة لأنه مكذب، ولا يجوز أن ننفيه بتأويل يكون تحريفاً، فمن قال: إن الله استوى بمعنى استولى، فهذا اثبت الاستواء لكن حرف معناه، فنحن نثبته ولا ننفيه لا تكذيباً ولا تأويلاً الذي حقيقته التحريف، وهذا هو معنى قول المؤلف:(فثابت) أي ثابت ثبوتاً حقيقياً لا تكذيب فيه ولا تحريف، والدليل على وجوب ثبوته من النقل والعقل.

أما النقل فلأن الله أثبت هذه الأسماء والصفات في كتابه فقال: (وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا)(الأعراف: الآية 180)، وقال:(وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ)(الكهف: الآية 58)، وقال:(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام)(الرحمن: 27) ، فاثبت الأسماء والصفات الخبرية والذاتية.

أما الدليل من العقل: فهو أن صفات الله عز وجل وأسماءه أمور خبرية غيبية لا مدخل للعقل في تفصيلها، فوجب الاعتماد فيها على النقل، فما أثبته النقل أثبتناه، وما نفاه نفيناه، وما سكت عنه توقفنا فيه، لا نثبت، ولا ننفي.

ص: 244

وقول المؤلف: (فثابت من غير ما تمثيل) ؛ لما كان الثبوت قد يستلزم التمثيل، نفى هذا فقال:(من غير ما تمثيل) فلا نمثل، فنثبت لله وجها بدون تمثيل، ونثبت له يدا بدون تمثيل، وهكذا بقية الصفات

والتمثيل قد دل على نفيه عن الله النقل والعقل

فأما الدليل من النقل: فقد قال الله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء)(الشورى: الآية 11) ، وهذا نفي عام لا يماثله شيء في أي صفة من صفاته، وقال:(هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً)(مريم: الآية 65)، وقال:(فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ)(النحل: الآية 74)، وقال:(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً)(البقرة: الآية 22)

والآيات في هذا المعنى كثيرة كلها تدل على أن الله ليس له مثل، ولا يجوز أن يجعل له مثل. فليس له مثل للأدلة الخبرية، ولا يجوز أن يجعل له مثل للأدلة الطلبية.

وليلاحظ أن هناك نفياً للمماثلة ونهياً عن المماثلة، فنفي المماثلة مثل قوله تعالى:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء) ، (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً)، والنهي عن التمثيل كقوله تعالى:(فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ)، وقوله تعالى:(فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً) .

وأما الدليل العقي على امتناع التمثيل: أن الخالق مباين للمخلوق في ذاته ووجوده ومرتبته.

أما في ذاته: فإن كل أحد يعلم بأن الخالق ليس كالمخلوق، فالمخلوق خلق من مادة ومن عناصر مكونة يقوم بعضها ببعض، والخالق ليس كذلك، فليس من جنس العناصر الموجودة؛ ليس من جنس الذهب ولا الحديد ولا

ص: 245

الزجاج ولا الرصاص ولا اللحم ولا التراب، فهو مخالف لجميع الأجناس المخلوقة وليس من جنسهم.

كذلك أيضاً في الوجود: فالمخلوق وجوده ممكن والخالق وجوده واجب، وقلنا: المخلوق وجوده ممكن؛ لأنه يجوز عليه العدم، وكل ما نشأ من عدم فإنه يجوز عليه العدم، أما الخالق فوجوده أزلي أبدي.

وأما في المرتبة: فالخالق فاعل والمخلوق مفعول، والفاعل أكمل من المفعول، فلا يمكن أن يجعل البناء كالباني، فلا يجعل القصر كالذي بناه

فلما كان الخالق مخالفاً للمخلوق في ذاته ووجوده ومرتبته لزم من ذلك أن يكون مخالفاً له في صفاته؛ لأن الاختلاف في الذات يستلزم الاختلاف في الصفات، ولهذا نقول: إن الله تعالى لا يماثله شيء من مخلوقاته سمعاً وعقلاً.

والحس يشهد بالمخالفة أيضاً؛ فالرب عز وجل إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، والرب عز وجل كل المخلوقات في يده كخردلة في يد أحدنا. إذاً لا يمكن أن يكون مماثلا للمخلوق.

كذلك أيضاً نشاهد أن الناس يدعون الله فستجيب لهم بأمور لا يمكن أن يطيقها المخلوق، قال النبي عليه الصلاة والسلام:((اللهم أغثنا)(1) ، فنشأت السحابة وأمطرت قبل أن ينزل من المنبر، ولا يمكن للمخلوق أن يصنع ذلك. إذاً الحس يشهد بمخالفة المخلوق للخالق.

ولا يلزم من التماثل في الإسم أن يتماثل الشيء في الصفة، ولهذا نقول: للإنسان يد ورجل، وللثور يد ورجل، وللفيل يد ورجل، وللنمل يد

(1) تقدم تخريجه ص 44.

ص: 246

ورجل، ولا يلزم من هذا التماثل في الإسم التماثل في الحقيقة، وكل يعرف أن رجل الفيل ليست كرجل الذرة، وهذا في المخلوقات مع بعضها فكيف بالخالق؟! فتبين إذاً مخالفة الخالق للمخلوق بدليل السمع والعقل والحس.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: (من رحمة) ؛ فعقيدة أهل السنة والجماعة إثبات الرحمة لله وأنها صفة حقيقية يتصف الله بها حقاً، أما أهل التعطيل من الأشاعرة وغيرهم فقد أنكروا صفة الرحمة، لكنهم أنكروها إنكار تأويل وليس إنكار تكذيب، وسبق أن إنكار التكذيب كفر، وإنكار التأويل ليس بكفر، بل قد يعذر فيه الإنسان. وهم يفسرون الرحمة ويقولون: إن المراد بها أحد أمرين: إما الإحسان وإما إرادة الإحسان.

فإذا فسروها بالإحسان فقد فسروها بمفعول منفصل عن الله، وليس من صفاته، وإذا فسروها بالإرادة فسروها بصفة يقررونها؛ لأنهم يثبتون لله سبع صفات، وهي: الحياة، والعلم، والقدرة، والسمع، والبصر، والإرادة، والكلام.

فهم يثبتون الإرادة؛ ولذلك يفسرون الرحمة بإرادة الإحسان، فيقولون: الرحمن الرحيم: يعني المريد للاحسان، أو المحسن، فيفسرون الرحمة بلازمها ومقتضاها، ولا شك أن هذا تحريف.

والرد عليهم في ذلك بأن يقال: ما دام أثبتم الإرادة فليس هناك ما يمنع أن تثبتوا الرحمة، وما زعمتم من أن الرحمة رقة ولين وضعف فالجواب عن هذا بأمرين:

ص: 247

الأول: منع أن تكون الرحمة دالة على الرقة واللين والضعف.

والثاني: لو قدر أن هذا مقتضاها باعتبار رحمة المخلوق، فإن ذلك لن يكون مقتضاها باعتبار رحمة الخالق.

وقول المؤلف رحمه الله: (ونحوها) . أي نحو الرحمة، ومثال ذلك الحكمة، فالحكمة صفة ثابتة لله عز وجل، والسلف وأهل السنة والجماعة يثبتونها لله تعالى ويرون أنها من أكمل الصفات.

والحكمة ممنوعة عند أهل التعطيل، حيث يقولون: إن الله ليس له حكمة، لا فيما شرع ولا فيما خلق؛ لأن الحكمة غرض، والله تعالى منزه عن الأغراض، ومنزه عن الأعراض، ومنزه عن الأبعاض، ولذلك يقول القائل منهم في الثناء على الله: سبحان من تنزه عن الأعراض والأغراض والأبعاض. وهذا كلام مسجوع لكنه ممنوع، لأن المراد بقولهم: سبحان من تنزه عن الأعراض: يعني عن الصفات، والأغراض: يعني عن الحكمة، والأبعاض: يعني عن اليد والوجه والعين وغيرها.

فهم ينكرون الحكمة ويقولون: إن الله لا يفعل الشيء لحكمة، ولكنه لمجرد المشيئة؛ إذا شاء أن يفعله فعله، وإذا شاء أن لا يفعل فلا يفعل، أما أن يكون لحكمة وغاية محمودة فهذا لا يمكن؛ لأن الحكمة غرض، والغرض فيه منفعة لصاحب الغرض أو دفع مضرة عنه، والله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى جلب منفعة ولا إلى دفع مضرة.

ولا شك أن هذا القول من أنكر الأقوال، وفيه في الحقيقة سلب صفة عن الله من أجل الصفات وهي الحكمة، وعلى قولهم يكون الله تعالى قد

ص: 248

خلق السموات والأرض باطلاً، ويكون قد خلق الإنسان سدى، وقد شرع الشرائع عبثاً، وكل هذا يكذبه القرآن، قال الله تعالى:(أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ)(المؤمنون: 115) ولو كان خلق الخلق لغير حكمة لكان عبثاً، قال تعالى:(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ)(الدخان: 38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) (الدخان: 39)، وقال تعالى:(وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)(صّ: 27) .

وإذا قدر أن الغرض جلب منفعة أو دفع مضرة فإن هذا بالنسبة للمخلوق، أما الخالق فليس ذلك، على إننا لا نرى أن هذا يكون مطرداً في المخلوق، فقد يريد الإنسان الشيء لجلب منفعة لغيره أو دفع مضرة عن غيره، فإن الإنسان لو وجد شخصاً غريقاً في الماء ونزل لإنقاذه فإنه لا يطلب منفعة مادية لذلك وإن كان له الأجر، والثواب في الآخرة، على أن أول وارد يرد على الإنسان في هذا إنقاذ أخيه، وقد يكون حين الإنقاذ لم يتصور ولم يفكر في الثواب، فيكون الغرض من ذلك دفع ضرة عن الغير.

ومع هذا نقول: لو سلمنا جدلاً أن الإنسان لا يريد بأفعاله وأقواله إلا ما يتعلق بمصلحته، من جلب منفعة أو دفع مضرة، فهذا بالنسبة للمخلوق.

أما الله عز وجل فإنه غني عن العباد، قال الله تعالى:(وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ)(آل عمران: الآية 97) فهو يفعل الشيء لا لمصلحته ولا لمنفعته ولا لدفع الضرر عنه ولكن للإحسان إلى المخلوق، والإحسان إلى الغير صفة مدح.

ص: 249

وبناء على ذلك فحكمة الله عز وجل متعلقة بفعله ومتعلقة بمفعوله، بفعله فلا ينسب إلى العبث؛ وبمفعوله بما يحسن به إلى الناس، من جلب المنفعة ودفع المضرة.

إذاً فنحن نثبت الحكمة لله عز وجل لا على أنه محتاج إلى جلب منفعة أو دفع مضرة، ولكن لأن فعله ليس بعبث وليس بباطل، وهو سبحانه وتعالى إنما يفعل الفعل لمصلحة العبد، فلهذا فنحن نثبت لله الحكمة.

والمنكرون للحكمة القائلون بأن فعله إنما هو لمجرد المشيئة، لهم شبهات، منها مثلاً قوله تعالى:(لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ)(الأنبياء: 23)) ، ولكن هذا ليس فيه دليل:

أولاً: لأن الآية في إبطال ألوهية الأصنام، ومن خصائص ألوهية الأصنام أنها تسأل إذا كانت ممن يتوجه إليه السؤال، أما الله فإنه لا يسأل.

ثانياً: أن معنى الآية لا يسأل عما يفعل سؤال مناقشة، بحيث يمنع أو يؤذن له؛ لأنه تام السلطان سبحانه وتعالى، فله أن يفعل ما يشاء، ولكن نحن نعلم أن فعله مقرون بالحكمة، وليس في الآية ما يشير إلى أن فعل الله عز وجل ليس له حكمة، بل في الآية ما يدل على كمال سلطانه، وأنه لا أحد يسأله، أو على كمال فعله وحكمته، فلا نحتاج أن نسأل لماذا فعل؟ لأننا نعلم أنه ما فعل إلا لحكمة.

فالآية منزلة على أحد وجهين إما أنه لا يسال عن فعله لكمال سلطانه؛ أو لا يسال عن فعله لكمال حكمته، لكن غير الله يسأل: لماذا فعلت؟ لأنه قد يفعل الشيء لغير حكمة، وقد يفعل الشيء لما يظنه حكمة وليس بحكمة، إما الله عز وجل فلا يفعل الشيء إلا لحكمة يعلم أنها

ص: 250

حكمة، وحينئذٍ لا يسأل عما يفعل.

قال المؤلف رحمه الله: (كوجهه) فالوجه أيضاً من صفات الله، وقد أثبت الله لنفسه الوجه في عدة آيات، منها قوله تعالى:(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ)(الرحمن: 26)(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام)(الرحمن: 27)) ، فأثبت الله لنفسه وجها، ووصف هذا الوجه بأنه ذو جلال وإكرام، أي ذو عظمة وبهاء وحسن، (وذو إكرام) أي يكرم ويكرم سبحانه وتعالى.

وهنا يرد إشكال في قوله تعالى: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام)(الرحمن: 27)، وفي قوله:(تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ والإكرام)(الرحمن: 78) ، فجاء في الآية الأولى ((ذو)) وفي الآية الثانية ((ذي)) ، وذلك لأن ((ذو) في الآية الأولى صفة للوجه الذي هو فاعل الفعل (يبقى)، قال تعالى:(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام) .

وأما (ذي) في الآية الثانية فهي صفة للرب تعالى وليست صفة للاسم؛ لأن الاسم لا يوصف، فهو صفة للذات وليس صفة للإسم، قال تعالى:(تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ والإكرام) فقال: ربك ذي الجلال، وهذا يعني أنه لا يصح أن يوصف الاسم بأنه ذو جلال وإكرام، فالاسم اسم مسمى، بخلاف الوجه.

وقال تعالى: (كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَه)(القصص: الآية 88)، وقال تعالى:(وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ)(الرعد: الآية 22) ، والآيات في هذا متعددة.

وأما قوله تعالى: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله)(البقرة: الآية 115)، ففيها قولان للسلف:

ص: 251

القول الأول: إن المراد بوجه الله وجه الله الحقيقي، وقالوا: إن الآية نزلت في الصلاة، والمصلي أينما توجه فالله قِبل وجهه.

القول الثاني: إن المراد بالوجه الجهة، كقوله تعالى:(وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا)(البقرة: الآية 148) ، فالمراد أينما تكونوا فثم جهة الله التي أمركم باستقبالها، وتكون الآية نزلت فيمن اشتبهت عليه القبلة فاتجه إلى غير القبلة وهو يريد القبلة، فنقول: هذه جهة صحيحة؛ لأنك اجتهدت وأداك اجتهادك إلى ذلك، أو لصلاة النافلة في السفر، فإن المسافر يصلي حيث كان وجهه.

وعلى كل حال فالآية التي يقول الله تعالى فيها: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ الله) ، فيها قولان للسلف، لكن بقية الآيات لا يراد بها إلا الوجه.

والوجه صفة حقيقية ثابتة لله تعالى، منزهة عن مماثلة أوجه المخلوقين، والدليل على أنها حق ثابتة لله تعالى أن الله أثبتها لنفسه، والدليل على أنها لا تماثل أوجه المخلوقين أن الله قال:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: الآية 11) .

فإن قال قائل: إنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: ((إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه فإن الله خلق آدم على صورته)(1) ، وهذا يدل على أن وجه آدم مماثل لوجه الله، وانتم تقولون: إن لله وجها لا يماثل أوجه المخلوقين، فما هو الجواب عن هذا الحديث؟

(1) رواه البخاري، كتاب الاستئذان، باب بدء السلام، رقم (6227) دون قوله إذا ضرب أحدكم فليتق الوجه، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب المنهي عن ضرب الوجه، رقم (2612) .

ص: 252

فالجواب: أن يقال: هذا الحديث من الأحاديث المتشابهة، فمن كان في قلبه زيغ اتبعه، وجعله مناقضا للقران، وضرب القرآن بعضه ببعض، وقال إن القرآن يقول:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(الشورى: الآية 11) وهذا الحديث يقول: ((إن الله خلق آدم على صورته) ؛ فيتبع المتشابه، وأما الراسخون في العلم فيفتح الله عليهم ويعرفون وجه الجمع بين النصوص، ويقولون.

أولاً: إن معنى قوله: ((خلق آدم على صورته) : أي على الصورة التي اختارها الله سبحانه وتعالى، وخلقها في أحسن صورة، تكون إضافة الصورة إلى الله إضافة خلق وتشريف، كقوله:(نَاقَةُ اللَّهِ)(الأعراف: الآية 73) :، (مَسَاجِدَ اللَّهِ) (البقرة: الآية 114) ، وما أشبه ذلك، وهذا وارد في القرآن، ولا يمتنع على الله عز وجل.

ثانياً: أن نقول: ((على صورته) : أي على صورة الله التي هي صفته، ولا يلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلاً للشيء، والدليل على هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بأن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر (1) ، ومعلوم أنها ليست على صورة القمر من كل وجه، فليس في القمر عين ولا أنف ولا فم، ومن دخل الجنة فهو له عين وأنف وفم، فهذا يدل على أنه لا يلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلاً للشيء.

وهنا يرد إشكال حيث يعتقد بعض العامة أن القمر وجه إنسان، وأن فيه عينين وشفتين ومنخرين، وأن المرأة إذا صعدت إلى السطح يجب عليها أن تحتجب عنه لأنه وجه آدمي.

(1) رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، رقم (3246) ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر رقم (2834) .

ص: 253

والجواب على هذا: أنه غير صحيح، لأنه غير وارد، وقد ذكرت هذا هنا من أجل التحذير من مثل هذه العقائد الفاسدة.

وعلى هذا يكون قولنا: إن الله خلق آدم على صورته، لا ينافي قولنا: إننا نثبت لله وجها لا يماثل أوجه المخلوقين.

وصفة الوجه هنا ليست معنوية، ولكنها موافقة لمسمى هو منا أبعاض وأجزاء، فالوجه بالنسبة لنا بعض منا، لكن بالنسبة لله لا نقول إنه بعض، لأن البعض في اللغة ما جاز انفكاكه عن أصله وانفصاله عنه، ومثل هذا في صفات الله لا يمكن، وإن كان في صفاتنا ممكنا، فلهذا نقول: إن هذه الصفات صفات خبرية، مسماها بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء.

وقال المؤلف رحمه الله: (كوجهه) وقد تكلمنا على الوجه، وذكرنا أن الوجه صفة حقيقية ثابتة لله، وليست هي الثواب كما ادعاه أهل التعطيل؛ فقالوا:(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ)(الرحمن: الآية 27) أي ثوابه؛ لأن هذا تحريف للكلم عن مواضعه، فالثواب لا يوصف بأنه ذو جلال وإكرام. بل وجه الله سبحانه وتعالى هو الذي يوصف بالجلال والإكرام.

وأيضاً فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة)(1)، فقال: بنور وجهك الذي أشرقت له السموات والأرض، وهذا لا يمكن أن يكون للثواب.

والمهم أن الذين فسروه بالثواب أخطئوا الطريق وضلوا عنه، وحرفوا الكلم عن مواضعه، فجمعوا بين الجهل والضلال؛ حيث وصفوا الثواب بما لا يصح إلا لوجه الله، وبين العدوان على النصوص حيث حرفوها عن

(1) رواه ابن أبي شيبة 6/67، والطبراني في الكبير، وانظر مجمع الزوائد 6/35

ص: 254

مواضعها بشبهة؛ هي شبهة وليست بحجة، حيث يقولون: لو أثبتنا لله وجهاً لكان جسماً.

وجوابنا على ذلك أن نقول: أأنتم اعلم أم الله، فإن قالوا: نحن أعلم. كفروا، وإن قالوا: الله أعلم، فنقول: إن الذي هو أعلم هو الذي وصف نفسه بأن له وجهاً، فلماذا تنكرون ما وصف به نفسه؟

ثم نقول: إن تفسير الوجه بالثواب أو نحوه مخالف لظاهر اللفظ وإجماع السلف، والواجب علينا في الأمور الخبرية هو إتباع النص والأخذ بظاهره، وإتباع السلف في هذا؛ لأن العقول ليس لها مجال في هذا الباب.

والوجه من الصفات الخبرية وليس من الصفات المعنوية، وذلك لأن الله اخبر عنه ولم يكن له مستند إلا الخبر المحض، ولولا إخبار الله أن له وجهاً ما عرفنا أن له وجهاً.

إذاً هو ليس معنوياً، أي ليس كالقوة والعزة والحكمة، يعني ليس معنى من المعاني، بل هو حقيقة أخرى نظير مسماها بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء، فالوجه بعض منا لكننا لا نطلق كلمة بعض على الله أو على شيءٍ من صفاته؛ لأن البعض ما جاز انفصاله عن الكل، وهذا بالنسبة لصفات الله أمر مستحيل.

وقوله رحمه الله: (ويده) يعني وكذلك نؤمن بيد الله عز وجل بدون تمثيل، والبحث في اليد في أمور:

البحث الأول: هل ثبتت اليد لله عز وجل:

الجواب: نعم ثبتت اليد لله بالكتاب والسنة وإجماع السلف، قال الله تعالى يخاطب إبليس:(قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)

ص: 255

(صّ: الآية 75) بيدي الثنتين، وقال عز وجل عن اليهود:(وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)(المائدة: الآية 64) ، فأثبت الله تعالى له يدين بدليل هاتين الآيتين، وهذا هو الدليل من القرآن الكريم.

أما الدليل من السنة فقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يد الله ملأى، لا تغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه)(1)، وقال صلى الله عليه وسلم:((إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل)) (2)، فقال في الحديث الأول: ((يد الله ملأى

سحاء) ، ملأى: يعني فيها الخير الكثير، سحاء: أي معطاء تعطي؛ وذلك لأن اليد قد تكون خالية فلا يمكن العطاء منها، وقد تكون ملأى ويكون صاحبها بخيلا، فإذا كانت ملأى ولكن صاحبها لا ينفق صارت غير سحاء، وإذا لم يكن فيها شيء فلا إنفاق؛ لأنها خالية، أما يد الله سبحانه وتعالى فملأى سحاء دائماً، تعطي الليل والنهار، ومع ذلك فإنه لم يغض ما في يمنه أي لم ينقص.

أما إجماع السلف فهذا أمر معلوم وسبق أن عرفنا طريق العلم بمثل هذا الإجماع؛ لأنه قد يتعذر أن تجد نقلاً عن السلف وخصوصاً الصحابة رضي الله عنهم بأنهم أثبتوا اليد لله نصا، فيكون الطريق إلى الإجماع في هذا: أن القرآن نزل باللسان العربي الذي يفهمه الصحابة، فإذا لم يأت عنهم ما يخالف هذا القرآن فهم مجمعون عليه؛ لأنهم لو فهموا أن المراد خلاف ما جاء به لنقل عنهم.

فلما لم ينقل عنهم قول مخالف، لما كانوا يتلونه في الليل والنهار، علم

(1) رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب قول الله تعالى:(لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيّ)(صّ: 75) ، ورقم (7411) ومسلم، كتاب الزكاة، باب الحث على النفقة وتبشير المنفق بالخلف، رقم (993) .

(2)

رواه مسلم، كتاب التوبة باب قبول التوبة من الذنوب وإن تكررت الذنوب والتوبة رقم (2759) .

ص: 256

أنهم يقولون به، فهذا وجه قولنا: إن السلف اجمعوا على ذلك، وإلا فقد يصعب علينا أن نجد نقلاً في كل مسالة من مسائل العقيدة عن الصحابة، لكن تقرير الإجماع: أن القرآن والسنة بلغة العرب التي يفهمها الصحابة رضي الله عنهم، وهم يمرون عليها ليلاً ونهاراً ولم يوجد عنهم حرف واحد يخالف ما جاء فيها، إذا فهم مجمعون على القول بها.

البحث الثاني: هل اليد حقيقة أو مجاز؟

وقبل أن نجيب لابد أن نعرف أنه ليس في القرآن مجاز أصلاً؛ وذلك لأن من أبرز علامات المجاز جواز نفيه، وليس في القرآن شيء يجوز نفيه أبداً، فمثلاً إذا قلت: رأيت أسداً يحمل حقيبته ويحفظ درسه. فأسد هنا أعني به طالباً شجاعاً. فإذا قال لي المخاطب: هذا ليس بِأَسد بل هذا بشر، فإنه يصح كلامه. إذا فهنا قد نفينا وصح الكلام، وعلى ذلك فالمجاز يصح نفيه.

لكن ليس في القرآن شيء يصح نفيه. وهذا دليل واضح على ذلك، وعليه اعتمد الشنقيطي رحمه الله في كتابه منع المجاز في القرآن، ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم رحمهما الله ذهبا إلى أبعد من ذلك، وقالا: ليس في اللغة العربية كلها مجاز، والمجاز الذي ادعاه من ادعاه طاغوت أرادوا به أن يحرفوا آيات الصفات وأحاديثها عما أراد الله بها ورسوله، ولهذا عنون ابن القيم رحمه الله في النونية على هذه المسالة فقال:((فصل في كسر الطاغوت الذي نفوا به صفات ذي الملكوت والجبروت)(1) ، يعني المجاز الذي كانوا يلهجون به ويحتجون به

وعلى العكس من ذلك فقد رأيت كلاماً لبعض أهل اللغة نقله ابن القيم.

(1) أنظر القصيدة النونية (2/163) .

ص: 257

أيضاً في الصواعق المرسلة، يقولون: جميع الكلام في اللغة العربية مجاز، وليس فيه حقيقة فإذا قيل: إن زيداً قائم، قالوا: إن زيداً قائم، ليس حقيقة؛ لأنه لا يقع الفعل على نفس الجملة، بل يقع على مدلولها.

وكذلك قولنا: خلق الله الإنسان، قالوا: ليس هذا القول حقيقة بل مجاز، وهكذا يأتون بأشياء يضحك منها المجنون لا العاقل.

وعلى كل حال فإننا نقول: ليس في القرآن مجاز، بل ولا في اللغة العربية مجاز؛ لأن المجاز أبرز علاماته أن يصح نفيه، ومن المعلوم أن الكلمة في مكانها ومعناها الذي دلت عليه وضعاً أو بقرينة لا يمكن نفيها.

وربما أورد علينا قول الله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا)(يوسف: الآية 82) وقيل: أليس هذا مجازا؟ وهل القرية تسأل؟ فنقول: بأن هذا ليس مجازا؛ لأن المخاطب يعرف المعنى، ولو أردت أن تحول القرية إلى الجدران والبيوت لقيل: إنك مجنون.

وأولاد يعقوب لما قالوا: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ)(يوسف: الآية 82) ما كانوا يريدون من أبيهم ولا يمكن أن يفهم أبوهم أنهم يريدون أن يذهب إلى القرية ويقف عند كل جدار ويسأله هل سرق ابني؟ أبدا، فما كانوا يريدون هذا ولا خطر ببالهم، ويعقوب أيضاً يفهم أنهم لم يريدوا هذا، فإذا كان المتبادر من هذا السياق أن المراد سؤال من يصح توجيه السؤال إليه، بقي الكلام حقيقة.

فالأصل إذاً في الكلام الحقيقة، حتى عند القائلين بأن هناك حقيقة ومجازا، يرون أن الأصل في الكلام الحقيقة، ونحن إذا حملنا النصوص في

ص: 258

اليد على حقيقتها لم يلزم منها محظور، لا في ذات الله ولا في صفاته، فليس هناك محذور في أن نقول: لله يد حقيقية بها يأخذ ويقبض ويبسط، ولكنه لا تشبه أيدي المخلوقين.

البحث الثالث: هل اليد واحدة أو متعددة؟

والجواب على ذلك: أنها متعددة. فلله تعالى يدان اثنتان، والدليل قوله تعالى وهو يمتدح بكمال القدرة:(قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)(صّ: الآية 75) فال: (بيدي) ولو كان له أكثر من اثنتين لقال: بأيدي؛ لأن الأكثر أبلغ في القدرة من الأقل، فلما قال في مقام التمدح بالقدرة والقوة والتشريف لآدم (بيدي) علم أنه سبحانه ليس له إلا يدان اثنتان.

ولما قالت اليهود يد الله مغلولة قال عز وجل: (غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ)(المائدة: الآية 64) ، وهذا في مقام الثناء على الله بكثرة العطاء، ولو كان له أكثر من أثنيتن لذكرها، لأن المعطي بثلاث أكثر من المعطي باثنتين، ولكن الكمال كله لله عز وجل باليدين الثنتين.

فإن قال قائل: قد جاءت النصوص بان لله يدا واحدة، كقوله تعالى:(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ)(الملك: الآية 1) ، وكقول النبي صلى الله عليه وسلم ((يد الله ملأى)(1) ، فيد الله هنا واحدة، ووصفها بأنها ملأى سحاء الليل والنهار. فكيف نجمع بين النصوص ولماذا لم نقل: إن لله يداً واحدةً؟

فالجواب: أن نقول: من المقرر عند العلماء رحمهم الله في الاستدلال أنه إذا جاء دليلان أحدهما فيه زيادة أخذ بالزائد؛ وذلك لأن الأخذ بالزائد أخذ بالناقص وزيادة، ولو اقتصرت على الأخذ بالناقص لألغيت الزيادة التي جاء بها الزائد، وهذا خطأ. فهنا نقول: إن النصوص الدالة على ثنتين فيها

(1) تقدم تخريجه ص 256.

ص: 259

زيادة فيؤخذ بها.

وعند ذلك فإنه لا يلزم من أخذنا بالزيادة وأن نجعل له اثنتين أن نهدر دلالة اليد التي جاءت في الإفراد؛ وذلك لأن اليد التي جاءت مفردة جاءت مضافة: ((يد الله ملأى)، (بِيَدِهِ الْمُلْكُ) (الملك: الآية 1) ، والمفرد إذا أضيف يكون عاماً فيشمل كل ما لله من يد ولو زادت على الواحدة، وحينئذٍ لا معارضة بين مجيئها مفردة ومجيئها مثناة.

والأدلة على أن المفرد إذا أضيف يكون للعموم كثيرة، منها قوله تعالى:(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا)(إبراهيم: الآية 34) ، وهي ليست نعمةً واحدةً بل هي نعم كثيرةٌ، إن تُعد لا تحصى، أما الواحدة فمحصاة، فلما قال تعالى:(لا تُحْصُوهَا) عُلم أنها نعم عظيمة كثيرة.

فإذا قال قائل: أنت أصلت قاعدة وألزمتنا بها ونحن نقبلها، وهو أنه إذا جاءت النصوص بزائد وناقص أخذ بالزائد، ونحن نلزمك بناءً على هذه القاعدة أن تجعل له أكثر من يدين؛ لأن الله تعالى يقول:(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً)(يّس: الآية 71)، ويقول:(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)(الذاريات: 47)) . فأثبت لله أكثر من اثنتين؟

وللإجابة على ذلك أقول: قد ذكرنا أن اليدين الثنتين ذكرتا في مقام التمدح والثناء، وهذا يمنع أن يكون هناك زيادة عليهما؛ لأنه لو كان هناك زيادة عليهما لم يكمل التمدح والثناء؛ لأننا عندئذٍ نكون قد أثنينا عليه بما هو أنقص من كماله، لكن يبقى هنا الجواب عن الجمع، ويمكن الجمع هنا بأحد أمرين:

إما أن نسلك طريق من قالوا: إن أقل الجمع اثنان. حيث قالوا: إن أقل

ص: 260

الجمع اثنان شرعاً ولغةً؛ أما لغةً: فقد قال الله تعالى: (إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا)(التحريم: الآية 4)، وهما اثنتان وليس لهما إلا قلبان بنص القرآن؛ قال الله تعالى:(مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ)(الأحزاب: الآية 4) ، وهما امرأتان؛ إذاً ليس لهما إلا قلبان، وقد جمع فقال قلوبكما، وهذا يدل على أن الجمع قد يراد به الاثنان.

وأما شرعاً: فلأن الإنسان مأمور بصلاة الجماعة، وإذا صلى اثنان أحدهما بالآخر صارا جماعة، وهذه جماعة شرعية، وهما اثنان.

فإذا يكون قوله تعالى: (مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً)(يّس: الآية 71)، كما لو قال: مما عملت يدانا أنعاما؛ لأن المدلول واحد.

أما الطريق الثاني فنقول: إن اقل الجمع ثلاثة، لكن الجمع هنا لا يراد به حقيقته، وإنما المراد به التعظيم، كما قال الله تعالى:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ)(الحجر: الآية 9)، و (نحن) و (نزلنا) : ضمائر جمع، لكن المراد بها التعظيم، فالأيدي هنا المراد بها تعظيم اليد.

وهناك أيضاً مناسبة لفظية، وهي أن أيدي أضيفت إلى (نا) الدالة على الجمع، فكان جمعها أنسب للمضاف إليه من التثنية، ولهذا لما جعلها الله بالتثنية أضافها إلى مفرد فقال:(لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَي)(صّ: الآية 75)، وقال:(بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان)(المائدة: الآية 64)، فلم يقل: لما خلقت بيدينا، بل قال: بيدي، لكن لما أضافها الله عز وجل إلى ضمير الجمع الدال على العظمة، كان المناسب أن يجمعها ليتطابق اللفظان ولا يحصل بينهما تنافر.

وكذلك في الآية الثانية، قال تعالى:(وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)(الذاريات: 47) والباني هو الله عز وجل، وبناءً على ذلك هل يكون

ص: 261

لله أيد كثيرة؟ والجواب عن هذه الآية سهل جداً، فأيدٍ هنا ليست جمعاً، ومن قال إنها جمع فإنه واهم، لا يعرف سياق الكلام، ولا يعرف قواعد اللغة العربية، فـ (أيد) هنا مصدر وليست اسماً لليد، وفعلها (آد) ، (يئيد)، والمصدر: أيدا، كباع، يبيع، بيعا، وكال، يكيل، كيلا، إذا أيد ليست جمعاً ليد، بل هي مصدر (آد) ، ومعنى (آد) أي قوي، فمعنى بأيدٍ أي بقوة، فيكون المعنى أن السموات قوية، كما قال تعالى:(وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً)(النبأ: 12)، (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا) (النازعات: 27) (رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا)(النازعات: 28) .

ويدل لذلك أن الله لم يضف الأيدي إلى نفسه، ولم يقل: بأيدنا، فإذا قلت: إن الأيد هنا المراد بها يد الله فقد أخطأت خطأً عظيماً، وقلت على الله ما لا تعلم؛ لأن الله لم يضف الأيدي إليه، فكيف يصح منك أن تضيفها إلى الله؟

لكن في قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ)(القلم: 42)) هل المراد بذلك ساق الله، مع أن الله لم يضفه إلى نفسه بل قال:(عَنْ سَاقٍ) ؟

والجواب: أنه يحتمل أن يراد بذلك ساق الله، ويحتمل أن يراد بالساق الشدة، وقد قال السلف بهذين القولين.

وعلى هذا فليس علينا جناح إذا قلنا: إن المراد بالساق في قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ) الشدة، يعني يوم تتبين الشدة، ويكشف عنها حتى

ص: 262

تظهر، كما يكشف عن الوجه حتى يتبين، فيكشف عن ساق: يعني يزال المانع من ظهور الشدة حتى تظهر، فإذا قلنا بهذا فلا يصح أن تورد علنا هذه الآية على أنها تعارض القاعدة التي ذكرنا، لأنها جارية على القاعدة؛ فنحن لم نضف الساق إلى الله؛ لأن الله ما أضافه إلى نفسه، وهذا على القول بأن الساق هو الشدة على قول بعض السلف.

ولو ذهبنا إلى أن المراد بالساق ساق الله، كما هو القول الثاني للسلف في الآية، ودليلهم في ذلك حديث أبي سعيد الطويل، الذي جاء فيه: أن الله يأتي عز وجل فيكشف عن ساقه فيسجد له كل من كان يسجد لله تعالى في الدنيا (1) . فإن سياق الحديث يجاري سياق الآية تماماً، فتحمل الآية على ما جاء في الحديث، وتكون إضافتنا الساق لله في الآية بناءً على الحديث، ومن المعلوم أن الحديث يفسر القرآن وبهذا تكون القاعدة مطردة ليس فيها نقص.

لكن هل خالف أحد من المسلمين في تفسير اليد بأنها اليد الحقيقية؟

الجواب: نعم. خالف الأشاعرة وغيرهم من أهل التعطيل في إثبات اليد الحقيقية، وقالوا: ليس لله يد حقيقية، ومن أثبت لله يداً حقيقية فقد شبه الله بخلقه فهو كافر، وقالوا: إن اليد الحقيقية حرام أن نثبتها لله، ولو أثبتناها لله أثبتنا أن الله جسم، وأثبتنا أن له أبعاضاً، وهذا حرام، والله تعالى يقول:(فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَال)(النحل: الآية 74) ، ونحن إذا أثبتنا لله يدا حقيقية فقد ضربنا له الأمثال، والله سبحانه وتعالى يقول:(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: الآية 11) ، فإذا أثبتنا له يداً حقيقيةً كذبنا مقتضى هذا الخبر

(1) رواه البخاري كتاب تفسير القرآن، باب يوم يكشف عن ساق، رقم (4919) . ومسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، رقم (183) .

ص: 263

وجعلنا لله مثيلاً، ثم قالوا: إذا لمراد باليد النعمة، واستشهدوا بقول الشاعر:

وكم لظلام الليل عندك من يد

تحدث أن المأنوية تكذب

المانوية: قوم من المجوس يقولون: إن الظلمة تخلق الشر ولا خير فيها، والشاعر يقول لممدوحه: أنت تنعم ليلاً ونهاراً، فكم من نعمة بذلتها يدك في ظلام الليل تحدث أن المانوية - الذين يقولون أن الظلمة كلها شر - تكذب.

وكذلك قال مندوب قريش لأبي بكر رضي الله عنه: لولا يد لك علي لم أجزك بها لأجبتك.

ومعنى يد: أي نعمة ومنة.

فالمراد بيد الله عندهم نعمته ومنته، أو المراد بها القوة والقدرة؛ لأنه يقال: ما لهذا بهذا يد. أي طاقة وقدرة، ومنه حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه الطويل في قصة يأجوج ومأجوج: أن الله تعالى يوحي إلى عيسى بن مريم ((إني قد أخرجت عباداً لا يَدان لأحد بقتالهم)) (1) . والمعنى: لا قدرة ولا قوة لأحد بقتالهم.

وللجواب عن هذه الشبهة نقول:

أولاً: أما قولكم إن إثبات اليد الحقيقية يستلزم التمثيل فقول باطل بنص القرآن؛ لأن الذي قال: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) هو الذي قال: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَان)(المائدة: الآية 64) . وإذا قلتم: إن إثبات اليدين يستلزم التمثيل لزم أن يكون القرآن يكذب بعضه بعضا، وهذا لا تقولون به.

(1) رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب ذكر الدجال وصفته وما معه، رقم (2937) .

ص: 264

ثانياً: أنه لا يلزم من إثبات اليد أن تكون مماثلة ليد المخلوق، فكما أنكم تثبتون لله ذاتاً ولا ترون من اللازم أن تكون مماثلة لذوات المخلوقين، فالصفات يحذى بها حذو الذوات، وإذا كان لنا أيدٍ وللفيلة والقردة أيدٍ، فإنه لا يلزم من ذلك مشابهة أيدينا لأيدي الفيلة والقردة.

إذاً لا يلزم من إثبات اليد لله عز وجل أن تكون مماثلة لأيدي المخلوقين، كما لا يلزم من إثبات يد الإنسان أن تكون مماثلة ليد الفيل. فلا يلزم من اتفاق الشيئين في الاسم أن يتفقا في المسمى في حقيقته.

وعلى ذلك فدعواهم أن إثبات اليد يستلزم التمثيل باطل بالشرع والعقل والحس.

فبالشرع: حيث أثبت الله له اليدين في القرآن ونفى المماثلة.

وبالعقل: فإنه كما أثبتوا ذاتاً لا تشبه الذوات أو لا تماثل الذوات، فيلزم أن يثبتوا صفات لا تماثل الصفات.

وبالحس المشاهد: فكما يثبتون لأنفسهم أيدياً حقيقيةً وللفيلة أيدياً حقيقيةً ولا تتماثل؛ فهذا دليل حسي واضح.

وأما دعواهم أن المراد باليد القدرة أو النعمة فهذا يكذبه النص، فإن الله تعالى يقول لإبليس:(مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ)(صّ: الآية 75) ، وإذا جعلنا اليد بمعنى القوة أو القدرة فإنه لا حجة على إبليس بهذا؛ لأنه أيضاً مخلوق بالقدرة. فهو مخلوق بالقدرة والله عز وجل ذكر ذلك احتجاجاً عليه، وإذا كان الله ذكر ذلك احتجاجاً عليه دل هذا على أن اليد ليست هي القدرة.

ص: 265

ثالثاً: أن نقول جاءت اليد بصيغة التثنية، وإذا فسرنا اليد بالقدرة كانت قدرة الله قدرتين وهذا ليس بصحيح، فليست قدرة الله تعالى قدرتين، بل قدرة الله معنى واحد شامل لكل شيء (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (الشورى: الآية 9) .

وكذلك نقول لمن فسرها بالنعمة: لا يمكن أن تحصر النعمة بنعمتين، والله تعالى يقول:(وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا)(إبراهيم: الآية 34) ؛ فدل ذلك على بطلان تفسيرها بالقدرة وبالنعمة.

وأما ما استشهدوا به فإن في السياق ما يمنع أن يكون المراد باليد اليد الحقيقية، وقد نقول: المراد باليد اليد الحقيقية في نفس ما استشهدوا به؛ وذلك لأن النعمة والإحسان والمنة في الغالب تناول باليد فيكون ذلك من باب التعبير بالسبب عن المسبب.

ثم لما كان السلف مجمعين على أن المراد باليد اليد الحقيقية، كان تفسير هؤلاء المحرفة لليد مخالفا لإجماع السلف، فلا يعول عليه.

وأما القول بأن إثبات اليد يستلزم التبعيض في الخالق، فهذا نحتاج فيه إلى تفصيل، فنقول: لا يمكن أن نطلق على شيء من صفات الله أنها بعض؛ لأن البعض ما جاز أن يفارق الكل، وصفات الله عز وجل لازمةٌ أزليةٌ أبديةٌ، فَيَدُه أزلية أبدية، وكذلك وجهه وعينه، وغير ذلك من صفاته الخبرية هي صفات أزليةٌ أبدية، لا يمكن أبداً أن تتبعض، وهذا شيء معلوم بالمعقول، فلا تُلزمونا بشيء نحن لا نعترف به، وأنتم كذلك لا تعترفون به، وإنما تذكرن ذلك على سبيل الإلزام.

وقوله: (وكل ما من نهجه)، أي: طريقه يعني كل ما كان على هذا النحو من صفات الله فإن الواجب أن نؤمن به ونثبته لله عز وجل لكن من غير تمثيل.

ص: 266

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

48 -

وعينه وصفة النزول

وخلقه فاحذر من النزول

ــ

الشرح

قوله: (وعينه) يعني ونؤمن أيضاً بما جاء في الدليل من ثبوت العين لله عز وجل.

والعين لله سبحانه وتعالى فيها عدة مباحث:

المبحث الأول: هل هي عينٌ حقيقيةٌ أو هي كنايةٌ عن الرؤية؟

والجواب: أنها عينٌ حقيقيةٌ، ودليل ذلك أن الله أثبتها لنفسه في غير موضع، وأثبت الرؤية في غير موضع، وإثبات هذا تارة وهذا تارةً يدل على التغاير بينهما، فالرؤية شيءٌ والعين شيءٌ آخر، فقوله تعالى:(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ)(التوبة: الآية 105)، وقوله:(أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى)(العلق: 14) فهاتان في الرؤية.

ولكن: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا)(القمر: الآية 14)(وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)(طه: الآية 39) فهاتان الآيتان ليستا في الرؤية، بل أثبتتا عيناً مخالفةً للرؤية، ولهذا نقول: إن العين صفةٌ حقيقيةٌ، نظير مسماها بالنسبة لنا أبعاض وأجزاء، لكننا لا نقول: إن العين بعض من الله أو جزء منه؛ لأن ذلك ممتنع على الله حسب فهم البعض والجزء؛ فإن البعض والجزء هو ما جاز أن ينفصل عن الكل، وهذا بالنسبة لصفات الله تعالى ممتنع.

ص: 267

المبحث الثاني: هل عين الله تعالى تماثل أعين الخلق؟

الجواب: لا، أبداً ولا نقول بهذا، بل نقول: هذا ممتنع لأن الله يقول: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(الشورى: الآية 11) .

وإن كان أهل التحريف والتعطيل يشنعون على الذين يثبتون لله العين حقيقة، ويقولون لمن أثبتها: لابد أن تقول: هل هي مستديرة أو مستطيلة، وهل هي بيضاء أو سوداء، وهل فيها باضٌ وسوادٌ أم ليس فيها؟

وفي الحقيقة أن هذا لا يلزمنا، فنحن نثبت لله العين، ولكن لا نقول: إن لها مثيلاً حتى نلزم بذلك. فكما أننا نقول في ذات الله أنها ليست كذات المخلوقين، ولا نقول في ذاته سبحانه: هل هو طويل أو قصير أو أسود أو أبيض أو سمين أو هزيل أو غير ذلك، وإذا لم يجز لنا أن نقول ذلك في الذات ولم نلتزمه، فكذلك لا نلتزم بقول ذلك في العين.

إذاً لا نعلم حقيقة هذه العين ولا كيفية هذه العين، لكن نعلم أنها حقيقة إلا أنها لا تماثل أي حقيقة من حقائق أعين المخلوقات، لأن الله تعالى مباين للخلق غاية المباينة في ذاته وصفاته.

المبحث الثالث: هل هي واحدةٌ أو متعددة؟ وإذا قلنا متعددة فهل هي ثنتان أو أكثر؟

الجواب: أنها ليست واحدة، بل أكثر من واحدة، وهي قد جاءت بلفظ الإفراد، وجاءت بلفظ الجمع، ولم تأت في القرآن بلفظ التثنية كما جاءت اليد؛ فمن مجيئها بلفظ الإفراد قوله تعالى لموسى:(وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي)(طه: الآية 39) فـ (عيني) هذه مفرد.

ص: 268

ومن مجيئها بلفظ الجمع قوله تعالى عن سفينة نوح: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا)(القمر: الآية 14) وقوله تعالى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)(الطور: الآية 48) هذا لفظ الجمع.

أما التثنية فلم تأتِ في القرآن، ولكنها جاءت في حديث ذكره ابن القيم رحمه الله في مختصر الصواعق (1) ولم يعزُه؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إذا قام أحدكم يصلي فإنه بين عيني الرحمن)(2) . ولكن جاءت في السنة بما يدل دلالةً واضحةً على أن العين اثنتان وذلك في قول النبي عليه الصلاة والسلام في صفة الدجال: ((إنه أعور العين اليمنى وإن ربكم ليس بأعور)(3) ، فإن هذا كالنص الصريح على أنهما اثنتان، ووجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر علامة فارقة بين الدجال وبين الرب عز وجل، بأن الدجال أعور العين اليمنى والرب ليس بأعور، ولا عورٌ إلا لذي عينين.

ولو كان لله أكثر من اثنتين لكان الزائد عن اثنتين كمالاً قطعاً؛ لأنه لا يمكن أن يتصف بنقص - يعني لكان الزائد عن ثنتين كمال، والزائد على ثنتين هل يحصل به الفرق بين الدجال وبين الرب؟

الجواب: يحصل؛ لأن الدجال من بني آدم وليس له إلا ثنتين، وذكر الفارق الدال على الكمال أولى من ذكر الفارق الذي هو النقص في الدجال.

فإذا لو كان له أكثر من ثنتين لقال الرسول صلى الله عليه وسلم: وإن لربكم أكثر

(1) أنظر مختصر الصواعق المرسلة (2/398) .

(2)

رواه العقيلي في الضعفاء (1/70) .

(3)

رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ) رقم 3440) . ومسلم، كتاب الإيمان باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، رقم (169) .

ص: 269

من عينين، لأجل أن يثبت الكمال لله عز وجل مع الفارق بينه وبين الدجال.

لكن لما قال: أعور، صار الفرق بينهما العور، وهو نقص الدجال في عينه.

إذاً تعين أن تكون العينان الثابتتان لله اثنتين، وهذا واضح جداً.

وادعى بعض المجادلين قال: إن المراد بالعور: العيب، فنقول له: هذا تحريف لأن لفظ الحديث ((اعور العين اليمنى)) ، وهذا صريح بأن المراد عور العين لا العور الذي هو العيب العام الذي ينزه الله عنه على سبيل العموم وهذا القول تحريف.

ويبقى النظر، في مجيء العينين بصيغة الجمع (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا)، (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) (القمر: الآية 14) ، فكيف نجمع بين الجمع وبين المثنى؟

نقول: الجمع بينهما سهل؛ هو نظير الجمع بين اليدين الوارد مجيؤهما بصيغة التثنية وبصيغة الجمع، فإما أن يراد بالجمع ما دون الثلاثة لأن اللغة العربية قد جاءت بالجمع مراداً به ما دون الثلاثة. فيكون قوله:(بِأَعْيُنِنَا) كقوله بعينينا، لأن أقل الجمع اثنان.

وإما أن يقال أقل الجمع ثلاثة كما هو الأكثر، ولكن الجمع هنا لا يراد به مدلوله التعددي، وإنما يراد به مدلوله المعنوي؛ وهو التعظيم، فيكون الله عز وجل جمع العينين، فقال: بأعيننا تعظيماً لهما. وأيضاً يضاف إلى التعظيم المناسبة؛ لأن ((نا)) دالة على الجمع في أصل الوضع، فناسب أن يكون المضاف إليها مجموعاً للتعظيم كما هي في قوله:(بِأَعْيُنِنَا) للتعظيم، فيتناسب هنا المضاف والمضاف إليه، وهذه المناسبة لفظية.

ص: 270

المبحث الرابع: هل الله تعالى يبصر بهما، أو بصره بغير العين؟

الجواب: يبصر بهما، ودليل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:((حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)(1) فقال: (بصره) ، وهذا يدل على أن لله بصراً، كما يدل على ذلك قوله تعالى:(وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الشورى: الآية 11) .

والبصر حسب مقتضى اللغة العربية يكون بالعين، وقد سبق أنه لولا أن الله أثبت له عيناً لقلنا: يمكن أن يكون البصر بغير العين، كما أن الأرض تحدث أخبارها مع أنها ليس لها أعين.

وعلى كل حال فالله تعالى يبصر بعينيه كما قال ذلك السلف رحمهم الله في كتبهم، فله عينان يبصر بهما، لكنه ليس كبصر المخلوق، فالله سبحانه وتعالى يبصر دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء - السوداء أيضاً - في الليلة الظلماء؛ يعني لو كانت أخفى ما يكون فإن الله تعالى يبصرها.

أما نحن فبصرنا محدود، ولا يمكن أن يكون كبصر الله سبحانه وتعالى.

فإذا قال قائل: قد ورد في تفسير بعض السلف لقوله تعالى: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) قال: تجري بمرأى منا، فهل يعتبر هذا تحريفاً أم ماذا؟

فالجواب: ليس هذا تحريفاً؛ لأنهم يقولون: تجري بمرأى منا مع إقرارهم بالعين، ولو أن هذا القول كان من شخص ينكر العين لقلنا: هذا تحريف، والذين قالوا: إن المعنى بمرأى منا، فإن معنى كلامهم أنها تجري ونحن نراها بأعيننا، وكأنهم يريدون بذلك الرد على من زعم أن ظاهر الآية أن السفينة تجري في نفس العين، وحاشا لله.

(1) تقدم تخريجه ص 184.

ص: 271

أما من يتخذ من ذلك مأخذاً على مذهب أهل السنة والجماعة، ويرى أن ذلك خلاف مذهبهم في إجراء نصوص الصفات على ظاهرها، وأن ظاهر الآية أن السفينة في نفس عين الله، فهذا لا شك أنه إلزام باطل، وأن السلف لايلتزمون بهذا، بل يقولون إن هذا ليس مدلول اللفظ، وفي اللغة العربية إذا قال الإنسان: اذهب فأنت بعيني، يعني أراك وألاحظك ولا تغيب عن عيني، ولا أحد يقول: إن الرجل إذا قال لصحابه: أنت بعيني، يعني أنك في نفس العين أبداً، وليس هذا مقتضى لفظ اللغة العربية.

ثم إن في الآية ما يدل على منع ذلك، (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) أي السفينة، فهي تجري في الأرض على الماء الذي خلقه الله عز وجل من الأرض والسماء، فكيف يقال: إن ظاهر الآية أنها تجري في عين الله؟ ، لكنهم يتشبثون بكل شيء من أجل التشنيع على أهل السنة.

ثم قال المؤلف رحمه الله: (وصفة النزول) يعني من الأمور التي نثبتها لله، وهي ثابتةٌ له من غير تمثيل صفة النزول وفيه عدة مباحث:

المبحث الأول: ما معنى النزول وهل الله سبحانه وتعالى ينزل بذاته؟

النزول: يعني إلى السماء الدنيا، وذلك لأنه تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم، أو اشتهر اشتهاراً قريباً من التواتر أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، ينزل - نزولاً حقيقياً؛ بذاته إلى السماء الدنيا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له)) (1) .

(1) تقدم تخريجه ص 140.

ص: 272

وقائل ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم، ونحن يجب علينا أن نؤمن بأنه أعلم الناس بالله، وأنه أصدق الخلق مقالاً، وانصحهم مقصداً، وأفصحهم نطقاً، فلا أحد أنصح من رسول الله صلى الله عليه وسلم للخلق، ولا أحد من الخلق أفصح منه ولا أبلغ، ولا أحد من الخلق أصدق منه، ولا أحد من الخلق أعلم منه بالله. وهذه صفات أربع يتصف بها كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وبها يتم الكلام، وهي: العلم والصدق والنصح والفصاحة.

فإذا قال: ينزل ربنا إلى السماء الدنيا، فإن مراده يكون نزوله تعالى بذاته، وقد صرح أهل السنة بأن المراد نزوله بذاته، وصرحوا بكلمة بذاته مع أننا لا نحتاج إليها، لأن الأصل أن كل فعل أو اسم أضافه الله إليه فهو إلى ذاته، فهذا هو الأصل في الكلام.

فلو قلت في المخلوقين: هذا كتاب فلان، فإن المعنى أن هذا كتابه نفسه لا غيره، وكذلك لو قلت: جاء فلان، فإن المراد أنه جاء هو نفسه لا غيره.

وهكذا كل ما أضافه الله إلى نفسه من فعل أو اسم فالمراد إليه ذاته، لكن على وجه لا نقص فيه، فمثلاً (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا) أضافه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ذات الله فقال:(ربنا) فوجب أن يكون المراد نزوله بذاته، وقد أجمع الصحابة رضي الله عنهم على أن المراد: ينزل ربنا بذاته سبحانه وتعالى.

والدليل على إجماعهم أنه لم يرد عنهم ولو كلمةً واحدةً في أن المراد: ينزل شيء آخر غير الله، وهم يقرؤون هذا الحديث، فإذا كانوا يقرؤونه، ولم يرد عنهم أنهم قالوا: إن المراد: ينزل رحمة من رحمته، أو ملك من

ص: 273

ملائكته، علم أنهم أثبتوا نزوله بذاته، لكن لم يقولوا بذاته، لأنه لم يظهر في زمنهم محرفون يقولون: إن المراد: ينزل أمره أو رحمته أو مَلك من ملائكته حتى يحتاجوا إلى قول: ينزل بذاته، لكن لما حدث هؤلاء المحرفون احتاج أئمة المسلمين إلى أن يقولوا ينزل بذاته، ولكل داءٍ دواءٌ يناسبه. إذاً ينزل ربنا إلي السماء نزولاً حقيقياً، والذي ينزل هو الله تعالى بذاته، لا رحمةٌ من رحمته ولا مَلكٌ من ملائكته، والذي قال النبي صلى الله عليه وسلم:((ينزل ربنا) . فالله هو الذي ينزل.

المبحث الثاني: هل النزول يستلزم أن تكون السماء الدنيا تقله، والسماء الثانية فوقه؟

والجواب: لا يلزم، بل نعلم أنه لا يمكن، وذلك لأنه لو أقلته السماء الدنيا لكان محتاجاً إليها، ولو أقلته السماء الثانية لكانت فوقه، والله سبحانه وتعالى له العلو المطلق أزلاً وأبداً، إذاً فليست السماء الدنيا تقله ولا السماء الأخرى تظله.

المبحث الثالث: هل إذا نزل إلى السماء الدنيا يخلو منه العرش أو لا يخلو؟

في هذا ثلاثةُ أقوال لعلماء السنة:

· فمنهم من قال: إن العرش يخلو منه.

· ومنهم من قال: إن العرش لا يخلو منه.

· ومنهم من توقف.

فأما الذين قالوا: إن العرش يخلو منه، فقولهم باطل، لأن الله أثبت أنه استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض، ولم ينفِ هذا الاستواء

ص: 274

في الحديث حين قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((ينزلُ ربنا إلى السماء الدنيا) ، فوجب إبقاء ما كان على ما كان، وليس الله عز وجل كالمخلوقات، إذا شغل حيزاً فرغ منه الحيز الآخر، نعم، نحن إذا نزلنا مكاناً خلا منا المكان الآخر، أما الله عز وجل فلا يقاس بخلقه. فهذا القول باطل لا شك فيه.

ويبقى النظر في القولين الآخرين، وهما: التوقف، أو أن نقول: إنه لا يخلو منه العرش.

فذهبت جماعة من العلماء رحمهم الله إلى التوقف، وقالوا: ما لنا ولهذا السؤال أصلاً. ولا ينبغي أن نورد هذا السؤال؛ لأننا لسنا أشد حرصاً على العلم بالله من الصحابة رضي الله عنهم، ولم يسألوا الرسول عليه الصلاة والسلام عن هذا، فنقول: هذا السؤال من أصله غير وارد، ونقول لمن أورده: أنت مبتدع ودعنا من هذا.

وعندي أن هذه الطريقة أسلم طريقة؛ أن لا نسأل عن شيء لم يسأل عنه الصحابة رضي الله عنهم، وأن نلقم من سأل عنه حجراً، فإذا قال قائل: أنا أريد المعقول، قلنا: اجعل عقلك في نفسك، وفكر في نفسك، أما في مثل هذا الأمر فلا تفكر فيه ما دام لم يأتك خبر عنه.

وللأسف فإن بعض الناس يجادل ويقول: دعوني أتصور النزول حقيقة حتى أتبين هل خلا منه العرش أم لا؟ ، فنقول: سبحان الله! ألا يسعك ما وسع الصحابة رضي الله عنهم؟ اسكت واترك هذا الكلام الذي لم يقله الصحابة رضي الله عنهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وهم أشد الناس حرصاً على العلم بالله، وأعلم الناس بالله.

وذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يخلو منه العرش، لأن الله تعالى

ص: 275

ذكر أنه استوى على العرش حين خلق السموات والأرض، ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا نزل خلا منه العرش، فالواجب بقاء ما كان على ما كان، فهو سبحانه استوى على العرش، ولم يزل مستوياً عليه، وينزل إلى السماء الدنيا في هذا الوقت، والله على كل شيء قدير، وهو سبحانه لا يقاس بخلقه.

كما إننا نقول جزماً: إنه إذا نزل إلى السماء الدنيا لم يكن نازلاً على المخلوقات، بل هو فوق كل شيء، وإن كان نازلاً إلى السماء الدنيا؛ لأن الله لا يقاس بخلقه، والى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى أن العرش لا يخلو منه (1) . ولكني أميل إلى ترجيح القول الثاني وهو التوقف وألا يورد هذا السؤال أصلا، وإذا كان الإمام مالك رحمه الله لما قال له القائل: الرحمن على العرش استوى، كيف استوى؟ قال: السؤال عن هذا بدعة، فإننا نقول في هذا: السؤال عنه بدعة.

المبحث الرابع: استشكل كثيرٌ من الناس في عصرنا: كيف ينزل الله إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر، ونحن نعلم أن ثلث الليل الآخر لا يزال سارياً جارياً على الأرض وتحت السماء، فيلزم من ذلك أن يكون النزول إلى السماء الدنيا دائماً؟

والجواب على هذا أن نقول: ليس هناك إشكال في نزول الله تعالى في الثلث الأخير رغم استمرار تتابعه على الأرض، ونحن نؤمن بقول الرسول صلى الله عليه وسلم:((ينزل حتى يطلع الفجر)) (2) ، فإذا كان كذلك فالواجب علينا ألا نتجاوزه، فما دام ثلث الليل الآخر باقياً في منطقة من المناطق الأرضية

(1) انظر شرح حديث النزول ص (232)

(2)

تقدم تخريجه ص 140.

ص: 276

فالنزول حاصل باقٍ، ومتى طلع الفجر في هذه المنطقة فلا نزول، وإن كان في الجهة الأخرى يوجد نزول، والله على كل شيء قدير، ولا يقاس سبحانه بالخلق؛ فينزل إلى السماء في ثلث الليل الآخر في جهة من الأرض، ولا ينزل بالنسبة لجهة أخرى ليس فيها ثلث الليل.

والحقيقة أن الإنسان إذا لزم الأدب مع الله ورسوله اطمأن قلبه، واستراح من التقديرات، أما إذا كان يورد على نفسه هذه المسائل فإنه ينتقل من مشكلةٍ إلى أخرى فيخشى عليه من الشك، نسأل الله العافية وأن يرزقنا اليقين، ولهذا يقول بعض السلف: أكثر الناس شَكاً عند الموت أهل الكلام، لأنهم فتحوا هذه المشاكل على أنفسهم وعجزوا عن حلها، لكن لو لزموا الأدب وقالوا ما قال الله ورسوله، وسكتوا عما سكت عنه الله ورسوله، لسلموا من هذا كله.

فمثلاً لو كان أحدنا في المنطقة الشرقية وقد أذن الفجر، والآخر في المنطقة الغربية وهو في آخر الليل، فإننا نقول: هذا وقت نزول ربنا عز وجل بالنسبة للذي في المنطقة الغربية، ونقول للآخر: انتهى وقت النزول.

وليس في هذا إشكال؛ فالذين هم في ثلث الليل يجتهدون في الدعاء لأنه وقت إجابة، والآخرون انتهى عندهم وقت النزول، ونسلم من هذه الإشكالات، ونتشوف كل ليلة إلى ثلث الليل متى يأتي حتى ندعو الله فيه.

أما هذه الإشكالات التي تورد فهي في الحقيقة من سفه الإنسان، وقلة رشده، ومن قلة أدبه مع الله ورسوله، والذي ينبغي لنا، كما قال النبي عليه

ص: 277

الصلاة والسلام: ((اسلم تسلم)(1) . ونحن نقول أيضاً: اسلم تسلم، لكن ليس المراد هنا الدخول في الإسلام، وإنما المراد: استسلم للنصوص، حتى تسلم.

المبحث الخامس: هل النزول من الصفات الفعلية أو من الصفات الذاتية؟

والجواب: النزول من الصفات الفعلية، لأنه فعل يتعلق بالمشيئة، وكل فعل يتعلق بالمشيئة فإنه من الصفات الفعلية.

وقد أنكر بعض الناس صفات الأفعال، وقال: صفات الأفعال لله باطلةً، ولا يمكن أن نثبت لله فعلاً يتعلق بمشيئته إطلاقاً؛ فلا ينزل؛ ولا يجيء يوم القيامة؛ ولا يتكلم بكلام محدث، ثم عللوا ذلك بشبهة عظيمة تنطلي على طالب العلم الصغير، حيث قالوا: إن هذا الفعل أو هذا الكلام، إن كان صفة كمال، وجب أن يتصف الله به دائماً، وإن كان صفة نقص فإنه لا يجوز أن يوصف به، لأن الله منزه عن النقص.

فكل فعل اختياري لله يجب أن ننكره بزعمهم، ويقولون: إن الله لا تقوم به الأفعال الاختيارية؛ لأن هذه الأفعال إن كانت كمالاً وجب أن يكون الله متصفاً بها دائماً، وإن كانت نقصاً لزم أن لا يتصف بها أبداً.

والجواب على هذه الشبهة أن نقول لهم: إنها صفة كمال في محلها، والحكمة لا تقتضيها في غير محلها، فلو جاءت في غير محلها لكانت نقصاً، أرأيت لو أن ولدك أساء فضربته لكان ضربك إياه في ذلك الوقت

(1) رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي، رقم (7) ، ومسلم كتاب الجهاد والسير، باب كتاب النبي صلي الله عليه وسلم إلي هرقل، رقم (1773) .

ص: 278

حكمةً وكمالاً، لكن ضربك إياه وهو يطيع نقص.

فنقول: هذه الأفعال الاختيارية كمال لله في محلها الذي تقتضيه الحكمة، وفي غير محلها لا يمكن أن يتصف الله بها، لأنها في غير محلها لا تقتضيها الحكمة، والله سبحانه وتعالى أفعاله مقرونة بالحكمة، وبهذا تزول هذه الشبهة.

وليعلم أيضاً - وهذه فائدة مهمة - أن جميع ما يتشبث به أهل الباطل في إبطال الحق هو شبهات وليس بحجج، لقوله تعالى:(فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْه)(آل عمران: الآية 7) .

ونظير هذا من بعض الوجوه قول من قال من أهل الفلسفة: الدعاء لا فائدة منه فلا ندعو الله؛ لأنه إن كان قدر لنا شيئاً فسيحصل بدون دعاء، وإن كان الله لم يقدره فلن يحصل ولو دعونا. إذاً لا فائدةَ منه وعلمه بحالي كفاه عن سؤالي.

ونرد عليهم بشيء يسير تعرفه العجائز، فنقول: إن الله قدره بهذا الدعاء، وجعل له سبباً وهو الدعاء، وإلا فقل: أنا لن أتزوج، وإن كان الله قدر لي ولد فسيخرج من الأرض، وإن لم يُقدر لي ولد فلن يخرج ولو تزوجت مائة امرأة. ولا أحد يقول هذا الكلام.

كذلك الدعاء أيضاً، فإن الدعاء سبب لحصول المطلوب، فإذا وفقت للدعاء فقد وفقت للإجابة، لقوله تعالى:(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ)(غافر: من الآية 60) وهذا نظيرٌ من بعض الوجوه لقول من يقول: إن أفعال الله الاختيارية لا يمكن إثباتها، لأنها إن كانت كمالاً وجب أن يتصف بها أزلاً

ص: 279

وأبداً، وإن كانت نقصاً وجب أن ينزه عنها أبداً، نقول: هي كمال في محلها، وفي غير محلها لا تقتضيها الحكمة فلا تكون كمالاً. إذاً النزول من صفات الأفعال.

المبحث السادس: هل أحد من أهل القبلة خالف في تفسير النزول على ما قلناه؟

الجواب: نعم؛ فمنهم من قال (ينزل ربنا) : أي تنزل رحمة ربنا. ومنهم من قال (ينزل ربنا) : أي مَلك من ملائكته، وهؤلاء إنما قالوا ذلك لأنهم ينكرون النزول الحقيقي.

والرد على هؤلاء أن نقول:

أولاً: أن قولهم هذا مخالف لظاهر النص؛ لأن ظاهره أن الذي ينزل هو الله عز وجل.

ثانياً: أن قولهم هذا مخالفٌ لصريح النص في قوله تعالى: (من يدعوني)(1) إذ إن الملك لا يمكن أن يقول للخلق من يدعوني فأستجيب له، لأن هذا لا يقدر عليه إلا الله، ولو أن أحداً قاله من الخلق لقلنا إنه نزل نفسه منزلة الخالق، والملائكة مكرمون عن هذا، فالملائكة يسبحون الله الليل والنهار لا يفترون، ويتبرؤون ممن يدعون غير الله.

وأيضاً فإذا قلنا: إن الرحمة هي التي تنزل إلى السماء الدنيا، فإن هذا من الغلط؛ لأن رحمة الله ليس غايتها السماء الدنيا، بل إن الرحمة تنزل إلى الأرض حتى تبلغ الخلق، وأي فائدة لنا إذا نزلت الرحمة إلى السماء

(1) تقدم تخريجه ص 140.

ص: 280

الدنيا؟!

ثم إن الرحمة تنزل كل وقت، ولا تختص بثلث الليل الآخر، فإذا خصصناها بثلث الليل الآخر فمعنى ذلك أن يبقى الزمن أكثره بدون رحمة.

ثم إن الرحمة لا يمكن أن تقول: من يدعوني فأستجيب له، ومن يسألني فأعطيه؛ لأن الرحمة صفة من صفات الله، ولو قالت هذا القول لكانت إلهاً مع الله، ولهذا لا يصح لنا أن ندعو صفات الله، حتى إن من دعا صفات الله فهو مشرك، فلو قال يا قدرة الله اغفر لي. يا مغفرة الله اغفر لي. يا عزة الله أعزيني. فهذا لا يجوز، بل هو شرك، لأنه جعل الصفة بائنة عن الموصوف، مدعوة دعاء استقلالياً وهذا لا يجوز.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم (برحمتك استغيث)(1) ، فهذا من باب التوسل، يعني استغيث بك برحمتك، فـ (الباء) هنا للاستغاثة والتوسل، وليست داخلة على المدعو حتى نقول إن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا أو استغاث برحمة الله، لكن استغاث بالله لأنه رحيم، وهذا هو معنى الحديث الذي يتعين أن يكون معنى له.

وقوله: (وخلقه) يعني ومما يجب إثباته بالدليل القاطع إثبات الخلق. والخلق صفة من صفات الله عز وجل الفعلية من حيث آحادها وأنواعها.

أما من حيث الأصل فهي صفة ذاتية؛ لأن الله تعالى لم يزل ولا يزال خلاقاً.

وقد ثبتت هذه الصفة بقوله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ)(الحشر: الآية 24) وقال تعالى: (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ)(الحجر: 86) فالخلاق والخالق يؤخذ

(1) رواه الترمذي، كتاب الدعوات، باب منه، رقم (3524) .

ص: 281

منهما صفة الخلق بناء على القاعدة التي سبقت في هذا الباب، وهي: أن كل اسم من أسماء الله تعالى فهو متضمن لصفة وليست كل صفة متضمنة لاسم، ولهذا كانت الصفات أوسع من باب الأسماء، فالخلق صفة لله تعالى، فهو يخلق ما يشاء إيجاداً وإعداماً، كما قال تعالى:(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ)(الملك: الآية 2) فجعل الموت مخلوقاً مع أن الموت عدم، لكنه عدم على وجه معين وليس عدما محضاً، فمفارقة الروح الجسد موت، وليس عدما، بل مفارقة تفقد بها الحياة.

والمهم أن من صفات الله الخلق، ونص المؤلف رحمه الله عليه لأن الأشاعرة لا يثبتون هذه الصفة لله، وإنما يثبتها الماتريدية، حيث أنهم يثبتون ثماني صفات، والأشاعرة يثبتون سبعاً.

فالخلق إذاً صفة ذاتية من حيث الأصل، وهي صفة فعلية من حيث النوع والآحاد، فالله تعالى يخلق ما يشاء بالنوع، ويخلق ما يشاء بالآحاد. فالإنسان مثلاً مخلوق بالنوع، وبالآحاد من حيث كل إنسان على حدة. فخلق الله للإنسان من حيث هو، يعتبر واحداً بالنوع، وخلق الله للإنسان باعتبار كل فرد يعتبر واحداً بالشخص، أي بالآحاد.

أما من حيث الفعل لله عز وجل الذي هو صفة الخلق، فإن الله لم يزل ولا يزال خلاقاً، فهو من الصفات الذاتية.

قال رحمه الله: (فاحذر من النزول) احذر من النزول: يعني من النزول الخلقي والنزول العلمي والنزول السلوكي والنزول الفكري، لأن النزول صفة ذم بكل حال.

ص: 282

فالنزول الخُلقي: أن لا تخالق الناس بخلق حسن، فإن من الناس من قد يُرزق علماً وفهماً لكنه لا يخالق الناس بخلق حسن، فتحمله الغيرة وما عنده من العلم، على الشراسة والعنف وتضليل الناس، وربما تصل به الحال إلى تكفيرهم.

والنزول العلمي: وهو أنك لا تحرص على العلم ولا تبتغي العلم ولا تطلبه. فإن العلم إذا تركته تركك، بل إذا تهاونت في طلبه فاتك، ولهذا قال بعض السلف: لا يُنال العلم براحة الجسم. وقال بعضهم: أعط العلم كلك يعطك بعضه، وأعطه بعضك يفتك كله. ولم ينل العلماء رحمهم الله الذين اشتهروا بالإمامة في العلم هذا الذي نالوا به الإمامة إلا بدأبٍ عظيم، وتعبٍ على ما هم عليه من شظف العيش وقلة المساعدة.

والنزول السلوكي: وهو قريب من النزول الخُلقي، لكنه يشمل العبادة والتعبد لله عز وجل، بأن تكون عالي الهمة بالنسبة للعبادة، لا تتوانى ولا تتكاسل، تتقي الله تعالى ما استطعت.

والنزول الفكري: وهو أن تنزل بفكرك إلى ما يخالف السلف الصالح، كما نزل أهل التعطيل وأهل التمثيل، فإن أهل التعطيل نزلوا بأفكارهم وانحدروا بها إلى الهاوية، وأهل التمثيل كذلك. كل منهم نزل، فهؤلاء غلوا في شأن التنزيه، وهؤلاء غلوا في الإثبات، فتطرفوا جميعاً فنزلوا عن مستوى الحق والصراط المستقيم.

ص: 283

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

49-

فسائر الصفات والأفعال

قديمة لله ذي الجلال

ــ

الشرح

قوله: (فسائر الصفات والأفعال) سائر ترد بمعنى (باق) ، وترد بمعنى جميع، فأما ورودها بمعنى (باق) فإنها مأخوذة من السؤر وهو البقية، كما يقال مثلاً: سؤر البهائم طاهرٌ؛ أي بقية شرابها، وتقول: شربت سؤر فلان؛ أي بقية شرابه، وعلى هذا فتكون سائرٌ بمعنى باقٍ.

وأما سائر بمعنى جميع فهي مشتقة من السور؛ لأنه يحيط بالقصر. فكلام المؤلف هنا يتنزل على المعنى الثاني؛ فتكون سائر بمعنى جميع.

قال رحمه الله: (فسائر الصفات والأفعال قديمة لله) وكلامه هذا في إطلاقه نظر ظاهر؛ وذلك أن صفات الله عز وجل تنقسم إلى ثلاثة أقسام: خبرية وذاتية وفعلية.

أما الفعلية فنص عليها المؤلف رحمه الله بقوله: (الأفعال)، فيبقى قوله:(الصفات) شاملاً للخبرية والذاتية، ونحن نوافقه على أن الصفات الذاتية والصفات الخبرية قديمة لله؛ قديمة: يعني أزليةٌ لم تزل موجودةٌ، وهي كذلك أبدية لا تزال موجودة.

فالصفات الخبرية مثل: الوجه، والعين، واليد، والقَدَم، هذه صفات أزليةٌ قديمة، وهي أيضاً أبدية.

والصفات الذاتية مثل: العلم، والقدرة، والعزة، وغيرها، فهذه أيضاً قديمة لله عز وجل أزلية أبدية.

ص: 284

أما الصفات الفعلية التي أشار إليها المؤلف رحمه الله في قوله: (والأفعال) فلا يطلق عليها أنها قديمة على سبيل الإجمال، ولا أنها حادثة، بل في ذلك تفصيل: فباعتبار الجنس هي قديمة، فإن الله لم يزل ولا يزال فعالاً؛ لم يأت عليه وقتٌ كان معطلاً عن الفعل بل لم يزل فعالاً، فباعتبار جنس الأفعال نقول: إنها قديمة، كما قال المؤلف، وباعتبار النوع والآحاد فليست قديمة.

وأضرب مثلاً للنوع: استواء الله على العرش نوعٌ من أنواع الفعل، لكن لا يمكن أن نقول: إنه قديم، لأنه لم يكن إلا بعد خلق العرش، وخلق العرش حادث، فيلزم من ذلك أن يكون الاستواء حادثاً وليس بقديم. هذا باعتبار النوع

أما باعتبار الآحاد فالله تعالى خلق الملايين من البشر، وخَلْقُ الله عز وجل للبشر حادث بلا شك، فخلق كل فرد منهم وجد حين خلقه الله، ومن له عشر سنوات فهو قبل أحد عشر سنة ليس موجوداً، ولم يكن شيئاً مذكوراً، ولا تعلقت به صفة الخلق.

إذاً فكلام المؤلف رحمه الله بِقِدَم الصفات صحيح باعتبار قسمين من الصفات، وهي: الصفات الخبرية، والذاتية، أما الأفعال فصحيح أنها قديمة باعتبار الجنس، فجنس الأفعال قديمة، وأما أنواعها وآحادها فليست قديمة.

ومن أمثلة الصفات الخبرية: الوجه والعين واليد والإصبع والساق والقدم وغيرها. فكل ما ورد به النص نثبته على أنه قديم. ولا يستوحش من إثباتها، ولا يقال: كيف يكون لله كذا؟! لأن الذي تكلم بهذه الصفة إما الله نفسه - إذا

ص: 285

كانت الصفة ثابتةٌ بالقرآن - وإما رسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو أعلم الخلق به، فلا يستوحش مما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله.

والذي يستوحش منه تحريف ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله.

أما الأفعال؛ فالأفعال كثيرة أيضاً نوعها وجنسها، فالكلام صفة فعل باعتبار آحاده، وهو صفة ذاتٍ باعتبار أصله؛ فالكلام ليس له حصر ولا يمكن أن يحاط به، فإن الله تعالى يقول:(وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ)(لقمان: الآية 27) أي لو أن الذي في الأرض من الأشجار أقلام، يعني: جعل أقلاماً وكتب به وجعل المداد البحر يمده من بعده سبعة أبحر، لنضب الماء وتكسرت الأقلام ولم تنفد كلمات الله، إذاً كلمات الله لا حصر لها، ولا يمكن الإحاطة بها، والكلام من صفات الأفعال.

وقول المؤلف رحمه الله (قديمة لله ذي الجلال)، ذي: صفة لله، والجلال: بمعنى العظمة والكبرياء، وقد وصف الله نفسه بأنه ذو الجلال والإكرام، وأنه مع عظمته وكبريائه يكرمه المؤمنون من عباده، ويكرم هو من يستحق الإكرام من العباد، ولهذا نقول: الإكرام صفة صالحة لصدوره من الله؛ ولصدوره لله؛ فهو صالح لصدوره من الله حيث يكرم من يستحق الإكرام من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولهذا يقال في الجنة: إنها دار الكرامة، وهو صالح لصدوره لله حيث إنه سبحانه وتعالى مكرم من قبل هؤلاء العباد الخلص النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

ص: 286

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

50-

لكن بلا كيف ولا تمثيل

رغماً لأهل الزيغ والتعطيل

51-

نمرها كما أتت في الذكر

من غير تأويل وغير فكر

ــ

الشرح

قوله: (لكن بلا كيف) يعني أنها قديمة وثابتة لله لكن بلا كيف، والمراد بقوله (بلا كيف) أي بلا تكييف منَّا لها، وليس المراد أنه ليس لها كيفية، وذلك لأنه ما من شيء ثابت إلا وله كيفية ولابد، فاليد لها كيفية، والوجه له كيفية، والعين لها كيفية، لكن نحن لا نكيفها، فتكييفنا لها حرام، بل السؤال عن الكيفية بدعة، كما نص على ذلك الإمام مالك رحمه الله، وأقره أهل العلم عليه، فلا نسأل عن الكيفية ولا نكيف.

والتكييف باطل بدلالة السمع ودلالة العقل. أما دلالة السمع فمنها:

أولا: قوله تعالى: (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(الأعراف: 33)، والشاهد قوله:(وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ)(البقرة: الآية 169) فإذا كَيَّف أحد صفة من صفات الله فقد قال على الله ما لا يعلم؛ لأن الله أخبر بالصفة ولم يخبر عن كيفيتها، وهذا من الأمور الغيبية التي لا يمكن أن تدرك بالحس، ولا يمكن - بحسب إضافتها إلى الله - أن تدرك بالعقل أيضاً، لأنه ليس هناك علة جامعة بين الخالق والمخلوق حتى نقيس ما غاب عنا من صفات الخالق على صفات المخلوق.

ص: 287

صحيح لو أن أحداً من الناس سألنا عن وجهه أو عن عينه أو عن يده لكنا نعرف كيفيتها بالقياس؛ لأنه بشر مثل سائر الخلق، ونحن نرى نظيره، لكن بالنسبة للخالق ليس هناك علة تجمع بينه وبين المخلوق، حتى يقاس على المخلوق، ويدعي المدعي أنه يعرف الكيفية.

ثانياً: قول الله تعالى: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)(الإسراء: 36)، (تقفو) : يعني تتبع ما ليس لك به علم، ومنه تكييف صفات الله، فإنه لا علم لنا به. (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ) (الإسراء: الآية 36) هذه طرق الإدراك (كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)(الإسراء: الآية 36) فيسأل الإنسان عنه إذا استمع لما لا يعنيه، أو نظر إلى ما لا يعنيه، أو فكر فيما لا يعنيه، فإن الإنسان سوف يسأل عن ذلك كله يوم القيامة.

أما الأدلة العقلية: فإننا نقول: إن الشيء لا يمكن إدراكه إلا بمشاهدته أو مشاهدة نظيره أو الخبر الصادق عنه؛ فكل شيء لا يمكن إدراكه إلا بواحد من هذه الأمور الثلاثة.

أن تشاهده، وهذا عين اليقين، أو تشاهد نظيره، وهذا أدنى رتبة من الأول، لأن هذا تدركه بالقياس؛ فمشاهدة النظير ومعرفة النظير بالنظير هذا قياس.

أو بالخبر الصادق عنه، لكن ليس الخبر كالمعاينة، ولذلك فهو أدنى رتبة من الأول.

ومعلوم أن واحداً من هذه الطرق الثلاثة لم يحصل بالنسبة لصفات الله عز وجل، فنحن لم نشاهد شيئاً من هذه الصفات، ولو شاهدنا شيئاً منها لم

ص: 288

ندركه؛ لأن الله قال: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ)(الأنعام: الآية 103) وقال: (وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)(طه: الآية 110) ، وبهذا فقد انتفى الأمر الأول.

كذلك فنحن لم نشاهد نظيرها؛ لأن الله يقول: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)(الشورى: الآية 11) إذاً لم نشاهد مثيلاً لله عز وجل.

وكذلك لم يخبرنا الله سبحانه أو رسوله عن كيفية هذه الصفات، فيتعذر إذاً أن نعلم كيفيتها، لأن وسائل العلم انتفت، وإذا انتفت الوسيلة انتفت الغاية، وحينئذٍ نقول: لا يمكن أن نكيف صفات الله، ولا يجوز أن نسأل عن الكيفية، ومن سأل عن الكيفية نهيناه؛ لأن السؤال عن الكيفية هلكة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ((هلك المتنطعون)(1) . والسؤال عن الكيفية من التنطع؛ لأنه لو كان لك فائدة في علم الكيفية لبينها الله ورسوله، بل نقول: إن الوصول إلى حقيقة كيفية صفات الله أمرٌ مستحيل؛ لأن الإنسان أقل من أن يحيط بكيفية صفات الله.

وانظر إلى موسى صلى الله عليه وسلم حين قال لله: (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْك)(الأعراف: الآية 143) فهو يطلب النظر إلى الله عز وجل شوقاً إليه، لا شكاً في وجوده، فلما قال:(رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْك)(الأعراف: الآية 143) قال: (لَنْ تَرَانِي)(الأعراف: الآية 143) يعني: لا يمكن أن تراني (وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي)(الأعراف: الآية 143) فنظر إلى الجبل، فلما تجلى الله عز وجل للجبل جعله دكاً، أي اندك الجبل وصار رملاً. فسبحان الله! هذا الجبل الأصم، الصلب، لما تجلى الله عز وجل له اندك وصار رملاً.

(1) تقدم تخريجه ص 149.

ص: 289

ولما رأى موسى هذا المشهد العظيم خر صعقاً وغشي عليه. ولو تصور كل إنسان نفسه أنه هو الذي في هذه الحالة لغشي عليه من باب أولى. وتأمل كيف خر موسى صعقاً لما تجلى ربه للجبل، وكيف عجز الجبل عن أن يقاوم هذه الرؤية العظيمة واندك.

والله عز وجل يقول عن كلامه، وهو صفة من صفاته:(لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا القرآن عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ)(الحشر: الآية 21) يهبط ويتصدع لكن لا يكون دكاً؛ لأن التجلي أعظم من نزول الكلام.

إذاً لا يمكننا إدراك كيفية صفات الله وكنهها. فالسؤال عنه يكون لغواً من القول وتنطعاً في الدين ولهذا لما ورد هذا السؤال على الإمام مالك رحمه الله عجز عن تحمله فأطرق برأسه وجعل يتصبب عرقاً.

فالكيفية ثابتةٌ والتكييف ممنوع ولو نفيت الكيفية على الإطلاق لكنت نفيت الوجود وعلى هذا نحمل كلام السلف حيث قالوا في آيات الصفات وأحاديثها: (أمروها كما جاءت بلا كيف)، أي: بلا تكييف.

وقوله: (بلا تمثيل) يعني: وكذلك ثابتة بلا تمثيل. وقد سبق الكلام على نفي التمثيل وأنه ثابت بدلالة السمع والعقل وأن التعبير بقول القائل: (بلا تمثيل)، أولى من قوله:(بلا تشبيه) ، من ثلاثة أوجه. لكننا نرى في بعض الأحيان كلاماً بلفظ التشبيه جاء من أئمة السلف، وهذا الذي جاء - بلفظ التشبيه - من أئمة السلف، يريدون به التمثيل.

والمؤلف رحمه الله لغيرته وشدة تمسكه بمذهب السلف قال: إننا نقول

ص: 290

ذلك (رغماً لأهل الزيغ) يعني نراغمهم بذلك، والرغام أصله التراب، وهو كناية عن الإذلال؛ يقال: راغمته: أي أذللته، ومنه قولهم: رغم أنف امرئ.

قوله: (والتعطيل)، والتعطيل: معناه الترك والتخلية، ومنه قوله تعالى:(وَبِئْرٍ مُعَطَّلَة)(الحج: الآية 45) أي متروكة مخلاة تركها أهلها.

أما في الاصطلاح فالتعطيل: هو تعطيل الله عما يجب له، وهو أنواع بحسب ما ترك من واجب لله.

أولاً: التعطيل المطلق: فالمنكرون لوجود الرب عطلوا أعظم تعطيل؛ حيث يقولون: ليس هناك رب، وإنما هي أرحام تدفع، وأرض تبلع، فهؤلاء عطلوا وجود الله أصلاً.

ثانياً: تعطيل ألوهيته تعالى: فالمشركون الذين يعبدون مع الله غيره عطلوا الله عما يجب له من العبادة؛ لأن الواجب إخلاص العبادة لله وحده. فهؤلاء الذين يعبدون مع الله غيره عطلوا الله عن التوحيد الخالص.

ثالثاً: تعطيل أسمائه: فالذين عطلوا أسماء الله قالوا: إن الله تعالى ليس له أسماء، وأن ما نُسب إليه من الأسماء فإنما هي أسماء لمخلوقاته وليست له، فهذا تعطيل شديد أيضاً.

رابعاً: تعطيل الصفات: حيث يقول الذين عطلوا الصفات: إن الله له أسماء لكن ليس له صفات؛ فلا سمع، ولا بصر، ولا كلام، ولا إرادة، ولا قدرة؛ فينكرون الصفات أصلاً، وهذا أيضاً تعطيل، حيث عطلوا الله

ص: 291

عما يجب له من الصفات.

خامساًً: التعطيل لبعض الصفات: حيث يثبت أصحاب هذا النوع من التعطيل شيئاً من الصفات وينكرون أشياء من الصفات، فهذا أيضاً تعطيل، وهذا له أنواع: فمنهم من يعطل صفات الأفعال فقط، ومنهم من يعطل كل صفة لا يدل عليها العقل بزعمه، ويختلفون في هذا.

فصار التعطيل بذلك أنواعاً خمسة:

أولاً: التعطيل المطلق: وهو تعطيل وجود الخالق.

ثانياً: تعطيل ألوهيته: بأن يعبد معه غيره.

ثالثاً: تعطيل أسمائه: بأن تنفى عنه الأسماء، والذي ينفي الأسماء ينفي الصفات من باب أولى.

رابعاً: تعطيل الصفات: فيقال: إن الله له أسماء وليس له صفات.

خامساً: تعطيل بعض الصفات: وهذا يختلف فيه الناس كثيراً، فمنهم من يعطل كثيراً ومنهم من يعطل قليلاً.

وكل أنواع التعطيل هذه منفية في قول المؤلف رحمه الله: (رغماً لأهل الزيغ والتعطيل) .

فالجهمية - المقتصدون منهم - عطلوا الصفات وأثبتوا الأسماء، والغلاة منهم عطلوا الأسماء والصفات.

والمعتزلة عطلوا الصفات وأثبتوا الأسماء، لكنها أسماء مجردة وليس لها معانٍ، فهو سميعٌ بلا سمع، وبصيٌر بلا بصر.

ص: 292

والأشاعرة أثبتوا الأسماء وأنكروا الصفات إلا سبعاً، والأفضل هنا أن نقول: إنهم أنكروا الصفات إلا سبعاً، ولا نقول أثبتوا سبع صفات؛ لأن الصفات السبع قليلة بالنسبة للصفات الكثيرة العديدة؛ فلهذا نقول أنكروا الصفات إلا سبعاً.

أما أهل السنة والجماعة فأثبتوا توحيد الله في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأثبتوا لله الأسماء والصفات كلها، بدون قيد وبدون تفصيل، لأنهم يقولون: إن الواجب علينا أن نمرها كما جاءت.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (نمرها كما أتت في الذكر) نمرها: يعني اقبلها وأمرها بلسانك وبقلبك كما أتت في الذكر.

و (في الذكر) يعني في القرآن، سواء أتت في القرآن مباشرة أو بالإحالة؛ فمباشرة بأن تكون الأسماء والصفات في القرآن، أو بالإحالة بأن تكون الأسماء والصفات في السنة، لأن ما جاء في السنة فقد أتى في القرآن لكن عن طريق الإحالة:(وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ)(الحشر: الآية 7) .

وقوله رحمه الله: (نمرها كما أتت في الذكر) هذه العبارة ورد معناها عن السلف، فقالوا في آيات الصفات وأحاديثها أمروها كما جاءت بلا كيف. وهذه العبارة تجاذبها طائفتان: طائفة ادعت أن السلف أرادوا بهذه العبارة التفويض، والتفويض: يعني إننا نمر النص ونفوض معناه ونقول: الله أعلم بما أراد، فنقرأ:(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)(طه: 5) ولكننا لا نعلم معنى استوى، ونقرأ قوله صلى الله عليه وسلم:((ينزل ربنا من السماء الدنيا)(1) ولا نعلم معنى

(1) تقدم تخريجه ص 140

ص: 293

ينزل، ونقرأ قوله تعالى:(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام)(الرحمن: 27) ولا نعلم معنى الوجه، وعلى هذا فقس، وادَّعوا أن هذا مذهب أهل السنة والجماعة وأنه مذهب السلف.

والغريب أن هذه الدعوى تصدر من علماء أجلاء يشهد لهم بالخير، لكننا نشهد لهم بالخير، ونشهد عليهم بالخطأ في نقل مذهب السلف على هذا الوجه، ونرى أنهم مخطئون لكن عن غير عمد؛ لأن نيتهم حسنة - لا شك عندنا في ذلك -، لكنهم فهموا عن السلف فهماً خاطئاً، فليس مذهب السلف هو التفويض، فالسلف من أفقه الناس في معنى آيات الصفات وأحاديثها، لكنهم من أبعد الناس أن يقولوا فيها ما لا يعلمون.

وليتنبه أننا لو قلنا: إن مذهب السلف في آيات الصفات وأحاديثها هو التفويض الذي أراده هؤلاء، لكان أجهل الخلق بالله هم " السلف، لأن من لا يعرف معنى الصفات كيف يعرف الله؟! ، فالذي لا يعرف معنى السميع ولا البصير ولا العزيز ولا الحكيم، كيف يعرف الله؟! فهذا اللازم لا شك أنه لازم باطل، وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم.

ومن ثم أطلق بعض هؤلاء العلماء القول بأن طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وهذا القول فيه حق وباطل.

فقولهم: إنها أسلم صحيح، لكن ليس على الوجه الذي أرادوه، ولو كان مذهب السلف هو الوجه الذي أرادوه لم يكن أسلم، بل كان أسلم لأن مذهباً يقول: أنا أقرأ آيات الصفات وأحاديثها ولا أعرف معناها، أين السلامة؟! فإذا لم تعرف المعنى وتثبته فأنت غير سالم، لكنهم قالوا: إن قول

ص: 294

الإنسان: (لا أدري) هذه سلامة.

وقولهم في طريقة الخلف: إنها أعلم وأحكم؛ فأعلم لأنهم يثبتون معنى؛ وأحكم لأنهم قالوا: إن من المحال أن ينزل الله علينا كتاباً في أعظم ما نحتاج إليه ثم لا يكون له معنى معلوم، فلو قال إنسان: عن آيات الصفات وأحاديثها ليس لها معنى أو ليس معناها معلوماً، لكان هذا مناقضاً للحكمة.

ولهذا قالوا: طريقة الخلف أعلم وأحكم، وقد بينا أن هذه المقولة باطلة متناقضة (1) ، وقد كذبوا بذلك على السلف فيما فهموا من مذهبهم.

وقوله: (نمرها كما أتت في الذكر)، سبق أن السلف قالوا في آيات الصفات وأحاديثها: أمروها كما جاءت بلا كيف. وهذه العبارة لا تدل على أن السلف يفوضون المعنى، بل الذي تدل عليه أن السلف يثبتون معنى آيات الصفات وأحاديثها، وتدل العبارة على هذا من وجهين:

الأول: قولهم: (أمروها كما جاءت) ومن المعلوم أنها جاءت ألفاظاً لمعانٍ، ولم تأت ألفاظاً لغير معنى كالحروف الهجائية أبداً، فإذا أمررناها كما جاءت فمعنى ذلك أننا نثبت اللفظ والمعنى.

والثاني: قولهم: (بلا كيف) يعني بلا تكييف، وهذه أيضاً تدل على ثبوت المعنى، لأنه لولا ثبوت أصل المعنى ما احتجنا إلى قول بلا كيف، إذ نفي الكيف عما ليس بموجود لغوٌ من القول، وهذا واضح.

(1) انظر فتح رب البرية بتلخيص الحموية ص 5

ص: 295

فهم أثبتوا المعنى، ووجه ذلك أن نفي التكييف يدل على ثبوت أصل المعنى؛ لأنه لولا ثبوت أصل المعنى ما احتيج إلى أن نقول بلا تكييف. فالسلف يثبتون لنصوص الصفات معنى، ووالله لولا إثباتنا للمعنى ما ذقنا طعم هذه النصوص في الصفات وفي الأسماء أبداً، ولو كنت أقرأ:(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) كما أقرأ ((أ-ب- ج)) لما استفدت وما ازداد إيماني ومعرفتي بالله أبداً.

فلولا أني أعرف أن معنى استوى علا علواً يليق بجلاله وعظمته لما استفدت، ولهذا كان دعوى عدم إثبات السلف المعنى لآيات الصفات دعوى باطلة، وقدْحاً عظيماً في السلف، ومهما كان مصدر هذا القول، فهو خطأ.

فإذا كان السلف يثبتون المعنى بلا تكيف صاروا أسلم وأعلم وأحكم، وهذا هو المطلوب

ص: 296

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

52-

ويستحيل الجهل والعجز كما

قد استحال الموت حقاً والعمى

53-

فكل نقص قد تعالى الله

عنه فيا بشرى لمن والاه

ــ

الشرح

قوله: (ويستحيل الجهل والعجز) الاستحالة معناها التعذر وعدم الإمكان، أي يستحيل الجهل على الله، ودليل استحالته أثري ونظري:

أما الأثري: ففي قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ)(آل عمران: 5) وقوله: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً)(الطلاق: الآية 12) وقوله (وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)(يونس: الآية 61) . والنصوص في أنه يستحيل الجهل على الله كثيرة؛ لأن الإخبار على هذا الوجه يدل على عموم إحاطة علم الله عز وجل بكل شيء، وإذا أحاط بكل شيء استحال الجهل.

وأما النظري: فلأن الجهل صفة نقص، حتى إن الإنسان يُعَير به فيقال: يا جاهل، أو يقال: فلان جاهل، وإذا كان صفة نقص فإنه ينزه عنه الخالق، فالخالق لا يمكن أن يتصف بنقص إطلاقا، وقد استدل إبراهيم عليه الصلاة والسلام على أبيه بهذا فقال:(يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً)(مريم: الآية 42) إذاً هذا وجه استحالته نظرياً.

وإذا استحال الجهل فإنه يكون من الصفات السلبية المنفية، وقد سبق أنه

ص: 297

لا يوجد في صفات الله صفة سلبية محضة، بل لابد أن تكون متضمنة لكمال ضدها، فإذا استحال الجهل صار كمال العلم واجباً، ولهذا يجب أن يكون الله متصفاً بكمال العلم.

والجهل قد يكون سابقاً للعلم وقد يكون لاحقاً، وكلاهما مستحيل، فما كان سابقاً للعلم فهو جهل، وما كان لاحقاً له فهو نسيان، وكلاهما مستحيل على الرب عز وجل. وقد قال موسى لفرعون حين قال:(قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى)(طه: 51) قال موسى: (عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى)(طه: الآية 52) وقوله: (ويستحيل الجهل والعجز)، أي: ومما يستحيل أيضاً: العجز، والعجز مستحيل بدلالة السمع، ودلالة العقل:

أما السمع: فقد قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً)(فاطر: الآية 44) ومثل هذا النفي (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ)(فاطر: الآية 44) إنما يصاغ فيما كان ممتنعا غاية الامتناع، كما في قوله تعالى:(وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ)(هود: 117)(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ)(الأنفال: الآية 33) وما أشبه ذلك.

إذاً فالنفي في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ)(فاطر: الآية 44) ، يدل على امتناع المنفي امتناعاً مطلقاً بكل حال.

وقال تعالى: (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ)(العنكبوت: 4) وقال تعالى: (وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي

ص: 298

السَّمَاءِ) (العنكبوت: الآية 22) والآيات الدالة على استحالة العجز كثيرة.

أما الدليل العقلي على استحالة العجز فهو أن العجز صفة نقص، والرب سبحانه وتعالى منزه عن النقص، فيجب أن ينزه عن العجز، قال تعالى:(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الْأَرْض)(فاطر: لآية 44)

إذاً فالعجز مستحيل سمعاً وعقلاً، وإذا استحال العجز على الله فإن القدرة تجب له سبحانه وتعالى سمعاً وعقلاً:

أما السمع: فما أكثر الآيات التي يقول الله فيها: (إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(النور: الآية 45) ومنها هذه الآية التي نفى الله فيها عجزه مطلقاً، حيث قال:(وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الْأَرْض)(فاطر: الآية 44) ثم قال: (إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً)(فاطر: الآية 44) .

وأما العقل: فقرر دلالته على ذلك أهل العلم في قولهم: إن الخلق يدل على الخالق وعلى القدرة أيضاً، لأنه لا يمكن أن يوجد خلق إلا بقدرة عليه، فوجود المخلوقات وإثبات الخلق دليل على قدرة الخالق عز وجل.

فصار العجز مستحيلاً سمعاً وعقلاً، وإذا استحال العجز ثبت ضده وهي القدرة، والقدرة أيضاً ثابتة سمعاً وعقلاً.

ثم قال المؤلف رحمه الله: (كما قد استحال الموت حقاً) أيضاً الموت مستحيل سمعاً وعقلاً:

أما استحالته سمعاً: فقد قال الله تعالى: (كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ)(الرحمن: 26)(وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ والإكرام)(الرحمن: 27) وقال تعالى: (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ)(الفرقان: الآية 58) بل نفى الله عنه الميتة الصغرى في قوله: (لا

ص: 299

تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) (البقرة: الآية 255)

فإن النوم هو الميتة الصغرى، ونفيه نفياً لها.

أما استحالته عقلاً: فلأن الموت لا يلحق إلا الناقص: أي ناقص الحياة؛ لأن الموت لا شك أنه فقدٌ للحياة، والحياة صفة كمال، فإذا فقدت زال الكمال، والله سبحانه وتعالى منزه عن كل نقص.

وقوله: (حقاً) مصدر عامله محذوف تقديره: أحق ذلك حقاً، يعني أثبته إثباتاً لا شك فيه.

وقوله: (والعمى)، العمى: ضد البصر، فالله سبحانه وتعالى منزه عن العمى وعن العور الذي هو فقد إحدى العينين، ودليل ذلك أيضاً من السمع والعقل:

أما من السمع: فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام ((حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)(1)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في وصف الدجال:(إنه أعور وإن ربكم ليس بأعور)(2) .

وأما عقلاً: فلأن من لا يبصر ناقص، والنقص منزه عنه الله عز وجل، ولهذا قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لأبيه:(يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً)(مريم: الآية 42) .

ثم ذكر المؤلف قاعدة عامة مطردة فقال: (فكل نقص قد تعالى الله عنه) أي: كل نقص - على سبيل العموم - فإن الله جل وعلا قد تعالى عنه؛ سواء كانت هذه الصفة نقصاً في ذاتها؛ أو كانت الصفة نقصاً في كمالها.

مثل الصفة التي هي نقص في ذاتها: العمى والجهل المطلق.

(1) تقدم تخريجه ص 184.

(2)

تقدم تخريجه ص 269.

ص: 300

ومثال الصفة التي هي نقص في كمالها: العور؛ فالأعور ينظر بعين واحدة وتستقيم أموره، لكن هذه الرؤية ناقصة وليست كاملة.

ولهذا يستدل بعض أهل القيافة على أن هذه البهيمة عوراء برعيها الشجرة، حيث إن العوراء إذا وقفت عند الشجرة ترعى من جانب واحد، لأنها لا ترى الجانب الآخر، فإذا أقبل على بعير ترعى شجرة، ووجدها قد أكلت من اليمين عرف أنها عوراء من اليسار.

ويستدل كل إنسان على الأعور أنه إذا أتاه من جهة العوراء فإنه لا يبصره، لأنه لا ينظر إلا من جهة واحدة، فالعور نقص، وهو نقص في كمال وليس فقداً للكمال.

وكذلك أيضاً في صفة القوة، فلو كان الله ليس فيه قوة إطلاقاً لكان هذا نقصاً في ذات الصفة، فإذا كان فيه قوة ولكنه لا يقوى على بعض الأشياء فهذا نقص في كمال. فالله عز وجل منزه عن الأمرين؛ منزه عن النقص الذي هو فقد الكمال بالكلية، وعن النقص الذي هو نقص في كماله.

أما مماثلة المخلوقين فهي نقص في كماله، فلو قيل لله عينان مثل عيني المخلوق لكان هذا نقصاً في كمال، أو قيل لله علم مماثل لعلم المخلوق لصار أيضاً نقصاً في كمال.

فالحاصل أن الله تعالى منزه عن كل نقص، سواء كان نقصا بحسب الأصل، أو نقصا بحسب الكمال، فالله سبحانه وتعالى منزه عنه، وتنزيه الله عن النقص مأخوذ من قوله تعالى:(وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى)(النحل: الآية 60) فإن إثبات المثل الأعلى يدل على أن كل ما كان نقصاً فالله منزه عنه؛ لأنه ينافي

ص: 301

الأعلوية، والله يقول:(وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى) . (النحل: الآية 60) .

قوله: (يا بشرى لمن والاه)(يا) : هذه حرف نداء، لكن (بشرى) منادى وهو غير عاقل، فكيف يوجه النداء لغير العاقل؟.

اختلف النحويون في هذا، فقالوا: إذا وجه النداء لغير العاقل فهو للتمني، أو يكون المنادى محذوفاً ويقدر بحسب السياق، ففي قول الشاعر:

ألا أيها الليل الطويل ألا انجل بصبحٍ وما الإصباح منك بأمثل

هنا خاطب الشاعر الليل وناداه: (ألا أيها الليل) والليل لا يعقل، فقالوا: إن هذا للتمني: يعني يتمنى أن ينجلي الليل، ومع ذلك يقول: حتى لو أنجليت فالصبح ليس أمثل منك، وقال الله تعالى:(قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ)(يّس: الآية 26 (بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ)(يّس: 27)(يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ) فهذه للتنبيه لأن ليت حرف لا ينادى فتكون للتنبيه.

وقال بعضهم أن المنادى محذوف والتقدير: يا ربي ليت قومي يعلمون.

والبشرى بمعنى البشارة، وهي الخبر السار، فالخبر السار يسمى بشرى، وسمي بشرى لأن البشرة تتغير به، ولهذا إذا سر الإنسان استنار وجهه، كما حصل للرسول عليه الصلاة والسلام حين مر مجزز المدلجي بزيد بن حارثة وأسامة بن زيد، وعليهما رداء قد بدت منه أقدامهما، فقال:(إن هذه الأقدام بعضها من بعض)(1) . فسر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حتى صارت أسارير

(1) رواه البخاري، كتاب الفرائض، باب القائف، رقم (6770) ، ومسلم، كتاب الرضاع، باب العمل بإلحاق القائف الولد، رقم (1459)

ص: 302

وجهه تبرق. ولذلك فكل خبر سار، يسمى بشرى.

وقد تطلق البشرى على الخبر المسيء بجامع التغير في كل منهما، كما في قوله تعالى:(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)(آل عمران: الآية 21) .

وقوله: (لمن والاه) أي والاه الله وصار له ولياً. فيا بشرى لمن كان ولياً لله، نسأل الله أن يجعلنا من أوليائه.

وذلك لأن ولي الله قد أمنه الله من كل خوف، يقول تعالى:(أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(يونس: 62)(الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)(يونس: 63) فولي الله عز وجل إذا عاداه أحد فقد حارب الله تعالى: وليس فقط عادى الله؛ بل قد حارب الله، قال الله تعالى في الحديث القدسي:((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)(1) ، ومن آذنه الله بالحرب فهو مغلوب على كل حال، لأن الله تعالى عزيز قوي لا يغلبه شيء، ولهذا نقول: يا بشرى في الدنيا والآخرة لمن والاه الله، أي صار له ولياً بالمعنى الخاص؛ لأن الله ولي كل شيء بالمعنى العام ولكن بالمعنى الخاص فهو ولي لأهل الإيمان والتقوى.

(1) تقدم تخريجه ص 130.

ص: 303

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

54 -

وكل ما يطلب فيه الجزم

فمنع تقليد بذاك حتم

55-

لأنه لا يكتفى بالظن

لذي الحجى في قول أهل الفن

56-

وقيل يكفي الجزم إجماعاً بما

يطلب فيه عند بعض العلما

57-

فالجازمون من عوام البشر

فمسلمون عند أهل الأثر

ــ

الشرح

انتقل المؤلف رحمه الله من ذكر الصفات إلى ذكر بعض الأحكام في التقليد، ومن المعلوم أن إدراك المعلومات قد يكون عن اجتهاد ونظر في الأدلة، فهذا الذي يتوصل إليه الإنسان باجتهاده ونظره، يجب عليه أن يعتقده أو يعمل بمقتضاه، لكن بشرط أن يكون من أهل الاجتهاد ذوي العلم؛ وليس من أهل الاجتهاد ذوي الجهل؛ لأن اجتهاد ذوي الجهل خطأ على كل حال، حتى لو أصاب ذو الجهل فهو مخطئ، لأن استعمال اجتهاده مع عدم القدرة والأهلية خطأ.

فلو قال قائل: رجل وجب عليه إعتاق رقبة، فقال شخص: اذهب إلى السجناء وأخرج واحدا محبوسا بدينه، ولو كان دينه عشرة ريالات، فأوف عنه الريالات فتكون قد أعتقت رقبة؛ لأنك فككته من الأسر، أي من اسر الحبس، والفقهاء رحمهم الله يقولون: إنه يجوز صرف الزكاة في فكاك الأسير، فهذا صار فقيها من وجه وجاهلا من وجه آخر، واجتهاده هذا اجتهاد في غير محله.

ص: 305

ومثل ذلك أيضاً: إذا أنقذ إنسان شخصا من الغرق، وكان عليه عتق رقبة كفارة عن قتل أو ظهار أو جماع في رمضان، فأفتاه جاهل بان إنقاذ صاحبه من الغرق عتق رقبة، فهذا الاجتهاد غير مقبول لأنه عن جهل.

ومثال آخر: إذا قام الإمام إلى خامسة فنبهه المصلون بقولهم: (سبحان الله) فأبى وأصر على أن يكمل الخامسة، فلما سلم التفت إلى الجماعة ينكر عليهم تصرفهم وجهلهم، مدعيا أن الفقهاء قالوا: إذا شرع الإمام في القراءة حرم الرجوع، فكيف يلحون عليه أن يرجع وقد شرع في القراءة؟! ، والحقيقة انه هو الجاهل لأن الفقهاء رحمهم الله يقولون: إذا شرع في القراءة حرم الرجوع فيما إذا ترك التشهد الأول، أما إذا قام إلى زائدة فيرجع ولو كان قد ركع.

والمهم في ذلك أن مثل هذا المجتهد لا يعتبر اجتهاده مطلقا ولا يقبل، لكن المجتهد الذي فيه أهلية الاجتهاد، وعنده علم وبصر في كلام أهل العلم فالمؤلف يقول رحمه الله:

وكل ما يطلب فيه الجزم فمنع تقليد بذاك حتم

يعني يجب أن يجتهد الإنسان فيما يطلب فيه الجزم، وعلى ذلك فكل شيء يطلب فيه الجزم فلا تقلد فيه، بل يجب أن تعرف الحكم من الكتاب والسنة.

وعلى هذا فالعوام الذين يؤمنون بالله ورسوله واليوم الآخر ولا يعرفون الدليل لكن لما سمعوا العلماء يقولون بهذا آمنوا به، فعلى كلام المؤلف يكون إيمانهم ليس بصحيح، لأن الذي يطلب فيه الجزم لابد أن يكون عن اجتهاد،

ص: 306

ولا يصح أن يكون عن تقليد، لكن هذا القول ضعيف جدا، ولهذا قال:

وقيل يكفي الجم إجماعا بما يطلب فيه عند بعض العلما

يعني قال بعض العلماء رحمهم الله: بل يصح التقليد فيما يطلب فيه الجزم، وهذا القول هو الراجح، وسيأتي إن شاء الله دليل هؤلاء ودليل هؤلاء ومناقشة الأدلة.

فالمسائل العلمية؛ كالوضوء والصلاة والزكاة والصيام والحج وغير ذلك، يجوز فيها التقليد بالاتفاق، ولا يمكن أن يلزم الإنسان الناس بالاجتهاد في هذا؛ لأن الاجتهاد في هذا صعب، والعامة لا يمكن أن يقرؤوا كتب الفقه.

أما مسائل العقيدة التي يجب على الإنسان فيها الجزم فقد اختلف العلماء رحمهم الله؛ هل يجوز فيها التقليد أو لابد من الوقوف على الدليل؟

ولا شك أن الوقوف على الدليل أولى حتى في المسائل العملية؛ لأن الإنسان إذا بنى عقيدته أو عمله على الدليل استراح، وصار يعلم انه يمشي في طريق صحيح، لكن إذا لم يمكن الوقوف على الدليل ففي التقليد خلاف بين أهل العلم رحمهم الله؛ فمنهم من قال: إنه يكفي، ومنهم من قال: انه لا يكفي، ولكن الحقيقة انه لا يمكن أن نقول: إن جميع مسائل العقيدة يجب فيها اليقين؛ لأن من مسائل العقيدة ما اختلف فيه العلماء رحمهم الله، وما كان مختلفا فيه بين أهل العلم فليس يقينيا؛ لأن القين لا يمكن نفيه أبدا.

فمثلا اختلف العلماء رحمهم الله في عذاب القبر؛ هل هو واقع على

ص: 307

البدن أو على الروح؟

واختلف أيضاً العلماء رحمهم الله أيضاً في الذي يوزن؛ هل هي الأعمال أو صحائف الأعمال أو صاحب العمل؟

واختلف العلماء رحمهم الله أيضاً في الجنة التي اسكنها آدم؛ هل هي جنة الخلد أم جنة في الدنيا؟

واختلف العلماء رحمهم الله أيضاً في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه؛ هل رآه بعينه - يعني في الحياة - أم رآه بقلبه؟

واختلف العلماء رحمهم الله في النار؛ هل هي مؤبدة أم مؤمدة؟

وكل هذه المسائل من العقائد، والقول بان العقيدة ليس فيها خلاف على الإطلاق غير صحيح، فإنه يوجد من مسائل العقيدة ما يعمل فيه الإنسان بالظن.

فمثلا في قوله تعالى في الحديث القدسي: ((من تقرب إلى شبرا تقربت منه ذارعا)(1) ، لا يجزم الإنسان بان المراد بالقرب القرب الحسي، فإن الإنسان لا شك انه ينقدح في ذهنه أن المراد بذلك القرب المعنوي.

وقوله تعالى: ((من أتاني يمشي أتيته هرولة) هذا أيضاً لا يجزم الإنسان بان الله يمشي مشيا حقيقيا هرولة، فقد ينقدح في الذهن أن المراد الإسراع في إثابته، وان الله تعالى إلى الإثابة أسرع من الإنسان إلى العمل، ولهذا اختلف علماء أهل السنة في هذه المسالة، بل إن إذا قلت بهذا أو هذا فلست تتيقنه كما تتيقن نزول الله عز وجل، الذي قال فيه الرسول عليه الصلاة والسلام

(1) رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء، باب فضل الذكر

، رقم (2687) .

ص: 308

((ينزل ربنا إلى السماء الدنيا)(1) فهذا ليس عند الإنسان شك في انه نزول حقيقي، وكما في قوله:(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)(طه: 5) فلا يشك إنسان انه استواء حقيقي.

والحاصل أن مسائل العقيدة ليست كلها مما لابد فيه من اليقين؛ لأن اليقين أو الظن حسب تجاذب الأدلة، وتجاذب الأدلة حسب فهم الإنسان وعلمه. فقد يكون الدليلان متجاذبين عند شخص، ولكن عند شخص آخر ليس بينهما تجاذب إطلاقا، لأنه قد اتضح عنده أن هذا له وجه وهذا له وجه، فمثل هذا الأخير ليس عنده إشكال في المسالة بل عنده يقين، وأما الأول فيكون عنده إشكال وإذا رجح أحد الطرفين فإنما يرجحه بغلبة الظن.

ولهذا لا يمكن أن نقول إن جميع مسائل العقيدة مما يتعين فيه الجزم ومما لا خلاف فيه؛ لأن الواقع خلاف ذلك، ففي مسائل العقيدة ما فيه خلاف، وفي مسائل العقيدة ما لا يستطيع الإنسان أن يجزم به، لكن يترجح عنده.

إذا هذه الكلمة التي نسمعها بان مسائل العقيدة لا خلاف فيها، ليس على إطلاقها؛ لأن الواقع يخالف ذلك.

كذلك مسألة العقيدة بحسب اعتقا الإنسان، فليس كل مسائل العقيدة مما يجزم فيه الإنسان جزما لا احتمال فيه، فهناك بعض المسائل - أحاديث أو آيات - قد يشك الإنسان فيها، كقوله تعالى:(يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ)(القلم: الآية 42) هذه من مسائل العقيدة، وقد اختلف فيها السلف؛ هل المراد ساقه عز وجل أو المراد الشدة؟ وعلى هذا فقس.

(1) تقدم تخريجه ص 140.

ص: 309

وقوله: (كل ما يطلب فيه الجزم) يريد بذلك مسائل العقيدة وغير العقيدة، فكل شيء يطلب فيه الجزم (فمنع تقليد بذاك حتم) ، ومما يجب فيه الجزم أن نجزم أن الصلوات الخمس مفروضة، ولهذا لو أنكر إنسان فرضية الصلوات الخمس كفر، فيجب أن نجزم بأنها مفروضة، وان الزكاة مفروضة، وان الصيام مفروض، وان الحج مفروض وجوبا. فهل نقول انه لا يجوز أن يقلد العامي شخصا في ذلك وهو لا يدري؟

ذكر المؤلف هذا قال: (فمنع تقليد بذاك حتم) وعلل:

لأنه لا يكتفى بالظن لذي الحجى في قول أهل الفن

لأن التقليد ظن، ولهذا تقول للمقلد: هل تجزم بهذا؟ فيقول لك: لا. بل يقوله فلان. إذا ليس عنده جزم، فالتقليد يفيد الظن، ولولا حسن ظن المقلد بالمقلد ما قلده.

وعلى هذا فكل شيء يطلب فيه الجزم فلا تقلد فيه، لأن هذا ينافي المطلوب، وهو الجزم، والتقليد يفيد الظن فلا يجوز أن نقلد.

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

وقيل يكفي الجزم إجماعا بما

يطلب فيه عند بعض العلما

وهذا قول ثان في هذه المسالة؛ وهو انه يكفي الجزم بما يطلب فيه الجزم، ولو عن طريق التقليد؛ فالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر هذا

ص: 310

مما يجب فيه الجزم، ولكن العامي لا يدرك ذلك بدليله ومع ذلك نصحح إيمانه، ونقول إنه مؤمن وإن كان لا يدرك ذلك بدليله.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وقيل يكفي الجزم إجماعا) يعني انه إذا وجد الجزم حصل المقصود بالإجماع.

وقوله: (بما يطلب فيه) ، نائب فاعل (يطلب) يعود على الجزم، يعني يكفي الجزم بما يطلب فيه الجم بالإجماع، وقائل هذا بعض العلماء ولهذا قال:(عند بعض العلما)

وهذا القول هو الصحيح، والدليل على ذلك أن الله أحال على سؤال أهل العلم في مسالة من مسائل الدين التي يجب فيها الجزم، فقال:(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)(الأنبياء: 7) ، وواضح إننا نسألهم لنأخذ بقولهم، ومعلوم أن الإيمان بان الرسل رجال هو من العقيدة، ومع ذلك أحالنا الله فيه إلى أهل العلم.

وقال تعالى: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَأُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ)(يونس: الآية 94) وإنما يسألهم ليرجع إليهم، وإذا كان هذا الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ولم يشك، فنحن إذا شككنا في شيء من أمور الدين فنرجع إلى الذين يقرؤون الكتاب، أي إلى أهل العلم لنأخذ بما يقولون. وهذا عام يشمل مسائل العقيدة.

ثم إننا لو ألزمنا العامي بترك التقليد والتزام الأخذ بالاجتهاد

لألزمناه بما لا يطيق، وقد قال الله تعالى:(لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا)(البقرة: الآية 286)

ص: 311

وقال: (أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)(المؤمنون: 61)(وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا)(المؤمنون: الآية 62)

فالصواب المجزوم به هو القول الثاني؛ وهو أن ما يطلب فيه الجزم يكتفى فيه بالجزم، سواء عن طريق الدليل أو عن طريق التقليد.

قال المؤلف رحمه الله: (فالجازمون من عوام البشر) يعني الذين يجزمون بما يعتقدون من العوام الذين ليس عندهم علم لأنهم عوام، قال:(فمسلمون) يعني فهم مسلمون وإن كانوا لم يأخذوا ما يطلب فيه الجزم عن طريق الاجتهاد.

ثم قال: (عند أهل الأثر) وكفى بأهل الأثر قدوة، فأهل الأثر يرون انه يجوز التقليد فيما يطلب فيه الجزم، والمقصود أن يحصل الجزم سواء عن طريق التقليد أو عن طريق الاجتهاد، وإذا كان هذا هو ما يراه أهل الأثر فهو الذي نراه نحن وهو الصحيح.

بقي في كلام المؤلف رحمه الله إشكال في قوله (فمسلمون) فهو خبر لقوله (فالجازمون) ودخلت الفاء في الخبر لأن (الجازمون) فيه ((ال) الموصولة، والموصول يشبه الشرط في العموم، فيجوز أن تدخل الفاء في الخبر إذا كان المبتدأ اسما موصولا.

ومنه قول النحويين في المثال: (الذي يأتيني فله درهم)، ودليل ذلك في القرآن:(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ)(البقرة: الآية 274) فهنا جاءت الفاء في خبر المبتدأ الموصول لأنه يشبه الشرط في العموم.

ص: 312