المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب السادس في ذكر الإمامة ومتعلقاتها - شرح العقيدة السفارينية - جـ ١

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌الباب السادس في ذكر الإمامة ومتعلقاتها

‌الباب السادس في ذكر الإمامة ومتعلقاتها

ــ

الشرح

هذا الباب كنا نستهونه في أيام طلبنا، كما كنا نستهون كتاب الجهاد، فكنا نتساءل: أين الجهاد؟ وما حاجتنا في أن نبحث في الجهاد، ومتى يكون واجباً على العين وعلى الكفاية، وما حكم ما يلزم الجيش وما يلزم الإمام؟! وسبب ذلك أنه لا يوجد جهاد، ثم لما حصل الجهاد في الوقت الأخير عرفنا إننا مفرطون، وأنه كان ينبغي أن نعرف أحكام الجهاد تماماً!!

وفي مسألة الإمامة كنا نقول: ليس لنا حاجة في أن نبحث في الإمامة، فنحن والحمد لله إمامنا ابن سعود، ولكل بلد إمامه، والأمور مستقرة على ذلك، لكن الآن تبين لنا أنه لابد أن نعرف الحكم، فلابد أن نعرف من هو الإمام، ومن يستحق الإمامة، ولابد أن نعرف ما حق الإمام على رعيته، وما حق الرعية على الإمام.

وذلك لأنه كثر القيل والقال، وخاض في ذلك من هم من الجاهلين، فصاروا يتخبطون خبط عشواء فيما يلزم الإمام وفيما يلزم الرعية، وغالبهم يميل إلى تحميل الإمام ما لا يلزمه حمله، وتبرئة الشعب مما يلزمهم القيام به، هذا حال غالبهم، وذلك لأن بعض الناس مشغوف -والعياذ بالله- بنشر المساوئ من ولاة الأمور، وكتم المحاسن، فيكون معه جور في الحكم، وسوء في التصرف.

ص: 661

إذاً لابد الآن أن نعرف من هو الإمام، وبم تثبت الإمامة، وما حق الإمام على الرعية، وما حق الرعية على الإمام، وما طريق السلف في معاملة الأئمة الظلمة والمنحرفين، حتى نمشي على طريقهم، ونكون أمة سلفية، وحتى لا نبرئ أنفسنا نحن من النقص، بل نحن ناقصون؛ إذا قارنت بين أعمالنا وعقائدنا وبين ما كان عليه الصحابة، وجدت أن الفرق بيننا وبينهم كالفرق بين زماننا وزمانهم، وأن الفرق كبير.

وإذا كان الأمر كذلك، فكيف نريد أن يكن لنا ولاة كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي؟! فهذا ظلم، وهذا تأباه حكمة الله عز وجل، ولهذا جاء في الأثر: كما تكونون يولى عليم، فكيف نريد أن يكون خلفاء الأمة الإسلامية الآن كخلفاء الأمة الإسلامية في عهد الخلفاء الراشدين ونحن على هذه الحال؛ كذب وغش وظلم وسوء عقيدة وغير ذلك؟!

ويذكر أن عبد الملك بن مروان شعر بأن الناس قد ملوه أو عندهم شيء من التمرد عليه، فجمع وجهاء القوم وأعيانهم وتكلم فيهم وقال لهم: أتريدون أن نكون لكم كأبي بكر وعمر؟ قالوا: نعم. قال: إن كنتم تريدون ذلك فكونوا لنا كالذين كانوا لأبي بكر وعمر، فأقام عليهم الحجة.

وكذلك أيضاً ينقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رجلاً خارجياً قال له: يا علي، كيف دان الناس لأبي بكر وعمر ولم يدينوا لك؟ قال: لأن أبا بكر وعمر كان رجالهم أنا وأمثالي، وكان رجالي أنت وأمثالك. فأقام عليه الحجة.

فالمهم أنه لا يمكن أن نطمع في أن يكون ولاة أمورنا كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ونحن على الحال التي تشاهد؛ ولا شك في أن البيت الذي فيه ثلاثة نفر يكون فيه أربعة آراء! فأين الوفاق فينا؟ وأين

ص: 662

الصلاح فينا كي يكون في ولاتنا؟!

فالمهم أن هذا الباب - باب مهم، يجب أن يعتنى به.

والإمامة نوعان: إمامة في الدين، وإمامة في التدبير والتنظيم، فمن إمامة الدين الإمامة في الصلاة، فإن الإمام في الصلاة إمامته إمامة دين، ومع ذلك فله نوع من التدبير، حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بمتابعته، ونهى عن سبقه والتخلف عنه، فهذا نوع تدبير؛ لأنه مثلاً إذا كبر كبرنا، وإذا ركع ركعنا، وإذا سجد سجدنا. وهكذا.

وأما إمامة التدبير فتشمل الإمام الأعظم ومن دونه، والإمام الأعظم هو الذي له الكلمة العليا في البلاد؛ كالملوك ورؤساء الجمهوريات وما أشبه ذلك، ومن دونه كالوزراء والأمراء وما أشبه ذلك، والأمة الإسلامية بشر كغيرها من البشر، والبشر كائن من الأحياء، وكل حي فلابد له من رئيس.

بل حتى البهائم، وكذلك الطيور في الجو، لها رئيس تتبعه، ولهذا كان الصيادون إذا مرت بهم جحافل من الطيور أو الظباء أو ما أشبه ذلك ذلك يصيدون أول ما يصيدون قائدهم، فإذا صادوا القائد ارتبك المجموع فسهل صيده؛ لأن كل كائن سواء من البشر أو غيرهم لابد له من قائد يقوده.

ولهذا أمر النبي عليه الصلاة والسلام والمسافرين إذا كانوا ثلاثة، يعني فأكثر، أن يؤمروا واحدا منهم (1) ، يعني أنه لابد من أمير وإلا لاضطربت الأحوال، وصار كل إنسان يقول: أنا أمير نفسي، وحينئذٍ يتزعزع الأمن ويحل الخوف.

(1) رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في القوم يسافرون يؤمرون أحدهم رقم (2608، 2609) والبيهقي في سننه (5/257) .

ص: 663

ولهذا قال المؤلف رحمه الله تعالى:

171-

ولا غنى لأمة الإسلام

في كل عصر كان عن إمام

ــ

الشرح

يعني لا يمكن أن تستغني أمة المسلمين في كل العصور من عهد النبي عليه الصلاة والسلام إلى يومنا هذا عن أمام، أي عن قائد يقودها، وحتى الأمة من الأمم الكافرة لابد لها من إمام، ولذلك تجد الأمم الكافرة ربما ينقادون لأئمتهم أكثر مما ينقاد بعض المسلمين لأئمتهم؛ لأنهم يعلمون أن الأمن والاستقرار إنما يكون في إتباع الأئمة، والانقياد لهم، والانصياع لأوامرهم.

وهذه مسألة يغفل عنها كثير من المسلمين، وقد حدثنا بعض من يذهبون إلى بلاد الكفر أن رعاياهم يتبعون الأنظمة تماما، ويطبقونها تماما؛ سواء أنظمة المرور، أو أنظمة الأمن، أو غير ذلك، مع أنهم كفار لا يرجون بهذا ثوابا من الله عز وجل، لكن يعلمون أن انتظام الأمة وحفظ أمنها لا يكون إلا بإتباع أوامر الرؤساء.

فلذلك كانوا أشد تطبيقاً من بعض المسلمين لطاعة ولاة الأمور، مع إننا نحن بامتثالنا لطاعة ولي الأمر نرجو الثواب من الله عز وجل، وبالمخالفة نخاف العقاب؛ لأن مخالفة أي نظام من أنظمة الدولة بدون سبب شرعي، والسبب الشرعي سبب واحد وحيد وهو أن يأمروا بمعصية الله، وما سوى ذلك تجب علينا طاعته من أجل حفظ الأمن.

وبعض الناس يتوهم انه لا تجب طاعتهم إلا حيث أمروا بما أمر الله به، وهذا وهم باطل؛ لأنهم إذا أمروا بما أمر الله به فأمرهم هذا تأكيد لأمر الله

ص: 664

فقط، ولو أمرنا أي واحد بما أمرنا الله به لكانت الطاعة مفروضة علينا؛ لأنه أمر الله.

لكن طاعة ولاة الأمور في غير معصية شيء وراء ذلك، فيجب علينا أن نطيع ولاة الأمور في كل ما أمروا به، ما لم يأمروا بمعصية.

فإذا لابد للأمة الإسلامية - بل وغير الإسلامية - من إمام يقودها ويوجهها، ويأمرها، وينهاها، وإلا لضاعت وأصبحت الأمور فوضى.

قال الشاعر:

لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا

فلابد من قيادة، ولابد من أن تكون هذه القيادة حكيمة.

قال المؤلف رحمه الله:

ولا غنى لأمة الإسلام

في كل عصر كان عن إمام

عصر بمعنى وقت، والوقت كما نعلم هو ظرف الحوادث والأحداث، ولهذا أقسم الله به في قوله تعالى:(وَالْعَصْرِ)(العصر: 1)(إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)(العصر: 2) ، فكل عصر لابد فيه للأمة الإسلامية من إمام.

ص: 665

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

172-

يذب عنها كل ذي جحود

ويعتني بالغزو والحدود

ــ

الشرح

قوله: (يذب عنها كل ذي جحود) يذب: يعني يطرد عنها. (كل ذي جحود) : أي كل ذي كفر. وهذه من مسؤوليات الإمام وهي:

أولاً: أن الإمام يذب أهل الكفر عن بلاد المسلمين، أي يرد ويطرد ويمنع كل ذي جحود من أن يعتدي على بلاد المسلمين، ومن المعلوم أنه ليس يمنع بنفسه ولكن يمنع بجنوده.

ثانياً: قال: (ويعتني بالغزو) يعني غزو الكفار، والشطر الأول للمدافعة، والشطر الثاني للمهاجمة، فالإمام يعتني بغزو الكفار ومقاتلتهم؛ لأن الواجب على المسلمين أن يقاتلوا الكفار، وذلك فرض كفاية، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

وإذا نظرنا في واقعنا اليوم فإننا سنجد أن مسألة غزو الكفار ممحوة من القاموس، اللهم إلا ما يقع مدافعة، ومع ذلك فإن ما يقع مدافعة لا تكاد تجد فيه من يساعد هؤلاء المدافعين، إلا النادر من إفراد الشعوب، أما الحكومات الإسلامية فإنها مع الأسف - ونقولها بكل مرارة - لا تساعد على الأقل مساعدة ظاهرة في الدفاع عن المسلمين، والأحداث لا تحتاج أن أفصلها؛ لأنها منشورة مشهورة.

إذاً فلابد من مقاتلة الكفار، قال تعالى:(وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ)(الأنفال: 39) ، وهذا فرض كفاية، ومعلوم أن فرض

ص: 666

الكفاية يحتاج إلى شرط وهو القدرة، فبالنسبة للشعوب لا قدرة لهم، وبالنسبة للحكومات فالله حسيبهم؛ منهم من يقتدر، ومنهم من لا يقتدر وفي ظني أن كل واحد منهم يقتدر بالنسبة للمضايقات الدبلوماسية.

ثالثاً: قال رحمه الله: (والحدود) يعني أن من مسؤوليات الإمام أنه يعتني بالحدود، والحدود جمع حد، والحد في اللغة المنع، والمراد بالحدود هنا العقوبات التي قدرها الله ورسوله في فعل معصية، مثل قطع يد السارق، فهذا حد، فمتى ثبتت السرقة وتمت شروط القطع فإنه يجب تنفيذه، إذاً فالحدود يجب تنفيذها وهي رحمة من الله عز وجل لعباده، إذ أن في الحدود فائدتين:

الأولى: أنها كفارة للفاعل الذي أقيم عليه الحد.

والثانية: أنها ردع لغيره.

فإن قال قائل: لكن فيها إتلاف عضو من الأعضاء، وربما يكون هذا العضو عاملاً في غاية الأهمية عند صاحبه، بل وغيره؟

فالجواب على ذلك بأنه لابد أن نقطعها حتى لا يأتي آخر فيسرق، ولهذا قال الله تعالى:(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ)(البقرة: الآية179) مع أن القصاص إضافة إزهاق نفس إلى نفس أخرى؛ فالمقتول واحد وبالقصاص يكون المقتول اثنين، لكن هذا فيه حياة، فكم من إنسان يرتدع عن القتل إذا علم أنه إذا قتل قتل! ولهذا قال تعالى:(وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) .

ومن الحدود حد الزنى، وهو على حسب الجرم، فالبكر حده مائة جلدة وتغريب سنة، يعني يجلد مائة جلدة ويطرد عن البلد لمدة سنة، والثيب الذي

ص: 667

قد منَّ الله عليه بالنكاح حده الرجم، فيرجم بحجارة لا صغيرة ولا كبيرة حتى يموت، وإذا مات فإنه يصلى عليه لأنه مسلم، ويدعى له بالمغفرة والرحمة.

ومن الحدود حد القذف، والقذف هو أن يرمى المحصن بالزنى، والمحصن يعني العفيف، وذلك كأن يقول لشخص عفيف ذكر أو أنثى أنه زان، فهذا إما أن يقيم البينة بشهادة أربعة رجال بذلك؛ وإلا فحد ظهره، قال تعالى:(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً)(النور: الآية4)) .

وقد رتب الله على القذف ثلاثة أمور، حيث قال تعالى:(فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)(النور: الآية4)) ، ثم استثنى الله تعالى فقال:(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(النور: 5)، وهذا الاستثناء يعود على الفاسقين في قوله:(وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) يعني إذا تابوا وأصلحوا زال عنهم الفسق.

لكن هل من تاب قبلت شهادته كما زال عنه الفسق؟ في هذا خلاف بين العلماء، فمنهم من يقول: إنه إذا تاب قبلت شهادته، ومنهم من يقول: لا تقبل؛ لأن الله تعالى قال: (وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً) .

وكذلك فإن هذا الاستثناء لا يعود على العقوبة الأولى في قوله: (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً) ، فإذا تاب فإنه لا يعود عليه بالاتفاق.

فصارت هذه العقوبات الثلاث بالنسبة للاستثناء على النحو التالي:

أولاً: يعود الاستثناء على آخرها بالاتفاق.

ص: 668

ثانياً: لا يعود على أولها بالاتفاق.

ثالثاً: وفي عودة الاستثناء على أوسطها خلاف.

ومن الحدود حد قطاع الطريق، قال تعالى:(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً)(المائدة: الآية33) ، فهؤلاء يقفون على الطرق ومعهم السلاح ومن مر اخذوا ماله أو قتلوه، وما أشبه ذلك، فهؤلاء حدهم كما قال تعالى:(أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْض)(المائدة: الآية33)

وهذه الأنواع الأربعة من الحدود التي ذكرنا، كلها حدود لا إشكال فيها.

واختلف العلماء رحمهم الله في الخمر هل عقوبته حد أو تعزير، والصحيح أنها تعزير، ويدل لذلك ما يكاد يكون إجماعاً من الصحابة رضي الله عنهم واستشارهم فيما يصنع، فقال عبد الرحمن بن عوف: يا أمير المؤمنين، أخف الحدود ثمانون؛ يعني فاجلد شارب الخمر هذا الجلد، فأمر به عمر فارتفع إلى ثمانين جلدة (1) ، وهذا يكاد يكون كالإجماع؛ لأن كونه أخف الحدود يعني أن عقوبة الخمر ليست حداً.

ويدل لذلك أيضاً انه لو كانت عقوبة الخمر حدا، ما كان لعمر أن يغيرها، قال تعالى:(تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا)(البقرة: الآية229) ، ولهذا فإنه لو كثر بين الناس اقتراف الزنا - نسأل الله العافية - فإننا لا يمكن أن نزيد المائة جلدة إلى مائتين مثلاً، وذلك لأن الحدود لا تزاد، وهذا يدل على أن عقوبة

(1) رواه مسلم، كتاب الحدود، باب حد الخمر، رقم (1706) .

ص: 669

شارب الخمر ليست من الحد.

لكن المشهور عند أكثر العلماء أنها حد من الحدود.

أما قتل المرتد فإنه ليس بحد؛ لأن الحد لا يسقط بعد القدرة على الفاعل ولو تاب، وقتل المرتد يسقط بعد القدرة إذا تاب، فالردة إذا تاب منها المرتد ولو بعد القدرة عليه، فإنه لا يقتل، ويحرم قتله. إلا ما قيل في الساحر فإنه يقتل حداً، لحديث:((حد الساحر ضربة - أو قال: ضربة بالسيف)) (1) .

أما القصاص فإنه ليس بحد، ولذلك لو أن أولياء المقتول عفوا فإنه لا يقتص من القاتل، وبناء على ذلك فإنه ليس بحد.

وقد رأيت بعض المتأخرين المعاصرين من يجعل الحدود سبعة أنواع، ويدخل حد الردة والقصاص، وهذا خطأ وغلط؛ لأن الحد عقوبة مقدرة من الشرع لا تسقط بإسقاط أحد، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم لما شفعوا إليه في المرأة المخزومية التي كانت تستعير المتاع وتجحده، وقد أمر النبي عليه الصلاة والسلام بقطع يدها - غضب وخطب الناس، وقال لأسامة وقد شفع إليه:((أتشفع في حد من حدود الله؟!)) (2) .

ولو أن القاتل لما طلب أولياء المقتول أن يقتل وشفع أحد فيه فإنه لا ينكر عليه؛ لأن الحق لهم فلو أن أولياء المقتول قالوا: لابد أن يقتل القاتل، وحكم القاضي بقتله، فجاء رجل طيب وعرف أن هذا القاتل رجل من الخيار، لكن

(1) رواه الترمذي، كتاب الحدود، باب ما جاء في حد الساحر، رقم (1460) .

(2)

رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، رقم (3475) ، ومسلم، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف

، رقم (1688) .

ص: 670

سولت له نفسه قتل أخيه فقتله، فذهب إلى أولياء المقتول وشفع إليه فلا بأس. ولو كان حداً لحرمت الشفاعة فيه.

إذاً فإن من مهمات الإمام إقامة الحدود، وهذا يعني أنه يجب على الإمام أن يقيم الحدود على أي إنسان كائن من كان، حتى لو سرق أبو الإمام فإنه يأمر بقطع يده، ولا ينافي ذلك البر، بل هذا من البر؛ لأن هذا الحد كفارة له يسقط عنه عقوبة الآخرة، وعقوبة الآخرة أشد من عقوبة الدنيا.

ثم إن هذا الحق ليس حقا للإمام، بل هو حق لله عز وجل رب الإمام ورب أبي الإمام، فإذا أمر بقطع يد أبيه لأنه سرق قلنا: جزاك الله خيراً، فهذا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم أقساماً أمام الناس ويقول:((وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)) (1) .

(1) رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الغار، رقم (3475) ، ومسلم، كتاب الحدود، باب قطع السارق الشريف وغيره

، رقم (1688) .

ص: 671

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

173-

وفعل معروف وترك نكر

ونصر مظلوم وقمع كفر

ــ

الشرح

قال رحمه الله: (وفعل معروف) هذا هو الرابع من مسؤوليات الإمام، يعني ويعتني بفعل المعروف؛ بأن يفعل هو المعروف؛ وأن يأمر بالمعروف، أي بكلا الأمرين، لكن الأول له ولغيره، ففعل المعروف كل إنسان مطالب به، لكن الأمر بالمعروف أول من يطالب به الإمام، فيجب عليه أن يأمر بالمعروف؛ إما بنفسه وإما بنوابه وجوبا.

فالأمر بالمعروف من مهمات الإمام ومن مسؤولياته، وإذا أضيع - لا قدر الله - فإن الله سوف يسأله عنه يوم القيامة سؤالا مباشراً.

لكن ما المراد: المعروف؟ هل المعروف ما تعارف الناس عليه أو هو ما عرفه الشرع وأقره؟ وما المراد بالمعروف في قوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوف)(النساء: الآية19) ؟

المراد بالمعروف في الآية ما تعارف الناس عليه، لكن لو قلنا: إن المعروف هو ما تعارف الناس عليه لفسدت الدنيا وفسد الدين، وصار لكل بلد شرع؛ لأن أعراف الناس تختلف؛ فمن الناس من يستبيحون أن يقيموا أسواق الدعارة، فلا يكون ذلك معروفاً لأنه متعارف بينهم، ومن الناس من تباع عندهم جِرار الخمر كما تباع جِرار الماء، فلا نقول: هذا معروف.

إذاً المعروف هو ما عرفه الشرع وقره، وإن شئت فقل: هو ماشرعه الشرع، وهذا أدق؛ لأن شرعه إياه اعتراف به، فكل ما شرعه الله ورسوله

ص: 672

فهو معروف، ثم الأمر به على حسب مرتبته، فالأمر بالواجب واجب؛ والأمر بالمستحب مستحب.

وقوله: (وترك نكر) فترك النكر أيضاً المسؤولية فيه على الإمام وهذا هو الخامس من مسؤوليات الإمام، وليعلم أن ترك المعروف وفعل المنكر إذا كان مستتراً عن الإمام فليس من مسؤوليته، فمسؤوليته المنكر الظاهر، فالمنكرات التي في البيوت إذا لم يطلع عليها فليست من مسؤوليته؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.

ومن المنكرات التي يجب على الإمام أن يمنعها، أن يظهر النصارى أو اليهود أو البوذيون أو غيرهم من أهل الكفر ما يكون شعاراً لهم في بلاد الإسلام، مثل أن يعلق النصراني صليبا في صدره، فهذا ممنوع في بلاد الإسلام، ويجب منعه، ولكن بالتي هي أحسن، وقد سمعت أن بعض الإخوة الناهين عن المنكر رأى فلبينيا قد تقلد قلادة من ذهب وفي أسفلها الصليب، فأمسك بالقلادة وبترها، حتى كادت أن تحز رقبته وتقطعها. وهذا ليس من الخير، بل في هذا إساءة إلى الإسلام، وهو غلط.

والواجب أن مثل هذا ينصح، لو انه قال لهذا الرجل: اخف هذا، بلطف، لحصل المقصود بدون عنف، والله تعالى يحب الرفق في الأمر كله، كما ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام:(إن الله رحمه الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله)) (1)

إذاًَ يجب على الإمام أن يمنع المنكرات، فما كان معلناً فالأمر واضح أنه

(1) رواه البخاري، كتاب الأدب، باب الرفق في الأمر كله، رقم (6024) ، ومسلم، كتاب السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب السلام....، رقم (2165) .

ص: 673

من مسؤوليته، وما كان مستوراً فإن علم به فعليه مسؤولية، وإن لم يعمل فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها.

والمنكر ليس هو ما أنكره الناس، وإنما هو ما أنكره الشرع ومنعه، أما ما أنكره الناس فهذا ينظر فيه؛ فإن كان مشروعاً فالواجب إظهاره، مثل لو أنكر الناس الصلاة في النعال، فهنا أنكروا معروفاً فلا يجابون على ذلك، بل يبين الحق حتى يطمئن الناس إليه.

وكل الناس ينكرون ذلك حينما كانت المساجد مفروشة بالحصباء أو بالرمل، أما الآن فلا يمكن الصلاة في النعال لما في ذلك من تلويثها، وأكثر الناس لا يهتمون عند دخول المسجد، ويمكن للإنسان أن يحصل السنة بأن يصلي في بيته بنعاله

وأما ما أنكره الناس مما ليس مشروعاً، فإنه ينكر لئلا يقع الإنسان في الشهرة، وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لباس الشهرة، حتى لا يذكر المرء في المجالس؛ لأن الإنسان الذي يخالف عادات الناس سوف تلوكه ألسنتهم، إما بالذم، وإما بالمدح، والغالب أنه يكون بالذم، فلو قام طالب علم من طلبة العلم المحترمين وخرج إلى الناس ببنطلون وبرنيطة وكرفتة فإن الناس سيرون هذا شهرة مع أنه في الأصل مباح إذا لم يكن تشبهاً بالكفار، لكنه مخالف للعادة فيشتهر الإنسان به، ويكون ملاكاً تلوكه الألسنة.

وقد نهي الإنسان عن لباس الشهرة - مع أنه قد يكون طيباً - لئلا يشتهر به الإنسان ويذكر في المجالس.

والناس في الواقع لا يلقون بالاً لهذا الأمر، ويغفلون عن مسألة الشهرة،

ص: 674

فتجد الإنسان لا يبالي بأحد؛ اشتهر أم لم يشتهر، وهذا غلط؛ لأنك عرضت نفسك للكلام في المجالس، والإنسان في غنى عن أن يتكلم الناس فيه.

إذاً فالمنكر هو ما أنكره الشرع ولم يقره، أما ما أنكره العرف فينظر فيه؛ إن كان من الأمور المشروعة فلابد أن يروض الناس عليه، وأن يفعل أمامهم حتى يطمئنوا إليه؛ وإذا لم يكن كذلك فإنه يكون من الشهرة التي نهي عنها.

سادساً: نصر المظلوم، فمن مسؤوليات الإمام نصر المظلوم، لذا قال المؤلف:(ونصر مظلوم) ، فيجب على الإمام وعلى غيره أيضاً نصر المظلوم، لكن على الإمام بالدرجة الأولى؛ لأنه هو الذي يستطيع أن ينصر المظلوم، وذلك برفع الظلم عنه إن كان قد وقع، ودفعه عنه إن كان متوقعاً.

فلو علم الإمام مثلاً أن إنسانا يهدد شخصا بأخذ ماله أو غيره، فعليه أن يمنع من ذلك، أو لو كان إنسان قد استولى فعلاً على حق غيره فإنه يرفعه.

فعلى الإمام مسؤولية نصر المظلوم، وغيره عليه أيضاً أن ينصر المظلوم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((انصر أخاك ظالما أو مظلوما)) (1) ، لكن غير الإمام قد لا يتسنى له ذلك، فقد يكون الظالم أكبر ممن يريد أن يرفع الظلم، وحينئذٍ لا يقدر على رفعه، لكن الإمام لا أحد فوقه من البشر، فيجب عليه أن ينصر المظلوم، بدفع المتوقع وبرفع الواقع.

وإذا عرفنا أنه يجب على الإمام أن ينصر المظلوم، فلنعلم أنه لابد لذلك من شروط، منها مثلاً ثبوت وقوع هذا الظلم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لو يعطى

(1) رواه البخاري، كتاب المظالم والغصب، باب اعن أخاك ظالما

، رقم (2443) ، ومسلم.

ص: 675

الناس بدعواهم لادعى رجال دماء قوم وأموالهم)) (1)

سابعاً: قال المؤلف رحمه الله: (وقمع كفر) يعني إذا ظهر، وهذا غير ذب الجحود، لأن ذب الجحود يعني دفعه ومنعه، أما هذا فقمع الكفر بعد وقوعه.

والكفر كما نعلم كفر صريح بالسلاح، وهذا له الجهاد، وكفر باطن وهذا أيضاً يجب أن يقمع، مثل أن يكون هذا الرجل متظاهراً بالإسلام لكن له أفكار رديئة ينشرها في الأمة، فهذا أيضا يجب على ولي الأمر أن يقمعه، ولا يجوز له أن يمكنه من كفره الذي ينشره في الأمة، وإن كان يتظاهر بالإسلام؛ وذلك لأنه إذا لم يقم بهذا انتشر الكفر واستشرى في الأمة من حيث لا يعلم.

وقد يقول قائل إذا كان هذا الرجل له فكر رديء يدعو إليه وأنتم تقولون: إن الإسلام يعطي كل إنسان حريته فأفسحوا المجال لكل من عنده رأي أو فكر يتكلم بما شاء، وإلا فقد كذبتم في دعواكم؟

ويجاب على هذا القائل بأن نقول: نعم، نحن نقول: إن الإسلام قد أعطى كل إنسان حريته، لكن ما هي الحرية الصحيحة؟ إن الحرية الصحيحة هي التحرر من قيود الشيطان، ومن قيود النفس الأمارة بالسوء، ولهذا فإن كل من خالف الشرع فإنه رقيق وليس بحر، والى هذا يشير ابن القيم رحمه الله في بيت أرى أن يكتب بماء الذهب، يقول:

(1) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم، رقم (4552) ، ومسلم، كتاب الاقضة، باب اليمين على المدعي عليه، رقم (1711) .

ص: 676

هربوا من الرق الذي خلقوا له

وبلوا برق النفس والشيطان (1)

يعني أنهم تحرروا من الرق الذي خلقوا له، وهو الرق لله عز وجل، ولكنهم ابتلوا برق النفس والشيطان.

ونحن نقول لمن يطلب حريته في أن يقول ما يشاء: إننا إذا أعطيناك حريتك وقلت ما شئت من الكفر والفسوق والأخلاق الرديئة، فإنك قد بليت برق آخر وهو رق النفس والشيطان.

ولهذا نقول: إن قمع الكفر ولو تظاهر الإنسان بالإسلام من واجبات الإمام، وعلى هذا يجب على الإمام أن يجعل له نظراء ينظرون في كل ما يكتب في الصحب والمجلات، وكل ما ينشر في الاذاعات المسموعة والمرئية، وكل ما يذكر في الكتب والرسائل المؤلفة، فيجعل أمناء علماء بالشريعة ويوليهم الحق في النظر في كل ما ينشر في وسائل الإعلام، ويمنعوا كل شيء يدعو إلى الفسوق والمجون والكفر، وهذا يجب على الإمام.

اعلم أن معنى قولنا: يجب على الإمام كذا ليس حروفاً تكتب على ورق، بل هي مسؤولية عظيمة، يسأل عنها الإمام بين يدي الله عز وجل، لذا فعليه مسؤولية قمع الكفر بأنواعه وأشكاله.

(1) انظر القصيدة النونية 2/466.

ص: 677

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

174-

وأخذ مال الفيء والخراج

ونحوه والصرف في منهاج

ــ

الشرح

ثامناً: قال (وأخذ مال الفيء والخراج) أي ويعتني أيضاً بأخذ مال الفيء والخراج، وهذان مادة بيت المال، وبيت المال هو عبارة عن الخزانة التي تودع فيها أموال المسلمين، ومنها مال الفيء.

والفيء ما أفاء الله على المسلمين من أموال الكفار، وذلك أن المسلمين إذا اغتنموا غنيمة قسمت إلى خمسة أقسام، أربعة أقسام للغانمين، الذين جاهدوا وباشروا القتال، وتقسم بينهم، للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم، وللراكب بعير ونحوها سهمان.

والقسم الخامس يقسم أيضاً خمسة أقسام، ذكرها الله عز وجل بقوله:(وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)(الأنفال: الآية41) .

فهي خمس لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا إلى بيت المال، وأربعة أخماس لذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.

وذو القربى قيل: هم قرابة الإمام، وقيل: بل هم قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، والصحيح الثاني.

وبناء على هذا التقسيم يكون مال الفيء بالنسبة للغنيمة جزءاً من خمسة وعشرين جزءاً، وهذا يجعل لبيت المال في المصالح العامة.

ص: 678

والخراج هو: أن المسلمين إذا غنموا أرضاً - والغنائم إما عقارات وأراض وإما منقولة - وفتحوها بالسيف، وجلا أهلها عنها فإنها تكون للمسلمين، ويخير الإمام بين قسمها على ما سبق، أي تقسم خمسة أسهم، والخمس الخامس يقسم خمسة أسهم؛ وبين أن يقفها على المسلمين، فيجعلها وقفاً، ويضرب عليها خراجاً.

والخراج يعني الرزق، قال تعالى:(أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ)(المؤمنون: 72) والخراج: أن يجعل شيئاً معيناً من الدراهم مقابل مساحة معينة، وهذا الخراج يؤخذ من كل من تكون هذه الأرض بيده، سواء انتقلت بالميراث أو ببيع أو بغير ذلك.

وهذه الطريقة اختارها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الموفق للصواب، عندما قسمت خيبر، كما في الصحيحين أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال يا رسول الله: (إني أصبت أرضاً بخيبر، ولم يكن لي مال أنفس منها

) (1) ، لكن أرض الشام ومصر والعراق التي فتحت في عهد عمر، رأى رضي الله عنه ألا تقسم بين الغانمين، قال: إذا قسمناها بين الغانمين انحصر نفعها بالغانمين، فيكون أربعة أخماس النفع، فرأى أنها تبقى بأيدي أهلها عامة، ويضرب عليها خراجاً مستمراً يؤخذ ممن هي بيده.

ونظير الخراج الأجرة كما لو كان لأحد بيت وأجَّره واحداً من الناس عشر سنوات كل سنة بمائة أي بمبلغ معين، فهذه الأجرة نظيرها الخراج.

ففي الخراج مثلاً؛ من أخذ من هذه الأرض مساحة كذا وكذا فعليه كذا

(1) رواه البخار ي، كتاب الشروط، باب الشروط في الوقف، رقم (2737) ، ومسلم، كتاب الوصية، باب الوقف، رقم (1633) .

ص: 679

وكذا من الدراهم.

وتبقى الأرض بيدهم، وكل سنة تسلم الدراهم التي جعلت عليها إلى بيت المال، والمعنيُّ ببيت المال هو الإمام، ولهذا قال:(وأخذ مال الفيء والخراج) فهذا من مسؤوليات الإمام.

لكننا نعلم أنه الآن لم تعد توجد أرض خراجية يستخرج منها فقد تغيرت البلاد ومن عليها، لكن فيما سبق كانت موجودة، وتدر هذه الأرضي على بيت المال شيئاً كثيراً.

مسألة: هل يمكن في الخراج المضروب أن يزاد فيه أو هو ثابت؟

الجواب: اختلف العلماء رحمهم الله فيما وضعه عمر رضي الله عنه، فمنهم من قال: لا يزاد على ما وضعه عمر لأنه له سنة متبعة، وأما ما وضعه الخلفاء بعده فإنه لا باس أن يزاد أو ينقص عليه، والمرجع إلى رأي الإمام في هذه المسألة، فقد تكون الأراضي مثلاً مرتفعة الأسعار فيزيد في الخراج وقد تكون بالعكس فينقص.

ثم قال رحمه الله: (ونحوه) ، ونحوه بمعنى مثله، وهي كلمة واسعة عامة كثيرة، منها مثلاً: إذا مات ميت وليس له وارث، فإن ماله يذهب لبيت المال، والمعْني بذلك الإمام، وكذلك الأموال المجهول صاحبها، أي الضائعة ولم يعرف لها صاحب، فإنها أيضاً تكون لبيت المال، وهلم جرا، فهناك أموال كثيرة تدر على بيت المال، وبيت المال يُعنَى به الإمام، ويجب عليه أن يصرفه في مصالح المسلمين.

ص: 680

وقوله رحمه الله: (والصرف في منهاج) يعني وأيضاً هو يعتني بالصرف في منهاج، وما أثقل هذا، فالأخذ سهل على الإمام؛ فسهل أن يأخذ الخراج من الأراضي، وسهل أن يأخذ مال من مات وليس له وارث، كل هذا سهل، لكن الشاق هو الصرف في منهاج، أي الصرف في طريق شرعية، فصرف المال في طريق شرعي هذا من مسؤوليات الإمام.

فيجب على الإمام أن يصرف مال المسلمين في الطريق الصحيح النافع للمسلمين، فلا يكون جماعاً مناعاً دفاعاً؛ جماعاً للمال، مناعاً في بذله في الخير، دفاعاً في بذله في الشر، فهذا حرام. ((إن أقواماً يتخوضون في مال الله بغير حق، لهم النار يوم القيامة)) (1) .

فهذه مما يجب على الإمام من المسؤوليات العظيمة، وأكبر مسؤولية عليه فيما أرى من هذه الأشياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن هذا واجب في الحرب والسلم والأمن والخوف والرخاء والشدة، وواجب في كل قرية وفي كل مدينة وفي كل طريق، فلذلك نقول: إن مسؤوليات الإمام عظيمة نسأل الله أن يعين الأئمة على ما فيه الخير.

وهل هذه الإمامة شرط في العبادات بمعنى أنها لا تصح العبادات إلا بإمام؟ والجواب: لا، إلا عند الرافضة، فالرافضة يقولون: لا يمكن أبداً أن نصلي جماعة إطلاقاً حتى يأتي الإمام المنتظر، هذا الإمام الذي يدعون أنه اختفى في سرداب منذ مئات السنين.

(1) رواه البخاري، كتاب فرض الخمس، باب قول الله تعالى:((فإن لله خمسه وللرسول)) ، رقم (3318) .

ص: 681

وكل صباح يهيئون فرساً عليه راكب، معه رمح وخبز وعسل وماء، فيجلس عند هذا السرداب ينتظر خروج الإمام، فإذا خرج أفطر بالخبز والماء والعسل، ثم أخذ الرمح وركب الفرس، وسار في الأرض يملؤها عدلاً بعد أن ملئت جوراً، ويسمى هذا الإمام المنتظر.

فيقولون: لا يمكن أبداً أن نصلي جماعة ولا جمعة إلا إذا جاء هذا الإمام المنتظر، لكن في ظني أنه بعد أن جاء زعيمهم الذي أسس ولاية الفقيه غيَّر هذا الرأي، وقال: لا يمكن، أين الإمام المنتظر؟ لماذا لا نصلي جمعة ولا جماعة حتى يأتي! ، وصار يأمرهم أن يصلوا مع الجماعات والجمعات، وهذا طيب وتحول إلى حق والله المستعان.

ص: 682

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

175-

ونصبه بالنص والإجماع

وقهره فحل عن الخداع

ــ

الشرح

بعد أن ذكر المؤلف رحمه الله الفوائد والمصالح من تنصيب الإمام ومسؤولياته، وأنه لا غنى للأمة عنه، ذكر في هذا البيت الأمور التي ينصب بها، وهي:

الأمر الأول: النص:

فإذا نص عليه الخليفة من قِبله فإنه يكون خليفة، ولا تجوز منازعته، ولا يحتاج إلى بيعة؛ لأن بيعته يغني عنها بيعة الأول، إذ أن بيعة الأول معناها التزام الناس بتصرف الأول، وإذا تصرف الأول هذا التصرف وقال: إن الإمام من بعدي أو الخليفة من بعدي فلان، فإنه يكون هو الخليفة دون أن يكون هناك مبايعة.

الأمر الثاني: الإجماع:

وهو إجماع أهل الحل والعقد على بيعته، كما أجمع أصحاب الشورى الستة الذين وضعهم عمر علي مبايعة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإذا أجمع أهل الحل والعقد على شخص ونصبوه إماماً، صار إماماً، لكن بشرط ألا يكون الخليفة الأول قد نص على شخص معين، فإن كان قد نص على شخص معين فلا كلام، لكن لو مات ولم ينص على أحد فإنه يجتمع أهل الحل والعقد، فإذا أجمعوا على أن فلانا هو الخليفة صار خليفة.

ولا يشترط أن يبايع كل فرد من الأمة، ولأن هذا شيء غير ممكن، ولهذا لم يبايع أبا بكر رضي الله عنه إلا أهل الحل والعقد، ولم يرسل إلى كل

ص: 683

مراهق، ولا إلى كل عجوز، ولا إلى كل شاب، ولا إلى كل رجل أن يبايعه، ولم يرسل إلى مكة ولا إلى الطائف ولا إلى غيرها من البلاد، بل ولا إلى أهل المدينة، بل اكتفى بمبايعة أهل الحل والعقد.

وبهذا نعرف أن من قال من السفهاء الأغرار: أنا لم أبايع، أنه أخطأ، فإنه لا يشترط أن يبايع كل واحد من الأمة، فالمبايعة ليست لكل واحد من الناس، بل المبايعة لأهل الحل والعقد، فإذا اجمعوا عليه وبايعوه صار إماما، ووجب على الجميع التزام أحكام الإمام في هذا الرجل الذي أجمع عليه أهل الحل والعقد، وذلك مثل عثمان رضي الله عنه، فقد بويع بإجماع أهل الشورى الذين نصبهم عمر رضي الله عنه.

الأمر الثالث: القهر:

يعني لو خرج رجل واستولى على الحكم وجب على الناس أن يدينوا له، حتى وإن كان قهراً بلا رضا منهم؛ لأنه استولى على السلطة، ووجه ذلك أنه لو نوزع هذا الذي وصل إلى سدة الحكم لحصل بذلك شر كثير. وهذا كما جرى في دولة بني أمية فإن منهم من استولى بالقهر والغلبة، وصار خليفة ينادى باسم الخليفة، ويدان له بالطاعة امتثالاً لأمر الله عز وجل.

فهذه هي الطرق التي يكون بها الإمام إماماً وهي ثلاثة: النص والإجماع والقهر. وإذا قلنا: إن الخلافة تثبت بواحد، هذه الطرق الثلاث فيعني ذلك أنه لا يجوز الخروج على من كان إماماً بواحد منها أبدا.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (فحل عن الخداع) يعني لا تخادع ولا تخن إذا ثبتت الإمامة بواحدة من هذه الطرق، فالإمامة ثابتة بها.

ص: 684

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

176-

وشرطه الإسلام والحرية

عدالة سمع مع الدرية

177-

وأن يكون من قريش عالماً

مكلفاً ذا خبرة وحاكما

ــ

الشرح

قال رحمه الله: (وشرطه) أي شرط الإمام الذي يكون خليفة على المسلمين، وعدد رحمه الله شروطاً، وهي:

الشرط الأول: (الإسلام) وهذا لابد منه، فلا يمكن أن يتولى على المسلمين غير مسم أبداً، بل لابد أن يكون مسلماً.

فلو استولى عليهم كافر بالقهر، وعندهم فيه من الله برهان أنه كافر؛ بأن يعلن أن يهودي أو نصراني مثلاً، فإن ولايته عليهم لا تنفذ ولا تصح، وعليهم أن ينابذوه، ولكن لابد من شرط مهم وهو القدرة على إزالته، فإن كان لا تمكن إزالته إلا بإراقة الدماء وحلول الفوضى، فليصبروا حتى يفتح الله لهم باباً؛ لأن منابذة الحاكم بدون القدرة على إزالته لا يستفيد منها الناس إلا الشر والفساد والتنازع، وكون كل طائفة تريد أن تكون السلطة حسب أهوائها.

الشرط الثاني: (الحرية) فيشترط أن يكون حراً، أما الرقيق فلا ولاية له؛ لأن الرقيق قاصر، والرقيق مملوك، فكيف يكون مالكاً؟ فلو فرض أن العبد الرقيق كان مالكاً خليفة فكيف يتصور موقفه مع سيده؟! لا شيء لأن سيده مالك له، وإذا كان هو مملوكاً بمنزلة البعير يباع ويشترى ويؤجر. فكيف يكون هذا إماماً للمسلمين!؟ ، فلابد من الحرية. بل لابد من كمال الحرية ولا

ص: 685

يصح أن يكون المبعض إماماً، لأن هذا الجزء الرقيق منه يمنعه من كمال التصرف.

الشرط الثالث: (العدالة) والعدالة هي العدل، أي أن يكون عدلاً، والعدالة في اللغة هي: الاستقامة، وفي الشرع هي: الاستقامة في الدين والمروءة، يعني أن يكون مؤدياً للفرائض، مجتنباً للكبائر، ذا مروءة من الكرم والشجاعة والحزم واليقظة وما أشبه ذلك.

فإذا لم يكن مستقيماً في دينه فإنه لا يجوز أن يولى، وهذا الشرط شرط للابتداء، أي العدالة شرط للابتداء، بمعنى أننا لا نوليه وهو غير عدل إذا كان الأمر باختيارنا، أما من ملك وصار خليفة فإن العدالة ليست شرطاً فيه، ولهذا أذعن المسلمون للخلفاء ذوي الفسوق والفجور، مع فسقهم وفجورهم وخلاعة بعضهم، وانحراف بعضهم في الدين، إلا أنه انحراف لا يصل إلى الكفر.

إذاً فالعدالة هنا شرط للابتداء، يعني عندما نريد أن ننصب إماماً فلابد أن يكون عدلاً، أي مستقيماً في دينه ومستقيماً في مروءته.

الشرط الرابع: (سمع) ، يعني يشترط أن يكون سميعاً، فإن كان أصم لا يسمع أبداً فإنه لا يصح أن يكون إماما، وهذا أيضاً شرط في الابتداء، فلو أنه صار إماماً ثم حدث له حادث فأصمه، فإن ولايته باقية، لكن حينما نريد أن ننصبه لابد أن يكون سميعاً، وذلك لأن الأصم لا يمكن أن يتم به الحكم، وإن تم في بعض الأمور لكن لا يكون تاماً كما ينبغي، حتى وإن كان له وزراء ومساعدون يساعدونه فإنه لا يكفي، فلابد أن يكون سميعا.

على أن الشرط هو مطلق السمع وإن لم يكن قوياً، فالمهم أن يسمع ولو كان سماعه بعد التصويت البالغ، وذلك لأن غير السميع لا يتم به التصرف

ص: 686

في الإمامة.

الشرط الخامس: قال: (مع الدرية) يعني أن يكون ذا دراية، يعني ذا فطنة، ومعرفة بالسياسة، ومعرفة بالأحوال، حتى يدير الحكم على ما تقتضيه الشريعة، وتقتضيه المصالح، والمصالح لا تنكرها الشريعة، وضد ذي الدرية المغفل الغبي، فلا ينصب إماماً وهو مغفل غبي، يأتيه الصبي فيلعب بعقله.

فلابد لمن يتولى على المسلمين أن يكون عنده دراية، أي علم بأحوال الناس، وبمخادعة الناس، وغير هذا مما تتطلبه الإمامة.

الشرط السادس: قال: (وأن يكون من قريش) أي أن يكون الخليفة من قريش، وهذا أيضاً شرط في الابتداء، ومع ذلك فقد اختلف العلماء رحمهم الله في اشتراطه؛ فمنهم، قال: لابد أن يكون من قريش، فإن كان من غير قريش ولو كان عربياً فإنه لا يجوز أن يكون إماماً، وهذا رأي الجمهور.

ومعنى لا يجوز أن يكون إماماً أي لا يجوز أن ننصبه إماماً، ووجه ذلك انه قد ورد في بعض الأحاديث، ما يدل على أنه لابد أن يكون من قريش، ولأن قريشاً أفضل العرب وفيهم أفضل الرسالة، فكانوا أحق بالإمامة، كما جعلهم الله تعالى أحق بالرسالة.

الشرط السابع: قال: (عالما) يعني ذا علم، والمراد بالعلم هنا العلم بأحوال الخلافة وما تتطلبه الخلافة، فلا يشترط أن يكون عالماً بالشرع، وإن كان علمه بالشرع أكمل، لكنه ليس بشرط، أما العلم بما تتطلبه الإمامة فلابد منه، إذ كيف يتصرف من لا يعلم المناسب من غير المناسب، وهل هذا لابد منه أو مما استغنى عنه، وما أشبه ذلك.

ص: 687

الشرط الثامن: (مكلفاً) يعني بالغاً عاقلاً، فلا يجوز أن نجعل صبياً له عشر سنوات خليفة على المسلمين؛ لأن من دون البلوغ مولى عليه، فكيف يكون والياً على المسلمين؟ حتى لو فرض أنه مراهق، وأنه ذكي فإنه لا يصح أن يتولى إمامة المسلمين لنقصه.

وإن كان مجنوناً فمن باب أولى ألا يجوز به، فلا يعقل أن نجعل الرجل المجنون خليفة على المسلمين، فيوماً يجلب عليهم بلية، ويوما يأمرهم بطامة، فلابد أن يكون بالغاً عاقلاً.

الشرط التاسع: (ذا خبرة) ، والخبرة هي العلم ببواطن الأمور، وهي أخص من قوله فيما سبق:(عالما) ، وهي أن يكون ذا خبرة في أساليب الحكم، ومنها أن يكون ذا خبرة فيما يتعلق بالجهاد، من السلاح وغير ذلك.

وهذه الشروط كما سبق أن قلنا شروط في الابتداء، إلا الإسلام فإنه شرط في الابتداء والدوام.

الشرط العاشر: (وحاكما) وهذا الشرط يعني أن له قوة شخصية حتى يحكم تماماً؛ لأن من الناس من يكون له علم وخبرة وعدالة ومن قريش وغير ذلك من الشروط، لكنه ليس بحاكم، يلعب به في الحكم، فيكون حاكماً بلا حكم، ولا فائدة منه حينئذٍ، فلابد أن يكون حاكماً؛ أي ذا شخصية يستطيع بها تنفيذ حكمه.

فهذه شروط عشرة للإمامة؛ واحد منها شرط للابتداء والاستمرار، وهو الإسلام، ويلحق به أيضاً العقل إذ لابد منه، فلو جن فإنه يجب عزله، وإقامة غيره، لكن إذا فسق بعد العدالة، أو ضعف لكنه يستطيع تدبير الحكم، فإنه لا تزول ولايته.

ص: 688

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى::

178-

فكن مطيعاً أمره فيما أمر

ما لم يكن بمنكر فيحتذر

ــ

الشرح

قوله: (كن) يعني أيها الإنسان، (مطيعاً أمره) أي أمر الإمام، (فيما أمر) يعني في كل ما أمر به؛ لأن (ما) اسم موصول، واسم الموصول يفيد العموم، أي في جميع ما يأمر به، (ما لم يكن بمنكر) فإن أمر بمنكر فلا طاعة له.

والنصوص في هذا من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم معلومة مستفيضة مشهورة.

من ذلك قوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)(النساء: الآية59)، ومن السنة قول الرسول صلى الله عليه وسلم:((على المرء المسلم السمع والطاعة فيما أمر)) (1)، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:((اسمع وأطع وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك)) (2) وغير ذلك كثير.

وتعليل ذلك انه لو عصي الإمام لصار الناس فوضى؛ إذ لا فائدة في أمام لا يؤتم به. فلابد من طاعة ولي الأمر.

لكنه يقول: (ما لم يكن بمنكر) والمنكر نوعان: إما فعل محرم وإما ترك واجب، فلو أمر بترك الواجب، وقال: لا تصلوا مع الجماعة مثلاً. فإنه يقال: لا سمع ولا طاعة، ونصلي مع الجماعة.

(1) رواه البخاري، كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام

، رقم (7144) ، ومسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء

، رقم (1839) .

(2)

رواه مسلم، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين

، رقم (1847) .

ص: 689

ولو أمر بمنكر بأن قال مثلاً: يا فلان في البلد نصارى كثيرون، والنصارى لا يحرمون شرب الخمر، فافتح لهم معملاً للخمر حتى يشربوا، كما أنك تشرب المرطبات، وما أشبهها، فلا يطاع في ذلك حتى ولو أمر به؛ لأن هذا معصية لله عز وجل، وقد قال الله تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)(النساء: الآية59) فلم يعد الفعل مع أولي الأمر، ولم يقل: وأطيعوا أولي الأمر، فدل ذلك على أن طاعة ولاة الأمور تابعة لطاعة الله ورسوله، فإذا أمروا بالمعصية فلا سمع ولا طاعة.

أما إن اكرهوا على المعصية، مثل أن يقولوا: احلق لحيتك وإلا حبسناك، فإنه تباح المعصية للإكراه؛ لأن الله أباح الكفر للإكراه، لكن بشرط أن يكون القلب مطمئناً بالإيمان، فهنا أيضاً المعصية إذا أُمرت بها وأكرهت عليها فافعل، بشرط أن يكون قلبك مطمئناً بأن هذا معصية لله، ولولا الإكراه ما فعلت.

وهذا من رحمة ارحم الراحمين سبحانه وتعالى، إن الإنسان عند الإكراه يفعل ما اكره عليه.

لكن إذا اكره الإنسان على الفعل فهل يفعله دفعاً للإكراه أو يفعله للإكراه؟ قال بعض العلماء: لابد أن ينوي أنه يفعله دفعاً للإكراه لا للإكراه ولكن الصحيح أنه ليس بشرط أن يفعله دفعاً للإكراه، بل الشرط أن يكون قلبه مطمئناً بالأيمان وبحكم الله عز وجل؛ لأن كونه يريد بذلك دفع الإكراه لا يتسنى لكل أحد، فلا يتسنى إلا لطالب علم يعرف، ثم إن طالب العلم قد يكون المقام لهوله وشدته منسياً له عن هذه الإرادة، فالصواب أنه يفعله

ص: 690

للإكراه لا اختياراً له، لا لدفع الإكراه.

والفرق أن فعله لدفع الإكراه يعني لا يريد به إلا أن يدفع إكراه هذا الرجل ولا يريد الفعل، أما فعله للإكراه فيعني أنه يريد الفعل، لكن لأنه مكره لا اختياراً للفعل، فالأول لم ينو الفعل أصلا ًإنما هو مدافع فقط أي يدافع الإكراه، والثاني نوى الفعل لكن من أجل الإكراه وقلبه مطمئن.

وهناك مرتبة ثالثة وهي أن يفعل الفعل مع الاطمئنان إليه فهذا له حكم الفاعل بدون إكراه.

وقد يقول قائل: إن هذه مسألة فرضية ولا يمكن أن توجد. لكن نقول: أنها قد توجد، فقد يكون الرجل يكره المعصية التي أمر بها، لكن يجعل الإكراه سبباً مبيحاً، فهو يريد المعصية لكنه قبل الإكراه لا يفعلها، فيجعل الإكراه سبباً لاستباحتها.

مثال ذلك: لو فرضنا أن رجلاً يحب الزنا والعياذ بالله ويريده، لكن ما دام لم يحرض فهو مجتنب له، فإذا جاء أحد يكرهه سواء من المرأة نفسها أو من غيرها، فعله حباً له وتعلل بأنه مكره، وهذا أمر يقع.

ولذلك قال الفقهاء رحمهم الله: إن الرجل إذا اكره على الزنا فزنى فإنه تجب إقامة الحد عليه، ولو أكرهت المرأة لم تجب إقامة الحد عليها، وعللوا ذلك فقالوا: لأن الرجل لا يمكن أن يجامع إلا إذا انتشر ذكره، ولا انتشار إلا بإرادة، فكأن هذا الرجل يريد الزنا لكنه يخشى من اللوم.

ص: 691

فصل

في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعامة هذه الأمة، ورمز شرفها وفضلها، لقول الله تبارك وتعالى:(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ)(آل عمران: الآية110)، وقال تعالى في بني إسرائيل:(كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ)(المائدة: الآية79)

حتى إن بعض العلماء ذكره من أركان الإسلام هو والجهاد، وذلك لأنه أمر عظيم لا تقوم الأمة إلا به، ولا يحصل الائتلاف إلا به، قال الله تعالى:(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(آل عمران: 104)(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)(آل عمران: 105) فدل ذلك على أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موجب للاختلاف، وهذا ظاهر لأننا إذا جعلنا كل واحد يعمل كما شاء تفرقت الأمة.

فإذا التزمت الأمة جميعاً على العمل بدين الله ائتلفت واتفقت، وهذا هو السر في قوله تعالى:(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ)(آل عمران: الآية105) بعد قوله: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) .

ولابد هنا أن نعرف ما هو المعروف وما هو المنكر:

ص: 693

أما المعروف: فهو ما عَرفه الشارع وأقره وأمر به؛ فكل ما أمر الله به فهو معروف.

والمنكر: هو ما نهى الله عنه، فكل ما نهى الله عنه فإنه منكر، يعني وهو منكر؛ لأن الشرع أنكره والنفوس السليمة والعقول المستقيمة كذلك تنكره.

قال بعض العلماء: إن الله ما أمر بشيء فقال العقل: ليته لم يأمر به وما نهى عن شيء فقال العقل: ليته لم ينه عنه، وهذا يعني أن المأمورات موافقة ومطابقة للعقول الصريحة، وكذلك المنهيات، لكن العقل لا يمكن أن يحيط بتفاصيل المصالح والمفاسد حتى يستقل بالأمر والنهي، ولذلك لابد من الشرع، والإنسان إذا لم يقس الأمور بالشريعة ضل.

أما حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو فرض كفاية، إن قام به من يكفي سقط عن الباقين، وإن لم يقم به من يكفي تعين على الجميع، لقول الله تعالى:(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) و (من) هنا قيل: إنها للتبعيض، يعني وليكن بعضكم، وقيل: إنها لبيان الجنس، فتكون للعموم، يعني كونوا أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وتؤمن بالله.

وإذا تتبعت موارد الشريعة عرفت أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض كفاية، لكن من رأى المنكر فلينه عنه، ومن رأى الإخلال بالمعروف فليأمر به، ومن رأى من ينهى عن منكر فلا يجب أن ينهى هو أيضاً عنه؛ لأنه حصل بهذا الناهي الكفاية، إلا إذا رأينا الذي أنكر عليه لم يمتثل، فحينئذٍ يتعين أن يساعد هذا الناهي.

ص: 694

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

179-

واعلم بان الأمر والنهي معا

فرضا كفاية على من قد وعى

180-

وإن يكن ذا واحد تعينا

عليه لكن شرطه أن يأمنا

ــ

الشرح

من المعلوم أنه إذا صُدرت الجملة باعلم فهو دليل على الاهتمام بها والعناية بها، ومن ذلك قوله تعالى:(فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ)(محمد: الآية19)، وقوله تعالى:(اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(المائدة: 98) وقوله تعالى: (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ)(الحديد: الآية20)

فالمؤلف رحمه الله هنا صدر حكم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله (واعلم) يعني أيها المخاطب (بأن الأمر والنهي معاً) أي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، (معاً) أي جميعا، (فرضا كفاية) ؛ (فرضا) : خبر أنَّ مرفوع بالألف نيابة عن الضمة لأنه مثنى، وقد قيل إن مثل هذا التعبير غير صحيح، وذلك لأن فرض مصدر والمصدر لا يجمع ولا يثنى حتى وإن وقع خبراً أو وقع وصفاً، قال ابن مالك رحمه الله:

ونعتوا بمصدر كثيرا

فالتزموا الإفراد والتذكيرا

لكن يسهل تثنيته أو جمعه أنه بمعنى اسم المفعول، واسم المفعول يجمع ويثنى ويفرد، فمعنى فرضا كفاية: أي مفروضاً كفاية، وعلى هذا سهل أن يثنى وهو مصدر.

وقوله: (فرضا كفاية) معناه أن المقصود حصول الفعل بقطع النظر عن

ص: 695

الفاعل، فإذا وجد الفعل فلا يهمنا أن يكون الفاعل واحداً أو اثنين أو ثلاثة أو أكثر، المهم أن هذا الفعل يوجد، ومعلوم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقصد إيجاده فقط بقطع النظر عن القائم به، وحده أهل العلم بقولهم فرض الكفاية هو الذي إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين.

واختلف العلماء رحمهم الله أيهما أفضل فرض الكفاية أو فرض العين؟ فقال بعضهم: فرض الكفاية أفضل؛ لأن الإنسان يقوم به عن نفسه وعن غيره، وأما فرض العين فلا يقوم به إلا عن نفسه فقط.

ولكن الصحيح أن في ذلك تفصيلاً؛ فأما من حيث التأكد ومحبة الله للفعل ففرض العين أفضل، ولذلك أوجبه الله على كل واحد. وأما من حيث إن القائم بفرض الكفاية قام عن الباقين فهو أفضل؛ لأنه اسقط به الفرض عن نفسه وعن غيره.

وقوله: (على من قد وعى) أي على من كان واعياً، أي عاقلاً، ولم يذكر المؤلف رحمه الله إلا شرط العقل، ويمكن أن يقال: بل المراد بالوعي ما هو أعم من العقل، فالمراد العاقل العالم، وذلك لأن شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر مما ذكره المؤلف رحمه الله؛ فمن الشروط ما يلي:

الشرط الأول: أن يكون الإنسان عالماً بأن هذا منكر، يعني أنه قد أنكره الشرع، فلا يجوز أن يحكم بالذوق أو بالعاطفة أو ما أشبه ذلك؛ لأن المرجع في هذا إلى الشرع، والدليل على ذلك قوله تعالى:(وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(الإسراء: الآية36)

ونضرب مثلاً لذلك بأنه أول ما ظهرت مكبرات الصوت في المساجد،

ص: 696

أنكرها بعض الناس، وقال: إن هذا حرام فهذا بوق اليهود تماماً، ونحن إذا صلينا واستخدمناه فإننا نتشبه باليهود في عبادتنا ولكن الصواب أن هذا ليس من أبواق اليهود، وليس هذا إلا نقل الصوت على وجه أوسع فقط، وكما أن الإنسان يضع نظارة على عينه فتكبر الحروف، فإنه هنا يضع إمامه لاقطة تكبر الصوت، ولا فرق.

إذاً فلابد أن يعلم من ينهى أن هذا الذي ينهى عنه محرم، حتى إننا رأينا أيضاً من يقول: إنه يحرم على الإنسان تحريماً باتا قاطعاً أن يستمع إلى القرآن من الشريط المسجل؛ لأن الشريط المسجل ليس له أجر، وأنت لابد أن تستمع إلى إنسان يؤجر فتؤجر معه، وهذه تعاليل عليلة، ثم يذهب هؤلاء ينكرون حتى على أهلهم إذا دخلوا بيوتهم ورأوهم يستمعون إلى القرآن وهذا غير صحيح.

إذاً لابد أن نعلم أن هذا الذي ننكره أنكره الشرع، ثم إننا إذا رأينا من يفعل منكراً في رأينا، لكنه ليس منكراً عند غيرنا، ونحن نعلم أن هذا الرجل الذي تلبس بما نراه محرماً يرى أنه حلال، فإنه لا يلزمنا أن ننكر عليه ما دامت المسألة فيها مجال للاجتهاد.

مثال ذلك: إذا رأينا رجلا يرمي الجمرات في الليل، ونحن نرى أنه لا يرمى بالليل في أيام التشريق، وكنا نعرف أن هذا الرجل يرى أنه يجوز الرمي ليلاً، فلا يجب علينا أن ننكر عليه؛ لأن المسألة فيها مجال للاجتهاد فلا ننكر عليه.

وكذلك إذا رأينا رجلا يشرب الدخان، وهو يرى بدليل شرعي أنه حلال، فلا يجب أن ننكر عليه ما دمنا نعلم أنه يقول: إنه حلال؛ لأن هذا

ص: 697

فيه مجال للاجتهاد.

وكذلك إذا رأينا امرأة كاشفة وجهها، وهي ترى أنه يجوز كشف الوجه للرجال الأجانب فلا ينكر عليها لأنها تعتقد أن هذا هو الدين، لكن لنا أن نمنعها إذا كانت في بلد محافظ وأهله يرون أنه لابد من تغطية الوجه، ولا يكون ذلك من جهة أنه حرام عليها في الشرع لأنها تعتقد أنه حلال، لكن من جهة أن هذا يفسد علينا النساء.

ولهذا قال العلماء رحمهم الله: يجوز أن نقر أهل الذمة على شرب الخمر ما لم يعلنوه في أسواقنا، فإن أعلنوه منعناهم للإعلان لا لأنه حرام؛ لأنهم معتقدون أنه حلال، وهذه المسألة يجب التفطن لها. صحيح أننا لا ننكر على غيرنا اجتهاده ما دامت المسألة فيها مساغ للاجتهاد، لكننا نمنع ما يكون ضرراً علينا.

إذاً لابد أن نعلم أن هذا الذي ننكره منكر، ولابد أيضاً أن يكون الذي ننكر عليه يرى أنه منكر، فإن كان لا يرى أنه منكر، وهو مما يسوغ فيه الاجتهاد فإنه لا يلزمنا أن ننهى عنه؛ لأن الدين يسر، والصحابة رضي الله عنهم وهم أجل منا قدراً وأحب للائتلاف والاجتماع منا، لا ينكر بعضهم على بعض في مسائل الاجتهاد، وإن كان الحاكم منهم الذي يتولى الحكم قد ينكر على غيره الاجتهاد خوفاً من أن يشيع في المجتمع، كما أنكر أحدهم على عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في مسألة المتعة؛ لأن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما يرى جواز المتعة للضرورة، ولكن القول الذي عليه أهل العلم - عامتهم أو أكثرهم - أنه لا يجوز للضرورة؛ لأنه يمكن للإنسان أن يعقد النكاح عقداً شرعياً.

ص: 698

الشرط الثاني: أن نعلم أن هذا الفاعل فاعل للمنكر وهو منكر في حقه؛ لأنه قد يكون منكراً عندنا وعنده، ولكنه في حال يباح له أن يمارس هذا المحرم، والدليل على ذلك قوله تعالى:(وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ)(الإسراء: الآية36)

مثال ذلك: ((إنسان يأكل لحم ميتة)) عند الجميع، لكن هذا الرجل مضطر إن لم يأكل مات، فلا ننكر عليه إذا أكل، إذاً لابد أن نعلم أن هذا الفاعل للمنكر قد فعله وهو منكر في حقه.

وكذلك نقول في الأمر بالمعروف: إنه لابد أن نعلم أن هذا التارك للمعروف تركه وهو معروف في حقه، ولهذا لما دخل الرجل والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب وجلس، فلم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بداية، بل سأله صلى الله عليه وسلم أولاً قال:((أصليت؟)) قال: لا (1)

إذاً لا نأمر بالمعروف حتى نعرف أن هذا الذي تركه في حال يؤمر فيها؛ لأنه قد تقول لرجل دخل المسجد: قم صل، فيقول صليت، ففي هذا تسرع والأولى أن تسأله أولاً.

ومثل ذلك يقال في الواجب؛ فلو أن رجلاً أكل لحم إبل، وقام يريد أن يصلي، وترك الوضوء مع أن وضوءه من لحم الإبل معروف، فإذا كنت أعلم أن يرى أنه لا يجب الوضوء منه فلا آمره؛ لأنه يقول: أنا لا أرى الوجوب.

إذاً لابد أن نعلم أن هذا التارك للمعروف يرى أنه معروف، أما إذا كان

(1) رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب إذا رأى الإمام رجلا جاء وهو يخطب أمره

، رقم (930) ، ومسلم، كتاب الجمعة، باب التحية والإمام يخطب، رقم (875) .

ص: 699

لا يرى أنه معروف، ويقول: الأمر ليس للوجوب فلا آمره. لكن لي أن آمره على سبيل الاستحباب، فأقول: يا أخي أنت ترى أنه ليس واجباً، لكن الاحوط والأولى بك أن تتوضأ.

الشرط الثالث: ألا يتغير المنكر إلى ما هو أنكر منه، وفي هذا القمام تكون أربعة أحوال إذا نهينا عن المنكر: إما أن يزول بالكلية إذا نهينا عنه، أو يقل، أو يتغير إلى منكر مساوٍ له أي مثله، أو يتغير إلى أشد.

فإذا كان يزول بالكلية أو يقل فالنهي عن هذا المنكر واجب؛ لأن إزالة المنكر والتقليل منه واجب، فيجب أن ننهى. أما إذا كان يتغير إلى مثله؛ مثل لو نهينا شخصاً عن السرقة من آخر فذهب يسرق من ثالث، فهنا تغير المنكر لكن إلى مثله مساوٍ له، فهنا لا ننهاه ما دمنا نعلم أنه لابد أن يفعل.

ولو أن هناك سلطاناً جائراً يريد أن يضرب ضريبة على التجار، فضرب على رجل فنهيناه عن الضريبة لأنها حرام، فقال: حرام أن نأخذ من هذا إذاً نأخذ من آخر، فهذا لا ننهاه؛ لأنه لا فائدة من النهي.

ولو قال قائل: إلا يمكن أن يكون تغيره من حال إلى حال سببا لإقلاعه عنه؟ قلنا: إن صح ذلك وجب النهي، أما إذا لم يصح فيقال: ليس بواجب.

لكن هل يخير الإنسان بين أن ينهى أو يترك؟ وأيهما أرجح النهي أو الإمساك؟ ، الظاهر أنه ينظر إلى المصلحة.

أما إذا كان المنكر يتغير بالنهي إلى أنكر منه، فإنه لا ينهى عنه، وذلك مثل أن نرى رجلاً أحمق ينظر إلى النساء، ونعلم إننا لو نهيناه عن النظر إلى النساء لذهب يغمزهن، فهذا الثاني أنكر من الأول، ولهذا فإننا لا ننهاه

ص: 700

عن النظر.

ويدل لهذا قوله تبارك وتعالى: (وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ)(الأنعام: الآية108) وجه الدلالة في الآية أن سب آلهة المشركين خير وواجب، فإذا كان يتضمن شراً أكبر منه ترك سبهم، ولما كان سب آلهة المشركين يؤدي إلى أنهم يسبون المنزه عن كل عيب وهو الله عز وجل؛ يسبونه عدواً بغير علم، ونحن إذا سببنا آلهتهم سببناها حقاً بعلم؛ وسببناها عدلاً بعلم وليس عدواً بغير علم، لكن لما كان هذا يتضمن شراً أكبر نهى الله عنه.

وقد مر شيخ الإسلام رحمه الله وصاحب له بجماعة من التتار يشربون الخمر ويسكرون، وكان شيخ الإسلام رحمه الله لا تأخذه في الله لومة لائم فقال له صاحبه: لماذا لم تنههم؟ قال: هم الآن يشربون الخمر وضررهم على أنفسهم، لكن لو نهيناهم وصاروا منتبهين، ذهبوا يقتلون رجال المسلمين، ويأخذون أموالهم، ويعتدون على أعراضهم (1) ، وهذا أعظم ضرراً من شربهم الخمر، فتركهم يشربون الخمر حتى لا يعتدوا على المسلمين، وهذا من فقهه رحمه الله، وهذا واضح عند التأمل، وليس فيه إشكال.

والحاصل أن يشترط إلا يتحول المنكر إلى ما هو أنكر منه، فإذا كان كذلك حرم النهي؛ لأن كونه ينتقل إلى مفسدة أعظم هذا حرام.

فالشروط إذا هي:

أولاً: العلم بأن هذا منكر.

(1) انظر اعلام الموقعين 3/16.

ص: 701

ثانياً: العلم بحال الرجل وأنه ارتكبه وهو منكر في حقه.

ثالثاً: العلم بأنه ارتكب منكراً، وهذا غير العلم بأنه ارتكب منكراً في حقه.

رابعاً: ألا يتغير إلى أنكر منه، فإن تغير إلى أنكر منه فإنه لا يجوز أن ينكر.

وقول بعض العلماء رحمهم الله: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، مبني على ما ذكرنا من الشروط؛ وذلك لأن المسائل الاجتهادية ليس فيها إنكار ما دام يسوغ فيها الاجتهاد، أما ما لا يسوغ فيه الاجتهاد فإنه ينكر على فاعله، ولو قال: لقد أدى بي اجتهادي إلى كذا وكذا، يقال: لا محل للاجتهاد والنص في صريح.

فلو قال قائل في قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)(المائدة: الآية3) لا حرج في أكل ميتة الظبي والأرنب لأن الله تعالى قال: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ)(المائدة: الآية3) بعد أن قال: (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ)(المائدة: الآية1) فيكون معنى الآية حرمت عليم الميتة من بهيمة الأنعام، وزعم أنه مجتهد في ذلك؟

فيجاب عليه بأن هذا لا يسوغ فيه الاجتهاد؛ لأن العلماء رحمهم الله مجمعون على أن جميع الميتات حرام، وما لا يسوغ فيه الاجتهاد لو زعم فاعله أنه مجتهد فيه، قلنا له: لا قبول.

والذين أنكروا صفات الله عز وجل إما كلية أو جزئية، ننكر عليهم. فإذا قالوا: هذا اجتهادنا، وعقولنا ترفض أن تكون لله عين أو يد أو وجه أو قدم، نقول: إن المرجع في الأمور الغيبية إلى النقل المجرد لا إلى العقول، فالشيء

ص: 702

الغيبي عنك كيف تحكم عقلك فيه؟! ثم هو شيء غيبي أيضاً لا يمكن إدراكه، قال تعالى:(وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً)(طه: الآية110) فهذا لا يسوغ فيه الاجتهاد، ثم أين الاجتهاد في هذا في عهد الصحابة رضي الله عنهم التابعين؟

وعلى ذلك فقول بعض العلماء: ((لا إنكار في مسائل الاجتهاد)) ليس على إطلاقه، بل المراد ما يمكن أن يجتهد فيه، وأما ما لا يمكن ففيه الإنكار.

الشرط الخامس: القدرة، وفي ذلك يقول المؤلف:(لكن شرطه أن يأمنا) فيشترط للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القدرة، وهذا شرط في جميع العبادات، ودليل ذلك قوله تبارك وتعالى:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(التغابن: الآية16) وقوله الله تعالى: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا)(البقرة: الآية286)، وقوله تعالى في المسألة الخاصة:(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(آل عمران: الآية97)

وقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم)) (1)، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في المسألة الخاصة لعمران بن حصين:((صل قائما، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنبك)) (2) .

إذا الدليل على هذه المسألة من القرآن قواعد وأمثلة، فالقواعد:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ، و (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا)، والأمثلة: مثل الحج قال تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ

(1) رواه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (7288) ، ومسلم، كتاب الحج، باب فرض الحج مرة في العمر، رقم (1337) .

(2)

رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب إذا لم يطق قاعدا صلى على جنب، رقم (1117) .

ص: 703

سَبِيلاً) . وفي السنة: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنبك)) ، وهناك أيضاً أمثلة أخرى:(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ)(النور: الآية61)) ، و (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) (التوبة: الآية91) وذكر الله الهجرة وتوعد على من تركها: (إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً)(النساء: 98)(فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ)(النساء: الآية99) .

والمهم أن هذه القاعدة لها أمثلة في القرآن والسنة، ومن جملة ذلك: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه لابد فيه من الاستطاعة؛ فمن لم يستطع أن يأمر وينهى سقط عنه؛ إما لكونه رجلا ًعاجزاً عن القول والإشارة، أو لكونه قيل له: إنك إن أمرت بمعروف أو نهيت عن المنكر قصصنا لسانك أو سجناك، فهذا عاجز تسقط عنه الواجبات.

إذا شروط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر خمسة؛ شرط عام في كل عبادة وشروط خاصة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والشرط العام هو القدرة، ولهذا قال المؤلف رحمه الله:(شرطه أن يأمنا) .

ص: 704

ثم قال رحمه الله تعالى:

181-

فاصبر وزل باليد واللسان

لمنكر واحذر من النقصان

ــ

الشرح

قوله رحمه الله: (فاصبر)، الصبر: حبس النفس عن التسخط وعن الحجام، فلا تحجم ولا تتسخط، وهذا مأخوذ من قوله تعالى: في سورة لقمان: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)(لقمان: 17) فلابد من صبر.

وإنما أمر الله بالصبر عند ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إشارة إلى أن الآمر والناهي سوف يلقى الأذى، وربما يلقى الضرر، فيقال للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر مثلاً: هذا متشدد، هذا مطوع، ويقال هذا على سبيل السخرية، وسيتكلم الناس عليه بكلام كثير.

فموقف الآمر الناهي في ذلك كله هو الصبر، وليعلم أنه ما أوذي أذية في ذلك إلا كتب الله له فيها أجراً، وقربه إلى العاقبة الحميدة، لأن الله تعالى قال:(تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)(هود: 49) .

وكلما اشتد الأذى قرب الفرج، ومعنى قرب الفرج: أن يفرج الله عنه معنى وحساً، أما التفريج حسا فظاهر؛ بأن يزول عنه الكبت والمنع والأذى، وأما معنى - وهو أهم - فبأن يشرح الله صدره، ويعطيه الطمأنينة في قلبه، ويصبر ويحتسب، ويرى العذاب في ذات الله عذباً.

ويقال إن شيخ الإسلام رحمه الله لما حبسوه وأغلقوا عليه الباب، قال (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ)

ص: 705

(الحديد: الآية13) وقال رحمه الله: ((ما يصنع أعدائي بي؛ إن حبسي خلوة، ونفيي سياحة، وقتلي شهادة)) أي حال يفعلونها بي فهي خير لي.

وهذا أيضاً مما يفرج الله به عن الإنسان إذا كبت وأوذي وعذب في ذات الله، فمن أقوى التفريج عنه أن يشرح الله صدره لما وقع عليه، وكأن شيئاً لم يكن.

لذا نقول للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر: اصبر على الأذى فالفرج قريب، ولا تيأس من رحمة الله، أنت تقاتل بسيف الله، وإنك تدعو بدعوة الله، فاحتسب، ولو شق عليك نفسياً أو جسمياً فاصبر واصبر.

قوله (وزل باليد واللسان) زل أصلها أزل (لمنكر واحذر من النقصان) هذا مرتبة أخرى غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذه هي مسألة التغير، والتغير ليس كالأمر والنهي.

ولكي يتبين لنا الفرق بين الأمر أو النهي والتغيير نضرب مثالاً بشخص رأى آخر معه زمارة من آلات اللهو؛ يزمر بها ويرقص عليها، فقال له: يا فلان اتق الله، هذا حرام ولا يحل، فهذا نسميه نهياً عن المنكر، وإذا جاءه مرة أخرى فرآه أيضاً معه الزمارة فأخذها وكسرها، فهذا يسمى تغييراً، إذاً فمقام المغير أقوى من مقام الآمر والناهي.

وكذلك إذا رأيت رجلاً لايصلي مع الجماعة مع وجوبها عليه، فقلت له: يا أخي اتق الله وأقم الصلاة مع المسلمين، فهذا يسمى أمراً بالمعروف، ثم إذا جئت مرة ثانية ووجدته لم يخرج من بيته فقرعت الباب عليه، فإذا أبى كسرت الباب ثم جررته إلى المسجد، فهذا تغيير.

لكن هذا الأخير ليس كل أحد يطيقه على خلاف الأول، فكل أحد يطيقه

ص: 706

إلا ما ندر، ولهذا جاء التعبير النبوي:((فإن لم تستطع)) ولم يأت حديث واحد فيه: (مروا بالمعروف فإن لم تستطيعوا) فدل ذلك أن التغيير شيء والأمر شيء آخر.

وقوله: (فاصبر وزل باليد واللسان) واليد في وقتنا هذا لا تكون إلا من ذي سلطان، وإنما كان الأمر كذلك لئلا يصبح الناس فوضى.

وعلى كل حال فنحن نقول: إن التغيير شيء لا يكون إلا من ذي سلطان وهو حق؛ لأنه لو جعل التغيير باليد لكل إنسان لأصبح من رأى ما يظنه منكراً منكراً عنده، فأتلف أموال الناس من أجل أنه منكر، فمثلاً يرى بعض الناس أن المذياع منكر، فإذا مر هذا برجل قد فتح المذياع يسمع الأخبار، وقلنا غير باليد، فإنه يكسر المذياع مع أنه ليس له حق في أن يكسره.

فلو جعل التغيير في وقتنا الحاضر لغير ذي سلطان لأصبح الناس فوضى، وتقاتل الناس فيما بينهم.

ومنذ سنوات حدث أن دخل حاج من الحجاج إلى مسجد مطار جدة ومعه مذياع، فقام رجل حبيب طيب ينهى عن المنكر أمام المصلين، وقال: نعوذ بالله؛ يأتي أحدكم بالمذياع مزمار الشيطان ويجعله معه في المسجد

وهو مذياع فيه تسجيل. فهذا لعله يسمع أخباراً يسجلها تنفعه، فقام الحاج يتكلم كلاماً عظيماً منبهراً: هل هذا حرام؟! نحن جئنا لنحج ولا نبتغي الحرام.

فقلت لهم: اطمئنوا فإنه حلال إن شاء الله، لكن إياكم أن تفتحوه على الأغاني والموسيقى، فإن هذا حرام، أما الأخبار والقرآن والحديث فهذا ليس

ص: 707

فيه شيء، فالقرآن والحديث طيب والأخبار من الأمور المباحة، فأقول: إن بعض الناس يظن ما ليس منكراً منكرا، فلو قلنا: غير باليد، كسر هذا المذياع أو المسجل أو الذي يرى أنه منكر.

ولهذا نقول: الإزالة باليد أو التغيير باليد في الوقت الحاضر لايكون إلا من ذي سلطان، والسلطان من أعطاه ولي الأمر صلاحية في ذلك، وعلى هذا فرجال الحسبة الموجودون عندنا يكون لهم السلطة.

وقوله: (فاصبر) ، اصبر أمر بالصبر، لأن المقام يحتاج إلى الصبر ولهذا قال الله تعالى:(يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ)

.... وزل باليد واللسان

لمنكر واحذر من النقصان

هذه مراتب التغيير غير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقد سبق أن هناك ثلاث مراتب؛ الدعوة والأمر والنهي والتغيير.

فالدعوة أن يدعو الإنسان إلى الله عز وجل ترغيباً وترهيباً، دون أن يوجه أمراً معينا لشخص معين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو ما يوجه إلى شخص معين أو طائفة معينة وما أشبه ذلك، لكن فيه أمر؛ افعلوا، اتركوا.

فلو قام رجل بعد صلاة الظهر مثلاً يدعو الناس، ويرشدهم إلى الله؛ يبين الحق ويرغب فيه ويبين الباطل ويحذر منه، فإن هذا يقال: إنه داع إلى الله، ولو رأينا رجلاً يقول لشخص: يا فلان افعل كذا، يا فلان اتق الله،

ص: 708

اترك كذا؛ فإن هذا آمرٌ وناهٍ.

أما التغيير فهو أن يغير الإنسان منكراً بنفسه، بأن يكون دعا صاحب المنكر إلى تركه ولكن أبى، أو أمر تارك المعروف أن يفعله ولكن أبى، فهذا يغير؛ بأن يُضرب ويحبس ويكسر آلة اللهو وما أشبه ذلك.

وقد قيد الرسول عليه الصلاة والسلام التغيير، ولم يقيد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال:((والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطرا)) (1)، وما قال: إن استطعتم، لكن قال:((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه)) (2)

إذاً فالتغيير غير الدعوة والأمر أو النهي؛ فالتغيير فيه سلطة وقدرة، والأب في بيته داعٍ آمر مغير، لأن له سلطة، ورجل الحسبة في المجتمع داعٍ وآمر ومغير، لكن ليس التغيير لكل أحد، فما كل أحد يستطيع أن يغير، فقد يغير الإنسان ويلحقه من الضرر ما لا يعلمه إلا الله، بل يلحق غيره أيضاً ممن لم يشاركه في التغيير كما هو الواقع.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله هنا: (زل باليد) أي غير باليد، فإن لم تستطع قال:(واللسان) ، والمؤلف رحمه الله رتبها ترتيباً محلياً لا لفظياً، فلم يأت بثم الدالة على الترتيب، أو بالفاء، أو ما أشبه ذلك، لكن تقديم بعضها على بعض يدل على الترتيب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:((إن الصفا والمروة من شعائر الله. أبدا بما بدأ الله به)) ، مع أن الله قال:(إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ)(البقرة: الآية158) ولم يقل ثم المروة. إذاً فالأول: التغيير باليد، والثاني: التغيير باللسان.

(1) رواه أبو داود، كتاب الملاحم، باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، رقم (4336)

(2)

تقدم تخريجه ص 57.

ص: 709

والتغيير باللسان ليس أن تقول: يا فلان لا تفعل هذا اتق الله، بل أن تنتهره، وأن تريه سلطة وقدرة استعلاء بالحق، فهذا التغيير باللسان.

ثم قال المؤلف رحمه الله: (لمنكر واحذر من النقصان) - النقصان هو أن تغير بالقلب؛ لأنه اضعف الإيمان. لكن هل الإنسان يمكن أن يغير بالقلب؟ ، الجواب: نعم، يمكن؛ بالكراهة للمنكر وعدم مخالطة فاعليه، لقول الله تبارك وتعالى:(وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ)(النساء: الآية140) إنكم إذاً - أي إذا قعدتم - مثلهم.

فإذا فرضنا أن قوماً يلعبون الشطرنج ومعهم رجل صالح، فقال: يا قوم اتقوا الله، هذا حرام لا يجوز، قالوا: لن ندع هذا، فلا يجوز أن يجلس معهم، لكنهم إذا قالوا له: إن خرجت سنفعل بك كذا وكذا فجلس، فلا يأثم لأنه مكره على الجلوس، فإن قال: أنا لم اكره على الجلوس لكن أخشى إن ذهبت أن يقع بيني وبينهم عداوة، فإننا نقول له: وليكن، إنك إذا عاديتهم لله، فإنه لا يضرك، فإن قال: أخشى أن يقع بيني وبينهم قطيعة رحم، فنقول: لا يقع بينك وبينهم قطيعة رحم، صلهم أنت فإن صلة الرحم من قبلك ممكنة، وليست متعذرة، وأنت إذا وصلتهم وهم يقطعونك فكأنما تسفهم المل، كما جاء في الحديث (1) .

فالحاصل أن التغيير له ثلاث مراتب؛ الأول باليد والثاني باللسان والثالث بالقلب، ومعنى التغيير بالقلب: الكراهة وعدم المخالطة.

(1) رواه مسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، رقم (2558) .

ص: 710

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

182-

ومن نهى عما له قد ارتكب

فقد أتى بما به يقضى العجب

ــ

الشرح

قوله: (من) شرطية، و (فقد) جواب الشرط، (عما له قد ارتكب) في بعض النسخ (عن ما) وهذا غلط،؛ لأن ألذ يقرؤها على هذا يحسبها عن ماله، وقوله (ومن نهى عما له قد ارتكب

الخ) ، أي: عن الذي هو يرتكبه، وهنا يقصد المؤلف أن من ينهي عن شيء وهو يرتكبه، فإنه فعل ما يدعو إلى العجب.

فمثلاً إذا نهى الإنسان عن شيء يرتكبه، مثل أن يرى رجلاً يتعامل بالربا فيقول له: يا فلان اتق الله ولا تتعامل بالربا، فإن الربا من كبائر الذنوب، وهو نفسه له محل يتعامل بالربا فيه، هذا عجب، وهذا يقضى به العجب

إذ كيف ينهى عن شيء هو يفعله؟! ولو كان باطلاً ما فعله، وإن فعله وهو يعتقد أنه باطل فهو سفيه، لقول الله تبارك وتعالى في بني إسرائيل:(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ)(البقرة: 44)، وقال تعالى لهذه الأمة:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ)(الصف: 2)(كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ)(الصف: 3) .، فهذا من كبائر الذنوب. ولهذا يؤتى بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار حتى تندلق اقتاب بطنه - يعني أمعاءه - فيدور عليها كما يدور الحمار على رحاه، فيجتمع إليه أهل النار فيقولون: يا فلان مالك؟ ! ألست تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟! فقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه وأنهاكم عن المنكر وآتيه)) (1) وهذا

(1) رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة، رقم (3267) ، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب عقوبة من يأمر بالمعروف ولا يفعله

، رقم (2989) .

ص: 711

وعيد شديد نسأل الله العافية، وفضيحة وعار، وكذلك يكون هو أول من تسعر به النار يوم القيامة. نسأل الله العافية. ويقول الشاعر:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله

عار عليك إذا فعلت عظيم

والمهم أن الإنسان الذي يأتي بشيء ينهى عنه، هذا أتى مما به يقضى العجب، أو بما به يقضى العجب، إذ كيف يأمر بما لا يفعل أو ينهى عما يفعل.

وإتيان المؤلف رحمه الله بهذا البيت أو بهذا الحكم بعد ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يفيد أن من فعل ذلك لا يسقط عنه الأمر والنهي، فلو كان مبتلى بهذا الأمر ويفعله فلينته عنه، ولو أن إنساناً مبتلى بشرب المخدرات، وشارب المخدرات لا يكاد يقلع، وهو ينهى الناس عن المخدرات، فلا يقال له: ما دمت أنك تفعل اسكت، بل نقول له: اِنهَ الناس.

إذاً لا يسقط الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون الإنسان مخالفاً؛ لأنه إذا ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع المخالفة، يكن قد ترك واجبين؛ الأول: ترك المعصية التي يفعلها، والثاني: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فنقول: وإن كنت لا تفعل المعروف فأمر به، وإن كنت تفعل المنكر فإن فعلك إياه لا يسقط عنك النهي عنه. فإنه عنه.

فإذا قال قائل: كيف أنهى عنه وأُعرضُ نفسي للفضيحة وللوعيد في قول النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يلقى في النار فتندلق اقتاب بطنه (1) .

فالجواب: إنما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك تحذيراً من أن يأمر الإنسان ولا يفعل أو أن ينهى ويفعل، وليس مراده أن يحذر من أن يأمر بما لا يفعل وأن ينهى عما يفعل.

(1) تقدم تخريجه ص 711.

ص: 712

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

183-

فلو بدا بنفسه فذادها

عن غيها لكان قد أفادها

ــ

الشرح

قال المؤلف رحمه الله: (لو بدا بنفسه فذادها عن غيها) ولم يقل: فلو اعتنى بنفسه؛ يعني وترك الآخرين، لأن البداية لها نهاية، فيبدأ أولاً بنفسه ثم بغيره، وهذه هي الحكمة وهذا هو الترتيب الصحيح.

لكن لو أصر هو على فعل المعصية فلا يمنعنه ذلك من ترك النهي عنها.

وبهذا يكون قد انتهى الكلام على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأتت الخاتمة، نسأل الله حسن الخاتمة

ص: 713