الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع في أشراط الساعة
103-
وكل ما صح من الأخبار
…
أو جاء في التنزيل والآثار
104-
من فتنة البرزخ والقبور
…
وما أتى في ذا من الأمور
ــ
الشرح
أورد المؤلف رحمه الله هذا الباب، وهو في أشراط الساعة، والأشراط جمع شرط، وهو في اللغة العلامة، وفي الاصطلاح ما يتوقف صحة الشيء على وجوده، والمراد به هنا العلامة، فقوله: أشراط الساعة، يعني علاماتها، والساعة هي القيامة، وسميت الساعة لأنها ساعة مشقة وإنذار وساعة عظيمة ومفزعة، وكل شيء يكون عظيماً فإنه يسمى ساعة، قال تعالى (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) (محمد: الآية18)) .
وأشراط الساعة تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم مضى، وقسم ما زال يأتي، وقسم أكبر وهو الأشراط القريبة منها وهي الأشراط الكبار.
فمن الأشياء التي مضت بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإن بعثته وجعه آخر الرسل تدل على أن الساعة قريبة، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:(بعثت أنا والساعة كهاتين)) (1) ، ويقرن بين أصبعيه السبابة والوسطى يعني أننا مقترنان، وليس
(1) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: بعثت
…
، رقم (6503) ، ومسلم، كتاب الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة، رقم (867) .
بيننا إلا مثل ما بين السبابة والوسطى.
وهناك أشراط ما زالت تقع مثل كثرة المال وكثرة الهرج يعني القتل، وتقارب الزمان، وغير ذلك.
وقسم ثالث لم يأت بعد، وهو الأشراط الكبيرة: كنزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم، والدجال، ويأجوج ومأجوج، وما أشبهها.
فما موقفنا نحو هذه الأشراط؟
يقول المؤلف: (وكل ما صح من الأخبار) يعني الأحاديث التي صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم (أو جاء في التنزيل والآثار) .
وهذه ثلاثة طرق تثبت بهذا أشراط الساعة:
الأول: ما صح من أخبار النبي صلى الله عليه وسلم، وقيد المؤلف رحمه الله ذلك بقوله:(ما صح) احترازا مما لم يصح، وليعلم أن بعض العلماء رحمهم الله أفرط في سياق الأشراط، وذكر ما لا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث لا زمام لها ولا صحة لها، ولهذا يجب التحرز من الكتب المؤلفة في هذا، مثل الإشاعة في أشراط الساعة، فإن فيه أشياء كثيرة غير صحيحة، فيجب التحرز من هذا لئلا نقع في نسبة شيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ليس كذلك.
الثاني: ما جاء في التنزيل، والمراد به القرآن، كما قال الله تعالى (تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (السجدة: 2) .
والثالث: ما جاء في الآثار، وهي جمع أثر، وهو ما روي عن الصحابي، بشرط ألا يكون معروفاً بالأخذ عن بني إسرائيل، فإن كان
معروفاً بالأخذ عن بني إسرائيل فإن إخباره تكون كأخير بني إسرائيل لا تصدق ولا تكذب.
فهذه ثلاثة طرق لإثبات أشراط الساعة.
ثم ذكر المؤلف رحمه الله أمثلة لهذه الأشراط، فقال:(من فتنة البرزخ والقبور) والواقع أن هذا ليس من أشراط الساعة، لكنه من الأمور السمعيات التي تتلقى من السمع.
والفتنة في اللغة هي الاختبار، فهي هنا اختبار للإنسان، والبرزخ: الحاجز بين الشيئين، والمراد به ما بين موت الإنسان إلى قيام الساعة، وعطف القبور عليه من باب عطف الخاص على العام؛ لأن البرزخ أعم من القبور، قد يموت الإنسان ويلقى على وجه الأرض فتأكله السباع، فهو حين ذلك لا يكون في قبر، ولكنه في برزخ، فكل ميت فهو في برزخ، وكل مقبور فهو في برزخ، فعطف القبور على البرزخ من باب عطف الخاص على العام.
وفتنة البرزخ هي الاختبار الذي يحصل للميت إذا دُفن، وذلك بأنه يأتيه ملكان فيقعدانه، ويسألانه عن ربه ودينه ونبيه، فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت، فيقول: المؤمن ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، فينادي مناد من السماء: أن قد صدق عبدي، فيصدق، ويسمعه هو، فيزداد بذلك فرحاً أن شهد له شاهد من السماء بأنه صادق. ويعتبر هذا من نعيم القبر؛ لأن الإنسان إذا صدق في قوله ازداد بذلك فرحاً وسرورا.
وأما المنافق أو المرتاب، فإنه يقول: هاه هاه، لا أدري سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته، فينادي مناد من السماء: أن كذب عبدي؛ حيث أنه يدري أنه لا إله إلا الله، ويدري أن محمدا رسول الله، ويدري أن الدين عند الله الإسلام، ولكنه عاند وأصر، فيقال: كذب عبدي.
فيفسح للأول في قبره، ويفتح له باب إلى الجنة، ويأتيه عمله الصالح فيجلس عنده يؤنسه، وأما الثاني - والعياذ بالله - فيضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، أي يدخل بعضها في بعض من شدة الضيق، ويفتح له باب إلى النار فيأتيه من حرها وسمومها، ويأتيه عمله السيئ في أخبث صورة - والعياذ بالله - فيوبخه على ما فرط وأهمل في دين الله عز وجل.
هذه الفتنة يجب علينا أن نؤمن بها، فقد ثبتت هذه الفتنة في الكتاب والسنة، أما في الكتاب فعلى طريق الإشارة في قوله تعالى:(يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ)(إبراهيم: 27) ، وأما في السنة فالأحاديث بذلك مشهور معلومة، فيجب علينا أن نؤمن بها.
وفي هذه المسألة مباحث، منها:
المبحث الأول: متى تكون هذه الفتنة؟ هل هي بخروج الروح أو بتسليم الإنسان إلى عالم الآخرة؟
والجواب الثاني: أما مجرد خروج الروح فلا يحصل به فتنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أرادوا دفن الميت، يقول: (أسرعوا بالجنازة؛ فإن تكن صالحة فخير
تقدمونها إليه)) (1) ، وهذا يدل على أنها لا تصل إلى ذلك الخير ما دامت في أيديهم، وعلى هذا فإذا مات ميت ووضع في الثلاجة للتحقق من موته، وأسبابه، فإنه لا يفتن، ولا يأتيه ملكان حتى يدفن.
المبحث الثاني: هل هذا خاص بالمقبور لقوله: (إذا دفن الميت) أو يشمل كل ميت؟
والجواب: أن هذا ليس خاصا بالمقبور بل يشمل كل ميت، وقوله صلى الله عليه وسلم: ((إذا دفن الميت
…
الخ)) ، بناءً على الأغلب، وما قيد بقيد أغلبي فلا مفهوم له، وعلى هذا فإذا ألقي الإنسان في البر، أو القي في البحر ومات هناك، فإنه يأتيه الملكان ويفتن.
المبحث الثالث: هل هذه الفتنة عامة لكل أحد أو يخرج منها من يخرج بإذن الله؟
والجواب: أن هذه الفتنة يخرج منها من يخرج بإذن الله، ومن ذلك:
أولاً: غير المكلف، فإن كثيراً من أهل العلم قالوا: إن غير المكلف لا يسأل لأنه غير مكلف؛ سواء أجاب بخطأ أو صواب، فما دام التكليف رفع عنه في الدنيا فإنه يرفع عنه في الآخرة.
وقال بعض العلماء: بل يأتيه الملكان ويسألانه، وهو إذا كان محكوماً بإيمانه فإنه سوف يجيب بالصواب، ولا يبعد أن الله عز وجل يكلف هذا الصغير، وأن الصغير يجيب بالصواب، فها هو عيسى بن مريم كان في المهد، ولما انتقدوا على أمه أشارت إليه، (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ
(1) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب السرعة بالجنازة، رقم (1315) .
وَجَعَلَنِي نَبِيّاً) (مريم: 30)(وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً)(مريم: 31)(وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً)(مريم: 32)(وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً)(مريم: 33) كل هذا قاله وهو في المهد.
فهؤلاء الأطفال الذين يموتون، أو المجانين - وإن كانوا غير مكلفين - فإن الله تعالى قادر على أن ينطقهم في القبر بما يشاء.
مسألة:
إذا قلنا: أن غير المكلف لا يُسأل في قبره فلو كلف ثم زال تكليفه يعني كان بالغ ثم أصيب بجنون هل يسأل؟
والجواب: الظاهر أنه يسأل لأنه أتى عليه زمن التكليف.
ثانياً: ومما يستثنى الشهيد؛ فالشهيد الذي قتل في سبيل الله لا يسأل، كما جاء ذلك في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال:((كفى ببارقة السيوف على رأسه فتنة)) (1) ، فإن هذا الرجل الذي وقف أمام السيوف وسلم رقبته للعدو، يدل فعله هذا أكبر دلالة على صحة إيمانه، وحينئذٍ لا يحتاج إلى سؤال.
ثالثاً: ومما يستثنى: النبي؛ فإنه لا يسأل؛ لأن النبي مسؤول عنه، حيث يقال: ما دينك؟ من نبيك؟ ولأنه إذا كان الشهيد لا يسأل، فالني أعلى درجة منه، وإن كانت الأمور في الآخرة ليس فيها قياس، لكننا نقول: إن النبي عنده من اليقين أكثر مما عند الشهيد، ولا شك في هذا، ولهذا نقول: إن النبي لا يسأل.
(1) رواه النسائي، كتاب الجنائز، باب الشهيد، رقم (2053) .
المبحث الرابع: بأي لغة يسال؟
والجواب: قال بعض العلماء: يسأل بالسريانية، والسريانية لغة النصارى، والظاهر والله أعلم أن هذا القول مأخوذ من النصارى، من أجل أن يفتخروا ويقولوا لغتنا لغة السؤال في القبر لكل ميت، والذي يظهر أنه يسأل بما يفهم.
ولو أردنا أن نفضل لغة على لغة لفضلنا العربية؛ لأنها لغة أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وعلى كل حال فإن الذي يظهر لنا -والعلم عند الله - أن الإنسان يسأل بما يفهم، فإن كان من العرب فباللغة العربية، وإن كان من غير العرب فبلغتهم.
المبحث الخامس: من السائل؟
والجواب: السائل الملكان كما في الحديث، فقيل: إنهما الملكان اللذان يكتبان على الإنسان عمله من خير وشر، فهما صاحباه في الدنيا، وهما سائلاه في القبر. وقيل: بل هما ملكان آخران، ونحن نتوقف في هذا، فالله أعلم.
ففي الأحاديث جاء في بعضها: ((أتاه ملكان)) (1) ، وفي بعضها جاء ((يأتيه الملكان)) (2) . بـ (ال) ، و (ال) هذه يحتمل أنها للمعهود الذهني، أي الملكان المعروفان اللذان يكتبان أعمال العباد، ويحتمل أنها للجنس؛ فتكون
(1) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب الميت يسمع خفق النعال، رقم (1338) ، ومسلم، كتاب الجنة، باب عرض مقعد الميت
…
، رقم (2870) .
(2)
رواه ابوداود، كتاب السنة، باب في مسألة في القبر وعذاب القبر، رقم (4753) .
بمعنى ملكين.
وأنا أتوقف في هذا؛ فأقول: يأتيه ملكان أو الملكان كما جاء في الحديث، والله أعلم من هما.
المبحث السادس: ما اسم هذين الملكين؟
والجواب: ورد في بعض الآثار: أن اسمهما منكر ونكير، وليس المنكر هنا المنكر الشرعي، بل المنكر غير المعروف. كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام للملائكة:(قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ)(الحجر: 62) ، فهذا منكر أي لا يعرفه الميت، ونكير بمعنى منكر، فالاختلاف في اللفظ.
وقيل لا يسميان، وأن تسميتهما بمنكر ونكير ضعيف، ولم يصح به الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وعقيدتنا في هذا أن نقول: إن كان النبي صلى الله عليه وسلم سماهما بذلك فنحن نعتقده، وإن لم يكن سماهما فنحن نطلق، ونقول: ملكان فقط، ولا يسعنا أكثر من ذلك.
المبحث السابع: ثبت في الحديث إنهما يقعدان الميت (1) ، وهنا إشكال فإن القبر لا يتسع لجلوس الميت كما هو معروف، فكيف يقال إنهما يقعدانه؟
والجواب على ذلك أن نقول: أمور الآخرة لا تقاس بأمور الدنيا، فأمور الآخرة وظيفتنا أن نقول عندها: سمعنا وصدقنا وآمنا، ولا تكون كأحوال الدنيا، وإذا كنا نرى في الدنيا أشياء في المنام لا تطابق المعروف في اليقظة. فما بالك في الممات؟ ففي المنام يرى الإنسان الرؤيا فيها ذهاب ومجيء
(1) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر، رقم (1374) ، ومسلم، كتاب الجنة، باب عرض مقعد الميت
…
، رقم (2870) .
وركوب وغيره، كل هذا وهو على فراشه لم يتحرك، حتى اللحاف ما انكشف منه شيء.
وقد يرى أشياء تحتاج لوقت طويل في مدة قصيرة، لكن سبحان الله؛ في المنام يرى الإنسان أشياء يقضيها في لحظة وهي تحتمل أياماً، فنقول: الأمور الأخروية لا تقاس بالأمور الدنيوية، وأمور الموت لا تقاس بأمور اليقظة، بل وأمور النوم لا تقاس بأمور اليقظة.
قوله: (وما أتى في ذا من الأمور) أي فيما يتعلق بالقبر والبرزخ من الأمور العظيم، منها أنه بعد هذه الفتنة إما نعيم وإما عذاب، وعلى هذا فيجب علينا أن نؤمن بأن الإنسان يعذب أو ينعم في قبره، والدليل على ذلك من الكتاب ومن السنة.
أما من الكتاب، فقال الله عز وجل:(الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيبين يَقُولونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادخلوا الجَّنة بِما كُنْتُم تَعْمَلُون)(النحل: 32) .، وهذا يدل على أنهم يأتيهم من نعيم الجنة في أول يوم يفارقون الدنيا.
وأما العذاب فمن ذلك قوله تبارك وتعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ)(الأنفال: 50)(إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ) أي: في تلك الساعة (يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) . ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ)(الأنعام: الآية93)) ، فقال سبحانه (الْيَوْمَ) يعني يوم إخراج أنفسهم، أي يوم موتهم يجزون عذاب
الهون.
ومن ذلك قوله تعالى في آل فرعون: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ)(غافر: 46) فقال: (النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً) . وذلك قبل قيام الساعة. (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ) .
أما السنة فهي مستفيضة في إثبات عذاب القبر ونعيمه، ومن ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما في الصحيحين: مر النبي صلى الله عليه وسلم على قبرين فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) (1) ، فأثبت هذا الحديث عذاب القبر.
ومن ذلك أيضاً دعاؤنا في الصلاة: ((أعوذ بالله من عذاب القبر)) ونحن لا نستعيذ إلا من شيء موجود.
وهنا يرد سؤال: هل العذاب على البدن أو على الروح أو عليهما معاً أو يختلف؛ فتارةً يكون عليهما معا وتارة يكون على الروح فقط؟
والجواب على ذلك أن نقول: الأصل أن العذاب على الروح، ولكن الروح قد تتصل بالبدن أحيانا فيتنعم أو يعذب، وهذا ما ذهب إليه المحققون من أهل العلم، كشيخ الإسلام ابن تيمية (2)(3) وغيرهما (4) .
(1) رواه النسائي، كتاب الجنائز، باب وضع الجريدة على القبر، رقم (2069) .
(2)
انظر: مجموع الفتاوى (4/262-270)
(3)
انظر: الروح ص (96) .
(4)
انظر: فتح الباري (233-235/3) .
أما من ناحية دوام عذاب القبر أو انقطاعه؛ فإن الكافر عذابه دائم مستمر، وأما المؤمن فيحتمل أن ينقطع ويحتمل أن يستمر؛ لأنه سيعذب على حسب عمله، وعمله قد يستوعب جميع الزمن وقد ينقص عنه.
ثم هل يمكن أن نطلع على عذاب القبر؟
الأصل أنه لا يمكن الاطلاع على عذاب القبر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:((لولا ألا تدافنوا لدعوتُ الله أن يريكم عذاب القبر)) (1) ، إذاً فالأصل أنه غير معلوم لكن قد يطلع الله عليه بعض الناس إما برؤيا صالحة وإما باليقظة، كما اطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على القبرين اللذين يعذبان، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: مرّ النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال: ((إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستبرئ من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة)) (2)
إذا فالأصل أن عذاب القبر غير معلوم، ولكن قد يعلم الله به من شاء من عباده.
وهذه مباحث فيما يتعلق بنعيم القبر وعذاب القبر، وكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فإن الواجب علينا أن نؤمن به.
(1) رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها
…
، باب عرض مقعد الميت من الجنة
…
، رقم (2867) .
(2)
تقدم تخريجه ص 438.
ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:
105-
وأن أرواح الورى لم تعدم
…
مع كونها مخلوقة فاستفهم
106-
فكل ما عن سيد الخلق ورد
…
من أمر هذا الباب حق لا يرد
ــ
الشرح
قال رحمه الله: (وأن أرواح الورى لم تعدم) يعني نؤمن بأن أرواح الورى أي الخلق لم تعدم، و (لم) هنا بمعنى لن، يعني لن تعدم في المستقبل؛ لأن الله تعالى خلقها للبقاء لا للفناء، كما خلق الجنة للبقاء لا للفناء، وخلق النار للبقاء لا للفناء، وخلق ما في الجنة من الحور والولدان للبقاء لا للفناء، كذلك الأرواح خلقت للبقاء لا للفناء، فهي لا تعدم.
ولكن هل هي مخلوقة أو أزلية؟
والجواب: أنها مخلوقة وليست أزلية؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال في كتابه: (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ)(الزمر: الآية62)) وهي داخلة في لفظ كل شيء، فكل من سوى الله، وما سوى الله، فهو مخلوق، ولا شك أنه مخلوق من العدم، فالروح ليست أزلية.
والروح إن شئنا عرفناها بلازمها الذي لابد منه، فالروح على ذلك هي ما به حياة الأبدان، وهذا التفسير لها هو تفسير باللازم المتحتم؛ لأنها إذا فارقت البدن ذهبت عنه الحياة، وما دامت في البدن فهو حي، أما عن ماهية الروح فقد اختلف العلماء رحمهم الله فيها:
فقيل إنها البدن، أو جزء منه، أو صفة من صفاته. وبناء على هذا القول الباطل يكون خروجها من البدن هو عدمها، لأنه إذا كان جزء من البدن ومات البدن لزم أن تموت هي أيضاً، ولكن هذا القول باطل يبطله الكتاب والسنة والواقع.
وقيل إن الروح شيء معلوم في الذهن لا يمكن تخيله، ولا يمكن أن يكون داخل العالم ولا خارج العالم، ولا متصل بالعالم ولا منفصل عن العالم، ولا فوق العالم ولا تحت العالم، ولا مباين للعالم ولا محاذِ للعالم، فوصفوها بما وصفوا الله به، وهذا أيضاً باطل.
والصحيح كما قال الله عز وجل: (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)(الإسراء: الآية85) ، فالروح أمرها عجيب، ولا يمكن الإحاطة بها، ولا يمكن تحديد ماهيتها أبداً، كما قال تعالى:(قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)(الإسراء: الآية85) وصدق الله.
لكن ومع ذلك فنحن نؤمن بما جاء في الكتاب والسنة من أوصافها، فقد ثبت في السنة أن الروح ترى، وهذا يقتضي أن تكون جسما؛ لأنه لا يرى إلا الجسم، والدليل على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل على أبي سلمة رضي الله عنه وإذا بصره قد شخص، أي ارتفع وانفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((إن الروح إذا قبض تبعه البصر)) (1) ، فينظر الإنسان إلى هذا الذي خرج منه عند الموت، ويشخص بصره بقوة، وهذا يدل على أنها جسم وأنها ترى.
كذلك أيضاً ثبت عن النبي عليه الصلاة والسلام أنها إذا قبضها ملك
(1) رواه مسلم، كتاب الجنائز، باب في إغماض الميت والدعاء له
…
، رقم (920) .
الموت، وعنده الملائكة المساعدون له الذين نزلوا من السماء، فإنها إذا كانت صالحة كان معهم كفن من الجنة وحنوط من الجنة فلا يدعونها في يده طرفة عين، حتى يضعوها في هذا الكفن وهذا الحنوط، ثم يصعدون بها إلى السماء، ويشعها من كل سماء مقربوها إلى السماء التي فوقها، ويقال ما هذه الروح الطيبة؟ فيقول الملائكة: هذه روح فلان بن فلان، بأطيب ما يسمى به في الدنيا حتى تصل إلى خالقها عز وجل، ثم يقول سبحانه وتعالى: ردوه إلى الأرض، فإني منها خلقته، وفيها أعيده، ومنها أخرجه تارة أخرى، فتعاد روحه في جسده حتى يأتيه الملكان ويسألاه، ثم بعد ذلك تذهب إلى الجنة (1) ، وهذا يدل على أنها جسم، ووجه الدلالة أنها تكفن، ويصعد بها، وتطيب، فهذا يدل على أنها جسم.
ولكن هذا الجسم ليس من جنس الأجسام المعهودة، بل من أجسام لا نعرفها، لأنها ليست من مادة الجسم، والجسم من طين، والنسل من سلالة من ماء مهين، لكن هي من جسم غريب ليس من هذه المواد التي تعرف في الدنيا أبدا، ولذلك قال الله فيها:(قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)(الإسراء: الآية85)
وأما ما وصفها به بعض العلماء من أنها جسم نوراني لطيف، يسري في الجسد سريان النار في الفحم، والماء في اللبن، فهذا لا نجزم به، لكن نجزم بأنها جسم يرى، وأن مادتها من غير مواد الأجسام، وليست من تراب ولا من مني. خلقت - والله أعلم - قبل البدن. أو خلقت عند تكون البدن على الخلاف في ذلك.
(1) تقدم تخريجه ص 435.
والمهم أننا لا نستطيع أن نحدد من أي ماهية هي، ولا أن نحدد هل هي نور مشع أو غير مشع. ولما كانت من أمر الغيب فإننا نقتصر فيها على ما ورد فقط، ونقول: إذا مات الإنسان اتبع بصره روحه ينظر إليها، وإذا قبضت روحه فإنها تجعل في كفن ويصعد بها إلى السماء، ونقتصر على ذلك ولا نتعداه؛ لأن هذا أمر لا نحيط به.
قال رحمه الله: (وأن أرواح الورى لم تعدم) قوله (الورى) يعني بذلك الخلق، ثم قال:(مع كونها مخلوقة فاستفهم) قوله: (مخلوقة) هذا رد على الفلاسفة الذين يقولون: إنها قديمة وإنها ليست حادثة. وعقيدتنا أنها مخلوقة، لقوله تعالى:(اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)(الزمر: 62) .
واعلم أن هناك فرقا بين الروح والنفس، فالروح ما به حياة البدن، أما النفس فقد يراد بها الإرادة، كما يقال: أمرت نفسي بكذا، وكقوله تعالى:(إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ)(يوسف: الآية53)
وقد أطال ابن القيم رحمه الله في كتاب الروح الكلام في هذه المسائل، لكن هذا الكتاب فيه أشياء قد يشك في صحتها الإنسان.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (فكل ما عن سيد الخلق ورد) فكل: مبتدأ. وسيد الخلق: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسيد هو ذو الشرف والجاه، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أشرف الخلق جميعا على الإطلاق، قال الناظم:
وأفضل الخلق على الإطلاق
…
نبينا فمل عن الشقاق
ولا شك أن نبينا صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، كما أخبر عن نفسه وهو الصادق
المصدوق. فقال: ((أنا سيد ولد آدم)) (1)
وهل النبي صلى الله عليه وسلم سيد الخلق أو سيد ولد آدم؟
والجواب: هذا ينبني على الخلاف في اعتبار أن ولد آدم أشرف للمخلوقات، قال تعالى:(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)(الإسراء: 70)، فلم يقل الله تعالى: فضلناهم على من خلقنا، بل قال:(عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا)(الإسراء: الآية70) ، فمن خلق الله تعالى من لم يفضل عليهم بنو آدم.
ومن ثم اختلف العلماء رحمهم الله في تفضيل الملائكة على بني آدم، فقيل: إن الملائكة أفضل لأنهم خلقوا من نور، ولأنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ولأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولم يفتتنوا بالدنيا، وعلى ذلك فهم أفضل.
وقال آخرون: بل بنو آدم أفضل لأن الله سخر الملائكة لهم في الدنيا وفي الآخرة، ولأنهم ابتلوا بالفتن فصبروا، ومن ابتلى بالفتن وصبر نال درجة الصبر، بخلاف من لم يفتن، فدرجة الصبر عنده ضعيفة، ولأن في بني آدم الرسل والنبيين والصديقين والشهداء.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2) : الملائكة أفضل باعتبار البداية؛ لأنهم خُلقوا من نور، واصطفاهم الله لنفسه، وبنو آدم أفضل باعتبار النهاية؛ لأنهم هم الذين يكونون في جوار الله في الجنة، والملائكة
(1) تقدم تخريجه ص 75.
(2)
انظر مجموع الفتاوى 4/342-343.
يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم، فهم أفضل باعتبار النهاية، وبذلك يكون قد جمع بين القولين رحمه الله.
وبناء على هذا إذا قلنا: بنو آدم أفضل من الملائكة، فمحمد صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، وإذا قلنا الملائكة أفضل، فإنه يبقى النظر: هل محمد صلى الله عليه وسلم أفضل منهم؟ وذلك يحتاج إلى إثبات؛ لأن تفضيل الجنس على الجنس لا يمنع أن يكون فرد من أفراد هذا الجنس أفضل من الجنس الثاني، فتفضيل الجنس على الجنس تفضيل مطلق على مطلق، وتفضيل الفرد على الفرد أو على الجنس تفضيل معين، وإذا كان في هذا الجنس من فاق الجنس الأول لا يلزم أن يكون هذا الجنس أفضل من الآخر، فالفضل المطلق غير الفضل المقيد.
ولهذا لو قال قائل مثلاً: يوجد لعثمان رضي الله عنه مناقب ليست لعلي، ولعلي مناقب ليست لعثمان، ولعمر مناقب ليست لأبي بكر، ولأبي بكر مناقب ليست لعمر، فإن الفضل الخاص لا يلغي الفضل المطلق العام، وكذلك أخبر النبي عليه الصلاة والسلام انه في آخر الزمان أيام الصبر، للعامل فيهن أجر خمسين من الصحابة (1)، فلا يقال: إن هذا العامل الذي في آخر الزمان أفضل من الصحابة، أو أفضل من الخمسين، فهذا فضله خاص، حيث عمل في هذا الزمان المظلم الذي لا يجد فيه من ينصره، بل يجد من يستهزئ به ويسخر به، والصحابة كلهم يعملون بالحق، فكان أجر خمسين من الصحابة لما يعانيه من القيام بشرائع دينه، وليس أفضل من الصحابة بلا شك. ولو عبر المؤلف رحمه الله بسيد بني آدم لكان أسد وأسلم
(1) رواه ابوداود، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، رقم (4341) ، والترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة المائدة، رقم (3058) . وابن ماجه، كتاب الفتن، باب قوله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم) رقم (4014) .
من الإيراد.
وقول المؤلف رحمه الله: (فكل ما عن سيد الخلق) في هذا دليل على أن المؤلف يرى جواز إطلاق السيادة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا لا شك فيه باعتبار الخبر؛ كأن يخبر بأنه صلى الله عليه وسلم سيد الخلق، أو سيد الأنبياء، أو سيد الرسل.
وأما عند خطابه فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالوا له: أنت سيدنا وابن سيدنا، قال:(قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان)(1) ، فحذرهم من الغلو إذا خاطبوه بمثل هذا الخطاب، وهناك فرق بين المخاطبة وبين الإخبار، فنحن نخبر بأنه سيد الخلق، وأنه عليه الصلاة والسلام أفضل الخلق، لكن عندما نخاطبه فإنه يجب علينا التحرز من المغالاة، لقوله:((قولوا بقولكم أو بعض قولكم ولا يستهوينكم الشيطان)) .
قال رحمه الله: (من أمر هذا الباب) أي باب البرزخ فتنته وعذابه والباب يعبر به العلماء رحمهم الله عن المسألة، يقال في هذا الباب: أي في هذه المسألة، كما نجد ذلك كثيراً في كلام الإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهم رحمهم الله، مثل قوله صلى الله عليه وسلم:((لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه)) (2)، قال الإمام احمد: لا يثبت في هذا الباب شيء، أي باب التسمية على الوضوء، فالعلماء يعبرون بالباب عن المسألة.
(1) رواه أحمد في المسند 3/153.
(2)
رواه الترمذي، كتاب الطهارة، باب ما جاء في التسمية عند الوضوء، رقم (25) ، وأبو داود، كتاب الطهارة، باب في التسمية على الوضوء، رقم (101) ، وابن ماجه، كتاب الطهارة، باب ما جاء في التسمية على الوضوء، رقم (397) .
فقول المؤلف: (من أمر هذا الباب) يعني فتنة القبر وعذاب القبر، كل ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو حق ثابت يجب علينا أن نؤمن به، سواء أدركته عقولنا أم لم تدركه، وسواء أدركته حواسنا أم لم تدركه، ومن ذلك عذاب القبر، فيجب علينا أن نؤمن به وإن لم تدركه الحواس.
فلو قال قائل: نبشت قبراً فلم أجد أثرا للتعذيب في جسد ميت، وكان كافراً، قلنا له هذا أمر غيبي لو أراد الله تعالى أن يكون محسوساً لأبرزه، مع أنه قد يكشف عن العذاب في القبر، كما كشف للنبي صلى الله عليه وسلم في الرجلين اللذين يعذبان بالنميمة وعدم التنزه من البول، ووضع عليهما جريدة رطبة وقال:((لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)) (1) .
وقد أوردت هنا هذا الحديث مع وضوحه للتنبيه على المسألة من أغرب المسائل، وهي أن بعض الناس إذا دفن الميت أتى بجريدة خضراء، أو شجرة وغرزها في القبر لعلها تخفف عنه ما لم تيبس.
وهذا الفعل إساءة ظن بالميت، فإن كونه يعذب أو لا يعذب هذا من أمور الغيب التي لا يعلمها أحد إلا الله، ثم مع كونها إساءة للميت هي بدعة في دين الله، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يضع الجريدة على كل قبر، إنما وضعها على من كشف له أنها يعذبان، ولم يكن من هدي الرسول صلى الله عليه وسلم كلما دفن ميتاً أن يضع عليه جريدة، فهذا الفعل جمع بين إساءة الظن بالميت وبين البدعة في دين الله، وهذا من الضلال؛ أن يزين للإنسان سوء العمل
(1) تقدم تخريجه ص 438.
هذا من الضلال، قال تعالى:(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهدِي مَنْ يَشَاء)(فاطر: الآية8)) .
وأما وضع الزهور فليس كوضع الجريدة لكن قد يكون فيه تشبيه بالنصارى وهذا أخبث.
قال رحمه الله: (حق لا يرد) وحق: هو خبر المبتدأ (كل) ، وعلى ذلك فكل ما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم فهو حق ثابت سواء أدركته عقولنا أو لم تدركه؛ لأن هناك شيئا وراء هذه المادة، فنحن لا ندرك في حياتنا إلا هذه المادة فقط، أما ما وراءها فنحن لا ندركه على الإطلاق، ولهذا فنحن لا ندرك كُنْهَ أرواحنا التي فينا؛ لأنها لم تخلق من تراب ولا من مني ولا من المواد التي نعرفها، ومن ثم اختلف فيها كما سبق.
ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:
107-
وما أتى في النص من أشراط
…
فكله حق بلا شطاط
108-
منها الإمام الخاتم الفصيح
…
محمد المهدي والمسيح
109-
وأنه يقتل الدجال
…
بباب لدٍ خل عن جدال
ــ
الشرح
قال رحمه الله تعالى: (وما أتى في النص من أشراط)(ما) مبتدأ، يعني الذي أتى، و (من) بيان لـ ((ما)) ، فهي بيانية، وجملة (فكله حق) خبر المبتدأ، يعني كل ما أتى في النص من أشراط الساعة فكله حق (بلا شطاط) ، يعني بلا شطط في اعتقاده، ولا في المنازعة فيه، بل يجب أن يكون مسلماً.
وأشراط الساعة: علاماتها الدالة على قربها، وهي أنواع: منها ما مضى، ومنها ما هو حاضر، ومنها ما هو مستقبل. والمراد بها هنا التي في المستقبل، يعني الأشراط الكبيرة العظمى وإنما قدم الله تعالى لها أشراطاً لعظمها وأهميتها وهذه الأشراط هي مُقدِّمات - أو مقدَّمات - بين يديها من أجل أن ينتبه الناس ويستعدوا لها.
قال: (منها) أي من أشراط الساعة، (الإمام الخاتم الفصيح محمد المهدي) الإمام: يعني الذي يؤم الناس؛ لا في الصلاة ولكن في القيادة، فيكون إماماً لهم أعظم كالخليفة، وهذا الإمام يقول: إنه (الخاتم) أي للأئمة؛ لأنه لا إمام بعده، فهو خاتم الأئمة، واسمه يقول: محمد ولقبه المهدي؛ لأن الذي هداه
الله عز وجل.
هذا المهدي يبعث في آخر الزمان إذا مُلئت الأرض ظلماً وجوراً، ونسي فيها الحق، وصار المظلوم لقمة للظالم، وانتشرت الفوضى، فحينئذٍ يبعث الله هذا الرجل إماماً مصلحاً للحق. والأحاديث الواردة فيه تنقسم إلى أربعة أقسام: صحيح وحسن وضعيف وموضوع.
وقد اختلف العلماء رحمهم الله في إثباته؛ فمنهم من قال: انه لا مهدي، وإن جميع الأحاديث الواردة في ذلك ضعيفة ولا تقوم بها حجة، وهذه مسألة غيبية مهمة، لا يمكن أن تترك أو لا يأتي بيانها إلا في أحاديث ضعيفة أو تبلغ درجة السن بتعدد طرقها، فلا عبرة بها.
ومنهم من قال: يجب أن نتبع الحق، فإذا جاءت السنة الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الرجل، ومنها ما يبلغ درجة الصحة، فإن الواجب القول به، وأنه يخرج رجل في آخر الزمان عند فساد الأمة ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، والله على كل شيء قدير.
ولكن هذا المهدي ليس مهدي الرافضة الذي ينتظرونه، فإنهم ينتظرون مهدياً يخرج من سرداب سامراء، يدعون أنه اختفى عن الحروف والفتن التي حصلت في زمن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وما بعدها، فاختفى في هذا السرداب، وأنه ما دام مغلوباً لا يستطيع أن ينفذ ما أراد فإنه مختف، ولهذا تجدهم في أدعيتهم يقولون: فرج الله كربته وأزال غربته، كربته: لأنه مكروب بهذا السرداب، غربته: لأنه غريب في هذا السرداب.
ويقال: إنهم كلما طلعت الشمس أرسلوا فارساً على فرس معه خبز وماء وعسل ولبن، يقف عند باب هذا السرداب يدعو مولاه المهدي لعله يخرج فيفطر على هذا الخبز والعسل والماء، فإذا أفطر فالفرس مهيأ معه السيف ومعه الرمح يعتم ويركب وتفتح له الدنيا بَاباً بَاباً، حتى يملك مشارق الأرض ومغاربها
هم ينتظرون ذلك، ولكن هذا ليس بصحيح، وكيف يمكن لشخص أن يبقى في هذا السرداب لا يعلم عنه؟ ! لا يأتيه أكل ولا شرب ولا شيء! كيف يبقى هذه المدة؟! ويعللون لذلك بقولهم: إن الله على كل شيء قدير، وهذا الرجل وليٌ مجاب الدعوة، ما في الكون حبة ولا ذَرة تتحرك أو تسكن إلا بعد علمه، وهو يعلم ما كان وما يكون وما سيكون لو كان كيف يكون، يعلم كل شيء وتعرض عليه جميع المقدرات اليومية.
وإن المتأمل في ذلك يجد أن هذه العقول عقول لا قيمة لها، وهذا داخل في قوله تعالى:(قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً)(الكهف: 103)(الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً)(الكهف: 104)(أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً)(الكهف: 105) .
أما المهدي الذي يتكلم عليه أهل السنة، فليس هو مهدي الرافضة الذي ينتظرونه، بل هذا المهدي خليفة يبعثه الله عز وجل في آخر الزمان، وهو ليس مختفياً بل يخلق في وقته، فيخرج ويملأ الأرض عدلاً بعد أن كانت ملئت ظلماً وجوراً.
قال رحمه الله: (محمد) يعني أن اسمه محمد، (المهدي) لقبه، فله اسم ولقب، الاسم محمد واللقب مهدي، وأصل مهدي في التصريف مهدوي على وزن مفعول، ولكن حدث فيها إعلال فصارت مهدي.
وقوله رحمه الله: (والمسيح) يعني: ومن أشراط الساعة الكبرى المسيح عيسى بن مريم، فهو من آيات الله عز وجل.
والمسيح عيسى بن مريم من آيات الله عز وجل ابتداءً وانتهاء، أما ابتداء فلأن الله خلقه من أم بلا أب، وأما انتهاء فلأنه الآن في السماء حي، حيث رفعه الله إليه، وينزل من السماء في آخر الزمان عند قيام الساعة؛ فيقتل المسيح الدجال عند باب اللد، واللد: قرية من قرى فلسطين، لذلك قال رحمه الله:
وأنه يقتل الدجال
…
بباب لُدٍ خل عن جدال
إذاً المسيح يقتل مسيحا؛ مسيح الهدى يقتل مسيح الضلالة.
فإذا قال قائل: كيف نجمع بين القول بأن عيسى ابن مريم حي، وبين قول الله تعالى:(إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيّ)(آل عمران: الآية55)) .
فالجواب على ذلك في قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ)(الأنعام: الآية60)، وقوله تعالى:(اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا)(الزمر: الآية42) ، وعلى هذا فيكون عيسى بن مريم توفاه الله، يعني قبضه وهو حي، كما صعد بمحمد إلى السماء وهو حي.
والدجال مشتق من الدجل، وهو التكذيب والتمويه، والكلام على الدجال يشمل المباحث الآتية:
المبحث الأول: الدجال بشر من بني آدم، ليس من الشياطين ولا من مواد
أخرى وهو كله عيب، حتى إنه اعور أعين التي يبصر بها، فهو أعور العين، كما بين ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، إذا فهو بشر سيئ أعور العين قبيح المنظر.
المبحث الثاني: ذكر من فتنته أنه يدعي أول ما يظهر أنه نبي، فإذا تابعه الناس على ما معه من التمويه ادعى أنه رب، ويؤيد على ذلك بما آتاه الله من الفتنة؛ حيث يأمر السماء فتمطر والأرض فتنبت، فيأتي إلى القوم يدعوهم إلى أنه الرب، فإذا أجابوه قال للسماء: أمطري، فتمطر السماء، وقال للأرض: انبتي، فتنبت الأرض، وتهتز رابية، فترجع مواشيهم إليهم أسبغ ما تكون ضروعاً، فتمتلئ ضروعها لبناً، وجلودها لحما وشحما، ويخصبون.
ويأتي إلى القوم يدعوهم فينكرونه ويكذبونه، فيأمر السماء فتقلع، والأرض فتجدب، فيصبحون ممحلين ليس عندهم شيء من المراعي، وترجع إليهم مواشيهم كأهزل ما تكون، وهذه فتنة عظيمة، ولا سيما لأهل البادية
فيبعث الله إليه شاباً فيواجهه، يدعوه إلى ما يدعوه إليه من أنه الرب، فيقول له الشاب: كذبت، ولكنك الدجال الذي اخبرنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين - أي قطعتين - ويمشي بين القطعتين تحقيقا للانفصال، ثم يأمره فيقول: قم، فتلتئم الجزلتان ويقوم سويا، ولكنه يقول: اشهد أنك المسيح الدجال الذي أخرنا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ما ازددت فيك إلا بصيرة، فيقتله ثانية ويمشي بين شقيه ثم يحييه، فإذا قال له: أنت المسيح الدجال، وأراد أن يقتله عجز عنه، فظهر بذلك عجزه أمام الناس (1) .
المبحث الثالث: يمكث المسيح الدجال في الأرض أربعين يوماً، اليوم
(1) رواه البخاري، كتاب فضائل المدينة، باب لا يدخل الدجال المدينة، رقم (1882) .
الأول كسنة، واليوم الثاني كشهر، واليوم الثالث كجمعة، واليوم الرابع كسائر الأيام.
ولما حدث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك لم يؤولوا الحديث ويقووا: إن اليوم الأول كسنة لشدته على الناس، والشدة تكون أيامها طويلة، هذا هو معنى الحديث المعقول، وليس معنى الحديث أن الشمس تتريث وتبقى لا تغيب إلا بعد سنة. فلم يقولوا هكذا، ولو أن هذا كان عند المتأخرين لسهل عليهم أن يقولوا بذلك، ولقالوا: هذا كناية عن شدة اليوم الأول، وأنه لشدته كأنه سنة، لكن الذين عندهم صفاء القلوب وقبول ما جاءت به الشريعة قالوا: يا رسول الله، كيف نصنع بصلاتنا في ذلك اليوم؟ قال:((اقدروا له قدره)) (1) ، فأخذوا الأمر مسلماً به بدون تأويل، وإن هذا التسليم التام للنص ليدعونا إلى التأمل والاعتبار.
وقد استفدنا نحن من سؤال الصحابة رضي الله عنهم وجزاهم الله عنا خيراً حلاً لمشكلة جدت الآن، وهي خاصة بأصحاب الدوائر القطبية، الذين يبقى اليوم عندهم أسبوعاً أو شهراً أو ستة أشهر، فعلى هؤلاء أن يقدروا له قدره، فحيث لا يوجد عندهم ليل ولا نهار، فيظلوا ستة أشهر في ليل، وستة أشهر في نهار، كان عليهم أن يقدروا لستة أشهر الليل صلاة ستة أشهر، وستة أشهر النهار صلاة ستة أشهر.
وقال بعض العلماء: عليهم أن يقدروا الصلاة باعتبار توقيت مكة؛ لأنها أم القرى، ومركز الأرض كما ثبت ذلك جيولوجيا.
(1) تقدم تخريجه ص 31
وقال آخرون: بل يقدرون ويعتدون بالزمن المعتدل في المنقطة الواقعة على خط الاستواء، الذي فيه النهار اثنا عشر ساعة والليل اثنا عشر ساعة.
وقال آخرون: عليهم أن يقتدوا بأقرب البلاد إليهم مما فيه ليل ونهار معتاد.
هذه أقوال ثلاثة وبكل منها قال بعض العلماء.
وأقرب ما يكون عندي إلى الصواب هو القول الأخير، وهو أن يعتبروا بأقرب البلاد إليهم؛ لأن الأعراض الأفقية عندهم أقرب إليهم من المكان البعيد عنهم.
والخلاصة أن الدجال يمكث في الأرض أربعين يوماً، يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كأسبوع، وسائر أيامه كأيامنا، فتكون أيامه باعتبار أيامنا سنة وشهرين وأسبوعين.
ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى
110-
وأمر يأجوج ومأجوج
…
اثبت فإنه حق كهدم الكعبة
111-
وأن منها آية الدخان
…
وانه يذهب بالقرآن
112-
طلوع شمس الأفق من دبور
…
كذات أجياد على المشهور
113-
وآخر الآيات حشر النار
…
كما أتى في محكم الأخبار
114-
فكلها صحت بها الأخبار
…
وسطرت آثارها الأخيار
ــ
الشرح
قال رحمه الله: (وأمر يأجوج ومأجوج اثبت) وهذا هو الشرط الرابع، فالأول: المهدي، والثاني: المسيح عيسى بن مريم، والثالث: الدجال، والرابع: يأجوج ومأجوج، لكن نزول عيسى بعد الدجال، فكان عليه أن يقدم الدجال أولاً ثم عيسى بن مريم؛ لأن عيسى بن مريم يقتل الدجال، وقد صح بذلك الحديث (1) .
أما أمر يأجوج ومأجوج فيقول: (اثبت وانه حق) ونحن نثبته لأنه حق جاء في القرآن، قال الله تبارك وتعالى:(حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ)(الأنبياء: 96)(وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ)(الأنبياء: الآية97)) .
ويأجوج ومأجوج بشر من بني آدم، لا يخرجون عن صفاتهم، ودليل ذلك أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((يقول الله تعالى يوم القيامة: يا آدم، فيقو: لبيك وسعديك، فيقول: أخرج من ذريتك بعثا إلى النار. قال: ربي، وما بعث النار؟
(1) رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب عيسى بن مريم، رقم (3448) .
قال من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون في النار وواحد في الجنة، فلما عظم ذلك على الصحابة وشق عليهم قالوا: يا رسول الله، أينا ذلك الواحد؟ فقال: أبشروا فإنكم في أمتين ما كانتا في شيء إلا كثرتاه يأجوج ومأجوج)) (1) . وهذا يدل على أنهم بشر من بني آدم؛ فلهم ما لبني آدم وعليهم ما عليهم.
فهم بشر يأكلون، ويشربون، ويرتدون، ويأتزرون.
وعلى ذلك فنحن لا نصدق ما اشتهر في بعض الإسرائيليات وعند العامة، وبعض كتب الوعظ من أنهم مختلفون في الخلقة، فبعضهم طويل جداً جداً يأخذ السمكة من قاع البحر ويشويها في قرص الشمس، ويقولون: إن بعضهم يفترش إحدى أذنيه ويلتحف بالأخرى، أي أن آذانهم كبيرة طويلة، وبعضهم قصير جداً يترادفون على ربع الصاع - وهو المد - فيظنونه بئراً، فيقول أعلاهم إذا نظر في هذا المد وليس فيه ماء: إن بئركم لا ماء فيه، وذلك لأنهم قصار. وكل هذا لا أصل له.
وسموا يأجوج ومأجوج من الأجيج، أي أجيج النار، والنار إذا اضطرمت اضطربت وصار لهبها يتداخل بعضه في بعض، وهم لكثرتهم هكذا، ولهذا يقول الله عز وجل لعيسى بن مريم:((إني قد أخرجت عباداً لا يدان لأحد بقتاهم)) (2) ، فهم كثيرون جداً، وإذا نظرت إليهم وجدتهم كأنهم قرية نمل أو ذر، هذا يجئ وهذا يروح، متداخلون مثل لهب النار يتداخل بعضه مع بعض.
وعندهم طيش وعجلة وعدوان على الخلق، بل وعلى الخالق؛ فهم
(1) رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة الحج، رقم (3169) .
(2)
تقدم تخريجه ص 264.
يجتمعون في قاعة كبيرة، ويأخذون بنشابهم التي يرمون بها فيصوبونها نحو السماء، ثم يطلقون السهام فترجع السهام مخضبة بدماء. امتحانا من الله، فيقول بعضهم لبعض: غلبنا أهلَ السماء، فهلم لنغلب أهل الأرض، فيغزون الناس، ويحصل فيهم فتنة عظيمة.
وجاء في حديث النواس بن سمعان الطويل، قال: يقول الله تعالى لعيسى بن مريم: إني قد بعثت عباداً لا يدان لأحد بقتالهم، فحرز عبادي إلى الطور فيحرزهم إلى الطور، ويبقون في الجبل حتى يلحقهم من المشقة ما شاء الله، ثم يرغب عيسى عليه الصلاة والسلام ومن معه إلى الله عز وجل في أن يهلك هؤلاء القوم، فيرسل الله عليهم النغف في أعناقهم أو في رقابهم، والنغف دودة كبيرة تقضي على المخ والنخاع الشوكي والشرايين العصبية، فيصبحون موتى ميتة رجل واحد، فيملؤون الأرض نتناً وزهماً ورائحة كريهة، فيرغب عيسى بن مريم إلى الله عز وجل أن يخلصهم من شر هذه الأجساد المنتنة، فيبعث الله تعالى طيورا كأعناق الإبل تأخذ الواحد منهم فترميه في البحر (1) .
فهؤلاء هم يأجوج ومأجوج، وهم من أشراط الساعة الكبيرة القريبة من قيامها.
فإن قال قائل: جاء في قصة ذي القرنين كما قال الله تعالى في سورة الكهف: (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً)(الكهف: 92)(حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لايَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَولاً)(الكهف: الآية93) ، وذلك لأن لغتهم كانت غريبة، (قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً
(1) تقدم تخريجه ص 264.
عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً) (الكهف: 94) ، وهذا يدل على أنهم كانوا موجودين. فكيف يكونون موجودين من عهد ذي القرنين، ويكون خروجهم من أشراط الساعة؟!
فالجواب أن نقول: إن الذي من أشراط الساعة ليس إيجادهم بل انبعاثهم وخروجهم على الناس، وعبثهم في الأرض وفسادهم فيها، أما وجودهم فهم موجودون من زمن ذي القرنين إلى الآن، لكنهم منفردون في محل؛ فإذا أراد الله خروجهم سلطهم وجعل لهم قدرة وقوة فينفذون من وراء هذه السدود.
وقوله رحمه الله: (فإنه حق) يعني ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا من أمور الغيب التي لا مجال للعقل فيها، ولهذا يجب علينا أن نسلم بها تسليما كاملاً، ونحن في الأمور الغيبية ظاهرية؛ نأخذ بظاهر النص، ولا نتعرض لشيء، ولا نسأل عن شيء، بل نقول: سمعنا وآمنا وصدقنا، ونعرض عن كل شيء من شأنه رد مثل هذه النصوص.
قال رحمه الله: (كهدم الكعبة) يعني كما أن هدم الكعبة حق ومن أشراط الساعة. فهذه الكعبة التي هي بيت الله، والتي بناها إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وحماها الله عز وجل من الأعداء حتى من أصحاب الفيل، الذين جاءوا بفيلهم وجنودهم من أجل هدم الكعبة، قال تعالى:(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ)(الفيل: 3)(تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ)(الفيل: 4)(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ)(الفيل: 5) لكن في آخر الزمان يسلط الله على هذه الكعبة رجلا من الحبشة قصير افحج - يعني الرجلين - فينتقضها حجراً حجرا، ومعه جنود يتناولون هذه الأحجار من رجل لآخر إلى البحر، أي أنهم من مكة إلى جدة، وهم صف
يتناولون أحجارها ويلقونها في البحر، ولا يسلط عليه أحد (1) ؛ لأن الله عز وجل قد قضى بنهاية هذه الكعبة
أما أصحاب الفيل فحماها الله منهم؛ لأنه لم يقض أجلها بعد، ولأن هناك رسولاً يبعث من أم القرى يدعو الناس إلى حج هذا البيت، فكان من حكمة الله عز وجل أن دافع الله عنه حتى بقي ولله الحمد.
ولا شك أن الله تعالى يسلط هذا الرجل الحبشي على بيت الله فينتقضه حجراً حجرا، وإنما يكون ذلك - والله اعلم - إذا عتى أهل مكة فيها، وأهانوا حرمة البيت، وذلك بالمعاصي؛ من شرك وزنى ولواط وشرب خمر وغير ذلك، فحينئذٍ لا يبقى مكان لهذا البيت المعظم بين هؤلاء الذين أهانوه، أما ما دام معظماً فإن لله سيحميه، لكن إذا أسقطت حرمته من أهل مكة؛ حينئذٍ لا يبقى له مكان بين هؤلاء القوم.
ونظيره ما ذكره المؤلف رحمه الله: (وأنه يذهب بالقرآن) وهذا أيضاً من أشراط الساعة، أنه يذهب بالقرآن؛ فينزع من صدور الرجال ويمحى من المصاحف، في ليلة واحدةٍ يقوم الناس والحفاظ وقد نسوا، والمصاحف بيضاء ليس فيها كتابة. وهذا هو أحد المعنيين في قول السلف: منه بدأ واليه يعود، أي يرجع في آخر الزمان، فلا يبقى مصاحف، ولا قرآن في الصدور.
فإذا قال قائل: كيف يكون ذلك وما هي الحكمة من ذلك؟
فالجواب عن هذا ما ذكرناه في الكعبة؛ حين يعرض الناس عن كتاب الله فلا يتلونه حق تلاوته، ولا يصدقون أخباره، ولا يعلمون بأحكامه، فيبقى
(1) رواه البخاري، كتاب الحج، باب هدم الكعبة، رقم (1595) .
هذا القرآن الكريم في قوم قد جفوه تماما، فلا يليق أن يبقى بينهم.
وعلى هذا يحمل حديث حذيفة في قوم لا يعرفون من الإسلام إلا لا إله إلا الله، وقد اندرس الإسلام (1) ، وهذا يكون بعد نزع القرآن من الصدور والمصاحف ولا يبقى شيء يعلم - نسأل الله العافية -، وهو من أشراط الساعة؛ لأن نزعه من الأمة دليل على قرب انتهائها.
ثم قال رحمه الله: (طلوع شمس الأفق) و (شمس الأفق) : أي الشمس، (من دَبور) بفتح الدال: أي من المغرب، والدبور هو المغرب، والقبول والصبا هي المشرق، كما جاء في الحديث:((نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدَبور)) (2) ؛ يعني الريح الغربية.
فالشمس الآن تشاهدها تطلع من المشرق، وتغرب في المغرب، منذ خلقها الله إلى اليوم، لكن في آخر الزمان تسجد تحت عرش الله عز وجل وتستأذن أن تخرج فلا يؤذن لها، فترجع من حيث جاءت، وكيف التصور لو أصبحنا والشمس قد خرجت من المغرب لحصل انزعاج الناس، ولعلموا أن هذا هو الحق المبين، فيتوبوا إلى الله، فيتوب العصاة ويؤمن الكفار، ولكن الله قال:(يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً)(الأنعام: الآية158)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم:((لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تخرج الشمس من مغربها)) (3) .
(1) رواه ابن ماجة، كتاب الفتن، باب ذهاب القرآن والعلم، رقم (4049) . والحاكم في المستدرك (4/520) وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.
(2)
رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم نصرت، رقم (1035) ، ومسلم، كتاب صلاة الاستسقاء، باب في ريح الصبا والدبور، رقم (900) .
(3)
رواه أبو داود، كتاب الجهاد، باب في الهجرة هل انقطعت، رقم (2479) .
إذاً خروجها من مغربها يعني نهاية الدنيا. فيختل سيرها وتخرب الأفلاك بإذن الله عز وجل؛ لأن اتجاه الأفلاك كله للغرب، فإذا انعكست القضية فمعنى ذلك أن نظام الكون قد تغير، وآن انقضاؤه.
فيكون طلوع الشمس من المغرب من أشراط الساعة الكبار.
وفي هذا الحديث دليل على أن الشمس هي التي تدور على الأرض، وأن بدورانها على الأرض يحصل اختلاف الليل والنهار، لقول الله تعالى:(وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ)(الكهف: الآية17)، أربعة أفعال كلها مسندة للشمس. الأول: طلعت، الثاني: تزاور، الثالث: غربت، الرابع: تقرضهم، وإذا أضيف الفعل إلى فاعله فالأصل أنه واقع منه حقيقة، ولهذا نقول: إنه يجب علينا أن نعتقد بأن الشمس هي التي تدور على الأرض؛ لأن هذا هو ظاهر القرآن وليس لنا إلا الظاهر.
نعم لو ثبت بطريق علمي لا إشكال فيه أن اختلاف الليل والنهار بدوران الأرض، فحينئذٍ نقول به، ونقول: إنه لا يعارض ظاهر القرآن لما سبق من أنه لا تعارض بين قطعيين، ولا بين قطعي وظني، وهو لا يعارض ظاهر القرآن لاحتمال أن يكون المراد بقوله: طلعت، في رؤية العين لا في حقيقة الواقع، ففي رؤية العين فهي التي تطلع، وهذا إذا ثبت قطعاً ثبوتاً يقينياً بأن الشمس لا تدور على الأرض، وان اختلاف الليل والنهار إنما هو بدوران الأرض فقط.
لكنه عندي - وأنا قاصر العلم في مسألة الفلك - أنه لم يثبت بعد.
والذين قالوا بذلك عللوا قولهم بأن الأرض جرم صغير، والكبير لا يدور
على الصغير؛ لأن الصغير يكون تابعاً لا متبوعاً. لكن هذا يرد بأنها ليست تابعة للأرض، بل تدور من أفق بعيد جداً حول الأرض، والله سبحانه وتعالى سخرها لأجل مصلحة العباد، والمسألة ليست مسألة كبير وصغير حتى نقول لا سلطان للأرض على الشمس، أبدا، بل الكل مسخر بأمر الله، سخر الله هذه الشمس العظيمة أن تدور على الأرض من أجل مصلحة الخلق.
فإذا قال قائل: فما تفسير اختلاف الفصول من برد إلى حر إلى وسط؟
فالجواب: أن تفسير ذلك سهل، فإن نفس الشمس لها حركة تقرب من الشمال وتقرب من الجنوب، فإذا قربت من الشمال توسطت على الرؤوس، فاشتدت حرارتها؛ لأن الحرارة إذا كانت عمودية تكون أشد مما إذا كانت جانبية، والمسألة واضحة ولله الحمد.
لكن لو قال لنا علماء الفلك: إننا متيقنون من هذا، فإننا نقول: إن تيقنكم لكم، ولا نقول إنكم كفرتم بذلك؛ لأن المسألة مجرد ظاهر القرآن، فإذا كنتم متيقنين لهذا، فأنتم على يقينكم، ولا نقول: أزيلوا ذلك اليقين، فإن الإمام إذا كان في الصلاة وتيقن، وسبح به كل الذين وراءه، فلا يجوز أن يرجع إلى قولهم وهو يتيقن خلافه، فهؤلاء العلماء كذلك.
قوه (كذات أجياد على المشهور) وهذه هي العلامة التاسعة من علامات الساعة، وإن شئت فقل: الشرط التاسع من أشراط الساعة، وأجياد مكان معروف في مكة بهذا الاسم إلى اليوم، وهي الدابة التي تخرج من ذاك المحل على المشهور؛ تخرج على الناس ويكون لها رعب شديد، وتلاحق أناس فمن كان كافراً وسمته بسمات الكفر، ومن كان مؤمناً وسمته بسمات الإيمان، وهذه هي الدابة المذكورة في قوله تعالى: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ
دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآياتِنَا لا يُوقِنُونَ) (النمل: 82) ، هذا ما ذهب إليه كثير من أهل العلم، وهو المشهور كما قال المؤلف.
وقال بعض العلماء: إن الدابة أمر مبهم صحت بها الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ولكن لم تبين (1) ، وما ورد من صفاتها وأنها تخرج من أجياد أو من الصفا أو من غيرهما أحاديث ضعيفة وليست بالأحاديث التي تبنى عليها العقيدة، وحسبنا أن نؤمن بما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: الدابة فقط، وأما الصفات الواردة فيها وليست بصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يلزمنا اعتقادها؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
أما آخر شيء من هذه الأشراط فيقول رحمه الله: (آخر الآيات حشر النار) حشر مضاف والنار مضاف إليه، من باب إضافة المصدر إلى فاعله، يعني: حشر النار الناس، وهذه نار تخرج من عدن تسوق الناس إلى الشام أي إلى المحشر، وقد ورد أنها تمشي مع الناس تسير بسيرهم، وتقيل بمقيلهم، وتبيت بمبيتهم حتى ينجفل الناس كلهم إلى المحشر (2) ، وحينئذٍ ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون، فهذه آخر الآيات كما قال المؤلف رحمه الله تعالى.
أما آية الدخان فقد اختلف العلماء فيها: هل هي آية مضت أو هي آية مقبلة؟ فمنهم من قال: إنها آية مضت، وهي المشار إليها في قوله تعالى:
(1) رواه مسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب في خروج الدجال ومكثه في الأرض ونزول عيسى، رقم (2941) .
(2)
رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب كيف الحشر، رقم (6522) ، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها
…
، باب فناء الدنيا وبيان الحشر
…
، رقم (5861) .
(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ)(الدخان: 10) ، وأن المراد بذلك ما أصاب قريشاً من الجدب والقحط حتى أصيبوا بالجهد العظيم، وكان الإنسان منهم ينظر إلى السماء فيظن أنها دخان من شدة تأثير الجوع عليه.
ومنهم من قال: بل هو أمر مستقبل، وهو أن الله سبحانه وتعالى يبعث عند قيام الساعة دخاناً عظيما يملأ الأجواء ويغشى الناس كلهم.
والأقرب للصواب أنه دخان يرسله الله عز وجل عند قيام الساعة فيغشى الناس كلهم، والله أعلم بكيفية هذا الدخان، فنحن إنما نعرف انه دخان، لكن لا نعرف كيف يأتي الناس ولا من أين يأتي، فهذا أمره إلى الله عز وجل.
والمقصود من هذه الأشراط هو إنذار الناس بقرب قيام الساعة، حتى يستعدوا لها ويعملوا لها.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (فكلها صحت بها الأخبار) كلها: يعني كل هذه الأشراط العشرة صحت بها الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم. (وسطرت آثارها الأخيار) سطرت: يعني كتبت، وسميت الكتابة تسطيراً لأنها تكتب بأسطر، والأخيار: جمع خير، فظاهر كلام المؤلف انه حتى الدابة التي تخرج من أجياد قد صحت بها الأخبار، ولكن الأمر خلاف ذلك، اللهم إلا أن تكون صحت عنده، فإنه قد يصح الحديث عند شخص ولا يصح عند آخرين.
ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:
115-
واجزم بأمر البعث والنشور
…
والحشر جزماً بعد نفخ الصور
116-
كذا وقوف الخلق للحساب
…
والصحف والميزان للثواب
ــ
الشرح
قال رحمه الله: (واجزم بأمر البعث والنشور) وهذا يوم القيامة، والبعث: أي الإخراج، والنشور: أي النشر والتفريق والتوزيع، ثم قال:(والحشر جزماً بعد نفخ الصور) ، وذلك أن الله سبحانه وتعالى يأمر اسرافيل وهو أحد الملائكة الموكلين بحمل العرش أن ينفخ في الصور، والصور وصف بأنه قرن عظيم واسع؛ سعته كسعة السماء والأرض، تودع فيه الأرواح عند نفخه، فإذا نفخ فيه أولاً فزع الناس، ثم صعقوا وهلكوا كلهم، قال الله تعالى (وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ) (النمل: 87)) ، وقال تعالى:(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ)(الزمر: 68) .
وقد اختلف العلماء رحمهم الله هل النفخ يكون ثلاث مرات؛ نفخ الفزع، ونفخ الصعق، ونفخ البعث، أو هو مرتان فقط، وأن نفخ الفزع والصعق واحد؛ ينفخ أولاً فيفزع الناس ثم يصعقون، وينفخ ثانياً فيقومون من قبورهم لرب العالمين؟ وهذا الأخير هو الأقرب للصواب، والأمر في هذا قريب.
حتى لو قال قائل بأنه ينفخ أولاً فيفزع الناس، ثم ينفخ فيموتون، لم يكن ذلك متناقضاً، لكن الأقرب أنهما نفختان فقط.
وقوله (كذا وقوف الخلق للحساب) كذا وقوف الخلق: يعني المخلوقين، فالخلق مصدر أريد به اسم المفعول، وقوفهم للحساب: أي ليحاسبهم الله عز وجل.
والكلام في الحساب في أمور، منها:
أولاً: أن الحساب يتنوع: فالحساب ينقسم إلى حساب للمؤمن، وحساب للكافر:
أما حساب المؤمن: فإن الله تعالى يخلو به وحده، ويقرره بذنوبه حتى يقر ويعترف بها، ثم يقول الله له: قد سترتها عليك في الدنيا وأنا اغفرها لك اليوم، فينجو.
وأما حساب الكافر: فليست كيفيته كحساب المؤمن، فإنه تحصى أعماله وتبين، ثم يخزى بها والعياذ بالله، ويقال:(هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ)(هود: الآية18)) .
فالمؤمن حسابه ستر، وبينه وبين ربه، أما الكافر فحسابه كشف يفضح به بين الناس. نسأل الله أن يستر علينا.
ثانياً: أن الحساب ليس عاماً: بل إن من الناس من ينجو من الحساب فلا يحاسب، بل ويدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، ومنهم سبعون ألفاً كما هو ثابت في الصحيحين (1) عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روى الإمام أحمد في مسنده
(1) صحيح البخاري، كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره
…
، رقم (5705) ، ومسلم في الإيمان، باب ذكر الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة، رقم (216) .
بإسناد جيد أن مع كل واحد منهم سبعين ألفاً؛ فعددهم حاصب ضرب السبعين ألفاً في سبعين ألفاً، وهم الذين لا يسترقون، ولا يكتوون، ولا يتطيرون، وعلى ربهم يتوكلون.
فالحساب إذاً يتنوع، وهو ليس عاماً لكل أحد.
قوله: (والصحف) يعني الصحف التي كتبت فيها أعمال العبد، وهي التي كتبتها الملائكة في الدنيا، قال الله تعالى:(كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ)(الانفطار: 9)(وإِنَّ عَلَيكُمْ لَحَافِظِين)(الانفطار: 10)(كِرَاماً كَاتِبِينَ)(الانفطار: 11)، وقال تعالى:(وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً)(الإسراء: 13)(اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)(الإسراء: 14) .
فهذه الصحف قد كتبت من قبل وسجلت، فتنشر يوم القيامة، ويقال للرجل إقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً، وقد قال بعض السلف: والله لقد أنصفك من جعلك حسيباً على نفسك.
وهذه الصحف تنشر وتتطاير، فينقسم الناس فيها إلى قسمين: قسم يأخذها باليمين؛ وقسم يأخذها بالشمال، وفي آية ثالثة من وراء الظهر، ويحتمل أن تكون هذه صفة ثالثة، ويحتمل أن تكون صفة في صفة الشمال، وهو الصنف الثاني، وهذا هو الأقرب، والأول محتمل.
ثم إن الآخذ لكتابه بيمينه يفتخر ويقول للناس كما قال تعالى (هَاؤُمُ اقْرَأوا كِتَابِيَهْ)(الحاقة: الآية19)(إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ)(الحاقة: 20) .، (وَأَمَّا مَنْ أُوتَي كَتَابَهُ وَرَاءَ ظَهرِه فَسَوف يَدْعُو ثُبُوراً وَيَصْلَى سَعِيراً) (الانشقاق: الآية 10-11) ويقول كما قال تعالى: (ُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ)(الحاقة: الآية25)(وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ)(الحاقة: 26)(يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ)
(الحاقة: 27)(مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ)(الحاقة: 28)(هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ)(الحاقة: 29) وهذا كما نشاهده في الدنيا حين يعطى إنسان نتيجة الاختبار، فإن كان ناجحاً فإنه يرفعها ويقول: انظروا. انظروا. وإن كان راسباً خرج مُنسَلاً.
فالإنسان المؤمن يفرح ويقول للناس: هاؤم اقرؤوا كتابي، ويبين السبب؛ إني ظننت إني ملاق حسابي، يعني أيقنت ذلك والصحف هي الكتب التي كتبت فيها أعمال العباد، بحيث يأخذها الناس باليمين وبالشمال أو من وراء الظهر، والذي من وراء الظهر هو الشمال، لكنه والعياذ بالله تخلع يده إلى الخلف كما جعل كتاب الله وراء ظهره.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (والصحف والميزان للثواب) فنحن نؤمن أيضاً بالميزان للثواب، والميزان ما يعرف به وزن الشيء، وقد اختلفت الأمة هل هذا الميزان حسي أم هو معنوي؟ فذهبت المعتزلة إلى أنه معنوي، وأن الميزان المذكور في القرآن والوزن المذكور في القرآن معناه إقامة العدل، وليس ثمة شيءٌ محسوس يوزن به، وعللوا ذلك بأن الأعمال أوصاف ومعانٍ، والأوصاف والمعاني لا توزن، وإنما الوزن يكون للأجسام، أما الأوصاف والمعاني فلا يمكن أن توزن.
فحكموا العقل، وقدموه على النقل وعلى الشرع، والنصوص تدل على أن هذا الميزان ميزان حسي، وحديث صاحب البطاقة (1) واضح فيه، وكذلك
(1) رواه الترمذي، كتاب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله
…
، رقم (2639) ، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ما يوجب من رحمة الله يوم القيامة، رقم (4300) .
حديث ابن مسعود رضي الله عنه لما خرج ذات يوم في ريح شديدة، وكان دقيق الساقين، فجعلت الريح تكفئه ويميل منها؛ لأنه نحيف ليس كبير الجسم، فضحك منه بعض الصحابة، فقال صلى الله عليه وسلم:((إن ساقيه في الميزان أثقل من أُحد)) (1) ، وهذا يدل على أن الوزن وزن حسي حقيقي.
وأما قولهم: إن الأعمال أوصاف ومعان فلا توزن، فنقول رداً على ذلك: إن الله على كل شيء قدير، قد يجعل الله المعاني أجساماً، فها هو الموت معنى من المعاني ويؤتى به يوم القيامة على صورة كبش، ويوقف بين الجنة والنار ويقال لأهل النار وأهل الجنة: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، فيذبح بين الجنة والنار، ويقال لأهل الجنة: خلود فلا موت، ولأهل النار: خلود فلا موت (2) .
فالله عز وجل قادر على أن يجعل الأوصاف والمعاني أجساماً، ولا يجوز أن نرد الأدلة بمجرد ما تتحير فيه العقول، بل إذا تحيرت العقول فأعلم أن القول فوق العقول، ولا يمكن أن تأتي النصوص بما يحيله العقل أبدا، إذا فالصحيح أن الميزان حسي لا معنوي.
واختلف العلماء في الذي يوزن هل هو العمل أو صاحب العمل أو كتاب العمل؟ وفي هذا للعلماء ثلاثة أقوال:
قال بعض العلماء: إن الذي يوزن هو العمل، واستدل هؤلاء بقوله
(1) رواه الإمام احمد في مسنده (1/421) .
(2)
رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وأنذرهم يوم الأزفة
…
، رقم (4730) ، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها
…
، رقم (2849) .
تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ)(الزلزلة: 7)(وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ)(الزلزلة: 8)، وبقوله تعالى:(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ)(الأنبياء: 47)، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم:(كلمتان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم)) (1) . فقال: ((ثقيلتان في الميزان)) .
وهذه النصوص واضحة في أن الذي يوزن العمل، ويبقى رد الإشكال الذي أورده المعتزلة وردوا به النصوص؛ وهو أن الأعمال أوصاف ومعان. فكيف توزن؟ ونقول: إن الله قادر على أن يجعلها أجساماً فتوزن.
القول الثاني: أن الذي يوزن صحائف العمل، وأن هذه الصحائف تثقل وتخف بحسب ما فيها من الأعمال، واستدلوا لهذا بحديث صاحب البطاقة الذي يُمد له سجل من المعاصي، ثم يؤتى ببطاقة صغيرة فيها كلمة الإخلاص، فيقول هذا الرجل: وما تصنع هذه البطاقة في هذه السجلات؟ فيقال: إنك لا تظلم، ثم توضع البطاقة في كفة، والسجلات في كفة، فترجع بهن البطاقة (2) ، وهذا يدل على أن الذي يوزن صحائف العمل.
القول الثالث: أن الذي يوزن هو صاحب العمل، واستدل القائلون بذلك بقوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ
(1) رواه البخاري، كتاب الإيمان والنذور، باب إذا قال والله لا أتكلم اليوم فصلى....، رقم (6682) ، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء
…
، باب فصل التهليل والتسبيح
…
، رقم (2694) .
(2)
رواه احمد في المسند (2/213) ، والترمذي، كتاب الإيمان، باب ما جاء فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله حديث رقم (2639) وقال: حديث حسن غريب، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة، حديث رقم (4300) .
لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً) (الكهف: 105) قال: فلا نقيم لهم، ولم يقل لأعمالهم، ولا لصحائف أعمالهم، واستدلوا أيضا بحديث ابن مسعود الذي ذكرناه آنفا.
فإذا قال قائل: لا شك أن الاستدلال بحديث ابن مسعود وحديث صاحب البطاقة لا يقاوم الأدلة الدالة من القرآن والسنة على أن الذي يوزن هو العمل، ولهذا صرح شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية فقال: تنصب الموازين فتوزن بها أعمال العباد (1) ، وهذا هو الحق، لكن حديث البطاقة قد يقال: إن هذا خاص به وبأمثاله من أجل أن يتبين له فضل الله عز وجل عليه، وقد يقال: إنه لما وزنت الصحيفة وثقلت بحسب العمل، فإن الوزن حقيقة يكون للعمل.
وأما حديث ابن مسعود والآية فلا تدل على ذلك؛ لأن معنى لا نقيم لهم وزناً يعني لا نقيم لهم قيمة، كما نقول: فلان ليس له عندي وزن؛ أي لا قيمة له ولا اعتبار، وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يبين أن خفة الجسم لا تدل على قلة العمل، أو على خفته، وليس بذاك الصريح. وعلى ذلك فالمعتمد أن الذي توزن هي الأعمال نفسها.
بقي البحث في: هل الميزان واحد توزن به الأعمال كلها، أو أن لكل أمة ميزاناً؛ حيث إن الأمم تتفاضل في الثواب، أو أن لكل شخص ميزاناً؟
في هذا أقوال للعلماء؛ فمنهم من قال: لكل شخص ميزان، ومنهم من قال: لكل أمة ميزان، ومنهم من قال: الميزان واحد.
ولنستعرض الآيات الدالة على الميزان وما تدل عليه، قال تعالى (وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) (الأعراف: 8) ، وهذا
(1) انظر العقيدة الواسطية ص 93.
الدليل لا يدل على تعدد، ولا على إفراد، لأنه قال: الوزن.
ولكن هناك أدلة تذكر الميزان مثل قوله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ)(الأنبياء: الآية47) ، والموازين هنا جمع.
وفي حديث: ((كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان)) ، والميزان هنا مفرد، فمن قالوا بما يقتضيه الجمع قالوا بأن المراد بالميزان في قوله:((ثقيلتان في الميزان)) الجنس، ومن قالوا بأن الميزان واحد، قالوا: إن الجمع في الآية باعتبار الموزون.
والذي يظهر لي - والله أعلم - إن الموازين متعددة بحسب الأمم؛ لأن الأمم تتفاضل في الأعمال، وإذا كانت تتفاضل في الأعمال لزم أن تكون موازين أعمالها مختلفة.
ولهذا كانت هذه الأمة - ولله الحمد - توفي سبعين أمة، وهي أكرمها عند الله عز وجل، وهي اقلها زمنا وأكثرها أجرا، فزمنها من العصر إلى الغروب، ويعطون أجرهم مرتين. إذاً لا يمكن أن يكون ميزان هؤلاء كميزان الآخرين.
ثم إن رجحان الحسنات معناه أن تنزل الكفة، لا أن ترتفع الكفة، فهي لما تثقل تنزل، وفي حديث البطاقة طاشت السجلات أي ارتفعت، وعلى هذا يكون الوزن من جهة نزول الكفة إذا ثقلت كالوزن في الدنيا.
وأما من قال: إن رجحان الحسنات يكون إذا ارتفعت، وأن هذا هو الثقل، فهذا غير صحيح، وهو خلاف المحسوس، نسأل الله أن يثقل موازيننا يوم القيامة
ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى
117-
كذا الصراط ثم حوض المصطفى
…
فيا هنا لمن به نال الشفا
118-
عنه يذاد المفتري كما ورد
…
ومن نحا سب السلامة لم يرد
119-
فكن مطيعا واقف أهل الطاعة
…
في الحوض والكوثر والشفاعة
120-
فإنها ثابتة للمصطفى
…
كغيره من كل أرباب الوفا
121-
من عالم كالرسل والأبرار
…
سوى التي خصت بذي الانوار
ــ
الشرح
قال المؤلف رحمه الله: (كذا الصراط) أي كذا أجزم بالصراط، والصراط في الأصل هو الطريق الواسع المستقيم، وسمي صراطاً لأن الناس يسلكونه بسرعة لكونه واسعاً مستقيماً، ومنه ما يسمى عندنا الآن بالخط السريع؛ لأنه واسعٌ ومستقيم، قالوا: وأصل ذلك من قولهم زرط اللقمة إذا ابتلعها بسرعة، فلا يسمى الطريق صراطاً إلا إذا كان واسعاً مستقيماً ولهذا أن الصراط الذي يسأل المرء ربه هدايته مستقيماً، (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) (الفاتحة: 6)) .
والصراط جسر يوضع على جهنم يصعد منه المؤمنون من أرض المحشر إلى الجنة، ولا يصعده إلا المؤمنون، أما الكفار فقد سيقوا إلى جهنم وألقوا فيها، لكن المؤمنون هم الذي يصعدون هذا الصراط.
واختلف العلماء في هذا الصراط: هل هو صراط واسع يسع أمماً عظيمة أو هو صراط ضيق؟
وذلك على قولين فمنهم من قال: إنه أدق من الشعر، وأحد من
السيف، وأحر من الجمر، فلما قيل: إن هذا لا يمكن العبور عليه، أجابوا بأن الأمور الآخرة لا تقاس بالأمور الدنيا، وأن الله على كل شيء قدير، وأن الله جعله بهذه الصفة لمشقة العبور منه كمشقة الصراط في الدنيا على النفوس، لأن الجنة حفت بالمكاره.
ومنهم من قال: بل إنه صراط واسع، فيه مزلة ومدحضة، وعليه الشوك كالسعدان، لكن لا يعلم عظمها إلا الله سبحانه وتعالى، وأياً كان فهو مخيف غاية الخوف، ولهذا كان من دعاء الرسل - وهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم - يومئذٍ ((اللهم سلم اللهم سلم)) (1) ، كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ويعبر الناس الصراط على قدر أعمالهم في الدنيا، منهم من يعبر كلمح البصر، ومنهم من يعبر كالبرق، ومنهم من يعبر كالريح، ومنهم من يعبر كالخيل الجواد أو الجياد، ومنهم من يعبر كركاب الإبل، ومنهم من يمشي، ومنهم من يزحف ومنهم من يكردس في النار، كلهم على حسب أعمالهم، فالمتقبل للدين في الدنيا المنشرح به صدراً المسابق إليه يكون عبوره على الصراط بسرعة، والمتباطئ في دينه يكون عبوره على الصراط ببطء، والمسرف على نفسه بفعل المعاصي ربما يلقى في جهنم يطهر بما يصيبه من العذاب ثم يخرج؛ إما بشفاعة وإما بانتهاء عقوبته؛ وإما بفضل الله عليه ورحمته.
وخلاصة ذلك أنه يجب علينا أن نؤمن بأنه يوضع على جهنم صراط، وهو صراط خطر مخيف يدعو الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أن يسلمهم الله تعالى منه، وأنه يمر الناس على هذا الصراط على قدر أعمالهم، وهذا المرور حسب تقبلهم لدين الله في الدنيا، وإن من الناس من يعبر الصراط
(1) تقدم تخريجه ص 52.
ومنهم من يكردس في النار، ثم يخرجون منها إلى أن يصلوا إلى الجنة.
فإذا وصلوا إلى الجنة لم يجدوها مفتوحة الأبواب، على خلاف أهل النار، فإنهم إذا وصلوا إلى النار فتحت الأبواب ليسوءهم العذاب والعياذ بالله، أما الجنة فلا تكون مفتوحة الأبواب، وإنما يوقفون هناك على قنطرة، وهي الجسر الصغير فيقتص لبعضهم من بعض اقتصاصاً غير الاقتصاص الأول الذي في عرصات القيامة، فيقتص لبعضهم من بعض اقتصاصاً يزيل ما في صدورهم من الغل والحقد؛ لأن الاقتصاص الذي في عرصات القيامة اقتصاص تؤخذ فيه الحقوق، وربما يبقى في النفوس ما يبقى، لكن هذا الأخير اقتصاص للتطهير والتهذيب والتنقية، حتى يدخلوا الجنة وما في صدورهم من غل.
وبهذا نجمع بين النصوص الواردة بأن هنا اقتصاصين، الاقتصاص الأول في العرصات ويقصد منه أخذ الحقوق، وهذا الاقتصاص الأخير والمقصود به التنقية والتطهير من الغل.
فإن قال قائل: أفلا يحصل ذلك بأخذ الحقوق؟ قلنا: لا، فلو أن رجلاً اعتدى عليك في الدنيا ثم أخذت حقك منه، فإنه قد يزول ما في قلبك عليه وقد لا يزول، فإحتمال أنه لا يزول وارد، لكن إذا هذبوا ونقوا بعد عبور الصراط ودخلوا الجنة على إكمال حال، قال تعالى:(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)(الحجر: 47) .
ثم قال: (ثم حوض المصطفى) يعني ثم نجزم بحوض المصطفى، والحوض مجتمع الماء، والمصطفى مأخوذ من الصفوة، واصله المصتفى لكن قلبت التاء
طاء لعِلة تصريفية، والمصطفى يراد به هنا محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كان الرسل كلهم مصطفين؛ لأنه قد اصطفاهم الله تعالى، كما قال الله تعالى:(وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ)(صّ: 47)) ، لكن المراد بالمصطفى هنا محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن نؤمن بهذا الحوض على الوجوه التالية:
أولاً: نؤمن بوجود هذا الحوض، وأنه سيكون حوضاً للرسول صلى الله عليه وسلم في عرصات القيامة يشرب الناس منه؛ لأن الناس في هذا المكان في غاية ما يكونون حاجة للماء، فيشربون منه
ثانياً: نؤمن بمادة هذا الحوض، وأن هذا الحوض يأتي من الكوثر، والكوثر نهر أعطاه الله تعالى نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم في الجنة، كما قال تعالى:(إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ)(الكوثر: 1)) يصب منه ميزابان في هذا الحوض، ولهذا ترده الأمة كلها وهو باق؛ لأنه يصب عليه هذان الميزابان.
ثالثاً: ماء هذا الحوض جاء في السنة أنه أشد بياضاً من اللبن، وأنه أحلى من العسل، وأنه أطيب من رائحة المسك (1) ، فهو طيب في لونه، طيب في مذاقه، طيب في رائحته، فالعين والفم والأنف تعشقه؛ العين تلتذ به برؤية هذا الحوض الصافي الذي هو أشد بياضا من اللبن، والأنف تلتذ برائحته التي هي أطيب من ريح المسك، والفم يلتذ بمذاقه الذي هو أحلى من العسل، فما أحسن الطعم والرائحة والمنظر
رابعاً: يشرب الناس منه بآنية لا بأكفهم، وهذه الآنية جاء في الحديث
(1) رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا
…
، رقم (2300) .
الصحيح ((أنها عدد نجوم السماء)) (1) ، وجاء في لفظ آخر ((أنها كنجوم السماء)) (2) ، ووصفها بأنها كنجوم السماء أعم من وصفها بأنها عدد نجوم السماء؛ لأن الوصف الأول يشمل وصفها بأنها كنجوم السماء عددا وكنجوم السماء جمالاً ولمعاناً، فآنيته إذاً كثيرة لا يحصيها إلا الذي خلقها عز وجل، وكذلك لها لمعان ونور يتلألأ من هذه الآنية.
خامساً: يرد هذا الحوض المؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم، أما غير المؤمن فلا يرده، فلا يرده المنافق، ولا يرده الكافر الخالص، بل أولئك يذهبون إلى النار، تتمثل لهم كأنها سراب فيردونها عطاشا، وإنهم إذا رأوا هذا السراب يفرحون ويقولون: الآن نروى، فإذا وصلوا إليها والعياذ بالله ألقوا فيها، أما المؤمنون فيردون هذا الحوض ويشربون منه - أسأل الله أن يروينا منه.
سادساً: أن من شرب منه فلن يظمأ بعده أبداً، وقد سبق أنه يكون في عرصات القيامة، ولكن قد ورد في الحديث أنهم يشربون بعد الصراط، أي بعد أن يعبروا على الصراط، وليس في ذلك تعارض؛ لأنه قد ثبت أن من شرب منهم شربة واحدة لن يظمأ بعدها أبداً، فيكون شربهم بعد الصراط إما لظمأ يسير ليس فيه مشقة؛ لأنهم عبروا النار وهي حارة، أو أنهم يشربون منه تلذذاً لا عطشاً.
وعلى ذلك فيكون في عرصات القيامة، وكذلك بعد العبور على الصراط، لكن الأهم هو الذي يكون في عرصات القيامة؛ لأن الناس ينالهم
(1) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب في الحوض، رقم (6580) ، ومسلم، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا، رقم (2300) .
(2)
رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب في الحوض، رقم (6579) ، ومسلم، كتاب الفضائل، باب إثبات حوض نبينا، رقم (2392) .
عطش وشدة عظيمة حيث تدنوا الشمس منهم مقدار ميل، فيعطشون ويحتاجون إلى الشرب من هذا الحوض، فإياك إياك أن تحرم الورود على هذا الحوض، وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم الأنصار الحوض إذا صبروا على جور السلطان، فقال:((إنكم ستلقون بعدي أثرة)) أي استئثارا عليكم، ((فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)) (1) .
لذلك يرجى لمن صبر على السلطان وعلى جوره أن ينال مثل هذا الوعد من النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هناك قاعدة تقول: أن الأحكام الشرعية والجزائية لا تتعلق بالشخص بعينه ولكن بوصفه وعمله، والعمل وصف، فليس هناك حكم شرعي أو جزائي معلق بشخص بعينه ولكن بوصفه بعمله، وهذا هو مقتضى عدل الله عز وجل؛ لأن الله ليس بينه وبين أحد محاباة حتى نقول: يمكن أن يحابي أحداً لشخصه، فالإنسان قد يحابي شخصاً معيناً في حكم يختص به لشخصه، لقرابته أو لصداقته، لكن الرب عز وجل (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) (الإخلاص: 3) (وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ)(الإخلاص: 4) ، لا يعطي أحداً حكماً خاصاً لشخصه أبدا.
فإن قال قائل: بل قد ورد التخصيص في الحكم الشرعي لعين الشخص كما في حديث أبي بردة بن نيار رضي الله عنه، فإنه لما كان يوم عيد الأضحى أحب أن يذبح أضحيته مبكراً من أجل أن يأكل هو وأهل بيته، فذبح أضحيته قبل صلاة العيد، فلما جاء وصلى العيد وخطب النبي صلى الله عليه وسلم الخطبة، وقال: ((من ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله، وليس من النسك في
(1) رواه البخاري، كتاب المساقاة، باب القطائع، رقم (2370) ، ومسلم، كتاب الاجارة، باب الأمر بالصبر عند ظلم الولاة
…
، رقم (1845) .
شيء)) (1) .
وأبو بردة رضي الله عنه مثل غيره من الصحابة صرحاء، لما سمع ذلك قال: يا رسول الله، إني نسكت قبل أن أصلي، يعني وأحببت أن آكل أنا وأهلي، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:((شاتك شاة لحم)) ، أي أنها غير مجزئة، قال: يا رسول الله، أن عندنا عناقا - أنثى من المعز الصغيرة - هي أحب إلينا من شاتين. أفتجزئ عني؟ يعني أن اذبحها الآن، قال:((نعم، ولن تجزئ عن أحد بعدك)) (2) .
وهذا الحديث يدل على أن الحكم خصص بابي بردة رضي الله عنه بعينه، إذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم لن تجزئ عن أحد بعدك، فأخذ بذلك بعض العلماء، وقال: إن هذا تخصيص في الحكم الشرعي بعين الرجل، لكن أبى ذلك الحبر ابن تيمية رحمه الله (3)، وقال: المراد بقوله: ((بعدك)) : أي بعد حالك، يعني لن تجزئ عن أحد حاله ليست كحالك، مثلما تقول للرجل: ما بعدك رجل يوفي بالعهد، فالمعنى ما بعد وفائك وفاء بالعهد؛ لأنه وفاء كامل، وإلا سيوفي آخر بعده بالزمن
وما ذهب إليه شيخ الإسلام هو الحق، فإنه لو جاءنا رجل مثل أبي بردة وذبح شاته قبل الصلاة جاهلاً، ثم قال لنا مثل ما قال أبو بردة للنبي صلى الله عليه وسلم: عندي عناق صغيرة اذبحها بدلها؟ قلنا: نعم؛ لأنه جاهل.
(1) رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب الخطبة بعد العيد، رقم (965) ، ومسلم، كتاب الأضاحي، باب وقتها، رقم (1961) .
(2)
رواه أبو داود، كتاب الضحايا، باب ما يجوز من السنن في الضحايا، رقم (3800) .
(3)
انظر مجموع الفتاوى 17/126-127.
فإذا قال قائل: أليس الله خص نبيه بخصائص كما قال تعالى: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)(الأحزاب: الآية50)) ؟
فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم خُصَّ بذلك؛ لأنه رسول الله، فهو خص بوصفه لا بعينه، ولولا أنه رسول لكان رجلاً من بني هاشم.
إذاً فالقاعدة عندنا أن الأحكام الشرعية والجزائية لا تخصص بالأشخاص بأعيانهم، ولكن بالأشخاص بأوصافهم، وهذا الاستطراد أوجبه قول الرسول صلى الله عليه وسلم للأنصار:((إنكم ستلقون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض)) (1) ، وعلى ذلك فيرجى لمن صبر على جور الأئمة وأثرتهم أن يرد الحوض على النبي صلى الله عليه وسلم.
وقلنا: يرجى، ولم نقل: يجزم؛ لأنه ربما يقول قائل: إنه لن يتصف أحد بأوصاف الأنصار، حتى لو صبر فهو ليس كالأنصار، ولكن نقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم علق الحكم بالصبر، فيرجى لمن صبر أن يكون كالأنصار في هذا.
سابعاً: هل هذا الحوض خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ وهل يوجد في يوم القيامة أحواض أخرى لغير الرسول صلى الله عليه وسلم؟
اختلف في ذلك أهل العلم، فمنهم من قال: إنه لا حوض إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو الحوض الذي تواترت فيه الأدلة؛ ولأن رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم عامة لكل الخلق فيكون التابعون له أكثر فيحتاجون إلى ماء يروي ظمأهم.
وقال بعض العلماء: بل لكل نبي حوض، ولكن الأكبر والأعظم
(1) رواه البخاري، كتاب المناقب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار، رقم (3793) .
والأفضل والأكمل هو حوض الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد جاء في هذا حديث رواه الترمذي بإسناد لا بأس به (1) .
وهذا القول الأخير هو الراجح وهو أن لكل نبي حوضاً، ولكن الحوض الكبير الأعظم الأمثل الأكمل هو حوض النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك:
أولاً: لهذا الحديث الذي أشرنا إليه، وثانياً: لأن هذا من كمال عدل الله عز وجل، فإنه من نهل من شرعه في الدنيا كان جزاؤه أن ينهل من أحواض الأنبياء يوم القيامة، لكن ليس معلوماً لدينا من أين تستمد هذه الأحواض التي لغير الرسول صلى الله عليه وسلم، أما حوض الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه يكون من الكوثر كما ذكرنا.
وهل هذا الحوض واسع أو ضيق؟ جاء في الحديث الصحيح أن طوله شهر وعرضه شهر (2) ، وبذلك يكون واسعاً.
لكن أخذ بعض العلماء من قوله صلى الله عليه وسلم: طوله شهر وعرضه شهر أن الحوض مدور؛ لأنه لو كان مربعاً لكان ما بين الزاويتين أكثر من الشهر، فإذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن طوله شهر وعرضه شهر فإنه لا يتحقق هذا في جميع جهاته إلا إذا كان مدوراً.
وعلى كل حال فإن كان هذا هو مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإننا نقبله، وإن لم يكن مراده فإنه جرى على لسان العرب أنهم يقولون: الحُجرة طولها أربعة أذرع وعرضها أربعة أذرع مع أنها مربعة.
قال المؤلف رحمه الله: (فيا هنا لمن به نال الشفا) والمراد بالشفا هنا الري؛
(1) رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، باب ما جاء في صفة أواني الحوض، رقم (2445) .
(2)
تقدم تخريجه ص 478.
لأن من شرب منه مرة واحدة لم يظمأ بعدها أبداً.
ثم قال: (عنه يذاد المفتري كما ورد) يذاد أي يطرد، والمفتري أي الكافر. قال:(كما ورد) أي كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يُذاد عنه الكافرون، حتى إنه يذاد عنه أناس من أصحابه فيطردون، فيقول: يا رب، أصحابي فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك (1) ، وهذا في الذين ارتدوا على أدبارهم بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله (ومن نحا سبل السلامة لم يرد) من نحا: أي من سلك، سبل السلامة: أي طرقها، وجمع المؤلف السبل مع أن سبيل الشرع واحدة، كما قال تعالى (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (الأنعام: الآية153) - جمعها المؤلف - لوجهين:
الوجه الأول: ضرورة الشعر؛ لأن الشعر يضطر صاحبه إلى ما لا يجوز، كما قال صاحب منظومة النحو المسماة ملحة الإعراب.
وجائز في صنعة الشعر الصلف
…
أن يصرف الشاعر ما لاينصرف
فوصف الشعر بأنه صلف؛ لأنه لا يعطي الشاعر الحرية في انتقاء الكلمات، بل لابد أن يأتي بكلمة لا ينكسر بها البيت.
الوجه الثاني: انه لم يرد بالسبل عموم الشريعة والملة، إنما أراد بذلك سبل الخيرات، وهي صلوات وزكوات وصيام وحج وبر وصلة وحسن خلق وغير ذلك، فهي بهذا الاعتبار تكون سبلاً.
وقوله: (سبل السلامة) أي السبل التي يحصل بها السلامة من العقوبات في الآخرة، (لم يرد) أي لا يرده أحد عن الشرب من هذا الحوض.
(1) رواه البخاري، كتاب الفتن، باب ما جاء في قول الله تعالى:(واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) رقم (7049) ومسلم، كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة.
قوله: (فكن مطيعاً واقف أهل الطاعة) أقف أي اتبع، والمراد بقفوهم إتباع آثارهم. فكن مطيعاً لأوامر الله، ومن أوامر الله التصديق بما اخبر الله به ورسوله، يعني فصدق بهذه الأشياء وثبوتها.
قال رحمه الله (في الحوض والكوثر) الحوض سبق الكلام عليه، والكوثر على وزن فوعل، وهو مأخوذ من الكثرة لكن زيدت الواو فيه للمبالغة، والكوثر نهر عظيم في الجنة أعطيه النبي صلى الله عليه وسلم وليس لغيره من الأنبياء، وقد ذكره الله عز وجل في قوله (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) (الكوثر: 1) (فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ)(الكوثر: 2) .
وسمي كوثر لكثرته وكثرة خيره وبركته وغير ذلك، مما تدل عليه المبالغة في كلمة الكوثر، فيجب علينا أن نؤمن بأن للرسول صلى الله عليه وسلم نهراً في الجنة يسمى الكوثر.
قوله: (والشفاعة) الشفاعة: مأخوذة من الشفع، وهي ضد الفرد، وإن شئت فقل ضد الوتر، قال الله تعالى:(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ)(الفجر: 3)(وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ)(الفجر: 4) .
والشفاعة في اللغة: ضم شيء إلى آخر ليشفعه بعد أن كان مفردا.
وأما في الاصطلاح: فإنها التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة.
مثال الأول: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، فهذا التوسط في جلب خير، ومثال الثاني: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فيمن دخل النار أن يخرج منها، وهذا في دفع ضرر.
فالشفاعة إذاً هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة. فلو أن
إنساناً توسط لنفسه أو دافع عنها عند الغير لمصلحته، فلا يسمى ذلك شفاعة؛ لأنه ليس للغير، والشفاعة لا تكون إلا للغير.
ثم إن الشفاعة تنقسم إلى شرعية وشركية.
أولاً: الشفاعة الشرعية: هي ما اجتمع فيها ثلاثة شروط:
الأول: رضي الله عن الشافع. ودليل اشتراط رضى الله عن الشافع قوله تبارك وتعالى (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السموات لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى)(النجم: 26)(يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً)(طه: 109) والثاني: رضي الله عن المشفوع له، ودليل ذلك قوله تعالى:(وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى)(الأنبياء: الآية28) أي لمن رضيه الله عز وجل.
والثالث: إذن الله بالشفاعة، ودليل ذلك قوله تعالى:(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)(البقرة: الآية 255) ، فمن شفع بغير إذن الله فإنه لا تنفعه الشفاعة، ولا تعتبر شفاعة شرعية، فلابد من إذن الله بالشفاعة.
فلابد إذاً من ثلاثة شروط لتكون الشفاعة شرعية.
النوع الثاني: الشفاعة الشركية: وهي ما يعتقده المشركون في آلهتهم، حيث يتقربون إلى هذه الآلهة بالقربى، ويدعون أنهم يريدون بذلك أن تشفع لهم. وليست بنافعة لهم؛ لأن الله لا يمكن أن يأذن لها إن كانت هذه الأصنام ممن يكرهه الله، ولا يمكن أن يأذن لهذه الآلهة إذا كان هؤلاء ممن لا يرتضيهم الله، فالذين يعبدون عيسى ليشفع لهم، فإنه لا يمكن أن يشفع عيسى لهم؛ لأن الله لا يأذن بالشفاعة - حسب خبره عز وجل حيث إن
هؤلاء الذين يعبدون عيسى لا يرضاهم الله وإن كان عيسى يرضاه الله عز وجل لكن هؤلاء المشفوع لهم لا يرضاهم الله عز وجل، فلا يمكن أن تتحقق الشفاعة، وهذه الشفاعة تكون شركية.
ونحن نقول: إن هذه شفاعة تنزلاً مع هؤلاء الذين يقولون: (هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)(يونس: الآية18) ، وإلا فهي في الحقيقة شرك؛ لأنهم يعبدون هذه الأصنام ويدعون أنها تشفع لهم.
والشفاعة الشرعية تنقسم إلى قسمين: عامة وخاصة.
فالعامة لجميع الخلق من الأنبياء والصالحين.
والخاصة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي الشفاعة العظمى في أهل الموقف أن يقضى بينهم، والشفاعة في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وشفاعة ثالثة أخص وهي شفاعته لعمه أبي طالب حتى خفف عنه العذاب، فهذه ثلاثة أنواع من الشفاعات خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم.
أولاً: الشفاعة العظمى: وهي أن الناس يوم القيامة يقفون في موقف عظيم، وأوصاف عظيمة وهي في الكتاب والسنة كثيرة ومعلومة، فيلحقهم من الغم والكرب ما لا يطيقون، فيقولون: ألا أحد يشفع لنا عند الله ويريحنا من هذا الموقف، فيذهبون إلى آدم لأنه أبو البشر ويعتذر، ثم إلى نوح ويعتذر، ثم إلى إبراهيم ويعتذر، ثم إلى موسى ويعتذر، ثم إلى عيسى ولا يعتذر لكن يعلم أن للشفاعة من هو أولى بها منه، فيحيلهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم.
فيأتون إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيذهب إلى الله عز وجل، ويستأذن أن يشفع فيؤذن له، فيسجد تحت العرش، ويفتح الله عليه من المحامد ما لم يكن
يعرفه، فيشفع إلى الله في أن يقضي بين الناس ليريحهم من هذا الموقف، فيقبل الله شفاعته، ويأتي جل وعلا للقضاء بين أهل الموقف.
فهذه هي الشفاعة العظمى العامة لكل الخلق، وهي داخلة في قوله تعالى:(عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً)(الإسراء: الآية79) ؛ لأن هذا المقام يحمده فيه كل الناس، حيث إن الأنبياء قبله اعتذروا فصار الحمد له صلى الله عليه وسلم في هذا المقام العظيم.
ثانياً: شفاعته في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة: وذلك أن أهل الجنة إذا عبروا الصراط وجدوا أبواب الجنة مغلقة، لحكمة يريدها الله عز وجل، من هذه الحكمة أنهم يقفون هناك فيقتص لبعضهم من بعض قصاصاً يراد به زوال أثر ما كان في قلوبهم مما كان بينهم، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، بعد أن يشفع الرسول صلى الله عليه وسلم في أن يفتح باب الجنة فيدخلوها.
ثالثاً: شفاعته في عمه أبي طالب: فإنه شفع إلى الله أن يخفف عنه فأذن الله له في ذلك، وخفف عن أبي طالب فكان في ضحضاح من نار وعليه نعلان يغلي منهما دماغه، وهو أهون أهل النار عذاباً.
إذاً الشفاعات بالتدرج: شفاعة عامة وشفاعة خاصة وشفاعة أخص، فالعامة: وهي أن يشفع في أهل الموقف عامة أن يقضى بينهم، والخاصة: وهي أن يشفع لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة، والتي أخص من ذلك: وهي أن يشفع لعمه أبي طالب أن يخفف الله عنه العذاب.
وكانت هذه الشفاعة خاصة بالرسول صلى الله عليه وسلم أن يشفع لعمه أبي طالب؛ لأنه لا يمكن الشفاعة لمشرك، حيث، من شرط الشفاعة أن يرضى الله عن
المشفوع له؛ إلا في هذه المسألة فقط، وهي ليست شفاعة كاملة أيضاً، فلم تكن شفاعة في أن يخرج أبو طالب من النار بل كانت شفاعة في أن يخفف عنه، ولا شك أن الخروج هذه عن سائر الشفاعات حكمة - فكما قررنا أن الأحكام الشرعية والأحكام الجزائية لا يمكن أن تخصص لشخص بعينه إنما تخصص للشخص بوصفه - وكانت الحكمة من تلك الشفاعة شكراً له على ما قدم من حماية الرسول صلى الله عليه وسلم، والذب عنه، فهو مصدق للرسول، لكن فاته شيء واحد وهو القبول والإذعان، وإلا فهو مصدق يعلن على الملأ أن الرسول صلى الله عليه وسلم صادق لكنه - نسأل الله العافية - لم يقبل ولم يذعن.
ثم قال المؤلف رحمه الله: (فإنها ثابتة للمصطفى كغيره) قال: (فإنها) أي الشفاعة، (ثابتة للمصطفى) والمراد بالمصطفى هنا مصطفى معيناً، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلا فهناك أناس مصطفون غير الرسول صلى الله عليه وسلم لكن المراد بالمصطفى هنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو عام أريد به الخاص.
وقوله: (كغيره) يعني كغير الرسول صلى الله عليه وسلم 0 (من كل أرباب الوفا) أرباب: جمع رب بمعنى صاحب، (من عالم كالرسل) والرسل اعلم العلماء من البشر، (والأبرار) الأبرار: جمع بر، وهو القائم بحق الله وحق العباد على الوجه الأكمل بقدر المستطاع.
قوله: (سوى التي خصت بذي الأنوار) أي بصاحب الأنوار، يعني سوى الشفاعة التي خصت بصاحب الأنوار، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، والشفاعة التي خصت بصاحب الأنوار صلى الله عليه وسلم هي غير الشفاعة التي سبق ذكرها؛ وهي: الشفاعة العظمى، والشفاعة لأهل الجنة أن يدخلوا الجنة، والشفاعة لأبي طالب، بل الشفاعة المقصودة هنا هي الشفاعة العامة وهي فيمن دخل النار أن يخرج منها، وفيمن استحق النار أن لا يدخلها، فهاتان شفاعتان:
الشفاعة الأولى: فيمن دخل النار أن يخرج منها، وهذه الشفاعة عامة، يعني لا تختص بالرسول صلى الله عليه وسلم، بل كل من رضيه الله شفع - لكن بإذن الله - فهذه الشفاعة فيمن دخل النار أن يخرج منها، وهم أهل الكبائر من هذه الأمة ومن غير هذه الأمة، فإنهم يدخلون النار بكبائرهم، ولكن يأذن الله عز وجل لمن شاء من خلقه إكراماً له ورحمة بالمشفوع له أن يشفع فيه.
ولهذا فإن الشفاعة في الحقيقة تتضمن شيئين: تتضمن إكرام الشافع بقبوله شفاعته، وتتضمن رحمة المشفوع له بإخراجه من محنته.
فيأذن الله عز وجل لمن شاء من خلقه؛ من الرسل الكرام صلوات لله وسلامه عليهم، والأنبياء، والعلماء، والصالحين أن يشفعوا فيمن شاء الله أن يشفعوا فيه أن يخرج من النار، فيخرجون من النار بعد أن كانوا حمماً أي صاروا فحماً.
وهذه الشفاعة ينكرها المعتزلة والخوارج؛ لأنهم يقولون: من دخل النار فإنه لا يخرج منها، فإنه لا يدخلها إلا صاحب كبيرة، والكبيرة توجب الخلود في النار، وهذا رأي الخوارج والمعتزلة.
ولكن الخوارج أشد من المعتزلة حيث إن الخوارج يرون أنه لا يخرج من النار وانه كافر. أما المعتزلة ففيهم شبه من المنافقين حيث يقولون: لا نقول مؤمن ولا كافر، لكنه مخلد في النار.
فاتفق المعتزلة والخوارج على الجزاء الأخروي، وهو الخلود في النار، واختلفوا في الحكم الدنيوي:
فالخوارج قالوا: هو كافر حلال الدم، حلال المال، ولذلك قاتلوا المسلمين واستحلوا دماءهم وأموالهم، والعجيب أنهم قاتلوا المؤمنين ولم يقاتلوا
الكافرين؛ لأن المؤمنين عندهم مرتدون، والمرتد في زعمهم أعظم من الكافر الأصلي؛ لأن الكافر الأصلي يمكن إقراره بالجزية، والمرتد لا يمكن إقراره، فلهذا قالوا: نقاتل هؤلاء المرتدين
فمن زنى عندهم فإنه كافر يحل قتله ولو كان بكراً، ومن عق والديه حل قتله، ومن اغتاب الناس - وكان ذلك عندهم كبيرة - حل قتله.
أما المعتزلة فقالوا: نحن أهل العدل؛ نخرجه من الإسلام ولا ندخله في الكفر، والخوارج قالوا: نحن أهل الصراحة؛ نخرجه من الإسلام وندخله في الكفر؛ لأنه ليس هناك إسلام، ووسط، وكفر. وقالوا: إن المنزلة بين المنزلتين بدعة في دين الله منكرة، واستدلوا بقوله تعالى:(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)(التغابن: الآية 2) ، ولم يقل ومنكم في منزلة بين المنزلتين.
وكلا الفريقين على ضلال والعياذ بالله، والصواب الذي عليه أهل السنة: أن هذا الصنف من الناس يمكن أن يشفع فيه ويخرج من النار.
أما الشفاعة الثانية: فيمن استحق النار أن لا يدخلها فهذه أثبتها شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الواسطية (1) . ولكنني إلى الآن لم أجد لها دليلاً صحيحاً صريحاً.
وقد وردت فيها أحاديث في إسنادها مقال، لكن تعددها وتلقي الأمة لها بالقبول يدل على ثبوتها.
(1) انظر العقيدة الواسطية ص 36-37.
ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:
122-
وكل إنسان وكل جنة
…
في دار نار أو نعيم جنة
123-
هما مصير الخلق من كل الورى
…
فالنار دار من تعدى وافترى
ــ
الشرح
انتقل المؤلف رحمه الله إلى نهاية البشر، وبهذه المناسبة أنبه على كلمة يقولها كثير من الناس وهم لا يفهمون معناها؛ حيث يقولون في الميت إذا مات ثم دفن: نقل إلى مثواه الأخير، وهذه الكلمة لو أخذنا بمدلولها لكانت كفراً؛ لأن مضمونها إنكار البعث، حيث إن المثوى الأخير الجنة أو النار؛ لأنه إذا قيل: إن هذا الرجل الذي مات ودفن انتقل إلى مثواه الأخير، فمضمون هذا أنه لا بعث، وأن الأمر انتهى، لكن كثيراً من الناس لا يفهمون هذا المعنى في الواقع، بل يقولون هذه العبارات بالتقليد، ولا يفكرون في المعاني الدالة عليها، وكما في قول بعضهم: اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكن أسألك اللطف فيه، فهذا منكر، والصواب أن نعزم السؤال، فإن الله لا مكره له.
فبعد ما يحصل في عرصات القيامة يؤول الناس إلى المثوى الأخير حقيقة، وهو ما ذكره المؤلف في قوله
وكل إنسان وكل جنة
…
في دار نار أو نعيم جنة
(كل إنسان) يعني من بني آدم (وكل جِنة) يعني من الجن، والجن عالم
غيبي مستترون عن الأعين، وقد يبدون أحياناً، وقد يتصورون بشكل حيوانات كما تشكل الجني في فراش الأنصاري في عهد النبي صلى الله عليه وسلم بشك حية، فإن شاباً من الأنصار كان حديث عهد بعرس فلما رجع إلى بيته وجد زوجته عند الباب، فقال لها: ما شأنك؟ لماذا أنت عند الباب؟ قالت له: ادخل، فدخل، فإذا حية مطوية على فراشه، فأخذ الرمح فوخزها فماتت، ثم مات هو في الحال؛ فما يدري أيهما أسرع موتاً الرجل أو الحية؛ لأن هذه الحية كانت جنية فقتله أهلها (1) .
ثم نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الحيات التي تكون في البيوت حتى يحرج عليها ثلاثاً، أي يخاطبها ويقول لها: أنت مني في حرج. اخرجي، فإذا حرج عليها ثلاثا وعادت قتلها؛ لأنها إن كانت جنية فلن تأتي، وإن أتت فقد أهدرت دمها، وإن كانت غير جنية فهي لا تفهم وسوف تأتي وتقتل ولا ضرر في قتلها.
وعالم الجن هذا أصله من النار؛ لأن أباهم الشيطان إبليس، وقد خلقه الله من نار.
ثم إن هذا العالم فيهم الصالحون، وفيهم دون ذلك، وفيهم المسلمون، وفيهم الكافرون، وإن كان أصلهم إبليس كافراً، لكن فيهم المسلم، وفيهم الصالح، وفيهم طالب العلم، وفيهم العابد.
يقول المؤلف رحمه الله:
وكل إنسان وكل جِنة
…
في دار نار أو نعيم جنة
يعني أن هذا هو المآل؛ إما النار وإما الجنة، ولا ثالث لهما، ودليل المآل
(1) رواه مسلم، كتاب السلام، باب قتل الحيات وغيرها، رقم (2236) .
الأول وهو قوله: (في دار نار) قوله تعالى: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ)(الأعراف: الآية 38) ، وهذا نص صريح في أن النار يدخلها أمم من الجن وأمم من الإنس، وهذا محل إجماع من العلماء؛ أن كافر الجن في النار ككافر الإنس، ويدل لهذا أيضاً قوله تعالى في سورة الجن:(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً)(الجن: 14)(وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)(الجن: 15) . فالكافر من الجن في النار بالنص والإجماع، ولا خلاف في ذلك، لكن المؤمن من الجن في دخوله الجنة خلاف بين العلماء؛ فمنهم من قال إن المؤمن من الجن لا يدخل الجنة ولكن ينجو من النار، وكفى بذلك راحة؛ لأنهم لما قالوا:(وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ)(الجن: الآية 14)) قال تعالى: (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً)(الجن: الآية 14) ولم يذكر جزاء لهم، قال تعالى:(وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)(الجن: 15)) ؛ قالوا: هؤلاء تحروا رشداً: أي تحروا سلوكا طيبا ومعاملة حسنة، وهذا في الدنيا، أما في الآخرة فلم تذكر الآية شيئا عن ذلك.
وقال بعض العلماء: بل إن مؤمنهم في الجنة كمؤمن الإنس، واستدلوا لذلك بآية من سورة الرحمن يخاطب الله تعالى فيها الجن والإنس ويقول (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ) (الرحمن: 33) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)(الرحمن: 34)(يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلا تَنْتَصِرَانِ)(الرحمن: 35)(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)(الرحمن: 36)(فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ)(الرحمن: 37)(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)(الرحمن: 38)(فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ)(الرحمن: 39)(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)(الرحمن: 40)(يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ)(الرحمن: 41)(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)(الرحمن: 42)) كل هذا للجن
والإنس، ثم قال تعالى:((وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)(الرحمن: 46)(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)(الرحمن: 47)(ذَوَاتَا أَفْنَانٍ)(الرحمن: 48)(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)(الرحمن: 49)) ، وهذا للجن والإنس فالسياق واحد والخطاب واحد. إلى أن قال تعالى:(فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ)(الرحمن: 56) فلم يطمثهن إنس فيفسدهن على الإنس، ولا جان فيفسدهن على الجن.
وهكذا في الجنتين الأخريين، قال:(فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ)(الرحمن: 70)(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)(الرحمن: 71)(حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ)(الرحمن: 72)(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)(الرحمن: 73)(لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ)(الرحمن: 74)(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)(الرحمن: 75)) .
وهذا هو الصحيح المقطوع به، أن المسلم من الجن يدخل الجنة، وهذا هو مقتضى حكمة الله وعدل الله عز وجل.
ولكن يبقى النظر هل أرسل من الجن رسول؟ فيه خلاف، قيل لا، لقوله تعالى:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ)(يوسف: الآية 109)) ، وقيل: بل منهم رسول لقول الله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ)(الأنعام: الآية 130)) فهو يخاطب الجن والإنس يقول: (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) إِنس من الإنس وجِن من الجن.
وأما قوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)(يوسف: الآية 109)) فإن الذكور من الجن يسمون رجالاً، كما قال الله تعالى:(وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ)(الجن: الآية 6)) ، فالجن فيهم رجال كما في هذه الآية الكريمة، وعلى هذا فلا يتم الاستدلال بقوله:(وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى)، ويكون ظاهر قوله: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ
وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) أن من الجن رسلاً.
والذين قالوا: إنه ليس من الجن رسل، أجابوا عن قوله تعالى:(يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) قالوا: إن الخطاب باعتبار المجموع لا باعتبار الجميع، فهو كقوله تعالى في البحرين:(يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ)(الرحمن: 22)) ، واللؤلؤ والمرجان لا يخرجان إلا من المالح على المشهور.
قالوا أيضاً: إن حكمة الله تعالى تأبى ذلك؛ لأن الرسالة تشريف وتكريم وتعظيم، والجن أصلهم من النار وأبوهم إبليس سيد المتكبرين، وقائد الكافرين، فليس من الحكمة أن يكرم هؤلاء بالرسالة، وإنما يتلقون التعاليم مما جاء إلى البشر، كما قال تعالى:(وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)(الاحقاف: 29)(قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ)(الاحقاف: 30)(يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)(الاحقاف: 31) فقالوا: إن الجن ليس منهم رسل لكن منهم نذر؛ حيث قال تعالى: (وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ)، فيتلقى هؤلاء النذر مما جاءت به الرسل وينذرون بها قومهم. وينبني على ذلك: هل ما يؤمر به الجن هو ما يؤمر به الإنس؟ يعني هل صلاتهم كصلاتنا وزكاتهم كزكاتنا وصيامهم كصيامنا وحجهم كحجنا؟
في هذا أيضاً خلاف بين العلماء رحمهم الله؛ فمنهم من قال: إذا كان تلقيهم لما يقومون به من الشرائع مما جاءت به الإنس، وجب أن يكون هو نفس ما جاء به الإنس؛ لأننا لا نرى فيما جاء به الإنس فضلاً خاصاً بالجن،
بل نجد أن الأحكام واحدة، وعلى هذا فيكون ما أمر به الإنس هو ما أمر به الجن ولا فرق.
وقال بعض العلماء رحمهم الله: بل إنهما يفترقان، فليس ما أمر به الجن مساوياً لما أمر به الإنس في الحد والحقيقة؛ لأن جنس الجن ليس كجنس الإنس، وإذا كان الإنس تختلف أحكامهم باختلاف أحوالهم؛ فالمريض يصلي قاعداً مثلاً؛ والفقير لا زكاة عليه؛ ومن لا يستطيع الحج فلا حج عليه، فكذلك الجن لا يمكن أن يكلف إلا بما يناسب حالهم، وتكون العمومات الدالة على ذلك مثل (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا) (البقرة: الآية 286)) وما أشبهها - تقيد عموم تكليفهم بشرائع الإنس.
وهذا ما ذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حيث قال: إن اختلافهم عن الإنس في الحد والحقيقة يقتضي ألا يتساووا في التكليف؛ لأن حكمة الله تعطي كل مكلف ما يناسبه حتى في البشر (1)
وعلى كل حال فنحن نؤمن بأن الجن مكلفون بالجملة، وأن كافرهم يدخل النار، وأن مؤمنهم يدخل الجنة أيضاً، أما مسألة الرسالة وعدم الرسالة فقد تكون الأدلة متكافئة وإن كان الراجح أن الرسل من البشر، وأما مساواتهم للإنس في الأحكام الشرعية فهذا محل توقف؛ فإن نظرنا إلى عموم الأدلة قلنا: هم مساوون للإنس، وإن نظرنا إلى الحكمة في التشريع، وأن الشرع يختلف باختلاف المكلف قلنا: لابد أن يكون لهم شرع خاص بهم، وهذا الشرع الخاص بهم وإن كنا لا نجده لا في الكتاب ولا في السنة، لكن يؤخذ من العمومات مثل قوله تعالى (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا)
(1) انظر مجموع الفتاوى 4/233.
(البقرة: الآية 286)) ، وقوله تعالى:(فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)(التغابن: الآية 16)) ، فهم قد لا يستطيعون كل ما يستطيعه الإنس، وقد لا يكون عندهم كل ما عند الإنس، فتكون لهم أحكام خاصة بهم، ولذا نقول فيه: الله اعلم، فالأدلة في هذا متكافئة وليس هناك دليل واضح على أن ما كلفوا به مساوٍ لما كلف به الإنس أو مخالف.
والمهم أن المؤلف رحمه الله يقول (في دار نار) هذا بالإجماع ومستنده النص وقوله: (أو نعيم جنة) فيه خلاف. والصحيح: أنهم يدخلون الجنة.
مسألة: هل يمكن التعاون بين الجن والإنس؟
والجواب: أن التعاون بينهما إذا أمكن فلا بأس به، وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الاستعانة بالجن جائزة بشرطين: ألا يكون الطريق الموصل إليها محرماً، وألا يستعين بهم على شيء محرم، فإن كانت الطريقة محرمة؛ كأن يقولوا: لا نعينك حتى تسجد لنا مثلاً. وهذا لا يمكن أن يقع من مؤمني الجن؛ لأن مؤمن الجن لا يمكن أن يأمر بالشرك، لكن قد يكون مؤمناً أو يكون مسلماً وعنده فسق، فيقول مثلاً للمرأة: لا أعينك حتى تمكنيني من نفسك، أو يكون عنده فاحشة اللواط ويقول للشاب: لا أعينك حتى تمكنني من نفسك فهذا حرام، أو يستعين بهم على شيء محرم بأن يقول لهم: احضروا لي مال فلان، فيذهبون ويحضرون إليه مال فلان، فهذا حرام؛ لأنه استعان بهم على المعصية وهي سرقة مال الناس، لكن إذا استعان بهم على شيء مباح وبطريق مباح فيقول شيخ الإسلام رحمه الله: إنه لا باس بذلك
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله وقائع في الفتاوى وكذلك في كتاب
النبوات وكذلك في إيضاح الدلالة في عموم الرسالة أنه في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كانت امرأة في المدينة لها رئي من الجن وأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تأخر وبحثوا عنه فجاءوا إلى هذه المرأة فأرسلت رئيها فأخبرهم (1) .
وقوله: (هما مصيرَ الخلق)، أي: الجنة والنار.
فالجنة والنار داران هما مآل الخلق وليس بعدهما دار؛ لأن دور الإنسان أربع: الأولى في بطن أمه، والثانية في الدنيا، والثالثة في البرزخ، والرابعة يوم القيامة، وهذه هي الأخيرة لا دار بعدها.
والبحث في مسألة الجنة والنار من وجوه متعددة:
الوجه الأول: هل الجنة والنار موجودتان الآن؟
والجواب: نعم، هما موجودتان الآن، ودليل ذلك في القرآن والسنة.
أما القرآن فقد قال الله تعالى: (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ)(آل عمران: 131) ، والإعداد بمعنى التهيئة، فإنها مهيأة للكافرين. وأما الجنة فقال تعالى:(وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)(آل عمران: 133)، والإعداد بمعنى التهيئة. وفي السنة: فقد عرضت النار على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي صلاة الكسوف (2) ، ورأى فيها عمرو بن لحي يجر قصبه في النار، يعني يجر أمعاءه، ورأى فيها امرأة تعذب في هرة لها حبستها حتى ماتت، ورأى فيها
(1) انظر مجموع الفتاوى 11/63.
(2)
رواه مسلم، كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (904) .
صاحب المحجن الذي يسرق الحجاج بمحجنه الذي معه، وهو العصا المحنية الرأس، فكان يمر بالحاج ويخطف متاعه، فإن لم يفطن له الحاج ذهب، وإن فطن له قال: تعلق متاعك بمحجني، فرآه النبي صلى الله عليه وسلم يعذب بمحجنه في النار (1) .
أما الجنة فرآها النبي عليه الصلاة والسلام وهو يصلي صلاة الكسوف حتى هم أن يتناول منها قطف عنب ولكنه لم يفعل (2) ، وكذلك دخلها عليه الصلاة والسلام ورأى فيها قصراً لعمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يدخله لأنه تذكر غيرة عمر (3)، ولما حدث النبي صلى الله عليه وسلم عمر بذلك بكى عمر رضي الله عنه وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟ يعني: لو دخلته ما غرت ولو غرت على غيرك ما غرت عليك.
فالمهم أنه ثبت بالكتاب والسنة أن الجنة والنار موجدتان الآن، وهو أيضاً محل إجماع بين العلماء رحمهم الله، ولكن متى خلقتا؟ هذا هو الذي نتوقف فيه، فإننا لا ندري متى خلقهما الله عز وجل.
الوجه الثاني: هل الجنة والنار مؤبدتان أو إلى أمد ثم تفنيان؟
أما الجنة فبالإجماع أنها مؤبدة لا تفنى، والآيات في هذا كثيرة، فما أكثر ما نتلو قول الله تعالى في أهل الجنة:(خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً)(النساء: الآية 169) ، وهو محل إجماع. وأما النار فمحل إجماع أنها مؤبدة إلا خلافاً يسيرا ذهب إليه بعض العلماء رحمهم الله وهو مرجوح، بل لا وزن له، والصحيح الذي لا شك فيه
(1) رواه مسلم، كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي صلى الله عليه وسلم، رقم (904) .
(2)
رواه البخاري، كتاب الأذان، باب ما يقول بعد التكبير، رقم (745) .
(3)
رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه، رقم (2295) .
أن النار مؤبدة دائماً وأبداً، لقول الله تبارك وتعالى في آيات ثلاث في كتابه:(خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً)(النساء: الآية 169)) ؛ فقال جل وعلا في سورة النساء: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً)(النساء: 168)(إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً)(النساء: الآية 169) ، وتأبيد الخالد يدل على تأبيد مكان الخلود ضرورة، وإلا فكيف يكون خالداً في غير محل؟! هذا مستحيل، وقال تعالى في سورة الأحزاب (إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً) (الأحزاب: 64) (خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً)(الأحزاب: 65)، وقال في سورة الجن:(وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً)(الجن: الآية 23) .
وثبت في السنة أنه يؤتى يوم القيامة بالموت فيوقف في مكان بين الجنة والنار، فيقال يا أهل الجنة. يا أهل النار. فيشرئبون ويطلعون، فيقال لهم: هل تعرفون هذا؟ فيقوون: نعم، هذا الموت، فيذبح، ويقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت (1) ، ولم يحدد.
والإجماع يكاد يكون منعقداً إلا خلافاً يسيراً عن طائفة من السلف والخلف لكنه مرجوح بل لا وزن له.
فإن قالوا: إن رحمة الله سبقت غضبه؟ قلنا لا قياس في مقابلة النص، فما دام عندنا نص من القرآن صريح بالتأبيد فلا قياس.
الوجه الثالث: هل يدخل الإنس والجن الجنة والنار أو هذا خاص بالإنس؟
الجواب: أما النار فيدخلها الجن والإنس بالنص والإجماع، قال الله تعالى:(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ)(الأعراف: الآية 179) أي خلقنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس، وقال تعالى: (قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ
(1) تقدم تخريجه ص 471.
قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ فِي النَّارِ) (الأعراف: الآية 38)، وقال تعالى: في سورة الجن: (وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً)(الجن: 14)(وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً)(الجن: 15) وأما دخول المؤمنين الجنة فهو بالنسبة للبشر بالنص والإجماع، وبالنسبة للجن محل خلاف، والصحيح أنهم يدخلون الجنة، والدليل على ذلك ما جاء في سورة الرحمن حيث يخاطب الله الجن والإنس فيقول جل وعلا (يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ) (الرحمن: 41) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)(الرحمن: 42)(هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ)(الرحمن: 43)(يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حمَِيمٍ آنٍ)(الرحمن: 44)(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)(الرحمن: 45) ، وهذا في دخول النار وهو مجمع عليه وليس فيه إشكال، ثم قال تعالى:(وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ)(الرحمن: 46)(فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)(الرحمن: 47)، والخطاب لمن؟ نقول: هو للجن والإنس، إلى أن قال في الجنتين الأوليين والأخريين (لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ) (الرحمن: 74) (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)(الرحمن: 75)) ،
وعليه فالقول الراجح أن مؤمني الجن يدخلون الجنة كمؤمني الإنس بالنص، ولأن هذا من كمال عدل الله عز وجل أن من عمل ابتغاء ما وعد به من الثواب فلابد أن يحقق الله له الثواب، ولأن هذا مقتضى قوله تعالى في الحديث القدسي:((إن رحمتي سبقت غضبي)) (1) .
والذين يقولون إن كافر الجن يدخل النار وأن مؤمنهم لا يدخل الجنة؛ يجعلون غضبه سبق رحمته؛ إذ كيف يقال: إن هؤلاء إذا عملوا بما يقتضي
(1) رواه البخاري، كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء
…
، رقم (7422) ، ومسلم، كتاب التوبة، باب في سعة رحمة الله تعالى
…
، رقم (2751) .
الرحمة فإنهم لا يعطون الرحمة، وإذا عملوا بما يقتضي العذاب فإنهم يعذبون. فأين سبق الرحمة للغضب في هذا؟!
فإن قيل: ما تقولون في قوله تعالى (فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً)(الجن: الآية 14)) ، وفي قوله تعالى:(يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ)(الاحقاف: 31)) ، ولم يقل ويدخلكم الجنة.
فالجواب: أن السكوت عن الشيء لا يلزم منه انتفاء الشيء؛ لأن عدم الذكر ليس ذكراً للعدم، فإذا لم يذكر ثوابهم في هذه الآية فقد ذكر في آيات أخرى لا معارض لها.
وعلى هذا فنقول: في هذا البحث إن مؤمني الجن يدخلون الجنة كمؤمني الإنس ولا فرق، وهذا معنى قول المؤلف رحمه الله:(وكل إنسان وكل جنة) يعني كل واحدٍ من الإنس وكل واحد من الجن (في دار نار أو نعيم جنة) ، وعلى هذا فكلام المؤلف صريح في أن الجنة يدخلون الجنة، وكذلك يدخلون النار، وكذلك الإنس.
وقوله رحمه الله: (ما مصير الخلق من كل الورى)(هما) أي النار والجنة (مصير الخلق) فليس هناك دار ثالثة، حتى أصحاب الأعراف الذين يوقفون في مكان بين الجنة والنار مآلهم إلى الجنة ولابد، فلا يمكن لأحد من الورى إلا أن يكون إما في جنة وإما في نار.
وقوله: (من كل الورى) يريد به الخصوص، أي يريد به الإنس والجن، أما الملائكة فلا يدخلون النار، لكنهم في الجنة مسخرون لأهل الجنة، قال تعالى:(وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ)(الرعد: الآية 23) (سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ
عُقْبَى الدَّارِ) (الرعد: 24)) ، وهناك ملائكة، الله أعلم بمصيرهم، لكننا نعلم أنهم لن يدخلوا النار.
ثم قال رحمه الله: (النار دار من تعدى وافترى) أي النار دار من تعدى الحدود وافترى الكذب، فمن أشرك فهو متعدٍ ومفترٍ أيضاً؛ لأن إشراكه بالله يقتضي انه يقول بلسان حاله أو بلسان مقاله: إن مع الله إلها آخر، وهذا افتراء، ومن زعم أن لله ولداً فهو متعد مفتر، وعلى هذا فيكون التعدي والافتراء متلازمين، لكن الافتراء يلزم منه التعدي بكل حال، والتعدي لا يلزم منه الافتراء بلسان المقال، ولكن يلزم منه الافتراء بلسان الحال.
ويتضح هذا بالنسبة المفتري أن يقال: إن المفتري متعد ولا شك، لأن الإنسان لو تقول على بشر لقيل إنه متعد عليه. فكيف إذا تقول على رب العالمين؟! أما المعتدي فقد يعتدي بغير افتراء، لكن لسان حاله يقول إنه مفتر. نسأل الله أن يعيذنا من التعدي والافتراء
ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:
124-
ومن عصى بذنبه لم يخلدِ
…
وإن دخلها يابوار المعتدي
125-
وجنة النعيم للأبرار
…
مصونة عن سائر الكفار
126-
واجزم بأن النار كالجنة في
…
وجودها وأنها لم تتلف
ــ
الشرح
قال المؤلف رحمه الله: (ومن عصى بذنبه لم يخلد وإن دخلها يابوار المعتدي) وهذا البيت كالاستثناء من قوله: (هما مصير الخلق من كل الورى) يعني يستثنى من ذلك (من عصى بذنبه فإنه لا يخلد، والمعصية الخروج من الطاعة، وتنقسم عند العلماء رحمهم الله إلى قسمين: صغائر وكبائر
فإن قيل: ما ضابط الكبائر. وهل هي محدودة أو معدودة؟
فالجواب: قال بعض العلماء رحمهم الله: إن الكبائر معدودة، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((اجتنبوا السبع الموبقات، قالوا: يا رسول الله! وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات)) (1)
وقال بعض العلماء رحمهم الله: إنها محدودة غر معدودة، بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم عدَّ منها الإشراك بالله، وهو كفر مخرج عن الملة، فدل هذا على أن المراد بيان عِظم هذه السبع، ولكن هناك شيء آخر لم يذكر، فهي محدودة بضوابط، وهذه الضوابط كما قال بعضهم: كل ذنب ترتب عليه لعنة، أو غضب، أو وعيد في الآخرة، أو حد في الدنيا. يعني كل ما فيه حد في الدنيا
(1) تقدم تخريجه ص 377.
أو وعيد في الآخرة أو غضب أو لعنة، وهذه أربعة أوصاف.
فالزنا مثلا كبيرة؛ لأن فيه حداً في الدنيا، والإسبال كبيرة؛ لأن فيه وعيداً في الآخرة، وقتل النفس كبيرة لأن فيه لعنة وغضباً، وهلم جرا أخذا بهذا الضابط.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الكبيرة ما ترتب عليه عقوبة خاصة (1) ، يعني ما جعل الله أو رسوله عليه عقوبة خاصة سواء كانت العقوبة دنيوية، أم دينية، أم أخروية. وذلك لأن المعاصي إما أن تقع منهياً عنها أو محرمة أو ما أشبه ذلك فهذه تكون صغيرة قال تعالى:(وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنّ)(النور: الآية 31) فهذه صغيرة، لكن إذا ترتب على ذلك عقوبة خاصة؛ كحدٍ في الدنيا، أو وعيد في الآخرة، أو لعنة، أو غضب، أو نفي إيمان، أو تبرؤ من فاعله، فإن ذلك يكون من كبائر الذنوب، كقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)) (2) ، فإذا لم تحب لأخيك ما تحب لنفسك فإن هذا من الكبائر، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نفى الإيمان عمن لم يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
وهذا الضابط ضابط حسن، وبه يمكن أن تميز بين الصغائر والكبائر، فما جاء مرتباً عليه عقوبة خاصة فهو كبيرة، وما جاء منهياً عنه، أو ذكر فيه التحريم، أو كان لا ينبغي، أو ما أشبه ذلك؛ فهذه من صغائر الذنوب.
إذاً فالمعاصي تنقسم إلى قسمين: صغائر وكبائر، والفرق بينهما من حيث الحقيقة والماهية هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ لأن
(1) انظر مجموع الفتاوى 11/651-660.
(2)
رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب من الإيمان أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه، رقم (13) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على أن من خصال الإيمان
…
، رقم (45) .
النفس تطمئن إليه، أما من حيث الحكم؛ فالفرق بينهما أن الصغائر تكفرها الصلاة والصوم والوضوء والصدقة والتسبيح وما أشبه ذلك مما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما الكبائر فلابد فيها من توبة، ولا تنمحي عن الإنسان إلا بتوبة هذا هو الأصل.
وفرق ثانٍ من حيث الحكم: أن الكبائر بمجرد فعلها يخرج الإنسان من دائرة العدالة إلى دائرة الفسق، أي انه يكون فاسقا بمجرد فعل الكبيرة ما لم يتب، والصغائر لا يخرج فاعلها من دائرة العدالة إلى دائرة الفسق إلا بالإصرار عليها، إذا أصر عليها صار فاسقاً لا عدلا.
وعلى ذلك فالفرق بينهما من وجهين:
الأول: أن الصغائر تكفر بالأعمال الصالحة، والكبائر لابد فيها من توبة.
والثاني أن الكبائر يخرج بها الإنسان من دائرة العدالة إلى دائرة الفسق بمجرد الفعل، أما الصغائر فلا يخرج بها من دائرة العدالة إلى دائرة الفسق إلا بالإصرار عليها.
فمثلاً حلق اللحية صغيرة، لكن إذا أصر عليه الإنسان صار كبيرة. وكذلك شرب الدخان صغيرة، فإذا أصر عليه الإنسان صار كبيرة، هذا بقطع النظر عما يحدث في قلب الفاعل؛ لأنه أحياناً يقترن بفعل الصغيرة شيء من الاستخفاف بأوامر الشرع والاستهانة بها، وحينئذٍ تنقلب الصغيرة كبيرة من من أجل الاستخفاف بأوامر الشرع. وربما تكون الكبيرة صغيرة مثل أن يفعلها الإنسان من الخجل من الله عز وجل ورؤيتها أمام عينه دائماً، فهنا تنقلب إلى صغيرة، وربما يكون شعوره هذا توبة.
وقولنا: إن الكبائر لابد فيها من توبة. فهل يعني ذلك أن الإنسان لابد أن
يعاقب عليها؟
والجواب: أن الكبائر إذا فعلها الإنسان فإنه يستحق العقوبة ما لم يتب، أما الصغائر فقد تقع مكفرة بالأعمال الصالحة.
أما نفس العقوبة فإن الله يقول: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(النساء: الآية 48)) ، وعلى هذا ففاعل الكبيرة إذا لم يتب فهو على خطر؛ لأنه يقال له: ما الذي أعلمك أنك داخل في المشيئة، وللأسف فإن بعض الناس إذا نهيته عن الكبيرة قال: إن لله تعالى يقول في القرآن الكريم: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(النساء: الآية 48)) فانظر كيف تمنيه نفسه، فالله تعالى لم يقل:(وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ)(النساء: الآية 48)) مطلقاً، بل قيد ذلك بالمشيئة، فقال:(لِمَنْ يَشَاءُ)(النساء: الآية 48)) ، ثم إنه لا يضمن لك أحداً أنك ممن دخل في المشيئة، فربما تكون ممن لا يشاء الله أن يغفر له فأنت على خطر.
ثم إنه قد يقال إن المستثنى في قوله تعالى: (لِمَنْ يَشَاءُ)(النساء: الآية 48)) هو الذي فعل الكبيرة على وجه الحياء والخجل من الله عز وجل، فصارت الكبيرة دائماً في عينه، فإنها حينئذٍ تنقلب صغيرة ويدخل صاحبها في المشيئة، فقد يقال هذا وإن كان هذا خلاف ظاهر اللفظ.
والحاصل أننا نقول لهذا المفرط الذي منته نفسه ما لم يكن على علم من حصوله: من قال إنك داخل في قوله (لِمَنْ يَشَاءُ)(النساء: الآية 48)) ؟!
ثم قال المؤلف رحمه الله: (ومن عصى بذنبه لم يخلد) والمراد بالمعصية في كلام المؤلف هنا الكبائر، قال:(وإن دخلها) وفي نسخة: (وإن يردها) ، يعني وإن وردها دخولاً، لكن النسخة الصحيحة وإن دخلها، يعني وإن دخل النار
لا يخلد، لأنه لا يخلد فيها إلا الكافرون.
وقوله: (وإن دخلها يا بوار المعتدي) يا بوار المعتدي: هذا نداء، يعني: يا بوار المعتدي احضر، لأن المعتدي أهل للبوار، والبوار هو الهلاك، كما قال تعالى:(وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ)(إبراهيم: الآية 28)) ، أي دار الهلاك.
وقوله: (يا بوار المعتدي) قد يشكل من المعتدي هنا. هل المعتدي هو العاصي الذي يدخل النار، أو المعتدي من يقول: إن من دخل النار لا يخرج منها. أو هما جميعا؟ الظاهر أنهما جميعاً، أو أن مراد المؤلف رحمه الله بالمعتدي المعتزلة والخوارج؛ لأن المعتزلة والخوارج يقولون: من دخل النار - ولو من أجل الكبيرة - فإنه لا يخرج منها، ولكن يختلفون في أحكام الدنيا؛ فقالت المعتزلة: لا نقول مؤمن ولا نقول كافر، ولكنه في منزلة بين المنزلتين، وقالت الخوارج: إنه كافر، وهم جميعا اتفقوا أنهم في الآخرة - أي العصاة - مخلدون في النار، ولهذا لا تنفع فيهم الشفاعة.
وهناك طائفة ثالثة من المبتدعة؛ وهم المرجئة الذين يقولون: إن أهل الكبائر لا يدخلون النار لأنهم يقولون: لا يضر مع الإيمان معصية، كما لا تنفع مع الكفر طاعة. فهم يقولون إن الأعمال لا تدخل في الإيمان، فإذا آمن الإنسان بقلبه فهو مؤمن ولا يستحق العقاب، وإذا قيل لهم: فما تقولون في آيات الوعيد وأحاديث الوعيد؟ قالوا: هذه في الكفار، أما المؤمن فلا يمكن أن يدخل النار.
وهذا المذهب باطل؛ لأن هناك نصوصاً كثيرة تعلق الوعيد على فعل ما ليس بكفر، فقطع الرحم مثلاً ليس بكفر، وقد قال النبي عليه الصلاة
والسلام ((لا يدخل الجنة قاطع)) (1) وعلى كل حال فيمكن أن نقول: إن الشفاعة فيمن دخل النار أن يخرج منها - من أهل الكبائر - يخالف فيها ثلاث طوائف مبتدعة: المرجئة: لأنهم يقولون: إن أهل الكبائر لا يدخلون النار أصلاً. والخوارج والمعتزلة: لأنهم يقولون: من دخل النار فهو خالد فيها. والصحيح ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة كما سبق في أحاديث كثيرة في الشفاعة؛ وان من دخلها من العصاة فإنه يخرج منها؛ ما بالشفاعة، وإما بفضل الله ورحمته.
ثم بين لمن تكون الجنة ولمن تكون النار، فقال رحمه الله:((وجنة النعيم للأبرار)) جنة النعيم: هي جنة الآخرة، ونعيمها نعيم في البدن ونعيم في القلب. بخلاف الدنيا فإن الدنيا في الغالب لا يجتمع فيها النعيمان؛ فقد ينعم الإنسان في البدن ولا ينعم في القلب، وقد ينعم في القلب ولا ينعم في البدن، فقد يكون رجل غني عنده من الترف ما لا يعلمه إلا الله، ينعم في بدنه تماماً، لكن قلبه يغلي من الهم والغم والخوف على نعيمه والخوف على نفسه، ومهما يكن من نعيم الدنيا فإن الإنسان إذا تذكر الموت أو تذكر الهرم تنغص، كما قال الشاعر:
لا طيب للعيش ما دامت منغصة
…
لذاته بادكار الموت والهرم
على أنه لا يمكن أن يتم النعيم من وجه الدنيا، كما قال الشاعر
(1) رواه البخاري، كتاب الأدب، باب إثم القاطع، رقم (5984) ، ومسلم، كتاب البر والصلة، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، رقم (2556) .
الحكيم:
فيوم علينا ويوم لنا
…
ويوم نُساء ويوم نُسر
وقس هذا بنفسك، فإنك إذا سررت اليوم فانتظر الحزن غداً، وإن حزنت اليوم فانتظر السرور غداً، هكذا الدنيا.
لكن نعيم الجنة - جعلنا الله والمسلمين ممن يتمتع به - ليس فيه حزن، ولهذا قال المؤلف:(وجنة النعيم) يعني كلاً من نعيم القلب ونعيم البدن، ولهذا قال الله تعالى في سورة الإنسان:(وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً)(الإنسان: الآية11) ، نضرة في الوجه وفي البدن، وسرور في القلب، فاجتمع لهما النعيمان؛ نعيم البدن بالنضرة الحسنة، ونعيم القلب بالسرور.
قال المؤلف رحمه الله:
واجزم بأن النار كالجنة في
…
وجودها وأنها لم تتلف
وهذا سبق أن تكلمنا عنه في وجود الجنة والنار، حيث قلنا إن الجنة والنار الآن موجودتان بدلالة الكتاب والسنة، وذكرنا أن القول الراجح أنهما لا يفنيان، وأن عدم فناء الجنة محل إجماع من أهل السنة، وأما النار ففيها خلاف ضعيف جداً، والقائل به قليل فلا يعتد به ولا يلتفت إليه. والصحيح الذي لا شك فيه عندنا، والذي ندين الله به ونعتقده أن النار مؤبدة لن تتلف، ولهذا قال المؤلف رحمه الله:
واجزم بأن النار كالجنة في
…
وجودها وأنها لم تتلف
ولم هنا بمعنى لن: لن تتلف في المستقبل. وهنا قاس النار على الجنة؛ لأن النار مختلف في بقائها بخلاف الجنة.
ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:
127-
فنسأل الله النعيم والنظر
…
لربنا من غير ما شين غبر
128-
فإنه ينظر بالأبصار
…
كما أتى في النص والأخبار
129-
لأنه سبحانه لم يحجب
…
إلا عن الكافر والمكذب
ــ
الشرح
قال رحمه الله: ((فنسأل الله النعيم والنظر لربنا)) نسأل الله النعيم في الجنة، ونسأله النظر لربنا عز وجل وهو أعلى نعيم في الجنة، فإن أهل الجنة لا يعطون نعيماً أعظم ولا أسر من النظر لوجه الله.
وقوله: (من غير ماشين غبر) أي من غير سوء، وغبر: أي مضى. أي نسأل الله النعيم والنظر من غير أن يتقدم ذلك عذاب، بل نسأله أن ندخل الجنة بلا عذاب.
وقوله: (فإنه ينظر بالأبصار) فإنه: أي الله عز وجل، (ينظر بالأبصار) الأبصار جمع بصر يعني بالعين، رداً على من قال أنه ينظر بالقلب، وأن النصوص الواردة في النظر إلى الله يراد بها النظر بالقلب، أو النظر إلى ثوابه، وكلاهما معنيان باطلان.
أما النظر بالقلب فإن هذا حاصل لأهل الجنة قبل أن يدخلوا الجنة، فإن المؤمن يكاد يرى ربه بقلبه من شدة إيمانه به، وبأسمائه وصفاته، وأنت لو وصف لك شيء في الدنيا كما لو وصف لك إنسان ثقة بيتاً لتشتريه وصفاً دقيقاً، فكأنما تراه بقلبك، وكذلك فالمؤمنون المتقون يرون الله سبحانه وتعالى بقلوبهم قبل يوم القيامة، ولولا هذا اليقين ما حصل لهم دخول الجنة، فهم
يرون الله تعالى بقلوبهم من قبل أن يدخلوا الجنة، وحينئذٍ لا نعيم لهم بهذا النظر؛ لأنه قد تم لهم من قبل وأما الذين قالوا: إنهم ينظرون إلى ثواب الله، فيقال لهم: هذا تحريف للنصوص الصريحة الصحيحة، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم:((إنكم ترون ربكم كما ترون الشمس ليس دونها سحاب)) (1) ، وهذا واضح في أن الذي يُرى هو الله عز وجل، فنراه كالشمس ليس دونها سحاب، وقوله صلى الله عليه وسلم:((ترونه كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)) (2) .
وقوله: (كما أتى في النص) النص: يعني القرآن، (والأخبار) جمع خبر، وهي الأحاديث.
فرؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة ثابتة بالقرآن والسنة وإجماع السلف، حتى إن بعض العلماء رحمهم لله صرح بأن من أنكر رؤية الله في الآخرة فهو كافر؛ لأنه مكذب للنصوص الصريحة الصحيحة، ومخالف لإجماع السلف.
وقال بعض العلماء رحمهم الله: من قال: إن الله لا يُرى في الآخرة، فنسأل الله أن يحرمه رؤيته في الآخرة. ولا شك أن الذي ينكر أن الله يرى في الآخرة يستحق أن يقال له: حرمك الله منها، وأعتقد أننا لو قلنا له: حرمك الله منها لاستشاط غضباً، فكيف إذا دعي عليه بألا يرى ربه غضب وهو يقول
(1) رواه البخاري، كتاب الأذان، باب فضل السجود، رقم (806) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية، رقم (182) .
(2)
رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله: وسبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس، رقم (4851) .
في عقيدته: يمتنع أن نرى ربنا؟ فمن العجب أن يغضب عند إلزامه بما يقول.
وقد دل على ثبوت الرؤية القرآن والسنة:
أما دلالة القرآن على الرؤية: فمن وجوه:
الأول: التصريح بالنظر.
والثاني: نفي الإدراك.
والثالث: حجب أعداء الله عن رؤية الله. هذه ثلاثة أنواع من الأدلة.
أولاً: التصريح بالنظر: مثل قوله تعالى: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ)(القيامة: 22)(إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)(القيامة: 23) فالله عز وجل قال: وجوه، ولم يقل قلوب يومئذٍ ناظرة، وإذا كانت الوجوه هي التي ترى، فوسيلة الرؤية في الوجه لا شك أنها العين. إذاً نراه بأعيننا.
وقال الله تعالى: (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)(يونس: الآية26) ، وفسر الزيادة أعلم الخلق بالله عز وجل وكتابه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المراد بالزيادة النظر إلى وجه الله تعالى، ولا نعلم تفسيراً أصح وأوثق من تفسير الرسول صلى الله عليه وسلم أبداً، فإذا قال: هي النظر إلى وجه الله قلنا: صدقت وصدق الله ورسوله.
ثانياً: نفي الإدراك: قال الله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ)(الأنعام: الآية103)، فإن نفي الإدراك يدل على ثبوت أصل الرؤية؛ لأن نفي الإدراك مع عدم ثبوت الرؤية لغو من القول وفساد؛ إذ كيف يقال: لا تدركه الإبصار وهو لا يرى أصلاً؟ فكونه يقول: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ) يعني أنها تراه ولكن لا تدركه. ولهذا استدل بهذه الآية أهل السنة على أن الله يرى،
ووجه الدلالة أن نفي الإدراك دليل على أصل ثبوت الرؤية؛ لأن نفي الإدراك عما لم يثبت أصله لغو من القول لا حاجة له، وحينئذٍ يكون في الآية دليل على ثبوت الرؤية.
والعجب أن الذين ينفون الرؤية يستدلون بنفس الآية على أنه لا يرى لأن الله يقول: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ)، ونقول رداً عليهم: الله يقول: (لا تُدْرِكُهُ) ولم يقل: لا تراه. وفرق بين الإدراك والرؤية. فنحن الآن نعلم الله عز وجل لكن لا ندرك حقيقته. ولو قلنا بقولهم لقلنا: إن الله لا يعلم. وعلى هذا فالآية صريحة في أن الله تعالى يرى.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية قاعدة في الاستدلال، وناهيك به فهما وفقها، فقال: أنا ملتزم بكل دليل صحيح استدل به مبطل على باطله أن اجعله دليلاً عليه لا له، سواء كان أثريا أم نظريا، ذكر هذا في كتابه درء تعارض العقل والنقل، وذلك لأن الاستدلال بالدليل الصحيح على القول الباطل لا شك أنه يشم منه رائحة ما ذهب إليه.
فهؤلاء الذين استدلوا بنفي الرؤية في الآخرة بقوله تعالى: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ)، قال شيخ الإسلام: هذا دليل عليهم؛ لأن نفي الإدراك يدل على وجود أصل الرؤية، ولولا وجود أصل الرؤية لكان نفي الإدراك لغوا ينزه عنه كلام الله.
ثالثاً: حجب الله عن أعدائه، وذلك في قوله:(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)(المطففين: 15)) .
قال الإمام الشافعي رحمه الله: والله ما حجب أعداءه عنه في حال الغضب إلا ليراه أولياؤه في حال الرضا، وهذا صحيح؛ لأنه لو كان الجميع محجوبين لم يكن لنفي الحجب عن الأعداء فائدة، بل فيه مضرة، حيث أوهم التخصيص ببعض مدلولاته.
والحاصل أن رؤية الله ثابتة بالنص على ثلاثة أوجه: ثبوت الرؤية، ونفي الإدراك، والحجب عن الأعداء.
أما دلالة السنة على الرؤية:
فقد تواترت السنة على رؤية المؤمنين لله سبحانه وتعالى يوم القيامة وعلى هذا قول الناظم ينظم بعض ما تواتر:
مما تواتر حديث من كذب
…
ومن بنى لله بيتا واحتسب
ورؤية شافعة والحوض
…
ومسح خفين وهذي بعض
والشاهد قوله: (ورؤية) .
ثم قال المؤلف رحمه الله:
لأنه سبحانه لم يحجب
…
إلا عن الكافر والمكذب
هذا تعليل بتدليل؛ لأنه لم يحجب إلا عن الكافر والمكذب، وفي هذا يشير المؤلف رحمه الله إلى قوله تعالى:(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ)(المطففين: 15)) ، فإذا حجب هؤلاء فضدهم يرون الله سبحانه وتعالى.