المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الخامس في ذكر النبوة ومتعلقاتها - شرح العقيدة السفارينية - جـ ١

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌الباب الخامس في ذكر النبوة ومتعلقاتها

‌الباب الخامس في ذكر النبوة ومتعلقاتها

130-

ومن عظيم منة السلام

ولطفه بسائر الأنام

131-

أن ارشد الخلق إلى الوصول

مبيناً للحق بالرسول

ــ

الشرح

الدين الإسلامي نبي على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، فبشهادة أن لا إله إلا الله يكون الإخلاص، وبشهادة أن محمدا رسول الله يكون الإتباع. وقد انتهينا مما يتعلق بالرب عز وجل فيما قال المؤلف رحمه الله، في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته. وبقيت شهادة أن محمداً رسول الله، وحينئذٍ لابد أن نعرف النبوة والرسالة، والحكمة من الرسالة والنبوة وما يتعلق بهذا، ولذلك قال المؤلف رحمه الله:

ومن عظيم منة السلام

ولطفه بسائر الأنام

أن أرشد الخلق إلى الوصول

مبينا للحق بالرسول

وصدق رحمه الله، فمن عظيم المنة، بل أعظم منة من الله بها أن أرسل الرسل إلى الخلق مبشرين ومنذرين، والمنة: العطاء، فالعطاء بلا طلب مكافأة يسمى منة، وأَمنُّ المعطين عليك الله جل وعلا ثم رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا في غزوة حنين غنم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أموالاً كثيرة جداً، فصار يعطي المؤلفة قلوبهم تأليفا لهم على الإسلام؛ لأن الإنسان مهما كان يحب المال، قال تعالى:(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ)(العاديات: 8)) ، حتى إنه مرة من المرات

ص: 517

جاء أعرابي مسلما لكن إسلامه ليس إلى ذاك، يعني ليس ثابتاً، والأعراب يحبون المواشي وبالأخص الغنم والإبل، فأعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم غنماً بين جبلين فذهب إلى قومه وقال: يا قومي، أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة (1)، ولم يقل: اسلموا تدخلوا الجنة. فانظر كيف ملك هذا المال قلبه، وبهذا نعرف حكمة الله عز وجل أن جعل للمؤلفة قلوبهم نصيباً من الزكاة الواجبة؛ فيعطون من الزكاة من أجل تأليف القلوب، خلافاً لبعض الدعاة الآن حيث يعطونهم من صلف القول ما ينفر قلوبهم.

وهذا يعني أننا لو رجعنا للدين الإسلامي وتأملنا كيف يدعو الناس لدين الإسلام، وجدنا رحمة وعطفاً، ووجدنا أن الإسلام يقابل المخالفين مقابلة الطبيب الحاذق المشفق، لا مقابلة المنتصر الذي يريد أن ينتقم، وهذه مسألة نسأل الله أن يعيننا على تنفيذها في دعوة الخلق إلى الحق.

فمن تمام نعمة الله عز وجل ورحمته وحكمته أيضاً أن أرسل إلى الخلق رسلاً؛ لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل؛ ولأن العقول لا يمكن أن تستقل بمعرفة ما يحبه الله ويرضاه، حتى يقوم الإنسان بفعله، فلابد من إرسال الرسل، وضرورة الناس إلى الرسل أشد من ضرورتهم إلى الطعام والشراب والهواء؛ لأن بالرسل سعادة الدنيا والآخرة، وإذا لم يبعث الرسل بقي الناس جهالا؛ ولهذا كان من علامات الساعة أن يقبض العلم، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً من صدور الرجال، ولكن يقبضه بموت

(1) رواه مسلم، كتاب الفضائل، باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (2312) .

ص: 518

العلماء، فإذا مات العلماء اتخذ الناس رؤساء جهالا، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا)) (1) .

إذاً لابد من الرسالة حتى تقوم الحجة، وتبين المحجة، ويسلك الناس إلى ربهم طريق الهدى، وهي من منة الله، بل أمن شيء من الله به علينا هو الرسالة والعلم.

وقوله: (ولطفه بسائر الأنام) أي ومن لطفه جل وعلا ورأفته ورحمته، (بسائر الأنام) أي بعموم الأنام، والأنام: هم الخلق، (أن ارشد الخلق إلى الوصول)(أن) هنا مصدرية وهي في محل المبتدأ، ومن عظيم: خبر مقدم، أي: من عظيم منة الرحمن أن ارشد الخلق إلى الوصول.

وقوله: (مبيناً للحق بالرسول) المراد بالرسول هنا الجنس، وعلى هذا فـ (الـ)) لبيان الجنس وليست للعهد الذكري ولا الحضوري ولا الذهني، بل هي للجنس الدال على العموم، وقد بين الله تعالى في كتابه أنه ما من أمة من الأمم إلا خلا فيها نذير، وكل رسول يرسل إلى قومه إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل إلى الناس كافة، وبلغت رسالته جميع الخلق إلى يوم القيامة، وآيته العظمى هذا القرآن الكريم الذي بين أيدينا - ولله الحمد - إلى اليوم.

(1) رواه البخاري، كتاب العلم، باب كيف يقبض العلم، رقم (100) ، ومسلم، كتاب العلم، باب رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن، رقم (2673) .

ص: 519

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

132-

وشرط من أُكرم بالنبوة

حرية ذكورة كقوة

ــ

الشرح

النبي لابد أن يكون أهلاً للرسالة، فلابد أن يكون المعطى للرسالة مؤهلاً لها؛ لأنه ليس كل إنسان يصلح للرسالة والله عز وجل يؤتي فضله من يشاء، وهذا كما أن العلم الموروث عن الرسالة لا يعطيه الله إلا لمن هو أهل له، نسأل الله أن يجعلنا منهم.

والدليل على ذلك قوله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)(الأنعام: الآية124)) ، وذلك رداً على الكفار المعاندين للرسل الذين قالوا:(لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ)(الأنعام: الآية124)) فقال الله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)(الأنعام: الآية124)) ، أي أنهم ليسوا أهلا للرسالة فلم يعطوها لكن أعطيها من هو أهل لها.

والنبوة لها شروط، وقد بين المؤلف رحمه الله شيئاً منها فقال:(وشروط من أكرم بالنبوة حرية) شرط: مبتدأ، حرية: خبره، من أكرم: أي من أكرمه الله وفضله، بالنبوة: أي بالرسالة، فالرسالة إذاً إكرام من الله تعالى للعبد، قال تعالى:(وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ)(الإسراء: الآية55)) ، وقال تعالى:(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)(البقرة: الآية253)، وقال تعالى:(وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ)(الإسراء: الآية70)) ، ومن المعلوم أن أعلى أصناف بني آدم هم الرسل عليهم الصلاة والسلام.

ص: 520

فالرسالة كرامة من الله عز وجل؛ سواء تمكن الرسول من بث رسالته وانتفع به الخلق أم لم يتمكن، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى الأنبياء، رأى النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد، وكلهم مكرمون، لكن لا شك أن من منّ الله عليهم بكثرة الإتباع أعظم إكراماً ممن دون ذلك.

فإن قيل: كيف نجمع بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((يأتي النبي وليس معه أحد)) (1) . وقوله: (مامن نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا جعل الله له حواريين)(2)(2) .

فالجواب: إما أن يكون المراد بالحديث الثاني ذوي العزم من الرسل أو أنه يستثني من الحديث الثاني ما دل عليه الحديث الأول؛ لأن الأنبياء كثيرون. وقوله: (وشرط من أكرم بالنبوة حرية

الخ) النبوة لها شروط:

الشرط الأول: ذكره المؤلف رحمه الله في قوله: (حرية) يعني شرطه أن يكون حراً لا رقيقاً، والرقيق هو المملوك، العبد الذي يباع ويشترى، فهذا لا يكون نبياً ولا رسولاً؛ وذلك لأن الرق وصف نازل عن الحرية، فالرقيق مملوك يملكه سيده، يباع، ويشترى، ويستخدم، فلا يمكن أن يكون هذا قائدا؛ لأنه هو نفسه مملوك مقود؛ فكيف يكون قائداً. إذا لابد أن يكون النبي حراً.

واعلم أن هذه الشروط شروط لما وقع لا لما سيقع؛ لأنه لا يمكن أن يقع

(1) رواه البخاري، كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره

، رقم (5705) ، ومسلم كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة، رقم (220) .

(2)

رواه مسلم كتاب الإيمان باب بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان.... رقم (50) .

ص: 521

الآن، فمحمد صلى الله عليه وسلم هو خاتم النبيين، لكن الذين كانوا أنبياء لأبد فيهم من هذه الشروط، فلابد أن يكونوا أحراراً ولا يمكن أن يكونوا أرقاء.

فإن قيل: إن يوسف عليه الصلاة والسلام بيع مملوكاً عند عزيز مصر؟

فالجواب: أن يوسف عليه الصلاة والسلام نبئ بعد السجن.

فإذا قال قائل: ما تقولون في قوله تعالى عن يوسف عليه الصلاة والسلام: (وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا)(يوسف: الآية15)) ، يعني جاءه الوحي قبل السجن؟

فالجواب: أن الضمير يعود على أبيه يعقوب عليه الصلاة والسلام.

والشرط الثاني: قال (ذكورة) فالنساء ليس منهن رسول؛ لأنهن لسن أهلاً لتحمل هذه القيادة العظيمة، وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم قال:((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) (1) ، ولو بالانتخاب؛ فإذا انتخبوا امرأة فإنهم لن يفلحوا، فكيف يمكن أن تكون امرأةً رسولاً، ثم لو قدر أنها صارت نبيا، والنبي هو الذي يصلي بقومه، فإذا جاءها الحيض فلن تصلي إذا فلا يصح إطلاقاً أن تكون نبيا، لكن يصح أن تكون عالماً، وهذا هو الدليل العقلي.

أما الدليل السمعي فلقوله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ)(الأنبياء: الآية7)) ، فاخبر تعالى أنه لا يرسل إلا رجالا؛ لا ملائكة ولا إناثا.

فإن قال قائل: إن هناك أقواماً ولوا أمرهم نساء وأفلحوا فما الجواب عن

(1) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى، رقم (4425) .

ص: 522

ذلك؟

فالجواب عنه من أحد وجوه:

الوجه الأول: إما أن يراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)) ، يعني أولئك القوم فيكون خاصاً، وإذا كان خاصا لم يكن إشكال.

الوجه الثاني: أن نقول: إن هؤلاء النساء لم يتولين الأمر على وجه الإطلاق بل الذي يدبر الأمر غيرهن لكن لهن الرئاسة اسماً لا حقيقة.

الوجه الثالث: أن يقال: هؤلاء القوم لو أنهم ولوا رجلا لكان افلح لهم ويكون المراد بالنفي: لن يفلح قوم نفي الفلاح التام فيقال: هؤلاء القوم لو أنهم ولوا رجلا لكان افلح لهم.

الوجه الرابع: أن يقال: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم ((لن يفلح قوم)) هذا بناء على الأغلب والأكثر وإلا فقد يفلحوا.

فهذه أربعة أوجه في الجواب عن هذا الحديث والله أعلم.

والشرط الثالث: قال: (كقوة) يعني أن يكون عنده قدرة وقوة على إبلاغ الرسالة، فلا يمكن أن يكون أصم، ولا يمكن أن يكون أبكم لا يتكلم، ولا يمكن أن يكون منهك القوى البدنية، بل لابد أن يكون عنده قوة؛ لأن إرسال من ليس ذا قوة عبث ينزه الله عنه، فلا يعقل أن يرسل من لا يستطيع أن يتكلم أو من هو أصم، والأعمى قد نقول إنه لا يمكن أن يرسل الله رسولاً أعمى، وقد نقول انه يمكن؛ لأن العمى وإن كان يضعف القوة على أداء الرسالة لكنه لا يمنع أداء الرسالة، والكلام على ما يمنع أداء الرسالة. فلابد

ص: 523

أن يكون قوياً. لا يرد عليك نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام لأنه أصيب بما أصيب ثم برئ في النهاية فهذا من العوارض.

ولا يشترط أن يكون ذا سيادة في قومه، لكن في الغالب أنه يكون ذا سيادة في قومه، لقول الله تعالى:(وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ)(هود: الآية91) ، وهذا هو الغالب وقد يكون ذا شرف في قومه وسيادة، لقول لوط عليه الصلاة والسلام:(لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ)(هود: الآية80)) ، أي إلى قوم يمنعونني منكم.

فالمهم أنه ليس بشرط أن يكون الرسول ذا سيادة وشرف في قومه، لكن ذلك هو الأكثر، ولا سيما في خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم، فإنه كان أشرف قومه نسباً؛ لأن الله اصطفى إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاه صلى الله عليه وسلم من بني هاشم، فهو كريم من كرام؛ كرام الآباء والأجداد، عليه الصلاة والسلام، ولكن ليس هذا بشرط.

وقوله: (حرية ذكورة كقوة) لو قال: (حرية ذكورة وقوة) لكان أحسن. لكنه قال: (كقوة) فكأنه جعل القوة تعليلاً لاشتراط الذكورة واشتراط الحرية، وهذه الكاف للتشبيه يعني كما تشترط القوة.

فالشروط التي ذكرها المؤلف رحمه الله ثلاثة: الحرية والذكورة والقوة على إبلاغ الرسالة.

ص: 524

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

133-

ولا تنال رتبة النبوة

بالكسب والتهذيب والفتوة

134-

لكنها فضل من المولى الأجل

لمن يشا من خلقه إلى الأجل

ــ

الشرح

قال المؤلف رحمه الله:

ولا تنال رتبة النبوة

بالكسب والتهذيب والفتوة

يعني أن رتبة النبوة لا تنال بعمل العبد، وهذا أيضاً كما سبق لا مجال له الآن؛ لأن الرسالة ختمت بمحمد صلى الله عليه وسلم.

وقول المؤلف: إن النبوة لا تنال (بالكسب) يعني بالتخلق بالأخلاق الفاضلة، والقيام بما يجب على الإنسان من الحقوق التي لربه والتي للخلق. (والتهذيب) أي ولا تنال أيضا بتهذيب الإنسان نفسه، وتهذيب غيره، بأن يكون رجلا مريدا للإصلاح ساعيا فيه.

قوله: (والفتوة) أي وكذلك لا تنال بالفتوة، وهي الكرم والشجاعة.

وذكر المؤلف رحمه الله هذا الكلام رداً على بعض المتكلمين الذين قالوا: إنه يمكن للإنسان أن يهيئ نفسه ويهذبها حتى يكون مؤهلاً للنبوة فيكون نبياً، وهذا ليس بصحيح، فالنبوة لا تنال بالكسب، ولا يمكن أن يصل إليها الإنسان بالكسب.

ولكن ربما يقول قائل: ألم يقل الله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)(الأنعام: الآية124)) ؟ فنقول: بلى، ولكن هذا الذي كان أهلاً للرسالة، لم تكن هذه الأهلية بعمل منه بل كانت بفضل من الله تعالى، ويدل لذلك أننا نجد أناساً وصولاً إلى القمة في الكرم والشجاعة وحسن الأخلاق في الجاهلية؛ مثل عبد

ص: 525

الله بن جدعان وغيره، ومع ذلك لم ينل النبوة، وإنما نالها محمد صلى الله عليه وسلم. ولهذا قال المؤلف رحمه الله:

لكنها فضل من المولى الأجل

لمن يشا من خلقه إلى الأجل

أفادنا المؤلف رحمه الله في هذا البيت أن النبوة فضل من لله يتفضل بها على من يشاء من عباده، ولهذا لما قال أعداء الرسل للرسل:(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا)(إبراهيم: الآية10)(قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(إبراهيم: الآية11) يعني ما نحن إلا بشر مثلكم، (وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ) (إبراهيم: الآية11) فالله سبحانه وتعالى هو الذي يمن بالنبوة على من يشاء من عباده، كما يمن بالعلم على من يشاء من عباده، مع أن العلم ربما يحصل بالكسب، لكن هو منة من الله، فكم من إنسان حاول أن يطلب العلم ولكنه عجز.

وأفادنا في قوله: (لمن يشا من خلقه إلى الأجل) أن من كان نبياً فلا يمكن أن تسلب منه النبوة، فالنبوة لها ابتداء وليس لها انتهاء إلا بالموت، يعني لا يمكن أن يكون الإنسان رسولاً ثم تسلب منه الرسالة، لكن يمكن أن يكون غير رسول ثم يُرسل كما هو الأصل؛ فالأصل أنه لا يرسل إلا من كان قد بلغ أشده وبلغ أربعين سنة ليكون تام العقل.

وأما قوله تعالى عن عيسى عليه الصلاة والسلام حين أشارت أمه إليه فقالوا: (كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ َصبِيّاً)(مريم: الآية29)(قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً)(مريم: 30)(وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ َالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً)(مريم: 31)(وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً)(مريم: 32)، فقال بعض العلماء رحمهم الله: إن هذا خاص بعيسى عليه الصلاة والسلام، وأما غيره فلابد أن يبلغ أشده ويستوي ويكبر، أما عيسى فإنه آية من آيات الله في خلقه وتكوينه

ص: 526

ورسالته، وقيل المعنى آتاني الكتاب في علمه، فيكون التعبير بالماضي باعتبار علم الله، ويكون الماضي هنا استعمل في المستقبل لتحقق وقوعه، وهذا هو الأقرب.

فإن قال قائل: لماذا رجحتم هذا مع أن التقدير الأول لا مانع منه وهو أن يكون خاصاً به؟

فالجواب: إذا رجحنا التقدير الأول فمعنى هذا أننا نمنع هذا الأصل وهو عدم الخصوصية هذا من جهة، ومن جهة أخرى أن الله لن يرسل رسولاً إلا إذا أن أهلاً للرسالة يتحمل الدعوة ويتحمل الرد على الآخرين، هذا الذي يظهر لي، والله اعلم.

مسألة: ما الفرق بين النبي والرسول؟

الفرق بين النبي والرسول كما ذهب إليه الجمهور؛ أن النبي من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، ولهذا يسمى نبياً ولا يسمى رسولاً لأنه لم يؤمر، لكنه لم ينه عن إبلاغه، وأما الرسول فهو من أوحى إليه بشرع وأمر بتبليغه، وهناك فرق بين أن نقول في النبي لم يؤمر بتبليغه وبين أن نقول: نهي عن تبليغه، وهذا نظير ما قاله شيخ الإسلام رحمه الله فيمن لم ينكر على الولاة ولامه بعض الناس على عدم إنكاره للمنكر، قال شيخ الإسلام: هناك فرق بين السكوت عن الإنكار، وبين الأمر بالمنكر (1) ، فالسكوت عن الإنكار مع عدم القدرة على الإنكار أو مع خوف منكر أكبر لا يلام عليه الإنسان بل قد يحمد إذا ترك الإنكار خوفاً من مفسدة اكبر، لكن لو أمر بالمنكر فإنه في هذه الحال يذم على الأمر بالمنكر والرضى به.

(1) انظر مجموع الفتاوى 14/472.

ص: 527

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

135-

ولم تزل فيما مضى الأنباء

من فضله تأتي لمن يشاء

ــ

الشرح

قوله: (الأنباء) بالرفع على أنها اسم (تزل) ؛ لأن زال ويزال تعمل عمل كان إذا سبقت بنفي أو شبهه، وهنا سبقت بنفي وهو قوله:(ولم تزل) ، وعليه فالأنباء اسم تزل، وخبرها قوله (تأتي لمن يشاء) أي لم تزل الأنباء آتية لمن يشاء.

وقوله: (فيما مضى) أي فيما سبق هذه الأمة، و (من فضله) أي على المرسل وعلى المرسل إليهم جميعا.

وقوله: (لمن يشاء) أي لمن يشاء من عباده، وقد اخبر الله عز وجل أنه بعث في كل أمة رسولاً، قال تعالى:(وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)(النحل: الآية36)، وقال تعالى:(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ)(فاطر: الآية24)

وعليه فإن كل الأمم السابقة قد أرسل الله إليهم الرسول والنذير وأقام الحجة على جميع الخلق، ولم يبقى لأحد حجة على الله عز وجل.

فإن قال قائل: هل الأنبياء محصورون؟

قلنا: إنه ورد في ذلك حديث يدل على حصرهم بأربعة وعشرين ألفاً، والرسل دون ذلك؛ لأن الأنبياء أكثر بكثير من الرسل، أما الرسل فأقل، وقد ذكر في القرآن منهم خمسة وعشرون رسولاً ولكنهم أكثر من هذا، وقد

ص: 528

يزيدون على ثلاثمائة إلا أن الله تعالى يقول: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ)(غافر: الآية78) إذاً فعقيدتنا بالنسبة للرسل أنه ما من أمة إلا خلا فيها نذير، وما من أمة إلا بعث الله إليها من يوجهها ويبين لها الحق.

وأول الأنبياء هو آدم، فإنه كان نبيا مكلماً، كما في حدث أبي ذر رضي الله عنه، أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: هل كان آدم نبياً؟ قال: نعم، نبي مكلم (1) .

وأما أول الرسل فهو نوح، لقول الله تبارك وتعالى:(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ َوالْكِتَابَ)(الحديد: الآية26) ، فإذا كانت النبوة والكتاب في ذرية نوح وإبراهيم دل هذا على أنه ليس قبل نوح رسول، ويدل لذلك أيضاً قوله تعالى:(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ)(النساء: الآية163)، ويدل لهذا ما ثبت في الصحيح:((أن الناس يأتون إلى نوح يوم القيامة ويقولون: أنت أول رسول أرسله الله إلى الأرض)) (2) . وبهذا نعرف أن من أقحم إدريس بين نوح وآدم فإنه غلط؛ لأننا نجد شجرة الأنبياء التي كتبها بعض الناس قد كتب فيها إدريس قبل نوح، وهذا غلط لاشك فيه. فإن عقيدتنا أن نوحاً هو أول الرسل.

وآخر الرسل محمد صلى الله عليه وسلم لقول الله تعالى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ)(الأحزاب: الآية40) ، فمن ادعى النبوة بعده فهو كافر، ومن صدق مدعي النبوة بعده فهو كافر أيضاً، لأنه مكذب لله

(1) رواه احمد (5/178) .

(2)

رواه البخاري: كتاب تفسير القرآن، باب قول الله: وعلم آدم الأسماء كلها، رقم (4476) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة فيها، رقم (193) .

ص: 529

ورسوله، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه حين خلفه في أهله في غزوة تبوك، فقال: يا رسول الله، تخرج وأقعد مع النساء والولدان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:(أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي)) (1) ، فرضي علي رضي الله عنه

وقد استدلت الرافضة بهذا الحديث على أن علياً رضي الله عنه أفضل الصحابة، ولكن لا دليل فيه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد بقوله أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى حين خلفه في قومه، أي في هذه المسألة فقط، أما الفضل الآخر فلا شك أن أفضل هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي.

(1) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة تبوك....، رقم (4416) ، ومسلم كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل علي بن أبي طالب

، رقم (2404) .

ص: 530

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

136-

حتى أتى بالخاتم الذي ختم

به وأعلانا على كل الأمم

ــ

الشرح

قوله: (إعلانا) : يعني جعلنا فوق كل الأمم؛ فنحن الآخرون السابقون يوم القيامة، ونحن الشهداء على الخلق في أن الرسل بلغوا ما أُنزل إليهم من ربهم، قال تعالى:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً)(البقرة: الآية143) ، فهذه الأمة ولله الحمد هي أعلى الأمم، ولها النصر التام على غيرها، ولكن بشرط أن تكون عاملة بشريعة الله التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أن تكون منتسبة فقط، ويكون الإسلام دين بطاقة وهوية بدون عمل، فهذا لا يجدي شيئاً، وللأسف فإن أكثر الناس قد كتب في هويته وبطاقته: الديانة: مسلم، وهو لا يعرف الإسلام، وقد لا يعرف كيف يتوضأ ولا كيف يصلي

ص: 531

137-

وخصه بذاك كالمقام

وبعثه لسائر الأنام

ــ

الشرح

وقوله (وخصه بذاك) خصه: أي النبي صلى الله عليه وسلم، (بذاك) أي بختمه للرسالة، فإنه خاتم الأنبياء ولا نبي بعده صلى الله عليه وسلم، وهذا من خصائص صلى الله عليه وسلم. وكان عيسى بن مريم صلى الله عليه وسلم خاتم أنبياء بني إسرائيل، ولكن هذا الختم مقيد بأنبياء بني إسرائيل، أما محمد صلى الله عليه وسلم فختمه ختم مطلق فلا نبي بعده، وهذا يدعو إلى تأمل الحكمة من أن عيسى ينزل في آخر الزمان ويتبع محمداً صلى الله عليه وسلم، ليتبين أن الختم الذي ختمت به رسالة بني إسرائيل ليس ختماً مطلقاً بل هو ختم مقيد، والرسول الذي بعده هو محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك في آخر الزمان إذا نزل عيسى فإنما يحكم بشريعة النبي صلى الله عليه وسلم.

فإن قال قائل: أليس قد اخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكسر الصليب ويقتل الخنزير ولا يقبل الإسلام فلا يقبل الجزية، وهذا ليس هو الحكم الشرعي الموجود الآن؛ فإن الحكم الشرعي الموجود الآن أن يُقر النصارى على ما هم عليه، إذا كان بيننا وبينهم عهد فإننا لا نتعرض لديانتهم؟

فالجواب: أن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا بذلك مقرراً له راضياً به، فيكون ما يقضي به عيسى في آخر الزمان من شريعة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله (كالمقام) يشير بذلك إلى قوله تعالى: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً)(الإسراء: الآية79) ، وقد سبق أن من المقام المحمود الشفاعة العظمى،

ص: 533

حيث تنتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الناس يلحقهم من الكرب والغنم ما لا يطيقون، فيستشفعون بآدم، ثم بنوح، ثم بإبراهيم، ثم بموسى، ثم بعيسى، حتى تنتهي إليه، فهذا من المقام المحمود - حيث يحمده فيه الأولون والآخرون - وليس كله.

مسألة: هل من المقام المحمود ما ذكره بعض العلماء من أن الله سبحانه وتعالى يجلس الرسول صلى الله عليه وسلم على العرش؟

فالجواب: هذا إن صح فهو من المقام المحمود لا شك.

وقوله (وبعثه لسائر الأنام) يعني، وخص النبي صلى الله عليه وسلم بأنه بعث إلى سائر الأنام، وغيره من الأنبياء بعثوا إلى أقوامهم فقط.

فإن قال قائل: أليس نوح عليه الصلاة والسلام مرسلاً إلى جميع الخلق في وقته؟

قلنا: بلى هو مرسل إلى جميع الخلق في وقته، لكن لم يكن هناك قوميات سوى هذه القومية، فيكون نوح مرسلاً إلى قومٍ، كما قال تعالى:(إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(نوح: 1) ، والخليقة في ذلك الوقت لم تكن كثرت بعد حتى تولد منها قوميات، وبذلك يكون نوح مرسلاً إلى قومه فقط، بل كانت الأمة قليلة وأرسل إليهم نوح فكان مرسلاً إلى قومه خاصة.

وقوله: (لسائر الأنام) سائر: يقولون أنها تطلق بمعنى الباقي، وتطلق بمعنى الجميع؛ فإن أخذت من السؤر صارت بمعنى الباقي، وإن أخذت من السور - والسور محيط بل ما كان داخله - صارت بمعنى الجميع، وإذا كانت

ص: 534

بمعنى الجميع كان فيها إعلال؛ لأنها تكون مشتقة من السور، والسور ليس فيه همزة، لكن قلبت الواو همزة في (سائر) لعلة تصريفية. أما إذا قلنا إن (سائر) من السؤر فالهمزة فيها أصلية.

ونظير ذلك لفظ زائر، هل الهمزة أصلية أو منقلبة؟ فيه تفصيل؛ فإن كانت من زأر الأسد فهي أصلية، تقول: زأر الأسد فهو زائر، وإن كانت من الزيارة فهي منقلبة، تقول زار يزور فهو زائر، وأصلها زاير لكن قلبت همزة.

قوله: (الأنام) أي الخلق، قال الله تعالى:(وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ)(الرحمن: 10)، أي: للخلق فهو مبعوث لجميع الخلق المكلفين، ودليل اختصاصه بذلك من وجهين:

الوجه الأول: كونه خاتم الأنبياء، وهذا ثابت بالقرآن، فإذا كان خاتم الأنبياء - والناس كلهم محتاجون للرسالة - لزم من ذلك أن يكون رسولاً إلى جميع الخلق.

الوجه الثاني: أنه في حديث جابر بن عبد الله رضي الله رضي الله عنهما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد من قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)) (1)

(1) رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: جعلت

، رقم (438) ، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب منه، رقم (521) .

ص: 535

فهذه من خصائصه، أما غيره من الأنبياء فإنه يبعث إلى قومه خاصة. فمثلاً إذا كان في الأرض أقوام متعددة فإن الرسول يبعث إلى قومه الذي هو في أرضهم، أو في غير أرضهم لكنه يبعث إليهم خاصة.

ولا يرد على هذا نوح عليه الصلاة والسلام؛ لأن القوم في عهد نوح هم قومه، إذ كان الناس في ذلك الوقت قليلين لم يتفرقوا شعوباً وأقواما، فكان مبعوثاً إلى الخلق عموماً؛ لأن الخلق في ذلك الوقت ليس فيهم أقوام، ولهذا اهلك المكذبون له وصار الذي بقوا ممن على السفينة هم آباء الخلق كلهم، كما قال تعالى:(وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ)(الصافات: 77)، أي ذرية نوح. وبهذا ينكف الإيراد الذي أورده بعض العلماء حيث قال: إن نوحاً أرسل إلى جميع أهل الأرض؟ وجواب هذا الإيراد أن جميع أهل الأرض هم قومه في ذلك الوقت، وليس هناك أقوام آخرون، لكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم هناك أقوام آخرون؛ فهناك الفرس والروم والبربر وغيرهم، وهو مبعوث إليهم جميعا.

فمن نعمة الله على النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أرسله إلى جميع الخلق، لأنه يلزم من ذلك أن كل من عمل بشريعته ناله من أجره، ولهذا رفع له سواد عظيم فظن أنهم أمته فقيل له: هذا موسى وقومه، ثم رفع له سواد عظيم أعظم من الأول وقيل له: هذه أمتك (1) .

فأمة النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الأمم، وأجره أكثر أجر الأنبياء؛ لأن كل واحد من

(1) رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب وفاة موسى، رقم (3410) ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب رقم (220) .

ص: 536

أمته يعمل بشريعته فإن له مثل أجره، وبهذا نعرف ضلال من إذا فعلوا طاعة أهدوها للرسول صلى الله عليه وسلم، فإن إهداء القرب للرسول صلى الله عليه وسلم بدعة وضلالة في الدين وسفه في العقل؛ لأن من أهدى إليه عبادة فعلها فمضمون ذلك أنه حرم نفسه من أجرها فقط، أما الرسول عليه الصلاة والسلام فأجرها واصل إليه من الأصل؛ سواء أهديتها إليه أم لم تهدها إليه.

ثم إنك لم تؤمر أن تهدي إليه العبادات؛ لا أضحية، ولا قراءة قرآن، ولا غيره، بل أمرت أن تصلي وتسلم عليه، وتدعو له، فهكذا أمرت كما قال تعالى:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)(الأحزاب: الآية56)

قال شيخ الإسلام: ولم يعهد أن أحداً من القرون المفضلة فعل ذلك، لا الصحابة ولا التابعون وتابعوهم، كلهم لم يهدوا للرسول عليه الصلاة والسلام ثواب قربة أبداً؛ لأنهم أفقه وأعلم واحكم من أن يهدوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ثواباً؛ إذ إن أجرهم حاصل للرسول صلى الله عليه وسلم فإن ((الدال على الخير كفاعله)) (1)

(1) رواه الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء الدال على الخير كفاعله، رقم (2670) .

ص: 537

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

138-

ومعجز القرآن كالمعراج

حقا بلا مين ولا اعوجاج

ــ

الشرح

قال رحمه الله: (ومعجز القرآن) يعني وخصه تعالى بمعجز القرآن، فالقرآن معجز، قال تعالى:(قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا القرآن لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً)(الإسراء: 88) . فالإنس والجن متفرقون أو متعاونون لا يمكن أن يأتوا بمثل هذا القرآن.

والدليل على هذا من الواقع أن القرآن نزل في قوم هم أفصح العرب، وبلغة هؤلاء القوم، ومع ذلك عجزوا عن معارضته، وهم بلا شك يودون بكل طاقاتهم أن يجدوا معارضة للقرآن الكريم، حتى يقولوا للرسول صلى الله عليه وسلم: ما جئت به فإننا نستطيع مثله، فأنت لست بنبي، لكن عجزوا، بل كان هذا القرآن يأخذ بألبابهم حتى يصغوا إليه قهراً.

وذكروا في التاريخ أن رؤساءهم كانوا يأتون خفية إلى قرب النبي صلى الله عليه وسلم ليستمعوا القرآن؛ لأنه يعجبهم ويبهرهم، وقد قال الله تعالى:(وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا القرآن لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ)(الأنعام: الآية19) ، فدل ذلك على أن بلاغهم تقوم به الحجة.

وقد تحداهم الله عز وجل أن يأتوا بمثله فعجزوا: (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ)(البقرة: الآية23) ، وتحداهم بعشر سور فعجزوا، وتحداهم بسورة فعجزوا، وتحداهم بآية فعجزوا، وقال تعالى:

ص: 538

(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ)(الطور: 34)، أي: حديث مثله إن كانوا صادقين فعجزوا، ولهذا قال تعالى:(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ)(الطور: 33) ، أي ليس عندهم علم إلا أنهم كفار لا يؤمنون، (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) (الطور: 34) ، وما أتوا (أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ) (الطور: 38) ، وهذا تحدٍ؛ إن كانوا صادقين فليأت مستمعهم بسلطان مبين، وكل هذا لم يكن، إذاً فالقرآن أعجز الورى؛ لأنه إذا اعجز الذين نزل بلغتهم وبوقتهم، فمن بعدهم من باب أولى ومن سواهم من باب أولى. لكن هنا ملاحظة على قول المؤلف:(ومعجز القرآن) هذا من باب إضافة الصفة إلى موصوفها لأن المعنى: والقرآن المعجز، وكان ينبغي له ألا يعبر عن آيات الأنبياء بالإعجاز؛ لأن الإعجاز ليس من خصائص الأنبياء، فإن الساحر يعجز، والبهلواني يعجز، فلما كان هذا اللفظ مشتركاً بين الحق والباطل، كان الأولى أن نأتي بلفظ يتعين فيه الحق، وهو ما نطق الله به وهو (الآيات) كما قال الله تعالى في القرآن:(بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ)(العنكبوت: الآية49) .

فالأولى أن يقول: آيات القرآن بدل: معجز القرآن، والأولى في جميع ما يسمى بمعجزات الأنبياء أن نسميه آيات الأنبياء؛ لأن الآيات بمعنى العلامات الدالة على صدقه.

أما المعجزات فقد يعجز الساحر وقد يعجز غيره، فإن أحداً لا يستطيع أن يجعل الحبال كأنها حيات تسعى إلا السحرة.

ص: 539

فالسحرة يفعلون ما يعجز عنه البشر، لكن بالسحر، ولهذا نقول كان من الأولى أن يعبر عن معجزات الأنبياء التي تسمى معجزات بالآيات.

وقد قال بعض الناس: إن معجزات السحرة لا تشتبه بآيات الأنبياء؛ لأن آيات الأنبياء مقرونة بالتحدي، وهذا غير صحيح؛ لأن آيات الأنبياء تارة تكون تحدياً؛ وتارة تكون ابتداءً بدون تحد. فقد جاء الصحابة رضي الله عنهم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في غزوة الحديبية، وقالوا له: يا رسول الله، ليس عندنا ماء، فدعا بإناء فوضع أصابع يده عليه فجعل الماء يفور من بين أصابعه (1) ، وليس في هذا تحد، وهم رضي الله عنهم لم يقولوا له ائتنا بآية، بل شكوا إليه قلة الماء فجاءت هذه الآية.

وآيات الرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما تكون بغير تحد، كما جاءه الرجل وهو على المنبر صلى الله عليه وسلم، فقال: ادع الله أن يغيثنا: فدعا صلى الله عليه وسلم فأغيثوا قبل أن ينزل من منبره، وجاء في الجمعة الثانية، وقال: ادع الله أن يمسكها عنا فدعا فانفرجت السماء (2) ، وليس في هذا تحد.

وقال بعض الناس: إن معجزات الأنبياء تشبه كرامات الأولياء، فلذلك يجب أن ننكر إما آيات الأنبياء أو كرامات الأولياء، وآيات الأنبياء لا يمكن إنكارها فلننكر كرامات الأولياء؛ فقالوا: لا يمكن أن يوجد للأولياء كرامات، والصواب أن كرامات الأولياء ثابتة فيمن قبلنا وفي هذه الأمة.

(1) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية، رقم (4152) .

(2)

رواه البخاري، كتاب الاستسقاء، باب الاستسقاء في المسجد الجامع، رقم (1013) ومسلم، كتاب الاستسقاء، باب الدعاء في الاستسقاء، رقم (897) .

ص: 540

فقصة مريم فيها كرامة من عدة أوجه فقد فجاءها المخاض إلى جذع النخلة فجاءت إلى جذع النخلة لأن المخاض اضطرها أن تأتي إليه، وهي حامل تطلق، فوضعت الولد، وقيل لها:(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً)(مريم: 25) وهي امرأة نفساء، والمرأة النفساء عادة تكون ضعيفة، ثم قيل لها: هزي بجذع النخلة دون أن تصعدي إلى أعلاها، والهز بجذع النخلة لا يتأتى بل إنه صعب، فإن الرجل القوي إذا صعد إلى أعلاها وهزها تهتز، لكن إذا هزها من أسفل لا تهتز، لكن مريم قيل لها: هزي بجذع النخلة فهزت فاهتزت النخلة، وهذه كرامة (تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً) (مريم: الآية25) ، يعني مخروفة بيسر، والعادة أن الرطب إذا تساقط من فوق النخلة، فإنه يفسد ويتفضخ، لكنه في شأنها بقي رطبا جنيا، وهذه كرامة، ولما جاءت تحمل الولد فقيل لها معرضين لها بالزنى:(يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً)(مريم: 28)، (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ) (مريم: الآية29) فكلمهم، وهذه كرامة.

فهذه كرامة وهي في الحقيقة تشبه آيات الأنبياء، لكن الفرق بينهما أن آيات الأنبياء تأتي من النبي، وكرامة الأولياء تأتي من ولي متبع للنبي، وهذا الولي لا يقول إنه نبي أبداً، وقد لا يزكي نفسه ولا يقول إنه ولي فتأتيه الكرامة.

فإن قيل: كيف كان القرآن آية؟ أبلفظه أم بمعناه أم بصدق مخبره أم بماذا؟

فالجواب: أنه آية بكل معنى الآية في اللفظ والأسلوب والمعنى وأنه مهما كررته فلا يمكن أن تمل منه، وهذه الفاتحة نكررها في اليوم مرات ومرات ولا

ص: 541

نملها أبدا، وهذا على عكس أي كلام آخر، فلو قرئت قطعة من أحسن قصيدة من قصائد العرب وكررتها في اليوم مرتين فإنك تمل، ثم لا تلبث أن تحس وكأنها شيء خلق، أما هذا القرآن فإنك مهما كررته لا تمله، وربما إذا وفقك الله للتدبر أن يفتح الله عليك في المرة الثانية من المعاني واللطائف ما لم تجده في المرة الأولى.

وكذلك أيضاً في تأثيره على القلب، فإن الإنسان إذا قرأه بتدبر فإنه يلين القلب، ويوجه الإنسان إلى ربه، ويوجد طعماً عجيباً للإيمان، قال ابن عبد القوي رحمه الله في داليته المشهورة:

وحافظ على درس القرآن فإنه

يلين قلباً قاسياً مثل جلمد

فهذه من آيات القرآن، قال تعالى:(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ)(الحديد: الآية16)، وقال تعالى:(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)(الزمر: الآية23) وهذه من آيات القرآن.

ومن آيات القرآن الإصلاح التام إذا تمسكت به الأمة، فلا سبيل إلى إصلاح الأمة إلا بالقرآن، قال الله تعالى عن نبيه:(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)(القلم: 4)، وقالت عائشة رضي الله عنها:((كان خلقه القرآن)) (1) ، فصلاح الأمة بهذا القرآن، فبالقرآن تجد الأمة صالحة؛ كلمة واحدة، يد واحدة، جسد واحد، روح واحد.

قال تعالى: (إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانا)(آل عمران: الآية103) ، وهذا الأثر العظيم من آيات القرآن.

(1) رواه الإمام احمد (6/91) .

ص: 542

ومن ذلك أيضاً أن القرآن بمجرد ما يسمعه الإنسان يشعر بأنه قامت عليه الحجة، قال تعالى:(وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ)(التوبة: الآية6) ، فجعل الله تعالى سماعه أثراً في قلب هذا المؤَمَن. . ومن آيات القرآن الآثار العظيمة التي لم تكن لأي أمة قامت بكتاب؛ فتح المسلمون بالقرآن مشارق الأرض ومغاربها، وهذا لم يوجد لأي كتاب آخر.

فإذاً القرآن كله آيات من كل وجه؛ في لفظه، ومعناه، وأسلوبه، وتأثيره، وآثاره، ولا يوجد له نظير، ولهذا قال المؤلف رحمه الله (ومعجز القرآن كالمعراج)) .

قوله: (كالمعراج) المعراج مفعال من العروج، وهي آلة العروج، يعني الآلة التي يعرج بها الإنسان من أسفل إلى أعلى، فالسلم معراج ومصعد، والمعراج من خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام، لم يحصل لأحد من الأنبياء قبله، ولم يحصل لأحد بعده إلا روح المؤمن؛ فإن روح المؤمن إذا قبضت يصعد بها إلى الله عز وجل سماء فسماء، والملائكة شأنهم شأن آخر، فمن خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام المعراج؛ لأنه لم يحصل لأحد من الأنبياء سواه.

والمعراج هو أنه عرج به صلى الله عليه وسلم من الأرض إلى السماء السابعة، إلى أن بلغ مكاناً سمع فيه صريف الأقلام -أقلام القضاء والقدر. فالقلم إذا كتب به سُمع له صوت - فهو صلى الله عليه وسلم وصل إلى هذا الحد، إلى سدرة المنتهى التي ينتهي إليها كل شيء صعد من الأرض، وهو مكان ما بلغه فيما نعلم أحد من البشر.

وكان العروج وهو صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة بثلاث سنوات، أُسري به من مكة إلى المسجد الأقصى، واجتمع بالأنبياء هناك؛ لأن أنبياء بني إسرائيل

ص: 543

كلهم أو غالبهم كانوا في جهة الشام أو مصر، فجمعوا له هناك وصلى بهم إماما، إشارة إلى أنه صلى الله عليه وسلم هو إمامهم ورضوا كلهم بذلك؛ لأن الله قد أخذ عليهم الميثاق، كما قال تعالى:(وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا)(آل عمران: الآية81) .

فصلى بهم ثم صعد به جبريل سماء فسماء حتى وصل إلى السماء السابعة، وهو يمر بمن يمر به من الملائكة، وبمن يمر به من الأنبياء، ومر عَلَى عِلْيَة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكلهم إذا سلم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم يرد عليه السلام ويرحب به؛ قال له آدم: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، وقال مثل ذلك إبراهيم: مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح، وبقية الأنبياء قالوا: مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح (1) ، فشهد له الأنبياء بالبنوة والإخوة والنبوة وبالصلاح مرتين، وكل هذا من إعلاء ذكره صلى الله عليه وسلم، وهو داخل في قوله تعالى:(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)(الشرح: 4) .

وفي هذا المعراج فرض الله عليه أفضل الأعمال البدنية وهي الصلاة، ولم يفرض عليه الزكاة ولا الصيام ولا الحج، ولهذا لا نعلم عبادة فرضت من الله إلى الرسول بدون واسطة إلا الصلاة، وفرضها الله عليه خمسين صلاة في اليوم والليلة، وهذا يدل على أهميتها، وفضلها، وعناية الله بها، وأنها جديرة بأن يصرف الإنسان جميع وقته أو جله فيها؛ لأن خمسين صلاة تستوعب وقتاً طويلاً، لا سيما وأننا لا ندري كم كان عدد الركعات فيها،

(1) أخرجه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، رقم (164) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (164) .

ص: 544

ونزل نبينا وإمامنا وقائدنا وقدوتنا صلى الله عليه وسلم مقتنعاً بذلك، راضياً به مسلماً.

ففرضت الصلاة خمسين صلاة يصليها في اليوم والليلة هو وأمته، حتى قيض الله له موسى صلى الله عليه وسلم، وألهم الله موسى أن يسأله: ماذا فَرض عليك ربك؟ فأخبره، فقال: إن أمتك لا تطيق ذلك؛ إني جربت بني إسرائيل وعالجتهم أشد المعالجة (1) .

وموسى عليه الصلاة والسلام لا شك أنه قاس هذه الأمة على بني إسرائيل؛ لأنه لا يعلم الغيب، وإلا فلا يصح قياس هذه الأمة على بني إسرائيل؛ لأن هذه الأمة أطوع لله من بني إسرائيل، فهذه الأمة لما ابتلاها الله بالصيد وهم محرمون تناله أيديهم ورماحهم؛ تناله أيديهم فيما يمشي، ورماحهم فيما يطير، والعادة أن الذي يطير لا ينال إلا بالسهام، والذي يمشي لا ينال إلا بالرماح، لكن ابتلاهم الله فحرم عليهم الصيد، لحكمة هي:(لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ)(المائدة: الآية94) ، فكف الصحابة رضي الله عنهم عن الصيد مع تيسره.

أما بنو إسرائيل فقيل لهم لا تصيدوا يوم السبت سمكاً، فقالوا: لا نصيد، فطال عليهم الأمد، فابتلاهم الله يوم السبت، بحيث تأتي الحيتان شرعا على وجه الماء، وفي غير يوم السبت لا تأتي، ورأوا ألا يبقوا هكذا لا يأكلون السمك وكانوا أصحاب حيل، فأرادوا أن يحتالوا على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فوضعوا شبكاً يوم الجمعة فجاءت الحيتان على العادة يوم السبت، فدخلت الشبك وعجزت عن الخروج، فلما كان يوم

(1) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (162) .

ص: 545

الأحد أخذوها، فتحيلوا على محارم الله، لكن لم ينفعهم هذا التحيل، بل قلبهم الله تعالى قردة، فأصبحوا قردة يتعاوون، وأصبح الرجل الذي بالأمس يمشي على رجليه قرداً يمشي على يديه ورجليه. فلما كانت الحيلة التي فعلوها أقرب ما يكون للحل، مسخوا إلى أقرب ما يكون لبني آدم فصار الجزاء وفاقا من جنس العمل.

إذاً لا يمكن أن تقاس هذه الأمة السامعة المطيعة التي قال قائلهم لما استشارهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغزو: والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)(المائدة: الآية24)، أي إنا قاعدون في هذا المكان لا نتعداه. لكن قال الصحابة رضي الله عنهم للرسول صلى الله عليه وسلم: (اذهب فقالت: فنحن بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك، والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك.

فموسى عليه الصلاة والسلام لا يعلم الغيب، ومن نعمة الله عز وجل أنه كان لا يعلم عن هذه الأمة حقيقة، ولهذا قال: ارجع إلى ربك فأساله التخفيف لامتك، فرجع فوضع عنه خمساً خمسا، أو عشرا، حتى وصلت إلى خمس، فنادى منادٍ إني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي؛ هن خمس في الفعل وخمسون في الميزان (1) . وهذا يدل على فضل الصلاة وعظمها، ففرض الله عليه الصلاة ونزل إلى الأرض حتى وصل مكة بغلس وصلى بها الفجر.

وهذا المعراج من خصائص الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يحصل لأحد من الأنبياء سواه أبداً، فهو من الآيات العظيمة الدالة على كمال قدرة الله عز وجل، وعلى

(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم، رقم (162) .

ص: 546

الآيات الكبرى التي شاهدها الرسول عليه الصلاة والسلام، ولو أننا استعرضنا المعراج لوجدنا النبي صلى الله عليه وسلم في غاية ما يكون من الأدب، قال تعالى:(مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)(النجم: 17) ، فلم يتجاوز النظر الذي حدد له؛ فكان في غاية ما يكون من الأدب، و (مَا زَاغَ الْبَصَرُ) (النجم: الآية17) أي ما نظر شيئاً على خلاف الواقع. قال تعالى: (لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى)(النجم: 18)، والكبرى فيها وجهان من الإعراب: الوجه الأول: مفعول به: أي لقد رأى الكبرى من آيات ربه، والوجه الثاني: صفة لآيات. والظاهر أن كونها صفة أبلغ؛ لأنها إذا كانت مفعولاً به صار المعنى أنه رأى الكبرى التي لا أكبر منها، وإذا قلنا: إنها صفة، صار المعنى رأى من الآيات الكبرى الموجودة في ذلك الوقت، وهي كثيرة.

وهنا قد يرد إشكال، حيث وجد النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء في السموات فكيف نقول: إنه اختصه بالمعراج مع أن الأنبياء كانوا في السموات؟

والجواب على ذلك من وجهين:

الأول: أن الأنبياء لم يعرج بهم وهم أحياء من الدنيا إلى السموات، وإنما وجد أرواحهم في السموات.

والثاني: أنه حتى الذين في السموات لم يصلوا إلى سدرة المنتهى؛ لأن أعلاهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في السماء السابعة، ولم يصل إلى سدرة المنتهى. وهذان فرقان واضحان.

ومن الآيات التي أخبرت عن الإسراء والمعراج قوله تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)(النجم: 1)(مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)(النجم: 2)، فأقسم الله تعالى بالنجم حين هويه؛ فقيل: المعنى حين غروبه لأنه يهوي في الأفق، وقيل: المعنى

ص: 547

حين انطلاقه ليضرب مسترق السمع، ويكون في هذا إشارة إلى حماية الله تعالى للوحي الذي نزل على محمد، وهذا المعنى أصح.

قال تعالى: (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى)(النجم: 1)(مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى)(النجم: 2) ضل: أي خالف الحق عن جهل، وغوى: أي خالف الحق عن عمد، وصاحبكم: هو النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما عدل عن قوله ما ضل محمد أو ما ضل النبي إلى قوله:(وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)(النجم: 3) لإقامة الحجة عليهم وعلى بلاهتهم، كأنما يقول: ما ضل هذا الرجل الذي تعرفونه، وهو صاحبكم؛ نشأ بينكم وعرفتم صدقه وأمانته، والصاحب أعلم الناس بصاحبه، فقد يعلم الصاحب من صاحبه ما لا يعلمه القريب من قريبه. فهذا صاحبكم. فكيف تقولون إنه ضل؟!

ثم قال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى)(النجم: 3)، ولم يقل: ما ينطق بالهوى؛ أي ما ينطق بالهوى الذي يريد، بل قال تعالى (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) (النجم: 3) يعني لا ينطق نطقاً صادراً عن هواه، وإنما ينطق نطقاً صادراً عن وحي، أو عن اجتهاد أراد به المصلحة لا لمجرد الهوى، والفرق بينهما عظيم.

ولهذا قال: (إِنْ هُوَ)(النجم: الآية4)) أي نطقه (إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)(النجم: الآية4)، والمراد بالضمير في قوله:(إِنْ هُوَ)(النجم: الآية4) القرآن خاصة، وقوله:(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)(النجم: 5) ، وهو جبريل، والذي علمه جبريل هو القرآن:(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى)(النجم: 5)(ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى)(النجم: 6) مرة: يعني هيئة حسنة. فوصفه بالقوة والحسن والجمال والبهاء، وإذا اجتمعت القوة والحسن والبهاء والجمال فذلك هو الكمال.

ثم وصفه بوصف ثالث وهو علو المنزلة، فقال تعالى:(ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى)

ص: 548

(النجم: 6)(وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى)(لنجم: 7)، استوى: أي كمل، يعن كان على خلقته وهو بالأفق الأعلى، فقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم على خلقته التي خلقه الله عليها مرتين؛ مرة عند سدرة المنتهى، ومرة في الأرض.

رآه صلى الله عليه وسلم بالأفق الأعلى وله ستمائة جناح، قد سد الأفق من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، يعني غيمة واحدة سدت الأفق (1) .

قال تعالى: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى)(النجم: 8)، دنا: أي قرب، والمقصود ذو المرة وهو جبريل، (فَتَدَلَّى) والتدلي: النزول من فوق. (فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى)(النجم: 9) ، أي كان جبريل قاب قوسين أو أدنى من الرسول صلى الله عليه وسلم.

(فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى)(النجم: 10) ، أي أوحى جبريل، إلى عبده: أي عبد الله، ما أوحى: أي القرآن وأبهمه تعظيماً له، ولا يقال إن قوله: أوحى ما أوحى هو تحصيل حاصل، بل يقال: إن هذا إبهام للتعظيم، كقوله تعالى:(فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ)(طه: الآية78) ومعلوم أن الذي غشيهم هو الذي غشيهم، لكن جاء بصورة الإبهام للتعظيم. والمعنى: أوحى لعبده شيئاً عظيماً من الوحي.

قال تعالى: (مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى)(النجم: 11)، فالفؤاد ما كذب الذي رأى بل رآه على ما هو عليه صدقاً وحقاً. (أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى) (النجم: 12) ، أي أفتجادلونه على شيء رآه بعينه وقلبه.

قال تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى)(النجم: 13) ، أي قد رأى جبريل مرةً

(1) رواه البخاري، كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، رقم (3234)

ص: 549

أخرى في الأفق نازلاً (عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى)(النجم: 14)، وهذه هي المرة الثانية التي رآه على خلقته التي خلقه الله عليها (عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى) (النجم: 15) ، عند سدرة المنتهى جنة المأوى، وهذا يدل على أن الجنة عليا فوق السموات - جعلنا الله من أهلها - (إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى) (النجم: 16) ، يعني رآه حين يغشى السدرة ما يغشى، وهنا أيضاً إبهام للتعظيم، فالذي غشيها من البهاء والحسن والجمال ما يبهر العقول. فهي سدرة لكن غشيها جمال عظيم يبهر العقول.

(مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى)(النجم: 17) ، يعني ما مال البصر وما تجاوز الحد، فهو لم يدر يميناً ولا شمالاً، ولم يتقدم أماماً ولا فوقاً، وذلك لكمال أدبه صلى الله عليه وسلم، قال تعالى:(لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى)(النجم: 18) وهذه هي آيات المعراج.

أما عن آيات الإسراء فقال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الإسراء: 1)، وقوله تعالى:(لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) يؤيد ما قلناه سابقاً من أن الأولى في قوله تعالى: (مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى) أن الكبرى صفة لآيات، وذلك أولى من الاحتمال الآخر وهو كونها مفعولاً به، وذلك لأن معنى قوله في سورة الإسراء:(لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا) أي بعض آياتنا.

والبحث في مسائل المعراج من وجوه:

الأول: متى كان؟

كان قبل الهجرة بثلاثة سنوات، وهذا أرجح ما قيل في ذلك، على انه

ص: 550

قد قيل فيه أقوال أخرى ولكنها لم تحرر؛ لأن الناس في الجاهلية ما كانوا يعتنون بهذه الأمور، ولهذا لم يكن لهم تاريخ، بل كان الجيد منهم والمثقف يؤرخ بعام الفيل، وما عرف التاريخ إلا في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه. إذاً هو على الأرجح قبل الهجرة بثلاث سنوات.

الثاني: من أين كان؟

كان المسجد الحرام من الحجر، أي حجر الكعبة (1) ، وقد ورد في بعض ألفاظ الحديث أنه كان من بيت أم هانئ، والجمع بينهما أن يقال: كان نائماً عند أم هانئ فأتاه آتٍ فأيقظه، فقام إلى المسجد الحرام، واضطجع عند الحِجْر فعرج به من هناك، من المسجد الحرام.

الثالث هل كان يقظة أو مناما؟

الصواب المقطوع به أنه كان يقظة؛ لأن الله تعالى قال: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) ولم يقل بروح عبده، والعبد هو الجسم الذي فيه الروح، فقد أسري به بجسمه صلوات الله وسلامه عليه يقظة.

ويدل لذلك أيضاً أنه لو كان مناماً لم تنكره قريش؛ لأن المنام لا ينكر، فالإنسان لو قال: انه رأى في المنام انه ذهب إلى أقصى الشرق أو أقصى الغرب ورأى ما رأى فإنه لا يكذب، فلولا أنه كان بجسمه ويقظة ما كذبت به قريش.

الرابع: هل تكرر؟

(1) أخرجه البخاري، كتاب المناقب، باب حديث الإسراء، رقم (3886) ، ومسلم كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح الدجال، رقم (170) .

ص: 551

الصحيح - إن لم نقل المقطوع به - أنه لم يتكرر، وأنه ليس إلا مرة واحدة.

الخامس: هل الإسراء والمعراج في ليلة واحدة؟ أو الإسراء في ليلة والمعراج في ليلة؟

الصواب أنهما في ليلة واحدة، لقوله تعالى:(لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)(الإسراء: الآية1)، والآيات التي ذكر الله انه يريه إياها هي قوله:(لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى)(النجم: 18) ، فالصواب أن الإسراء والمعراج، كانا في ليلة واحدة.

وهنا يجدر بنا أن ننبه على كتيب في المعراج، تنسب روايته إلى عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما، وهو كتيب مطول ولكن أكثره ليس بصحيح، ولا تجوز قراءته، وقد كان الناس فيما سبق يقرؤونه ويجتمعون إلى قارئه، وفيه أشياء منكرة قطعاً. فيجب الحذر من هذا الكتاب؛ لأنه موضوع على ابن عباس رضي الله عنهما ولا يصح عنه.

السادس: هل كان المعراج كما اشتهر عند الناس ليلة سبعة وعشرين من رجب؟

اشتهر عند الناس أنه كان ليلة السابعة والعشرين من رجب، وصار بعض الناس يحتفل به، وبعض الدول تجعله عطلة رسمية، مع أنهم يحكمون بغير ما أنزل الله، وهذا من التناقض العجيب

ولكن الصواب أن المعراج ليس في رجب، وأقرب ما قيل: أنه في ربيع الأول؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام ولد في ربيع الأول، وأنزل عليه الوحي أول ما نزل في ربيع الأول، وقد نزل عليه القرآن في رمضان لكن أول ما بدئ به في الوحي الرؤيا الصادقة من ربيع، كما قالت عائشة رضي الله عنها: كان أول ما بدئ بالوحي أنه أن يرى الرؤيا الصالحة حتى تأتي مثل

ص: 552

فلق الصبح (1) ، وبقي على هذا ستة أشهر، وهي: ربيع الأول، والثاني، وجماد الأول، والثاني، ورجب، وشعبان، وفي رمضان أنزل عليه القرآن.

وإذا قارنت بين هذا وبين قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ((الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة)) (2) ، ونسبت ستة الأشهر إلى الثلاث والعشرين سنة وهي مدة الوحي، صارت ستة الأشهر بالنسبة للثلاث والعشرين سنة، جزءاً من ستة وأربعين جزءاً من النبوة.

إذاً فالنبي صلى الله عليه وسلم ولد في ربيع، وأول ما جاءه الوحي في ربيع، لكن أول ما أنزل عليه القرآن في رمضان، وهاجر في ربيع، وتوفي في ربيع، فكل الحوادث الكبيرة في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام كانت في ربيع، فأصح ما قيل: إن المعراج كان في ربيع وليس في رجب، لكن اشتهر أنه في رجب، وصار عند الناس كأنه مجزوم به، كما اشتهر أن ولادته كانت في ليلة الثاني عشر، وهذا لا أصل له.

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: (حقاً بلا مين ولا اعوجاج) والمين: هو الكذب، والاعوجاج: هو الانحراف عن الاستقامة، فهو حق لا كذب فيه، وهو استقامة ليس فيها اعوجاج ولا تحريف.

(1) رواه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب بدء الوحي، رقم (4) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بدء الوحي، رقم (160) .

(2)

رواه البخاري، كتاب التعبير، باب الرؤيا الصالحة....، رقم (6988) ، ومسلم، كتاب الرؤيا، باب منه، رقم (2263) .

ص: 553

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

139-

فكم حباه ربه وفضله

وخصه سبحانه وخوله

ــ

الشرح

قوله رحمه الله: (فكم حباه ربه وفضله) يعني ما أكثر ما حباه ربه وفضله، فكم هنا تكثيرية، ويجوز أن تكون استفهاما يراد به التكثير، والمعنى واحد، (حباه ربه وفضله) وحبى حباء بمعنى الإعطاء، والتفضيل بمعنى الزيادة، (وخصه سبحانه) يعني بأشياء لم تكن لغيره، (وخوله) أي أعطاه، فعليه: الحباء والتخويل بمعنى واحد.

فالله سبحانه وتعالى خص نبيه عليه الصلاة والسلام بخصائص لم تكن لغيره، وفضله بفضائل لم تكن لغيره، وأعطاه من الهبات ما لم تكن لغيره، فصلوات لله وسلامه عليه.

ص: 554

فصل

في التنبيه على بعض معجزاته صلى الله عليه وسلم

وهي كثيرةٌ جداً

140-

ومعجزات خاتم الأنباء

كثيرة تجل عن إحصائي

141-

منها كلام الله معجز الورى

كذا انشقاق البدر من غير امترا

ــ

الشرح

قال رحمه الله: (ومعجزات خاتم الأنباء) أي خاتم أنباء الأنبياء. الأنباء أي أنباء الأنبياء، فهو خاتم النبيين لا خاتم الأنباء، لأن الأنباء جمع نبأ، لكن مراد المؤلف رحمه الله خاتم أنباء الأنبياء، وخاتم بفتح التاء كما في القرآن، وهو أبلغ من خاتم بكسر التاء؛ لان خاتم بالفتح بمعنى الطابع الذي لا ينفذ من ورائه شيء، والخاتِم بالكسر بمعنى الآخِر، إذا فالخاتم بالفتح أبلغ من الخاتم.

والمعجزات: جمع معجزة، وهي في التعريف أمر خارق للعادة يظهره الله سبحانه وتعالى على يد الرسول شهادة بصدقه، فهو يشهد بصدقه بالفعل وهو إظهار هذه المعجزة.

فقولنا: أمر خارق للعادة، خرج به ما كان جارياً على سنن العادة، فإنه لا يعتبر هذا معجزة، ولا كرامة لولي، فلو أن رجلاً ادعى الولاية لله، وأراد أن يثبت ذلك للناس بكرامة له، فاخبر أن الشمس تطلع في اليوم المحدد في الوقت المحدد، وكان هذا الوقت هو موعد طلوعها الذي يعرفه الناس

ص: 555

ويعهدونه، فخرجت كما قال، فخرجت كما قال، فإنه لا يعد ذلك شهادة له بالولاية، ولا يعد كرامة له؛ لأنه ليس خارقاً للعادة، فلا يكون كرامة.

ولما ناظر شيخ البطائحية شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في العقيدة قال له شيخ البطائحية: أنا وأنت أمام الواقع ندخل في النار، فأينا لم تحرقه النار فهو الذي على الحق، ومن أحرقته النار فهو على باطل، فقال له شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: نعم ليس عندي مانع، فإذا كان الله عز وجل جعل النار برداً وسلاما على إبراهيم، فإنها تكون برداً وسلاما على أمة محمد، فلا مانع من أن ندخل النار، لكن بشرط أن نغتسل وننظف أجسامنا أنا وأنت قبل أن ندخل النار، فنكس الرجل على عقبيه، فقال شيخ الإسلام: أنا أعلم أن هذا الرجل قد طلى جسمه بمادة تمنع الاحتراق، فأراد أن يعجزني بهذا، فبهت الذي ابتدع.

مسألة: لو أن رجلاً من الناس دخل النار حقيقة ولم يحترق تأييداً للشرع هل يعد هذا كرامة؟

الجواب: نعم، لأنه أمر خارق للعادة.

وقولنا: يظهره الله على يد الرسول تأييدا له فإن أظهره الله على مدعي الرسالة تكذيباً له لا تصديقاً فليس بمعجزة، وقد ذكر ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (1) وغيره من المؤرخين أنا مسيلمة الكذاب نبي اليمامة كان يدعي أنه رسول، وقد جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: أنا أريد أن أكون أنا وأنت شركاء في الرسالة.

(1) انظر البداية والنهاية 6/331.

ص: 556

وقد جاءه قومه في يوم من الأيام، وقالوا: يا نبي الله - وهو كاذب - إن بئرنا غار ماؤها، ولم يبق فيها إلا القليل من الماء الذي لا يروينا، فقال: أنا آت إليكم، فجاء إليهم وطلب ماء، فأعطوه ماء فتمضمض به ومجه في البئر، فصاروا ينتظرون أن تجيش بالماء كما صار ذلك في بئر غزوة الحديبية فلما مج هذا الماء في الماء الباقي غار بإذن الله، وهذا خارق للعادة وليس موافقاً لها، لكن كان تكذيباً لا تصديقا.

وذكروا عنه أيضاً، أنهم أتوه بصبي شعر رأسه متمزق ليمسحه حتى يخرج بقية الشعر، فلما مسح على رأسه زال الشعر الموجود، وصار الصبي أصلع بالمرة، وهذا أيضاً خارق للعادة؛ لأن الإنسان لو مسح على رأس الصبي ما نبت الشعر ولا زال، لكن كان ذلك تكذيباً له.

ولهذا قلنا: المعجزة أمرٌ خارق للعادة يظهره الله على يد الرسول تأييداً له وتصديقاً له.

قال رحمه الله: (ومعجزات خاتم الأنباء كثيرة) وهنا أحب أن ارشد إلى فصل نافع جداً في هذا الموضوع، ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في آخر كتابه الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1) ، حيث ذكر كلاماً حسناً جدا، ونقله ابن كثير في البداية والنهاية (2) ، وقد ذكر ابن كثير أيضاً آيات كثيرة للرسول عليه الصلاة والسلام في كتابه البداية والنهاية لما تكلم على آخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، حيث ذكر آيات؛ أرضية، وسماوية،

(1) انظر الجواب الصحيح 6/324.

(2)

انظر البداية والنهاية 6/76.

ص: 557

وحيوانية، وغير ذلك. فمن أراد الازدياد من ذلك فليراجعه. ولهذا قال المؤلف:(تجل عن إحصاء) أي لكثرتها.

قال المؤلف رحمه الله: (منها كلام الله معجز الورى) أي من هذه المعجزات (كلام الله) عز وجل وهو القرآن، الذي أعجز الورى، وقد ذكرنا فيما سبق شيئاً من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم؛ فمن ذلك:

1-

عجز الناس أن يأتوا بمثله، ولا بسورة، ولا بحديث. مع أنهم أمراء الفصاحة والبلاغة، وهذا لا شك أنه من آيات الله عز وجل.

لكن الغريب أن بعض العلماء قال: إنهم عجزوا بالصرفة لا بمقتضى الطبيعة، يعني أنهم قادرون من حيث طبيعتهم على معارضة القرآن، لكن صرفوا، أي صرفهم الله عن معارضته، فيكون إعجاز القرآن على هذا القول لا لذات القرآن، ولكن لأمر خارج وهو صرفهم عن المعارضة، وهذا القول باطل لا شك في ذلك.

ثم على تقدير التسليم، فإن القرآن يعتبر بذلك آية؛ لأن كون الله صرفهم عن معارضته يدل على أنه لا تمكن معارضته شرعاً، ولكن الذي نرى أنه الصواب أنهم عاجزون عن الإتيان بمثله طبعاً لا صرفاً، بمعنى أنهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثله.

2-

تأثيره وآثاره؛ تأثيره على القلوب، وآثاره في الفتوحات وانتصار الأمة الإسلامية وإعزازها وغير ذلك.

3-

أن قارئه لا يمل منه ولو كرره عدة مرات، بخلاف غيره فإنه مهما كان

ص: 558

من الفصاحة والبلاغة فإنه يمل.

4-

حفظ الله له حيث بقي إلى وقتنا الحاضر في القرن الخامس عشر، ولم يستطع أحد أن يغير منه حرفاً واحداً، بينما الكتب السابقة بقيت دون ذلك وحرفت.

5-

ما فيه من الأخبار السابقة واللاحقة، حيث يخبر عن الشيء فيقع كما اخبر ويخبر عن الماضي، ولا شك أن الماضي كما اخبر، ولهذا قال الله تعالى في سورة إبراهيم:(أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ)(إبراهيم: الآية9) ، ولهذا يجب التحري في نقل أخبار الأمم السابقة؛ لأنه لا يعلمهم إلا الله عز وجل.

والمهم أن القرآن من أعظم المعجزات للنبي صلى الله عليه وسلم، وأقول: من أعظم المعجزات تبعاً للمؤلف، وإلا فالصواب أن نقول: الآيات.

قوله: (كذا انشقاق البدر) أيضاً من آيات الرسول عليه الصلاة والسلام: انشقاق البدر أي القمر، وقد انشق القمر فلقتين حقيقة لا برأي العين، فكان أحدهما على جبل الصفا والصفا والثاني على جبل المروة، يشاهده الناس من هنا ومن هنا، قال الله تعالى:(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ)(القمر: 1)(وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ)(القمر: 2) ، لما أراهم النبي عليه الصلاة والسلام هذه الآية وشاهدوها بأعينهم، قالوا: سحرنا محمد، ليس صحيحاً أن القمر ينشق.

والعجيب أن آخر هذه الأمة وافق المشركين في إنكار انشقاق القمر، قالوا: انشقاق القمر غير صحيح، ولا يمكن أن ينشق القمر، لكن قوله تعالى:(اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ) أي ظهر نور الرسالة. وهذا تحريف

ص: 559

فهو سبحانه يقول: (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا) ، ثم ليس هناك مانع من أن ينشق القمر.

وأما من زعم أن الأفلاك لا يمكن أن تتغير فتباً لعقله، والله تعالى يقول:(إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)(الانفطار: 1)(وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ)(الانفطار: 2) ، وما هذا إلا تغير للأفلاك، وكذلك قال تعالى:(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)(التكوير: 1)(وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ)(التكوير: 2) ، وهذا تغير للأفلاك، فالذي جمع القمر حتى صار كتلة واحدة قادر على أن يفرقه ويجعله كتلاً.

ولهذا فإننا نأسف أن يقع مثل هذا من علماء أجلاء معاصرين؛ يقولون: إنه لا يمكن انشقاق القمر؛ لأن هذا تغير أفلاك، وهذا لا يمكن. بل الذي خلق الأفلاك قادر على أن يمزقها سبحانه وتعالى.

وقال آخرون منكرين انشقاق القمر بحجة باردة؛ قالوا: لو كان انشقاق القمر حقاً لعلم به الناس في كل مكان على الأرض؛ لعلم به أهل الهند، وأهل الغرب، وأهل الشمال، وأهل الجنوب، ولكان نقله مما تتوافر الدواعي عليه، ولنقل في التواريخ، ولم ينقل هذا في التواريخ.

والجواب على ذلك أن يقال: لا يوجد تاريخ أصدق من كلام الله عز وجل: القرآن، ولا تاريخ أصدق مما جاء في الصحيحين البخاري ومسلم، حيث تلقتهما الأمة الإسلامية بالقبول.

فإذا قالوا: لماذا لم يذكره مؤرخو الهند مثلاً أو غيرهم؟

فالجواب أن يقال: ربما كان عندهم في تلك الليلة غيوم وأمطار حجبت رؤية القمر، أو نقول: إن انشقاق القمر لم يبق مدة طويلة حتى يتمكن الناس

ص: 560

من رؤيته، إذ ربما تكون المدة يسيرة حين شاهده الناس ثم تلاءم، وربما أنضاف إلى ذلك أن الناس في ذلك الوقت في الهند مثلاً كانوا نياما؛ لأن الهند يسبق مكة في الزمن؛ فيقع هذا وهم نائمون ثم يلتئم قبل أن يستيقظوا، ثم إنه لا يهمنا في شيء كون علماء الهند قالوا أم لم يقولوه، فما دام موجوداً في كتاب الله عز وجل وفيما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلا يهمنا أن ينقل أو لا ينقل.

والمهم أن انشقاق البدر من آيات النبي صلى الله عليه وسلم، إذ لا يعلم أنه انشق لأحد غيره عليه الصلاة والسلام، وهو أعظم من بعض الآيات التي حصلت للأنبياء من قبل، حتى إن ابن كثير رحمه الله قال: ما من آية حصلت لنبي إلا وجد مثلها للرسول عليه الصلاة والسلام أو لأتباع الرسول، والآية لأتباع الرسول تعتبر آية للرسول؛ لأنها شهادة بصدق ما هو عليه هذا المتبع.

كان موسى عليه الصلاة والسلام يضرب الحجر - إما حجراً معيناً أو أي حجر - فيتفجر انهارا وعيونا، والحجر يمكن أن يتفجر كما قال تعالى:(وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ)(البقرة: الآية74) ، لكن الماء نبع من الإناء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي غزوة الحديبية جاءوا يشكون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قلة الماء، فدعا بإناء فيه ماء يسير فوضع يده فيه، فجعل الماء يفور من بين أصابعه كالعيون، حتى ارتوى الناس كلهم، وكانوا ألفاً وأربعمائة شخصا، وهذا أعظم من أن يتفجر الحجر، لأن الحجر جرت العادة بأنه يتفجر، أما الإناء فمن أين يتفجر؟ وأين صلته بالأرض؟

فلهذا نقول: آيات الرسول صلى الله عليه وسلم عظيمة كثيرة، وكما قال ابن كثير رحمه

ص: 561

الله ما من آية لنبي إلا حصل مثلها أو أعظم للرسول عليه الصلاة والسلام أو لإتباع الرسول، فإحياء الموتى حصل؛ إما للرسول صلى الله عليه وسلم إن صحت الرواية؛ وإما لأتباعه، فهذا صلة بن أشيم من التابعين العباد، كان في سفر فماتت فرسه، فبقي ليس له مركوب، فدعا الله تعالى أن يحييها حتى توصله إلى بلده، فأحياها الله، وركب عليها، ولما وصل إلى البلد، قال لابنه: يا بني ألق السرج عن الفرس فإنه عارية، فتعجب الولد! فلما وضع السرج عنه سقط الفرس ميتاً؛ لأنه كان دعا الله أن يحييه حتى يوصله إلى أهله فحصل هذا، فهذا إحياء للموتى وهو إحياء مؤقت أيضاً كأنه عارية مؤقتة وهناك أشياء كثيرة في البداية والنهاية فلتراجع.

وقوله: (من غير امترا) أي من غير شك فإن انشقاق القمر عندنا يقين في حدوثه كرؤيتنا للقمر الآن، لا نمتري في هذا، ونقول: إن الله على كل شيء قدير، فالذي جمع القمر قادر على تفريقه.

ص: 562

فصل

في ذكر فضيلة نبينا وأولي العزم

وغيرهم من النبيين والمرسلين

142-

وأفضل العالم من غير امترا

نبينا المبعوث في أم القرى

143-

وبعده الأفضل أهل العزم

فالرسل ثم الانبيا بالجزم

ــ

الشرح

قال المؤلف رحمه الله: فصل في ذكر فضيلة نبينا صلى الله عليه وسلم، وأولي العزم، وغيرهم من النبيين والمرسلين، وليعلم ما يلي:

أولاً: أن الفضل أو التفاضل مراتب لا تتلقى إلا من الوحي؛ لأن المراتب تختلف اختلافاً عظيماً وتتباين تبايناً كبيرا، ولا يمكن أن نرتب فضيلة على أخرى إلا بدليل من الشرع، فإن لم يكن لنا دليل من الشرع فليس لنا الحق في أن نتكلم.

ثانياً: الترتيب في الفضيلة بناء على ما يظهر لنا، لا على ما هو الواقع عند الله عز وجل؛ لأننا قد نرى شخصين يصليان أحدهما قد أجاد صلاته ظاهراً تماماً؛ بحيث لا نراه يتحرك ولا يعبث، ونراه قد خضع برأسه وصلى صلاة كاملة باعتبار ما يظهر لنا، وآخر نرى أنه يحصل منه بعض الحركة وما أشبه ذلك، فنحن إذا فضلنا الأول نفضله بحسب ما يظهر لنا، أما عند الله فقد يكون الثاني أفضل. فقد يكون هذا الثاني قام بقلبه من الإخلاص لله وتعظيم الله عز وجل ما لم يكن في قلب الأول؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة

ص: 563

والسلام في شارب الخمر الذي يكثر أن يجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنه يحب الله)) (1) . مع أنه يكثر شرب الخمر، فلو أننا حكمنا بالظاهر لقلنا: هذا الذي يكثر شرب الخمر ليس في قلبه محبة لله، ومع ذلك قال الرسول عليه الصلاة والسلام:(إنه يحب الله)) .

ولهذا فإننا حين نفضل فإنما نفضل بحسب ما يظهر لنا. أما ما ورد به النص فلا شك أننا نتبعه؛ لأن النص ورد من عند الله، والله تعالى عليم بما في القلوب وبما في الظواهر.

قال المؤلف رحمه الله: (وأفضل العالم من غير امترا نبينا) ثم قال في البيت التالي: (وبعده الأفضل أهل العزم) ثم قال رحمه الله: (فالرسل ثم الانبيا بالجزم) . هذه المسألة، وهي التفاضل بين الأنبياء، ثابتة شرعا، فقد قال الله تبارك وتعالى:(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ)(البقرة: الآية253) ، هذا في الرسل، وقال تعالى:(وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً)(الإسراء: الآية55) ، فالله سبحانه وتعالى فضل الرسل بعضهم على بعض، وفضل النبيين بعضهم على بعض، وفضل الناس بعضهم على بعض، قال تعالى:(وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ)(النساء: الآية32) ، فالله عز وجل فضل بعض الناس على بعض؛ الرسل والأنبياء وغيرهم.

والعقل يدل على أن البعض أفضل من البعض، لأن من قام بمهمات عظيمة جليلة يقتضي العقل انه أفضل ممن دونه، فالتفاضل إذاً ثابت.

والتفضيل يقتضي أن بعضهم أفضل من بعض في الإيمان وفي الأعمال

(1) رواه البخاري، كتاب الحدود، باب ما يكره من لعن شارب الخمر

، رقم (6780) .

ص: 564

الصالحة أيضاً، ودليل ذلك قوله تعالى:(إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)(الحجرات: الآية13) فدل هذا على أن الكرم عند الله بالتقوى، ولا شك أنه قد جرى لبعض الأنبياء من المحن ما لم يجر لغيرهم، فأي محنة حصلت لإنسان مثل ما حصل لإبراهيم عليه الصلاة والسلام في إلقائه في النار إزاء توحيده وما يدعو إليه من التوحيد، فيلقى في النار وهو يراها أمامه تضطرم.

وكذلك ما حصل في الأمر بذبح ولده، فإن هذه محنة عظيمة؛ ويصبر على ذلك، وهذا شيء عظيم، ودليل على الإخلاص لله تعالى. يقال له: اذبح ولدك فيمتثل ويستسلم، وليس عنده غيره، والولد قد بلغ معه السعي؛ فليس صغيراً لا يلتفت له، وليس كبيراً قد بان من أبيه، بل صار يافعا، وأكبر ما تتعلق به النفس في مثل هذا السن، ثم يقال: اذبح ولدك، فإن هذه محنة عظيمة.

ثم إنه قد يفضل النبي غيره بكثرة أتباعه؛ لأن أتباعه كلما عملوا عملاً صالحا فله مثل أجورهم.

فإن قال قائل: كيف نثبت ذلك وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن التفضيل بين الأنبياء (1) ؟ فيقال: حاشى لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينهى عما أثبته الله ولا يمكن ذلك أبداً، فإذا اخبر الله عز وجل انه فضل بعض النبيين على بعض، فلا يمكن للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول: لا تفضلوا بين الأنبياء، ولكنه نهى عن التفضيل بين الأنبياء حيث يكون الحقد والعدوان، فلو أن أحداً فضل محمدا صلى الله عليه وسلم على

(1) رواه البخاري، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: وإن يونس لمن المرسلين، ومسلم، كتاب الفضائل، باب من فضائل موسى صلى الله عليه وسلم، رقم (2373) .

ص: 565

موسى بحضرة اليهود، وصار ذلك سبباً للعداوة أو البغضاء ثم سببا للشر فإنه لا يفضل درءاً للمفسدة. فالذي نهى عنه النبي عليه الصلاة والسلام من التفضيل ما كان موجبا للمفسدة، أما ما كان حكاية للواقع فإن الرسول عليه الصلاة والسلام لا يمكن أن ينهى عنه وقد أثبته الله.

إذاً فنحن حينما نتكلم عن تفضيل الرسول عليه الصلاة والسلام على جميع الناس، فإننا نتكلم به خبراً عما قاله الله، ولكننا لا نتكلم به حيث يكون في ذلك شر فساد.

قال المؤلف رحمه الله: (وأفضل العالم من غير امترا) ظاهر كلام المؤلف رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من كل المخلوقات؛ لأن العالم هو كل ما سوى الله، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى:(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(الفاتحة: 2) فليس هناك إلا رب ومربوب، والعالمون كلهم مربوبون، وإذا لم يكن إلا رب ومربوب صار المراد بالعالمين من سوى الله، فيشمل ذلك عالم الملائكة، وعالم الجن، وعالم الإنس، وعالم الجمادات، وكل شيء.

فهل يوجد دليل على أن الرسول عليه الصلاة والسلام أفضل من هؤلاء كلهم؟ والجواب أن نقول: إن مراد المؤلف أفضل العالم من البشر نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، كما قال عليه الصلاة والسلام:((أنا سيد ولد آدم)) (1) ، أما من سواهم فإننا نتوقف وإن كنا يغلب على ظننا أن الرسول عليه الصلاة والسلام أفضل الخلق على الإطلاق، وفي ذلك يقول الناظم:

وأفضل الخلق على الإطلاق

نبينا فمل عن الشقاق

مل: فعل أمر من مال يميل

(1) تقدم تخريجه ص 75

ص: 566

قال رحمه الله: (نبينا المبعوث في أم القرى) وهذه صفة كاشفة وليست صفة مقيدة؛ لأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلا في أم القرى، ومعنى المبعوث: المرسل إلى الناس، والمراد بأم القرى: مكة، وسميت أم القرى لأن القرى كلها تؤمها؛ في الحج إليها، والاعتمار إليها، وتؤمها في اتجاهها إليها في الصلاة وغير الصلاة.

وقال بعض الناس: هي أم القرى لأنها مركز العالم، ووسط العالم، وهذا أمر جغرافي لا ندري عنه، ولكن إن ثبت فلا مانع من أن نقول به، وإن لم يثبت فهي أمر القرى في الفضائل تؤمها القرى في الحج والعمرة والاتجاه.

قال رحمه الله: (وبعده الأفضل أهل العزم) أي بعد محمد عليه الصلاة والسلام فالأفضل أهل العزم، وهم أربعة غير محمد صلى الله عليه وسلم وهم: إبراهيم وموسى وعيسى ونوح، وهم مرتبون على هذا: إبراهيم، ثم موسى، أما نوح وعيسى فاختلف العلماء رحمهم الله أيهما أفضل؟

فقيل: إن عيسى أفضل؛ لما أعطاه الله عز وجل من الآيات، ولكثرة أتباعه، وقيل: إن نوحاً أفضل؛ لأنه أول الرسل، وعانى من المشقة والتعب من قومه ما لم يذكر لنا أنه حصل لعيسى، حيث لبت فيهم ألف سنة إلا خمسين وما آمن معه إلا قليل.

ولكننا نقول: إن الفضل الذي عند الله لا نعلمه، أما ما تبين لنا من شأنهم في الدنيا، فلكل واحد مزية لم تحصل للآخر، وحينئذٍ نتوقف، فإذا توقفنا فنقدم ذكراً نوحا؛ لأنه الأول وعيسى بعده، ومع ذلك فإن هذا التقديم لا يقتضي الترتيب لأن الواو لا تستلزم الترتيب.

ثم قال: (فالرسل ثم الانبيا) الرسل: جمع رسول، والرسول هو من

ص: 567

أرسل. تقول: أرسلت فلاناً إلى فلان، أي أمرته أن يبلغ فلاناً عني شيئاً، أما النبي: فإنه من النبأ، وهو الذي أتاه الخبر لكن لم يكلف بالتبليغ، وهذا الذي قررنا هو مذهب جمهور العلماء رحمهم الله، أن الرسول من أُوحي إليه بشرع وأمر أن يبلغه، وأما النبي فهو من أوحي إليه بشرع دون أن يكلف بالتبليغ، ولكنه لم يمنع من التبليغ، يعني نبئ إليه بشرع ولم يقل له: لا تبلغه، فإذا بلغه كان متطوعاً.

فالفرق بين النبي والرسول: أن الرسول ملزم بالتبليغ والنبي غير ملزم، لكن غير ممنوع من التبليغ، بل يعمل هو بنفسه ويجدد الشرع ولكنه لا يلزم بالتبليغ، وهذا هو وجه كون الرسول أفضل من النبي؛ لأن الرسول ألزم بالتبليغ، وبزيادة تكليف، والتكليف ليس بالأمر الهين؛ لأن فيه معاناة الناس والتعب معهم.

ولا يخفى علينا جميعاً ما حصل للرسل من الأذية، بل من الضرر أحياناً، لكن النبي يتعبد بما أوحى إليه ولا يكلف أن يبلغ به، فمن اقتدى به واخذ بما هو عليه فله ذلك، ومن لا فلا؛ ولهذا كان الأنبياء في بني إسرائيل كثيرين جداً؛ لأن بني إسرائيل قوم عتاة يحتاجون إلى تجديد الوحي دائما. إذاً مرتبة الرسل فوق مرتبة الأنبياء وهذا صحيح.

وقول المؤلف (بالجزم) أي قل ذلك بالجزم، أو قلت ذلك بالجزم، وعلى الثاني يكون الكلام خبراً عن عقيدة المؤلف، وعلى الأول يكون أمراً باعتقاد هذا؛ أي: أن نعتقد هذا جزماً.

فإذا قال قائل: كم عدد الرسل؟ وهل جميع الرسل بُلغوا لنا؟

ص: 568

فالجواب: أن عدد الرسل ورد فيه أحاديث ليست بتلك القوة، فلا يلزم بها، فورد أن عددهم أربعة وعشرون ألفاً، ولكننا لا نردي على يصح هذا الخبر أولا؟ إنما الذين ذكروا في القرآن خمسة وعشرون رسولاً، وكل من ذكر في القرآن فهو رسول وإن ذكر بوصف النبوة، وذلك لأن كل رسول نبي ولا عكس، والدليل على أن كل من ذكر في القرآن رسول قول الله تبارك وتعالى:(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ)(غافر: الآية78) ، فعلم بهذا أن كل من قص الله علينا نبأه فهو رسول.

أما الذين لم يقصوا علينا فهم كثيرون ولكننا نؤمن بهم إجمالاً، ومعنى إجمالاً أي أنه لا يلزمنا التعيين؛ لأننا لا نعلم عنهم، لكن نقول: آمنا بكل رسول أرسله الله تعالى.

مسألة: ثبت في السنة أن آدم عليه الصلاة والسلام كان نبياً (1) وقد ذكر في القرآن فهل يكون رسولاً؟

فالجواب: لا؛ لأنه لم يذكر في القرآن بوصف النبوة.

فالمهم أن أفضل البشر من حيث الجنس الرسل، ثم الأنبياء، ثم الصديقون، ثم الشهداء، ثم الصالحون، أما بالتعيين فأفضل البشر محمد صلى الله عليه وسلم، والدليل النقلي على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم:(أنا سيد ولد آدم ولا فخر)) (2) . والدليل الفعلي: أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالأنبياء إماماً لهم في ليلة الإسراء.

وهناك عبارة خاطئة تقول: الرسل خادم، والنبي عالم، والولي ولي

(1) رواه احمد في المسند (5/265) .

(2)

تقدم تخريجه ص 76.

ص: 569

موالٍ، وعلى هذا يقولون: إن الولي أفضل، ثم النبي لأنه خص بالعلم، ثم الرسول لأنه خادم، ويقول قائلهم:

مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي

وهذا القول كفر؛ فإن الرسول جمع بين النبوة والولاية، فهو أفضل الأولياء، والنبي جمع بين الولاية والنبوة، فهو في الدرجة الثانية بعد الرسالة، والولي فاتته النبوة والرسالة فليس له من الفضل إلا فضل الولاية.

لكن القائلين بما سبق من قول باطل يرون أن من يزعمونهم أولياء أشرف البشر، ولهذا تصل بهم الحال إلى عبادتهم، وذلك باعتقاد أنهم يدبرون الكون تدبيراً كاملاً، كما قال ذلك بعض مشايخ الصوفية الغالين وغيرهم.

ص: 570

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

144-

وأن كل واحد منهم سلم

من كل ما نقص ومن كفر عصم

145-

كذاك من إفك ومن خيانة

لوصفهم بالصدق والأمانة

146-

وجائز في حق كل الرسل

النوم والنكاح مثل الأكل

ــ

الشرح

قوله رحمه الله تعالى: (وأن كل واحد منهم سلم) - ((وأن)) : الظاهر أن الصواب كسرها، وإن كان المعنى: ونؤمن بأن، لكن الأصل عدم التقدير. والضمير في قوله:(منهم) يعود على الرسل عليهم الصلاة والسلام، فكل واحد منهم سلم (من كل ما نقص) و (ما) هنا زائدة، والتقدير: من كل نقص، وليس المراد بقول (من كل ما نقص) نقص الخلقة، أو نقص البشرية، بل المراد من كل ما نقص في الدين، لأنهم عليهم الصلاة والسلام هم أسبق الناس إلى الخيرات، وأعظم الناس امتثالاً لأمر الله، فهم سالمون من كل نقص في الدين.

وكذلك من فوات الدين بالكلية لقوله: (ومن كفر عصم) .

فلم يكفر أحد من الرسل، وليس من الرسل كافر، ولم يتعمد أحد من الرسل أن يفعل ما فيه نقص الدين أبداً، وإن فعلوا شيئاً فأما عن اجتهاد أو تأويل أو ما أشبه ذلك، ثم يبرؤون من إثمه بتوبة الله عليهم.

قوله: (كذاك من إفك ومن خيانة) يعني أنهم مبرؤون من الإفك وهو الكذب؛ ولهذا ما كذب نبي قط، وأما ما جاء عن إبراهيم عليه الصلاة

ص: 571

والسلام من أنه كذب ثلاث كذبات في الله (1) فهي كذبات تورية، والتورية ليست كذباً في الواقع، لأن المعنى الباطن منها حقيقي مطابق للواقع، فقوله للملك الظالم: هذه أختي وهي زوجته، فهي وإن كانت ليست أخته بمعنى شقيقته، فإنها أخته على وجه صحيح، فقد أراد أنها أخته في دين الله، وكذلك قوله: بل فعله كبيرهم هذا، أيضاً فيه تورية، وإن كان الكبير لم يفعله، لكن الذي كسر الأصنام هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام، إلا أنه ورى أي فعله كبيرهم الذي تزعمون أنه إله.

وفعل إبراهيم عليه الصلاة والسلام هنا ضرورة، ولا يقال إن التورية جائزة مطلقاً، فالتورية للظالم حرام بالإجماع، وللمظلوم جائزة، أما من ليس بظالم ولا مظلوم ففيها خلاف بين أهل العلم؛ فبضعهم يقول إنها حرام؛ لأن الإنسان يتهم بذلك ويجر على نفسه التهمة، وبعضهم يقول ليست بحرام، والراجح أنها حرام إلا لحاجة؛ لأن الإنسان لو أجزنا له التورية كلما شاء صار كل كلامه تورية، وأدى ذلك إلى عدم وثوق الناس به.

وقوله (ومن خيانة) أي: أن الرسل مبرؤون من الخيانة، فهم لا يمكن أن يخونوا لا بالقول ولا بالفعل، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الإشارة بالعين ومن الغمز بالعين، لأن هذا نوع من الخيانة.

إذاً فهم صلوات الله وسلامه عليهم قد سلموا من كل كذب، وسلموا من كل خيانة؛ لأن الكذب والخيانة ينافيان الرسالة منافاة كاملة، إذ لا ثقة بقول الخائن ولا ثقة بقول الكاذب، لاحتمال أن يكون ما يقول به من الكذب الذي

(1) رواه البخاري، كتاب البيوع، باب شراء المملوك

، رقم (2217) ، ومسلم، كتاب الفضائل، باب رحمته صلى الله عليه وسلم الصبيان والعيال

، رقم (2371) .

ص: 572

كان يكذبه، ولاحتمال أن يكون خان فأخبر بالأمر على خلاف وجهه، لذلك فهم مبرؤون من الكذب والخيانة.

لذلك قال رحمه الله: (لوصفهم بالصدق) وهذا ضد قوله: (من إفك)، (والأمانة) وهي ضد قوله:(ومن خيانة) ، فهم موصوفون بالصدق عليهم الصلاة والسلام، لأن الله شهد لهم، كذلك موصوفون بالأمانة؛ لأنهم أمناء على وحي الله عز وجل، وإذا كان جبريل عليه الصلاة والسلام موصوفاً بالأمانة وهو رسول إليهم، فهم كذلك من باب أولى.

وأفادنا المؤلف رحمه الله أن الرسل معصومون مما ذكر، لكن هل هم معصومون من صغائر الإثم؟ وجواب ذلك أن نقول: إنهم ليسوا معصومين من صغائر الإثم، لكنهم معصومون من إرادة المخالفة، ومن الإصرار على المعصية. وقلنا: إنهم معصومون من إرادة المخالفة. وقلنا: إنهم معصومون من إرادة المخالفة لأن الذي يقع منهم يكون عن قصد اخطئوا فيه الصواب، فمثلاً قال تعالى:(عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ)(التوبة: 43) ، فهو قد أذن لهم اجتهاداً منه صلى الله عليه وسلم يظن أن المصلحة في ذلك، ولكن المصلحة في غير هذا، فالمصلحة أن يتأنى حتى يعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين.

وقال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)(التحريم: 1) ، فالنبي صلى الله عليه وسلم حرم ما احل الله له طلباً لمرضاة زوجاته وتأليف قلوبهن، ولكنه لم يحرمه حكماً شرعياً، إنما حرمه امتناعا، يعني حرمه على نفسه، كما يقول أحدنا: حرام علي أن البس هذا الثوب، أو حرام علي أن ادخل هذا البيت، أو حرام علي أن اشتري هذه السيارة مثلاً. فتحريمه صلى الله عليه وسلم هذا ليس تحريماً شرعياً، لكنه تحريم امتناع، يعني إنني ألزم نفسي

ص: 573

أن امتنع من هذا الشيء.

كذلك قال تعالى: (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ)(الأحزاب: الآية37) ، وهو صلى الله عليه وسلم لم يخف في نفسه هذا عناداً ومخالفة؛ لكنه أخفاه تحرياً للمصلحة، ومع ذلك نهي عن هذا، فالحاصل أنهم عليهم الصلاة والسلام لا يمنعون من وقوع صغائر الذنوب، لكنهم لا يفعلونها كما يفعلها غيرهم تعمداً للمخالفة، ولا يقرون عليها أيضاً، بل لابد أن ينبهوا عليها حتى يرجعوا إلى الصواب.

مسألة: قال الله تعالى عن يونس عليه الصلاة والسلام: (وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ)(الأنبياء: الآية87) ، فهل يجوز مثل هذا الظن من الرسل؟

والجواب: أن معنى نقدر أي نضيق كما قال تعالى: (وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ)(الطلاق: الآية7) ، فيونس عليه الصلاة والسلام ظن أنه بخروجه هذا أنه يجد سعة عما كان عليه في الأول فظن ذلك، ولكن الله تعالى أراه انه في قبضته عز وجل وضيق عليه أكثر من ذي قبل، في بطن الحوت:(فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ)(الصافات: 143)(لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(الصافات: 144) . مسألة: إذا كان الأنبياء معصومين من فعل الكبائر. وقتل النفس من الكبائر وقد وقع من بعضهم فما الجواب؟

والجواب: أن قتلهم للنفس يكون بتأويل وإذا كان بتأويل فقد يكون الشيء كبيرة لكن في حقهم ليس بكبيرة لأنهم لم يتعمدوا.

ص: 574

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

وجائز في حق كل الرسل

النوم والنكاح ومثل الأكل

بعد أن تكلم المؤلف رحمه الله عن الممتنع في حقهم صلوات الله وسلامه عليهم انتقل إلى الجائز في حقهم، والجائز في حقهم هي الطبائع البشرية، فالطبائع البشرية يستوون فيها مع الناس، ولهذا قالوا للمكذبين:(إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)(إبراهيم: الآية11)، وقال خاتمهم محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم:(إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون)) (1) ، وهذه طبيعة بشرية، فهو صلى الله عليه وسلم يأكل كما نأكل، ويشرب كما نشرب، ويتقي البرد كما نتقيه، ويتقي الحر كما نتقيه، ويلبس الدروع في الحرب كما نلبسها، وهكذا، فالطبائع البشرية جائزة في حق الرسل.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وجائز في حق كل الرسل النوم) ، لكن قد يختصون بخصائص في النوم، منها اختصاص النبي صلى الله عليه وسلم بأنه تنام عيناه ولا ينام قلبه، فالإحساس الظاهري منه ينام كغيره، وفي الباطن لا ينام قلبه، فقلبه دائماً مشغول بذكر الله تعالى وبغير ذلك مما أراد سبحانه وتعالى.

وقوله: (النوم والنكاح) أي والنكاح جائز في حقهم والجواز هنا جواز خلقي، أما شرعاً فهم مأمورون بذلك، لأنهم مشرعون للأمة؛ قال تعالى:(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً)(الرعد: الآية38)، وقوله:(مثل الأكل) فالأكل أيضاً من الأمور الجائزة، فلا يعاب على الرسول إذا أكل أو شرب أو ما أشبه ذلك، فهذه من الأمور الجائزة، فكل الأمور البشرية جائزة عليهم.

(1) رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب التوجه نحو القبلة

، رقم (401) .

ص: 575

بقي الشيء الواجب، وهو الدعوة إلى الله عز وجل، وإبلاغ الرسالة، والنصح للأمة. فيجب عليهم من ذلك ما لا يجب على غيرهم، فهم ملزمون بالبلاغ بكل حال، وملزمون بالدعوة في كل حال، وملزمون بالجهاد من أمر منهم بالجهاد، ووجوب هذه الأشياء عليهم أو كد من وجوبها على غيرهم، ولهذا نقول: الأمور المسنونة يجب على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يبلغها، ويجب أن يفعلها ليقتدي به الناس، وإن كانت أموراً مسنونة، فإذا كان البلاغ لا يحصل إلا بفعلها وجب على الرسول أن يفعلها لوجوب البلاغ عليه.

ومما هو ممتنع في حقهم دعوى الإلوهية أو دعوى الربوبية، ولهذا لما قال الله تعالى لعيسى:(أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ)(المائدة: الآية116)(مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ)(المائدة: الآية117) .

ومما يجوز عليهم الموت، فهو جائز عليهم شرعاً وواقعاً، قال الله تعالى:(إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)(الزمر: 30)، وقال تعالى:(وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ)(الأنبياء: الآية34)، وقال تعالى:(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ)(آل عمران: الآية144)، أفإن مات: أي ميتة طبيعية، أو قتل: أي فمات بسبب القتل، انقلبتم على أعقابكم، إذاً فهو ميت.

فإذا قال إنسان: كيف تكون الرسل أمواتاً والشهداء - وهم دونهم - إحياء، كما قال تعالى:(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ)(آل عمران: 169) .

ص: 576

والجواب: أن هذه الحياة التي للشهداء يكون للأنبياء والرسل أعظم منها، لكنها حياة برزخية لا حياة دنيا ولا حياة جسم، وإنما هي حياة برزخية، الله اعلم بكيفيتها.

ولكن الخرافيين يأبون إلا أن يقولوا إنها حياة حقيقية، وهم بقولهم ذلك أشد الناس تقصيراً في حق النبي صلى الله عليه وسلم، لأن الواجب عليهم إذا كانوا يعتقدون هذا أن يذهبوا إليه بأكل وشرب لأنه محتاج له، وهذا مثل ما يفعله الرافضة فيما يعتقدونه المهدي الذي سيخرج في آخر الوقت، إذا تسنى له الخروج، حيث يقول السفاريني رحمه الله في شرح العقيدة: إنهم كانوا في صباح كل يوم يذهب واحد منهم على فرس مسرج، وبيده رمح، ومعه ماء وعسل وخبز، وذلك كل صباح حتى ترتفع الشمس وييأس من خروجه إلى الفطور، فيرجع، وفي صباح اليوم الثاني مثل ذلك، وهو يأتي بهذا لأجل إذا خرج هذا المهدي من السرداب وجد الفطور جاهزاً والرمح جاهزاً، فأفطر ثم ركب الفرس ودعا إلى الجهاد. فيا لها من عقول سخيفة نسأل الله أن يرزقنا العافية مما ابتلاهم به.

فالحاصل أن حياة الرسل والأنبياء في قبورهم أكمل من حياة الشهداء بلا شك، لأنهم أفضل عند الله، ولكن من المتعين أن هذه الحياة حياة برزخية لا حياة دنيوية وإلا لوجب علينا أن نأتي بالطعام والشراب إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام كل يوم.

ص: 577

فصل

في ذكر الصحابة الكرام

الصحابي والصاحب والصحب والصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم لهم ميزة على غيرهم، فالصاحب في غير صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم هو من كثرت ملازمته لصاحبه، أما الصحابي للرسول عليه الصلاة والسلام فهو:(من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم مؤمناً به ولو حكماً ومات على ذلك) .

فخرج بقولنا: (من اجتمع) من أسلم في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وآمن به لكن لم يجتمع به، مثل أن يكون اقبل على المدينة ليبايع النبي صلى الله عليه وسلم فمات الرسول عليه الصلاة والسلام قبل أن يصل، فهذا ليس بصحابي، وإن كان قد اسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لكنه اصطلحوا على أن يسموه مخضرماً، ومرتبته بين الصحابة الخلص وبين التابعين الخلص، لأنك إن نظرت إلى كونه اسلم في عهد الرسول ألحقته بالصحابة، وإن نظرت إلى أنه لم يجتمع به ألحقته بالتابعين، ولهذا كان في منزلة بين منزلة الصحابة والتابعين ويسمى مخضرماً.

وما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يعتبر منقطعاً، لأنه لم يجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم.

وقولنا: (مؤمنا به) خرج بذلك من اجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم مؤمناً بغيره، ولما مات الرسول صلى الله عليه وسلم آمن به، فهذا ليس بصحابي لأنه حين اجتماعه به لم يكن مؤمناً به.

ودخل في قولنا (من اجتمع بالنبي) من كان أعمى واجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه يكون صحابيا، وبهذا يكون قولنا:(من اجتمع به) أحسن من قول بعض

ص: 579

العلماء: (من رآه مؤمناً به، لأننا لو قلنا: (من رآه) خرج بذلك الأعمى.

وقولنا: (ولو حكما) دخل فيه الصبي الذي في المهد إذا اجتمع بالرسول عليه الصلاة والسلام، كما لو جيء بصبي من أبناء المسلمين إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ثم مات النبي قبل أن يميز هذا الصبي، فإن هذا مؤمن بالرسول صلى الله عليه وسلم حكماً؛ وقلباً لأنه صبي لا عقل له، لكنه مؤمن بإيمان أبويه وعلى هذا فمحمد ابن أبي بكر الذي ولد في حجة الوداع يعتبر صحابياً.

وقولنا: (ومات على ذلك) دخل فيه من ارتد ثم رجع إلى الإسلام ومات على الإسلام، فإنه يكون صحابياً، فالردة لا تبطل الصحبة إلا أن يموت على الردة، كما أنها لا تبطل الأعمال الصالحة إلا أن يموت عليها، لقوله تعالى:(وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ)(البقرة: الآية217) ، وخرج به من اجتمع بالرسول عليه الصلاة والسلام مؤمناً به ثم ارتد ومات على الردة، فإنه لا يكون صحابيا.

أما من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة ثم لم يره بعد وآمن لا يكون صحابيا، لأنه اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل النبوة، ونحن ذكرنا أن الصحابي (من اجتمع بالنبي) أي بوصفه نبياً لا بوصفه رجلاً سينبأ، فمن اجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم مؤمنا بالرسول وقال: هذا هو النبي الذي بشرت به التوراة والإنجيل فآمن بالرسول لكن بعد بعثة الرسول لم يره، فإنه لا يعتبر صحابياً؛ لأنه آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يكون نبيا.

وهكذا نقول في الأعمال كلها، فلو أن الإنسان ارتد ثم عاد إلى الإسلام ومات على الإسلام، فإن أعماله السابقة للردة تبقى صحيحة مقبولة، إذا تمت

ص: 580

فيها شروط القبول، فإذا حج الإنسان ثم ارتد بترك الصلاة مثلاً، ثم عاد إلى الإسلام ومات على الإسلام فلا يؤمر بإعادة الحج؛ لأن الردة لا تبطل الأعمال إلا إذا مات وهو على الكفر.

أما الصحبة في حق غير الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها لا تكون إلا بملازمة طويلة يستحق أن يسمى الإنسان بها صاحباً، فلو اتفق شخصا مع آخر في سفر فوصلا إلى المدينة وتفرقا، فإن ذلك لا يعد صحبة إلا مقيدة، فيقال: صحبته في السفر المعين، أو صحبته في الحج، أو ما أشبه ذلك.

ص: 581

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

147-

وليس في الأمة بالتحقيق

في الفضل والمعروف كالصديق

ــ

الشرح

هذه الأمة أفضل الأمم ولله الحمد، ودليل ذلك من القرآن والسنة؛ قال تعالى:(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ)(آل عمران: الآية110)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام:((إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله)) (1) .

ثم إن خير هذه الأمة الصحابة رضي الله عنهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) (2)

ثم إن الصحابة المهاجرين أفضل من الأنصار؛ لأن المهاجرين جمعوا بين النصرة والهجرة، فقد هاجروا أوطانهم وأموالهم وأهليهم إلى الله ورسوله، ونصروا لله ورسوله، قال الله تعالى في وصف المهاجرين:(وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُون)(الحشر: الآية8) ، فنص على الهجرة ونص على النصرة، فهم رضي الله عنهم أفضل من الأنصار، وهذا من حيث الجنس.

ثم إن أفضل المهاجرين الخلفاء الأربعة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي.

وأفضل هؤلاء الأربعة كما قال المؤلف: (وليس في الأمة) أي أمة محمد صلى الله عليه وسلم (بالتحقيق) أي بالقول المحقق، الذي دلت عليه النصوص في الكتاب

(1) رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ومن سورة آل عمران، رقم (3001) .

(2)

تقدم تخريجه ص 59.

ص: 582

والسنة، (في الفضل والمعروف كالصديق) الفضل: بذل الخير والإحسان؛ من العلم والمال وغير ذلك. والمعروف: ضد المنكر.

فهو جامع رضي الله عنه بين العدل الذي هو المعروف، وبين الفضل الذي هو الإحسان، ويدل لذلك أن الله تعالى لم يصف أحداً من الصحابة بأنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أبا بكر، قال الله تعالى:(إِلاّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)(التوبة: الآية40) ، وهذه منقبة عظيمة لم ينلها إلا من هو أهل لها، وهو أبو بكر رضي الله عنه، قال تعالى:(اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)(الأنعام: الآية124) ، وهو أعلم سبحانه، حيث يجعل فضله، فهذا الفضل العظيم الذي لأبي بكر لم ينله أحد من الصحابة رضي الله عنهم.

وقال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن إخوة الإسلام ومودته)) (1)، وقال:((لا يبقين في المسجد باب ولا خوخة إلا سدت إلا باب أبي بكر)) (2)، وقال معلناً على المنبر:((إن أمنَّ الناس عليّ بماله وصحبته أبو بكر)) (3) ، فلا يقال بعد هذا إن غيره أفضل منه، مع أن المنة حقيقة للرسول عليه الصلاة والسلام، فكون أبي بكر يكون صاحباً للرسول ولم يطرده الرسول، أو يعرض عنه، أو يريه وجه غضب، هذا في الواقع منة

(1) رواه البخاري، كتاب المناقب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لو كنت....، رقم (3657) ، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه

، رقم (2383) .

(2)

رواه البخاري، كتاب الخوخة والممر في المسجد، رقم (446) ، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أبي بكر

، رقم (2382) .

(3)

رواه البخاري، كتاب المناقب، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: سدوا الأبواب، رقم (3654) .

ص: 583

للرسول صلى الله عليه وسلم، لكن من كرم الرسول عليه الصلاة والسلام أن جعل المنة من أبي بكر عليه. كذلك أيضاً الصحبة المنة فيها للرسول صلى الله عليه وسلم.

والمنة الأولى للجميع هي من الله عز وجل، ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام كلما ذكر للأنصار يبين لهم ما من الله به عليهم؛ حيث إن الله هداهم به وأغناهم به وألفهم به، قالوا: الله ورسوله أمن.

إذاً ليس في الأمة مثل أبي بكر رضي الله عنه في الفضل والمعروف - الذي هو الإحسان والعدل -، وصحبة الرسول عليه الصلاة والسلام. وفي كل شيء، حتى إن الرسول صلى الله عليه وسلم ذات يوم حث على الصدقة فانصرف الناس ليتصدقوا، فقال عمر رضي الله عنه، الآن اسبق أبا بكر، فأتى بنصف ماله - في حين أن الواحد منا الآن إذا أراد أن يخرج ربع العشر وهو الواجب صار يحمر ويصفر، ويسأل العلماء لعل أحداً منهم يقول: هذا ليس فيه زكاة - فسأله الرسول عليه الصلاة والسلام: ما تركت لأهلك؟ قال: شطر المال.

فأتى أبو بكر بكل ماله. فسأله الرسول عليه الصلاة والسلام: ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله. فقال عمر: الآن لا أسابق أبا بكر أبدا (1) . فعرف أنه عاجز عن أن يسبقه، وعمر هو الرجل الثاني في هذه الأمة إذاً لا يسبق أبا بكر أحد من هذه الأمة، فما دام الرجل الثاني عجز عن سبقه فمن دونه من باب أولى.

وقوله: (كالصديق) هذا لقب أبي بكر رضي الله عنه، وكنيته أبو بكر،

(1) رواه الترمذي، كتاب المناقب، باب في مناقب أبي بكر

، رقم (3675) ، وأبو داود، كتاب الزكاة، باب في الرخصة في ذلك، رقم (1678) .

ص: 584

واسمه عبد الله، وإنما سمي بالصديق - والصديق: فعيل من الصدق - لكمال صدقه في المقال والفعال، ولتصديقه لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين كذبه الناس.

ويقال: إن أول ما لقب بهذا اللقب لما حدث النبي صلى الله عليه وسلم عن الإسراء والمعراج، فاتخذت قريش هذا فرصة وذهبت إلى أبي بكر فقالت: إن صاحبك يحدث بحديث المجانين، يزعم أنه ذهب إلى بيت المقدس ورجع منه، ونحن لا نصل إليه إلا في شهر ولا نرجع إلا في شهر، فقال: إن كان ما قلتم حقاً فهو صادق. وقال ذلك احترازا؛ لأنه يحتمل أنهم كذبوا على الرسول، فسمي من ذلك اليوم الصديق.

ولا شك أنه أصدق هذه الأمة في المقال والفعال والمقاصد وغيرها، وانه أقواها يقيناً وتصديقاً، فهو رضي الله عنه ليس في هذه الأمة مثله، ولو لم يكن من حسناته على هذه الأمة إلا استخلاف عمر بن الخطاب رضي الله عنه لكفى بذلك فخراً؛ لأنه لا أحد ينكر ما صار لعمر بن الخطاب رضي الله عنه من السياسة الحكيمة، والحكم العادل، والفتوحات العظيمة، وإذلال أهل الشرك، فعمر بذلك يعتبر حسنة من حسنات أبي بكر رضي الله عنه على هذه الأمة.

ص: 585

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

148-

وبعده الفاروق من غير افترا

وبعده عثمان فاترك المرا

ــ

الشرح

قال رحمه الله: (وبعده الفاروق) أي بعد أبي بكر الفاروق، والفاروق على وزن فاعول، وهو من صيغ المبالغة، مأخوذ من الفرق، وسمي بذلك لأن الله تعالى فرق به بين الحق والباطل، فقد أعز الله تعالى الإسلام بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وفرق الله تعالى به بين الحق والباطل في خلافته وقبل خلافته، وجعل الله الحق على لسانه، وقد قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام:((إن يكن فيكم محدثون فعمر)) (1) ، أي ملهمون بالوحي، وكان رضي الله عنه موفقاً للصواب، حتى إن الوحي أحياناً يأتي موافقا لقوله واقتراحه، فهو رضي الله عنه فاروق فرق الله به بين الحق والباطل، وكان رضي الله عنه بعد أبي رضي الله عنه في الفضيلة، وبعد أبي بكر في الخلافة، وعلى هذا أجمع أهل السنة والجماعة على أن هذين الرجلين أبا بكر وعمر هما أفضل الأمة، وأن أبا بكر أفضل من عمر.

وعمر رضي الله عنه ولي الخلافة بتعيين من أبي بكر، فإنه رضي الله عنه عينه وتحمل أبو بكر رضي الله عنه المسؤولية في هذه الأمة حياً وميتاً، لكنه رضي الله عنه أدى الأمانة ووفق، فصار من فضائله على الأمة أن استخلف عمر بن الخطاب، ولا يخفى على أحد منصف فضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا قرأ سيرته.

(1) رواه البخاري، كتاب مناقب المناقب، باب مناقب عمر بن الخطاب....، رقم (3689) .

ص: 586

تولى عمر رضي الله عنه الخلافة بعد أبي بكر، وقام بأعباء الخلافة خير قيام، وكثرت الفتوحات على يده وصار له من الهيبة والعظمة ما خذل الله به أعداءه، ومع ذلك فكان متواضعاً يقبل الحق من أي شخص كان، وكان لا يأخذ من بيت المال إلا مثل ما يأخذه أي أحد من الناس، ولا يعطي أحداً من أولاده إلا مثل ما يعطي أحداً من الناس، بل ربما نقصه، ولم يتخذ رضي الله عنه لنفسه بواباً ولا قصراً، بل كان رضي الله عنه ينام في المسجد فيجمع الحصى ثم ينام عليه كوسادة له، وكان عليه رداء مرقعه، وفي سيرته من العجب ما لا يكاد يصدق فيما ينقل عنه، ولهذا أعز الله به الإسلام بعد أن كان خليفة، وقبل أن يكون خليفة.

وكان له هيبة عظيمة رضي الله عنه، ومن ذلك ما يذكر من أن رجلاً من اليهود في الشام كان منزله إلى جنب بيت المال، فعرض عليه معاوية أن يشتريه منه، قال: بع على البيت - من أجل أن يدخله في بيت المال - فأبى اليهودي، فأعطاه ثمناً أكثر من ثمنه، فأبى.

فأدخله معاوية رضي الله عنه في بيت المال وقال: إن شئت أعطيناك، وذلك لما رأى معاوية رضي الله عنه أن المصلحة العامة مقدمة على المصلحة الخاصة.

ولكن اليهودي أبى فقدم المدينة يبحث عن عمر، فقيل له: تجده الآن في المسجد، فذهب إلى المسجد فوجده رضي الله عنه نائماً على البطحاء في هدوء، عليه رداء مرقع، كأنه فقير؛ في حين أن معاوية وهو أمير من أمرائه - لما كانوا في الشام يقدسون ملوكهم ويعظمونهم ويجعلون لهم القصور - قد اتخذ لنفسه مثل هذا، لا حباً في الدنيا، ولكن إقامة للسلطة حتى يهابها الناس؛ لأن معاوية لو فعل مثل ما فعل عمر في المدينة وهو في الشام لن يبالي به

ص: 587

الناس.

فجاءه الرجل فقص عليه القصة، فيقال انه رضي الله عنه أخذ عظماً من الأرض، وكتب فيه: ليس كسرى بأعدل منا، ووضع خطاً وفوق الخط آخر كالصليب، وقال لليهودي: اذهب أعطه معاوية، فلما جاء به إلى معاوية، وقطعا بينه وبين عمر إشارة وهي ما يسمى في العرف الحاضر ((شفرة)) - لما رأى هذا العظم يقال إنه وضعه على رأسه، ثم قال لليهودي: ماذا تريد؟ أتريد أن أبني لك بيتك وأعيده من جديد؟ أم تريد أن أعطيك عشرة أمثاله أم ماذا تريد؟ فقال الرجل: وهكذا يكون أمراؤكم مع خلفائكم؟ قال: نعم. قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأن بيتي صدقة للمسلمين.

وبهذا نرى كيف أن العدل يجعل الناس يستجيبون ولو كانوا كفاراً، والظلم والاستئثار يجعل الناس لا يستجيبون ولو كانوا مسلمين.

فالحاصل أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع كونه ذا سلطة عظيمة وهيبة عظيمة إذا جاءه الإنسان وجده كأنه عادي.

وكذلك القصة المشهورة - وإن كان فيها شيء من النظر -: أنه لما خطب الناس رضي الله عنه حين تغالوا في المهور، وقال: لا يزيد أحد على مهر النبي عليه الصلاة والسلام لأزواجه وبناته إلا جعلت الزائد في بيت المال، فقامت امرأة فقالت: مهلاً يا أمير المؤمنين، ليس ذلك إليك، إن الله تعالى يقول:(وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً)(النساء: الآية20) . فأقر الله تعالى إيتاء القنطار للزوجة، والقنطار ألف مثقال ذهب، وقيل إنه ملء جلد ثور صغير من الذهب. فقال رضي الله عنه: امرأة أفقه من

ص: 588

عمر، ثم ترك الناس، وهذا الحديث في صحته نظر لكنه مشهور عند الناس.

وقد كان عمر رضي الله عنه من أكثر الناس تواضعاً؛ وعظ الناس يوماً من الأيام، فقام إليه سلمان الفارسي، وقال: يا أمير المؤمنين، كيف تعطي عبد الله ابن عمر ثوبين ولم تعط الناس إلا ثوباً واحداً من بيت المال؟ فقال له: قم يا عبد الله رد عليه، فقام فرد عليه فقال: إن الثوب الثاني ثوب عمر أعطاه إياه، وليس زائدا على ما يعطي للمسلمين.

وكان رضي الله عنه إذا أمر الناس بشيء أو نهاهم عن شيء جمع أهله وقال لهم: إن الناس ينظرون إليكم نظر الطير إلى اللحم - والطيور تنظر إلى اللحم نظر شره تريد أن تبتلعه - وإني قد أمرت بكذا أو نهيت عن كذا، فلا أجد أحدكم مخالفاً إلا أضعفت عليه العقوبة. كل هذا من باب العدل والتخويف، وإلا كان العدل ألا يضعف العقوبة عليهم، لكنه رضي الله عنه له غور في الفقه، قال: إن أقرباء السلطان يخالفون بسلطة قربهم منه، فيتوصلون إلى المخالفة بقربهم من ولي الأمر، فرأى رضي الله عنه أن هذه نوع مخالفة، مع المخالفة الأصيلة، فيجمع عليهم عقوبتين.

ومآثره رضي الله عنه كثيرة، وكان آخر أمره أنه سأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الشهادة في سبيله، والموت في بلد رسوله، فكان الناس يتعجبون؛ المدينة بلد إسلام وليس فيها قتال، فكيف يجتمع أنه شهيد في سبيل الله وميت في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فاستجاب الله دعوته، وقتل شهيداً في بلد الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو لم يقتل لعداء شخصي، لكنه لعداء ديني؛ لأن القاتل له أبو لؤلؤة المجوسي غلام المغيرة بن شعبة، وكان عمر رضي الله عنه

ص: 589

ينهى أن تكثر العلوج، يعني هؤلاء الأرقاء من الفرس وغيرهم في المدينة، ولكن كان أمر الله مفعولا.

وهذا الخبيث لما قتل عمر رضي الله عنه بخنجر له وجهان وكان قد مسكه بالوسط، وكان قد سقى كل جانب منه السم، فلما طعن عمر وهو يصلي بالناس الفجر، قال: أكلني الكلب. فزع الناس فلحقوا هذا الرجل الخبيث الهارب، فقتل نحو ثلاثة عشر نفراً، فلما رأى انه قد أدرك، وألقى عليه أحد الصحابة بساطاً غمه فيه، فلما رأى ذلك قتل نفسه فالحمد لله رب العالمين أنه قتل نفسه على هذا الوجه، وهو لم يسجد لله سجدة، فكان والعياذ بالله آخر أمره أن قتل نفسه، والذي يظهر لنا أنه قتل نفسه على الكفر، وهذا آخر ما حصل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه، ومن أراد المزيد من ذلك فليقرأ ما كتب عنه في البداية والنهاية وغيرها.

ثم قال رحمه الله: (وبعده عثمان فاترك المرا) أي بعد عمر بن الخطاب رضي الله عنه فالأفضل عثمان، (فاترك المرا) أي الجدال، فإن هذا أمر مفروغ منه؛ أن عثمان رضي الله عنه هو الثالث في الخلافة والفضيلة، وإنما قال: فاترك المراء لكثرة الجدال فيه وفي علي بن أبي طالب رضي الله عنهما: أيهما أفضل؟ حتى إن بعض علماء السنة قالوا: علي بن أبي طالب أفضل من عثمان، فجعلوه في المرتبة الثالثة في الفضيلة، وعثمان في المرتبة الرابعة، ومنهم من قال: أبو بكر ثم عمر ثم عثمان وسكت، ومنهم من أخذ بما قال المؤلف، وهو أن الأفضل عثمان، ثم علي.

وقد قال شخ الإسلام رحمه الله: وهذا هو الذي استقر عليه أمر أهل

ص: 590

السنة والجماعة: إن ترتيبهم في الفضيلة كترتيبهم في الخلافة: تولى عثمان رضي الله عنه الخلافة لا بنص من عمر وتعيين، ولا باجتهاد مطلق من الرعية، فتوليه للخلافة أمر غريب لم يكن معروفاً؛ لأن عمر لما طعن وقيل له: استخلف على الأمة، قال: إن استخلف فقد استخلف من هو خير مني -يعني أبا بكر -، وإن لم أستخلف فقد ترك من هو خير مني - يعني رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وقال: لو كان أبو عبيدة حياً لاستخلفته، يقصد أبا عبيدة عامر بن الجراح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إنه أمين هذه الأمة)) (1) .

فسبحان الله كانوا رضي الله عنهم لا ينظرون إلى شرف قبيلة، ولا إلى سيادة قوم، بل ينظرون إلى المعاني الشرعية، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام:((أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح)) ، فقال عمر رضي الله عنه: لو كان حيا لاستخلفته (2) ، ولكنه مات قبل عمر، ثم جعل الأمر شورى بين الستة الذين توفي عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، فلما توفي جلس هؤلاء للتشاور واستقر الأمر على عثمان، وكان أكثر أهل المدينة يختارون عثمان، فبويع عثمان بالخلافة مبايعة شرعية؛ بايعه عليها علي بن أبي طالب، وبقية أصحاب الشورى وغيرهم، وأجمعت الأمة على ذلك، وصار الخليفة الثالث بإجماع المسلمين.

ولهذا قال الإمام احمد رحمه الله: من طعن في خلافة واحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله (3)

(1) رواه البخاري، كتاب المغازي، باب قصة أهل نجران، رقم (4380) ، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب فضائل أبي عبيدة

، رقم (2419) .

(2)

رواه الإمام احمد في مسنده (1/18) .

(3)

انظر مجموع الفتاوى 3/153

ص: 591

أما الرافضة فقد طعنت في خلافة الجميع إلا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فضلت بهذا عن الأمة، وعن الحق، بل وعما مشى عليه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه بايع أبا بكر وعمر وعثمان اختياراً لا اضطراراً، والعجب أن غلاة الرافضة قالوا: إن علياً فاسق لأنه رضي بالظلم وبايع، وهذه مداهنة، والمداهنة في الحق ضلال وفسق.

وإنك لتعجب كيف وصل بهم الحال إلى هذا السفه، والمنصف منهم من يعرف إنه على ضلال، حيث يقولون: نحن شيعة، وهؤلاء أهل سنة. وكل يعرف أن أهل السنة هم على حق لأنهم على السنة، أما الشيعة فمتعصبون لأشخاص معينين، وكونهم يقولون: هؤلاء أهل سنة ونحن شيعة؛ اعتراف منهم بأنهم ليسوا على سنة، وإذا كان كذلك فيقال: اتقوا الله وارجعوا إلى السنة ما دمتم الآن تعترفون أن هؤلاء أهل السنة وأنتم شيعة.

ثم نقول: إن أحق الناس تشيعاً لأهل البيت هم أهل السنة، فنحن نحب أهل البيت المؤمنين منهم؛ لكونهم مؤمنين؛ ولكونهم من قرابة الرسول عليه الصلاة والسلام، ونحن نفضلهم على غيرهم لهذا المعنى، لكن لا نعطيهم الفضل المطلق، بل ننزلهم منزلتهم، وأهل البيت يرضون بهذا غاية الرضى، وكان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وهو إمام أهل البيت رضي الله عنه يقول على منبر الكوفة معلناً: خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر (1)، وأحياناً يقول: ثم عثمان، وأحياناً يسكت.

فعلى هذا نقول: إن عثمان رضي الله عنه يلي عمر بن الخطاب في الفضيلة،

(1) رواه الإمام احمد في مسنده (1/106) .

ص: 592

وهو الثالث في الفضل في هذه الأمة، وهو الثالث في الخلافة في هذه الأمة، ومن أنكر ذلك بالنسبة للخلافة فيقول الإمام احمد رحمه الله: إنه أضل من حمار أهله، وإنما قال: إنه أضل من الحمار؛ لأن الحمار من أبلد الحيوانات، ولهذا مثل الله اليهود بالحمار، الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها قال تعالى:(مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً)(الجمعة: الآية5) فإنك إذا حملت على الحمار كتاب المغني، والمجموع، والإنصاف، وتفسير ابن كثير، وفتح الباري - فإنه لا يستفيد منها شيئاً، فالحمار لا يهمه إلا المبيت والمأوى والأكل والشرب، وأما غير ذلك فلا يشغل مخه به، وليس عنده تفكير.

ولهذا قال الإمام احمد: إن من طعن في خلافة واحد من هؤلاء فهو أضل من حمار أهله.

ص: 593

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

149-

وبعد فالفضل حقيقا فاسمع

نظامي هذا للبطين الأنزع

150-

مجدل الأبطال ماضي العزم

مفرج الأوجال وافي الحزم

151-

وافي الندى مبدي الهدى مردي العدا

مجلي الصدا يا ويل من فيه اعتدى

ــ

الشرح

قال رحمه الله: (وبعد فالفضل حقيقا فاسمع) بعد: أي بعد الخلفاء الثلاثة الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان. وبعد ذلك (فالفضل حقيقاً) أي حقيقة، أو حقيقاً: بمعنى جديرا، كما في قوله تعالى:(حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ)(الأعراف: الآية105) فهي صالحة لهذا وهذا، قال:(فاسمع نظامي هذا) فأمر بسماع النظام للتأكيد والتنبيه.

(للبطين) خبر قوله: فالفضل، أي فالفضل كائن للبطين الأنزع، والبطين: أي واسع البطن، و (الأنزع) : الذي انحسر شعر مقدم رأسه، والبطين ضده الضامر، وهو الذي بطنه ليست واسعة، والأنزع ضده الأفرع، وهو الذي نزل شعر رأسه إلى جبهته.

ونزع شعر الرأس ممدوح عند العرب، يقول الشاعر لزوجته:

فلا تنكحي إن فرق الدهر بيننا أغم القفا والوجه ليس بأنزع

إذاً وصف هذا المذكور بوصفين:

أولاً: أنه بطين، وثانيا: أنه انزع.

وأراد المؤلف رحمه الله بهذا الوصف التعريف لا الذم؛ لأنه لا يريد أن

ص: 595

يذم علي بن أبي طالب رضي الله عنه في هذا الوصف، بل أراد أن يعرفه، وكان رضي الله عنه بطيناً أي واسع البطن وقد علم بهذا الوصف، وكان أنزع أي منحسر شعر الرأس من الإمام، وهذا لا يدل على شيء وإنما هو خلقة، ويكون عند الكبر كثيراً كما هو معروف ومشاهد.

قوله: (مجدل الأبطال) ، التجديل معناه أنه يوقعهم صرعى، (والأبطال) جمع بطل، وهم الشجعان، (ماضي العزم) يعني أنه ذو عزيمة ماضية لا ينثني.

قوله: (مفرج الأوجال) الأوجال: جمع وجل وهو الخوف، يعني أنه يفرج الخوف من شجاعته رضي الله عنه، ولا شك أنه رضي الله عنه كان من أشجع الناس، (وافي الحزم) يعني أنه ذو حزم، ووافي: أي كامل.

وقد يقول قائل تعليقاً على قول المؤلف رحمه الله في وصف علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (مفرج الأوجال) و (مجلي الصدا) : أليس في هذا العموم غلو؟

والجواب: الحقيقة أن فيه شيئاً من الغلو، خصوصا (مفرج الأوجال)، لكن يقال في الاعتذار عن المؤلف رحمه الله: إن هذا وصف إضافي، بمعنى أنه عندما يخاف الناس يكون هو الذي يزيل الخوف عنهم، لكن بأمر الله عز وجل، وإلا فإن التفريج المطلق لا يكون إلا لله عز وجل.

أما مجلي الصدا فكذلك أيضاً يمكن أن يقال إن فيه شيئاً من المبالغة، لكنه رحمه الله إنما أطنب في وصف علي بن أبي طالب رضي الله عنه لأسباب سيأتي ذكرها إن شاء الله.

(وافي الندى) الندى: أي الفضل والعطاء، وافيه: أي كامله، (مبدي

ص: 596

الهدى) مظهر الهدى، وهو العلم، وقد اشتهر علي رضي الله عنه بسعة علمه وذكائه، (مردي العدا) مردي: أي مهلك، كما قال تعالى:(وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى)(الليل: 11) أي إذا هلك، والعدا: جمع عدو، هذه ثلاثة أوصاف بالإضافة إلى ما سبق فتكون تسعة أوصاف. (مجلي الصدا) مجلي: أي مذهب، والصدا: في الأصل هو الوسخ الذي يكون على الحديد لطول مكثه، أو لكونه حول الماء؛ فهذا يجلوه ويزيله.

وقوله رحمه الله: (يا ويل من فيه اعتدى) يا ويل: (يا) هذه للندبة، وويل: أي هلاك، من فيه اعتدى: أي من اعتدى في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويريد بذلك الوعيد على من اعتدى في حق علي بن أبي طالب بإفراط أو تفريط؛ كلهم يا ويلهم، فالذين اعتدوا في حقه بالإفراط هم الرافضة، والذين اعتدوا في حقه بالتفريط هم الناصبة.

وذكر المؤلف ذلك لأنه هلك في علي بن أبي طالب طائفتان؛ طائفة غلت وطائفة فرطت.

الطائفة الأولى: وهي الطائفة التي غلت في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، حيث غلوا فيه حتى جعلوه إلهاً، حتى أنهم صرحوا بذلك، فقد قال عبد الله بن سبأ وشيعته لعلي بن أبي طالب صراحة ومقابلة: أنت الله حقاً، وهو يهودي خبيث دخل في دين الإسلام ظاهراً ليفسده.

وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: كما ظهر بولس في دين النصارى، وتنصر ظاهراً من أجل أن يفسد دين النصارى، فإن هذا الخبيث عبد الله بن سبأ اليهودي الماكر دخل في دين الإسلام على أنه مسلم (1) ، لكن أتى إلى

(1) انظر مجموع الفتاوى 4/518، 28/474.

ص: 597

علي بن أبي طالب وقال له: أنت الله، فأمر علي رضي الله عنه لشدة ما جرى- بالأخدود فحفرت، ثم أمر بالحطب فجمع في هذه الأخدود، ثم أمر بعبد الله بن سبأ وشيعته أن يلقوا في هذه الأخدود بعد أن أضرم فيها النار، فأحرقوا.

ويقال: إن عبد الله بن سبأ هرب وذهب إلى مصر، وبث دعوته فيها، ثم إلى العراق، ثم إلى فارس، فانتشرت دعوته. فهؤلاء اعتدوا في علي بن أبي طالب بالإفراط وزيادة الحد.

الطائفة الثانية: وهي الطائفة التي فرطت فيه، وهذه الطائفة قابلوا القسم الآخر، وذلك لأن العادة أنه إذا وجد غلو في جانب وجد تطرف في جانب آخر، وهذا يكون من أجل مواجهة ذلك الغلو، فهؤلاء أناس صاروا على العكس نواصب نصبوا العداوة لأهل البيت، وعلى رأسهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فجعلوا يسبونهم ويلعنونهم ويعتدون في حق آل البيت - والعياذ بالله-.

فيا ويل الطرفين هؤلاء وهؤلاء، ولا شك أن المفرط أشد ضررا على الإسلام من المفرط، لأن المفرط تعدى طوره كثيراً حتى جعل علي بن أبي طالب إلهاً، وجعل من أئمة أهل البيت من يعلم الغيب، ويدبر الكون، حتى سمعنا في أشرطتهم من يقول: إن جميع الكون تحت ظفر فلان، يدبره حيث شاء. وقوله: تحت الظفر، جعل كل الكون وسخاً من أوساخ الأظفار، نسأل الله العافية. وهذا أشد.

وهم في الحقيقة يصوغونه بصيغة عاطفية، حتى في أداء شعائرهم التي يترنمون بها من الدعاء لآل البيت والدعوة له، فتجدهم يترنمون بصوت

ص: 598

حزين يشد العاطفة، أما الذين ينصبون العداوة لأهل البيت فلا يطيعهم أحد، بل كل الناس ينفرون مما ذهبوا إليه. لكن هؤلاء حيث أنهم يخاطبون العاطفة صار ضررهم على الناس أكثر جداً.

ولهذا فإنك لو قارنت بين الروافض والنواصب من حيث العدد، لوجدت أن النواصب لا ينسبون إلى الروافض.

فإن قال قائل: لماذا أطنب المؤلف رحمه الله في وصف علي بن أبي طالب رضي الله عنه، دون الثلاثة الأولين وهم أفضل منه؟

فالجواب: انه أطنب في ذلك لسببين:

السبب الأول: الرد على النواصب، فإنه لما كان موقف النواصب هو السب لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، فأراد المؤلف رحمه الله أن يمدحه، ويثني عليه بما هو أهله، رداً على هؤلاء النواصب.

السبب الثاني: الرد على الروافض، وكأنه قال: إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه مع هذه الأوصاف الكريمة، والآداب العالية، والشجاعة التامة، لا يستحق أن يترقى إلى المكان الذي رقاه إليه هؤلاء الرافضة.

فصار في إطناب المؤلف رحمه الله في مدح علي بن أبي طالب رضي الله عنه فائدتان: الأولى: الرد على النواصب، والثانية: الرد على الرافضة. يعني أننا - أيها الروافض - نقر بفضله وأن فيه من الفضل كذا وكذا وكذا، لكننا لا ننزله فوق منزلته كما فعلتم أنتم.

ص: 599

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

152-

فحبه كحبهم حتما وجب

ومن تعدى أو قلى فقد كذب

ــ

الشرح

قوله رحمه الله: (وحبه كحبهم حتماً وجب) حبه: أي حب علي بن أبي طالب، كحبهم: أي حب الثلاثة؛ أبي بكر وعمر وعثمان، حتماً وجب: أي وجب حتماً، يعني: وجوباً حتماً مؤكداً.

ومحبة علي بن أبي طالب رضي الله عنهم واجبة لوجوب محبة الصحابة رضي الله عنهم، والدليل على وجوب محبة الصحابة قوله تعالى:(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا)(الحشر: الآية10) ووجه ذلك أنهم سألوا الله أن يتخلوا من هذا الغل الذي يكون في القلوب، وهذا يقتضي وجوب المحبة، ولأحاديث كثيرة، منها قوله صلى الله عليه وسلم:((من أحب في الله وابغض في الله ووالى في الله وعادى في الله؛ فإنما تنال ولاية الله بذلك)) (1)، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم:((والذي نفسي بيده لا يذوق أحد حلاوة الإيمان.. وذكر منها: ((أن يحب المرء لا يحبه إلا لله)) (2) .

ونشهد الله عز وجل على محبته، ونشهد الله عز وجل على محبة إمامنا وإمامهم محمد صلى الله عليه وسلم، فالمحبة أولاً وآخراً كلها للرسول، ونحن لم نحب

(1) رواه أبو نعيم في الحلية 1/312، والطبراني في الكبير 12/417، وانظر مجمع الزوائد 1/90.

(2)

رواه البخاري، كتاب الإيمان، باب حلاوة الإيمان، رقم (16) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان خصال من اتصف بهن وجد حلاوة الإيمان، رقم (43) .

ص: 600

هؤلاء إلا بمحبة الرسول عليه الصلاة والسلام، وإلا لكانوا من رجالات قريش وليس لهم فضل، لكن لمحبة الرسول له فإننا نحبهم.

ثم إن محبتنا للرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً تابعة لمحبة الله، لأن المحبة، الأولى، والأخيرة، والنهاية، والبداية، كلها لله عز وجل، خلافا لمن صاروا الآن يحبون الرسول أكثر من محبة الله عز وجل، وإذا ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم عندهم بكوا وتهاملت الدموع، وإذا ذكر الله فالوجه هو الوجه لا تغير ولا بكاء - نسال الله العافية والسلامة - سبحان الله! الرسول صلى الله عليه وسلم لم ينل هذا الشرف إلا لأنه رسول الله، ولأن الله يحبه، وإلا لكان بشراً عادياً لا يحب ولا يكره إلا بما فيه من الخير والشر.

فنحن نحب الرسول صلى الله عليه وسلم لمحبتنا لله تعالى الذي أرسله، ونحب الخلفاء الراشدين لمحبتهم للرسول عليه الصلاة والسلام، ولمحبتنا للرسول وهم خلفاؤه.

فحب علي بن أبي طالب كحب الثلاثة الآخرين واجب حتماً، فيجب علينا أن نحبه.

وقد يقول قائل: إن المحبة وصف فطري نفسي لا يملكه الإنسان، ولهذا يذكر عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:((هذا قسمي فيما املك فلا تلمني فيما لا أملك)) (1) ، يعني بذلك المحبة، والإنسان لا يمكن أن يجعل في قلبه محبة إنسان يبغضه.

لكن المحبة يمكن أن تنال بالكسب؛ بأن تذكر صفات الكمال في هذا

(1) رواه أبو داود، كتاب النكاح، باب في القسم بين النساء، رقم (2134) .

ص: 601

الرجل، فإذا ذكرت أوصاف الكمال، واعتقدت ثبوتها فيه، والنفوس تميل بلا شك إلى الكمال فتحبه، ولهذا جاء في الحديث:((أحبوا الله لما يغذوكم به من النعم)) (1) ، يعني أنك على الأقل إذا ذكرت نعم الله عليك فسوف تحبه لذلك؛ لأنك إذا من عليك أحد بمنة فانك تحبه، ((تهادوا تحابوا)) (2) ، وهذا شيء مجرب.

ومعلوم أن الإنسان لا يمكن أن يقع في نفسه محبة إلا لسبب ظاهر يحمله على المحبة، فإذا كان الأمر كذلك فاذكر ما للنبي عليه الصلاة والسلام، وما للخلفاء الراشدين، وما لغيرهم من عباد الله؛ من الصفات الحميدة، والخصال الطيبة، وحينئذٍ لابد أن تحبه. ولهذا فأحياناً يجمع الإنسان في قلبه بين محبة شخص وكراهته.

فإن قال قائل: إن المحبة والكراهة ضدان لا يجتمعان؟ فيقال: بل يجتمعان، حيث يكون في الإنسان خير ويكون فيه الشر، فيحب لخيره، ويكره لشره، ثم إذا كان منصفاً عمل بأقوى الجانبين؛ فإن غلب خيره على شره غلبت محبته على كراهته، واغتفر شره بجانب الخير الغالب فيه.

ولهذا قال ابن رجب رحمه الله في أول قواعد الفقه قولاً حكيماً صحيحاً، حيث قال: ويأبى الله العصمة لكتاب غير كتابه، والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه (3) .

فنحن إذا نظرنا ما للصحابة الكرام رضي الله عنهم من الفضائل والسبق أحببناهم؛ فيجب علينا أن نحب الخلفاء الأربعة كلهم، كما يجب علينا أن

(1) رواه الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب أهل بيت النبي

، رقم (3789) .

(2)

رواه الإمام مالك في الموطأ (2/908) .

(3)

قواعد ابن رجب ص 5

ص: 602

نحب بقية الصحابة رضي الله عنهم، لكن لكل درجات مما عملوا.

ثم قال المؤلف رحمه الله: (ومن تعدى أو قلى فقد كذب) تعدى: مثل الرافضة، أو قلى: يعني أبغض كالنواصب، (فقد كذب) نعم، لا شك أن من تعدى في حق هؤلاء، وتجاوز الحد، فقد كذب، ومن قلى وأبغض فقد كذب.

إذاً فالرافضة مخطئون من الجانبين؛ تعدوا في علي، وقلوا في بقية الخلفاء، فجمعوا بين الشرين وبين الفسادين؛ غلو زائد في علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وتفريط زائد في حق الخلفاء الراشدين الثلاثة، حتى إن بعضهم - والعياذ بالله - يلعن أبا بكر وعمر صراحة، ويقول: إنهما ظالمان، وإنهما ممن يذاد عن حوض الرسول صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.

قاتلهم الله! كيف يذاد رجلان دفنا إلى جنب الرسول عليه الصلاة والسلام؟! ولم تحصل هذه الفضيلة لأحد سواهما أبدا، ولهذا كانا رفيقيه في الدنيا، ورفيقيه في البرزخ، وسيكونان رفيقيه في يوم القيامة رضي الله عنهما وأرضاهما -.

وهنا يرد سؤال بالنسبة لقول الرافضة: علي كرم الله وجهه، أو الإمام علي؟

فالحقيقة أن هذه من شعار الرافضة، ونحن نقول؛ علي إمام ولا شك، وقوله متبوع بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام:((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين)) (1) ، وعلي منهم، ونقول: أبو بكر إمام، وعمر إمام، وعثمان إمام، بل نقول: من دون هؤلاء إمام؛ الإمام احمد بن حنبل، الإمام

(1) رواه الترمذي، كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة

، رقم (2676) .

ص: 603

الشافعي، الإمام أبو حنيفة، فليست الإمامة خاصة بعلي بن أبي طالب، إلا إذا كانوا يريدون بها إمامة هم يدعونها وهي إمامة العصمة، فنحن لا نقرهم على ذلك، لا في علي ابن أبي طالب ولا في غيره إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.

أما قولهم: كرم الله وجهه، فالتكريم ليس بأبلغ من الرضا، بل الرضا أبلغ، والدليل على ذلك أن أهل الجنة يقول الله لهم:((تمنوا علي)) ، فيقولون: الم تعطنا؟! الم تفعل؟! ألم تفعل؟! ويذكرون نعمه عليهم، ثم يقول:((إن لكم عليّ أن احل عليكم رضواني فلا اسخط بعده أبدا)) (1) ، فصار الرضوان أعظم من التكريم.

فهؤلاء الذين أرادوا أن يكرموا علي بن أبي طالب عدلوا عن الأفضل إلى المفضول، فنقول لهم: إنكم إذا قلتم: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإن ذلك أفضل مما إذا قلتم: علي كرم الله وجهه؛ لأن التكريم دون الرضا، والدليل حديث أهل الجنة مع الله عز وجل حين يذكرون نعمه عليهم فيقول ((احل عليكم رضواني فلا اسخط بعده أبداً)) .

لكن الإنسان الذي يريد الباطل، فإنه بإذن الله يحرم الحق، فلما أرادوا الباطل بهذا، وتخصيص علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذا حرموا الحق، وعدلوا إلى المفضول مع وجود الأفضل.

ثم إننا نقول: إن أكمل شيء يناله العبد هو رضا الله، قال تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ

(1) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب صفة الجنة والنار، رقم (6549) ، ومسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب إحلال الرضوان على أهل الجنة

، رقم (2829) .

ص: 604

عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (التوبة: الآية100) ، فلم يقل الله تعالى إنه كرم وجوههم، ولكن قال تعالى:(رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْه)(التوبة: الآية100) . وقال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ)(البينة: 7)(جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)(البينة: الآية8)، ختمها بهذا:(ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)(البينة: الآية8)

ثم إنهم يزعمون أنهم يصفونه بكرم الله وجهه لأنه لم يسجد لصنم، ونقول لهم: إذا كان الأمر كذلك فما أكثر الصحابة الذين لم يسجدوا لصنم، فكل الذين ولدوا في الإسلام لم يسجدوا لصنم، والذين ولدوا في الجاهلية لا نعلم أنهم سجدوا للأصنام أم لم يسجدوا.

مسألة: هل نطلق على من سب الصحابة رضي الله عنهم بالكفر؟

الجواب: نعم قال شيخ الإسلام رحمه الله من سب الصحابة جميعاً أو اعتقد أنهم ارتدوا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم فلا شك في كفره، بل لا شك في كفر من شك في كفره.

ص: 605

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

153-

وبعد فالأفضل باقي العشرة

فأهل بدر ثم أهل الشجرة

154-

وقيل أهل احد المقدمة

والأول أولى للنصوص المحكمة

ــ

الشرح

ثم قال المؤلف رحمه الله: (وبعد فالأفضل باقي العشرة) بعد: أي بعد الخلفاء الأربعة، (فالأفضل باقي العشرة) وهم ستة.

وهؤلاء العشرة هم المبشرون بالجنة، أطلق عليهم هذا اللقب لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهم في نسق واحد، في حديث واحد.

فقال: ((أبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة،

)) (1)، وقد جمعوا هؤلاء الستة المتممين للعشرة في بيت واحد وهو:

سعيد وسعد وابن عوف وطلحة

وعامر فهو والزبير الممدح

فالخلفاء الأربعة وهؤلاء الستة المذكورون في البيت، وهم: سعيد بن زيد، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وطلحة بن عبيد الله، وعامر ابن الجراح - أبوعبيدة -، والزبير ابن العوام: مجموعهم عشرة، وقد عدهم النبي عليه الصلاة والسلام في نسق واحد في حديث واحد قال: هؤلاء في الجنة.

(1) رواه الترمذي، كتاب المناقب، باب مناقب عبد الرحمن بن عوف

، رقم (3747) ، وأبو داود، كتاب السنة، باب في الخلفاء، رقم (4649) .

ص: 606

فبشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، وأخبر بأنهم في الجنة، وهذه بشرى لهم، ويجب علينا أن نقول: إن هؤلاء أفضل الصحابة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمعهم في نسق وحد. وفي حديث واحد.

فإن قيل: هل اقتصرت شهادة الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة على هؤلاء؟

فالجواب: لا، فقد شهد لأناس كثيرين غير هؤلاء؛ منهم عكاشة بن محصن، فقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بأنه يدخل الجنة بلا حساب ولا عذاب، وذلك أنه لما حدث الرسول عليه الصلاة والسلام أن من أمته سبعين ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب، قام عكاشة فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: ((أنت منهم)) (1) .

وكذلك ثابت بن قيس بن شماس رضي الله عنه، حيث قال له النبي عليه الصلاة والسلام:((إنه يحيا سعيداً، ويقتل شهيداً، ويدخل الجنة)) (2) .

وكذلك المرأة التي كانت تصرع، فقال لها النبي عليه الصلاة والسلام:((إن شئت دعوت الله لك، وإن شئت صبرت ولك الجنة)) (3)، فقالت: اصبر.

وإذا تتبع الإنسان هذا فإنه يتبين له أناس كثيرون ممن شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة.

والشهادة بالجنة نوعان: شهادة بوصف وشهادة بشخص.

أما الشهادة بالوصف: فان تشهد لكل مؤمن بأنه في الجنة على سبيل العموم.

وأما الشهادة بالشخص: فأن تشهد لشخص بعينه بأنه من أهل الجنة، وكلتا

(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف المسلمين الجنة، رقم (218) .

(2)

رواه الحاكم في مستدركه (3/260) .

(3)

رواه البخاري، كتاب المرضى، باب فضل من يصرع من الريح، رقم (5652) .

ص: 607

هاتين الشهادتين قد دل عليها الكتاب والسنة.

فمثلاً بين الله تعالى في القرآن أن الجنة أعدت للمتقين، فنشهد لكل المتقين أنهم في الجنة، لكن لا نشهد لفلان أنه في الجنة إذا رأينا تقيا لاحتمال أن يرد عليه في آخر عمره أشياء تصرفه عن التقوى، فلا نشهد بالجنة بالتعيين إلا لمن عينه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نشهد بالوصف إلا لمن شهد له الله ورسوله.

والشهادة بالوصف لا تجوز الشهادة بالعين، فمثلاً نقول: كل مؤمن فإنه في الجنة، وكل تقي فإنه في الجنة، لكن لا نشهد بان فلاناً المعين في الجنة.

كذلك أيضا في الشهادة؛ فكل من قتل في سبيل الله فهو شهيد، لكن لو رأينا رجلاً مسلماً قتل في المعركة فلا نقول: إنه شهيد؛ لأننا لو قلنا: إنه شهيد لزم من ذلك أن نشهد له بالجنة، وهذا لا يجوز.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: من أجمعت الأمة أو كادت أن تجمع على الثناء عليه، فإننا نشهد له بالجنة (1)، واستدل لذلك بقوله تعالى:(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ)(البقرة: الآية143) ، فإنه قد مرت جنازة والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه فاثنوا عليها خيرا، فقال:((وجبت)) .

ثم مرت أخرى فأثنوا عليها شراً، فقال:((وجبت)) . فقالوا: يا رسول اله، ما وجبت؟ قال:((مرت الجنازة الأولى فأثنيتم عليها خيراً، فقلت: جبت؛ أي وجبت له الجنة، والثانية أثنيتم عليها شراً، فقلت: وجبت؛ أي وجبت له النار. إنتم شهداء الله في أرضه)) (2)

(1) انظر مجموع الفتاوى 11/518، 18/313.

(2)

رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ثناء الناس على الميت، رقم (1367) .

ص: 608

وعلى رأي شيخ الإسلام رحمه الله فإنه يجوز أن نشهد للإمام أحمد بأنه من أهل الجنة، لاتفاق الناس أو جملتهم عليه، وكذلك بقية الأئمة، وأئمة الإتباع؛ لأنهم ممن اتفق الناس أو جلهم على الثناء عليهم.

قال المؤلف رحمه الله: (فأهل بدر) أي بعد العشرة أهل بدر، والعشرة من أهل بدر، يعني لا يمتنع أن يكون في الإنسان وصفان.

وأهل بدر هم الذين قاتلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بدر، وكانت غزوة بدر في السنة الثانية من الهجرة في رمضان، وكان سببها أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع بعير لقريش جاءت من الشام تريد مكة، وهي لابد أن تمر بالمدينة أو حولها، فندب أصحابه إلى الخروج لهذه العير لأخذها، فانتدب منهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً فقط، على سبعين بعيراً وفرسين.

وكانوا لا يريدون غزواً ولا فكروا أن يكون هناك غزو، إنما أرادوا عير قريش مع أبي سفيان، وهي عير كثيرة محملة بالطعام والثياب وغيرها، ولذلك كان معها أبو سفيان من كبراء قريش، فلولا أنها عير كثيرة لم يكن معها هذا الزعيم.

فإذا قال قائل: كيف يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج ليأخذ أموالهم؟ نقول: فالجواب: أن أخذ أموالهم ليس بشيء بالنسبة لإخراج الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ديارهم، فهؤلاء اخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من ديارهم وأموالهم، والرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يأخذ أموالهم فقط، وهي من الأنفال التي نفله الله عز وجل:(قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)(الأنفال: الآية1) .

فلما سمع أبو سفيان بالخبر، وأن الرسول خرج هو وأصحابه إليهم، وكان رجلا ذكياً، عدل عن الطريق إلى ساحل البحر وأرسل إلى أهل مكة

ص: 609

يستصرخهم؛ لا للقتال، ولكن لإنقاذ العير فقط، وظن أنهم سيرسلون فلاناً وفلاناً من عامة الناس لإنقاذ العير ويرجعون، ولكن قريش أخذتهم الحمية، وقالوا: كيف يتعرض محمد لعيرنا بقيادة زعيم من زعمائنا؟! لابد أن نخرج ونقضي عليه.

وتشاوروا فيما بينهم، وفي النهاية أجمعوا على أن يخرجوا للرسول عليه الصلاة والسلام بكبرائهم؛ خرجوا بطراً ورئاء الناس، بحدهم وحديدهم، وخيلهم ورجلهم، وزعمائهم ومن دونهم، وجاءوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.

فلما كانوا في أثناء الطريق تشاوروا فيما بينهم: هل نمضي أو نرجع؟! فكان أبو جهل يلمزهم في هذا، ويقول: كيف تفكرون في الرجوع وأنتم خرجتم؟! والله لا نرجع حتى نقدم بدراً ونقيم فيها ثلاثاً؛ ننحر الجذور، ونسقي الخمور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبداً. وهذا فخر وبطر منه، ولكن الحمد لله؛ فلم تنحر الجذور ولكن نحر هو!!

فقدموا بدراً وتلاقى الصفان، وتراءى الجمعان، وحصل ما حصل، وبني للنبي صلى الله عليه وسلم عريش يدخل فيه يدعو الله سبحانه وتعالى بالنصر؛ لأنه إذا استنفذنا قوتنا المادية الحسية لم يبق لنا إلا الدعاء. فالدعاء مع القوة المادية الحسية وعدم استعمالها خطأ، لكن الدعاء عند العجز واجب، وإن جمعت بينهما فخير.

فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الله عز وجل. فماذا كان الأمر؟ قال الله تعالى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ

ص: 610

كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) (الأنفال: 12) ، فنفرت الملائكة، ونزلت تقاتل؛ تثبت المؤمنين، وتلقي في قلوب الكفار الرعب، فهربوا، وقتل منهم سبعون رجلاً، واسر سبعون رجلاً.

وكان ممن قتل هذا الزعيم الذي يقول: إننا لن نرجع حتى نقدم بدراً، وأخر ما قال: وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً. لكن العرب سمعت بهم فنزلت مرتبتهم عند العرب!!

فالحاصل أن أهل بدر في الفضل يلون العشرة المبشرين بالجنة، لما لهم من بلاء حسن في غزوة بدر.

وقد يرد هنا إشكال على قوله تعالى لأهل بدر: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)(1) ؛ فإن ظاهر هذا القول العموم، يعني أنه يشمل الكفر وما هو دونه، والجواب على هذا بأحد وجهين:

الأول: أن يقال أنهم لا يمكن أن يشاءوا الكفر لما حل في قلوبهم من الإيمان الراسخ الذي لا يمكن أن يدخل من خلاله الكفر، فيكون في هذا بشارة لهم أنهم لن يكفروا، ويبقى ما دون الكفر مكفر بهذه الغزوة.

إذاً فقوله: ((ما شئتم)) لا يدخل فيه الكفر لأنهم لا يمكن أن يشاءوا الكفر بسبب ما قدموه من هذه الحسنات العظيمة، ويكون في هذا بشارة لهم بأنهم لن يكفروا.

ثانياً: أنه على فرض كفرهم سوف ييسرون للتوبة حتى يغفر لهم: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ)(الأنفال: الآية38) ، فيكون في هذا

(1) رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب الجاسوس، رقم (3007) ، ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم

، رقم (2494) .

ص: 611

بشارتان، إما بأنهم لن يكفروا، أو أنه لو قدر أنهم كفروا فإنهم سوف يعودون إلى الإسلام، ويغفر لهم ما قد سلف، ومن تتبع أحوالهم لم يجد أحداً منهم ارتد، فكل الذين في غزوة بدر لم يرتد منهم أحد، وبهذا يكون المعنى الأول اقرب واصح، وهو أنهم لن يشاءوا الكفر.

ثم قال المؤلف رحمه الله: (ثم أهل الشجرة) أي بعد أهل بدر أهل الشجرة؛ و (الـ) هنا في قوله: (أهل الشجرة) للعهد الذهني، أي الشجرة التي بايع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه.

وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج في ذي القعدة ومعه نحو ألف وأربعمائة رجل، خرج قاصداً البيت الحرام للعمرة، ومعه البدن قد ساقها عليه الصلاة والسلام تعظيماً لله عز وجل ولبيته الحرام، فلما وصل إلى الحديبية - وهي مكان بعضها من الحل وبعضها من الحرم - صده المشركون، وقالوا: لا يمكن أن تدخلوا علينا مكة وأن نؤخذ ضغطة.

وهذا من حمية الجاهلية؛ لأن قريشاً لا تمنع أي أحد من الحج أو من العمرة، بل ترحب به؛ لأنه يفيدها اقتصادياً، لكن محمد صلى الله عليه وسلم وهو أولى الناس بالبيت هو ومن معه، هو الذي يصد، وهذه حمية جهل لا حمية علم. فمنعوه.

وجرت بينه وبينهم مراسلات، فبايع النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه تحت هذه الشجرة على أن لا يفروا أبداً، وذلك لأنه أشيع أن عثمان بن عفان رضي الله عنه وهو السفير بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين قريش - حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة، أنه قتل، فقال: لئن كان كذلك لأناجزنهم أن يقتلوا رسولي، لأن قتل الرسول أمر ممنوع في كل قانون، فالرسول الذي يكون بين

ص: 612

المتحاربين لا يمكن أن يقتل، حتى في الجاهلية فهو ممنوع.

فقال صلى الله عليه وسلم: ((إن كانوا قتلوه لأناجزنهم)) ، فبايع أصحابه، وكان عليه الصلاة والسلام يبايعهم على أن لا يفروا، وقد قال الله تعالى في هذه البيعة المباركة:(إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ)(الفتح: الآية10) ، فصرح أن مبايعتهم للرسول مبايعة لله، وأن الرسول نائب عن الله في ذلك، قال:(يَدُ اللَّهِ) وهي يد الرسول صلى الله عليه وسلم، (فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) ، لكن لما كانت يد رسوله كانت كيده على أحد القولين في الآية، فبايع الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال الله تعالى في هذه البيعة:(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً)(الفتح: 18) ، والفتح القريب هو الصلح الذي جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قريش.

فإن قال قائل: كيف كان فتحاً مع أن ظاهره أنه هضم للمسلمين؟ فالجواب: أنه كان فتحاً لأن الناس بدا يأتي بعضهم إلى بعض من مكة إلى المدينة ومن المدينة إلى مكة، لأجل العهد الذي بينهم. فكان فتحاً مبيناً، والشيء الذي خشي عليه أن يكون ضغطاً على المسلمين زال ولله الحمد، وذلك في قصة أبي بصير رضي الله عنه ومن خرج إليه من أهل مكة.

فإنه لما جاء أبو بصير إلى المدينة فاراً من أهل مكة الحقوا به رجلين يطلبانه، وذلك تعصباً منهم، فلما وصل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام إذا الرجلان قد وصلا خلفه، فقالا: يا محمد، العهد أن من جاء منا إليك ترده علينا.

فلما رده إليهما وخرجوا من المدينة، جلس الثلاثة يتغدون؛ أبو بصير ورجلا قريش، وكان أبو بصير قوياً، فقال لأحدهم: أعطني سيفك؛ إنه

ص: 613

سيف جيد، وقام يمدح هذا السيف، قال الرجل: نعم إنه جيد، وكم قرعت به من رأس، وأعطاه السيف، فسله أبو بصير وجب به رقبته.

أما الرجل الثاني فهرب إلى المدينة فاراً، ولحقه أبو بصير، فجاء إلى الرسول مذعوراً، وقال: إن صاحبي قتل، يعني وأنا أخاف على نفسي، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام:((ويل أمه - يعني أبا بصير- مسعر حرب لو يجد من ينصره)) (1) !! فعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن ينصره، وسوف يسلمه مرة ثانية، فخرج من المدينة وقعد الصراط لعير قريش؛ كلما جاءت عير هجم عليها وأخذ منها ما شاء الله.

فعلم بعض الصحابة الذين في مكة بخبره فخرجوا إليه فكانوا عصابة، فأخافوا السبيل، وأرسلت قريش إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، يلغون العهد الذي بينه وبينهم في هذا، فرجع أبو بصير ومن معه إلى المدينة، واستتب الأمن (2) ، ولله الحمد.

وأما العهد الذي كانت مدته عشر سنين فإن قريشا نقضته، حيث أعانت حلفاءها على حلفاء النبي صلى الله عليه وسلم وحينئذٍ انتقض العهد، فلم يكن بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فغزاهم.

وبهذا فان هذا الصلح صار فتحاً مبيناً، قال تعالى:(لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى)(الحديد: الآية10) ، والمراد بالفتح هنا صلح الحديبية.

(1) رواه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، رقم (2734) .

(2)

رواه البخاري، كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب، رقم (2734) .

ص: 614

فهؤلاء أهل الشجرة، وهذه الشجرة بقيت في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، وإلى عهد أبي بكر وهي باقية، فلما كان عمر سمع أن قوماً يترددون إلى هذه الشجرة فأمر رضي الله عنه بقطعها حماية لحمى التوحيد.

ولعلها لو بقيت كانت ذات أنواط أو أشد أو لعَبَدَها الناس!! لأن الناس الآن أكثرهم همج، لكن من بركات عمر بن الخطاب رضي الله عنه على هذه الأمة أن قطع دابر الشجرة، وأخفى موضعها، حتى أخفيت - ولله الحمد - ولم يعرف مكانها حتى الآن.

ثم قال المؤلف رحمه الله: (وقيل أهل أحد المقدمة) يعني قال بعض العلماء رحمهم لله: إن أهل أحد مقدمون على أهل بيعة الرضوان، ومن المعلوم أن من الصحابة من كان من أهل بدر ومن العشرة ومن أهل بيعة الرضوان ومن أهل أحد، أي أن بعض الصحابة اجتمعت لهم الأوصاف الأربعة، وبعضهم ليس كذلك.

وإذا قلنا: إن أهل أحد مقدمون على أهل بيعة الرضوان، مع أن أهل بيعة الرضوان أكثر عدداً، حيث إن أهل بيعة الرضوان ألف وأربعمائة نفر، أما أهل أحد فنحو سبعمائة نفر، لكن أصابهم من البلاء والتمحيص والقتل مالم يكن في بيعة الرضوان، ولهذا رجح بعض العلماء أهل أحد على أهل بيعة الرضوان.

ولكن الذي يظهر القول الأول؛ أن أهل بيعة الرضوان أفضل، لأن أهل بيعة الرضوان استحقوا الرضا، قال تعالى:(لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ)(الفتح: الآية18) ، أما أهل أحد فاستحقوا العفو، وفرق بين هذا وهذا، قال الله:

ص: 615

(ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)(آل عمران: الآية152) ، ففرق بين من استحق وصف العفو ومن استحق وصف الرضوان؛ فالثاني أكمل. فالصحيح أن أهل بيعة الرضوان أفضل من أهل أحد، مع أنه ربما يكون أهل أحد قد شملتهم بيعة الرضوان.

أما غزوة أحد فالقصة فيها معروفة، وسببها أن قريشا لما هزموا تلك الهزيمة النكراء يوم بدر ورجعوا إلى بلدهم تشاوروا فيما بينهم، وقالوا: إن محمداً استأصل شأفتنا، وقتل خيارنا وسادتنا، فلنخرج إليه حتى نأتيه في المدينة ونقضي عليه فجاءوا إلى المدينة يريدون القضاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

واستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في الخروج لملاقاتهم، فالذين لم يشهدوا بدراً قالوا له: اخرج. يريدون الغزو والشهادة، والذين حضروا بدراً قالوا: يا رسول الله نبقى في المدينة، فإذا جاؤوا قضينا عليهم، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رجح رأي الذين قالوا بالخروج، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته من أجل أن يتأهب للحرب، ويلبس لامة الحرب والدرع وغير ذلك، فكأنهم تشاوروا فيما بينهم، قالوا: لعلنا اكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الخروج، وذلك لأنه كان يميل بداية إلى أنهم لا يخرجون.

فلما خرج عليهم وقد لبس لامة الحرب على رأسه واستعد للحرب، قالوا: يا رسول الله، لو تركنا هذا وبقينا على الرأي الأول فنبقى في المدينة فإذا جاؤوا قاتلناهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:((ما كان ينبغي لنبي لبس لامة الحرب حتى يقضي الله بينه وبين عدوه)) (1) ، فخرج ومعه ألف نفر؛ سبعمائة مؤمنين

(1) رواه البيهقي في السنن الكبرى (7/40)

ص: 616

خلص، وثلاثمائة منافقون، وكان المنافقون لا يريدون الغزو، بل كانوا يقولون: ابقوا هاهنا.

ولما كانوا في أثناء الطريق قال عبد الله بن أُبي رأس المنافقين: محمد يطيع صغار السن ويعصينا، لا يمكن أن نقاتل، فرجع بثلث الجيش، وثلث الجيش لا يخفي أنه ليس بالأمر الهين في كسرة قلوب الجيش، فلولا أن الله تعالى أعان المسلمين بالإيمان لانخذلوا؛ لأنه إذا رجع من الجيش ثلثه فلا يبقى على عزيمته الأولى، ولهذا حرم الفرار من الزحف، ولو كان واحداً من الناس؛ لأنه يكون سبباً لضعف النفوس ووهن القلوب والهزيمة.

لكن هؤلاء صمموا حتى كانت الغزوة في أحد، وكان في أول النهار النصر للمؤمنين، إلا أن الله بحكمته أراد خلاف ذلك، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل خمسين رامياً وأمر عليهم عبد الله بن جبير فجعلهم على ثغر في الجبل وقال: لاتبرحوا مكانكم أبداً سواء لنا أو علينا. فلما انكشف المسلمون وانهزموا، صار المسلمون يجمعون الغنائم، قال الرماة بعضهم لبعض: انكشف المشركون وولوا الأدبار، فانزلوا لجمع الغنائم كما يجمع الناس فذكرهم أميرهم عبد الله بن جبير بقول النبي عليه الصلاة والسلام، ولكن (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) (آل عمران: الآية152) ، فنزلوا إلا نفراً قليلاً لا يغنون شيئاً.

وإذا فرسان قريش النبهاء الشجعان رأوا المكان خالياً فكروا على المسلمين من خلف الجبل، ومنهم خالد بن الوليد، وعكرمة بن أبي جهل، اللذان صارا فارسين من فرسان المسلمين والحمد لله - فاختلط المشركين بالمسلمين من

ص: 617

ورائهم، وحصل ما حصل من الأذى والضرر والقتل، وأصاب المسلمين محن عظيمة.

فحمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم يمثل به بعد أن قتل، حتى قيل إن هند بنت عتبة أخذت من كبده بعد أن فرت بطنه وجعلت تأكله، لكن عجزت أن تبلعها بإذن الله عز وجل.

والرسول عليه الصلاة والسلام شج وجهه، وجعل الدم يسيل على وجهه، وكسرت رباعيته، وحصل له من التعب والمشقة ما لا يصبر عليه إلا أمثاله عليه الصلاة والسلام.

وقتل من المسلمين سبعون نفراً، وأصابهم غم بغم، ولكن الله عز وجل سَلاهُم بآيات كثيرة، كما في سورة آل عمران، فإن نصفها أو أكثر عن هذه الغزوة، ولما كانت النتيجة أن قتل منهم سبعون نفراً، قال الله تبارك وتعالى:(أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا)(آل عمران: الآية165) أي كيف كانت هذه المصيبة؟ قال الله تعالى: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)(آل عمران: الآية165) أي أنتم السبب، (ْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران: الآية165) ، فهو قادر عز وجل على أن يكشف المشركين، ولا ينالكم سوء، لكن انتم البلاء (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) يقول هذا لجند معهم رسول الله عليه الصلاة والسلام.

(هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) والمعصية التي فعلوها معصية يسيرة. فما الظن بنا الآن؟! هل عند أنفسنا شيء يمنعنا من النصر؟! والحقيقة أنه ليس عندنا شيء يوجب لنا النصر، فكثير من حكام المسلمين لا يرضون أن يحكموا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكثير من حكام المسلمين يلاحقون المؤمنين بالله ورسوله

ص: 618

(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)(البروج: 8) ، وكثير من أسواق المسلمين تشرب فيها الخمور، وتعاقر فيها النساء، وكثير من حكام المسلمين لهم موالاة ظاهرة مع أعداء الله.

فهل يمكن أن يكون النصر لهؤلاء؟! بل قد يكون هؤلاء أحق بالخذلان من الكفار الخلص؛ لأن الكفار كفار، لكن هؤلاء ينتمون إلى الإسلام وهم لا يؤمنون بالإسلام حقيقة، ولذلك نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم إلا من شاء الله، فأقول: إننا ما أصبنا بهذه المصائب التي نحن عليها اليوم إلا بسبب ذنوبنا.

فالحاصل أن غزوة أحد قد حصل فيها من البلاء والتمحيص ما لم يحصل في غيرها؛ ولهذا قال بعض العلماء: إنها أفضل من غزوة الحديبية، ولكن الصحيح أن أهل الحديبية أفضل من أهل أحد، وذلك لان الله تعالى احل عليهم رضوانه، وأما هؤلاء فقال عنهم:(وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ)(آل عمران: الآية152) .

ثم قال رحمه الله: (والأول اولى) هنا سقطت همزة القطع مراعاة للوزن (والأول اولى للنصوص المحكمة) يعني للأدلة، والنصوص المحكمة: يعني الواضحة البينة، لان المحكم يقال بإزاء المتشابه، ومنه قوله تعالى:(مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)(آل عمران: 7)، ويقال: بإزاء المنسوخ، فيقال: هذا محكم وهذا منسوخ، وأصل الإحكام هو الإتقان.

ص: 619

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

155-

وعائشة في العلمِ مع خديجة

في السبق فافهم نكتة النتيجة

ــ

الشرح

عائشة وخديجة من أمهات المؤمنين رضي الله عنهما، وقد اختلف العلماء رحمهم الله أيهما أفضل؟ فقيل: إن عائشة أفضل، وقيل: إن خديجة أفضل.

والصواب أن يقال: أما مرتبتهما عند الله فهذا ليس إلينا، بل هو إلى الله عز وجل ولا نتكلم في هذا.

وأما المفاضلة بينهما بحسب ما ظهر لنا من أفعالهما وأحوالهما فهذا إلينا؛ لأنه أمر ظاهر معروف.

وأما باعتبار كونهما زوجين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلا مفاضلة؛ كل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يشتركن في هذه الفضيلة، أي في أنهن زوجاته في الدنيا والآخرة، وأنهن أمهات المؤمنين، وأنه يجب علينا من احترامهن وتعظيمهن ما يليق بهن وبحالهن.

فالجهات ثلاث:

أولاً: من حيث كونهما زوجين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ففي هذه الحال لا مفاضلة، لأن جميع زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم يشتركن في هذا الفضل.

ثانياً: من حيث المرتبة عند الله، فهذا لا مفاضلة أيضا؛ لأن هذا مجهول لنا، وكم من شخصين عملهما واحد لكن مرتبتهما عند الله بينهما كما بين السماء والأرض؛ لأن الله لا ينظر إلى صورنا وأعمالنا وإنما ينظر إلى قلوبنا.

ثالثاً: بالنسبة للأعمال الظاهرة أيهما أفضل عائشة أو خديجة؟

وأصح ما قيل في ذلك ما أشار إليه المؤلف رحمه الله؛ أن خديجة لها

ص: 620

فضل السبق إلى الإسلام، وفضل مناصرة النبي صلى الله عليه وسلم في أول أمره، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يذكرها دائماً، وانه لم يتزوج عليها، وإنها أم أكثر أولاده، ونحو ذلك.

وعائشة رضي الله عنها في كونها أحب النساء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وعنايتها بالرسول صلى الله عليه وسلم، وشدة محبتها له، وما نشرت من العلم الكثير في الأمة، فتكون بذلك أميز من خديجة. فصارت خديجة أفضل من وجه وعائشة أفضل من وجه.

والى هذا أشار بقوله:

(وعائشة في العلم مع خديجة في السبق) فعائشة رضي الله عنها نشرت كثيراً من العلم في آخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، وخديجة سبقت، وناصرت الرسول صلى الله عليه وسلم وعاضدته رضي الله عنها، وجزاها الله خيراً، وعائشة رضي الله عنها في آخر حياة الرسول عليه الصلاة والسلام لا أحد يشك في درجتها عند الرسول صلى الله عليه وسلم، ومحبته لها، بل وكونه صلى الله عليه وسلم توفي في بيتها، وفي حجرها، وفي يومها، وأخر ما طعم من الدنيا ريقها رضي الله عنها، فكل هذه فضائل وميزات لم تحصل لخديجة ولا لغيرها من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال:(فافهم) .

وبالنسبة لمحبتنا لهن، فإننا نحبهن كلهن على حد سواء، من حيث كونهن زوجات الرسول عليه الصلاة والسلام، ولهن عندنا من الاحترام والتعظيم ما يليق بحالهن، ويزداد حبنا للواحدة منهن بحسب ما أسدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، والى الأمة، وهذا هو العدل والميزان الحق، وأما الميل مع العاطفة فهذا لا شك أنه خلاف الحق:(فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا)(النساء: الآية135) يعني إن أردتم العدل فلا تتبعوا الهوى، بل اتبعوا ما يقتضيه العقل.

ص: 621

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

156-

وليس في الأمة كالصحابة

في الفضل والمعروف والإصابة

ــ

الشرح

الصحابة هم الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم، ومن خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أن صحبته تحصل بالاجتماع به على الإيمان ولو لحظة واحدة ولهذا قالوا: الصحابي من اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على ذلك.

أما صحبة غير الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يكون الإنسان صاحباً إلا بعد طول مدة، لكن من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم أن صاحبه من اجتمع به مؤمناً به ومات على ذلك حتى لو فرضنا أنه وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به وانصرف إلى إبله وغنمه فإنه يعتبر من الصحابة، ولكن الصحابة درجات مختلفة على حسب ما سبق في هذا الفصل.

وقوله: (في الفضل والمعروف) الفضل هو الإحسان والمعروف هو العدل.

وقوله (والإصابة) يعني إصابة الحق فأقرب الناس إلى الصواب هم الصحابة رضي الله عنهم لا شك في هذا.

وقد اختلف العلماء رحمهم الله هل قول الصحابي حجة أو لا؟ بمعنى هل يجوز أن نعتمد في ديننا على قول الصحابي، أو نقول لا نعتمد على قول أحدٍ إلا على قول الله ورسوله؟ فمن العلماء من قال: لا نعتمد إلا على قول الله ورسوله، وأما ما سوى ذلك فهو مجتهد يخطئ ويصيب ولا نلزم بقوله، ومن العلماء من قال: بل إن قول الصحابي حجة بشرط ألا يخالف نصاً وألا

ص: 622

يخالف غيره، فإن خالف النص؛ فهو مردود سواء كان نص قرآن أو سنة، وإن خالف غيره، طلبنا الترجيح فنرجح من كان قوله إلى الصواب أقرب، ومن العلماء من زاد شرطاً ثالثاً وهو أن يكون معروفاً بالفقه والعلم ليخرج بذلك الصحابي الذي لم يجتمع بالرسول صلى الله عليه وسلم كثيراً، وهذا شرط لابد منه، فشروط قبول قول الصحابي وكونه حجة ثلاثة: أن يكون مشهوراً بالعلم، والثاني: ألا يخالف النص، والثالث: ألا يخالف صحابيا آخر؛ لأنهم هم أقرب إلى الصواب.

ولهذا قال: (والإصابة)، يعني أنهم أقرب إلى الصواب. ولا شك أن من نص النبي صلى الله عليه وسلم على إتباع قوله فقوله حجة إذا لم يخالف النص مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم:(اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)) (1)، وقوله صلى الله عليه وسلم:((إن يطيعوا أبا بكر وعمر يرشدوا)) (2) ، وهذه شهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن في قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما الرشد.

مسألة: إذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم على قولين، فهل نقول: إن القولين تعارضا فتساقطا، أو لا بد من أن نطلب ما يساعده الدليل؟

الجواب: الغالب أن الحق لا يخرج عن أقوال الصحابة رضي الله عنهم، وبناء على ذلك نقول: نبحث فيما يعضده الدليل لأنهم هم أقرب الناس إلى الصواب، ولا شك انه إذا تعارض قولان للصحابة رضي الله عنهم بدون مرجح فانه يضعف القول؛ لأنه عورض بمثله وهذا قد يبدو للإنسان أن

(1) رواه الترمذي، كتاب المناقب، باب في مناقب أبي بكر وعمر، رقم (3662) .

(2)

رواه مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب قضاء الصلاة الفائتة

، رقم (681)

ص: 623

يقول: لا احتج به ما دام ضعيفاً عورض بمثله.

لكن: الخير أن نقول: ما دام أنه عورض بمثله فإن الواجب أن نبحث؛ لأنهما وإن تعارضا فإنهما أقرب إلى الصواب من غيرهما، ولكن يلاحظ أنه لا يمكن أن نعارض قول عمر رضي الله عنه بقول رجل من الصحابة رضي الله عنهم بعيد عن الفقه إلا إذا عضده الدليل. فإذا عضد المفضول الدليل فمعلوم أن الواجب إتباع الدليل.

ص: 624

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

157-

فإنهم قد شاهدوا المختارا

وعاينوا الأسرار والأنوارا

158-

وجاهدوا في الله حتى بانا

دين الهدى وقد سما الأديانا

159-

وقد أتى في محكم التنزيل

من فضلهم ما يشفي للغليل

ــ

الشرح

قوله: (فإنهم) هذا تعليل لقوله: (وليس في الأمة كالصحابة) ؛ لأنهم قد شاهدوا المختارا وهذا تعليل وليس بدليل، الدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم:((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) (1) ، وهذه الخيرية شاملة لخيرية العلم، وخيرية العبادة، وخيرية الأخلاق.

وقوله: (شاهدوا المختارا)، يعني بذلك النبي صلى الله عليه وسلم الذي اختاره الله تعالى لهذه الرسالة العظيمة التي قال الله تعالى عن الكتاب الذي هو مصدر أساسها:(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً)(المزمل: 5) ، هو ثقيل في العمل به وتحمله وإبلاغه وغير ذلك، ولهذا قال:(إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القرآن تَنْزِيلاً)(الإنسان: 23)(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ)(الإنسان: الآية24)، ولم يقل فاشكر نعمة الله؛ لأنه ثقيل بل قال:(فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ)(الإنسان: الآية24)، أي: اصبر لحكم الله الشرعي والكوني الذي يترتب على هذا التنزيل، وهذا يدل على أنه سيناله منه ما يحتاج إلى صبر فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم مختاراً؛ لأنه أفضل الرسل عليهم الصلاة والسلام وأنه إمامهم وأنه الذي أخذ على الرسل إذا بعث أن يؤمنوا به وينصروه.

وقوله: (وعاينوا الأسرار والأنوار) ، أي أسرار الشريعة وعرفوا أسبابها ولا

(1) تقدم تخريجه ص 59.

ص: 625

شك أنه ليس الخبر كالمعاينة فنحن مثلاً نعرف أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الكلام في مناسبة ما ونستخلص منه الحكمة والسر، لكن ليس كالمعاين فهم عاينوا الأسرار يعني بذلك الحكم العظيمة التي بنيت عليها هذه الشريعة، فإن الشريعة كلها حكمة قال تعالى:(وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ)(النساء: الآية113) .

وقوله: (والأنوارا)، أي الأنوار المعنوية وليست الأنوار الحسية ويدل لهذا قول أنس بن مالك رضي الله عنه:((قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فأضاء منها كل شيء)) ، إضاءة معنوية فلما توفي يقول:((أظلم منها كل شيء)) إظلاماً معنوياً، وإلا من المعلوم أن الشمس لم تكسف حين موته وأنه لم يطلع شمسان حين قدومه، فالأمر كما هو فالإضاءة والإظلام ليس حسياً ولكنه معنوي كما وصف أنس بن مالك رضي الله عنه.

فالأنوار التي شاهدها الصحابة رضي الله عنهم هي الانوار المعنوية وذلك بما يتلقونه من العلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن علم الرسول صلى الله عليه وسلم كله نور قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً)(النساء: 174) .

وقوله: (وجاهدوا في الله) ، أي بذلوا الجهد في الله، أي في دينه وشريعته ولا أحد ينكر ذلك ممن عرف سيرة الصحابة رضي الله عنهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته كيف جاهدوا الجهاد العظيم بأموالهم وأنفسهم تركوا أوطانهم وعرضوا رقابهم لسيوف الأعداء حتى كمل الدين ولله الحمد.

فجهادهم الجهاد العظيم يجعلهم في منزلة هي خير المنازل في هذه الأمة.

وقوله: (حتى بانا) ، بانا بالألف للإطلاق وليست ألف التثنية بل هي ألف تسمى ألف الإطلاق من أجل القافية.

ص: 626

وقوله: (دين الهدى)، يعني بذلك دين رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى:(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ)(التوبة: الآية33) .

وقله: (وقد سما الأديانا) ، سما أي علا، والأديان مفعول سما؛ يعني علا الأديان، وهذا أيضاً مأخوذ من قوله تعالى:(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ)(التوبة: الآية33)

ومعروف من وقائع الأمور أن دين الإسلام لما كان الناس عليه حقيقة علا كل الأديان، وأطاع بعروش كسرى وقيصر والمقوقس وغيرهم، وبإطاحته بهذه العروش صار الدين دين المسلمين وعلا على الأديان كلها حتى صار أعداء المسلمين أذلاء يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون، ولما تقاعس الناس عن الدين مع الأسف انخذلوا وذلوا وصارت الدائرة عليهم؛ لأن الله جل وعلا ليس بينه وبين الناس نسب يراعيهم به ويحابيهم به بل من تمسك بدينه فهو ولي الله المنصور إلى قيام الساعة ولهذا قال:

وقد أتى في محكم التنزيل من فضلهم ما يشفي للغليل

ويجوز ما يشفي للعليل.

قوله: (أتى في محكم التنزيل) ، يعني بذلك القرآن، والمحكم هو المتقن الواضح البين فأتى في هذا القرآن الكريم المحكم ما يشفي للغليل، أي للمريض، وإن كان الأصل في الغليل العطشان لكن هو يريد بها المريض هنا؛ لأن الشفاء يقابل المرض.

مثال ذلك: قول الله تبارك وتعالى: (لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)

ص: 627

(الحشر: 8) وقال سبحانه: (وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)(الحشر: 9)، ومثل قوله تعالى:(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)(الفتح: 29) ، والآيات في هذا متعددة.

وقول المؤلف رحمه الله: (في محكم التنزيل)، قلنا: إنه يريد به القرآن، والقرآن لا شك أنه محكم متقن، في ألفاظه ومعانيه وفي جميع ما يتعلق به؛ أخباره صدق، وأحكامه عدل، لا تجد فيه تناقضاً:(وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(النساء: الآية82) .

ولكن قد يشكل على هذا أن الله تعالى سماه في موضع متشابها، فقال:(اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً)(الزمر: الآية23) ، والمتشابه ضد المحكم؛ لأن المتشابه يوجب لمن نظر فيه الحيرة والتردد، فلا يكون محكما.

والجواب عن ذلك أن يقال: إن التشابه الذي وصف به القرآن، ليس التشابه الذي هو خفاء المعنى، بل التماثل والتساوي، يعني أنه متماثل يشبه بعضه بعضاً؛ في كماله، وجودته، وإصلاحه للقلوب والأعمال.

ولهذا لما أريد بالمتشابه المشتبه في معناه قسم الله تعالى القرآن إلى قسمين: محكم، ومتشابه، فقال جل وعلا: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ

ص: 628

آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ) (آل عمران: الآية7) .

فحينئذٍ نقول: إن القرآن محكم: بمعنى واضح بين لا يشتبه على أحد، ومتشابه: أي خفي المعنى لا يعلمه إلا أولو العلم الراسخون فيه، ولهذا قال) وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) (آل عمران: الآية7) على قراءة الوصل. فصار القرآن يوصف بأنه كله محكم وبأنه كله متشابه، وبأن بعضه محكم وبعضه متشابه، ولكن المعنى يختلف في هذا التفصيل:

فإن قيل: هل يمكن أن يوجد في القرآن آيات متشابهة على جميع الناس لا يعرفون معناها؟

فالجواب: أنه لا يوجد مثل هذا في القرآن.

والدليل قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْء)(النحل: الآية89) ، فلا يوجد فيه شيء غير واضح، وقال تعالى:(يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً)(النساء: 174) فلا يمكن إطلاقاً أن يوجد فيه آية أو كلمة لا يفهم معناها، لكن الذي يخفى هو حقيقة مدلولات الآيات، مثل ما اخبر الله به عن نفسه واليوم الآخر فإننا نعرف حقيقته.

فإذا قال قائل: إن القول بأنه لا يوجد شيء يخفى معناه على جميع الناس منقوض بالحروف الهجائية التي ابتدئت بها السور، فان أحداً لا يعرف معناها.

فالجواب على ذلك: أن هذه الحروف التي ابتدئت بها السور ليس لها

ص: 629

معنى أصلاً، لأنها حروف هجائية غير مركبة، والقرآن نزل بلسان عربي مبين، واللسان العربي يقتضي أن مثل هذه الحروف ليس لها معنى.

ولكن لها مغزى، وهو ظهور إعجاز القرآن لهؤلاء القوم الذين ادعوا أنه مفترى على الله عز وجل، وأنه قول البشر، ويدل لهذا انه ما من سورة ابتدئت بها هذه الحروف إلا ويأتي بعدها ذكر القرآن.

فإن قيل: هل القرآن متفاضل، فيفضل بعضه بعضاً؟

فالجواب: أن يقال إن القرآن باعتبار المتكلم به لا يتفاضل؛ لأن المتكلم به واحد، وهو الله عز وجل، وأما باعتبار مدلوله لا شك انه يتفاضل، فإن:(تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ)(المسد: 1) ليست مثل (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ)(الإخلاص: 1) ، وإن أعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي. إذاً القرآن يتفاضل من حيث ما يدل عليه.

ص: 630

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

160-

وفي الأحاديث وفي الآثار

وفي كلام القوم والأشعار

161-

ما قد ربا من أن يحيط نظمي

عن بعضه فاقنع وخذ من علم

ــ

الشرح

قوله رحمه الله: (وفي الأحاديث وفي الآثار) يعني ورد ذلك أيضاً في الأحاديث والآثار؛ والأحاديث ما أضيف للرسول صلى الله عليه وسلم؛ والآثار ما أضيف لغيره، هذا عند الإطلاق، وإلا فقد يراد بالأثر ما أضيف للنبي صلى الله عليه وسلم، لكن الغالب أنه يقيد فيقال: في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قوله: (وفي كلام القوم والأشعار) والظاهر أنه يريد بالقوم في قوله: (وفي كلام القوم) أي الصحابة، وكذلك من بعدهم، فإن في أشعارهم من الثناء على الصحابة، وبيان فضلهم، ومواقفهم، ولهذا قال:

ما قد ربا من أن يحيط نظمي عن بعضه فاقنع وخذ من علم

يعني أن فضلهم ومآثرهم تربو عن أن يحيط نظمه ببعض ما قيل فيهم. فكيف بكل ما قيل فيهم؟! يكون من باب أولى أنه يعجز عنه.

واعلم أن المطالعة في الكتب التي في سيرة الصحابة رضي الله عنهم تحتاج إلى حذر؛ وذلك لأنه ظهر أعداء للصحابة من بعدهم؛ من الخوارج والروافض، فيحتاج الإنسان إلى حذر فيما ينقل عن الصحابة رضي الله عنهم.

وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله في العقيدة الواسطية (1) - تلك العقيدة المباركة - أشار إلى ما ورد عن الصحابة مما حصل من الفتن، وأن ما وقع منهم يكون مغفوراً ومغموراً بجانب الفضائل.

(1) انظر العقيدة الواسطية ص 48.

ص: 631

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

162-

واحذر من الخوض الذي قد يزري

بفضلهم مما جرى لو تدري

163-

فإنه عن اجتهاد قد صدر

فاسلم أذل الله من لهم هجر

164-

وبعدهم فالتابعون أحرى

بالفضل ثم تابعوهم طرا

ــ

الشرح

قال المؤلف رحمه الله في تكميل الكلام على الصحابة رضي الله عنهم: (واحذر من الخوض) أحذر: فعل أمر من الحذر، وهو التخوف وعدم الإقدام، والوقوف أمام الشر والفتنة بحيث لا يتجاوزها المرء.

وقوله: (من الخوض الذي قد يزري) الخوض: الكلام اللغو الذي لا فائدة منه، ويطلق على الكلام الذي يأثم فيه الإنسان، كما في قوله تعالى:(الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ)(الطور: 12) ، فالكلام الذي لا فائدة منه في الصحابة، أو الكلام الذي قد يتأثم به العبد، يجب أن يحذره وألا يتكلم فيه.

وقوله: (قد يزري بفضلهم) أي يحط من قدرهم، (مما جرى بينهم) أي مما وقع بينهم، (لو تدري) لو هذه للتمني، أي ليتك تدري.

وذلك أنه جرى من الصحابة رضي الله عنهم من الأمور التي هي في الواقع من المتشابه، لكن من المتشابه الواقع، لا من المتشابه المنزل، ووجه كونها من المتشابه أنه قد يكون فيها مدخل لكل ذي غرض سيئ، وأن الصحابة رضي الله عنهم تقاتلوا فيما بينهم وأراقوا الدماء من أجل الوصول

ص: 632

إلى السلطة، لا من أجل إحقاق الحق، ولذلك فهو من المتشابه الواقع.

وطريقة أهل العلم والإيمان في المتشابه في المنزل، أو من الواقع، أن يرجعوا إلى المحكم الذي لا تشابه فيه، فما جرى من الصحابة رضي الله عنهم من الفتن؛ كالذي بين علي وعائشة والزبير رضي الله عنهم، والذي بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وأحداث كثيرة تعلم من التاريخ.

وقد استغل هذه الأحداث المغرضون الحاقدون على الإسلام من أجل الطعن في الصحابة، وحمولها على أنها صدرت عن نية سيئة، كالرافضة الذين في قلوب كثير منهم غل وحقد على الإسلام، ولا سيما على عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي أطاح بعروشهم وفل جموعهم، فكانوا يتخذون من هذه الوقائع سلماً للقدح في الصحابة رضي الله عنهم، حتى كانوا يلعنون من قام ضد علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ويتقربون إلى الله تعالى بلعنه والعياذ بالله مع ما له من الفضيلة.

لكن الراسخين في العلم وأهل الإيمان يقولون: إن هذا الأمر الذي وقع بينهم يجب أن يحمل على نية حسنة، وذلك لما للصحابة من الفضل، والمعروف، والإحسان، والجهاد في سبيل الله. فما يقع منهم من المعاصي فهو منغمر في جانب الحسنات، والحكم العدل هو الذي يقارن بين الحسن والسيئ، ويجعل الحكم للأكثر، ونحن إذا قارنا بين ما حصل من الصحابة مما يظن إثماً وبين ما حصل منهم من الفضائل والكمالات، وجدنا أن الثاني

ص: 633

أكثر بكثير من الأول.

فالواجب أن تنغمر السيئات في جانب الحسنات، وهذا هو العدل وما أحسن كلمة قالها ابن رجب رحمه الله في مقدمة كتاب القواعد:((المنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه)) (1) .

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (فإنه عن اجتهاد قد صدر) فإنه: أي ما جرى بين الصحابة من الفتن والقتال، (عن اجتهاد قد صدر) والاجتهاد افتعال من جهد، أي بذل الجهد وهو الطاقة في الحصول على المقصود، ولهذا يسمى العالم الذي يتطلب الأحكام من أدلتها الشرعية مجتهداً؛ لأنه يبذل جهده وطاقته ووسعه للوصول إلى الحق عن طريق الدليل.

فالصحابة رضي الله عنهم حصل ما حصل بينهم عن اجتهاد، فمثلاً معاوية وعائشة والزبير رضي الله عنهم قاتلوا يظنون أن هذا هو الذي يكون سبباً للعثور على قتلة أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه؛ ليقتص منهم، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أخر البحث عن القاتل أو عن المتآمرين لأن الحال تقتضي ذلك، فالناس في فتنة، ويصعب جداً العثور على هؤلاء المدبرين، ثم إذا عثرنا عليهم فإن قتلهم قد يؤدي إلى فتنة أكبر؛ لأن منهم رؤوس قبائل، فعلي رضي الله عنه له رأي، ومعاوية وعائشة والزبير رضي الله عنهم لهم رأي آخر، وكله عن اجتهاد.

ثم إنه قد قيل: إن الفتنة كادت تنطفئ لولا رجال من رجال معاوية رضي الله عنه صار في نفوسهم بعض الشيء وبادروا بالقتال، فحصل

(1) انظر قواعد ابن رجب ص5

ص: 634

الشر.

وأيا كان التقدير فإنه يجب أن نحمل الإساءة على الإحسان، وننظر بينهما ونقول: إذا قدرنا أن هؤلاء أخطئوا في هذه الفتنة الكبيرة، فإن لهم من الحسنات ما يوجب محو هذا. والإنسان المجتهد إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله اجر، والخطأ مغفور.

وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر)) (1) ، وهؤلاء بين مجتهد مصيب ومجتهد مخطئ، فالمصيب له أجران والمخطئ له أجر واحد.

فإن قال قائل: أيهما أقرب إلى الصواب؟ وأيهما أحق بالخلافة؟ فالجواب: أن الأقرب إلى الصواب، والأحق بالخلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولا شك في هذا، ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في عمار بن ياسر:((إنه تقتله الفئة الباغية)) (2)، الباغية: يعني الخارجة على الإمام، والذي قتل عماراً هم أصحاب معاوية، وعلى هذا يكون علي بن أبي طالب أقرب إلى الصواب من معاوية، ويكون جيش معاوية هو الفئة الباغية.

لكن مع هذا يجب علينا ألا نضمر حقداً ولا بغضاء لواحد من الصحابة، وأن نحمل ما جرى منهم من الخطأ على أنه اجتهاد والله يغفر له، ثم إنه من العقل والإيمان إلا نجعل ما جرى بين الصحابة من هذه المسائل سبباً للأخذ

(1) رواه البخاري، كتاب الاعتصام، باب اجر الحاكم

، رقم (7352) ، ومسلم، كتاب الاقضية، باب بيان اجر الحاكم....، رقم (916)

(2)

رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب التعاون في بناء المسجد، رقم (447) ، ومسلم، كتاب الفتن، باب لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل، رقم (2915) .

ص: 635

والرد والخلاف؛ لأن هذه أمة قد خلت؛ لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت.

وعلينا أن نجتمع من الآن على طريق الحق الذي في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وألا نداهن كما يدعو إليه بعض الناس اليوم من محاولة التقريب بين الرافضة وبين أهل السنة؛ لأن محاولة التقريب بين المذهب الحق والمذهب الباطل ليس إلا مداهنة في دين الله.

وإن من الواجب على الجميع الرجوع إلى الكتاب والسنة وهدي السلف الصالح، وأول ما يجب الكف عن مساوئ الصحابة رضي الله عنهم، واعتقاد أن من أخطأ منهم فإن خطأه منغمر في جانب صوابه، وما حصل من فساد فهو منغمر في جانب الإصلاح. هذا هو الواجب علينا فيما جرى بين الصحابة رضي الله عنهم.

ثم قال المؤلف رحمه الله:

(فاسلم أذل الله من لهم هجر) اسلم: أي من الخوض، والوقوع في الصحابة رضي الله عنهم والعداوة والبغضاء لهم. (أذل الله من لهم هجر) أي أوقعه في الذل والهوان، وهذه جملة خبرية، جملة دعائية.

ويشير رحمه الله هنا إلى الرافضة الذين هجروهم؛ لا نقول هجروهم فلا يكلمونهم فهم أموات، لكن هجروا فضلهم ونشر فضلهم، بل اعتدوا عليهم، وليت الصحابة سلموا منهم، وليتهم سكتوا عن نشر فضائلهم فحسب، ولكنهم اتهموهم ورموهم بالباطل، والكذب، بل لعنوهم على رؤوس المنابر - والعياذ بالله.

بل الأدهى والأمر أنهم يلعنونهم في أذكار الصباح والمساء، حيث

ص: 636

يكتبون: اللهم العن صنمي قريش وجبتيهما وطاغوتيهما. يعنون بذلك أبا بكر وعمر والعياذ بالله.

وهذا ما رأيناه في كتبهم يذكرونه في أذكار الصباح والمساء، يعني أنهم يتقربون إلى الله بلعن أبي بكر وعمر - نسأل الله العافية.

ولكن أبعدهم الله، فإنهم لا يزدادون بذلك إلا بعداً من الله عز وجل. فنشكر المؤلف رحمه الله، ونسأل الله أن يعفو عنه حيث دعا بالذل على من هجر الصحابة بعدم نشر فضائلهم، ومن زاد على ذلك فنشر ما اتهمهم به وما كذب عليهم به من المساوئ.

ثم قال المؤلف رحمه الله: (وبعدهم فالتابعون أحرى بالفضل) أحرى: أي: أجدر، فبعد الصحابة في الفضل التابعون، وهم التابعون لهم بإحسان، وهم القرن الثاني من هذه الأمة.

واعلم أن القرن يعتبر بأكثره، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله (1) ، وليس معنى التابعين أنه لا يوجد أحد من الصحابة، بل إذا كان القرن أكثرهم من التابعين أي ممن لم يشاهد النبي عليه الصلاة والسلام فإنه يسمى قرن التابعين، وإن كان يوجد العشرة والمائة وما أشبه ذلك من الصحابة، وكذلك يقال في تابعي التابعين، فالقرن يعتبر بأكثر أهله.

فالتابعون هم أحرى الناس بالفضل بعد الصحابة رضي الله عنهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)) (2) ، والتفضيل هنا تفضيل للجمة على الجملة، وليس لكل فرد على كل فرد،

(1) انظر مجموع الفتاوى 10-357

(2)

انظر تقدم تخريجه ص 59.

ص: 637

بمعنى أنه قد يوجد في تابعي التابعين من هو أفضل من التابعين؛ في العلم، والعبادة، والجهاد وكذلك أيضاً يوجد في التابعين من هو أفضل من بعض الصحابة في العلم والجهاد. فإن واحداً من هؤلاء قد يفضل واحداً من هؤلاء.

إلا أن الصحابة يتميزون بخصيصة ليست لغيرهم وهي الصحبة، وهذه لا يمكن أن ينالها أحد من التابعين، لكن الفضل والعلم والجهاد ربما يوجد في التابعين من هو خير من بعض الصحابة، كما يوجد في تابعي التابعين من هو خير من بعض التابعين، فالتفضيل اذاً في الجملة لا لكل فرد إلا من سبق من تميز الصحابة رضي الله عنهم بهذه الخصيصة، وهي الصحبة.

ثم قال المؤلف رحمه الله: (ثم تابعوهم طرا) أي تابعو التابعين.

وقوله: (طرا) يحتمل أن تكون بمعنى قطعاً، ويحتمل أن تكون بمعنى جميعاً، والأمر كذلك، فإننا نقطع بأن تابعي التابعين بعد التابعين، وأن التابعين بعد الصحابة.

وسكت المؤلف عن بقية الطبقات، فلم يذكر إلا ثلاث طبقات، وهم: الصحابة، والتابعون لهم، وتابعو التابعين، وإنما اقتصر على ذلك بناء على حديث عمران بن حصين وغيره من أن خير الناس الصحابة، ثم التابعون، ثم تابعو التابعين.

وعلى هذا فنقول: إنه بعد هذه القرون الثلاثة حصلت الفتن، وانتشرت البدع، وتفرقت الأهواء، وحصل الشر الكثير، ورفعت المبتدعة رؤوسها، واضطرب الناس أمناً وأيماناً، وتكلم الناس في كل شيء، حتى أنهم تكلموا

ص: 638

في الله عز وجل، وصاروا في الله سبحانه وتعالى ما بين معطل لصفاته، ومثبت ممثل، وقائم بالقسط معتدل.

واختلاف الناس في الله عز وجل، في أسمائه وصفاته، كان بعد الاختلاف في مسألة القدر، ومسألة الإيمان والكفر؛ لأن مسألة القدر أدركت أواخر عصر الصحابة رضي الله عنه، ومسألة الأسماء والإيمان والكفر بعدها، وكذلك الإرجاء وما يتعلق به، ثم جاءت بدع الأسماء والصفات، وانتشرت هذه انتشاراً عظيماً، وصار الناس يتكلمون عليها أكثر من غيرها؛ لأنها أشد خطرا من غيرها.

والى هنا انتهى كلام المؤلف رحمه الله على الصحابة رضي الله عنهم، وما يتعلق بفضلهم.

وبعد فإني أدعو إلى قراءة أخبار الصحابة رضي الله عنهم بعد قراءة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يشد الإنسان نفسه مع السابقين السالفين ليزداد بذلك إيماناً ومحبة لهم ومنهجاً طيباً.

ص: 639

فصل

في ذكر كرامات الأولياء وإثباتها

165-

وكل خارق أتى عن صالح

من تابع لشرعنا وناصح

166-

فإنها من الكرامات التي

بها نقول فأقف للأدلة

ــ

الشرح

انتقل المؤلف رحمه الله إلى ذكر كرامات الأولياء وإثباتها. والكرامات جمع كرامة، وهي ما يقدم للضيف ونحوه تكريماً له، وهذا هو الأصل فيها. ثم صارت الكرامة اسماً لكل خارق للعادة، يظهره الله سبحانه وتعالى على يد ولي من أوليائه تكريماً له، أو إحقاقاً لحق قام به، فهي إذاً أمر خارق للعادة يجريه الله تعالى على يد ولي من أوليائه؛ إما تكريماً له، وإما إظهاراً للحق الذي قام به. وهنا ثلاثة قيود:

القيد الأول: قولنا: كل أمر خارق للعادة، يخرج به ما كان جارياً على العادة، فما كان جارياً على العادة لا يعد كرامة مثل أن يأكل الولي طعاماً فيشبع، فإنه إذا شبع من الخبز، لا يقال هذه كرامة؛ لأن هذا على العادة، أو لو قال الولي مثلاً: بعد عشر دقائق ستظهر الشمس، وكان قد بقي على طلوعها عشر دقائق، فخرجت فقال: ألا أيها الناس اشهدوا على كرامتي؛ إني قلت: الشمس ستطلع بعد عشر دقائق فطلعت. فليست هذه كرامة؛ لأن هذه جارية على العادة.

ولهذا قال العلماء رحمهم الله: إن الكرامة أمر خارقٌ للعادة.

ص: 640

القيد الثاني: يظهره الله على يد ولي من أوليائه، وحينئذٍ فلابد أن نعرف من هو الولي. والولي بينه الله عز وجل في قوله:(أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)(يونس: 62)(الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ)(يونس: 63) ، فمن تحقق فيه هذان الوصفان، وهما: الإيمان والتقوى - فهو الولي.

وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ((من كان مؤمناً تقياً كان لله ولياً)) (1)، وقد أخذ المعنى الآية الكريمة التي يقول الله فيها:(الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) .

القيد الثالث: تكريماً له، أو إظهاراً للحق الذي قام به، يعني قد يكون هذا تكريماً للشخص؛ كما وقع كثيراً من بعض الأولياء يعطش في البر، فيسأل الله تعالى الماء، فينشئ الله السحاب ويمطر ويشرب.

وكذلك أيضاً صلة ابن أشيم حيث يذكرأنه مات فرسه في أثناء السفر، فدعا الله أن يحييه إلى أن يصل إلى بلده، فأحيا الله له الفرس وركبه، فلما وصل إلى بيته قال لابنه: يا بني ألق السرج عن الفرس فإنه عارية، فألقى السرج عنه فمات الفرس في الحال. فهذه كرامة.

وكذلك أيضاً ما يذكر عن العلا بن الحضرمي انه خاض البحر بجنوده، وكذلك سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وغير ذلك.

فالمهم أن الكرامات كثيرة، ومن أراد أن يطلع على شيء منها فعليه بكتاب الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله (2) .

(1) انظر مجموع الفتاوى 2/224. 11/64، 25/316

(2)

انظر الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 315.

ص: 641

قال العلماء رحمهم الله: وكل كرامة لولي فإنها آية للنبي الذي اتبعه هذا الولي؛ لأن هذه الكرامة شهادة من الله أن هذا الولي على حق، فإذا كان يتبع نبياً من الأنبياء فهي أيضاً تستلزم الشهادة بأن هذا النبي حق، وإلا لما أيد متبعه بهذه الكرامة.

وقد خرج بقولنا: على يد ولي، معجزات الأنبياء، فمعجزات الأنبياء خوارق للعادة لكنها ليست على يد الأولياء، بل على يد من هم أكبر من الأولياء وهم الأنبياء.

فعيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام كان يقف على قبر الميت ويقول: اخرج فيخرج، وعلى الميت فيقول: احي فيحيى، فهو يحيي الموتى ويخرج الموتى، وهذه لاشك أنها معجزة خارقة للعادة لكن على يد نبي فلا تسمى كرامة اصطلاحاً.

وإلا فإنها لا شك كرامة، لكنها اصطلاحا لا تسمى كرامة، لأن الكرامات إنما تكون على يد الأولياء.

وهذه تسمى عند كثير من العلماء رحمهم الله معجزة، والصحيح أنها آية وتسميتها آية أصح من تسميتها بمعجزة، لما يلي:

أولاً: لأن هذا الموافق للفظ القرآن؛ لأن الله سمى هذه المعجزات التي تأتي بها الأنبياء آيات ولم يسمها معجزات.

ثانياً: أن المعجزات قد لا تكون آية على نبوة، كما في حال المشعوذين وغيرهم من السحرة، لكن لو قلنا: آية؛ يعني علامة على صدق هذا النبي.

ثالثاً: أن كلمة معجزة من الإعجاز لفظها بشع، لكن آية أي علامة، هذه

ص: 642

محببة للنفوس، كما قيل: كأنه علم في رأسه نار.

فلهذا كان التعبير بالآية أولى.

وخرج أيضاً بقولنا: على يد ولي من أوليائه - ما يخرج العادة مما جرى على أيدي أولياء الشيطان من السحرة والمشعوذين وغيرهم؛ لأن منهم من يأتي بالخارق الذي يخرج عن العادة، لكن بواسطة الشياطين.

ويذكر عن مثل هؤلاء أشياء عجيبة، فيذكر أن الواحد منهم قبل أن تأتي الطائرات إذا كان يوم عرفة أحرم من بيته، وذهب إلى مكة - وهو من أقصى الشرق أو الغرب - وحج مع الناس، وهذا خارق للعادة، ولكن الذي حمله هم الشياطين، والشياطين قد تحمل أشياء ثقيلة من بلاد بعيدة وتحضرها في ساعة سريعة.

وقد اطلعت على كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب الاستغاثة، قال: لو لم يكن من خطأ هؤلاء إلا أنهم يتجاوزون الميقات بلا إحرام (1) ، وذلك لأنه يمر به الشيطان مع الجو ولا يحرم إذا حاذى الميقات، بل يحرم في مكة.

فالحاصل أن ما يحصل من الأمور الخارقة للعادة على يد هؤلاء الذين نسميهم أولياء الشيطان، هذا ليس بكرامة، بل هو إهانة. فصار الخارق للعادة إما آية، وأما كرامة، وأما إهانة، وأما فتنة.

والفتنة ما يأتي من السحرة وشبههم، لأنهم يرون ذلك إكراماً لهم.

(1) انظر الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 327.

ص: 643

والإهانة مثل ما يذكر عن مسيلمة الكذاب الذي ظهر في اليمامة وادعى أنه نبي وذلك في آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ بذلك قومه وجعلوه نبياً، وصار يعينه الشيطان في بعض الأمور، فيقال إنهم جاءوا إليه في يوم من الأيام، وقالوا: يا أيها النبي، إن عندنا بئراً قد غار ماؤها، ولم يبق فيها إلا ماء قليل فنريد أن نتبرك بك، فذهب معهم واخذ بعض الماء ليتمضمض به ويمجه في البئر ينتظر أن يرتفع ماؤه، فيقال إنه لما مج الماء في البئر غار الماء الموجود، فصار هذا خارقاً للعادة؛ لأنه ليس من العادة أن يتمضمض إنسان بماء ثم إذا مجه ذهب ماؤه، فهذا خارق للعادة، لكنه إهانة، ودليل على كذبه.

وفي قصة أخرى يقال: إنه جيء إليه بغلام رأسه فيه قزع، يعني بعضه نبت وبعضه ما نبت، فقل له: أيها النبي، امسح على رأس هذا الغلام لعل الله يخرج بقية الشعر، فمسحه فزال الشعر الموجود، وهذا أيضاً إهانة، وهو خارق للعادة؛ لأنه لم تجر العادة أن إنساناً يمسح على شعر فيتحات.

وعلى كل حال فالخارق للعادة أربعة أنواع: أعلاها: الآية، ثم الكرامة، ثم الإهانة، ثم الفتنة.

ثم إن أهل العلم رحمهم الله قالوا: إن كل كرامة لولي فهي آية للنبي؛ لأنه لما كان هذا الولي متبعاً لنبي من الأنبياء - ومعلوم انه لا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم ثم أوتي كرامة لتأييد ما هو عليه من الحق، كان ذلك آية للرسول الذي اتبعه.

وقوله: (وكل خارق أتى عن صالح) أي: وكل خارق للعادة أتى عن صالح.

ص: 644

قوله: (من تابع لشرعنا) ، خرج به التابع لغير شرعنا، فهذا لا يمكن أن يؤتى كرامة، لأن من لم يتبع شرعنا فهو كافر، فإن وجد على يده خارق فهو فتنة أو إهانة؛ ففتنة إن كان فيما يحب، أو إهانة إن كان فيما يكره.

وقوله: (من تابع لشرعنا وناصح) وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام لمن تكون النصيحة، فقال:((لله ولكتابه ولرسوله ولائمة المسلمين وعامتهم)) (1) .

وقوله رحمه الله: ((فإنها من الكرامات التي بها نقول)) الفاعل هنا مستتر وجوباً تقديره نحن، والمراد بذلك أهل السنة، يعني أن أهل السنة يقولون بإثبات الكرامات للأولياء.

وقوله رحمه الله: (فأقف للأدلة) اللام هنا للتعليل، والأدلة جمع دليل، وهو في اللغة المرشد، ومنه الدليل في الطريق، لكن الدليل في الشرع هو ما يثبت به الحكم.

وهناك أدلة كثيرة تدل على كرامات الأولياء، منها مثلاً:

قصة أصحاب البقرة: وهم قوم تدارؤوا حيث قتل بينهم قتيل، وكادت الفتنة أن تكون بين القبليتين، فأمرهم موسى عليه الصلاة والسلام أن يذبحوا بقرة، وأن يضربوا القتيل بجزء منها، ففعلوا ذلك، فلما ضربوا القتيل بهذا الجزء من البقرة حيي بإذن الله وقال: إن قاتله فلان، وهذه كرامة لهؤلاء القوم، حيث ذهب عنهم النزاع وطفئت الفتنة. وربما نقول: هي كرامة من وجه وآية من وجه آخر؛ لأن موسى عليه الصلاة والسلام هو الذي أمر بذلك.

ومثال آخر: الرجل الذي مر على قرية خاوية على عروشها هامدة، فقال:

(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الدين النصيحة، رقم (55) .

ص: 645

(أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)(البقرة: الآية259) ، فأكرمه الله عز وجل؛ فأماته الله مائة عام ثم بعثه، وكان هذا الرجل معه حمار ومعه طعام، فأما الحمار فمات وأما الطعام فلم يتغير، بل بقي مائة سنة ولم يتغير؛ لا غيرته الشمس، ولا الهواء، ولا المطر، ولا أي شيء وهو طعام وكما نعلم أنه يسرع إليه الفساد، وربما فسد في يوم وليلة، لكن هذا الطعام بقي مائة سنة.

أما الحمار فلما بعث الله صاحبه وجد أنه قد مات، ووجده عظاماً تلوح، فقال الله له:(وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْما)(البقرة: الآية259) ، فجعل ينظر إلى عظام الحمار يتراكب بعضها ببعض، وينشزها الله تعالى بالعصب، ويكسوها اللحم، حتى كمل الحمار، (فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: الآية259)

وهذه نعمة من الله عز وجل؛ أن يري الله العبد آية كونية أو شرعية تقوي إيمانه؛ لأن الإنسان أحيانا قد يضعف إيمانه، وأحيانا يأتي الإنسان كسل وفتور وترد على القلب؛ لأن القلب يتقلب، فإذا منَّ الله على العبد وأراه آية يطمئن بها قلبه، فلا شك أن هذه نعمة من الله عز وجل؛ كبيرة ليس لها ثمن.

فهذا الرجل كان يشك في إحياء الله الموتى؛ لأنه أتى على هذه القرية وقال: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا)(البقرة: الآية259) ، وهذه قرية فكيف بالبشر؟ فأراه الله الآية، فلما تبين له قال:(أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)(البقرة: الآية259) .

ولا شك أن هذا كرامة لهذا الرجل؛ فالحمار شاهده والله تعالى يحييه

ص: 646

شيئاً فشيئاً؛ والطعام شاهده لم يتغير، وقد بقي مائة سنة - وهي ليست بهينة - ولم يتغير فآمن أن الله قادر على ألا يغير الشيء مع طول المدة، وقادر على أن ينشئ الشيء مرة أخرى، ففي هذه الآية طرد وعكس، ففيها إبقاء الشيء على ما هو عليه، وإنشاء الشيء من جديد وكل ذلك كرامة لهذا الرجل.

كذلك من الأدلة قصة مريم، وهي ليست نبيه، أرسل الله تعالى إليها رسوله جبريل، فنفخ فيها من روح الله عز وجل، أي نفخ في فرجها روحا، فالتقمها الرحم، وصار إنساناً بشراً - وهو عيسى عليه الصلاة والسلام (فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ) (مريم: الآية23) يعني أدركها إلى جذع نخلة، فقالت:(يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيّاً)(مريم: الآية23) ، وهي هنا لم تتمن الموت، لكن تمنت أنها ماتت قبل أن تحصل هذه الفتنة؛ لأنها تعرف أن بني إسرائيل سيتهمونها كما وقع، والمسألة ليست هينة بل هي عرض.

(فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً)(مريم: 24) أي نهراً، وكان هذا النهر كرامة لها.

(وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً)(مريم: 25) الله أكبر! امرأة أدركها المخاض - والمرأة إذا أدركها المخاض تكون ضعيفة جدا - تهز بجذع النخلة، وليس برأس النخلة! ثم إن الهز بجذع النخلة لا يجعل النخلة تتحرك أصلاً.

قال تعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً)(مريم: 25) والرطب من المعلوم أنه بعيد لا تدركه هي ولو أدركته لأخذته، فقال الله

ص: 647

تعالى: (تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً)(مريم: الآية25) بدأت تهز بالجذع، ويتساقط الرطب (جَنِيّاً) أي مخروفا، فكان يسقط هذا الرطب اللين جدا ًمن مكان عال على الأرض ويبقى كما هو، وكأنه مخروف باليد.

وهذه آية خارقة للعادة، فالعادة أن الرطب إذا سقط من مثل هذا المكان تفتت وتمزق، لكن هذا بقي كأنه مخروف باليد.

(فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً)(مريم: الآية26) وكل هذا أيضاً من آيات الله عز وجل، حيث تقر عيناً في هذا المكان الخالي.

وأصحاب الكهف أيضاً أعطاهم الله كرامة، فإنهم خرجوا من قومهم المشركين مهاجرين إلى الله عز وجل، فهيأ الله لهم كهفاً - أي غاراً - في الجبل موجهاً توجيهاً تاماً إلى ما بين الشمال والشرق فإذا طلعت الشمس تزاور عن كهفهم ذات اليمين، وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال، حيث إن اتجاهه إلى الشمال الشرقي حتى لا تدخل الشمس عليهم فتؤذيهم أو تتلف أجسامهم.

فبقوا ثلاثمائة سنة بل زادوا تسع سنين وهم لم يحتاجوا لأجل ولا شرب ولا بول ولا غائط ولا شيء، وهذا غير معتاد، ثم إن الله تعالى بحكمته ورحمته يقلبهم ذات اليمين وذات الشمال؛ لأنهم لو بقوا على جنب واحد لتأثر ذلك الجنب، ولكن الله يقلبهم ذات اليمين وذات الشمال.

وفي هذا دليل على أن النائم لا يكون مستلقياً ولا منبطحا على بطنه، إنما هو على يمين أو شمال، وفيه أيضاً دليل على أن النائم لا ينسب إليه الفعل؛ لأن الله قال:(وَنُقَلِّبُهُمْ)(الكهف: الآية18) ولم يقل: ((يتقلبون)) .

إذا بقوا هذه المدة وهم لم يتغيروا، حتى شعورهم وأظفارهم بقيت على

ص: 648

ما هي عليه، لأنه لما استيقظوا قالوا: لبثناً يوما أو بعض يوم، ولو أن الشعور والأظفار نمت كالعادة لعرفوا أنهم بقوا مدة طويلة، لكن بقيت لم تنمُ.

ولا يعني ذلك أن النائم لا تنمو أظفاره وشعوره، بل إن هذا من آيات الله لهؤلاء القوم، وكذلك فإن أجسامهم لم تتغير بعرق ولا غيره، ولم تأكل الأرضة ثيابهم.

وحصل مثل هذه الكرامات في هذه الأمة كما حدث في الأمم السابقة، من ذلك ما حصل لأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حينما حوصر سارية وهو أمير على سرية، فاطلع عليه عمر رضي الله عنه من بعد، وأرسل إليه كلاماً، قال: يا سراية، الجبل! فسمع سارة كلامه ثم انحاز إلى الجبل.

وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله جملة صالحة من ذلك في كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان (1)

(1) انظر الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان ص 309

ص: 649

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

167-

ومن نفاها من ذوي الضلال

فقد أتى في ذاك بالمحال

168-

لأنها شهيرة ولم تزل

في كل عصر يا شقا أهل الزلل

ــ

الشرح

قوله: (من نفاها) من شرطية، ونفى فعل الشرط، وجملة (فقد أتى في ذاك بالمحال) جواب الشرط. يعني أن الذي ينفي الكرامات أتى بمحال، أي بشيء محال، وذلك أنه حاول إبطال ما تواترت الأدلة على ثوبته، والمتواتر يفيد العلم اليقيني الذي يستحيل ارتفاعه.

وقوله: (من ذوي الضلال) أي من أصحاب الضلال، يشير إلى من رد الكرامات؛ مثل المعتزلة وغيرهم، حيث قالوا: إنه لا يمكن أن نثبت كرامات؛ لأننا لو أثبتنا الكرامات لا تشبه النبي بالولي والولي بالساحر.

ونجيب على قول المعتزلة ومن نحا نحوهم بأنه ليس هناك اشتباه؛ فالولي لا يقول: إنه نبي، ولو قال إنه نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم لم يكن ولياً؛ لأنه لا يكون عنده إيمان ولا تقوى، فلا يمكن الاشتباه إذاً، قد يكون هذا ممكنا فيما مضى من الأمم، لكن في هذه الأمة لا يمكن أبداً؛ لأن الولي لا يقول إنه نبي.

كذلك بالنسبة للساحر لا يمكن أن يشتبه بالولي؛ لأن الولي مؤمن تقي والساحر كافر شقي فلا يشتبه هذا بهذا، كذلك فالساحر تأتيه هذه الخوارق

ص: 650

بفعله هو، حيث يتقرب للشياطين فيساعدونه، ويدعي أن هذه كرامة له.

ثم الأدلة الكثيرة الموجودة إلى اليوم تثبت وجود كرامات لوجودها إلى يومنا هذا.

لكن الكرامات بعضها ظاهر وكبير، وبعضها خفي، فمثلاً لو أن رجلاً أراد أن يسافر إلى الرياض، وأراد أن يسلك الطريق اليمنى، وفي آخر لحظة اتجه إلى الطريق اليسرى، وبعد ذلك اتضح أن في الطريق اليمنى قطاع طريق. ولا شك أن العادة في الواقع أن الإنسان إذا عزم على شيء ولم يكن هناك مانع حسي ظاهر. فإنه يتجه إليه ويسير معه، لكن لما صرف هذا بدون أي سبب ظاهر إلى الطريق الآخر، وإذا به يبلغ أن الطريق الذي كان قد نوى أن يتجه عليه فيه قطاع طريق - فإننا نعتبر هذه من الكرامة، لكن ليست كالكرامة الكبيرة، إنما هي كرامة، ولا شك أنها نعمة، حتى يعرف الإنسان أن الله دفع عنه من النقم ما لم يكن في حسابه.

وعلى كل حال فالكرامة موجودة، ويقول شيخ الإسلام في العقيدة الواسطية (1) : أنها موجودة في هذه الأمة إلى يوم القيامة.

ومنها الشاب الذي يعارض الدجال، ويتحداه، وذلك حينما يأتي الدجال ويدعي أنه الرب، ولكن هذا الشاب يعارضه، ويقول له: أنت الدجال الذي أخبر عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقتله، ويجعله شقين ويمر بين شقيه تحقيقاً لموته، ثم يقول له: قم، فيقوم، ولكنه لا يزداد إلا تحدياً، وفي النهاية يعجز الدجال عن أن يقتله، فهذا كرامة بلا شك.

(1) انظر العقيدة الواسطية ص 133

ص: 651

فالحاصل أنها موجودة، ولهذا قال رحمه الله:(لأنها شهيرة) لأنها: أي الكرامات، شهيرة: أي مشهورة، ففعيلة بمعنى مفعولة، كجريحة بمعنى مجروحة.

وقوله رحمه الله: (ولم تزل في كل عصر) يعني أنها ما زالت ولا تزال موجودة في كل عصر.

وقوله: (يا شقا أهل الزلل) يا: هنا يحتمل أن تكون منادي، والمعنى يا شقاء أهل الزلل احضر، ويحتمل أن تكون للتعجب، ومعنى (يا شقا) : يعني ما أشقى أهل الزلل.

ولا شك أن أهل الزلل أشقياء لا سيما من زل عن عمد، فإنه من أشقى عباد الله - والعياذ بالله.

ص: 652

فصل

في المفاضلة بين البشر والملائكة

169-

وعندنا تفضيل أعيان البشر

على ملاك ربنا كما اشتهر

170-

وقال من قال سوى هذا افترى

وقد تعدى في المقال واجترا

ــ

الشرح

هذا الفصل ليت المؤلف رحمه الله لم يعقده، وليته لم يتكلم في هذا المسألة، وموضعها: أيهم أفضل؛ الملائكة أو البشر؟

فيقال: أصل البحث في هذا لا داعي له؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم وهم أحرص الناس على العلم والإيمان لم يبحثوا هذا البحث، ولم يقولوا البشر أفضل أم الملائكة. وشيء سكت عنه الصحابة رضي الله عنهم مما يتصل بالدين، فالأجدر بنا أن نسكت عنه.

وهذه قاعدة يجب على طالب العلم أن يفهمها، وهي أن كل شيء سكت عنه الصحابة رضي الله عنهم من أمور الدين فاعلم أن الخوض فيه من فضول الكلام، ولا حاجة إليه؛ لأنه لو كان من مهمات ديننا ومن أصول ديننا ومما يجب علينا أن ندين الله به لتبين، إما عن طريق القرآن، أو عن طريق السنة، أو الصحابة، فإذا لم يوجد واحد من هذه الثلاثة علم أنه ليس من الدين في شيء.

وإذا بنيت نهجك على هذا استرحت من إشكالات كثيرة يوردها بعض المتعلمين اليوم، فيما يتعلق بصفات الله عز وجل، وفيما يتعلق باليوم الآخر

ص: 653

من أمور الغيب التي لا مجال للعقل فيها، فيوردون أشياء هي في الحقيقة تدخل في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم:((هلك المتنطعون)) (1) ، قالها ثلاثا. وصدق والله رسول الله صلى الله عليه وسلم، كل إنسان يتنطع فهو هالك ولابد، ولو لم يكن من هلاكه إلا مخالفته طريق الصحابة.

لذا فنحن نقول: ليت المؤلف لم يتكلم بهذا إذ لا فائدة لنا منه. هذا من الناحية العقلية، ومن الناحية الأثرية فإن ذلك لم يكن في أسلافنا من الصحابة، ولم يخوضوا في هذا الأمر.

لكن مع ذلك خاض الناس واضطر بعض من يكره الخوض في هذا إلى أن يخوض فيه ويتكلم؛ لئلا يترك المجال لمن لا يصلح أن يتكلم فيه، وهذا كثير في العقائد وغير العقائد.

فمثلاً وجد من يتكلم في العقائد فيقول مثلاً: هل الله جسم أو غير جسم؟ ثم يقول: ليس بجسم، ثم يبني على ذلك جميع الصفات التي ينكرها بهذه الحجة، وهل الله في جهة أو ليس من جهة؟ وهل الله يحد أو لا يحد؟ هل الصحابة سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك أو بحثوا فيه؟ فينبغي لنا أن نسكت كما سكتوا، فلا وسع الله على من لم يسعه ما وسعهم.

لكن لما اضطر علماء السنة إلى الكلام في هذا بناء على أن غيرهم تكلم، قالوا: لم نكن ندع المجال والميدان لهؤلاء الضلال يتلاعبون به، بل لابد أن نخوض ونبين الحق.

فمثلاً في مسألة الجسم قالوا: إذا كان المراد بالجسم أن الله سبحانه وتعالى مكون من أشياء يمكن فقدها مع بقاء الجسم، أو لا يمكن بقاء الجسم

(1) تقدم تخريجه ص 149

ص: 654

مع فقدها، أو ما أشبه ذلك، فنحن ننفي هذا المعنى عن الله، وإن أريد بالجسم القائم بنفسه، المتصف بالصفات اللائقة به، الفعال لما يريد، فإننا نثبت هذا المعنى لله عز وجل.

أما لفظ الجسم فنبعده بعيداً؛ لا ننفيه، ولا نثبته، لكننا نستفصل في معناه، أما أن نقول: إنه جسم أو غير جسم فليس لنا أن نتكلم بهذا؛ لأن الله لم يقل عن نفسه جسم أو أنه غير جسم.

كذلك مسألة تفضيل الملائكة على البشر أو بالعكس، فالذي ينبغي للإنسان في هذه المسألة أن يدع الكلام فيها ما لم يضطر، والعلماء اضطروا إلى ذلك.

قال المؤلف رحمه الله:

وعندنا تفضيل أعيان البشر

على ملاك ربنا كما اشتهر

قوله: (عندنا) الضمير هنا يعود على أهل السنة والجماعة.

وقوله: (ملاك) يعني: ملائكة الله.

وقوله: (تفضيل أعيان البشر على ملاك ربنا) قال: أعيان، لا الجنس، يعني أننا نفضل الأعيان على جنس الملائكة، فالرسل مثلاً هم أعيان البشر، وهم خلاصة البشر، وهم المصطفون من البشر، فهؤلاء أفضل من الملائكة، لكن لا نفضل جنس البشر على جنس الملائكة، بل نفضل الأعيان من البشر على جنس الملائكة.

وهذه المسألة فيها خلاف بين العلماء رحمهم الله، ولكل قوم دليل، وقد

ص: 655

استدل من يقول إن البشر أفضل من الملائكة بأن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم وهو أبو البشر، ومعلوم أن السجود ذل للمسجود له، فيكون المسجود له اعز وأكرم من المساجد.

واستدل من قال: إن الملائكة أفضل بقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: ((من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)) (1) .

وكلا الاستدلالين في القلب منه شيء؛ أما الأول: فإنه لا يلزم إذا أكرم الله آدم بهذه المنقبة أن يكون البشر أفضل من الملائكة، وذلك للقاعدة العامة وهي أن التميز بخصيصة واحدة لا يقتضي التميز المطلق، ولهذا نجد بعض الصحابة يميزه الرسول صلى الله عليه وسلم بميزة لا تكون لغيره، ولا يقتضي ذلك أن يكون أفضل من غيره.

وأما الثاني: ((من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم)) ، فالمراد خير من الملأ الذين ذكر الله عندهم، وليس المراد خيراً من كل البشر، ومعلوم أن كون الملائكة الذين عند الله والذين يذكر الله الذاكر فيهم، خيراً من الملأ الذين ذكر الله عندهم0 - لا يستلزم الخيرية المطلقة. ولهذا نرى التوقف في هذا من ناحيتين:

أولاً: التوقف عن البحث فيه إطلاقاً.

وثانياً: التوقف عن الحكم بتفضيل هؤلاء على هؤلاء.

وقال شيخ الإسلام رحمه الله: الملائكة أفضل باعتبار البداية، والبشر أفضل باعتبار النهاية (2) . فباعتبار البداية الملائكة أفضل؛ لأنهم خلقوا من

(1) رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء

، باب الحث على ذكر الله، رقم (2675) .

(2)

انظر مجموع الفتاوى 4/342-343.

ص: 656

نور، ولا يستكبرون عن عبادة الله، ولا يستحسرون، ولا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، ولم تركب فيهم الشهوة التي تعصف بهم، بل هم عباد مكرمون قائمون بأمر الله، فهم باعتبار البداية أفضل.

أما باعتبار النهاية، وكون البشر محل رضا لله عز وجل وأهل كرامته وما أشبه ذلك، حتى إن الملائكة يدخلون عليهم في الجنة، يدخلون السرور عليهم، قال تعالى:(وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ)(الرعد: الآية23)(سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ)(الرعد: الآية24) . فهذا يدل على أن البشر أفضل، وهذا له وجه حسن.

لكن الذي أرى الإعراض عن كل هذا، وأن نقول في مسألة التفضيل:

أولاً: الجنس مختلف، ولا تفاضل بين الجنسين المختلفين.

ثانياً: باعتبار المرتبة عند الله عز وجل، فهذا ليس لنا به علم إطلاقاً، بل علمه عند الله سبحانه وتعالى.

وبعد أن قال المؤلف رحمه الله: (وعندنا تفضيل أعيان البشر على ملاك ربنا) قال: (كما اشتهر) . يعني: كما هو مشهور عند العلماء رحمهم الله.

ثم قال المؤلف رحمه الله: (وقال من قال سوى هذا افترى) . (قال) : الفاعل ضمير مستتر جوازاً تقديره هو، يعود على الإمام أحمد رحمه الله، ومثل هذا التعيير عند العلماء غير صحيح وذلك لجهالة مرجع الضمير فيه فيكون الكلام غير معلوم، إذ أنه لابد أن يعلم مرجع الضمير؛ إما من سياق الكلام؛ وإما من مذكور سابق أو مذكور لاحق.

ص: 657

ولكن يجب أن نعلم أن مقلدي الإمام رحمه الله إذا ذكروا الفعل دون مرجع معلوم له فهو يرجع إلى الإمام، والناظر في كتب الفقه مثل الإنصاف وغيره يجد أنه يقول: نص عليه، وليس عناك مرجع سابق للضمير، فإن الضمير يعود إلى الإمام احمد، وإذا قال: وعنه لا يلزمه كذا. وليس للضمير مرجع، فإن الضمير يعود إلى الإمام أحمد، لكن كون الكتب ألفت في مذهبه يدل على أن الضمير الذي ليس له مرجع معلوم يعود إلى الإمام.

والسفاريني رحمه الله من الحنابلة، فإذا قال:(وقال) ولم يكن مرجع الضمير معلوماً؛ فالظاهر أن مرجعه إلى الإمام احمد، هذا على القاعدة المعروفة؛ وهي أن الضمير إذا لم يكن له مرجع معلوم في كتب المقلدة، فإنه يرجع إلى إمامهم.

وقوله رحمه الله: (وقال من قال سوى هذا افترى) هذا: اسم إشارة يعود على تفضيل أعيان البشر على ملاك الله. (من قال سوى هذا افترى) أي كذب.

وقوله رحمه الله: (وقد تعدى في المقال واجترا) يعني تعدى في قوله واجترأ، وكأن الإمام احمد رحمه الله ينكر إنكاراً تاماً على من قال بهذا القول؛ أي بان الملائكة أفضل من البشر.

والخلاصة أن العلماء رحمهم الله اختلفوا في تفضيل الملائكة على البشر، أو البشر على الملائكة، على أقوال يمكن أن نجعلها أربعة:

أولاً: تفضل البشر.

ثانياً: تفضيل الملائكة.

ثالثاً: الوقف.

ص: 658

رابعاً: التفصيل، والتفصيل مذهب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، حيث يقول: الملائكة أفضل باعتبار البداية، والبشر أفضل باعتبار النهاية (1)

أما الوقف فهو قولنا (2) ؛ وهو أن نقول: الله اعلم، وليس لنا أن نتكلم بهذا؛ لأنه لم يكن من بحث الصحابة رضي الله عنهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولا شك أن داعي السؤال عما يتعلق بالدين في الصحابة أقوى منه فينا، ولا شك أيضا أن الإجابة عن الاستشكال في عهد الصحابة أصوب من أجابتنا نحن؛ لأنهم سيسألون الرسول عليه الصلاة والسلام، وسيجيبهم بالعلم اليقيني.

فإذا لم يكن سؤال من الصحابة عما يتعلق بالدين، فاعلم أن السؤال عنه من باب التنطع في دين الله، وإن شئت فاجعله بدعة، كما قال الإمام مالك رحمه الله فيمن قال:(الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى)(طه: 5) كيف استوى؟ قال: ما أراك إلا مبتدعاً.

(1) انظر فتاوى العقيدة لفضيلة الشيخ الشارح رحمه الله تعالى 4/342-343.

(2)

أي قول فضيلة الشيخ الشارح رحمه الله تعالى.

ص: 659