الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسائل نقلها الشيخ حمد بن ناصر من أجوبة لابن حجر الهيتمي
قبض ملك الموت أرواح الأحياء كلها
بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين
هذه مسائل نقلها الشيخ حمد بن ناصر بن عثمان من أجوبة لابن حجر الهيتمي1.
(مسألة) هل ملك الموت يقبض أرواح الحيوانات كلها، أو ما يقبض إلا أرواح بني آدم فقط؟ وأين مستقر الأرواح بعد قبضها؟
(الجواب) : الذي دلت عليه الأحاديث أن ملك الموت يقبض أرواح الحيوانات من بني آدم وغيرهم؛ من ذلك قوله مخاطبا لنبينا صلى الله عليه وسلم: والله يا محمد لو أردت أن أقبض روح بعوضة ما قدرت حتى يكون الله هو الآمر بقبضها.
قال القرطبي: وفي هذا الخبر ما يدل على أن ملك الموت هو الموكل بقبض كل ذي روح، وأن تصرفه كله بأمر الله، ومن ذلك ما في خبر الإسراء عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال عن نفسه فقلت:(يا ملك الموت فكيف تقدر على قبض أرواح من في الأرض: برها وبحرها؟) الحديث.
وذكر أبو نعيم عن ثابت البناني قال: الليل والنهار أربع وعشرون ساعة ليس منها ساعة تأتي على ذي روح إلا وملك الموت قائم عليها، فإن أمر بقبضها قبضها وإلا ذهب.
قال القرطبي: وهذا عام في كل ذي روح، ومِنْ ثَمَّ لما سئل مالك رحمه الله عن البراغيث أن ملك الموت هل يقبض أرواحها أطرق مليا، ثم قال: ألها
1 يعني من كتاب الفتاوى الحديثية له وقد قابلنا عليها عند التصحيح.
نفس؟ قيل: نعم، قال: ملك الموت يقبض أرواحها {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} 1 وأشار مالك بذكر الآية إلى أن المراد بقوله: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ} 2 أنه يأمر ملك الموت يتوفاها كما صرح به قوله –تعالى-: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} 3، ولا ينافي ذلك قوله –تعالى-:{خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} 4 وقوله: {يُحْيِي وَيُمِيتُ} 5، لأن ملك الموت يقبض الروح وأعوانه يعالجون، والله –تعالى- يزهق الروح. وبهذا تجتمع الآيات والأحاديث، وإنما أضيف التوفي لملك الموت لأنه يتولاه بالوسائط والمباشرة، وأضيف الخلق للملك في خبر مسلم عن حذيفة: سمعت الرسول –صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا مرت بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكا فصورها فخلق سمعها وبصرها، وجلدها، ولحمها، وعظامها" 6 الحديث7.
والحاصل أن الله سبحانه وتعالى هو القابض لأرواح جميع الخلق بالحقيقة، وأن ملك الموت وأعوانه إنما هم وسائط؛ وكذلك القول في سائر الأسباب العادية، فإنها بإحداث الله وخلقه لا بغيره تعالى الله عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا.
وذكر ابن رجب أن الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- تكون أرواحهم في أعلى عليين، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم:"اللهم في الرفيق الأعلى"8. وأكثر العلماء على أن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة حيث تشاء كما في مسلم وغيره. وأما بقية المؤمنين فنص الشافعي رحمه الله -على أن من لم يبلغ التكليف منهم: في الجنة حيث شاؤوا فتأوي إلى
1 سورة الزمر آية: 42.
2 سورة الزمر آية: 42.
3 سورة الأنعام آية: 61.
4 سورة الملك آية: 2.
5 سورة البقرة آية: 258.
6 مسلم: القدر (2645) .
7 سقط من هنا عدة أقوال للعلماء في الموضوع؛ الظاهر أن الشيخ أحمد بن ناصر تعمد حذفها اختصارا؛ ولأنها آراء وآثار غير صحيحة. وكتبه محمد رشيد رضا.
8 البخاري: المغازي (4437)، ومسلم: فضائل الصحابة (2444)، والترمذي: الدعوات (3496) ، وأحمد (6/200،6/274)، ومالك: الجنائز (562) .
قناديل معلقة بالعرش، وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن مسعود.
وأما أهل التكليف ففيهم خلاف كثير، فعن أحمد أنها في الجنة، وعن وهب أنها في دار يقال لها: البيضاء في السماء السابعة، وعن مجاهد أنها تكون في أفنية القبور سبعة أيام من يوم دفن لا تفارقه، أي: ثم تفارقه، ولا ينافيه سنية السلام على القبور، لأنه لا يدل على استقرار الأرواح على أفنيتها دائما، لأنه يسلم على قبور الأنبياء والشهداء وأرواحهم في أعلى عليين؛ ولكن لها مع ذلك اتصال سريع بالبدن لا يعلم كنهه إلا الله.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن مالك: بلغني أن الأرواح مرسلة تذهب حيث شاءت، وعن ابن عمررضي الله عنهما) نحوه
…
1 ويرجح ابن عبد البر أن أرواح غير الشهداء في أفنية القبور تسرح حيث شاءت، وقالت فرقة: تجتمع الأرواح بموضع من الأرض، كما روي عن ابن عمر قال: أرواح المؤمنين تجتمع بالجابية، وأما أرواح الكفار فتجتمع بسبخة حضرموت يقال لها برهوت.
خلود أهل الجنة والنار على صورهم في الدنيا
(مسألة) : هل خلود المؤمنين في الجنة على هذا التركيب أعني من اللحم والعظم وغيرهما، وخلود الكافرين في النار على صورهم أم لا؟ وهل منكر ونكير يسألان كل ميت صغيرا كان أو كبيرا مسلما أو كافرا مقبورا أو غير مقبور؟ وهل منكر بفتح الكاف أو كسرها؟ وهل هما اللذان يسألان المؤمن أو غيرهما؟
(الجواب) : الذي دلت عليه الأحاديث أن خلود المؤمنين في الجنة والكافرين في النار، على نحو صورهم في الدنيا المشتملة على نحو اللحم والعظم، وصح أنه صلى الله عليه وسلم قال: "أيها الناس، إنكم تحشرون إلى الله حفاة
1 سقط من هنا بعض الأحاديث والأقوال.
عراة غرلا" 1.
قال الأئمة: أي غير مختونين ترد إليه الجلدة التي قطعت بالختان، وكذا يرد إليه كل ما كان فارقه في الحياة كالشعر والظفر، ليذوق نعيم الثواب أو أليم العقاب؛ فتكون تلك الأجزاء جميعها مع الإنسان في الجنة أو النار حتى تذوق النعيم أو العذاب.
ومما يدل على ذلك ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس –رضي الله عنهما قال في حق الكافر: السلسلة تدخل من إسته حتى تخرج من فيه، ثم يُنْظَمُونَ فيها كما يُنْظَمُ الجراد في العود ثم يشوى. وأخرج الشيخان عن أبي هريرة رفعه:"ما بين منكبي الكافر مسيرة ثلاثة أيام للراكب المسرع" 2،3 ولمسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم:"كل من يدخل الجنة على صورة آدم، وطوله ستون ذراعا"4.
وللترمذي وغيره: "من مات من أهل الدنيا صغيرا أو كبيرا يُرَدُّونَ أبناء ثلاث وثلاثين في الجنة، لا يزيدون عليها أبدا، وكذلك أهل النار" 5 وفي رواية عند ابن أبي الدنيا: "على طول آدم ستين ذراعا بذراع الملك، وعلى حُسْن يوسف، وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين، وعلى لسان محمد- صلى الله عليه وسلم جُرْدًا مُرْدًا مُكَحَّلِينَ".
واعلم أن أهل السنة أجمعوا على أن الأجساد تعاد كما كانت في الدنيا بأعيانها وألوانها وأعراضها وأوصافها، ولا ينافي ذلك ما في بعض حديث الصور الطويل:"يخرجون منها شبانا أبناء ثلاث وثلاثين سنة" 6؛ لأن هذا من حيث السن، فهم مستوون فيه. والذي دل عليه القرآن أن السقط والطفل يحشران على قدرهما، وحينئذ فهما مستثنيان من الحديث أعني: قوله: "أبناء ثلاث وثلاثين سنة"7. هذا كله إن صح الحديث، وإلا فقضية
1 مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2860)، والترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2423) وتفسير القرآن (3167)، والنسائي: الجنائز (2082)، والدارمي: الرقاق (2802) .
2 البخاري: الرقاق (6553)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2852) .
3 سقط هنا روايات، وقوله بعده: ولمسلم هو مَعْزُوٌّ في الفتاوى الحديثية إلى الشيخين كليهما.
4 البخاري: أحاديث الأنبياء (3326)، ومسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2841) ، وأحمد (2/315) .
5 الترمذي: صفة الجنة (9999) .
6 الترمذي: صفة الجنة (2545) ، وأحمد (5/243) .
7 الترمذي: صفة الجنة (2545) ، وأحمد (5/243) .
كلامهم أن الناس في الحشر على تفاوت صفاتهم في الدنيا حتى في الأسنان، وإنما يقع التبديل عند دخول الجنة.
وقد قال بعض المحققين والحفاظ: والصحيح بل الصواب أن الذي يعيده الله هو الأجساد الأولى لا غيرها، ومن قال غير ذلك فقد أخطأ، لمخالفته ظاهر القرآن (والحديث)
…
1 والناس في الموقف يكون كل منهم على طوله الذي مات عليه، ثم عند دخول الجنة يصيرون طولا واحدا؛ ففي الصحيحين:"يبعث كل عبد على ما كان عليه"2. وفي الحديث الصحيح في صفات الجنة (ما ذكرته) ويبعثون بشعورهم ثم يدخلون الجنة جردا مردا كما ثبت في الحديث الصحيح. انتهى.
قال القرطبي رحمه الله: يكون الآدميون في الجنة على سن واحد3 وأما الحور فصفات مصنفة، صغار وكبار، على ما اشتهت أنفس أهل الجنة4.
وسؤال الملكين يعم كل ميت ولو جنينا أو غير مقبور كحريق أو غريق، أو أكيل سبع كما جزم به جماعة من الأئمة، وقول بعضهم: يسألان المقبور، إنما أراد به التبرك بلفظ الخبر. نعم قال بعض الحفاظ: الذي يظهر اختصاص السؤال بمن يكون له تكليف، وبه جزم غير واحد من أئمتنا، ومن ثم لم يستحبوا تلقينه5.
ولا يسأل الشهيد كما صحت به الأحاديث، وألحق به من مات مرابطا لظاهر حديث رواه أحمد وأبو داود وهو:"كل ميت يختم على عمله، إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله، فإنه ينمو عمله إلى يوم القيامة، ويأمن من فتاني القبر" 6 وألحق القرطبي بالشهيد الصِّدِّيقَ
1 سقط من هنا كلام أيضا.
2 مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2878) ، وأحمد (3/331) .
3 كذا في الأصلين والسن مؤنثة لغة.
4 سقط من هنا كلام كثير في نكاح أهل الجنة قلما يثبت منه رواية أو يصح رأي.
5 قوله: تلقينه يعني به الجنين، وسقط من هنا: ومن ثَمَّ خالف في ذلك القرطبيُّ وغيره فجزموا بأن الطفل يسأل. صح وكتبه محمد رشيد رضا.
6 الترمذي: فضائل الجهاد (1621)، وأبو داود: الجهاد (2500) ، وأحمد (6/20) .
لأنه أعلى مرتبة من الشهيد، ومنه يؤخذ انتفاء السؤال في حقه صلى الله عليه وسلم وفي حق سائر الأنبياء.
وفي بحث بعض الحفاظ: أن الملك لا يسأل، لأن السؤال يختص بمن شأنه أن يفتن، وفي حديث حسنه الترمذي والبيهقي وضعفه الطحاوي:"من مات ليلة الجمعة أو يومها لم يسأل" وجزم الترمذي والحكيم بأن المعلن بكفره لا يسأل، ووافقه ابن عبد البر، ورواه عن بعض كبار التابعين، لكن خالفه القرطبي وابن القيم، واستدلاله بآية:{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} 1 وبحديث البخاري: "وأما الكافر والمنافق فيقول: لا أدري" 2 – بالواو – ورجحه شيخ الإسلام ابن حجر بأن الأحاديث متفقة على ذلك، وهي مرفوعة مع كثرة طرقها الصحيحة. وجزم الترمذي والحكيم وابن عبد البر أيضا بأن السؤال يختص بهذه الأمة، لحديث مسلم:"أن هذه الأمة تبتلى في قبورها" 3، وخالفهم جماعة، منهم ابن القيم وقال: ليس في الأحاديث ما ينفي السؤال عمن تقدم من الأمم، وإنما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أمته عن كيفية امتحانهم في القبور، لا أنه ينفي ذلك عن أولئك.
وتوقف آخرون وللتوقف وجه لأن قوله: "أن هذه الأمة" فيه تخصيص فتعدية السؤال إلى غيرهم يحتاج إلى دليل، وعلى تسليم اختصاصه بهم، فهو لزيادة درجاتهم ولخفة أهوال المحشر؛ ففيه رفق بهم أكثر من غيرهم، لأن المحن إذا تفرقت هان أمرها، بخلاف ما إذا توالت؛ فتفريقها لهذه الأمة عند الموت وفي القبر والمحشر دليل ظاهر على عناية ربهم لهم أكثر من غيرهم4.
ومقتضى الأحاديث سؤال الملكين المؤمن، ولو فاسقا، كالعدل، ولكن
1 سورة إبراهيم آية: 27.
2 البخاري: العلم (86)، ومسلم: الكسوف (905) ، وأحمد (6/345)، ومالك: النداء للصلاة (447) .
3 مسلم: الجنة وصفة نعيمها وأهلها (2867) .
4 لهذا التوجيه من ابن حجر تتمة قليلة أمر بتأملها وقد سقط من هنا عمدا أو سهوا.
بشارته تحتمل أن تكون بحسب حاله، ومقتضى الأحاديث: استواء سائر الناس في اسمهما، وهو منكر ونكير كما في حديث عند الترمذي، وقال: حديث حسن غريب، ومنكر بفتح الكاف اتفاقا، ومنكر ونكير هما اللذان يسألان المؤمن وغيره.
قتل الحيات
(مسألة) في حية الدار نقتلها أو نتحول عنها، وكم نتحول؟ فإن قلتم: ثلاثا، فهل هي أيام أو ساعات؟ وهل الحيات في ذلك سواء كالأفعى والرواز والثعبان، أم يختص التحول بنوع منها؟ وهل حية العمران كالبستان والبئر التي يسقى منها الزرع والأشجار حكمها حكم حية الدار أم لا؟ وهل يكره قتل شيء منها في الموات أو في العمران؟
(الجواب) : اعلم أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الحيات أمر ندب) روى البخاريوالنسائي) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كنا مع النبي –صلى الله عليه وسلم بغار بمنى، وقد نزلت عليه سورة {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} 1 فنحن نأخذها من فيه رطبة، إذ خرجت علينا حية، فقال: اقتلوها فابتدرناها لنقتلها فسبقتنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وقاكم الله شرها كما وقاها شركم"2.
وعداوة الحية للإنسان معروفة إذ الذي عليه الجمهور أن الخطاب في قوله: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} 3 لآدم وحواء وإبليس والحية، وفي حيات الحيوان روى قتادة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما سالمناهن منذ عاديناهن"4.
وقال ابن عمر: من تركهن فليس منا، وقالت عائشة: من ترك حية خشية من ثأرها، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. وفي مسند أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم "من قتل حية فكأنما قتل مشركا، ومن ترك حية خوف عاقبتها فليس منا" 5 وقال ابن عباس: إن الحيات مسخ الجن كما مسخت
1 سورة المرسلات آية: 1.
2 البخاري: الحج (1830) وبدء الخلق (3317)، ومسلم: السلام (2234)، والنسائي: مناسك الحج (2884) ، وأحمد (1/377،1/385) .
3 سورة طه آية: 123.
4 أبو داود: الأدب (5248) ، وأحمد (2/247،2/432،2/520) .
5 أحمد (1/421) .
القردة من بني إسرائيل، وأخرجه الطبراني عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك رواه ابن حبان، هذا كله في غير حيات البيوت.
أما التي مأواها البيوت: فلا تقتل حتى تُنْذَر ثلاثا؛ واختلف العلماء هل المراد ثلاثة أيام أو ثلاث مرات؟ والأول عليه الجمهور، وقد ورد بكل منهما حديث: أخرج مالك ومسلم وأبو داود عن أبي سعيد الخدري أن أبا السائب أراد أن يقتل حية بدار أبي سعيد، وهو يصلي، فأشار إليه أن لا تفعل، فلما قضى صلاته حدَّثه، وقد أشار إليه في بيت في الدار، فقال: كان فيه فتى كان حديث عهد بعرس، فخرجنا مع رسول الله –صلى الله عليه وسلم إلى الخندق، فكان الفتى يستأذن رسول الله –صلى الله عليه وسلم بأنصاف النهار يرجع إلى أهله. فاستأذنه يوما فقال له رسول الله –صلى الله عليه وسلم:"خذ عليك سلاحك فإني أخشى عليك قريظة"1. فأخذ الرجل سلاحه فإذا امرأته قائمة بين البابين، فأهوى إليها بالرمح ليطعنها، وأصابته غيرةٌ، فقالت: اكفف عليك رمحك وادخل البيت حتى تنظر ما الذي أخرجني، فدخل فإذا بحية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها به، ثم خرج فركزه في الدار، فاضطربت عليه وخر الفتى ميتا، فما يدري أيهما كان أسرع موتا: الحية أم الفتى. قال فجئنا النبيَ صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه بذلك وقلنا: ادع الله أن يحييه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"استغفروا الله لصاحبكم"2.
ثم قال: "إن بالمدينة جنا قد أسلموا، فإذا رأيتم منهم شيئا فآذنوه ثلاثة أيام؛ فإن بدا لكم بعد ذلك فاقتلوه فإنما هو شيطان" 3، وفي لفظ:"إن في هذه البيوت عوامر فإذا رأيتم شيئا منها فَحَرِّجُوا عليه ثلاثا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر"4.
1 مسلم: السلام (2236)، ومالك: الجامع (1828) .
2 صحيح مسلم: كتاب السلام (2236)، وسنن أبي داود: كتاب الأدب (5257) ، ومسند أحمد (3/41) .
3 مسلم: السلام (2236)، وأبو داود: الأدب (5257)، ومالك: الجامع (1828) .
4 مسلم: السلام (2236)، والترمذي: الأحكام والفوائد (1484)، وأبو داود: الأدب (5256) ، وأحمد (3/41)، ومالك: الجامع (1828) .
وأخرج أبو داود عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: "إن الهوام من الجن، من رأى شيئا في بيته فَلْيُحَرِّجْ عليه ثلاث مرات، فإن عاد وإلا فليقتله فإنه شيطان"1.
وأخذ بعض العلماء من الحديث الأول، وهو قوله: "إن بالمدينة جنا
…
" 2 إلخ أن الإنذار ثلاثا بالمدينة، وصحح بعض أنه عام في كل بلدة لا تقتل حية حتى تُنْذَر؛ ثم الظاهر أن الإنذار مندوب إليه، وإن اقتضى بعض كلام الحنابلة وجوبه؛ حيث قال: قتل الحية بغير حق لا يجوز كالإنس، ولو كان كافرا.
والجن يتصورون بصور شتى، وحيات البيوت قد تكون جنا فتؤذن ثلاثا، فإن ذهبت وإلا قتلت؛ لأنها إن كانت حية أصلية قتلت، وإن كانت جنية، فقد أصرت على العدوان بظهورها للإنس في صورة حية تفزعهم بذلك. انتهى3.
والذي ينبغي أن الإنذار غير واجب؛ لأن الأصل في الصور أنها باقية على أصل خلقتها الأصلية.
وقد أهدر الشارع هذه الصورة أعني: صورة الحية بسائر أنواعها، وجعلها من الفواسق، وقد مر التحريض على قتلها، وكونها صورة جني أمر محتمل، وليس بمحقق، والاحتمال المخالف للأصل لا يقتضي الوجوب؛ لكن حديث البخاري ومسلم يقتضيه، ولفظ ابن عمر: كان يقتل الحيات ثم نهى، قال: إن النبي –صلى الله عليه وسلم هدم حائطا له فوجد فيه سلخ حية، فقال: انظروا أين هو، فنظروه فقال: اقتلوه. فكنت أقتلها، فلقيت
1 مسلم: السلام (2236)، والترمذي: الأحكام والفوائد (1484)، وأبو داود: الأدب (5256)، ومالك: الجامع (1828) .
2 مسلم: السلام (2236)، وأبو داود: الأدب (5257)، ومالك: الجامع (1828) .
3 أي: كلام ابن حجر هنا، ولكن ما بعده ملخص من كلامه أيضا مع حذف. وكتبه محمد رشيد رضا.
أبا لبابة، فأخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا تقتلوا الحيات إلا كل أبتر ذي طفيتين، فإنه يسقط الولد ويذهب البصر فاقتلوه" 1 ولفظه عن نافع عن ابن عمر "أنه كان يقتل الحيات، فحدثه أبو لبابة: أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل حيات البيوت فأمسك عنها"2.
واعلم أن حديث أبي سعيد يقتضي طلب تقدم الإنذار في سائر الحيات، وحينئذ يعارض ما مر أول الجواب من إطلاق الأمر بقتلها، وقد يجاب بأن إطلاق الأمر بالقتل منسوخ، كما عرف من رواية البخاري السابقة أيضا، أي: حمل هذا على ما إذا لم يذهب بالإنذار، وإلا قتل جانًّا كان أو غيره، ويعارض استثناء الأبتر وذو الطفيتين إلا أن يجاب بأن استثناء هذين يقتضي أن الجني لا يتصور بصورتهما فَلْيُسَنّ قتلهما مطلقا، ثم رأيت الزركشي نقل ذلك عن الماوردي فقال: إنما أمر بقتلهما؛ لأن الشيطان لا يتمثل بهما، وإنما نهى عن ذوات البيوت لأن الجني يتمثل بهما.
وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقتلوهما فإنهما يطمسان البصر ويسقطان الحبالى" قال الزهري: ويروى ذلك من سمهما؛ وظاهر الأحاديث السابقة اختصاص الإنذار بعامر البيوت، وهو محتمل، ويحتمل أنه خص بذلك لأنه يتأكد فيه أكثر، وإلا فالعلة المعلومة مما مر تقتضي الإنذار فيما عدا الأبتر وذي الطفيتين؛ سواء كانت عامرة بيت إنسان أو بستان أو بئر أو غيرهما، والتعبير بذوات البيوت وهي العوامر، في رواية البخاري السابقة، كأنه الغالب.
وبما تقرر علم أنه لا يطلب التحول من الدار لأجل ما ظهر من الحيات فيها؛ بل تنذر ثلاث ساعات؛ فإن ذهبت وإلا قتلت، وإن الثلاث
1 البخاري: بدء الخلق (3311)، ومسلم: السلام (2233)، وابن ماجه: الطب (3535) ، وأحمد (2/9) .
2 البخاري: بدء الخلق (3313)، ومسلم: السلام (2233) ، وأحمد (3/452) .
ثلاثة أيام عند الجمهور وثلاث ساعات عند غيرهم؛ وأن سائر الحيات العوامر في ذلك سواء إلا الأبتر وذو الطفيتين، لما مر فيهما؛ وأن حيات غير البيوت لا يبعد إلحاقها بحيات البيوت؛ وقد ورد في أحاديثَ ما يقتضي اختصاص طلب الإنذار بحيات البيوت.
وظاهر كلام بعض الأئمة: الأخذ بهذا المقتضى، وأن حيات غير البيوت تقتل مطلقا، أي: من غير إنذار، والذي يتجه أن التقيد بعوامر البيوت إنما هو الغالب أو لمزيد التأكيد. وكيفية الكلام الذي يقال عند الإنذار: ما أخرجه أبو داود عن ابن أبي ليلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن حيات البيوت فقال: "إذا رأيتم منها شيئا في مساكنكم فقولوا: أنشدكن العهد الذي أخذ عليكن نوح، أنشدكن العهد الذي أخذ عليكن سليمان أن لا تؤذونا. فإن عُدْنَ فاقتلوهن" 1،2 والله أعلم.
الأولياء هل يردون الحوض مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الأنبياء
(مسألة) فيمن يقول: إن الأولياء يَرِدُونَ الحوضَ مع النبي صلى الله عليه وسلم قبل الأنبياء؟
(الجواب) : إنما يتم له ما ذكر إن ثبت أن الأنبياء يردون حوض النبي –صلى الله عليه وسلم، ولم أر ما يدل على ذلك بعد الفحص والاطلاع على الأحاديث الواردة في الحوض عن بضعة وخمسين صحابيا؛ بل الذي رأيته يدل لخلافه فقد أخرج الترمذي عن سمرة عن النبي –صلى الله عليه وسلم: "إن لكل نبي حوضا، وإنهم يتباهون أيهم أكثر واردة، وإني لأرجو أن
1 الترمذي: الأحكام والفوائد (1485)، وأبو داود: الأدب (5260) .
2 ابن أبي ليلى المنفرد برواية هذا الحديث -كما في الترمذي- هو محمد بن عبد الرحمن ابن أبي ليلى الفقيه، وهو لا يُحْتَجُّ بحديثه: اتفقوا على أنه كان سيئ الحفظ فاحش الخطأ، كثير الوهم والمناكير، وصرح أحمد بضعفه واضطراب حديثه، وأثنى على فقهه. وكتبه محمد رشيد رضا.
أكون أكثرهم واردة" 1.
وأخرج الترمذي عن سمرة مرفوعا: "إن الأنبياء يتباهون أيهم أكثر أصحابا من أمته، فأرجو أن أكون يومئذ أكثرهم كلهم واردة، وإن كل نبي منهم يومئذ قائم على حوض ملآن معه عصا يدعو من عرف من أمته، وإن لكل نبي أمة لهم سِيمَا يعرفهم بها نبيهم"، فهذان الحديثان صريحان في أن لكل نبي حوضا مستقلا ترده أمته.
(فائدة) : نقل القرطبي عن العلماء: أنه يطرد عن الحوض من ارتد، أو أحدث بدعة كالرافضة والظلمة المعروفين بالجور، والمعلن بالمعاصي؛ ثم الطرد للمسلم قد يكون في حال، وقد يشرب منه ذو الكبيرة، ثم إذا دخل النار لا يعرف العطش. انتهى ملخصا.
وهذا بناء على أن الحوض قبل الصراط، والذي رجحه القاضي عياض أنه بعده، وأن الشرب منه بعد الحساب والنجاة من النار، وأيده الحافظ ابن حجر بأن ظاهر الأحاديث: أن الحوض بجانب الجنة؛ لينصب فيه الماء من النهر الذي داخلها، فلو كان قبل الصراط؛ لحالت النار بينه وبين الماء الذي يصب من الكوثر، ولا ينافيه أن جمعا يدفعون عنه بعد رؤيته إلى النار، لأنهم يقربون منه بحيث يرونه فيدفعون في النار قبل أن يخلصوا من بقية الصراط، والله أعلم.
خلق الأرض والسماء
(مسألة) : هل خلقت الأرض قبل السماء؟
(الجواب) : نعم، كما صح في البخاري عن ابن عباس –رضي الله عنهما، والقرآن ناطق به، وأجاب عن قوله تعالى:{أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} 2 – إلى قوله -: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} 3 بأن الأرض خلقت أولا كالخبزة، وخلقت السماء بعدها ثم هيأ الأرض ودحاها، والله أعلم.
(مسألة) : هل العرش أفضل من الكرسي؟
1 الترمذي: صفة القيامة والرقائق والورع (2443) .
2 سورة النازعات آية: 27.
3 سورة النازعات آية: 30.
(الجواب) : نعم كما صرح به ابن قتيبة، وصرح أيضا بأن الكرسي أفضل من السماء، وأن الشام أفضل من العراق، وبأن الحجر أفضل من الركن اليماني وهو أفضل من القواعد.
هل الليل في السماء كالأرض
(مسألة) هل الليل في السماء كالأرض؟
(الجواب) : الذي دلت عليه الآيات القرآنية أنه من خواص أهل الأرض، لأن الله امتن علينابه) راحةً لنا، لأنا نتعب ونمل، بخلاف أهل السماء، ومعنى:{يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} 1 أنهم دائمون على ذلك، فكنى بذلك عن الدوام. ووقوع المعراج ليلا إنما هو بالنسبة لأهل الأرض، والله أعلم.
الفرق بين العهد والميثاق واليمين
(مسألة) : ما الفرق بين العهد والميثاق واليمين؟
(الجواب) : العهد الموثق يقال: عهد إليه في كذا: أوصاه به، وأوثقه عليه، والعهد في لسان العرب له معان: منها: الوصية والضمان والأمر، والرؤية والمنزلة. وأما الميثاق: فهو العهد الموثق باليمين، وأما اليمين فهو: الحلف بالله أو بصفاته على ما قرر في محله.
تأذي الملائكة مما يتأذى منه الإنسان
(مسألة) : هل الحفظة يتأذون من كل الأشياء الكريهة الريح، ومن كثرة التردد إلى الخلاء والأماكن النجسة، ومن الجشاء المتغير، ومن نحو الصُّنَان؟ وهل على الكافر حفظة؟ وإذا مات الإنسان إلى أين يصار به؟ وهل الحفظة غير الكاتبين الكريمين؟
(الجواب) : الذي في الحديث الصحيح: "أن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" 2 ذكره النبي صلى الله عليه وسلم تعليلا لنهيه من أكل منتنا كَثَوْمٍ أو بصل أو كراث أو فجل أن يدخل المسجد فقال: "من أكل ثوما
1 سورة الأنبياء آية: 20.
2 مسلم: المساجد ومواضع الصلاة (564)، والنسائي: المساجد (707) ، وأحمد (3/374،3/387) .
أو كراثا أو بصلا أو فجلا فلا يقربن مسجدنا أو المساجد، فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم" 1، وهذا ظاهر في شموله للحفظة، وفي عموم تأذيهم مما يتأذى منه بنو آدم؛ فيشمل ذلك تأذيهم بكل ريح كريهة، سواء ريح الخلاء أو غيره إلا أنه سيأتي أن الحفظة يفارقونه حال دخوله الخلاء.
(وقوله) : وهل للكافر حفظة؟
(جوابه) : نعم كما شملته، بل يصرح به قوله تعالى:{كَلَاّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} 2 أي: الحساب: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ} 3 الآية.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس قال: جعل الله على ابن آدم حافظين في الليل وحافظين في النهار، يحفظان عمله ويكتبان أثره. وأخرج ابن جرير عن مجاهد قال: مع كل إنسان ملك عن يمينه وآخر عن شماله، فأما الذي عن يمينه فيكتب الخير، وأما الذي عن شماله فيكتب الشر.
(وقوله) : إذا مات الإنسان إلى أين يصار به؟
(جوابه) : أخرج أبو الشيخ والبيهقي عن أنس عن النبي –صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله وكل بعبده المؤمن ملكان يكتبان عمله، فإذا مات قال الملكان اللذان وكلا به: قد مات، فأذن لنا أن نصعد إلى السماء، فيقول الله سبحانه وتعالى: سمائي مملوءة من ملائكتي يسبحونني، فيقولان فأين؟ فيقول: قُومَا على قبر عبدي فَسَبِّحَانِي واحمداني وكبراني، واكتبا ذلك لعبدي إلى يوم القيامة".
وقوله: وهل هم غير الكاتبين؟
(جوابه) : أنه قد علم مما قدمناه: أن الملائكة الحفظة الموكلين بالإنسان ينقسمون إلى: أن منهم من هو موكل بالحفظ لا غير، ومنهم وهم الكاتبان الكريمان من هو موكل بالحفظ والكتاب وورد في هذين أنهما يفارقان الإنسان، فقد أخرج البزار عن ابن عباس- رضي الله عنهما-قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم: "إن الله ينهاكم عن التعري، فاستحوا
1 البخاري: الأذان (854)، ومسلم: المساجد ومواضع الصلاة (564)، والترمذي: الأطعمة (1806)، والنسائي: المساجد (707)، وأبو داود: الأطعمة (3822) ، وأحمد (3/374،3/380،3/387،3/397،3/400) .
2 سورة الانفطار آية: 9.
3 سورة الانفطار آية: 10.
من الملائكة الذين معكم الكرام الكاتبين الذين لا يفارقونكم إلا عند إحدى ثلاث: الجنابة، والغائط، والغسل".
والظاهر أنه ليس هنا المفارقة بالكلية بل يبعدون عنه حينئذ نوع بُعْدٍ، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الظهيرة فرأى رجلا يغتسل بفلاة من الأرض فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: "أما بعد، اتقوا الله وأكرموا الكرام الكاتبين الذين معكم، ليسوا يفارقونكم إلا عند إحدى منزلتين: حيث يكون الرجل على خلائه، أو يكون مع أهله، لأنهم كرام كما سماهم الله، فليستتر أحدكم عند ذلك بجِرْمِ حائطٍ" والله أعلم.
التاجر المكتسب المتقي أفضل من العابد غير المكتسب
(مسألة) في خطيب يروي أحاديث، ولم يبين مخرجها، ولا رواتها، ومن جملة ما رواه أنه ذكر حديث:"إن التجار هم الفجار، إلا من قال بيده هكذا وهكذا"1.
(الجواب) : ما ذكره في خطبه من الأحاديث من غير أن يبين رواتها، فجائز بشرط أن يكون من أهل المعرفة بالحديث، أو ينقلها من كتاب مؤلفه كذلك. وأما الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب ليس مؤلفه من أهل الحديث، أو في خطب ليس مؤلفها كذلك، فلا يحل ذلك؛ ومن فعل ذلك عزر التعزير الشديد. وهذا حال أكثر الخطباء: فإنه بمجرد خطبهم فيها أحاديث حفظوها، وخطبوا بها من غير أن يعرفوا لتلك الأحاديث أصلا، فيجب على حكام البلد أن يزجروا خطباءها عن ذلك، ويجب على حكام بلد هذا الخطيب منعه من ذلك، إن ارتكبه.
وأما ما ذكره من الحديث فصدره صحيح، كما قاله الترمذي، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى فقال:"يا معشر التجار" 2،
1 أحمد (3/428) .
2 الترمذي: البيوع (1208)، والنسائي: الأيمان والنذور (3797،3798)، وأبو داود: البيوع (3326) .
فاستجابوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعوا أعناقهم فقال: "إن التجار يبعثون يوم القيامة فجارا، إلا من اتقى الله وصدق" 1، ويروى في رواية صحيحة أيضا:"إن التجار هم الفجار" 2، وقيل: يا رسول الله أليس قد أحل الله البيع؟ قال: "بلى، ولكنهم يُحَدِّثُونَ فيكذبون، ويحلفون، ويأثمون"3. وأما آخره وهو قوله: "إلا من قال هكذا وهكذا" فلم يرد في شيء من كتب الحديث بعد البحث عنه.
والتجار على قسمين: منهم من يتجنب في بيعه وشرائه وسائر معاملاته جميع المحرمات: كالربا والغش والخديعة والكذب والحلف الباطل؛ وهو مع ذلك يخرج حق الله وحق العباد من نفسه وماله.
فأهل هذا القسم لا يبعثون يوم القيامة فجارا بنص الكتاب والسنة وإجماع الأئمة، بل يبعثون سعداء كما كانوا في الدنيا سعداء؛ بل هم أفضل من الفقراء الصابرين كما قال جماعة، لأنهم يفعلون ما يفعل الفقراء ويزيدون بالزكوات والصدقات؛ وفي هذين من نفع المسلمين ما يربو ثوابه على كثير من الأعمال القاصرة، هذا هو القسم الأول وهم المرادون بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث:"إلا من اتقى الله وبر وصدق"،4 وهم المرادون بقوله أيضا في الحديث الصحيح:"التاجر الصدوق الأمين يحشر مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين يوم القيامة"5.
وروى الشيخ أبو نعيم والبيهقي حديث: "من طلب الدنيا حلالا، تعففا عن المسألة، وسعيا على عياله، وتعطفا على جاره، لقي الله ووجهه كالقمر ليلة البدر". وقال لقمان لابنه: استعن بالكسب الحلال عن الفقر، فإنه ما افتقر أحد قط إلا أصابه ثلاث خصال: رقة في دينه، وضعف في عقله، وذهاب لمروءته، وأعظم من هذه الثلاث: استخفاف الناس به.
وسئل بعض التابعين عن التاجر الصدوق: أهو أحب إليك أم المتفرغ
1 الترمذي: البيوع (1210)، وابن ماجه: التجارات (2146)، والدارمي: البيوع (2538) .
2 أحمد (3/428) .
3 أحمد (3/428) .
4 الترمذي: البيوع (1210)، وابن ماجه: التجارات (2146)، والدارمي: البيوع (2538) .
5 الترمذي: البيوع (1209)، والدارمي: البيوع (2539) .
للعبادة؟ فقال: التاجر الصدوق أحب إليَّ، لأنه في جهاد: يأتيه الشيطان من طريق المكيال والميزان، ومن قبل الأخذ والعطاء، فيجاهده، أي: ولا يطاوعه فيما يأمر به من المحرمات. وقيل للإمام أحمد بن حنبل: ما تقول فيمن جلس في بيته أو مسجده وقال: لا أعمل شيئا حتى يأتيني رزقي، فقال أحمد: هذا رجل لم يسمع العلم، أَمَا سمع قول النبي صلى الله عليه وسلم:"جعل رزقي تحت ظل رمحي" 1، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجرون في البر والبحر ويعملون في نخيلهم؛ والقدوة بهم رضي الله عنهم.
والقسم الثاني: هم الذين لا يجتنبون في بيعهم وشرائهم ومعاملاتهم المحرمات: كالربا والغش والحلف الباطل وغير ذلك من القبائح التي انطوى عليها أكثر التجار؛ وهؤلاء فجار في الدنيا والآخرة، وهم ممن قال الله فيهم:{إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} 2 الآية. وفي مسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة: رجل حلف على سلعة، لقد أُعْطِيَ بها أكثر مما أعطى وهو كاذب" 3، وروى أبو يعلى أنه صلى الله عليه وسلم قال:"لا يزال قول لا إله إلا الله يدفع عن الخلق ما لم يؤثروا صفقة دنياهم على آخرتهم". وأهل هذا القسم هم المرادون بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن التجار هم الفجار" 4 الحديث.
المراد بعلم التنجيم
(مسألة) : وقع في عبارة الفقهاء ما يصرح بتحريم علم التنجيم، هل المراد حساباته أو أحكامه؟
(الجواب) : الأحكام المتعلقة بالنجوم منها ما هو واجب كالاستدلال بها على القبلة والأوقات واختلاف المطالع واتحادها ونحو ذلك، ومنها ما هو جائز كالاستدلال بها على منازل القمر وعروض البلاد، ومنها ما هو
1 أحمد (2/50) .
2 سورة آل عمران آية: 77.
3 البخاري: المساقاة (2369)، ومسلم: الإيمان (108)، والترمذي: السير (1595)، والنسائي: البيوع (4462)، وأبو داود: البيوع (3474)، وابن ماجه: التجارات (2207) ، وأحمد (2/253) .
4 أحمد (3/428) .
حرام كالاستدلال بها على وقوع الأشياء المُغَيَّبَة بأن يقضي بوقوع بعضها مستدلا بها عليه بخلاف ما إذا قال: إن الله سبحانه وتعالى اطَّردت عادته بأن هذا النجم إذا حصل له كذا كان ذلك علامة على كذا، فهذا لا منع منه لأنه لا محذور فيه1.
من هو الغالي في القرآن والجافي عنه
(مسألة) في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام السلطان المقسط" 2، وما معنى قوله صلى الله عليه وسلم:"من مسح رأس يتيم كان له بكل شعرة تمر يده عليها حسنات" 3، هل المراد من المسح حقيقة، أو الكناية عن الشفقة عليه والتلطف به؟
(الجواب) : المراد بالغالي فيه: المتجاوز لما فيه من الحدود والأحكام الاعتقادية والعملية والآداب والأخلاق الظاهرة والباطنة. فمن حفظ ألفاظه وتجاوز شيئا من هذه المذكورات كان غير مستحق للإكرام والتعظيم بحسب ما ارتكبه؛ بمعنى أنه يؤاخذ به ويذم عليه من حيث ارتكابه لذلك، وإن كان يستحق التعظيم والإكرام لكونه مسلما، أو حافظا للقرآن؛ فليس المراد نفي التعظيم له مطلقا بل الاعتبار للذي ذكرته فتأمله.
والمراد بالجافي: من لا يخضع لما فيه من الآيات الباهرات والأدلة المتكاثرة، ولا يتأمل ما اشتمل عليه نظمه من بدائع المعاني بل يمره بلسانه مع قساوة
1. كان يصح هذا القول لو صح معناه، ولم يصح عند محققي علماء الفلك إلى اليوم على اتساعه أن حركات النجوم تدل على أحداث الأرض وما يقع فيها - فهذا التجويز من مجازفات ابن حجر الهيتمي فيما لا علم له به؛ ليقيد به الأحاديث الصحيحة في إبطال خرافات المنجمين وتحريمها – ولو نقل هذا عن شيخ الإسلام ابن تيمية لأقام عليه ابن حجر هذا التكبر وسبه عليه أقبح السب. وكتبه محمد رشيد رضا.
2 أبو داود: الأدب (4843) .
3 أحمد (5/250) .
قلبه وجفاوة لبه، فهو كحمار الرحى وثور الحراثة. ولسنا متعبدين بمجرد حفظه، وإنما المقصود الأعظم بإنزاله والتعبد بحفظ ألفاظه هو هداية القلوب، ورجوعها بالاستكانة والخضوع إلى علام الغيوب، وتنزهها عن كل خلق ذميم؛ وعمل دميم، فمن ظفر بذلك مع حفظه فقد ظفر بالكنز الأعظم.
ومن أخذ بالأول فقد أخذ من الكمال ما يستحق بسببه أن يكرم ويعظم، ومن قنع بحفظ ألفاظه وخلا عن تلك المعاني بأن غلا وتجافى فهو بعيد عن الكمال، غير مستحق أن يبلغ به مبالغ الكُّمَّل من الرجال، فهذا -والله أعلم- هو المراد من الحديث. ويؤيد ما ذكرته ما روى أحمد وأبو يعلى والطبراني والبيهقي:"اقرؤوا القرآن واعملوا به، ولا تجفوا عنه ولا تغلوا فيه، ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به"1.
والمراد من المسح على رأس اليتيم حقيقته، كما بينه آخر الحديث:"من مسح على رأس يتيم ولم يمسح إلا لله، كان له بكل شعرة تمر عليها يده عشر حسنات، ومن أحسن في يتيم عنده كنت أنا وهو في الجنة كهاتين" 2 وقرن بين أصبعيه. وخص الرأس بذلك لأن في المسح عليه تعظيما لصاحبه، وشفقة عليه، ومحبة له، وجبرا لخاطره، وهذه كلها مع اليتيم تقتضي هذا الثواب الجزيل.
وأما الإحسان إليه فهو أعلى وأجل، وقد ذكر بعده فيه القرب منه صلى الله عليه وسلم في الجنة حتى يكون كالإصبعين، فهو أعظم من إعطاء حسنات بعدد شعر الرأس، وقد روى البيهقي أنه صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أردتَ أن يلين قلبك فأطعم المسكين، وامسح رأس اليتيم"3.
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ}
1 أحمد (3/428) .
2 أحمد (5/250) .
3 أحمد (2/263) .
(مسألة) في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ} 1.
(الجواب) : أن الرزق في اللغة: الحظ والنصيب، ومنه قوله تعالى:{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} 2 أي: تجعلون حظكم ونصيبكم من سماع القرآن تكذيبكم به وبمن أنزل عليه، وأما في عرف الشرع: فهو أخص من ذلك؛ إذ هو ما تخصص به الحيوان وتمكن من الانتفاع به. وقد يطلق على ما يعم النعم
الظاهرة والباطنة، ومن ثم قال جماعة من المفسرين وغيرهم:{وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} 3 يحتمل أن المراد الإنفاق من جميع ما منحهم الله تعالى به من النعم الظاهرة؛ إذ الإنفاق كما يكون من هذه، كذلك يكون من النعم الباطنة كالعلم والجاه، ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن أبي شيبة:"إن علما لا يقال – أي لا يُتَحَدَّثُ به – ككنز لا يُنْفَقُ منه"4.
وروى الطبراني مرفوعا: "مثل الذي يتعلم العلم ثم لا يتحدث به كمثل الذي يكنز الكنز ثم لا ينفق منه"5. وأما تناول الإنسان من الحرام يسمى رزقا كما دلت عليه الآيات والأحاديث.
الكلام في كرامات الأولياء
(مسألة) : كرامات الأولياء حق، فهل تنتهي إلى إحياء الموتى وغيرها من معجزات الأنبياء؟
(الجواب) : كرامات الأولياء حق عند أهل السنة والجماعة خلافا للمعتزلة، وقول الفخر الرازي: إن أبا إسحاق الأسفرايني أنكرها، مردود أيضا بأنه إنما أنكر منها ما كان معجزة لنبي كإحياء الموتى، لئلا تختلط الكرامة بالمعجزة. وغلط النووي كابن الصلاح بأنه ليس في كراماتهم معارضة للنبوة، لأن الولي إنما أعطي ذلك ببركة اتباعه للنبي صلى الله عليه وسلم، فلا تظهر حقيقة الكرامة عليه إلا إذا كان داعيا لاتباع النبي
1 سورة الروم آية: 40.
2 سورة الواقعة آية: 82.
3 سورة البقرة آية: 3.
4 الدارمي: المقدمة (555) .
5 الدارمي: المقدمة (555) .
صلى الله عليه وسلم، بريئا من كل بدعة وانحراف عن شريعته صلى الله عليه وسلم. فببركة اتباعه يؤيده الله –تعالى- بملائكته وبروح منه، ويقذف في قلبه من أنواره. والحاصل أن كرامة الولي من بعض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، لكن لعظم اتباعه له أظهر الله بعض خواص النبي صلى الله عليه وسلم على يدي وارثه ومتبعه في سائر حركاته وسكناته؛ وقد تنزلت الملائكة لاستماع قراءة أسيد.
وكان سلمان وأبو الدرداء يأكلان في صحفة فسبحت الصحفة وما فيها؛ ثم الصحيح أنهم ينتهون إلى إحياء الموتى خلافا لأبي القاسم القشيري. ومن ثم قال الزركشي: ما قاله ضعيف، والجمهور على خلافه، وقد أنكره عليه.
وفي شرح مسلم للنووي: تجوز الكرامات بخوارق العادات على اختلاف أنواعها؛ وخصها بعضهم بإجابة دعوة ونحوها، وهذا غلط من قائله، بل الصواب جريانها بانقلاب الأعيان ونحوه. انتهى.
وقد مات فرس بعض السلف في المنزل، فسأل الله إحياءه حتى يصل إلى بيته، فأحياه الله، فلما وصل إلى بيته قال لولده: خذ سرجه فإنه عارية1 عندنا فأخذ سرجه فخر ميتا. ولا ينافي إحياء الميت الواقع كرامة لله، لأن الأجل محتوم لا يزيد ولا ينقص لأن من أُحْيِيَ كرامةً، مات أولا بأجله، وحياته وقعت كرامة؛ وكون الميت لا يحيى إلا للبعث هذا عند عدم الكرامة، أما عندها فهو كإحيائه في القبر للسؤال كما صح به الخبر؛ وقد وقع للعزير وحماره، والذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم.
1 بياض بالأصل.
الرد على من ينكر الدعاء
(مسألة) : أنكر بعضهم الدعاء ب "اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي" محتجا بحديث: "فرغ ربك من ثلاث: رزقك، وأجلك، وشقي أو سعيد" فهل هو كذلك؟
(الجواب) : ليس الأمر كما زعم هذا المنكر، ويلزمه إبطال الدعاء من أصله، لأن كل ما سيقع لك قد فرغ منه. وبذلك قال بعض المبتدعة، فأبطلوا الدعاء من أصله، وقالوا: لا فائدة له؛ ورد عليهم أهل السنة وقالوا: له فائدة، وذلك أن المقدرات على قسمين: منها ما أُبْرِمَ وهو المُعَبَّرُ عنه بما في الكتاب الذي لا يقبل تغير ولا تبدل، ومنها ما علق على فعل شيء، وهو المعبر عنه باللوح المحفوظ القابل للتغيير والتبديل، وأصل ذلك قوله تعالى:{يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} 1.
فمن ذلك حديث: "صلة الرحم تزيد في العمر" 2 بناء على أن المراد بالزيادة حقيقتها لا مجازها الذي هو البركة، بأن يتيسر له في العمر القصير ما لا يتيسر لغيره في العمر الطويل، وإن قال بهذا جمع. وكذلك الدعاء قد يكون المدعو به معلقا على الدعاء، فكان للدعاء فائدة أيّ فائدة على أن الدعاء لا يجتنب أبدا، لأنه إن كان بما علق على الدعاء فواضح وجود الفائدة فيه، وعليه يُحْمَل قوله –صلى الله عليه وسلم:"لا يرد القضاء إلا الدعاء"3. وإن كان بما لم يعلق على ذلك ففائدته الثواب، لأن الدعاء من العبادة، بل من أنهاها كما قال –صلى الله عليه وسلم: "الدعاء مخ العبادة" 4. وأيضا فيبدل الله الداعيَ بدل ما دعا به مما لم يُقَدِّر له ما هو أفضل منه، كما يليق بجوده وكرمه وسعة فضله.
ومن ثَمَّ أطلق تبارك وتعالى الاستجابة للدعاء ولم يقيدها بشيء فقال: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} 5، وقال:{أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} 6.
1 سورة الرعد آية: 39.
2 البخاري: الأدب (5985)، والترمذي: البر والصلة (1979) .
3 الترمذي: القدر (2139) .
4 الترمذي: الدعوات (3371) .
5 سورة غافر آية: 60.
6 سورة البقرة آية: 186.
ثم رأيت بعضهم أشار لبعض ذلك، فقال: لا ينكر الدعاء إلا كافر مكذب بالقرآن؛ لأن الله –تعالى- تَعَبَّدَ عبادَه في غير آية، ووعدهم بالاستجابة على ما سبق في علمه من أحد ثلاثة أشياء على ما ورد في الحديث: استجابة، أو ادخار، أو تكفير عنه.
أخوات سورة هود
(مسألة) : ما المراد بأخوات هود في حديث: "شيبتني هود وأخواتها" 1؟
(الجواب) : المراد بهن: الواقعة والمرسلات وعم والتكوير، رواه الترمذي والحاكم زاد الطبراني والحاقة وابن مردويه: وهل أتاك، وابن سعد: والقارعة، وسأل سائل، واقتربت الساعة.
قطع السدر
(مسألة) في حديث: "من قطع سدرة صَوَّبَ الله رأسه في النار" 2 من رواه؟
(الجواب) : رواه كثيرون، وصححه أيضا في المختارة، والأحاديث فيه كثيرة، وهي مؤولة عند العلماء؛ لإجماعهم على جواز قطعه. قال بعض السلف: محلها سدر الحرم، وقال أبو داود: وفي قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل والبهائم عبثا وظلما بغير حق.
(مسألة) : هل يطلق الإسلام على سائر الأمم السابقة عين حقيقتها أو يختص بهذه الأمة؟
(الجواب) : رجح ابن الصلاح الأول، وسيأتي ما يصرح به من لفظ القرآن. ورجح غيره الثاني، وهو أن لا يوصف به من الأمم السابقة إلا الأنبياء فقط، وشرفت هذه الأمة بأن وُصفت بما وُصف به الأنبياء تشريفا وتكريما.
(مسألة) : ما عدد الأنبياء والرسل؟
1 الترمذي: تفسير القرآن (3297) .
2 أبو داود: الأدب (5239) .
(الجواب) : روى الطبراني بسند رجاله الصحيح أن رجلا قال: "يا رسول الله، أنبيٌّ آدم؟ قال: نعم. قال: كم بينه وبين نوح؟ قال: عشرة قرون. قال: كم بين نوح وإبراهيم؟ قال: عشرة قرون. قال: يا رسول الله، كم كانت الرسل؟ قال: ثلاثمائة وخمسة عشر"، وخرَّج ابن حبان والحاكم في صحيحه عن أبي ذر قلت:"يا رسول الله، كم الأنبياء؟ قال مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألفا قلت: يا رسول الله، كم الرسل؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جَمٌّ غفير"1. ولا ينافي ذلك قوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} 2 لأن هذا إما إخبار عما قص الله أو أنه قص عليه الكل بعد نزول تلك الآية. وبه يجاب أيضا عن التخالف بين الروايتين فيحمل أنه قص عليه أولا ثلاثمائة وثلاثة عشر، ثم ثانيا ثلاثمائة وخمسة عشر، فأخبر عن كلٍّ بما قص عليه وقت الإخبار به.
(مسألة) : ما المعتمد في الخضر هل هو نبي حي؟ وكذا إلياس، أفتونا؟
(الجواب) : حياتهما ونبوتهما، وأنهما خُصا بذلك في الأرض، كما خُص إدريس وعيسى –صلى الله عليهما وسلم- ببقائهما حيين في السماء.
(مسألة) : كم بين عيسى وموسى، وبين عيسى ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم؟
(الجواب) : الأول ألف وتسعمائة سنة، والثاني نحو ستمائة على الأشهر.
(مسألة) : الطفل هل يحشر على صورته، وهل يتزوج الحور؟
(الجواب) : الطفل يكون في الحشر على صورة خلقته، ثم عند دخول الجنة يزاد فيه حتى يكون كالبالغ، ثم يتزوج من نساء الدنيا ومن الحور.
(مسألة) : حديث: (يدخل أهل الجنة الجنة مُردا مُكحلين وأبناء ثلاث
1 أحمد (5/265) .
2 سورة غافر آية: 78.
وثلاثين على خلق آدم سبعون ذراعا في عرض سبعة) ، مَنْ رواه؟
(الجواب) : رواه أحمد وابن أبي الدنيا والطبراني في الأوسط.
(مسألة) : من أين يخرج المهدي؟
(الجواب) : ثبت في أحاديث أنه يخرج من قِبَل المشرق، وأنه يُبايع له بمكة بين الركن والمقام، وأنه يسكن بيت المقدس.
(مسألة) : كم يقيم عيسى عليه السلام بعد نزوله؟
(الجواب) : يقيم سبع سنين كما صح في مسلم، ولا ينافيه حديث الطيالسي أنه يقيم أربعين سنة، لأن المراد مجموع لبثه في الأرض قبل الرفع وبعده؛ لأنه رفع وسنه ثلاث وثلاثين سنة.
(مسألة) : ما الفرق بين الشبيه والمثيل والنظير؟
(الجواب) الثلاثة متحدة لغة، وأما اصطلاحا: فظاهر قول شراح العقائد عن الأشعرية: المماثلة إنما أثبتت عندهم بالاشتراك في جميع الأوصاف؛ فإن المثل أخصها؛ لأن المماثلة تستلزم المشابهة وزيادة، والشبيه أعم من المثيل وأخص من النظير. والنظير أعم من الشبيه؛ إذ المشابهة لا تستلزم المماثلة فقد يكون شبيه الشيء غير مماثل له، والنظير قد لا يكون مشابها. والحاصل أن المماثلة تقتضي المساواة من كل وجه، والمشابهة تقتضي ذلك في الأكثر؛ والمناظرة تكفي ذلك في وجه.
(مسألة) : هل ورد مشروعية التكبير أواخر قصار المفصل؟ وهل هو خاص في حق غير المصلي؟
(الجواب) : حديث التكبير ورد من طرق كثيرة عن أحمد بن أبي بريدة البزي، قال: سمعت عكرمة بن سليمان يقول: قرأت على إسماعيل
ابن عبد الله بن قسطنطين فلما بلغت والضحى، قال لي: كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم، وأخبره أنه قرأ على مجاهد فأمره بذلك، وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك، وأخبره ابن عباس أن أبي بن كعب أمره بذلك، وأخبره أبيُّ أن النبي –صلى الله عليه وسلم أمره بذلك، وقد أخرجه الحاكم في صحيحه عن البزي، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه. انتهى.
قال الشافعي رحمه الله: إن تركت التكبيرَ تركت سنة. قال الحافظ العماد ابن كثير: وهذا من الشافعي يقتضي صحة هذا الحديث. ومما يقتضي صحته أيضا: أن أحمد بن حنبل رواه، وقد كان أحمد يجتنب المنكرات، فلو كان منكرا ما رواه. وقد صح عند أهل مكة: فقهائهم وعلمائهم ومن روى عنهم، وصحته استفاضت وانتشرت حتى بلغت حد التواتر.
واختلفوا في ابتدائه فقيل: من أول سورة الضحى، والجمهور على أنه من أول سورة ألم نشرح إلى آخر الناس، ولا فرق في ندب التكبير بين المصلي وغيره؛ فهو سنة حتى في الصلاة، كما نص عليه الشافعي وشيخه سفيان بن عيينة وابن جريج وغيرهم، ونقله جماعة من أئمتنا، وأفتوا به مَنْ يعمل به في صلاة التراويح، وأنكروا على من أنكر ذلك. وقال الحليمي: نكتة التكبير تشبيه القرآن بصوم رمضان إذا تمت عدته يكبر، فكذا هنا يكبر إذا كمل عدة السور، قال: وصفته: أن يقف بعد كل سورة ويقول: الله أكبر. قال سليمان الرازي: ومن لا يكبر من القراء فحجتهم في ذلك: سد الذريعة عن الزيادة في القرآن بأن يداوم عليها فَيُتَوهم أنها منه.
(مسألة) : ما معنى لعن المسلم كقتله؟
(الجواب) : أنه كقتله في الحرمة الشديدة، لأن لعن المسلم حرام؛ بل
لعن الحيوان كذلك؛ وسبب ذلك: أن اللعن عبارة عن الطرد والإبعاد عن الله، وذلك غير جائز إلا مَنْ اتصف بصفة يبعده عن الله –تعالى- وهو الكفر والبدعة والفسوق، فيجوز لعن المتصف بواحدة من هذا باعتبار الوصف الأعم، نحو: لعنة الله على الكافرين والمبتدعة والفسقة، والوصف الأخص نحو: لعن الله اليهود والخوارج والقدرية والروافض والزناة والظلمة وآكلي الربا، وأما المُعَيَّنُ فإن كان حيا لم يجز مطلقا إلا إن علم أنه يموت على الكفر كإبليس، وإن لم يعلم موته على الكفر لم يجز لعنه، وإن كان كافرا في الحال؛ لأنه ربما يسلم فيموت مقربا عند الله –تعالى- فكيف يُحكم بكونه ملعونا مطرودا.
نعم يجوز أن يقال: لعنه الله إن مات كافرا، وكذا قال في فاسق ومبتدع معين، إن مات ولم يتب، ومن ثم لم يجز لعنُ يزيد بن معاوية. وتشبيه لعن المؤمن بقتله إنما هو في أصل التحريم، أو لكون كل منهما كبيرة، وليس بلازم في المشبه أن يعطى حكم المشبه به من كل وجه. والله أعلم.
(مسألة) : في قوله في حديث ابن عباس الذي رواه البخاري في حديث القبرين: "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير" 1، ثم قال:"بلى إنه كبير"، وفيه:"ثم دعا بجريدة فكسرها كسرتين فوضع على كل قبر منهما كسرة. فقيل: يا رسول الله، لِمَ فعلتَ هذا؟ فقال: لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا" 2، ما الحكمة في ذلك؟ وهل لكل أحد أن يفعل ذلك في أيّ قبر؟ وهل المعذبان مسلمان أو كافران؟
(الجواب) : قوله: وما يعذبان في كبير) ثم قال: بلى أي: يعذبان في كبير، والجمع بينهما: أي ليس بكبير عندكم، ولكنه كبير عند الله كما في قوله تعالى:{وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} 3. والمراد بقوله: وما يعذبان في كبير) ، أي: في أمر كان يكبر ويشق عليهما الاحتراز منه؛ إذ لا مشقة في
1 البخاري: الوضوء (216) والجنائز (1361،1378) والأدب (6052،6055)، ومسلم: الطهارة (292)، والترمذي: الطهارة (70)، والنسائي: الطهارة (31) والجنائز (2068)، وأبو داود: الطهارة (20)، وابن ماجه: الطهارة وسننها (347) ، وأحمد (1/225)، والدارمي: الطهارة (739) .
2 البخاري: الوضوء (216)، ومسلم: الطهارة (292)، والترمذي: الطهارة (70)، والنسائي: الطهارة (31) والجنائز (2068)، وابن ماجه: الطهارة وسننها (347) ، وأحمد (1/225)، والدارمي: الطهارة (739) .
3 سورة النور آية: 15.
التنزه عن البول والنميمة، وليس المراد أن ذلك ليس بكبير في أمر الدين؛ بل هو محمول على أنه سأل الشفاعة لهما؛ فأجيب شفاعته بأن يخفف عنهما إلى أن ييبسا، وليس لليابس تسبيح وقوله:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} 1 أيُّ شيءٍ حي؛ وحياة كل شيء بحسبه ما لم ييبس، والحجر ما لم يقطع.
والجمهور أن هذا التسبيح على عمومه: إما حقيقة، وهو قول المحققين إذ العقل لا يحيله، أو أنه بلسان الحال باعتبار دلالته على الصانع.
وأما المعذبان فإنهما مسلمان؛ إذ الكافر لا يسأل له النبي –صلى الله عليه وسلم الشفاعة. وتقدم عن العلماء أنه محمول عندهم على أنه سأل الشفاعة لهما فأجيب. وقوله: وهل لكل أحد أن يفعل ذلك؟ فيقال: نعم يسن فعل ذلك لكل أحد اتباعا له –صلى الله عليه وسلم فإن الأصل في أفعاله –صلى الله عليه وسلم التأسي إلا ما دل دليل على الخصوصية، ولا دليل هنا، والله أعلم.
ابن صياد هو الدجال أو غيره
(مسألة) : ابن صياد هل هو الدجال أو غيره؟
(الجواب) : اختلف في ذلك الصحابة –رضوان الله عليهم- فكثير منهم قالوا: إنه هو، وكان بعضهم يحلف على ذلك كجابر بن عبد الله وعمر بن الخطاب وابنه عبد الله. وقال الآخرون: إنه غيره، وهو الأشهر، وعليه يدل صريحا ما في حديث مسلم الطويل، حديث الجساسة المنعوت فيه الدجال بأوصاف لا تنطبق على ابن صياد، منها: أنه مسلسل في جزيرة من جزائر البحرين؛ وابن صياد إذ ذاك بالمدينة، على أنه ورد أنه أسلم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تزوج وولد له. وأما ما ورد أيضا أنه فُقِدَ ولم يُدْرَ أين ذهب، فهذا لا يدل على أنه الدجال كما هو ظاهر، والله أعلم. آخر مسائل ابن حجر، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
1 سورة الإسراء آية: 44.
البيع على البيع والشراء على الشراء
بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
(المسألة الأولى) : من قال لمن اشترى بعشرة: أنا أعطيك مثلها بتسعة، أو قال لمن باع سلعة بتسعة: عندي فيها عشرة، ليفسخ البيع ويعقد معه.
فهذه المسألة لها صور: فإن الأولى تسمى: بيع الرجل على بيع أخيه، والصورة الثانية: الشراء على شراء أخيه، وفعله حرام؛ ويتصور ذلك في خيار المجلس، وخيار الشرط وهو محرم؛ لقول النبي –صلى الله عليه وسلم:"ولا يبع بعضكم على بيع بعض"1.
ومثله أن يقول: أبيعك خيرا منها بثمنها، أو يعرض عليه سلعة يرغب فيها المشتري؛ ليفسخ البيع؛ ويعقد معه؛ فلا يجوز ذلك، للنهي عنه، ولما فيه من الإضرار بالمسلم والإفساد عليه؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى أن يخطب الرجل على خطبة أخيه" 2 متفق عليه. وهذا في معنى الخاطب فإن خالف وفعل: فالبيع الثاني باطل، للنهي عنه؛ والنهي يقتضي الفساد.
وفيه وجه آخر أنه يصح لأن المُحَرَّم هو عرض سلعته على المشتري، وذلك سابق على البيع ولأن النهي لحق آدمي فأشبه بيع النجش؛ وهذا مذهب أحمد. وقال الشيخ تقي الدين: يحرم الشراء على شراء أخيه، فإن فعل كان للمشتري الأول مطالبة البائع بالسلعة وأخذ عوضها.
اشتراط المشتري على البائع شرطين
(وأما المسألة الثانية) : وهي إذا اشترط المشتري على البائع شرطين: كحمل الحطب، وتكسيره: فهذه المسألة فيها قولان للعلماء هما روايتان عن أحمد: أحدهما: أن ذلك لا يجوز، وهو قول الشافعي وأصحاب الرأي،
1 البخاري: البيوع (2150)، ومسلم: النكاح (1413) والبيوع (1515)، والترمذي: النكاح (1134)، والنسائي: البيوع (4496)، وأبو داود: البيوع (3443)، وابن ماجه: التجارات (2172) ، وأحمد (2/311،2/360) .
2 البخاري: النكاح (5142)، ومسلم: النكاح (1412)، والترمذي: البيوع (1292)، والنسائي: النكاح (3243)، وأبو داود: النكاح (2081) ، وأحمد (2/21)، ومالك: النكاح (1112)، والدارمي: النكاح (2176) .
وعن أحمد أن ذلك جائز، وهو اختيار الشيخ تقي الدين، واحتج من أبطل ذلك بما روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا يحل سلف وبيع، ولا شرطان في بيع. ولا تَبِعْ ما ليس عندك" 1 أخرجه أبو داود والترمذي. وقال: حديث حسن صحيح.
واختلف أهل العلم في تفسير الشرطين المنهي عنهما، فروي عن أحمد: أنهما شرطان صحيحان ليسا من مصلحة العقد، فحكى ابن المنذر عنه وعن إسحاق فيمن اشترى ثوبا وشرط على البائع خياطته وقصارته، أو طعاما واشترط طحنه وحمله؛ إن شرط أحد هذه الأشياء فالبيع جائز.
وإن شرط شرطين: فالبيع باطل. وكذلك فسر القاضي الشرطين المبطلين بنحو هذا التفسير، وكذلك روي عن أحمد أنه فسر الشرطين أن يشتريها على أنه لا يبيعها لأحد، ولا يطأها، ففسره بشرطين فاسدين. ومحل الخلاف إذا لم يكونا من مصلحة العقد، فأما إن كانا من مصلحة العقد كالشرط والرهن والضمين: فإن ذلك يصح، اختاره الموفق والشارح والمجد وغيرهم من العلماء.
اشترى سلعة فوجدها معيبة
(وأما المسألة الثالثة) : وهي إذا اشترى سلعة فوجدها معيبة، فقال البائع: العيب حدث عند المشتري، وقال المشتري: هي معيبة قبل الشراء، ولا بينة لهما: هذه المسألة فيها روايتان عن أحمد:
إحداهما: أن القول قول البائع مع يمينه، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك، لأن الأصل سلامة البيع، وصحة العقد، ولأن المشتري يدعي أنه يستحق فسخ المبيع، والبائع ينكره؛ والقول قول المنكر.
والرواية الثانية: أن القولَ قولُ المشتري مع يمينه، فيحلف بالله أنه اشتراه وبه هذا العيب، أو أنه ما حدث عنده ويكون له الخيار؛ اختارها
1 الترمذي: البيوع (1234)، والنسائي: البيوع (4611) ، وأحمد (2/174،2/205)، والدارمي: البيوع (2560) .
الخرقي لأن الأصل عدم القبض في الجزء الفائت، واستحقاق ما يقابله من الثمن. والقول الأول أظهر، والله أعلم.
قال في الإنصاف: ومحل الخلاف إذا لم يخرج عن يده، فإن خرج عن يده إلى غيره، لم يجز له رده، نقله مهنا، واقتصر عليه في الفروع، والله أعلم.
معنى بيع الدين بالدين
(أما المسألة الرابعة) : وهو ما معنى بيع الدين بالدين؟ فله صور كثيرة: منها: بيع ما في الذمة حالّ من عروض وأثمان بثمن إلى أجل ممن هو عليه.
ومنها: جعل رأس مال السلم دينا، فإذا جعل الثمن دينا كان بيع دين بدين، ولا يصح بالإجماع، واختار الشيخ تقي الدين جواز ذلك، وكذلك ذكر ابن القيم في إعلام الموقعين، وادعى أنه ليس في ذلك إجماع.
ومنها: لو كان لكل واحد من الاثنين دين على صاحبه من غير جنسه كالذهب والفضة، وتصارفا لم يحضرا شيئا: فإنه لا يجوز سواء كانا حالَّين أو مؤجلين، نص عليه أحمد فيما إذا كانا نقدين، واختار الشيخ تقي الدين الجواز.
ومنها لو كان لرجلين دين على رجلين من ذهب أو فضة وتبايعا ذلك، وصار غريم زيد عن غريم لعمرو، وغريم عمرو بما لزيد؛ وذلك لا يجوز بغير خلاف.
تشقق الثمر ثم بيع النخل
(وأما المسألة الخامسة) : وهي إذا باع نخلا قد تشقق طلعه ولم يشترط المشتري الثمرة، ثم تنازعا بعد ذلك في الثمرة، فأكثر أهل العلم على أن الثمر إذا تشقق، ثم بيع النخل بعد ذلك، ولم يشترط المشتري الثمرة، فإنها تكون للبائع، سواء أُبِّرَتْ أو لم تُؤَبَّرْ.
وبالغ الموفق –رحمه الله في ذلك وقال: لا خلاف فيه بين العلماء، وعن أحمد رواية ثالثة؛ وهو أن الحكم منوط بالتأبير، وهو التلقيح، لا بالتشقق؛ فعليها لو تشقق ولم يؤبر تكون الثمرة للمشتري؛ ونصر هذه الرواية الشيخ تقي الدين واختارها في الفائق. وأما قبل
التشقق فهي للمشتري، وبه قال مالك والليث والشافعي، وقال ابن أبي ليلى: هي للمشتري في الحالين؛ وقال أبو حنيفة والأوزاعي: هي للبائع في الحالين.
ووجه الأول: ما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ابتاع نخلا بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع" 1 وهذا صريح في قول ابن أبي ليلى، وحجة على أبي حنيفة والأوزاعي بمفهومه؛ لأنه جعل التأبير حدا لملك البائع للثمرة فيكون ما قبله للمشتري؛ وإلا لم يكن حدا؛ ولا كان التأبير مفيدا.
أسلم في ثمرة بستان بعينه ست سنين
(وأما المسألة السادسة) : وهي من أسلم في ثمرة نخل بعينه ست سنين، أيصح ذلك أم لا؟
فالسلم، والحالة هذه، باطل، قال ابن المنذر: إبطال السلم إذا أسلم في ثمرة بستان بعينه كالإجماع من أهل العلم؛ وممن حفظنا ذلك عنه: الثوري ومالك والأوزاعي والشافعي وإسحاق وأصحاب الرأي، قال: وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أسلم إليه رجل من اليهود دنانير في تمر مسمى، قال اليهودي: من تمر حائط بني فلان؛ فقال النبي –صلى الله عليه وسلم: "أما من تمر حائط بني فلان فلا، ولكن كيل مسمى إلى أجل مسمى" 2 رواه ابن ماجه وغيره ورواه الجوزجاني في المترجم. وقال: أجمع الناس على الكراهة لهذا البيع.
سَبلَ في أرض نقدا معلوما ثم امتنعت المعاملة به
(وأما المسألة السابعة) : وهي إذا سَبلَ في أرض نقدا معلوما ثم امتنعت المعاملة به، ما الحكم في ذلك؟ فهذه المسألة نظيرة القرض إذا اقترضه فلوسا فحرمها السلطان، فذكر أهل العلم: أن له القيمة وقت القرض، حتى أن الشيخ تقي الدين –رحمه الله طرد ذلك في الديون كالصداق وعوض الخلع والغصب والصلح، فإذا اقترضه فلوسا أو باعه بها، ونحو ذلك ثم
1 البخاري: المساقاة (2379) والشروط (2716)، ومسلم: البيوع (1543)، والترمذي: البيوع (1244)، والنسائي: البيوع (4636)، وأبو داود: البيوع (3433)، وابن ماجه: التجارات (2210،2211) ، وأحمد (2/9،2/63)، ومالك: البيوع (1302) .
2 ابن ماجه: التجارات (2281) .
حرمها السلطان، وتُرِكَتْ المعاملة بها بعد ذلك، فإنه يرجع بقيمتها على من هي عليه، فهذه المسألة مثلها؛ فإذا جعل الواقف نقدا معلوما في أرض ونحوها، ثم حرمه السلطان وتركت المعاملة به، جعل بدله مكانه قيمة تلك الفلوس قبل كسادها.
اختلاف الراهن والمرتهن في قدر الدين
(وأما المسألة الثامنة) : وهي إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الدين، فقال الراهن: الرهن في ثمانية، وقال المرتهن: في عشرة؛ ولا بينة لهما، فقد اختلف العلماء –رحمهم الله في ذلك: فقال مالك: القول قول المرتهن ما لم يدع أكثر من ثمن الرهن أو قيمته.
وحكي ذلك عن الحسن وقتادة، واختاره الشيخ تقي الدين وابن القيم، قالوا: لأن الله سبحانه جعل الرهن بدلا من الكتابة والشهود التي تنطق بالحق، فلو لم يقبل قول المرتهن في ذلك بطلت التوثقة من الرهن به، وادعى الراهن أنه رهنه على أقل شيء: فلم يكن في الرهن فائدة. ولأن الله أمر بكتابة الدين، وأمر بإشهاد الشهود، ثم أمر بعد ذلك بما تحفظ به الحقوق عند عدم القدرة على الكتابة والشهود وهو السفر في الغالب فقال تعالى:{وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِباً فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} 1 فدل ذلك دلالة بينة أن الرهن قائم مقام الكتابة، والشهود شاهدٌ مخبرٌ بالحق، كما يخبر الكتاب والشهود، فلو لم يقبل قول المرتهن على الراهن في قدر الدين، لم يكن الرهن وثيقة ولا حافظا لدينه؛ ولا بد من الكتابة والشهود، فإن الراهن يتمكن من أخذه منه، ويقول: إنما رهنته على درهم ونحوه. وهذا القول هو أرجح القولين.
والقول الثاني: أن القول قول الراهن، وبه قال النخعي والثوري والشافعي والبتي وأبو ثور وأصحاب الرأي، قالوا: لأن الراهن منكر للزيادة التي يدعيها المرتهن،
1 سورة البقرة آية: 283.
والقول قول المنكر، لقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم:"لو يُعْطَى الناس بدعواهم لأخذ قوم دماء رجال وأموالهم، ولكن اليمين على المدعى عليه" 1 رواه مسلم. وفي الحديث الآخر: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" 2؛ ولأن الأصل براءة الذمة من الزائد، فكان القول قول من ينفيه كما اختلفا في قدر الدين.
ضمان المجهول
(وأما المسألة التاسعة) : وهي ضمان المجهول كمن ضمن على إنسان دينا لا يعلم قدره، ثم علم ذلك، فالصحيح في هذه المسألة صحة ذلك، وهو قول أبي حنيفة وأحمد، وهو اختيار الشيخ ابن القيم لقول الله تعالى:{وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} 3 وحمل البعير غير معلوم بل يختلف باختلافه، ولعموم قوله عليه السلام:"الزعيم غارم" 4 ولأنه التزام حق في الذمة من غير مفاوضة؛ فصح في المجهول كالنذر. وقال الثوري والليث وابن أبي ليلى والشافعي وابن المنذر: لا يصح، لأنه التزام؛ فلم يصح مجهولا كالثمن.
ضمان الوكيل فيما خالف فيه موكله
(وأما المسألة العاشرة) : وهي من وكل رجلا في بيع سلعة بعشرة، فباعها بثمانية، ووكله في شراء سلعة بثمانية، فاشتراها بعشرة ما الحكم في ذلك؟ فهذه المسألة فيها قولان للعلماء: هما روايتان عن أحمد: إحداهما) : أن حكمه حكم من لم يؤذن له في البيع؛ فيكون تصرفه كتصرف الأجنبي فلا يصح البيع؛ وهذا قول أكثر أهل العلم؛ واختاره الموفق رحمه الله قال في الشرح: وهو أقيس، لأنه بيع غير مأذون فيه أشبه بيع الأجنبي، وكل تصرف كان الوكيل فيه مخالفا لموكله، فحكمه حكم تصرف الأجنبي. والرواية الثانية) : أن البيع صحيح ويضمن الوكيل النقص، لأنه من صح بيعه بثمن المثل صح بدونه، كالمريض. قال في الاختيارات: قال في المحرر:
1 البخاري: تفسير القرآن (4552)، ومسلم: الأقضية (1711)، والنسائي: آداب القضاة (5425)، وابن ماجه: الأحكام (2321) ، وأحمد (1/363) .
2 الترمذي: الأحكام (1341) .
3 سورة يوسف آية: 72.
4 الترمذي: البيوع (1265)، وأبو داود: البيوع (3565)، وابن ماجه: الأحكام (2405) .
وإذا اشترى المضارب أو الوكيل بأكثر من ثمن المثل صح ولزم النقص أو الزيادة، نص عليه. قال أبو العباس: وكذلك الشريك والوصي والناظر على الوقف وبيت المال ونحو ذلك.
قال: وهذا ظاهر فيما إذا فرَّط، وأما إذا احتاط في البيع والشراء ثم ظهر غبن أو عيب لم يقصر فيه، فهذا مغرور يشبه خطأ الإمام والحاكم، وأبين من هذا الناظر والوصي والإمام إذا باع أو آجر أو زارع ثم تبين أنه بدون القيمة بعد الاجتهاد ثم تبين أن المصلحة كانت في خلافه؛ وهذا باب واسع. ولكن الشريك والمضارب: فإن عامة من يتصرف لغيره بوكالة أو ولاية قد يجتهد ثم يظهر فوات المصلحة أو حصول المفسدة، لا لوم عليه فيها، وتضمين مثل هذا فيه نظر.
وقال أبو حفص في المجموع: وإذا سمى له ثمنا فنقص منه، فنص الإمام أحمد في رواية منصور: إذا أمر رجلا أن يبيع له شيئا فباع بأقل، قال: البيع جائز وهو ضامن.
قال أبو العباس: لعله لم يقبل قولهما على المشتري في تقدير الثمن، لأنهما يدعيان فساد العقد؛ وهو يدعي صحته، فكان القول قوله، ويضمن الوكيل النقص. انتهى في الاختيارات ملخصا.
الاختلاف في قسمة ربح المضاربة
(وأما المسألة الحادية عشر) : وهي إذا دفع إلى إنسان مالا مضاربة فاشترط لأحدهما ثلث الربع، وللآخر الثلثين؛ ثم اختلف العامل ورب المال فيمن له الثلث ولا بينة لهما؛ فقال في الشرح: إذا اختلفا فيما شرطا للعامل ففيه روايتان:
(إحداهما) : القول قول رب المال؛ نص عليه أحمد في رواية منصور وسندي؛ وبه قال الثوري وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي وابن المنذر لأن رب المال منكر للزيادة التي ادعاها العامل؛ والقول قول المنكر، والرواية الثانية) : أن العامل إن ادعى أجرة المثل، وما يتغابن الناس به، فالقول قوله،
لأن الظاهر صدقه، وإن ادعى أكثر فالقول قول رب المال فيما زاد على أجرة المثل، كالزوجين إذا اختلفا في الصداق. وقال الشافعي: يتحالفان لأنهما اختلفا في عوض عقد فيتحالفان كالمتبايعين؛ ولنا قول النبي –صلى الله عليه وسلم: "ولكن اليمين على المدعى عليه" 1 ولأنه اختلاف في المضاربة فلم يتحالفا كسائر اختلافهما؛ والمتبايعان يرجعان إلى رؤوس أموالهم بخلاف ما نحن فيه.
أعطى ثوبه خياطا بلا عقد ثم اختلفا في قدر الأجرة
(وأما المسألة الثانية عشر) : وهي إذا أعطى ثوبه خياطا بلا عقد؛ ثم اختلفا في قدر الأجرة؛ فقال في الشرح: إذا دفع ثوبه إلى خياط ليخيطه أو قصار ليقصره من غير عقد ولا شرط ولا تعريض بأجرة؛ مثل أن يقول: خذ هذا فاعمله، وأنا أعلم أنك إنما تعمل بأجرة؛ وكان القصار والخياط منتصبين لذلك ففعلا ذلك، فلهما الأجرة لأن العرف الجاري بذلك يقوم مقام القول؛ فصار كعقد البلد، ولأن شاهد الحال يقتضيه فصار كالتعريض.
فأما إن لم يكونا منتصبين لذلك: لم يستحقا أجرة إلا بعقد أو شرط أو تعريض به؛ لأنه لم يجر عرف يقوم مقام العقد، فهو كما لو تبرع به. وفي المسألة قول آخر: له الأجرة مطلقا سواء كان منتصبا للعمل بأجرة أو لم يكن؛ قال في الإنصاف: وهو الصحيح من المذهب؛ وعليه كثير من الأصحاب.
اختلف المعير والمستعير في الدابة بعد مضي المدة
(وأما المسألة الثالثة عشر) : إذا اختلف المعير والمستعير في الدابة بعد مضي المدة؛ فقال المالك: أجرتك؛ وقال الآخر: أعرتني ولا بينة لهما؛ فقال في الشرح: إذا اختلف الراكب ورب الدابة، فقال المالك: هي عارية، وقال رب الدابة: أكريتكها، وكانت الدابة باقية لم تنقص، وكان الاختلاف عقيب العقد: فالقول قول الراكب؛ لأن الأصل عدم عقد الإجارة وطرد الدابة
1 البخاري: الرهن (2514)، ومسلم: الأقضية (1711)، والترمذي: الأحكام (1342)، والنسائي: آداب القضاة (5425)، وأبو داود: الأقضية (3619)، وابن ماجه: الأحكام (2321) ، وأحمد (1/342،1/363) .
إلى مالكها إذا كلف الراكب، لأن الأصل براءة ذمته منها.
وإن كان الاختلاف بعد مضي مدة لها أجرة: فالقول قول المالك فيما مضى من المدة دون ما بقي منها؛ وحكي ذلك عن مالك؛ وقال أصحاب الرأي: القول قول الراكب؛ وهو منصوص الشافعي لأنهما اتفقا على تلف المنافع على ملك الراكب، وادعى المالك، عوضا لها. والأصل عدم وجوبه وبراءة ذمة الراكب منه؛ فكان القول قوله.
ولنا أنهما اختلفا في كيفية انتقال المنافع إلى ملك الراكب، فكان القول قول المالك، كما لو اختلفا في عين فقال المالك: بعتكها، وقال الآخر: وهبتها؛ ولأن المنافع تجري مجرى الأعيان في الملك والعقد عليها، ولو اختلفا في الأعيان كان القول قول المالك كذا هنا، وما ذكروه يبطل بهذه المسألة فيحلف المالك وتُسْتَحَقُ الأجرة، والله -تعالى- أعلم.
غرس في أرض غيره بغير إذنه فطلب صاحب الأرض قلع غرسه
(وأما المسألة الرابعة عشر) : وهي إذا استولى على أرض غصب، وبنى فيها وغرس. ثم نازع المغصوب منه الغاصب بالقلع وأرش نقصها والتسوية والأجرة، فقال في الشرح: من غرس في أرض غيره بغير إذنه أو بنى فيها فطلب صاحب الأرض قلع غرسه وبناه لزم ذلك، ولا نعلم فيه خلافا، لما روى سعيد بن زيد أن النبي –صلى الله عليه وسلم قال:"ليس لعرق ظالم حق" 1 رواه الترمذي، وقال: حديث حسن..
وروى أبو داود وأبو عبيد في الحديث أنه قال: فلقد أخبرني الذي حدثني هذا الحديث "أن رجلا غرس في أرض رجل من الأنصار من بني بياضة، فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للرجل بأرضه، وقضى للآخر أن ينزع نخله"، قال: فلقد رأيتها يُضْرَبُ في أصولها بالفؤوس، وإنها لنخل عم، وإذا قلعها لزم التسوية الأرض ورد
1 الترمذي: الأحكام (1378)، وأبو داود: الخراج والإمارة والفيء (3073) .
الأرض إلى ما كانت عليه، لأنه ضرر حصل في ملك غيره بغير فعله، فلزمته إزالته، وعليه ضمان نقص الأرض إن نقصت بالغرس والبناء، وعليه أجرة المثل إلى وقت التسليم.
تفضيل بعض الأولاد في العطية
(وأما المسألة الخامسة عشر) : إذا فضل بعض أولاده بعطية مال، فمات قبل المواساة، فالكلام في هذه المسألة في مقامين:
المقام الأول: في جواز التفضيل؛ وعدمه، فمذهب الإمام أحمد رضي الله عنه أن ذلك لا يجوز إذا كان على سبيل الأثرة، فإن خص بعضهم بعطية أو فاضل بينهم أثم، إذا لم يختص بمعنى يبيح التفضيل؛ ووجبت عليه المساواة، إما برد الفاضل أو إعطاء الآخر، حتى يتم نصيبه.
وبهذا قال ابن المبارك، وروي معناه عن مجاهد وعروة، واختار هذا القول الشيخ تقي الدين. وذهب الإمام مالك والثوري والليث والشافعي وأصحاب الرأي إلى جواز التفضيل، وروي معنى ذلك عن شريح وجابر بن زيد والحسن بن صالح، لأن أبا بكر نحل عائشة جذاذ عشرين وسقا، دون سائر أولاده، واحتج الشافعي بقول النبي –صلى الله عليه وسلم في حديث النعمان بن بشير:"أشهد على هذا غيري" 1 فأمره بتأكيدها دون الرجوع. واحتج من ذهب إلى تحريم التفضيل بما في الصحيحين عن النعمان بن بشير: قال: "تصدق علي أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد عليها رسول الله –صلى الله عليه وسلم. فجاء بي إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم ليشهده على صدقتي، فقال: أكلّ ولدك أعطيته مثله؟ قال: لا. قال: فاتقوا الله، واعدلوا بين أولادكم" 2 قال: فرجع أبي، فرد تلك الصدقة. وفي لفظ قال:(فاردده) وفي لفظ: (فأرجعه) وفي لفظ: (فلا تشهدني
1 مسلم: الهبات (1623)، وأبو داود: البيوع (3542)، وابن ماجه: الأحكام (2375) ، وأحمد (4/270) .
2 البخاري: الهبة وفضلها والتحريض عليها (2587)، ومسلم: الهبات (1623)، والنسائي: النحل (3681،3682)، وأبو داود: البيوع (3542) ، وأحمد (4/269،4/270،4/276) .
على جور) ، وفي لفظ:(فأشهد على هذا غيري)، وفي لفظ:(سوّ بينهم) متفق عليه. وهو دليل على التحريم؛ لأنه سماه جورا، وأمره برده، وامتنع من الشهادة عليه؛ والجور حرام، والأمر يقتضي الوجوب ولأن تفضيل بعضهم يورث بينهم العداوة والبغضاء وقطيعة الرحم، فمنع منه، كتزويج المرأة على عمتها وخالتها.
وقول أبي بكر لا يعارض قول النبي صلى الله عليه وسلم ولا يحتج به، ويحتمل أن أبا بكر خصها لعجزها عن المكسب والتسبب، مع اختصاصها بفضلها، ولكونها أم المؤمنين، وغير ذلك من خصائصها، ويحتمل أن يكون نحلها، ونحل غيرها من ولده، أو يريد أن ينحل غيرها، فأدركه الموت قبل ذلك، ويتعين حمل حديثه على أحد هذه الوجوه، لأن التفضيل منهي عنه، وأبو بكر لا يفعل المنهي عنه مع علمه بذلك.
وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أشهد على هذا غيري" 1 فليس بأمر، وكيف يجوز أن يأمر بتأكيده مع أمره برده وتسميته إياه جورا؟ ولو أمره النبي –صلى الله عليه وسلم بإشهاد غيره لامتثل أمره، ولم يرده لكن قوله:" أشهد على هذا غيري" 2 تهديد، كقوله تعالى:{اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} 3. فأما إن خص بعضهم لمعنى يقتضي تخصيصه من حاجته أو زمان أو عمى أو كثرة عياله، أو لاشتغاله بالعلم، ومنع بعض ولده لفسقه أو بدعته، أو لكونه يعصي الله بما يأخذه ونحوه، فاختار الموفق جواز ذلك، واستدل له بحديث أبي بكر؛ ولأن بعضهم اختص بمعنى يقتضي العطية، فجاز أن يختص بها كما لو اختص بالقرابة، وأجاب عن حديث النعمان بأنه قضية في عين لا عموم لها. وقد روي عن أحمد ما يدل على جواز ذلك، فإنه قال في تخصيص
1 مسلم: الهبات (1623)، وأبو داود: البيوع (3542)، وابن ماجه: الأحكام (2375) ، وأحمد (4/270) .
2 مسلم: الهبات (1623)، وأبو داود: البيوع (3542)، وابن ماجه: الأحكام (2375) ، وأحمد (4/270) .
3 سورة فصلت آية: 40.
بعضهم بالوقف: لا بأس إذا كان لحاجة، وأكرهه إذا كان على سبيل الأثرة، والعطية في معنى الوقف. قال في الإنصاف: قلت: وهذا قوي جدا، ويحتمل أن يمنع من التفضيل بكل حال لحديث النعمان، لكون النبي –صلى الله عليه وسلم لم يستفصل بشيرا في عطيته.
وأما المقام الثاني: وهو إذا فضل أو خص بعضهم، ثم مات قبل الرجوع أو المواساة، فهل تثبت العطية للمعطى أو للباقين؟، فقد اختلفت الرواية في ذلك عن أحمد، فروي عنه أنها تثبت للمعطى، وليس لبقية الورثة الرجوع نص على ذلك في رواية محمد بن الحكم والميموني، واختاره الخلال، وصاحبه أبو بكر، وبه قال مالك والشافعي وأصحاب الرأي، وأكثر أهل العلم لقول أبي بكر لعائشة لما نحلها: وددت لو أنك حزتيه، فيدل على أنها لو حازته لم يكن لهم الرجوع.
وقال عمر: لا نحلة إلا نحلة يحوزها الولد دون الوالد، والرواية الأخرى: لباقي الورثة أن يرجعوا ما وهبه، اختاره أبو عبد الله ابن بطة وأبو حفص العكبريان، وابن عقيل والشيخ تقي الدين، وصاحب الفائق، وهو قول عروة بن الزبير وإسحاق، قال أحمد: عروة قد روى الأحاديث الثلاثة: حديث عائشة، وحديث عمر، وحديث عثمان، وتركها، وذهب إلى حديث النبي –صلى الله عليه وسلم ترد في حياة الرجل وبعد موته؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ذلك جورا بقوله لبشير:"لا تشهدني على جور" 1 والجور لا يحل للفاعل فعله، ولا للمعطى تناوله، والموت لا يغيره عن كونه جورا حراما، فيجب رده؛ ولأن أبا بكر، وعمر –رضي الله عنهما أمر قيس بن سعد برد قسمة أبيه حين ولد له، ولم يكن علم به، ولا أعطاه شيئا، وكان ذلك بعد موت سعد، فروى سعيد بإسناده أن سعد بن عبادة، قسم ماله بين أولاده
1 البخاري: الشهادات (2650)، ومسلم: الهبات (1623)، والنسائي: النحل (3681،3682،3683) .
وخرج إلى الشام، فمات بها، ثم ولد له بعد ذلك ولد، فمشى أبو بكر وعمر –رضي الله عنهما إلى قيس بن سعد فقالا: إن سعدا قسم ماله، ولم يدر ما يكون، وإنا نرى أن ترد هذه القسمة، فقال: لم أكن أغير شيئا صنعه سعد، ولكن نصيبي له.
مسائل في الرضاعة
(وأما المسألة السادسة عشر، والسابعة عشر، والثامنة عشر، والتاسعة عشر) : وهي مسائل الرضاعة، فهن حلال كلهن، وهو قول جمهور العلماء، فتباح أم المرتضع، وأخته من النسب لأبيه وأخيه من الرضاع، لأنهن في مقابلة من يحرم بالمصاهرة لا في مقابلة من يحرم من النسب.
والشارع صلى الله عليه وسلم إنما حرم من الرضاعة ما يحرم من النسب، لا ما يحرم بالمصاهرة، وتباح المرضعة وبنتها لأبي المرتضع وأخيه من النسب، وتباح أخت ابنه، وأم أخته من الرضاع، ويحرم من النسب؛ لأن أخت ابنه من النسب ربيبة، وأم أخته من النسب زوجة أبيه، فأخت ابنه، وأم أخته يحرمان من النسب، ويباحان من الرضاع.
شهادة الأخ لأخيه
(وأما المسألة العشرون) : وهي شهادة الأخ لأخيه، فهي جائزة، قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن شهادة الأخ لأخيه جائزة، وروي ذلك عن ابن الزبير، وبه قال شريح وعمر بن عبد العزيز والشعبي والنخعي ومالك والشافعي وأبو عبيد وإسحاق وأبو ثور وأصحاب الرأي، لأنه عدل غير متهم، فصحت شهادته لأخيه كالأجنبي، ولعموم الآيات، ولا يصح قياس الأخ على الوالد والولد؛ لأنهما بينهما بعضية وقرابة بخلاف الأخ.
وقد روي عن عمر بن الخطاب –رضي الله عنه أن شهادة كل من الوالد والولد للآخر مقبولة، وروي ذلك عن شريح، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وأبو ثور، والمزني وداود وإسحاق وابن المنذر لعموم الآيات،
ولأنه عدل تقبل شهادته في غير هذا الموضع، فتقبل فيه.
شهادة الوالد على ابنه وابن ابنه
(وأما المسألة الحادية والعشرون) : وهي شهادة الوالد على ابنه وابن ابنه، فهي مقبولة نص على ذلك الإمام أحمد، وهو قول عامة أهل العلم، وذلك لقول الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ} 1 فأمر بالشهادة، ولو لم تقبل لما أمر بها؛ ولأنها إنما ردت شهادته له في التهمة في إيصال النفع، ولا تهمة في شهادته عليه؛ فوجب أن تقبل كشهادة الأجنبي، بل أولى أن يتهم له، ولا يتهم عليه، فشهادته عليه له أبلغ في الصدق كشهادته على نفسه.
الشهادة بالاستفاضة والشهرة
(وأما المسألة الثانية والعشرون) : وهي الشهادة بالاستفاضة والشهرة، فهي صحيحة فيما يتعذر علمه في الغالب إلا بذلك كالنسب والموت والملك والنكاح والخلع والوقف ومصرفه والعتق والولاء والولاية والعزل، وما أشبه ذلك.
قال الخرقي: وما تظاهرت به الأخبار، واستقرت معرفته في قلبه شهد به، كالشهادة على النسب والولادة. وقد أجمع أهل العلم على صحة الشهادة بالنسب بالاستفاضة، وكذلك الشهادة بالاستفاضة في الجرح والتعديل، فما يجرح به الشاهد وغيره مما يقدح في عدالته ودينه، فإنه يشهد به إذا علمه الشاهد بالاستفاضة، ويكون ذلك قدحا شرعيا، قاله الشيخ تقي الدين، قال: وقد صرح بذلك طوائف الفقهاء من الشافعية، والمالكية، والحنبلية، وغيرهم في كتبهم الصغار والكبار، صرحوا فيما إذا جرح الرجل جرحا مفيدا أنه يجرح الجارح بما سمعه منه، أو رآه، أو استفاض، وما أعلم في هذا نزاعا بين المسلمين، فإن المسلمين كلهم يشهدون في مثل وقتنا، في مثل عمر بن عبد العزيز والحسن والبصري، وأمثالهما من العدل والدين، بما لم يعلموه إلا بالاستفاضة، ويشهدون في مثل الحجاج بن يوسف، والمختار بن عبيد، ونحوهم بالظلم والبدعة بما لم يعلموه
1 سورة النساء آية: 135.
إلا بالاستفاضة، قال: وهذا إذا كان المقصود تفسيقه لرد شهادته وولايته، وأما إذا كان المقصود التحذير منه، واتقاء شره فيكفي بما دون ذلك. انتهى.
ما تجوز الشهادة عليه بالاستفاضة
وقد اختلف أهل العلم فيما تجوز الشهادة عليه بالاستفاضة غير النسب والولادة، فقال بعضهم: هو تسعة أشياء: النكاح والوقف ومصرفه والموت والعتق والولاء والولاية والعزل.
وقال أبو حنيفة: لا تقبل إلا في النكاح والموت، ولا تقبل في الملك المطلق. ونص الإمام أحمد على ثبوت الشهادة بالاستفاضة في الخلع والطلاق. والصحيح من مذهب الشافعي: جواز الشهادة بالاستفاضة في النكاح والنسب وولاية القضاء والملك والعتق والوقف والولاء. واقتصر جماعة من أصحاب أحمد، منهم: القاضي في الجامع، والشريف وأبو الخطاب في خلافيهما، وابن عقيل في التذكرة، والشيرازي، وابن البنا على النسب والموت والملك المطلق والنكاح والوقف والعتق والولاء، قال في الفروع: ولعله الأشهر. قال في العمدة: ولا يجوز ذلك في حد ولا قصاص، قال في الفروع: فظاهر الاقتصار عليهما، وهو أظهر. اه.
قال في عمدة الأدلة: تعليل أصحابنا بأن جهات الملك تختلف، تعليل يوجد في الدين، فقياس قولهم يقتضي أن يثبت الدين بالاستفاضة، قال في الإنصاف: قلت: وليس ببعيد. آخر الجواب، والحمد لله رب العالمين.
أخَّر قضاء رمضان مع إمكان القضاء، فمات قبل أن يقضي
(فائدة) : إذا أخر قضاء رمضان مع إمكان القضاء، فمات قبل أن يقضي، وقبل أن يدركه رمضان آخر، أطعم عنه لكل يوم مسكينا، وهذا
قول أكثر أهل العلم. وروي ذلك عن عائشة، وابن عباس، وبه قال مالك والليث والأوزاعي والثوري والشافعي وابن علية وأبو عبيد في الصحيح عنهم لما روى ابن ماجه عن ابن عمر مرفوعا:"من مات وعليه صيام شهر، فليطعم عنه لكل يوم مسكينا" 1 رواه الترمذي، وقال الصحيح عن ابن عمر موقوفا.
وعن عائشة – أيضا- قالت: "يطعم عنه في قضاء رمضان ولا يصام".
وعن ابن عباس: أنه سئل عن رجل مات، وعليه نذر بصوم شهر، وعليه صوم رمضان. قال: أما رمضان، فيطعم عنه، وأما النذر فيصام عنه. رواه الأثرم، وحمل هؤلاء الحديث الذي في الصحيحين عن عائشة أنه في النذر، بدليل أن عائشة هي التي روت الحديث، وقد قالت: يطعم عنه في قضاء رمضان ولا يصام.
والقول الثاني: أنه يصام عنه، وهو قول أبي ثور، والشافعي، قال في الفروع: ومال صاحب النظم إلى صوم رمضان عن الميت بعد موته، فقال: لو قيل: لم أبعد، فعلى هذا الظاهر أن المراد: ولا يطعم كقول طاووس، وقتادة، ورواية عن الحسن والزهري، والشافعي في القديم وأبو ثور وداود. انتهى.
وقال في الفائق: ولو أخره لا لعذر، فتوفي قبل رمضان آخر، أطعم عنه لكل يوم مسكينا، والمختار الصيام عنه. انتهى.
وقال ابن عبدوس في تذكرته: ويصح قضاء نذر. قلت: وفرض عن الميت مطلقا كاعتكاف. انتهى.
وقال الشيخ تقي الدين: إن تبرع بصومه عمن لا يطيقه للكبر ونحوه، أو عن ميت، وهما معسران، توجه جوازه لأنه أقرب إلى المماثلة من المال. انتهى.
واستدل من قال: يصام عنه بما في الصحيحين عن عائشة، أن النبي
1 الترمذي: الصوم (718)، وابن ماجه: الصيام (1757) .
صلى الله عليه وسلم قال: "من مات، وعليه صيام صام عنه وليه" 1 متفق عليه.
وروى ابن عباس مثله، قال النووي في شرح مسلم بعدما ذكر هذا الحديث: اختلف العلماء فيمن مات، وعليه صوم واجب من رمضان أو نذر أو غيرهما. هل يقضى عنه؟ وللشافعي في المسألة قولان مشهوران: أشهرهما لا يصام عنه، ولا يصح عن ميت صوم أصلا. والثاني: يستحب لوليه أن يصوم عنه، ويستحب صومه عنه، ويبرأ به الميت، ولا يحتاج إلى طعام عنه. وهذا القول هو الصحيح المختار الذي نعتقده، وهو الذي صححه محققو أصحابه الجامعون بين الفقه والحديث، لهذه الأحاديث الصحيحة الصريحة.
وأما الحديث الوارد: "من مات وعليه صيام، أطعم عنه" 2 فليس بثابت، ولو ثبت أمكن الجمع بينه وبين هذه الأحاديث بأن يحمل على جواز الأمرين؛ فإن من يقول بالصيام، يجوز عنده الإطعام، فثبت أن الصواب المتعين: تجويز الصيام وتجويز الإطعام، والولي مخير بينهما.
ثم ذكر النووي عن الجمهور أنهم ذهبوا إلى أنه يطعم عنه، ولا يصام، سواء في ذلك رمضان أو النذر، والصواب فيما وجب بالنذر أنه يصام عن الميت للأحاديث الصحيحة الصريحة التي لا معارض لها، وإنما الإشكال في قضاء رمضان، هل الواجب فيه الإطعام، أو يكفي الصيام؟ فظاهر حديث عائشة الذي في الصحيحين إجزاء الصيام، ومن ذهب إلى الإطعام حمل حديث عائشةعلى النذر، والله أعلم.
مدة الإقامة للمسافر
(فائدة) : قال الشيخ الإمام العلامة أبو عمر بن عبد البر: اختلفوا في مدة الإقامة فقال مالك والشافعي والليث والطبري وأبو ثور: إذا نوى إقامة أربعة أيام أتم، وهو قول سعيد بن المسيب في رواية عطاء الخراساني
1 البخاري: الصوم (1952)، ومسلم: الصيام (1147)، وأبو داود: الصوم (2400) والأيمان والنذور (3311) ، وأحمد (6/69) .
2 الترمذي: الصوم (718)، وابن ماجه: الصيام (1757) .
عنه، وقال أبو حنيفة وأصحاب الثوري: إذا نوى إقامة خمسة عشر يوما أتم وإن كان أقل قصر، وهو قول ابن عمر. وقال سعيد بن المسيب في رواية داود بن أبي هند عنه، وقال الأوزاعي: إذا نوى إقامة ثلاثة عشر يوما أتم، وإن كان أقل قصر. وعن سعيد بن المسيب قول ثالث: إذا أقام ثلاثا أتم. وعن السلف في هذه المسألة أقاويل متباينة منها: إذا زاد المسافر على إقامة اثنتا1 عشرة، أتم رواه نافع عن ابن عمر قال: وهو آخر فعل ابن عمر وقوله. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: "قام النبي -صى الله عليه وسلم- سبعة عشر يقصر، فنحن إذا سافرنا سبعة عشر قصرنا، وإذا زدنا أتممنا".
وروى عن علي وابن عباس من أقام عشر ليال أتمّ، والطرق عنهما بذلك ضعيفة، وبذلك قال محمد بن الحسن والحسن بن صالح، وروي عن سعيد بن جبير وعبد الله بن عتبة: من أقام أكثر من خمسة عشر أتمّ، وبه قال الليث بن سعد، وروي عن الحسن أن المسافر يصلي ركعتين أبدا حتى يدخل مصرا من الأمصار.
وقال أحمد بن حنبل: إذا أجمع المسافر مقام إحدى وعشرين صلاة مكتوبة قصر، وإن زاد على ذلك أتم. فهذه تسعة أقوال في هذه المسألة، وفيها قول عاشرأن المسافر يقصر أبدا حتى يرجع إلى وطنه أو ينزل وطنا له، وروي عن أنس أنه أقام سنتين بنيسابور يقصر الصلاة. وقال أبو مجلز: قلت لابن عمر: آتي المدينة، فأقيم بها السبعة أشهر والثمانية طالبا حاجة، فقال: صلّ ركعتين. وقال أبو إسحاق السبيعي: أقمنا بسجستان، ومعنا رجال من أصحاب ابن مسعود سنتين نصلي ركعتين. وأقام ابن عمر بأذربيجان ستة أشهر يصلي ركعتين ركعتين، وكان الثلج حال بينهم وبين القفول.
1 هذا الكلام به مخالفة لمقتضى الإعراب مجاراة للغة العوام في خطابهم.
وأقام مسروق بالسلسلة سنتين، وهو عامل عليها يصلي ركعتين حتى انصرف، يلتمس السنة بذلك.
وعن شقيق قال: خرجت مع مسروق إلى السلسلة حين استعمل عليها؛ فلم نزل نقصر الصلاة حتى وصلنا، ولم يزل القصر في السلسلة حتى رجع، فقلت: يا أبا عائشة ما يحملك على هذا؟ قال: اتباع السنة. وقال أبو حمزة: قلت لابن عباس: إنا نطيل المقام بالغزو بخراسان فكيف ترى؟ قال: صلّ ركعتين، وإن أقمت عشر سنين، والله أعلم..
الفطر لإنقاذ غريق أوالتقوي على الجهاد
قال ابن القيم في البدائع: إ ذا رأى إنسانا يغرق فلا يمكنه تخليصه إلا بأن يفطر فهل يجوز له الفطر؟
أجاب أبو الخطاب: يجوز له الفطر إذا تيقن تخليصه من الغرق، ولم يمكنه الصوم مع التلخيص، وأجاب ابن الزاغوني: إذا كان يقدر على تخليصه أو غلب على ظنه ذلك لزمه الإفطار وتخليصه، ولا فرق بين أن يفطر لدخول الماء في حلقه وقت السباحة، أو كان يجد في نفسه ضعفا عن تخليصه لأجل الجوع حتى يأكل؛ لأنه يفطر للسفر المباح، فلأن يفطر للواجب أولى. قلت: أسباب الفطر أربعة: السفر والمرض والحيض والخوف على هلاك من يخشى عليه بصومه، كالحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما، ومثله مسألة الغريق. وأجاز شيخنا ابن تيمية الفطر للتقوي للجهاد، وفعله، وأمر به لما نزل العدو دمشق في رمضان فأنكر عليه بعض المتفقهة، وقال: ليس هذا سفرا طويلا، فقال الشيخ: هذا فطر للتقوي على جهاد العدو، وأولى من الفطر لسفر يومين سفرا مباحا أو معصية، والمسلمون إذا قاتلوا عدوهم وهم صيام لم يمكنهم النكاية فيهم وهم صيام، وربما أضعفهم الصوم عن القتال فاستباح العدو بيضة الإسلام.
وهل يشك فقيه أن الفطر هاهنا أولى من فطر المسافر؟ وقد أمرهم النبي –صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح بالإفطار ليتقووا بذلك على عدوهم فعلل ذلك بالقوة على العدو لا بالسفر. قلت: إذا جاز فطر الحامل، والمرضع لخوفهما على ولديهما، وفطر من يخلص الغريق، ففطر المقاتلين أولى بالجواز، ومن جعل هذا من المصالح المرسلة فقد غلط بل هذا من باب قياس الأولى. انتهى كلام ابن القيم في البدائع.
وقال في الفروع: وإن أحاط العدو ببلد، والصوم يضعفهم، فهل يجوز الفطر وفاقا لمالك؟ ذكر الخلال روايتين ويعايا بها، قال ابن عقيل: إن حصر العدو بلدا، وقصد المسلمون عدوا بمسافة قريبة لم يجز الفطر والقصر على الأصح.
ونقل حنبل: إذا كانوا بأرض العدو وهم بالقرب، أفطروا عند القتال. انتهى. وقال في الإنصاف: اختار الشيخ تقي الدين الفطر للتقوي على الجهاد، وفعله هو، وأمر به لما نزل العدو دمشق، وقدمه في الفائق، وهو الصواب. انتهى.
مسائل وردت من حسن بن حسين إلى الأخ عبد الله اقتراض النقود وردها
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يقول الحق، وهو يهدي السبيل، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الهادي إلى الدليل.
من حسن بن حسين إلى الأخ عبد الله، وفقه الله تعالى، وسدده.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والخط المشتمل على السؤال وصل، وهذا صورته متبوعا بجوابه.
(المسألة الأولى) : رجل عنده لآخر جدد حال كونه صرف الريال خمس من الجدد؛ فطالت المدة حتى بلغ صرف الريال هذا المبلغ، وطلب صاحب الحق حقه من الغريم، فهل يحكم له بالقيمة حال الاستدانة أو القرض أم ليس له إلا الجدد التي وقع العقد عليها؟.
(فالجواب) : قال في شرح المفردات عند قول الناظم –رحمه الله تعالى-:
والنص بالقيمة في بطلانها
لا في ازدياد القدر أو نقصانها
ما لفظه: أي: إن النص إنما ورد عن الإمام أحمد فيما إذا أبطله السلطان، فمنع المعاملة بها لا فيما إذا زادت قيمتها أو نقصت مع بقاء التعامل بها، وعدم تحريم السلطان لها؛ فيرد مثلها سواء غلت، أو رخصت أو كسدت، وسواء كان الغلاء والرخص كثيرا بأن كان عشرة بدانق، فصارت عشرين بدانق، وعكسه أو قليلا، لأنه لم يحدث فيه شيء إنما تغير السعر، فأشبه الحنطة إذا رخصت أو غلت قال:
والشيخ في زيادة أو نقص
مثلا كقرض في الغلا والرخص
أي: وقال الشيخ الموفق: إذا زادت قيمة الفلوس أو نقصت، رد مثلها كما لو افترض عرضا مثليا كَبُرٍّ وشعير، ونحاس، وحديد فإنه يرد مثله، ولو
غلا أو رخص، لأن غلو القيمة ونقصانها لا يسقط المثل عن ذمة المستقرض، فلا يجب المطالبة بالقيمة، وهذا معنى ما تقدم من أن نص الإمام بالقيمة إنما هو إذا أبطل السلطان المعاملة بها لا في زيادة القيمة، أو نقصانها. انتهى.
وحكى فيه مذهب مالك والشافعي والليث القول بالمثل، ثم قال: ولنا أن تحريمها منع إنفاقها، وإبطال ماليتها فأشبه كسرها. انتهى.
وقال الشيخ تقي الدين في شرح المحرر: إذا أقرضه أو غصبه طعاما فنقصت قيمته فهو نقص النوع، فلا يجبر على أخذه ناقصا، فيرجع إلى القيمة، وهذا هو العدل، فإن المالين إنما يتماثلان إذا استوت قيمتهما، وأما مع اختلاف القيمة فلا تماثل فعيب الدين إفلاس المدين وعيب العين المعينة خروجها عن المعتاد. انتهى. وكلام الشيخ هذا هو الذي ذكره الناظم عنه تخريجا له واختيارا.
فقد عرفت أنه تحصل في المسألة من حيث هي ثلاثة أقوال: التفريق بين ما إذا حرمها السلطان فبطلت المعاملة بها بالكلية، ومثله إن تكسرت أو كسدت فلا يتعامل بها، فالقيمة، وبين ما إذا كان غايته الغلاء والرخص مع بقاء المعاملة بحالها، فالمثل والمثل مطلقا كما هو المنقول عن مالك، والشافعي، والليث. وثالثها اختيار أبي العباس، وهو المعتمد لدينا في الفتوى.
(تنبيه) : في المثلي الذي اختار أبو العباس القيمة فيه أوجه: أصحها أن المثلي ما حصره كيل، أو وزن وجاز السلم فيه؛ فإن وجد أحد الوصفين دون الآخر فليس بمثلي. قاله في مقدمة الحائض1 وذكر معناه في الروض وغيره من كتب الأصحاب. وعلى هذا فالجدد ليست مثلية، لأنه لا يجوز السلم
1 كذا في الأصل.
فيها لعدم الانضباط، فإنها تختلف بالكبر والصغر والثقل والخفة والطول والصفاء والخضرة وقلة الفضة وكثرتها، وأيضا ففيها فضة؛ ولا يجوز إسلام أحد النقدين في الآخر، لكن رأيته جزم في الإقناع بأن الدراهم المغشوشة مثلية، والجدد مثلها فيما يظهر لي، والله –سبحانه- أعلم..
رد الدابة المشتراة بعد ركوبها
(المسألة الثانية) : رجل اشترى دابة، واستعملها بركوب، وسقي وغيره، أو نحو ذلك، ثم بان له به عيب قديم فرد المبيع، فهل يرد معه قدر استعماله مدة مقامه عنده، أم لا؟ إلى آخر السؤال.
(الجواب) : إذا رد المبيع، فلا يخلو إما أن يكون بحاله، أو يكون قد زاد أو نقص؛ فإن كان بحاله رده، وأخذ الثمن، وإن زاد بعد العقد، أو حصلت له فائدة، فإن كانت الزيادة متصلة كالسمن والحمل والثمرة قبل الظهور، فإنه يرده بنمائه، لأنه يتبع في العقود والفسوخ. وإن كانت الزيادة منفصلة، فإن كانت من غير المبيع كالكسب والأجرة، فهو للمشتري في مقابلة ضمانه، وهو معنى قوله عليه السلام:"الخراج بالضمان" 1 ولا نعلم في هذا خلافا.
وروى ابن ماجه عن عائشة أن رجلا اشترى عبدا فاستعمله ما شاء الله، ثم وجد به عيبا فرده فقال: يا رسول الله، استعمل غلامي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الخراج بالضمان "2 رواه أبو داود، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك والشافعي، ولا نعلم عن غيرهم خلافهم. وإن كانت الزيادة من عين المبيع كالولد، والثمرة، واللبن، فهو للمشتري أيضا، ويرد الأصل بدونها، وبهذا قال الشافعي إلا أن الولد إذا كان لآدمية لم يملك ردها دونه.
وعنه ليس له رده دون نمائه المنفصل قياسا على النماء المتصل، فإن اشتراها أي: الدابة حاملا فولدت عند المشتري فردها رد ولدها معها؛ لأنها من جملة المبيع،
1 الترمذي: البيوع (1285)، والنسائي: البيوع (4490)، وأبو داود: البيوع (3508)، وابن ماجه: التجارات (2243) .
2 الترمذي: البيوع (1285)، والنسائي: البيوع (4490)، وأبو داود: البيوع (3508)، وابن ماجه: التجارات (2243) .
والولادة هنا نماء متصل. وإن نقص المبيع فسيأتي حكمه. انتهى من الشرح الكبير، وحكمه أن يرد مع المعيب أَرْش النقص عنده كأن وطئ البكر، أو قطع الثوب، أو هزلت الدابة، ونحو ذلك مما تنقص به قيمته. صرح به في المغني وغيره. قال في شرح الإقناع: لما روى الخلال بإسناده عن ابن سيرين أن عثمان قال في رجل اشترى ثوبا فلبسه ثم اطلع على عيب:..1 وما نقص، وأجاز الرد مع النقص، وعليه اعتماد أحمد. انتهى. وقال في الإنصاف عند قول المقنع: وعنه ليس له رده دون نمائه: أي: المنفصل، فلو صدر العقد وهي حامل فولدت عنده، ثم ردها رد ولدها معها، وأما إذا حملت وولدت بعد الشراء فهو نماء منفصل بلا نزاع، والصحيح من المذهب أنه لا يردها إلا بولدها فتعين الأرش جزم به في المحرر. انتهى. فقد عرفت أنه إن كان بحاله رده مجانا، وأخذ ثمنه، وإن زاد ففيه التفصيل، أو نقص فإنه يرد معه أرش ما نقص عنده.
ما يجوز فيه شهادة النساء
(المسألة الثالثة) : ما تقولون في شهادة النساء منفردات عن الرجال؟، وهل القدور والمقتول هما مما تعرفه المرأة مما يقبل فيه شهادتهن منفردات؟ هذا معنى سؤالكم.
(الجواب) : قال في المغني في باب القضاء: ولا تقبل شهادتها، ولو كان معها ألف امرأة إن لم يكن معهن رجل. انتهى.. ومراده فيما يطلع عليه غيرهن، وقال في كتاب الشهادة: وفي شهادة النساء شبهة بدليل قول الله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} 2 وأنه لا تقبل
1 بياض بالأصل.
2 سورة البقرة آية: 282.
شهادتهن، ولو كثرت ما لم يكن معهن رجل، وقال فيه: ولا نعلم خلافا في قبول شهادة النساء في الجملة
…
1 يعني في بعض المسائل كما ذكره الشرّاح، وذلك فيما لا يطلع عليه الرجال غالبا كعيوب النساء تحت الثياب، والبكارة، والثيوبة، والحيض، والولادة، والرضاع، والاستهلال، ونحو ذلك.
حديث عقبة بن الحارث رواه أحمد، وسعيد قال أبو محمد: إلا أنه من رواية جابر الجعفي. قال: وكل موضع تقبل فيه شهادة النساء منفردات فإنه يقبل فيه شهادة المرأة الواحدة، واستدل بحديث عقبة، وبما روي عن حذيفة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة، رواه الفقهاء في كتبهم. وذكر أبو محمد في المقنع في باب اليمين في الدعاوى احتمالا قبول امرأتين ويمين في المال، وما يقصد به المال، وقال الشيخ تقي الدين: لو قيل: يقبل امرأتان، ويمين توجه، لأنهما أقيما مقام رجل في التحمل، ونصره ابن القيم في الإعلام والطرق وغيرهما، وذكره مذهب مالك.
وذكر أبو محمد وغيره أن أبا طالب نقل عن أحمد في مسألة الأسير: يقبل رجل ويمين، واختاره أبو بكر، وعنه في الوصية: إن لم يحضره إلا النساء فامرأة واحدة. وسأله ابن صدقة: الرجل يوصي ويعتق ولا يحضره إلا النساء، تجوز شهادتهن؟ قال: نعم في الحقوق، ذكره في الإنصاف، ولم يُقَيّده، والمجزوم به عند المتأخرين هو الأول، وعليه المعوّل.
وأما قول السائل: وهل القدور والمقتول من عورات النساء الذي لا يطلع عليه الرجال غالبا؟ فهل هذه إلا المال نفسه؟ فتنبه لذلك.
(تتمة) : لا مدخل للنساء، ولو مع الرجال في العقوبات والحدود، ذكروه اتفاقا عن الأئمة الأربعة، ولا يقبل الجرح والتعديل من النساء. قاله في المغني،
1 بياض بالأصل.
وجزم به المتأخرون، وذكره في الإفصاح قول مالك والشافعي وأحمد. ومما تساوي فيه المرأة العدلة1 الرجل الرواية، والإخبار بهلال رمضان والوقت والقبلة ونجاسة الماء وتنبيه الإمام لسهو؛ إذ في المغني ذوي الأفهام: دعوا النشوز والنسب؛ لأنه مما لا يطلع عليه الرجال غالبا. انتهى. والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
مقام المسلم في أرض الكفار مع التمكن من الخروج منها
فائدة: قال الإمام القرطبي في شرح مسلم: ولا يختلف في أنه لا يحل لمسلم المقام في بلاد الكفار مع التمكن من الخروج منها لجريان أحكام الكفر عليه، ولخوف الفتنة على نفسه، وهذا حكم ثابت مؤيد إلى يوم القيامة. وعلى هذا فلا يجوز لمسلم دخول بلاد الكفار لتجارة أو غيرها مما لا يكون ضرورة في الدين كافتكاك المسلم؛ وقد أبطل مالك شهادة من دخل بلاد الهند لأجل التجارة. انتهى كلامه رحمه الله.
وما ذكرت من مسألة الذي أوصى بوصية، ثم قال: ووقف عقاره الذي سماه، فظاهر اللفظ أن هذا وقف منجز غير ما أوصى به، وأنه ما يحسب من الثلث إذا كان في غير مرض الموت، ولفظ أقر أوضح من قوله: وقف، لأن قوله: وقف إنشاء للوقف، ولفظ أقر يفيد الإخبار بإيقاف سابق. وما قلنا في الفرق بين الوصية والوقف، فهذا إن كان كاتب الوثيقة عنده علم يفرق به بين الوصية والوقف، فإن كان كاتب الوثيقة عاميا صار في النفس شيء، لكن من أخذ بظاهر اللفظ فرق بين الوصية والوقف فهو أسلم، والله -سبحانه- وتعالى أعلم.
1 هذه الكلمة تخالف مقتضى اللغة مجاراة للعوام.
الحمد لله أجاب الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد- رحمه الله وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته وبعد: مسألة المساقاة كلام أهل العلم فيها مشهور، وهل هي من العقود اللازمة، أو العقود الجائزة؟ والذي عليه الفتوى عندنا أنها لازمة من قبل المالك جائزة من قبل المساقي، وهذا اختيار الشيخ ابن تيمية؛ فعلى هذا فلا تنفسخ بموت المالك، ولا بانتقالها إلى غيره بإرث أو هبة.
عقد المساقاة لازم أم جائز
(وأما المسألة الثانية) : الذي ينبت على ماء المستأجر بغير إذن المالك، فهو للكداد، فإن أراد المالك أخذه بقيمته وتراضيا ذلك فلهما، وإن قال: اقلعه، فيقلعه والسلام.
قال في الاختيارات: ولو دفع أرضا إلى آخر فيغرسها بجزء من الغراس صح كالمزارعة، واختاره أبو حفص العكبري، والقاضي في تعليقه، وهو ظاهر مذهب أحمد- رحمه الله ثم قال: ومقتضى قول أبي حفص أنه يجوز أن يغارسه بجزء من الأرض كما جاز النسيج بجزء من الغزل نفسه. وقال في الفروع: هو ظاهر نص الإمام أحمد جواز المساقاة على شجر يغرسه، ويعمل عليه بجزء معلوم الشجر، أو بجزء من الشجر والثمر كالمزارعة، واختاره أبوحفص، وصححه القاضي في التعليق آخرا، واختاره في الفائق والشيخ تقي الدين- رحمه الله تعالى- قال في الإنصاف: لو كان الاشتراك في الغراس والأرض فسد وجها واحدا، قاله المصنف والشارح والناظم وغيرهم، وقال الشيخ تقي الدين: قياس المذهب صحته، قال في الفائق: قلت: وصحح المالكيون المغارسة في الأرض الملك لا الوقف، بشرط استحقاق العامل جزءا من الأرض مع القسط من الشجر. انتهى.
فإذا عرفت أن القول بصحة المغارسة أقوى، وأن عليه جمعا من المحققين، وعليه الفتوى، وهذا على تقدير
ثبوت هذه الدعوى مع وجود شهود أصل العقد بخطهم وقت المعاملة، أو المعاقدة، وسلامة العقد ظاهرة، فكيف لا نقول بصحته، وهذا هو الذي أوجب المراجعة، وبالله التوفيق. انتهى.
من كلام الشيخ عبد الرحمن بن حسن -رحمه الله تعالى- بقلم الفقير الحقير المقر بالذنب والتقصير عبده ابن عبده ابن أمته، ومن لا غناء له عن رحمة ربه طرفة عين عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد اللطيف -غفر الله له ولوالديه ولمشايخه ولمن كتبت له والمسلمين-. آمين، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين.