المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الباب الثالث في الأحكام - شرح العقيدة السفارينية - جـ ١

[ابن عثيمين]

الفصل: ‌الباب الثالث في الأحكام

‌الباب الثالث في الأحكام

74-

وواجب على العباد طرا

أن يعبدوه طاعة وبرا

75-

ويفعلوا الذي به أمر حتما

ويتركوا الذي عنه زجر

ــ

الشرح

قال المؤلف رحمه الله: (الباب الثالث في الأحكام) . الأحكام: جمع حكم، والمراد به الأحكام الشرعية، والأحكام الكونية، والأحكام الدينية في الأسماء كما سيأتي، والأحكام الدنيوية، والأحكام الأخروية

والمهم الأحكام عامة كما سيتبين من الشرح.

قال المؤلف رحمه الله: (وواجب على العباد طرا أن يعبدوه)((واجب)) : خبر مقدم، ((وأن يعبدوه)) : مبتدأ مؤخر، وإنما قلنا بذلك لأن ((واجب)) : حكم، و ((العبادة)) : محكوم عليه، ويجوز على قول لبعض النحويين أن نجعل ((واجب)) : مبتدأ، و ((أن يعبدوه)) : فاعل أغنى عن الخبر؛ لأنه يجوز إذا كان الخبر وصفاً وتأخر المبتدأ أن يكون الوصف مبتدأ، ويكون ما بعده فاعلاً أو نائب فاعل اغنى عن الخبر، لكن المشهور أن هذا لا يجوز إلا إذا اعتمد على نفي أو استفهام.

وقوله: (وواجب على العباد)، الواجب عند أهل العلم رحمهم الله: ما أمر به على سبيل الإلزام، أو ما ألزم به المكلف.

ص: 361

وقوله: على (العباد) المراد بهم كل الناس، فالعبادة هنا بالمعنى العام وليست العبودية الخاصة، والعبودية تكون عامة وهي التعبد الكوني، وتكون خاصة وهي التعبد الشرعي، والمراد هنا التعبد الكوني، يعني يجب على كل العباد أن يعبدوا الله عز وجل، وقوله (طرأ) أي جميعا.

وقوله: (أن يعبدوه) الهاء في (يعبدوه) ليس لها مرجع سابق ولا لاحق، ولكن مرجعها معلوم من السياق؛ لأن الذي يجب أن يعبد هو الله عز وجل، فالهاء إذاً عائدة على الله.

فوجوب عبادة الله عز وجل على جميع العباد من جملة الأحكام التي سيذكرها المؤلف رحمه الله في هذا الباب، ودليلها قوله تعالى:(وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً)(النساء: الآية 36)، وقوله:(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)(الذاريات: 56)) .

قوله: (طاعة وبرا) يعني أن يعبدوه امتثالاً لأمره، واجتناباً لنهيه، وبراً: أي رجاء لبره وثوابه، فيشعر الإنسان عند فعل العبادة بأنه فعلها طاعة لله ورجاء لثوابه، فالصلاة مثلاً يقيمها طاعة لله ورجاء لثوابه.

وقد سبق أنه ينبغي للإنسان أن ينوي في عبادته الوصول إلى الله عز وجل، وإلى دار كرامته، فيجمع بين الأمرين؛ بين إرادة الخالق عز وجل كما قال تعالى:(يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)(الأنعام: الآية 52)، وبين إرادة ثوابه كما قال تعالى:(يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً)(الفتح: الآية 29) فهذا واجب على كل مخلوق أن يعبد الله عز وجل، والمراد بالعبادة هنا التذلل لله عز وجل محبة وتعظيماً بفعل أوامره وترك نواهيه.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (ويفعلوا الفعل الذي به أمر حتماً) يعني:

ص: 362

وواجب عليهم أن يفعلوا الفعل الذي أمر به حتماً، و (حتماً) وصف يعود على الأمر، يعني الذي أمر به أمر حتم؛ لأن مأمورات الله عز وجل قسمان: قسم مأمورات حتم، وقسم مأمورات تطوع، فالذي يجب أن يفعل هو ما أمر به حتماً، ولكن ما أمر به تطوعاً قد يكون القيام به فرض كفاية إذا كان تبليغ الرسالة يتوقف عليه، بمعنى إننا لو تركناه لماتت السنة، فهنا ربما يقول قائل: إنه يجب أن يقوم الإنسان بما لم يؤمر به حتماً، ويكون وجوبه هنا لغيره، يعني لئلا تموت السنة لا لإيجاد الفعل، أما إذا كانت السنة مشهورة فمعلوم أن القيام بها ليس على سبيل الوجوب.

قوله: (ويتركوا الذي عنه زجر) يعني يتركوا ما زجر عنه من النواهي، وهذا هو الواجب على كل مؤمن؛ أن يفعل ما أمر الله به وجوباً فيما حتمه؛ واستحباباً فيما ندب إليه، ويترك الذي عنه زجر وجوباً فيما حرمه، وندباً فيما هو مكروه.

وهنا يرد سؤال: هل هناك وظيفة أخرى للإنسان غير العبادة؟

الجواب: لا، ما خلق الإنسان إلا للعبادة فقط، وما عدا ذلك فإنه مكمل للعبادة، حتى تناول المباحات إنما أباحها الشارع لئلا تمل النفوس، لأن النفوس لو بقيت ملزمة بفعل شيء وترك شيء كلت وملت، لكن فسح لها فيما احل الله عز وجل.

ولهذا نجد أن الشارع فسح للنفوس في أيام الفرح أن تتناول ما يفرح ويطرب، مثل الدف في الأعياد، وكذلك في الأعراس، وأباح للنفس أن تنال مطلوبها عند الأحزان؛ فأباح للإنسان أن يحد على الميت ثلاثة أيام،

ص: 363

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل لامرأة أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا)(1) .

فثلاثة الأيام يجوز فيها الحداد على الميت؛ لأن النفس تكون حزينة وكئيبة، ولا تنبسط للأمور الترفيهية، فلا يتجمل الإنسان فيها، ولا يخرج للنزهة، ولا يفعل الأمور الترفيهية العادية؛ لأنه محزون، وينطوي على نفسه، وهذا لا باس به بشرط ألا يكون الحامل له على ذلك التسخط من قضاء الله وقدره، فإن كان الحامل على ذلك التسخط فهو حرام.

إذاً الواجب على الإنسان العبادة، لكن الشرع أباح للإنسان ما يترفه به في حدود معينة لئلا يلحقه الملل والسآمة، والإنسان لنفسه عليه حق.

(1) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب احداد المرأة على غير زوجها، رقم (1280) ، ومسلم، كتاب الطلاق، باب وجوب الاحداد في عدة الوفاة وتحريمه في

، رقم (1486) .

ص: 364

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

76-

وكل ما قدر أو قضاه

فواقع حتما كما قضاه

77-

وليس واجب على العبد الرضا

بكل مقضي ولكن بالقضا

78-

لأنه من فعله تعالى

وذاك من فعل الذي تقالى

ــ

الشرح

قال رحمه الله: (وكل ما قدر أو قضاه فواقع حتما)(كل) مبتدأ و (فواقع) خبره، ووقعت الفاء في خبر المبتدأ (واقع) ؛ لأن المبتدأ متضمن لمعنى الشرط، ومعنى الشرط هنا هو العموم في (كل)، فإذا كان المبتدأ عاما فإنه يجوز أن تقترن الفاء في خبره؛ فلو قلت: كل أحد فقائم، صح، لكن لو قلت: زيد فقائم، لم يصح؛ لأن الأول بمعنى الشرط والثاني ليس كذلك.

وقوله: (كل ما قدر)، أي: كل الذي قدره أو قضاه، (فواقع) يعني فلابد أن يقع، (حتماً) أي جزماً، (كما قضاه) أي على الوجه الذي قضاه؛ سواء كان هذا الشيء من فعله عز وجل، أو كان متعلقاً بأفعال العباد، فلابد أن يقع، قال تعالى:(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)(يّس: 82) فأخبر أنه لابد أن يكون.

فإذا قدر الله على شخص أن يهتدي اهتدى، وإذا قضى على شخص بالضلال ضل، وإذا قضى له بالرزق رزق، وإذا قضى له بالفقر افتقر، وإذا قضى الله سبحانه وتعالى بالخصب والرخاء حصل الخصب والرخاء، وإذا

ص: 365

قدر الله الجدب والضيق حصل الجدب والضيق، وإذا قدرت الفتن والقتال وقع ذلك، وإذا قدر رفعه رفع.

وعلى كل حال فإن كل شيء يقضيه الله فلابد أن يقع، ولكن ليلاحظ أنه قد يكون لهذا المقضي موانع قضاها الله عز وجل، كما جاء في الحديث (لا يرد القدر إلا الدعاء)(1)، فنقول: هذا مقدر، ثم قدر له مانع بأمر الله عز وجل فمنعه، إذا كل ما قضاه الله أو قدره - حتى ما كان مقضيا - ثم وجد له المانع فإنه داخل في عموم كلام المؤلف رحمه الله.

ولهذا نرى من الجهل أن يقول بعض الناس في دعائه: ((اللهم إني لا أسألك رد القضاء ولكني أسألك اللطف فيه)، وكأنه يقول: ابتلني بما شئت فإنه لا يهم، بل المهم اللطف بي - فسبحان الله - إن هذا الدعاء لا يصح نقلاً عن السلف، وإن صح عن بعضهم فلا يمكن أن يصح عن الصحابة رضي الله عنهم، الذين أقوالهم مأثورة ومشهورة.

ولكن قل: (اللهم إني أسألك اللطف في قضائك) . وهذا صحيح، أما قول:((لا أسألك رد القضاء) ، فإن الله عز وجل لا يقضي شيئاً - سواء لطف بك أو شدد عليك - إلا وقد قضاه، لذلك ينبغي أن ننبه من يقول هذا الدعاء، إلى أنه لا فائدة منه.

فإذا قال الداعي: (اللهم قني عذابك)(2) ، معناه أنه لا يرد أن يعذبه الله،

(1) رواه ابن ماجه في المقدمة، باب في القدر، رقم (90) .

(2)

رواه الترمذي، كتاب الدعوات، باب منه، رقم (3398) ، وأبو داود، كتاب الأدب، باب ما يقال عند النوم، رقم (5045) ، وابن ماجه، كتاب الدعاء، باب ما يدعو به إذا أوى إلى فراشه، رقم (3877)

ص: 366

أما قول: ((اللهم إني لا أسألك رد القضاء، ولكني أسألك اللطف فيه) فمعناه: إذا كنت قد قدرت شقائي فاجعلني شقياً، لكن هو، في الشقاء. ولكن بعض الناس إذا سمعوا الكلام المركب تركيباً جميلاً اخذوا به وهم لا يدرون ما معناه، وهذا من الغفلة، والواجب أن نتأنى في كل ما نسمع حتى نزنه بميزان الكتاب والسنة.

قال رحمه الله:

وكل ما قدر أو قضاه فواقع حتما كما قضاه

حتى المعاصي إذا قدر أن تقع، فإنها تقع كما قضاها، ودليل هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الإيمان، قال:((وتؤمن بالقدر خيره وشره)(1)، وأجمع المسلمون على قولهم:((ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام:((احرص على ما ينفعك) إلى أن قال: ((ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)(2) .

إذاً ما قدره الله فلابد أن يقع، وأنت إذا آمنت بذلك حصل لك طمأنينة كاملة فيما يصيبك؛ لأنك تعلم أنه لن يتغير الواقع أبداً.

فلو قدر أن شخصاً صار يعمل في التجارة ثم خسر حتى فني ماله، فيجب أن نعلم أن هذا الذي حصل بقضاء الله وقدره، وحينئذٍ يطمئن ويسلم لأنه يرضى بالله رباً، كذلك رجل خرج ابنه إلى السوق فأصابه حادث ومات فلا يجوز أن يورد على قلبه أنه لو لم يخرج لم يمت، هذا غير واقع،

(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب الإيمان والإسلام والإحسان، رقم (8) .

(2)

رواه مسلم، كتاب القدر، باب في الأمر بالقوة وترك العجز والاستعانة، رقم (2664) .

ص: 367

وهذا يجب أن تطرده عن قلبك؛ لأنه لابد أن يكون كما حصل، ولا يمكن أبداً أن تسير الأمور إلا على هذا الذي حصل.

ولهذا قال الله تعالى عن المنافقين الذين قالوا: (لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا)(آل عمران: الآية 156)، فقال الله عنهم:(لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)(آل عمران: الآية 156) ، فهذه الأمور لا تولد إلا الحسرة. والإحياء والإماتة بيد الله، (قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِم) (آل عمران: الآية 154)

وأنت إذا آمنت بهذا الكلام الذي جاء في الكتاب والسنة وقرره المؤلف رحمه الله، فإنك سوف تستريح ولا تسأم ولا تمل ولا تضجر.

إذاً فمن جملة الأحكام في هذا الباب وجوب عبادة الله عز وجل على جميع العباد، وكذلك فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، فإنه هو عبادته سبحانه وتعالى، وكذلك فإن ما قدره الله أو قضاه، فإنه واقع حتماً ولابد كما قضاه، لا يختلف عما قضاه في الأزل، وهذا يعود إلى وجوب الرضا بالقدر.

والإيمان بالقدر من أركان الإيمان الستة، والرضا بالقدر من الرضا بالله رباً، والإنسان يجب أن يرضى بالله رباً مدبراً يفعل ما يشاء عز وجل.

وهنا مسالة مهمة جداً وهي: هل الواجب بالنسبة للقضاء والقدر، الرضا بالقضاء والمقضي أو الرضا بالقضاء ويستفصل في المقضي؟

بين المؤلف ذلك في قوله رحمه الله:

وليس واجباً على العبد الرضا

بكل مقضي ولكن بالقضا

ص: 368

وهناك في بعض النسخ (وليس واجب) برفع واجب، والظاهر أن الأولى النصب، على أنه يجوز الوجهان، فإن أردت أن تخبر عن الواجب، فالواجب مرفوع والرضا منصوب، على أنه خبر ليس، يعني: وليس الواجب الرضا بكل مقضي، وإن كنت تريد أن تخبر عن الرضا، فانك تقول: فليس واجبا على العبد الرضا، فواجب منصوب على أنه خبر ليس، يعني: وليس الواجب الرضا بكل مقضي، وإن كنت تريد أن تخبر عن الرضا، فإنك تقول: فليس واجباً على العبد الرضا، فـ (واجب) منصوب على أنه خبر ليس واسمها الرضا، وتقدير الكلام على هذا: وليس الرضا واجباً، فالوجهان جائزان.

ومعنى كلام المؤلف أنه لا يجب على الإنسان أن يرضى بكل مقضي، وإنما يجب أن يرضى بالقضاء الذي هو فعل الله عز وجل، وعلى ذلك فالمقضي يحتاج إلى تفصيل:

أولاً: أن يكون المقضي حكماً شرعياً، فهذا يجب الرضا به، من حيث كونه فعل الله، والسخط منه مناف للإسلام، فيجب علينا مثلاً أن نرضى بفرض الله للصلاة والزكاة والصوم والحج والبر والصلة وغير ذلك، ويجب علينا كذلك أن نرضى بتحريم الزنا؛ لأن ذلك محبوب إلى الله عز وجل، والمحبوب إلى الله يجب أن نحبه.

أما باعتبار فعل العبد فيجب الرضى به إن كان طاعة، ويجب سخطه إن كان معصية، ولهذا وجب علينا أن ننكر على العاصي.

ثانياً: إذا كان المقضي أمراً كونياً، فإن الأمر الكوني منه ملائم يلائم النفوس، وهذا الرضا به أمر فطري.

مثال ذلك: إذا قضى الله للإنسان بولد، ورزق واسع، ودار مهيأة، ومركوب فخم، وعلم، وإيمان، فإنه يرضى به لأن ذلك يلائم نفسه، ورضاه بذلك أمر فطري، ولا يحتاج أن نقول: يجب أن ترضى به؛ لأنه سيرضى به.

ص: 369

أما إذا كان المقضي لا يلائم النفوس بل يؤلمها كالأمراض فالإنسان إذا قضى الله عليه بمرض، فإن المرض غير ملائم للنفوس، فإن الناس فيه على أربع مراتب:

المرتبة الأولى: مرتبة السخط:

بأن يسخط هذا الذي قضاه الله وعلامة السخط أن يقول قولاً منكراً، أو يفعل فعلاً منكراً.

مثال القول: أن يقول: يا ويلاه، وا ثبوراه، وما أشبه ذلك من الكلمات التي تنبئ عن التسخط.

وأما الفعل المنكر فمثل لطم الخدود، وشق الجيوب، ونتف الشعور، والقفز حتى يسقط على الأرض، وما أشبه ذلك، فهذا تسخط فعلي، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:((ليس منا من لطم الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية)(1) ، فالأولان فعلان والثالث قول.

المرتبة الثانية: مرتبة الصبر:

بأن يتألم الإنسان نفسياً ولكنه يصبر، فلا يشق ثوباً، ولا يلطم خداً، ولا يقول منكراً، وهذه المرتبة واجبة، أي أنه يجب على الإنسان أن يصبر إذا أصيب بالمصائب.

المرتبة الثالثة: الرضا:

أي يرضى بقضاء الله عز وجل، والرضا معناه أن يكون مطمئناً منشرح

(1) رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ليس منا من شق الجيوب، رقم (1294) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود

، رقم (1030) .

ص: 370

الصدر بما قضى الله عز وجل، لا يتألم نفسياً، رغم أنه يكره هذا الشيء الذي أصابه ولا شك؛ لأنه لا يلائم النفوس، لكنه لا يتألم نفسياً؛ بل يقول: هذا قضاء الله، وأنا من جملة ملك الله عز وجل، له أن يفعل في ما شاء، ويطمئن بذلك.

وهذه المرتبة اختلف فيها العلماء رحمهم الله على قولين: منهم من قال: إنها واجبة، ومنهم من قال: إنها مستحبة، والصحيح أنها مستحبة وليست بواجبة؛ لأنها صعبة على كثير من النفوس.

وعلامة الرضا أنك لو سألته: هل تأثرت بما قضى الله عليك؟ لقال: لا؛ لأني أعلم أن الله لا يقدر لي شيئاً إلا كان خيراً لي، فأنا مؤمن والله لا يقضي لعبده المؤمن قضاء إلا كان خيراً له.

المرتبة الرابعة: مرتبة الشكر:

وهذه المرتبة أعلى من التي قبله؛ لأنها رضا وزيادة.

فإذا قال قائل: كيف يشكر الله على المصيبة؟ قلنا: يشكر الله على المصيبة لأنه يعلم أن ثوابها وأجرها - إذا صبر واحتسب الأجر - أكثر من مصيبتها، فيشكر الله على هذا؛ لأن ما يترتب عليه من الخير أكثر مما يترتب عليه من الأذى، فمن هذه الناحية يشكر الله، وقد قال بعض أهل العلم رحمهم الله: إن هذه المرتبة أعلى من التي قبلها، أي من الرضا.

فهذا حكم الرضا بالمقضي.

ثم قال المؤلف رحمه الله: (ولكن بالقضا) ؛ يعني: ولكن يجب أن يرضى (بالقضا) ، أي قضاء الله عز وجل، وهو فعله.

ص: 371

فإن قال قائل: هل المعاصي واقعة بقضاء الله عز وجل أو لا؟ وكيف ترضون بقضاء الله لها؟

فالجواب: بلى، هي واقعة بقضاء الله، ونحن نرضى بقضاء الله وإن كرهنا المقضي، وهذه المعصية لا نرضاها ونكرهها ونؤدب عليها، ولكن نرضى بكون الله قضاها، ولا نعترض على الله عز وجل في قضائها، فإذا رأينا مثلاً العصاة والفساق وأهل المجون فيجب علينا أن نرضى بما وقع منهم باعتباره من قضاء الله، لكن لا يجوز أن نرضى بما صدر منهم باعتباره من فعلهم؛ فنسخط فعلهم ونرضى فعل الله الذي هو قضاؤه، وبهذا التفصيل يزول عنا إشكالات كثيرة.

فإذا قال قائل: يوجد في الخلق شر مثل إبليس، فهو أصل الشر. فهل يجب علينا أن نرضى بإيجاد إبليس؟

فالجواب: نعم يجب أن نرضى بدون تفصل، لكننا لا نرضى بما يأمر به إبليس؛ لأن إبليس يأمر بالشر والفحشاء والمنكر؛ (وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر) (النور: الآية 21) إذاً نرضى بأن الله خلقه، ولا نشك في أن الله خلقه لحكمة، ولكن لا نرضى بما يكون من فعل إبليس، من الشر والفساد.. إلى آخره.

قال رحمه الله: (ولكن بالقضا لأنه من فعله) . (لأنه) أي القضاء (من فعله) أي من فعل الله، ولهذا قال:(من فعله تعالى) .

قوله: (وذاك) أي المقضي (من فعل الذي تقالى) أي الذي تباعد وفعل ما يبغض عليه، وهذا التعليل الذي ذكره المؤلف ينطبق على المعاصي تماماً،

ص: 372

فالمعاصي واقعة بقضاء الله وقدره، نرضى بها من هذه الناحية، وواقعة من فعل الشخص العاصي، ومن هذه الناحية لا نرضاها، ولهذا قال:(لأنه) أي القضا (من فعله وذاك) أي المقضي (من فعل الذي تقالى) .

فإن قال قائل: ما الجمع بين قوله تعالى: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ)(الفلق: 2) وبين قوله صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك)(1) .

فالجواب: أن الفرق بينهما ظاهر؛ لأن قوله تعالى: (مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) أضاف الشر إلى المخلوق، أما إلى الله فلا يضاف الشر، فلا شك أن الله هو الذي قدر الشر، لكن قدر الشر في مفعولاته،، أما تقديره لهذا الشر فهو لحكمة عظيمة يترتب عليها من المصالح ما يجعلها غير مكروهة، لكن فرق بين المفعول وبين الفعل والفاعل، فالفاعل هو الله عز وجل وهو المقدر، وهذا لا شك نحبه على كل حال، وفعله أيضاً خير على كل حال، أما مفعوله ففيه خير وفيه شر.

(1) رواه مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، رقم (771) .

ص: 373

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

79-

ويفسق المذنب بالكبيرة

كذا إذا أصر بالصغيرة

80-

لا يخرج المرء من الإيمان

بموبقات الذنب والعصيان

81-

وواجب عليه أن يتوبا

من كل ما جر عليه حوبا

82-

ويقبل المولى بمحض الفصل

من غير عبدا كافرا منفصل

83-

ما لم يتب من كفره بضده

فيرتجع عن شركه وصده

ــ

الشرح

قال المؤلف رحمه الله تعالى:

ويفسق المذنب بالكبيرة كذا إذا أصر بالصغيرة

هذا من الأحكام أيضاً، وهو أمر مهم؛ لأن الناس تنازعوا فيه، فابتدعت فيه طائفتان، وسلمت الثالثة.

المذنب إذا أذنب بكبيرة فإنه يكون فاسقاً مؤمناً؛ فيكون فاسقاً بمعصيته، مؤمناً بإيمانه، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهو المذهب الذي تؤيده النصوص، ويؤيده النظر والعدل؛ فالعدل أن يعامل كل إنسان بما يستحق، فلما كان هذا الرجل مؤمناً، لكنه فعل كبيرة ولم يتب منها، فهو باق على إيمانه لكنه فاسق بكبيرته، ويمكن أن نقول: إنه مؤمن ناقص الإيمان؛ مؤمن بما معه من أصل الإيمان، ناقص الإيمان بما اقترفه من

ص: 374

معصيته، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، وهو المذهب الحق كما سنذكر إن شاء الله.

وقالت الخوارج: إنه ليس بمؤمن بل هو كافر، فإذا زنا فقد كفر، وإذا سرق فقد كفر، وإذا قتل نفساً بغير حق فقد كفر، وإذا عق والديه فقد كفر، وإذا قطع أرحامه فقد كفر، وهكذا إذا فعل أي كبيرة صار كافراً خارجاً عن الإيمان، فإذا كان كافراً خارجاً عن الإيمان، فإنه إذا مات لا يُغسل ولا يُكفن ولا يُصلى عليه، ولا يدفعن في مقابر المسلمين، وحكمه في الآخرة أنه يخلد في النار.

ووافقتهم المعتزلة على التخليد في النار، لكن خالفتهم في الحكم في الدنيا؛ فقالوا - أي المعتزلة -: إن فاعل الكبيرة مخلد في النار، لكنه في الدنيا في منزلة بين منزلتين؛ لا نصفه لا بالإيمان ولا بالكفر، فلا نقول: مؤمن - ولو بقيد النقص -، ولا نقول: كافر - ولو بقيد أصل الإيمان -؛ بل نقول: في منزلة بين منزلتين، وإذا مات فإنه يعامل معاملة المسلمين؛ لأنه لم يدخل في الكفر، إلا أنه يخلد في النار.

إذاً توافق الخوارج والمعتزلة في شيء وتخالفوا في شيء؛ توافقوا في أحكام الآخرة؛ فجعلوا فاعل الكبيرة خالداً في النار، واختلفوا في أحكام الدنيا؛ فحكمت الخوارج بأنه كافر، وحكمت المعتزلة بأنه ليس بمؤمن ولا كافر - بل في منزلة بين المنزلتين.

فعلى رأي الخوارج إذا رأينا فاعل كبيرة فلنا قتله؛ لأنه مرتد مباح الدم، وعلى رأي المعتزلة لا نقتله لأنه ليس بكافر، ولا نكرمه إكرام المؤمن لأنه ليس بمؤمن.

ص: 375

أما المرجئة فقالوا: إن فاعل الكبيرة مؤمن كامل الإيمان، ولا يستحق العقاب، وليس عليه شيء، ولو زنا وسرق وشرب الخمر وقتل وعق وقطع وغش وكذب، ما دام أنه مؤمن بالله فهو مؤمن كامل، إيمانه كإيمان جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم ونعوذ بالله - وهذا ليس بمعقول، لكنه مذهبهم.

ولا يخفى أن الذي يصلح ويناسب الزمان هو ما جاءت به السنة؛ حيث المعاملة بما يستحقه فاعل الكبيرة؛ فنقول: هو مؤمن ناقص الإيمان، أو هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وهذا هو الحق.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله:

ويفسق المذنب بالكبيرة كذا إذا أصر بالصغيرة

لا يخرج المرء من الإيمان بموبقات الذنب والعصيان

قال المؤلف: (ويفسق المؤمن بالكبيرة)، والفسق في اللغة: الخروج، ومنه فسقت الثمرة عن قشرها، أي برزت وخرجت منه، وفي الاصطلاح: فعل الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة. كما قال المؤلف:

ويفسق المذنب بالكبيرة كذا إذا أصر بالصغيرة

(بالصغيرة) يعني على الصغيرة، فالفسق شرعاً: فعل الكبيرة أو الإصرار على الصغيرة. فإذا زنا المرء صار فاسقاً، وإذا أصر على شرب الدخان صار فاسقاً، وإذا شرب الخمر مرة واحدة فقط فهو فاسق لأن شربه كبيرة.

والكبيرة في المعنى ضد الصغيرة، والميزان في ذلك - كما قال بعض العلماء رحمهم الله: ما نص الشارع على أنه كبيرة فهو كبيرة، وما لم ينص

ص: 376

عليه فهو صغيرة، فقوله صلى الله عليه وسلم:((اجتنبوا السبع الموبقات)(1) ، هذه كبائر، وقوله:(ألا أنبئكم بأكبر الكبائر)(2) ، هذه كبائر، فما نص الشارع على أنه كبيرة فهو كبيرة، وما لا فلا.

وقال بعض العلماء رحمهم الله: ما توعد عليه بلعن أو غضب فهو كبيرة.

وقال آخرون: ما فيه حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة فهو كبيرة، واختلفوا اختلافا كبيراً.

وذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الكبيرة ما رتبت عليها عقوبة خاصة (3) ، وأما ما نهى عنه فقط، ولم يعين له عقوبة خاصة فهو صغيرة، ومع ذلك يقول: إن الكبائر تتفاوت؛ فبعضها أشد من بعض، وقوله رحمه الله أقرب إلى الصواب.

فمن فعل الكبيرة ولم يتب منها صار فاسقاً، ومن أصر على الصغيرة -ولم يقلع عنها - صار فاسقاً.

وقوله: (ويفسق المذنب) خلافاً للمرجئة؛ لأن المرجئة يقولون: إن المذنب لا يفسق بالكبيرة ولا بالإصرار على الصغيرة، بل هو مؤمن كامل الإيمان، قال ابن القيم مبيناً مذهبهم:

والناس في الإيمان شيء واحد

كالمشط عند تماثل الأسنان (4)

(1) رواه البخاري، كتاب الوصايا، باب قول الله تعالى:((إن الذين يأكلون أموال..) ، رقم (2767) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، رقم (89) .

(2)

رواه البخاري، كتاب الشهادات، باب ما قيل في شهادة الزور، رقم (2654) ، ومسلم كتاب الإيمان، باب بيان الكبائر وأكبرها، رقم (87)

(3)

انظر مجموع الفتاوى 11/651.

(4)

انظر القصيدة النونية 1/65.

ص: 377

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

لا يخرج المرء من الإيمان بموبقات الذنب والعصيان

أي لا يخرج المرء من الإيمان بفعل الموبقات، والموبقات: هي المهلكات، وهذا رد على الخوارج والمعتزلة؛ لأن الخوارج والمعتزلة يقولون: إنه يخرج من الإيمان، لكن الفرق بينهما أن الخوارج قالوا: إذا خرج من الإيمان دخل في الكفر، وليس هناك واسطة، والمعتزلة قالوا: إذا خرج من الإيمان فهو في منزلة بين منزلتين، كرجل سار من المدينة يريد مكة فنزل في بدر، فصار في منزلة بين المنزلتين؛ ليس من أهل المدينة ولا من أهل مكة، لكن الخوارج أقرب إلى الصواب منهم حيث قالوا: ليس هناك واسطة، كما قال الله تعالى:(فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ)(يونس: الآية 32) وقال: (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ)(التوبة: الآية 66) ولم يذكر منزلة، فالمنزلة هذه بدعة مردودة على صاحبها.

قال رحمه الله:

وواجب عليه أن يتوبا

من كل ما جر عليه حوبا

(وواجب عليه) أي على المرء المذنب (أن يتوبا) والألف هنا للإطلاق، أي لإطلاق الروي، والروي آخر البيت، ولولا ذلك لقال:(أن يتوب) لأن المتحرك الأخير يوقف عليه بالسكون، (من كل ما جر عليه) أي على الفاعل، (حوباً) أي إثما.

ومعنى كلام المؤلف رحمه الله أن على الإنسان أن يتوب من كل شيء حصل له به الإثم؛ إن كان ترك واجب فبفعله، وإن كان فعل محرم فبتركه؛

ص: 378

لأن ترك الواجب يجر على الإنسان الإثم، وفعل المحرم كذلك يجر على الإنسان الإثم.

والدليل على وجوب التوبة قوله تعالى: (وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(النور: الآية 31) وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً)(التحريم: الآية 8) .

وقوله: (واجب عليه أن يتوبا)، أي: فوراً؛ لأن الأصل في الواجبات الفورية، ولأن الإنسان لا يأمن أن يموت، فقد يأتيه الموت بغتة قبل أن يتوب، ولو تاب عند الموت لم تنفعه التوبة، لقوله تعالى:(وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ)(النساء: الآية 18) .

وللتوبة شروط خمسة، هي بالترتيب: الإخلاص، والندم، والإقلاع، والعزم على ألا يعود إلى الذنب مرة أخرى، وأن تكون في وقت قبولها.

وليتنبه هنا إلى أن من شروط قبول التوبة: العزم على ألا يعود إلى الذنب مرة أخرى، وليس الشرط ألا يعود إلى الذنب مرة أخرى، إذ لو كان الشرط ألا يعود إلى الذنب مرة أخرى لكان من غلبته نفسه وعاد إلى الذنب ثانياً لم تقبل توبته الأولى، لكن الشرط: العزم على ألا يعود، فمن غلبته نفسه وعاد إلى الذنب فإن توبته الأولى مقبولة، ولذلك أن تحقيق هذا الشرط هو العزم على ألا يعود إلى الذنب مرة أخرى.

قال المؤلف رحمه الله:

ويقبل المولى بمحض الفضل

من غير عبد كافر منفصل

ص: 379

قوله: (ويقبل المولى بمحض الفضل) أي يقبل الله التوبة من الإنسان، (بمحض الفضل) أي بالفضل الخالص المحض، لأن الله عز وجل هو الذي منَّ عليه أولاً بالتوبة، فإن توفيق الله العبد للتوبة توبة، قال الله تعالى:(ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا)(التوبة: الآية 118) ، يعني ثم وفقهم للتوبة ليتوبوا، فالله عز وجل يمن عليك بمحض الفضل أن تتوب، ثم يمن عليك مرة أخرى بقبول التوبة، ولو شاء ألا يقبل لم يقبل، ولكن من فضله ورحمته عز وجل أن من تاب إلى الله تاب الله عليه.

بل أشد من ذلك وأبلغ أنه يفرح بتوبة عبده، ويحب توبته؛ قال تعالى:(إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ)(البقرة: الآية 222) ، ويفرح بتوبة عبده فرحاً أشد من فرح الإنسان الذي أضل راحلته وعليها طعامه وشرابه، ثم وجدها، فهذا فرحه لا يوصف، ومع ذلك فالله يفرح بتوبة عبده المؤمن أشد من فرح هذا الرجل براحلته.

قال رحمه الله:

........................ من غير عبد كافر منفصل

ما لم يتب من كفره بضده........................

الحقيقة أن هذا الاستثناء وهو قوله: (ما لم يتب) ، فيه شيء من النظر؛ لأن كل من تاب تاب الله عليه من أي ذنب كان، وكلامنا في التوبة، فإذا تاب تاب الله عليه ولو كان كافراً، أما إذا مات على المعصية وهي غير كفر، فهذه هي التي تكون تحت المشيئة؛ إن شاء الله غفر له وإن شاء عاقبه.

ص: 380

ثم إن قوله: (من غير عبد كافر منفصل ما لم يتب) ، ينطبق على الفاسق أيضاً، فإن الفاسق لا يقبل الله منه حتى يتوب، وإلا سيبقى على وصف الفسق. إلا إذا كان المؤلف يرد بقوه:(يقبل المولى) أي يقبل العبادات من غير الكافر، فهذا له وجه، لكنه لا يرد هذا الشيء.

قوله: (ما لم يتب من كفره بضده) وضده الإسلام، فإذا تاب من كفره بضد الكفر، فإنه تقبل منه التوبة، وإن تاب من كفره بكفر آخر فإنه لا يقبل منه، ولذلك قال المؤلف:(فيرتجع عن شركه وصده) فإنه حينئذ يقبل الله منه؛ مثل: لو تاب من نوع الكفر وبقي على النوع الآخر، فإنه لا يقبل منه، بل لابد أن يكفر بالجميع، فلو كان رجل منكرا لشيء مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وتاب منه لكنه مشرك بالله يعبد الصنم، فإنه لا يقبل منه حتى يؤمن بكل ما كفر به.

ولو تاب المسلم من ذنب وهو مصر على آخره، فإنه تقبل توبته مما تاب منه؛ لعدم اشتراط ألا يكون مصراً على ذنب آخر، ولعموم الآيات في القرآن الكريم، وكذلك الأدلة من السنة، فكلها تدل على أنه إذا تاب من الذنب تاب الله عليه.

وقال بعض العلماء: إنه إذا كان الذنب الذي أصر عليه من جنس الذنب الذي تاب منه، فإنها لا تقبل توبته، وإذا كان من غير جنسه قبلت، لكن الصحيح أنها تقبل.

وذهب بعض العلماء إلى أن التوبة لا تقبل حتى يقلع عن جميع الذنوب، ولذلك أضافوا شرطاً سادساً إلى الشروط الخمسة، وهو: أن يقلع

ص: 381

عن جميع الذنوب وليس عن الذنب الخاص، بل عن كل الذنوب، وبناء على هذا القول فلو تاب من ذنب وهو مصر على آخر فإنه لا تقبل توبته.

مثال ذلك: إذا تاب رجل من الزنا لكنه يشرب الخمر، فعلى هذا الرأي لا تقبل توبته من الزنا؛ لأنه لو كان صادقاً ما عصى الله، ولو كان صادقاً في التوبة والرجوع إلى الله ما عصى الله بالذنب الآخر. ولو تاب من الربا لكنه يغش الناس، فإنه لا تقبل توبته على هذا الرأي، ولكن الصحيح أنها تقبل.

ولكن يقال: أما التائب التوبة المطلقة فهذا لابد لتوبته من أن يكون مقلعاً عن جميع الذنوب، وأما التوبة الخاصة المقيدة فإنها تصح من ذنب مع الإصرار على غيره، إذاً فالمدح بالتوبة لا يكون إلا لمن أقلع عن جميع الذنوب، وأما التقييد فيصح من ذنب ولو مع الإصرار على آخر، فالذي تاب من الزنا لكنه يشرب الخمر، لا يصح أن نصفه بأنه تائب على سبيل الإطلاق، لكن نقول: إنه تائب من الزنا - مقيداً -، فلا يصح الوصف المطلق الذي يمدح به التائب، وإنما يمدح بقدر ما حصل منه من توبة فقط.

ص: 382

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

84-

ومن يمت ولم يتب من الخطا

فأمره مفوض لذي العطا

85-

فإن يشأ يعفو وإن شاء انتقم

وإن يشأ أعطى وأجزل النعم

ــ

الشرح

قوله رحمه الله: (ومن يمت ولم يتب من الخطا) أي من غير الشرك؛ لأن الشرك لا يغفره الله تعالى (فأمره مفوض لذي العطا) وهو الله عز وجل.

فإن يشأ يعفو وإن شاء انتقم وإن يشأ أعطى وأجزل النعم

وذلك فوق الذنب، ودليل ذلك قوله تعالى:(إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ)(النساء: الآية 48) وهذه الآية قاضية على كل ذنب ما عدا الشرك

فإن قال قائل: لو مات شخص على الكفر دون الشرك، مثل أن يكون جحد شيئاً من القرآن مثلاً ومات على ذلك، فهل يكون داخلاً تحت المشيئة؟

فالجواب: لا؛ لأن المراد بالشرك ما كان مخرجاً عن الإسلام، فكل شيء يخرج عن الإسلام فإن الإنسان إذا مات عليه لا يغفر له، وما دون ذلك فإن الله يغفره إن شاء.

ص: 383

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

86-

وقيل في الدروز والزنادقة

وسائر الطوائف المنافقة

87-

وكل داع لابتداع يقتل

كمن تكرر نكثه لا يقبل

88-

لأنه لم يبد من إيمانه

إلا الذي أذاع من لسانه

ــ

الشرح

اتفق العلماء على أن كل من تاب من كفر فإنه يقبل منه، ويرتفع عنه القتل؛ لعموم قول الله تعالى:(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)(الزمر: 53) ، وهذه الآية نزلت في التائبين، فكل ذنب يتوب الإنسان منه فإن الله تعالى يتوب عليه.

واختلف العلماء رحمهم الله في هذه المسائل التي ذكرها المؤلف رحمه الله؛ الدروز والزنادقة

إلى آخره.

والدروز فرقة أصلها التشيع لأهل البيت، ثم غلت غلوا فاحشا حتى جعلوا المخلوق الها والعياذ بالله، وصاروا يعبدون المخلوق من دون الله، ومذاهبهم معروفة، قال بعض العلماء: إن الدروز يجب قتلهم بكل حال وإن تابوا، لعظم ذنبهم، فهم من أجل عظم الذنب لا تقبل منهم التوبة.

كذلك الزنديق، والزنديق هو المارق عن الدين كله، وقيل: الزنديق هو المنافق، ولعل الزنديق أشد من المنافق؛ لأن المنافق ربما يتصنع للمسلمين

ص: 384

ويظهر أنه مسلم، كما هو الشأن في المنافقين في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.

قوله: (وسائر الطوائف المنافقة) أي: الدروز والزنادقة والمنافقون وغيره، (وكل داع لابتداع) أي كل إنسان يدعو للبدعة، والمراد البدعة المكفرة، (يقتل) وهذا مقول القول، يعني يقتل ولو تاب، فإنها لا تقبل توبته، (كمن تكرر نكثه لا يقبل) يعني تكررت ردته؛ بحيث يرتد ثم يتوب، ويرتد ثم يتوب؛ ويرتد ثم يتوب، وهكذا. قالوا: هذا لا تقبل توبته لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً)(النساء: 137)، فقال:(لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً)(النساء: الآية 137) وهذا يقتضي أنه لا تقبل توبتهم.

قوله: (لأنه لم يبد من إيمانه) لأنه: الضمير يعود على هؤلاء باعتبار الجنس، 0 لم يبد من إيمانه إلا الذي أذاع من لسانه) أذاع: يعني أظهر من لسانه، فالمنافق مثلاً إذا قلنا: إنه يجب قتله، فقال: أنا مسلم أشهد لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله، وأصلي معكم وأزكى، نقول: ولو كنت كذلك، فإذا قال: أنا تائب، فنقول: ولو تبت نقتلك؛ لأن قولك الآن أنك تائب وتصلي وتزكي هو قولك أولاً لأنك تنافقنا، فلم يبد من إيمانك إلا ما أذاعه لسانك، وما أذعته اليوم كالذي أذعته بالأمس، أنت تنافقنا فلا نقبل منك.

ولكن الصحيح أن المنافق تقبل توبته لقول الله تعالى: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا)(النساء: 145) (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا

ص: 385

وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً) (النساء: 146) وهذه الآية صريحة في أنه تقبل توبة المنافق، ولكن الله ذكر شروطاً لابد منها، حيث قال:(إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ)(النساء: الآية 146) ، وذلك حتى نعرف إصلاحهم.

والذين عللوا عدم قبول توبة المنافقين، يقولون: إن من تكرر نكثه فإننا لا نقبل توبته، للآية التي ذكرناها، ولأننا لو قبلنا إسلامه اليوم فسوف يرتد غداً؛ لأن هذه عادته؛ يؤمن ويكفر، ويؤمن ويكفر، فلا نثق به فنقتله، ولكننا نقول إن الله تعالى يقول في الآية الكريمة:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً)(النساء: 137) ، فكانت نهايتهم الزيادة في الكفر، ولم تكن نهايتهم التوبة، وعلى هذا فإذا تابوا وعرفنا أن توبتهم صحيحة باستقامة أحوالهم، فالصحيح أنها تقبل.

أما الدروز والزنادقة فقالوا: أنها لا تقبل توبتهم لفداحة كفرهم، وإنهم كالمستهزئين بالله فلا تقبل، والصحيح أن كل كافر بأي نوع من أنواع الكفر تقبل توبته، فإننا لا نعلم كفراً أعظم من كفر فرعون، ومع هذا لما قال عندما أدركه الغرق:(آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(يونس: الآية 90)، قيل له:(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)(يونس: 91) ولم يقل له إن كفرك عظيم لا تنفع فيه التوبة، ولكن قيل:(آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ) لأنه فات وقت التوبة الآن.

ص: 386

فإذا تاب الإنسان من أي ذنب كان، وعلمنا صدق توبته، فإننا لا نقتله بل نحكم بإسلامه، أما الداعي للبدعة؛ فإنه لو رأى ولي الأمر أن يقتله لأنه ساع بالفساد في الأرض فله أن يقتله من باب التعزير - حتى لو تاب فله أن يقتله، وقولنا: فله أن يقتله من باب التعزير، يعني وليس واجباً عليه، بل إن رأى ولي الأمر أن هذا الداعية للبدعة إذا تاب من بدعته ربما يكون داعياً للسنة فلا يقتله؛ لأن التائب من البدعة حقيقة لابد أن ينقض ما كان عليه من قبل، وحينئذٍ إذا نقض ما كان عليه من قبل من البدع فلا شك أنه مَكسب ويكون في ذلك مصلحة للسنة وأهل السنة.

والخلاصة أن كل من كفر بأي سبب من أسباب الكفر، إذا تاب وصلحت حاله فإننا نقبل توبته مهما كان ذنبه، ونقبل توبته على كل حال.

ص: 387

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

89-

كملحد وساحر وساحرة

وهم على نياتهم في الآخرة

90-

قلت وإن دلت دلائل الهدى

كما جرى للعيلبوني اهتدى

91-

فإنه أذاع من أسرارهم

ما كان فيه الهتك عن أستارهم

92-

وكان للدين القويم ناصرا

فصار منا باطنا وظاهرا

ــ

الشرح

قوله: (كملحد وساحر وساحرة) : السحر له تأثير، ودليل تأثيره أن السحرة لما سحروا أعين الناس بحبالهم وعصيهم التي ألقوها، كانت مؤثرة حتى في موسى عليه الصلاة والسلام، قال تعالى:(فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى)(طه: الآية 66) مع أنها حبال وعصي ساكنة في الأرض لا تتحرك، لكن يراها الرائي وكأنها تتحرك.

فإذا قال قائل: هل هذا يدل على أن للسحر تأثيراً أو ليس له تأثير؟

فالجواب: أما في قلب الحقائق فليس له تأثير، وأما في تصريف الشيء على غير هيئته فهذا له تأثير، فالعصي مثلاً لا يمكن للساحر أن يقلبها إلى حية، والحبال لا يمكن أن يقلبها إلى حية، لكن يمكن أن يجعل الرائين يرونها وكأنها حيات.

وعلى كل حال فإن السحر يؤثر، لكن ليس في قلب الحقائق؛ لأنه لا

ص: 388

يقدر على قلب الحقائق إلا الخالق عز وجل، فهو القادر على قلب الحقائق، وقد قلب عصا موسى حية تسعى وتأكل.

والسحر نوعان:

سحر يكفر به الساحر: وهو السحر بواسطة الاستعانة بالشياطين، فهذا كفر لقول الله تعالى:(وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ)(البقرة: الآية 102) ، وهذا الساحر يجب أن يقتل لكفره ومفسدته، فإن تاب قتل لمفسدته.

وسحر لا يكفر به الساحر: وهو الذي يكون بالأدوية، لكن يجب أن يقتل درءاً لمفسدته.

فقول المؤلف رحمه الله: (وساحر وساحرة) فيه هذا التفصيل؛ فنقول: إذا كفر بسحره فإنها لا تقبل توبته؛ باعتبار إننا نقيم عليه الحد

ونقتله، وإن لم يكفر بسحره أقمنا عليه الحد تطهيراً لا كفراً.

قوله: (وهم على نياتهم في الآخرة) يعني نحن نحكم بالظاهر، وأما السرائر فإلى الله عز وجل. قال:(قلت وإن دلت دلائل الهدى) قلت: يعني القائل هو المصنف رحمه الله (إن دلت) هذا شرط، و (اهتدى) جواب الشرط. (إن دلت دلائل الهدى) يعني وجدت قرائن تدل على صدق توبته فإنه يهتدي، وإذا اهتدى قبلنا توبته.

وأما قوله: (كما جرى للعيلبوني) فهذا رجل كان من الزنادقة، ولكن

ص: 389

الله سبحانه وتعالى هداه، وكان في الأصل درزياً، (فاهتدى) أي يقول المؤلف رحمه الله: فمثل هذا تقبل توبته.

والقرائن التي دلت على صدق توبة العيلبوني هي ما ذكرها المؤلف بقوله رحمه الله:

فإنه أذاع من أسرارهم

ما كان فيه الهتك عن أستارهم

وكان للدين القويم ناصراً

فصار منا باطناً وظاهراً

فإذا دلت القرائن على أن هذا الزنديق أو هذا الملحد صار مؤمناً حقيقة، فإننا نقبل توبته، ونرفع عنه القتل؛ لأننا إذا كنا نعمل بالظاهر وقامت القرائن الظاهرة على صدق توبته وقبلنا توبته فقد عملنا بالظاهر، أما مع عدم القرينة فإننا لا نقبل توبته.

وهناك أشياء ذكر العلماء رحمهم الله أنها لا تقبل توبة من اتصف بها؛ منها الاستهزاء بالله، والاستهزاء بالرسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا: فمن استهزأ بالله لم تقبل توبته لعظم ذنبه، حيث يستهزئ برب العالمين، ومن استهزأ بالرسول صلى الله عليه وسلم فإنه لا تقبل توبته لعظم ذنبه، ولكن الصحيح أنها تقبل توبة كل تائب، لقوله تعالى:(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً)(الزمر: الآية 53) والدليل في المستهزئين خاصة أن الله قال: (لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ)(التوبة: الآية 66) ، فبين أنه قد يعفو عن طائفة منهم، ويعذب الطائفة الأخرى.

ولكن من سب الله أو استهزأ بالله قبلنا توبته ورفعنا عنه القتل، ومن سب

ص: 390

الرسول صلى الله عليه وسلم فتاب، قبلنا توبته وقتلناه، والفرق بين الذي يسب الله عز وجل، والذي يسب الرسول صلى الله عليه وسلم؛ أن الله عز وجل قد أخبرنا بأنه يعفو عن حقه بالتوبة، ولم يستثن شيئاً، وأما الرسول صلى الله عليه وسلم فسبه حق له، ولا نعلم هل يسقطه أو لا؟ فإذا كنا لا نعلم هل يسقطه أو لا فإن الأصل عدم الإسقاط، وعلى هذا فنقتله حداً لا كفراً.

والخلاصة أن من سب الله أو رسوله ثم تاب فالصحيح قبول توبته، ثم إن كان في حق الله ارتفع عنه القتل؛ لأنه إنما يقتل لحق الله وقد عفا الله عنه، وإن كان في حق الرسول فهو مؤمن ولكن نقتله ثم نغسله ونكفنه ونصلي عليه.

ص: 391

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

93-

فكل زنديق وكل مارق

وجاحد وملحد منافق

94-

إذا استبان نصحه للدين

فإنه يقبل عن يقين

ــ

الشرح

قوله: (إذا استبان نصحه) ولا يكفي مجرد التوبة؛ لأن الله تعالى قال في المنافقين: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ)(النساء: الآية 146) ، فجعل إضافات على التوبة، وليس مجرد أن يقول المنافق إنه مسلم نقبل منه؛ لأنه كان يقول إنه مسلم من قبل، لكن لابد أن يكون هناك إصلاح، وإخلاص لله، واعتصام به، بمعنى أن تكون هناك قرائن تبين أنه صادق.

ص: 392

فصل

في الكلام على الإيمان

95-

إيماننا قول وقصد وعمل

تزيده التقوى وينقص بالزلل

ــ

الشرح

قال المؤلف رحمه الله تعالى في الكلام على الإيمان: (إيماننا قول وقصد وعمل) والكلام على الإيمان في أمور:

أولاً: هل الإيمان هو الإسلام أو هما شيئان متباينان؟

وهذه مسألة مهمة، والجواب على ذلك أن نقول: إذا ذكر الإيمان والإسلام في سياق واحد فالإيمان غير الإسلام، وإن أفرد أحدهما عن الآخر صار بمعنى واحد، فهما من باب إذا اجتمعا افترقا، وإذا افتقرا اجتمعا، إذاً لا نقول: الإيمان غير الإسلام، ولا نقول: الإيمان هو الإسلام؛ لأننا إذا أطلقنا أخطأنا، فلابد من التفصيل على النحو التالي:

فإن ذكرا في سياق واحد فالإيمان غير الإسلام، والدليل: حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في قصة جبريل، حين أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أخبرني عن الإيمان، فأخبره بما يخالف ما أخبره به عن الإسلام؛ لأنهما ذُكرا في سياق واحد، فجعل النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم الإسلام الأعمال الظاهرة، وجعل الإيمان الأعمال الباطنة، فقال:((الإسلام أن تشهد ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت)) وقال في الإيمان: ((أن تؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله،

ص: 393

واليوم الآخر، والقدر خيره وشره)) (1) .

وإن ذُكر أحدهما منفرداً عن الآخر دخل هذا في هذا، مثاله: قوله تعالى: (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسلام دِيناً)(المائدة: الآية3) ، فالإسلام هنا يشمل الإسلام والإيمان.

فإذا قال قائل: من قال إن الإيمان دين؟ فنقول: قاله النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حين قال:((أتدرون من السائل؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال:((فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم)) (2) ، ومما علمهم الإيمان، إذاً ((رضيت لكم الإسلام دينا)) يشمل الإيمان والإسلام؛ لأنه أُفرد أحدهما عن الآخر، وقال تعالى:(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسلام)(آل عمران: الآية19) ، وهنا يدخل الإيمان؛ لأن الإيمان من الدين ولا شك.

فإن قال قائل: قال الله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)(الحجرات: الآية14)) فما الجواب عن هذه الآية؟

فالجواب: إنهما هنا ذُكرا في سياق واحد ففرق الله بينهما، وقد اختلف المفسرون رحمهم الله في هؤلاء الأعراب؛ هل هم مؤمنون ضعيفو الإيمان، أو هم منافقون؟ فمن المفسرين من قال: إنهم منافقون، وقالوا: إن قوله: (وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا)(الحجرات: الآية14)) يعني الإسلام الظاهر، فإن المنافقين مسلمون ظاهراً.

ومنهم من قال: بل هم مسلمون حقيقة لكن إيمانهم ليس تاماً، لم يتعمق

(1) رواه البخاري، كتاب تفسير القرآن، باب قوله:((إن الله عنده علم الساعة)) ، رقم (4777) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، رقم (8) .

(2)

رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان والإسلام والإحسان، رقم (8) .

ص: 394

في قلوبهم، بدليل قوله:(وَلَمَّا يَدْخُلِ لإيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ)(الحجرات: الآية14)) و ((لما)) هذه تدل على قرب الشيء، كما قال تعالى:(بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ)(صّ: الآية8)) وكون الإيمان قريباً من دخول قلوبهم يدل على انتفاء النفاق عنهم؛ لأن المنافقين نفى الله عنهم الإيمان نهائياً، فقال:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)(البقرة: 8) وهؤلاء لم ينف الله الإيمان عنهم، بل قال:(وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمَانُ فِي قُلُوبِكُم)(الحجرات: الآية14)) .

وهذا القول الثاني أقرب من الأول وإن كان الأول محتملاً، إذاً هنا فرق بين الإسلام والإيمان.

وقال الله تعالى: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(الذاريات: 35)(فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)(الذاريات: 36) هذه الآية استدل بها بعض العلماء ممن يقولوا: إن الإسلام هو الإيمان مطلقاً لأن الله قال: (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)(الذاريات: 35)(فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِين) والحقيقة أن هذه الآية دليل عليهم وليست دليلاً لهم؛ لأن الله قال: (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِين) ، والبيت هو بيت لوط، ومن بينهم امرأته، وامرأته ليست مؤمنة ولكنها مسلمة، ولهذا قال الله تعالى:(ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا)(التحريم: الآية10)) ، أي أظهرتا الإسلام وهما كافرتان، فامرأة لوط كانت كافرة هلكت مع قومها، فالآية فيها أن البيت مسلم، لكن ليس فيها أن من في البيت مسلمون.

وعلى ذلك فليس في الآية دليل على ما ذهبوا إليه، بل نقول: إن الآية تدل على أن الإيمان غير الإسلام؛ لأن الله اخرج من كان فيها من المؤمنين وبين أنه لم يسلم أحد في هذه القرية بأكملها - ورسولهم بينهم يدعوهم.

ص: 395

وفي هذا فائدة عظيمة للدعاة في كل مكان؛ فإن الواحد منا إذا دعا ولم يستجب الناس له ويسمعوا ويطيعوا أمره، قال: إن هؤلاء الناس ليس فيهم خير، ولن أدعوهم مرة ثانية، فهذا رسول بقي يدعو قومه، ولم يُسلم من القرية أحد بل لم يوجد بيت مسلم إلا بيته، وكذلك نوح عليه الصلاة والسلام بقي في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً وما آمن معه إلا قليل، وهو رسول يأتي بالآيات، أما نحن فإذا دعا الواحد منا ثم دعا - ولم يجد استجابة كبيرة - استحسر، وغضب، وتوقف، وهذا خطأ، والصواب أن ندعو إلى سبيل ربنا ونحن مأجورون على كل حال.

ثانياً: هل الإيمان تصديق القلب وإقرار القلب واعترافه فقط أو هو شامل للتصديق ومستلزماته؟

والجواب: أن الإيمان في الأصل هو التصديق بالقلب، فأنت عندما تقول: آمنت بالله، لا تحس إلا أنك أقررت به في قلبك، فالإيمان في القلب وهذا هو الأصل، لكن الإيمان شرعاً أوسع من الإيمان لغةً، وهذا من الغرائب، لأن القاعدة المطردة أن المصطلح الشرعي أضيق من المصطلح اللغوي.

فمثلاً الزكاة في اللغة: النماء، وفي الاصطلاح: مال خاص، والطهارة في اللغة: النظافة، وفي الشرع: نظافة خاصة، والصلاة في اللغة: الدعاء، وفي الشرع: دعاء خاص، والحج في اللغة: القصد، وفي الشرع: قصد خاص، لكن الإيمان في اللغة: التصديق، ولا يشمل الأعمال الظاهرة، وفي الشرع: يشمل التصديق والأعمال الظاهرة، إذاً فالمصطلح الشرعي في باب الإيمان أوسع منه لغة ً، على خلاف المعهود.

ص: 396

وعلى كل حال فالإيمان في الشرع يشمل التصديق والإقرار الحاصل بالقلب، ويشمل أيضاً ما يلزم منه من الأعمال الصالحة، والدليل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم:((الإيمان بضع وسبعون شعبة - أو وستون شعبة - فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)) (1) ، فقول ((لا إله إلا الله)) قول باللسان، وقال:((إماطة الأذى عن الطريق)) وهذا عمل بالجوارح، ((والحياء شعبة من الإيمان)) ، وهذا عمل قلبي.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره)) (2) ، وهذا اعتقاد قلبي.

وفي القرآن الكريم قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ)(البقرة: الآية143)) ، قال المفسرون: أي صلاتكم إلى بيت المقدس، والصلاة عمل، وعلى ذلك فإن الإيمان في الشرع يشمل اعتقاد القلب وقول اللسان وعمل الجوارح.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله: ((إيماننا قول وقصد وعمل) ثلاثة أشياء؛ قول مثل: لا إله إلا الله، وقصد وهو: الاعتقاد، مثل: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وغير ذلك، وعمل؛ وأدناه إماطة الأذى عن الطريق. فالإيمان إذاً يشمل الثلاثة.

وكون الاعتقاد إيماناً واضح، أما كون العمل إيمانا فذلك لأنه لم يحملني عليه إلا الإيمان والاعتقاد الذي في القلب، ولولا أني اعتقد الثواب في إماطة الأذى عن الطريق ما أمطته، ولكان عملي عبثاً، ولولا أني اعتقد أني أثاب على قولي: لا إله إلا الله، ما قلتها؛ لأنه يكون عبثاً، فلما كان هذا العمل

(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان عدد شعب الإيمان، رقم (35) .

(2)

تقدم تخريجه ص 367.

ص: 397

نتيجة للاعتقاد التام في القلب صار إيماناً وهذا واضح.

وقد خالف أهل السنة والجماعة في ذلك طائفتان متطرفتان:

الطائفة الأولى: وهم المرجئة الذين جعلوا الإيمان مقتصراً على القصد فقط، وقالوا: إن الإيمان هو اعتقاد القلب فقط، ومتى اعترف الإنسان بقلبه بالله عز وجل فهو مؤمن سواءٌ عمل أم لم يعمل، ومن كان عنده اعتقاد تام فهو مؤمن كامل الإيمان، وإن زنا وسرق وشرب الخمر ولم يزكِ ولم يحج ولم يصم، فهو مؤمن كامل الإيمان، إيمانه كإيمان محمد وجبريل وميكائيل عليهم الصلاة والسلام، ولا يدخل النار مهما عمل من المعاصي، وهؤلاء هم المرجئة، وقد عناهم ابن القيم رحمه الله في قوله في النونية:

والناس في الإيمان شيء واحد

كالمشط عند تماثل الأسنان (1)

والمشط أسنانه سواء، أي أنهم يقولون: الناس في الإيمان شيء واحد، أفسق الناس وأطوع الناس كلهم واحد في الإيمان، وهذا شيءٌ غريب - نسأل الله العافية - وعلى رأيهم فالعاصي الذي يشرب الخمر ويسرق ويزني ويكذب ويخون - لكنه مؤمن بالله وينتسب للإسلام - عندهم أنه مؤمن كامل الإيمان، والله تعالى يقول:(أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ)(الزمر: الآية9)) لا يستويان، لكنهم يقولون: إنهم يستوون، ففاعل الكبيرة عندهم مؤمن كامل الإيمان، ولا يستحق دخول النار، ولا يستحق العقاب، وهذا الفكر مناسب لحال الفسقة من أهل العصر؛ إذا نهي عن الفسق يقول: أنا مؤمن كامل الإيمان - على رأي المرجئة.

(1) انظر القصيدة النونية 1/65.

ص: 398

وأقول: إن هناك ثلاث جيمات يجب التنبيه والتحذير منها وهي: جهمية وجبرية ومرجئة، فكلها وصف لموصوفٍ واحد؛ فالجهمية هم بإعتبار صفات الله عز وجل معطلة؛ ينكرون الصفات، وهم أيضاً جبرية باعتبار أفعال العبد، يقولون: إن الإنسان مجبرٌ على عمله، لا يستطيع أن يتخلص منه، فلو وجدنا شخصين ينزلان من السطح: أحدهما ينزل بتؤده درجة درجة، والثاني دفعناه من أعلى الدرجة وعجز أن يمسك نفسه، فعندهم الكل سواء وكلهم مجبرون، ومرجئة يقولون: الإيمان هو اعتراف الإنسان بقلبه.

ونحن نلزمهم بأن نقول لهم: إن إبليس عندكم مؤمن كامل الإيمان؛ لأن إبليس مؤمن بالله، ويسأل الله ويدعو الله، فيقول:(قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)(صّ: 79) ، فهو عندهم مؤمن كامل الإيمان، وموحد لأنه مؤمن بالربوبية.

وهؤلاء لاشك أن قولهم مجانب للصواب، وإذا قيل لهم: يوجد آيات وأحاديث فيها وعيد مثل قول الله تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا)(النساء: الآية93)) قالوا: هذا للكافر، أي من يقتل مؤمناً وهو كافر، وهذا لا شك أنه تحريف؛ لأن الله علق هذه العقوبة على وصف وهو القتل، وهؤلاء تركوا هذا الوصف جانباً، وأتوا بوصف جديد وهو الكفر والآية ليس فيها الكفر، فهم ألغوا الوصف الذي رتبت عليه العقوبة وأتوا بوصف جديد.

ونظير هذا قول بعضهم في قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة)) (1) ، قالوا من جحدها، فألغوا الوصف الموجود،

(1) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة، رقم (82) .

ص: 399

واعتبروا الوصف المفقود، وذكر الجحد غير موجود في الحديث، ثم نقول لهم: إذا جُحد وجوب الصلاة ولو كان يصلي الصلوات الخمس كل يوم فهو كافر، فهم ألغوا الوصف الموجود الذي رتب الشارع عليه الحكم، وأتوا بوصف مفقود جديد من عندهم.

ومثل هذه الأشياء إذا تأملها الإنسان عرف أن التعصب للقول سبب للضلال، وأن الإنسان ينبغي أن يستدل ثم يعتقد، لا أن يعتقد ثم يستدل؛ لأنه إذا اعتقد ثم استدل يلوي أعناق النصوص لتوافق ما اعتقد، لكن إذا استدل أولاً ثم اعتقد بنى عقيدته على الدليل، ووافق الدليل.

وأسأل الله أن يعفو لإخواننا العلماء السابقين واللاحقين الذين يعتقدون أشياء، ثم يحاولون لَيّ أعناق النصوص إلى ما يعتقدون، وهذا لا شك أنه خطأ، فنحن نؤمن بأن الأحكام مَردها إلى الله، فإذا حكم الله أو رسوله بحكم لا نستحي أن نطبقه ولا نخجل ولا نتهيب، فالحكم ليس إلينا بل نحن منفذون ولا نهيب، فإذا حكم الله على هذا بالكفر فلنقل: كافر ولا نبالي، وإذا حكم الله على هذا بالإيمان فلنقل: مؤمن ولا نبالي، أما التحكم، واعتقاد كفر المؤمن أو إيمان الكافر فهذا ليس إلينا.

وأحب أن يتنبه طالب العلم لمسألة مهمة، وهي أن يجعل الدليل متبوعاً لا تابعاً، وأن يحذر من أن يلوي أعناق النصوص إلى رأيه، فإن هذا خطر عظيم، ولهذا جاء في الحديث:((من قال في القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار)) (1) .

(1) رواه الترمذي، كتاب تفسير القرآن، باب ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه، رقم (2951) .

ص: 400

والطائفة الثانية: قالوا: إن الإيمان قولٌ وعملٌ واعتقاد، وإن هذه الأشياء جزءٌ لا يتجزأ من الإيمان، فمن اعتقد ولم يقل أو لم يعمل فإنه كافر، بمعنى أنهم جعلوا القول والعمل جزءاً من الإيمان وشرطاً في وجوده، حتى قالوا: إن فاعل الكبيرة خارج من الإيمان، ولو صلى وصام وزكى وحج، ثم اختلف هؤلاء، فقال بعضهم: يكفر، وقال بعضهم: يكون في منزلة بين منزلتين.

وتفرع عن هؤلاء طوائفٌ كثيرة، لكن هذه هي الأصل، فمنهم من يقول الإيمان هو القول فقط، فإذا قال الإنسان بلسانه أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فهو مؤمن، لكنه مخلد في النار؛ لأن من قال بلسانه ولم يعتقد بقلبه فهو منافق، وهؤلاء يسمونه مؤمناً، ولكنهم يقولون: إنه مخلد في النار، وهذا لا شك أنه مناف لقول أهل السنة والجماعة وللقران أيضاً، لقول الله تعالى:(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ)(البقرة: 8) ، وأيضاً فإن الله سمى هؤلاء الذين يقولون بألسنتهم ماليس في قلوبهم منافقين، فكيف نسميهم مؤمنين؟!

إذاً أهل السنة والجماعة يقولون: الإيمان قول وعمل واعتقاد، ويستدلون لذلك بأدلة كما ذكرنا فيما سبق، وخالفهم - مخالفة أصلية - طائفتان:

الطائفة الأولى: قالوا: إن الإيمان هو اعتقاد القلب فقط، والأعمال لا تدخل في الإيمان، وهؤلاء هم المرجئة، وعلى رأسهم الجهمية الذين يقولون: إن الناس في الإيمان سواء، وإن الإيمان هو اعتقاد القلب، وأما

ص: 401

الأعمال فإنها لا تدخل في الإيمان لا حقيقة ولا مجازا.

الطائفة الثانية: قالوا: إن الأقوال والأعمال من الإيمان، لكنها شرطٌ في وجوده، بمعنى أنه إذا فقد منها شيء فقد الإيمان كله.

فقالوا: من لم يزك فهو كافر، ومن لم يصل فهو كافر، ومن لم يصم فهو كافر، ومن لم يحج فهو كافر، ومن عق والديه فهو كافر، وبعضهم قال: لا نسميه كافراً، ولا نسميه مؤمناً، ولكن نقول: هو في منزلة بين منزلتين. وهذا الأخير هو مذهب من يرون أنفسهم أذكياء العالم، وهم المعتزلة، والذي قبله هو مذهب الخوارج

ولذلك كان موقف الخوارج أشجع من المعتزلة؛ لأن الخوارج قالوا: كافر ولم يبالوا، والمعتزلة قالوا: لا نقول كافر ولا مسلم، بل هو في منزلة بين منزلتين؛ فأحدثوا مرتبةً لم ينزل الله بها سلطاناً؛ وهي المنزلة بين منزلتين.

فإن قال قائل: - على مذهب أهل السنة - هل الأعمال شرط في وجود الإيمان؟

فالجواب: أن منها ما هو شرط ومنها ما ليس بشرط، فشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله شرط في وجود الإيمان، ومن لم يقل: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فهو كافر. وإن آمن بالله، ولم يصل - والصلاة عمل - فهو كافر، وإن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإن آمن بالله، لكن لم يزك - والزكاة من الأعمال - فليس بكافر.

وخلاصة ذلك أنه إن فقد الاعتقاد في القلب كفر الإنسان، وإن وجد

ص: 402

لكن تخلفت الأقوال أو الأعمال ففيه تفصيل.

فإن دلت النصوص على أنه يكفر كفر، وإلا فلا، فمن آمن بالله تعالى، ولم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله فقد ترك قولاً، ولكنه يكفر بذلك، ومن قال: آمنت بالله، وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ولكن لم يصل فقد كفر - على القول الراجح - ومن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وآمن بالله وصلى ولكنه لم يزك فليس بكافر، وعند الخوارج كافر، وعند المعتزلة في منزلة بين منزلتين - إلا إن كانوا يرون كفر مانع الزكاة.

ثم قال: (تزيده التقوى وينقص بالزلل) وهنا يجب تسكين (ينقص) من أجل وزن البيت، وإن كان لا يوجد ما يوجب جزمها لكنها تسكن، وعلى هذا نقول (ينقص) مرفوع بضمة مقدرة على آخره منع من ظهورها إقامة الوزن للبيت.

وقوله: (تزيده التقوى) أي تقوى الله عز وجل تزيد في الإيمان.

وهنا مبحث: هل الإيمان يزيد وينقص؟

والجواب على ذلك: أن مذهب السلف: أن الإيمان يزيد وينقص، وقال بعض علماء السلف: الإيمان يزيد ولا ينقص، وقالت المرجئة: الإيمان لا يزيد ولا ينقص، وقالت الخوارج والمعتزلة: لا يزيد ولا ينقص؛ لأنهم يرون أن الإيمان إما أن يوجد كله وإما أن يعدم كله.

وإذا أردنا تحليل ذلك فإننا نبدأ أولاً بالعقيدة، والعقيدة تزيد وتنقص بلا شك، والدليل على ذلك عقلي وشرعي.

ص: 403

أما الدليل العقلي: فلأن الاعتقاد مبني على العلم، والعلم مبني على طرق العلم، وطرق العلم تختلف، فلزم من ذلك أن يزيد الاعتقاد وينقص باعتبار طرقه، وهذا دليل عقلي على أن الاعتقاد يزيد وينقص.

ونضرب مثلاً محسوساً لهذا: فأنت إذا أخبرك رجل ثقة بخبر اعتقدت مخبره، فإذا جاءك ثان وأخبرك بنفس الخبر زاد اعتقادك، فإذا أخبرك ثالث فرابع زاد أكثر، فإذا شاهدت ذلك بنفسك، فإن اعتقادك يزيد أكثر وأكثر، ولهذا قال المحدثون:((إن المتواتر يفيد العلم اليقيني، أو الضروري)) على خلاف في هذا.

أما الدليل الشرعي: على أن الاعتقاد يزيد وينقص، فمنه قول الله تعالى:(وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)(البقرة: الآية260)) ، وعلى هذا فالاعتقاد يزيد وينقص بدليلين؛ أحدهما أثري، والثاني نظري، وإن شئت فقل: أحدهما سمعي والثاني عقلي.

فالاعتقاد يزيد وينقص، وأنت بنفسك تحس بذلك، فأحياناً يكون عندك حضور ذهن وصفاء نفس، فتتعبد لله وكأنك تشاهد الجنة والنار، وأحياناً تستولي عليك الغفلة، فلا يحصل عندك هذا الاعتقاد، ولهذا لما سأل الصحابة رضي الله عنهم النبي عليه الصلاة والسلام:((يا رسول الله إذا كنا عندك وذكرت الجنة والنار فكأنما نشاهدها رأي عين، فإذا ذهبنا إلى أهلينا وعافسنا الأولاد والنساء)) - يعني غفلنا، قال النبي عليه الصلاة

ص: 404

والسلام: ((يا حنظلة ساعة وساعة)) (1) ، وهذا أمر مشاهد.

والقول - وهو من الإيمان - أيضاً يزيد وينقص؛ فالذي يذكر الله عشر مرات ليس كمن يذكره خمس مرات، فالذي يذكره سبحانه عشراً ذكره أكثر، إذاً القول يزيد وينقص، وإذا زاد القول زاد الإيمان.

وزيادة القول تكون تارة بالكمية، وتارة بالكيفية، وتارة بهما جميعا، فالإنسان إذا قال: لا إله إلا الله، موقناً بها قلبه تماماً، ملتزماً لمقتضياتها، فهو أزيد ممن قالها مع الغفلة، والإنسان الذي يقول - عشر مرات لا إله إلا الله أزيد من الذي يقول خمس مرات، فزيادة القول تكون بالكمية والكيفية.

وعلى هذا فإذا زاد القول - وقلنا إنه من الإيمان - لزم زيادة الإيمان، وإذا نقص القول نقص الإيمان، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء:((ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن)) قالوا: يا رسول الله ما نقصان دينها؟ قال: ((أليس إذا حاضت لم تصل، ولم تصم)) (2) . والصيام والصلاة عمل، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم نقصه من الحائض نقصاً في الدين، إذاً هنا نقص الإيمان بنقص العمل.

وكذلك العمل يزيد وينقص، والزيادة في العمل تكون كميةً وكيفيةً ونوعا.

(1) رواه مسلم، كتاب التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر

، رقم (2750) .

(2)

رواه البخاري، كتاب الحيض، باب ترك الحائض الصوم، رقم (304) ، ومسلم كتاب الإيمان، باب بيان نقصان الإيمان

، رقم (80) .

ص: 405

ففي النوع: فإن الواجب أفضل من التطوع، لقول الله تعالى في الحديث القدسي:((وما تقرب إلىّ عبدي بشيءٍ أحب إليّ مما افترضته عليه)) (1) . فالصلاة في جنسها أفضل من الصدقة، وكذلك الأضحية - في وقتها - أفضل من الصدقة، وهذا في النوع.

وفي الكمية: فإن من صلى عشر ركعات إيمانه أزيد ممن صلى ركعتين.

وفي الكيفية: فإن من صلى صلاة يطمئن فيها بخشوع وتأن وتدبر لما يقول، ليس كمن صلى صلاة على غير هذا الوجه.

قال تعالى: (وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ)(التوبة: 124) وزيادة الإيمان في الآية تشمل زيادة القول والعمل والاعتقاد، فيزدادون إيماناً، ويزدادون عملاً إذا كانت الآية فيها أمر بأعمال، أو قولاً إذا كان فيها أمر بأقوال.

وإذا تقرر عندنا أن الإيمان يزيد في الاعتقاد والقول والعمل، فلابد أن نعرف أن هناك أسباباً لزيادة الإيمان.

يقول المؤلف رحمه الله: (يزيد بالتقوى) ، فتقوى الله عز وجل أحد أسباب زيادة الإيمان، فهذا هو السبب الأول.

والتقوى هي: اتخاذ وقاية من عذابه سبحانه وتعالى بفعل الأوامر واجتناب النواهي، فكلما زاد الإنسان من فعل الطاعة زاد إيمانه، وكلما تجنب النواهي مخلصاً لله زاد إيمانه، إذاً فعل الطاعة تقرباً إلى الله يزيد في الإيمان، وترك المعصية تقرباً إلى الله يزيد في الإيمان.

(1) تقدم تخريجه ص 130.

ص: 406

السبب الثاني: النظر في آيات الله الكونية أو الشرعية، قال الله تعالى:(قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ)(يونس: 101) ، وهذه آيات كونية.

والقرآن الكريم قال الله تعالى فيه (فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ)(البقرة: الآية2) وهذه آيات شرعية.

فالنظر في آيات الله الكونية مثل أن يجلس الإنسان ساعة يتفكر في خلق السموات، ويتفكر في خلق الأرض، فهذه المخلوقات العظيمة الواسعة منتظمة منذ الأزل، ليس فيها ما يتناقض أو يتدافع، ليس فيها من خراب:(فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ)(الملك: الآية3) فيتأمل فيوقن أنها ممن خلق الله عز وجل، ثم يتأمل - إن شاء - في نفسه، وسيرى من آيات الله فيها العجب العجاب، فهذا الجسم فيه معامل كيماوية عظيمة، مع أننا لا نحس بشيء، ولو أن بيضة مرت على ذارع أحدنا لاحس بتدحرجها، ولكنها تمر في الأمعاء ولكن لا نحس بها، فما الظن لو كنا نحس بمرورها بأمعائنا كما نحس بمرورها على الجلد؟ ولو كان ذلك لما استطعنا أن ننام وهي تتقلب في أحشائنا، لكن الله عز وجل بحكمته جعل الداخل لا يحس به من أجل ألا يتألم الإنسان عند مرور الطعام والشراب وغيره.

وتأمل أيضاً الإحساس في الجلود؛ فإنه ليس على حد سواء، بل هناك مناطق حساسة جداً. تحس بأي شيء يمر عليها وتتأثر به، وهناك مناطق لا تحس هذا الإحساس، فباطن القدم لا يحس كباطن اليد؛ لأن باطن القدم لو كان حساساً كباطن اليد لما استطعنا أن نمشي عليه، لكن من حكمة الله عز

ص: 407

وجل أن جعله هكذا غير حساس

. ولو تأملت راحة اليد لوجدت أن من عظيم حكمة الله أنها ليس فيها شعر، ولو كان فيها شعر لتلوث باطن اليد بالطعام وتلوثت الأشياء، ولقل الإحساس بها، ولفقدت الإتقان في فعل الأشياء، ويدل لهذا أنك لو لبست قفازين لفقدت الإتقان في العمل بيدك.

وعلى كل حال فنحن معرفتنا بهذه الأشياء سطحية، لكن لو أنك أتيت واحداً من الأطباء، وشرح لك ما في الإنسان من آيات لبهرك، ولهذا قال الله تعالى:(وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ)(الذاريات: 21) ولهذا نقول إن التفكر في آيات الله الكونية يزيد في الإيمان، وهذا ظاهر محسوس.

وكذلك التفكر في الآيات الشرعية يزيد في الإيمان بلا شك، لكن يحتاج إلى أن يكون الإنسان بصيراً في أحكام الشرع، حتى يعرف الحكمة في الأشياء التي شرعها الله، وهذا يخفى على بعض الناس ولا سيما من أعرض عن ذكر الله، فإنه لا يفتح له باب المعرفة، يقول المعري:

يد بخمس مئين عسجداً وديت ما بالها قطعت في ربع دينار

تناقض ما لنا إلا السكوت له ونستعيذ بمولانا من النار

كأن الناس هم المشرعون حتى ينتقدهم هذا الانتقاد، خمس مئين عسجد، والعسجد هو الذهب، يعني خمسمائة دينار دية اليد، فإذا سرق ربع دينار قطعت، فكانت اليد بقيمة ربع دينار؛ لأنه إذا قطعها الإنسان يلزم

ص: 408

بخمسمائة دينار، وإذا سرقت ربع دينار قطعت؟! وهذا لا يعرف الحكمة فه إلا من فتح الله عليه وأقبل بصدق

على تأمل شريعة الله لا انتقادها، وإني لأجزم بأن الإنسان الذي يريد أن ينظر إلى الشريعة بانتقاد لن يفتح الله له باب المعرفة، أما الذي ينظر إليها باسترشاد ويطلب الرشد فهذا يفتح الله عليه، ويبين له من الأسرار ما يخفى على كثير من الناس.

ولقد أجاب الشاعر الآخر المعري فقال:

قل للمعري عار أيما عار

جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عار

يد بخمس مئين عسجدا وديت

لكنها قطعت في ربع دينار

صيانة النفس أغلاها وأرخصها

حماية المال فافهم حكمة الباري

يعني أنها تؤدى بخمسمائة دينار صيانة للنفوس، وتقطع بربع دينار حماية للأموال، وهذه حكمة عظيمة؛ لأن من علم أنه سيضمن خمسمائة دينار إذا قطع اليد أو تقطع يده سوف يحجم، ومن علم أنها ستقطع بربع دينار سوف يحجم عن السرقة وهذه هي الحكمة.

ولهذا فإنه يجب علينا أن نتأمل الآيات الشرعية تأمل استرشاد لا تأمل انتقاد، حتى يفتح الله لنا من الخير ومعرفة حكمة الله عز وجل ما يخفى على كثير من الناس.

وإذا أردت أن تعرف هذا فانظر أحياناً وأنت تقرأ الكتاب، فإنك إذا كنت تقرأه قراءة منتقد على مؤلف فإنك لا تستفيد منه كثيراً، لكن إذا كنت تراجع الكتاب وتسترشد من مؤلف فإنك تنتفع كثيرا.

قال المؤلف: (وينقص بالزلل) يعني أن الإيمان ينقص بالزلل، والدليل

ص: 409

على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في النساء: ((ما رأيت من ناقصات عقل ودين)) (1)، قال: ناقصات عقل ودين، وهذا دليل على أن الإيمان ينقص.

والدليل الثاني: وهو دليل عقلي أنه إذا ثبتت الزيادة ثبت النقص؛ لأنه لا تعقل زيادة إلا بوجود مزيد ومزيد عليه، فإذا ثبتت الزيادة بالنص، فقد ثبت النقص أيضاً؛ لأنه لا يتصور زيادة إلا بمقابلة نقص، فمثلاً إذا كان هناك رجل زاد إيمانه، فمعنى ذلك أنه قبل ذلك كان ناقصاً، وهذا من باب التلازم فإنه لا يمكن زيادة إلا بوجود نقص.

ثم اعلم أن نقص الإيمان على قسمين:

الأول: نقص لا حيلة للإنسان فيه كنقص دين المرأة بترك الصلاة في أيام الحيض، فإن هذا لا اختيار لها فيه، بل لو أرادت أن تصلي حتى لا ينقص إيمانها لقيل لها: إن هذا حرام عليك، ولو صليت لزاد إيمانك نقصاً. إذاً هذا نقص لا حيلة للإنسان فيه ولا يلام عليه؛ لأن هذا لا اختيار له فيه إطلاقاً.

ومثل أن يموت الإنسان صغيراً، فإن إيمانه ينقص عمن عُمِرْ؛ لأن من عُمِرْ زاد إيمانه وزادت أعماله، فهذا النقص لا حيلة له فيه لا يلام عليه إطلاقاً.

الثاني: نقص باختيار الإنسان، وهذا ينقسم إلى قسمين:

إن كان سببه المعصية أو ترك الواجب فإنه يلام عليه، ويأثم به، وإن كان نقصه بترك تطوع غير واجب فإنه لا يلام عليه لوماً يأثم به، وإن كان على الإنسان أن يجتهد في العمل الصالح، ولهذا قيل لابن عمر رضي الله عنهما

(1) تقدم تخريجه ص 405.

ص: 410

في المنام: نعم الرجل لو كان يقوم من الليل (1)، وقال النبي عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمرو بن العاص:((يا عبد الله لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل)) (2) ، وهذا لا شك أنه نوع لوم لكنه لوم لا إثم به، بخلاف من ترك الواجب أو فعل المحرم فإنه يلام لوماً يأثم به.

إذاً نقص الإيمان على قسمين:

الأول: لا يكون للإنسان اختيار فيه، فهذا لا لوم عليه فيه، مثل ترك المرأة الصلاة أثناء الحيض، ومثل من نقص عمله وإيمانه لموته صغيراً.

الثاني: ما كان للإنسان فيه اختيار، فهذا إن كان واجباً فهو ملام آثم، وإن كان غر واجب فقد يلام، ولكنه لوم لا إثم فيه.

وقول المؤلف: (ينقص بالزلل)(الباء) هنا للسببية، والزلل: مصدر زل، يزل، زللا، وهو مثل الزلق يعني الخروج عن الاعتدال، هذا هو الزلل، فإذا خرج الإنسان عن واجبه نقص إيمانه.

(1) رواه البخاري، كتاب التهجد، باب فضل قيام الليل رقم (1121) ومسلم، كتاب فضائل الصحابة، باب من فضائل عبد الله بن عمر، رقم (2479) .

(2)

رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب ما يكره من ترك قيام الليل

، رقم (1152) ، ومسلم، كتاب الصيام، باب النهي عن صوم الدهر لمن تضرر به

، رقم (1159) .

ص: 411

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

96-

ونحن في إيماننا نستثني

من غير شك فاستمع واستبن

97-

نتابع الأخيار من أهل الأثر

ونقتفي الآثار لا أهل الأشر

ــ

الشرح

قال رحمه الله تعالى: (ونحن في إيماننا نستثني)(نحن) : ضمير يعود على أهل الأثر؛ لأن هذه العقيدة أو هذه المنظومة مبنية على مذهب أهل الأثر، يعني نحن أهل الأثر نستثني في إيماننا، والاستثناء في الإيمان أن يعلق بالمشيئة، أي مشيئة الله، فيقول: أنا مؤمن إن شاء الله، فنحن نستثني في الإيمان ونرى أنه جائز، لكن على تفصيل في ذلك كما سنذكره إن شاء الله.

وذهب بعض العلماء إلى أن الاستثناء في الإيمان حرام؛ لأنه ينبئ عن شك، فإذا قلت: أنا مؤمن إن شاء الله، كأنك شاك في الموضوع، فيكون الاستثناء حراماً؛ لأنك شككت هل أنت مؤمن أو غير مؤمن.

وقال بعض العلماء: بل الاستثناء واجب؛ لأنك إذا قلت: أنا مؤمن، ولم تقل: إن شاء الله، فإنك تكون قد زكيت نفسك، وشهدت لها بأنك قمت بكل الواجبات، وتزكية النفس حرام، وعلى هذا فيجب أن تقول: أنا مؤمن إن شاء الله. لئلا تزكي نفسك، قالوا: ولأنك لا تدري فلعلك الآن مؤمن ثم تكفر، والإيمان النافع هو الذي يوافي به الإنسان ربه ويكون في آخر الحياة.

هذان قولان؛ الأول تحريم الاستثناء، والثاني وجوب الاستثناء، والصحيح أن الاستثناء ينقسم إلى واجب ومحرم وجائز:

ص: 412

فالواجب: إذا كان الحامل على الاستثناء الخوف من التزكية فالاستثناء واجب؛ لأنه إذا جزم بأنه مؤمن فقد شهد لنفسه بأنه مؤمن والمؤمن له الجنة، فيكون قد شهد لنفسه بأن له الجنة، ولا يجوز للإنسان أن يشهد لأحد بأن له الجنة إلا من شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كان يخشى من التزكية فالاستثناء واجب.

والمحرم: إذا كان الحامل على الاستثناء التردد وعدم الجزم، فالاستثناء حرام، بل مناف للإيمان.

والجائز: إذا كان الاستثناء للتعليل؛ بمعنى أنا مؤمن بمشيئة الله. فهذا جائز؛ لأن هذه هي الحقيقة، والدليل على ذلك قوله تعالى:(لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ)(الفتح: الآية27)) فالتعليق هنا ليس للتردد لأن الله غير متردد، وإنما هو لبيان العلة، وهي أن دخولكم بمشيئة الله.

ومن ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم عند مروره لزيارة القبور ((وإنا إن شاء الله بكم لاحقون)) (1) فالإنسان لا يشك في أنه لاحق جزما بالأموات، ولكنه أتى بالمشيئة للتعليل، أي أن لحوقنا بكم بمشيئة الله تعالى.

ومنه قوله تعالى: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ)(الفتح: الآية27)) ، لأن هذا ليس للتعليق، بل هو خبر من عند الله تعالى، وهو سبحانه وتعالى جازم به.

فقول المؤلف رحمه الله: (ونحن في إيماننا نستثني من غير شك) فإن كان لشك فهو حرام بل كفر.

وقوله: (فاستمع) يعني استمع لما أقول، (واستبن) يعني اطلب بيان ما

(1) رواه البخاري، كتاب الطهارة، باب استحباب إطالة الغرة

، رقم (249) .

ص: 413

خفي عليك.

وقوله: (فاستمع) ولم يقل: فاسمع؛ لأن الاستماع: الإنصات والسماع عن قصد، والسماع يكون عن قصد ويكون عن غير قصد، ونضرب لهذا مثلاً: لو مررت برجل يغني غناء محرما وسمعته فلا إثم عليك، لكن لو استمعت وأنصت إليه لكنت آثماً، ويدل على هذا الفرق قوله تعالى:(وَإِذَا قُرِئَ القرآن فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا)(الأعراف: الآية204)) قال (فاستمعوا له)، ولم يقل: فاسمعوه؛ لأننا سمعناه من قبل، ولو أننا لم نسمعه لم يقل:(فَاسْتَمِعُوا لَهُ) .

قال رحمه الله: (نتابع الأخيار من أهل الأثر)(الأخيار) : جمع خير، وهم السلف الصالح، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم)) (1) فنحن نتابع الأخيار.

وقوله: (من أهل الأثر) ، المراد بالأثر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإن شئت فقال: المراد به ما هو أعم من ذلك، وهو ما ثبت عن طريق الشرع، وضده أو مقابله ما ثبت عن طريق العقل؛ وهو الدليل العقلي، فالأثر: ما كان ثابتاً بالأثر، وعلى رأسه - بالمعنى الأعم - القرآن والسنة، ثم ما روي عن الصحابة والتابعين.

قوله: (ونقتفي الآثار)، (الآثار) : جمع أثر وهي النصوص الواردة بالشرع. (لا أهل الأشر) أي لا نتبع أهل الأشر والبطر والفرح فيما هم عليه من البدع، وفي هذا إشارة إلى أن هذه المسألة قد اختلف فيها أهل الأثر وأهل الأشر، ونحن نتبع في ذلك أهل الأثر.

(1) تقدم تخريجه ص 59-

ص: 414

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

98-

ولا تقل إيماننا مخلوق

ولا قديم هكذا مطلوق

99-

فإنه يشمل للصلاة

ونحوها من سائر الطاعات

100-

ففعلنا نحو الركوع محدث

وكل قرآن قديم فابحثوا

ــ

الشرح

قال رحمه الله تعالى: (ولا تقل إيماننا مخلوق ولا قديم) وهذا بحث أحدثه المتكلمون، ولم يكن في كتاب الله ولا سنة رسوله ولا في عهد الصحابة، وهو: هل الإيمان مخلوق أو غير مخلوق؟ وقد سبق لنا بحث أهم منه وأكثر وقوعاً وهو الاستثناء في الإيمان.

أما هل الإيمان مخلوق أو غير مخلوق؟ فهذا محدث؛ حدث بعد أن حدث القول بخلق القرآن، فصار المتكلمون يتحدثون ويتساءلون: هل إيمان العبد مخلوق أو غير مخلوق؟ فإن قيل: مخلوق فهو خطأ، وإن قيل: غير مخلوق فهو خطأ.

ولهذا قال المؤلف رحمه الله هنا: (لا تقل إيماننا مخلوق ولا قديم) وقديم بمعنى غير مخلوق؛ لأن القديم عندهم هو الشيء الأزلي الذي لم يخلق من عدم، يعني لا تقل هذا ولا هذا، بل قل: آمنت بالله، أو أنا مؤمن، سواء كان مخلوقاً أو غير مخلوق.

ص: 415

ولهذا يقول المؤلف رحمه الله: إن الإيمان يشمل شيئاً محدثاً، والمحدث مخلوق؛ وشيئاً غير محدث، وغير المحدث غير مخلوق، قال:(فإنه يشمل للصلاة) والصلاة فيها قول وفعل، فالأفعال التي في الصلاة كلها مخلوقة؛ لأنها صفة حادث، وصفة الحادث حادث، لذلك قال المؤلف رحمه الله:(ففعلنا نحو الركوع محدث) .

والأقوال التي في الصلاة منها مخلوق، ومنها غير مخلوق، ففيها قراءة القرآن، والقرآن غير مخلوق وهو من الإيمان، لذلك قال المؤلف:(وكل قرآن قديم فابحثوا) .

فمعنى كلام المؤلف: لا تقل: إيماني مخلوق، ولا غير مخلوق؛ لأنك ستركع والركوع مخلوق، وستقرأ القرآن، والقرآن غير مخلوق وكل ذلك من الإيمان.

ولكن القول الراجح في هذه المسألة أن إيماننا كله مخلوق، أما قراءة القرآن فإن القراءة التي هي فعل القارئ مخلوقة، وأما القرآن نفسه فغير مخلوق، لكن القرآن ليس هو إيمان العبد نفسه، وإنما القرآن مما يؤمن به العبد، وهناك فرق بين إيماننا، وما نؤمن به، فكلامنا بالقرآن مخلوق، لكن ما نتكلم به غير مخلوق.

ولهذا فإننا نقول: إن كلام المؤلف رحمه الله هنا فيه نظر، بل الصواب أن نقول: إيماننا كله مخلوق، والقرآن ليس هو الإيمان ولكن قراءة القرآن هي التي من الإيمان؛ لأن الإيمان عندنا - أهل السنة - قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان.

ص: 416

وعلى هذا فمن قال: إيماني مخلوق فقد صدق، أما ما آمن به ففيه التفصيل؛ منه ما هو مخلوق، ومنه ما هو غير مخلوق، رسول الله صلى الله عليه وسلم مخلوق وأنا مؤمن به، والقرآن غير مخلوق وأنا مؤمن به، وكذلك الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر؛ فالملائكة مخلوقون، والكتب غير مخلوقة، والإيمان بالرسل إيمان بمخلوق، واليوم الآخر مخلوق.

فصار المؤمن به منه مخلوق ومنه غير مخلوق، أما مجرد إيمان العبد فإنه مخلوق؛ لأنه حادث، فالعبد لم يكن شيئاً مذكورا، ثم كان وأحدث الإيمان، وعلى هذا فالقول الصحيح أنه يجوز أن يقول الإنسان: إيماني مخلوق؛ لأنني مخلوق.

ومما يؤخذ على المؤلف أيضاً قوله: (وكل قرآن قديم) ، والصحيح أن القرآن حادث؛ يتكلم الله به حين إنزاله، فيتلقاه جبريل فيأتي به النبي صلى الله عليه وسلم، والدليل على هذا أن الله يتحدث عن مسائل مضت بلفض الماضي فيقول عز وجل:(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ)(آل عمران: الآية121) إذ غدوت، يعني فيما مضى، وهو إشارة إلى غزوة أحد، ويقول جل وعلا:(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا)(المجادلة: الآية1)) ، وهذه الآية نزلت بعد أن حصلت الشكوى ولا شك؛ لأنه عبر عنها بلفظ الماضي.

فإن قال قائل: عُبِر عنها بلفظ الماضي لأنه متحقق الوقوع، فهو كقوله:(أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)(النحل: الآية1)، قلنا: هذا يأباه قوله: (وَاللَّهُ يَسْمَعُ

ص: 417

تَحَاوُرَكُمَا) ؛ لأن (يسمع) فعل مضارع لحكاية الحال، يعني يسمع حين تحاورتما فأخبر الله عن شيء مضى بصيغة المضارع الذي تحكى بها الحال، وحينئذٍ يتبين أن الله جل وعلا يتكلم بالقرآن حين إنزاله.

ويدل لذلك أيضاً أنه تقع مسائل فيجيب الله عنها، قال تعالى:(يَسْأَلونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ)(المائدة: الآية4)) ، والله لم يتكلم بهذا الجواب قبل أن يسألوا، بل بعد أن سألوا، إذاً فهو محدث. وهذا في القرآن صريح، قال تعالى:(مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ)(الأنبياء: الآية2)، وقد أَولَ من يقول إن القرآن قديم. قوله:(مُحْدَثٍ) بأنه محدث إنزاله، وهذا تحريف؛ لأن (محدث) اسم مفعول، ونائب الفاعل فيه يعود على الذكر لا على الإنزال، فقوله تعالى:(مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ)(الأنبياء: الآية2)) هو: أي الذكر، فصرفُ الضمير إلى غير الذكر تحريف.

فإن قال قائل: إن الله عز وجل يقول: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)(الواقعة: 77)(فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ)(الواقعة: 78)، وقال تعالى:(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ)(البروج: 21)(فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)(البروج: 22)، وقال أيضاً:(فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ)(الواقعة: 78)(لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ)(الواقعة: 79) ، فهل يقتضي ذلك أن الله كتبه في اللوح المحفوظ قبل أن يتكلم به، وقبل أن ينزله على محمد صلى الله عليه وسلم؟

فالجواب على ذلك أن قوله تعالى: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)(الواقعة: 77)(فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ)(الواقعة: 78) وقوله: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ)(البروج: 21)(فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)(البروج: 22) لا تدل على أنه مكتوب في اللوح المحفوظ، إذ قد يكون المراد بذلك ذكره والتحدث عنه، وشأنه وعاقبته، بدليل قوله تعالى:(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)(الشعراء: 196)) وإنه: أي

ص: 418

القرآن: وذلك في قوله تعالى: (وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(الشعراء: 192)(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)(الشعراء: 193)(عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ)(الشعراء: 194)(بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)(الشعراء: 195)(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)(الشعراء: 196) ، والقرآن ليس مكتوباً في زبر الأولين، بل هو متحدث عنه في زبر الأولين.

فيكون قوله: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ)(الواقعة: 77)(فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ)(الواقعة: 78)، وقوله:(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ)(البروج: 21)(فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ)(البروج: 22) يعني التحدث عنه وذكر شأنه وحاله، ولا يتعين أن تكون الآية دالة على أنه مكتوب، والدليل على أنه لا يتعين قوله تعالى:(وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ)(الشعراء: 196) أي ذكره والتحدث عنه، لا أن القرآن نفسه مكتوب هناك؛ لأنه لو كان مكتوباً هناك لكان نازلاً قبل محمد صلى الله عليه وسلم بأعوام.

والخلاصة: أن القول بأن القرآن قديم قول منكر، بل نقول: القرآن مجيد كريم، ونصفه بما وصفه الله به، أما أنه قديم فلا يوصف بذلك، وهذا القول - أعني أن يوصف القرآن بالقدم - هو نزعة من نزعات الأشاعرة، الذين يقولون: إن كلام الله هو المعني القائم بالنفس، وهو قديم كقِدم العلم، أي لم يزل الله عز وجل مريداً للشيء عالماً به.

فيقولون: إن كلام الله هو المعنى القائم بنفسه، وما يسمعه جبريل، أو يسمعه موسى، أو سمعه محمد صلى الله عليه وسلم في المعراج، فهذا عبارة عن أصوات مخلوقة تعبر عن كلام الله، أي أن الله خلق أصواتاً في الجو تعبر عن ما في نفس الله من الكلام، فهذا كلام الله عندهم، وقد قال بعض علمائهم المنصفين: الحقيقة أنه لا فرق بيننا وبين الجهمية؛ لأننا متفقون على أن ما يسمع ويقرأ فهو مخلوق، لكن الجهمية خير منهم في التعبير؛ لأن الجهمية

ص: 419

يقولون: هذا كلام الله، وهم يقولون: هذا عبارة عن كلام الله وليس كلام الله، فصار الجهمية أحسن من الأشاعرة في هذا التعبير، وإن كان كل منهم أخطأ وأبعد عن الصواب.

إذاً كلام المؤلف في هذين البيتين فيه نظر من وجهين:

الأول: قوله: إن إيماننا منه ما ليس بمخلوق، ووجه النظر في ذلك أن إيماننا كله مخلوق؛ لأن إيماننا من صفاتنا، ونحن مخلوقون فصفاتنا مخلوقة، لكن ما نؤمن به هو الذي ينقسم إلى مخلوق وغير مخلوق.

الثاني: قوله بأن القرآن قديم، والصواب انه ليس بقديم (1) فإن الله يتكلم به حين إنزاله؛ لأن الله قال:(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(الشعراء: 192)(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)(الشعراء: 193)(عَلَى قَلْبِكَ) ، فظاهر السياق انه من حين يتكلم الله ينزل به جبريل إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الحق وهو المعقول.

وينبغي لنا في العقيدة أن لا نستوحش ولا نتهيب من شيء دل عليه الكتاب والسنة، الوحشة كل الوحشة أن تحرف نصوص الكتاب والسنة من أجل عقيدة تعتقدها وهي خطأ، هذه هي الوحشة، أما شيء دل عليه ظاهر الكتاب والسنة فلابد لك من قوله.

قال المؤلف: (وكل قرآن قديم فابحثوا) البحث: يعني التفتيش، وأصله من بحث الأرض أي حرثها باليد، فكأن المفتش للوصول إلى العلم كمن يحرث الأرض ليستخرج ما كان خابئاً فيها.

والبحث من أهم وسائل العلم، لكن بشرط أن يكون الغرض منه

(1) انظر حاشية ص 215.

ص: 420

الوصول إلى الحق، ودون الانتصار لقول النفس أو قول المتبوع، بل إذا بحث الإنسان فلتكن نيته سليمة، فينوي ببحثه الوصول إلى الحق، وسواء كان معه أو مع خصمه قبله، أما الإنسان الذي يكثر النقاش من أجل أن ينتصر لقوله - وإن كان يعتقد أنه حق - فإنه لا يجوز له ذلك، بل الذي ينبغي له أن يجعل مناقشته من أجل الوصول إلى الحق سواء كان معه أو مع غيره، ثم إنه إذا انقاد للحق - إذا كان مع خصمه - فإنه يجد لذلك لذة، ويجد تواضعاً يهون عليه مخالفة نفسه.

أما إذا تعصب لقوله وصار يحاول أن ينتصر له ولو بالخطأ، فإنه سيضيق صدره ولا شك، وسوف لا يتمكن فيما بعد من الرضوخ للحق، وهذه آفة عظيمة، ألا وهي الاستكبار عن الحق. فالواجب على الإنسان أن ينظر إلى الصواب، سواء كان معه أو مع خصمه.

ثم عليه إذا بحث، وأتى بحجته، ثم أتى الآخر بحجته، ولم يتبين لأحدنا صواب صاحبه، فإن الحكم إلى كتاب الله وسنة رسوله عن طريق الذي هو أعلم منا، حتى يكون الاتفاق، ويزول الخلاف.

ص: 421

ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى:

101-

ووكل الله من الكرام

اثنين حافظين للأنام

102-

فيكتبان كل أفعال الورى

كما أتى في النص من غير امترا

ــ

الشرح

قوله رحمه الله: (ووكل الله من الكرام) التوكيل هو إقامة الغير مقام النفس، مثال ذلك: لو وكل إنسان آخر ليشتري له حاجة من السوق فهو موكل، والآخر وكيل.

وفي قوله: (ووكل الله من الكرام) إشكال. فهل الله عز وجل يوكل؟ وهل الله تعالى في حاجة إلى أن يوكل؟

والجواب: أن التوكيل المضاف إلى الله ليس كالتوكيل المضاف إلى الآدمي؛ لأن التوكيل المضاف إلى الآدمي قد يكون سببه العجز، كرجل مريض لا يستطيع أن يصل إلى السوق فوكل شخصاً يشتري له حاجة من السوق، أما التوكيل من الله فهو لكمال سلطانه وأنه يدبر الخلائق، فهو جنود لله عز وجل، وليسوا يقومون مقامه من أجل عجزه في تصريف خلقه، بل هم يقومون بما وكل إليهم لكمال سلطان خالقهم عز وجل.

وقد أضاف الله التوكيل إلى نفسه في قوله تعالى: (فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ)(الأنعام: الآية89)) .

وعلى ذلك فالله وكيل، لقوله تعالى:(وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً)(النساء: الآية81) ، أي قائم بشؤون خلقه؛ وموكل أي مدبر لخلقه لكمال سلطانه، فالتوكيل هنا ليس لنقص الموكل ولكن لكمال سلطانه، يدبر ما شاء؛ فهذا جند له موكل

ص: 422

بكتابة الأعمال؛ وهذا جند من جنوده موكل بالنار؛ وهذا جند من جنوده موكل بالجنة، وهكذا.

يقول رحمه الله: (ووكل الله من الكرام) أي من الملائكة الكرام، ودليل ذلك قوله تعالى:(كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ)(الانفطار: 9)(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ)(الانفطار: 10)(كِرَاماً كَاتِبِينَ)(الانفطار: 11)(يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)(الانفطار: 12) ، وصفهم الله بالكرام لكمال أخلاقهم، والكمال يسمى كرَماً، بدليل قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن:((إياك وكرائم أموالهم)) (1) ، أي كاملها في الصفات والحسن، فهم كرماء لكمال صفاتهم وإلا فإنهم لا يعلمون الناس شيئاً، لكن الكرم يكون من أجل البذل، ويكون من أجل الكمال، مع أن البذل من آثار الكمال.

قوله: (اثنين حافظين للأنام) اثنين: يعني من الملائكة الكرام؛ أحدهما يكون عن اليمين؛ والثاني يكون عن الشمال، كما قال تعالى:(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ)(قّ: 17)(مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(قّ: 18) فأي قول يلفظ به الإنسان فلديه رقيب عتيد؛ حاضر لا يغيب عنه، أحدهما عن اليمين والثاني عن الشمال.

ولما دخل على الإمام أحمد رحمه الله أحد أصحابه وكان مريضاً، وسمعه يئن أنين المريض، قال له: يا أبا عبد الله، إن طاوساً - وهو من كبار التابعين رحمه الله يقول: إن الملك يكتب حتى أنين المريض، فلما قال هذا لأبي عبد الله رحمه الله، أمسك حتى عن الأنين، خوفاً من أن يكتب عليه، ولا شك أن أنين المريض إذا كان ينبئ عن تسخط فإنه يكتب عليه، أما إذا كان

(1) رواه البخاري، كتاب الزكاة، باب اخذ الصدقة من الأغنياء

، رقم (1496) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين، رقم (19) .

ص: 423

بمقتضى الحمى، فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.

وعلى ذلك فهؤلاء الملائكة يحفظون الأنام؛ أي يحفظون أعمالهم، ويكتبونها في سجلات تقرأ يوم القيامة، قال الله تعالى:(وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ)(الإسراء: الآية13)) يعني عمله (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً)(الإسراء: الآية13) أي مفتوحاً غير مغلق، لا يكلفه في النظر إليه (اقْرَأْ كِتَابَكَ) (الإسراء: 14) يعني يقال: إقرأ كتابك فكل شيء مكتوب (كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً)(الإسراء: الآية14) .

قال بعض السلف: والله لقد أنصفك من جعلك حسيباً على نفسك، وهذا صحيح؛ فإن من غاية الإنصاف أن يقدم للإنسان دفتر الحساب ويقال له: أنت حاسب نفسك.

فهؤلاء الملائكة يكتبون ما عمله الإنسان من حسنات، ويكتبون ما عمله من سيئات، لا شك في هذا، لكن هل يكتبون ما صدر منه من لغو - أي ما ليس بحسنة ولا سيئة؟

والجواب: أن هناك قولين للعلماء رحمهم الله: فمنهم من قال: إنهم يكتبونه لكن لا يحاسب الإنسان عليه، ومنهم من قال: إنهم لا يكتبونه؛ لأنه لغو وكتابة اللغو من اللغو، وهؤلاء الملائكة كرام، والكريم كامل الصفات، وكامل الصفات لا يفعل ما هو لغو.

لكن لو قال قائل: هل في الكلام من لغو، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) (1) . وهو إذا صمت لا يكتب عليه شيء، وإن قال؛ قال خيراً؛ أو قال شراً؟

(1) رواه البخاري، كتاب الأدب، باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر

، رقم (6018) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب الحث على إكرام الجار والضيف ولزوم الصمت، رقم (47) .

ص: 424

والجواب: الظاهر أن هناك لغواً؛ لقوله تعالى: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً)(الفرقان: الآية72) ، وهذا يعني اللغو القولي واللغو الفعلي.

فالظاهر أن اللغو موجود ولكن في كتابته أو عدم كتابته شيء من التوقف: هل يكتبونه أو لا؟ وإن نظرنا إلى عموم قوله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(قّ: 18) ، ومن كون النكرة في سياق النفي، وهي نكرة مؤكدة بمن، قلنا: يكتب كل شيء، ولكن لا يلزم من الكتابة المحاسبة، فيكتب ولا يحاسب عليه؛ لأنه لغو.

وإن نظرنا إلى أن اللغو الذي لا يحاسب عليه الإنسان كتابته لغو فلا يكتب، ويمكن أن يقال: إن العموم في قوله تعالى: (مِنْ قَوْل)(قّ: الآية18) يراد به الخاص، أي من قول يثاب عليه أو يعاقب (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (قّ: الآية18)

وهنا سؤال: إذا قلنا: إن الملائكة تكتب اللغو، فهل يكتب مع الحسنات أو مع السيئات؟

والجواب: أنه يكتب على أنه فعل هذا والحساب على الله، أو نقول: إنه إلى السيئات أقرب؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)) (1) ، فهذا يدل بظاهره على وجوب السكوت إذا لم يكن القول خيراً.

وعلى كل حال فالإنسان يجب أن يحتاط وأن يحترس، وألا يقول كلمة إلا وهو يعرف أنها له أو عليه، فإن كانت له فليحمد الله على ذلك، وإن كانت عليه فلا يلومن إلا نفسه.

(1) تقدم تخريجه ص 424

ص: 425

وقوله: (اثنين حافظين للأنام) وهما من الملائكة، والملائكة عالم غيبي خلقهم الله تعالى من نور، وسخرهم لما أراد منهم، منهم العابدون، ومنهم الموكلون ببني آدم، ويختلفون اختلافا كثيراً وليس هم القوى المادية أو العقلية أو ما أشبه ذلك، بل هم أجسام، كما قال تعالى:(جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ)(فاطر: الآية1) ، وهم مخلوقون من النور، ونحن نؤمن بكل من علمنا اسمه منهم، وبصفة كل من علمنا بصفته، وما وراء ذلك من علم الغيب فلا ندري عنه.

ومن جملة هؤلاء الملائكة من ذكرهم المؤلف رحمه الله، وهم الملكان الرقيب والعتيد، وليس الرقيب غير العتيد، بل الرقيب هو العتيد،؛ لأن الله تعالى قال:(رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(قّ: الآية18) ولم يقل سبحانه: رقيب وعتيد، إذاً الرقيب هو العتيد، وهما ملكان عن اليمين وعن الشمال.

وهذان الاثنان دائمان مع الإنسان لقوله تعالى: (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(قّ: الآية18) ، وقيل إنهما يفارقانه إذا دخل الخلاء، وإذا كان عند الجماع، فإن صح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرأس، وإن لم يصح فالأصل العموم.

فإن قال قائل: إنهما يكتبان القول ويكتبان الفعل لأنهما - أي القول والفعل - ظاهران، لكن هل يكتبان الهم وهم في القلب أو لا يكتبانه؟

فالجواب: أنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن من هم بالحسنة فلم يعملها كتبت حسنة (1) ، ومن هم بالسيئة فلم يعملها كتبت حسنة، والمعروف أن الذي

(1) رواه البخاري، كتاب الرقاق، باب من هم بحسنة أو بسيئة، رقم (6491) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب هم العبد بحسنة....، رقم (130) .

ص: 426

يكتب هم الملائكة قال تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ)(الانفطار: 10)(كِرَاماً كَاتِبِينَ)(الانفطار: 11)) ، وعلى هذا فيكون عندهم اطلاع على ما في القلب، ولا غرابة في ذلك، فإن الله عز وجل يقول في كتابه الكريم:(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ)(قّ: الآية16) ، فهو سبحانه عالم بذلك، ويجوز أن يطلع الله هؤلاء الملائكة على ما علمه من حال الشخص، ويكون علمهم بذلك بواسطة من علم الله عز وجل، ويجوز أن يعلموا ذلك بما يحصل للقلب من حركة؛ لأن الهم حركة القلب، فهو يهم بالشيء أي يتحرك، فيعلمان ما يحصل بحركة القلب، وإذا كان الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، ويصل إلى شغاف قلبه، فلا غرو أن يعلِم الملائكة بما يحدث للإنسان في قلبه.

وعلى كل حال فسواء كان الله عز وجل يطلعهم على ما في القلب ليكتباه، أو هما يعلمان ذلك بحركة القلب، فإنهما يكتبان هم القلب، فصار الهم والقول والعمل كله يكتب. ولكن هل يحاسب الإنسان على مجرد ما يحصل في قلبه من الوهم أو لابد من حركة؟

الجواب: انه لابد من حركة، وهي لست حركة ظاهرة، بل حركة في القلب أي ميل وهم، أما مجرد ما يخطر على الإنسان، أو يحدث به نفسه فإنه لا يكتب عليه ولا له، اللهم إلا أن يكتب له لحسن نيته، حيث فكر أن يعمل عملاً صالحاً.

ولا يخفى أن هناك فرقاً بين حديث النفس والهم، فالهم أن يتحرك الإنسان ويعمل الشيء، لكن حديث النفس مجرد تفكير في الشيء وخواطر فيه لا أثر لها، ولهذا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال: ((إن الله تجاوز عن أمتي ما

ص: 427

حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم)) (1) .

وقول المؤلف: (اثنين حافظين للأنام) الأنام: أي الخلق (فيكتبان كل أفعال الورى) يكتبان: أي الملكان، (كل أفعال الورى) كل: هذه للعموم.

وقول المؤلف (أفعال الورى) ظاهره أنهما لا يكتبان القول، ولا يكتبان الهم، وفي هذا نظر ظاهر، فإن القرآن الكريم يقول في القول:(مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(قّ: 18)) ، وأما الهم فمن هم بالحسنة فعملها فله عشر حسنات، ومن لم يعملها فله حسنة، ومن هم بالسيئة فتركها لله فله حسنة، وسبق الكلام حول علم الملكين بالهم وإعلام الله عز وجل لهما به، ولعل المؤلف أخذ هذا أي قصره ما يكتب على الفعل من قوله تعالى:(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ)(الانفطار: 10)(كِرَاماً كَاتِبِينَ)(الانفطار: 11 (َ (يعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)(الانفطار: 12)) ، ولكن من الواضح أننا إذا علمنا قوله تعالى:(مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)(قّ: 18)) وضممناه إلى القول السابق، فإنه يكون الذي يكتب هو القول والفعل، ثم نضم هذين الاثنين إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن هم بالحسنة ومن هم بالسيئة، فيكون الذي يكتب القول والفعل والهم.

قوله: (كما أتى في النص، من غير امترا) النص هو قوله تعالى: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ)(الانفطار: 10)(كِرَاماً كَاتِبِينَ)(الانفطار: 11)(يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ)(الانفطار: 12)، وقوله تعالى:(أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)(الزخرف: 80)) ، يعني أننا نسمع. وهذا نص في أن القول يُكتب.

(1) رواه البخاري، كتاب العتق، باب الخطأ والنسيان في العتاقة

، رقم (2528) ، ومسلم، كتاب الإيمان، باب تجاوز الله عن حديث النفس

، رقم (127) .

ص: 428