المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل فيما ذكره الاستاذ ابو القاسم القشيري في باب الرضا عن الشيخ ابي - الاستقامة - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌فصل وَمن اسباب ذَلِك مَا وَقع من الاشراك فِي لفظ الْغيرَة فِي كَلَام الْمَشَايِخ

- ‌فصل فِيمَا ذكره الاستاذ ابو الْقَاسِم الْقشيرِي فِي بَاب الرِّضَا عَن الشَّيْخ ابي

- ‌فصل فِي السكر واسبابه وَأَحْكَامه

- ‌فصل وَمن أقوى الْأَسْبَاب الْمُقْتَضِيَة للسكر سَماع الْأَصْوَات المريبة من وَجْهَيْن من

- ‌فصل اذا تبين هَذَا فَاعْلَم ان اللَّذَّة وَالسُّرُور امْر مَطْلُوب بل هُوَ مَقْصُود

- ‌فصل واذا كَانَت اللَّذَّة مَطْلُوبَة لنَفسهَا فَهِيَ انما تذم اذا اعقبت الما اعظم

- ‌فصل فَإِذا تبين ان السكر مؤلف من امرين وجودي وَهُوَ اللَّذَّة وعدمي وَهُوَ عدم

- ‌فصل فَإِذا تبين أَن جنس عدم الْعقل وَالْفِقْه لَا يحمد بِحَال فِي الشَّرْع بل

- ‌فصل فَهَكَذَا زَوَال الْعقل بالسكر هُوَ من نوع زَوَاله بالإغماء وَالْجُنُون وَنَحْو

- ‌فصل فقد تبين ان اُحْدُ وصفي السكر مَنْفَعَة فِي الاصل وَالْوَصْف الاخر اثم كَمَا

- ‌فصل قَالَ الله تَعَالَى لما اهبط آدم وَمن مَعَه الى الارض

- ‌فصل فِي الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر

- ‌فصل واذا كَانَت جَمِيع الْحَسَنَات لَا بُد فِيهَا من شَيْئَيْنِ ان يُرَاد بهَا

- ‌فصل فِي الْإِكْرَاه وَمَا يتَعَلَّق بِهِ

الفصل: ‌فصل فيما ذكره الاستاذ ابو القاسم القشيري في باب الرضا عن الشيخ ابي

فَهَذِهِ الْغيرَة الاصطلاحية من مدحها مُطلقًا فقد أَخطَأ وَمن ذمها مُطلقًا فقد أَخطَأ وَالصَّوَاب ان يحمد مِنْهَا مَا حَمده الله وَرَسُوله ويذم مِنْهَا مَا ذمه الله وَرَسُوله وَهَذَا يَقع كثيرا للسالكين فِي هَذَا الْخلق وَغَيره فَإِنَّهُ يلبس الْحق بِالْبَاطِلِ وَلِهَذَا السَّبَب يُنكر كثير من النَّاس مثل هَذَا الطَّرِيق لما فِيهِ من لبس الْحق بِالْبَاطِلِ وَالْآخرُونَ يعظمونه لما فِيهِ من الْحق وَالصَّوَاب الْفرْقَان {وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور} سُورَة النُّور 40

‌فصل فِيمَا ذكره الاستاذ ابو الْقَاسِم الْقشيرِي فِي بَاب الرِّضَا عَن الشَّيْخ ابي

سُلَيْمَان الدَّارَانِي رحمه الله انه قَالَ الرِّضَا ان لَا تسْأَل الله الْجنَّة وَلَا تستعيذ بِهِ من النَّار

ص: 65

فان النَّاس تنازعوا فِي هَذَا الْكَلَام فَمنهمْ من انكره وَمِنْهُم من قبله وَالْكَلَام على هَذَا الْكَلَام من وَجْهَيْن

أَحدهمَا من جِهَة ثُبُوته عَن الشَّيْخ ابي سُلَيْمَان وَالثَّانِي من جِهَة صِحَّته فِي نَفسه وفساده

اما الْمقَام الاول فَيَنْبَغِي ان يعلم ان الاستاذ ابا الْقَاسِم الْقشيرِي لم يذكرهُ عَن الشَّيْخ ابي سُلَيْمَان بِإِسْنَاد وانما ذكره مُرْسلا عَنهُ فِي رسَالَته عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَالصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ والمشايخ وَغَيرهم تَارَة يذكرهُ بِإِسْنَاد وَتارَة يذكرهُ مُرْسلا وَكَثِيرًا مَا يَقُول فِي الرسَالَة وَقيل عَنهُ كَذَا ثمَّ الَّذِي يذكرهُ الاستاذ ابو الْقَاسِم [بِالْإِسْنَادِ] تَارَة يكون اسناده صَحِيحا وَتارَة يكون ضَعِيفا بل مَوْضُوعا وَمَا يذكرهُ مُرْسلا ومحذوفا

ص: 66

لقَائِل اولى وَهَذَا كَمَا يُوجد [ذَلِك] فِي مصنفات الْفُقَهَاء فَإِن فِيهَا من الاحاديث والْآثَار مَا هُوَ صَحِيح وَمِنْهَا مَا هُوَ ضَعِيف وَمِنْهَا مَا هُوَ مَوْضُوع فالموجود فِي كتب الرَّقَائِق والتصوف من الاثار المنقولة فِيهَا الصَّحِيح وفيهَا الضَّعِيف وفيهَا الْمَوْضُوع

وَهَذَا امْر مُتَّفق عَلَيْهِ بَين جَمِيع الْمُسلمين لَا يتنازعون فِي ان هَذِه الْكتب فِيهَا هَذَا وفيهَا هَذَا بل نفس الْكتب المصنفة فِي الحَدِيث والاثار فِيهَا هَذَا وَهَذَا وَكَذَلِكَ الْكتب المصنفة فِي التَّفْسِير فِيهَا هَذِه وَهَذَا مَعَ ان اهل الحَدِيث اقْربْ الى معرفَة المنقولات وَفِي كتبهمْ هَذَا وَهَذَا فَكيف غَيرهم

والمصنفون قد يكونُونَ أَئِمَّة فِي الْفِقْه اَوْ التصوف اَوْ الحَدِيث ويروون هَذَا تَارَة لأَنهم لم يعلمُوا انه كذب وَهُوَ الْغَالِب على اهل الدّين فَإِنَّهُم لَا يحتجون بِمَا يعلمُونَ انه كذب وَتارَة

ص: 67

يذكرُونَهُ وان علمُوا انه كذب اذ قصدهم رِوَايَة مَا روى فِي ذَلِك الْبَاب

وَرِوَايَة الاحاديث المكذوبة مَعَ بَيَان انها كذب جَائِز واما رِوَايَتهَا مَعَ الْإِمْسَاك عَن ذَلِك رِوَايَة عمل فَإِنَّهُ حرَام عِنْد الْعلمَاء لما ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم انه قَالَ من حدث عني بِحَدِيث وَهُوَ يرى انه كذب فَهُوَ اُحْدُ الْكَاذِبين

وَقد فعل ذَلِك كثير من الْعلمَاء متأولين انهم لم يكذبوا وانما نقلوا مَا رَوَاهُ غَيرهم وَهَذَا يسهل اذ رَوَوْهُ ليعرف انه

ص: 68

روى لَا لأجل الْعَمَل بِهِ والاعتماد عَلَيْهِ

وَالْمَقْصُود هُنَا ان مَا يُوجد فِي الرسَالَة وامثالها من كتب الْفِقْه والتصوف والْحَدِيث من المنقولات عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَغَيره من السّلف فِيهِ الصَّحِيح وَفِيه الضَّعِيف وَفِيه الْمَوْضُوع فَالصَّحِيح الَّذِي قَامَت الدّلَالَة على صدقه والموضوع الَّذِي قَامَت الدّلَالَة على كذبه عَلَيْهَا وَلَا يحْتَج بهَا فَإِن الضعْف ظَاهر عَلَيْهَا وَإِن كَانَ هُوَ لَا يتَعَمَّد واما لاتهامه وَلَكِن يُمكن ان يكون صَادِقا فِيهِ فَإِن الْفَاسِق قد يصدق والغالط قد يحفظ

وغالب ابواب الرسَالَة فِيهِ الاقسام الثَّلَاثَة وَمن ذَلِك بَاب الرِّضَا فَإِنَّهُ ذكر فِيهِ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم حَدِيثا صَحِيحا فِي اثناء الْبَاب وَهُوَ حَدِيث الْعَبَّاس بن عبد الْمطلب عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم انه قَالَ ذاق طعم

ص: 69

الايمان من رَضِي بِاللَّه رَبًّا وَبِالْإِسْلَامِ دينا وَبِمُحَمَّدٍ نَبيا

وَهَذَا الحَدِيث رَوَاهُ مُسلم فِي صَحِيحه وان كَانَ الاستاذ لم يذكر ان مُسلما رَوَاهُ لَكِن رَوَاهُ بِإِسْنَاد صَحِيح وَذكر فِي اول هَذَا الْبَاب حَدِيثا ضَعِيفا بل مَوْضُوعا وَهُوَ حَدِيث جَابر الطَّوِيل الَّذِي رَوَاهُ من حَدِيث الْفضل بن عِيسَى الرقاشِي عَن مُحَمَّد بن الْمُنْكَدر عَن جَابر فَهُوَ وان كَانَ اول حَدِيث ذكره فِي الْبَاب فَإِن حَدِيث الْفضل بن عِيسَى من اوهى الاحاديث واسقطها وَلَا نزاع بَين الائمة انه لَا يعْتَمد عَلَيْهَا وَلَا يحْتَج بهَا فَإِن الضعْف ظَاهر عَلَيْهَا وان كَانَ هُوَ لَا يعْتَمد الْكَذِب فَإِن كثيرا من الزهاد

ص: 70

وَالْفُقَهَاء لَا يحْتَج بِحَدِيثِهِمْ لسوء الْحِفْظ لَا لاعتماد الْكَذِب وَهَذَا الرقاشِي اتَّفقُوا على ضعفه كَمَا يعرف ذَلِك ائمة هَذَا الشَّأْن حَتَّى قَالَ ايوب السّخْتِيَانِيّ لَو ولد فضل اخرس لَكَانَ خيرا لَهُ وَقَالَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة لَا شَيْء وَقَالَ الامام احْمَد وَالنَّسَائِيّ هُوَ ضَعِيف وَقَالَ يحيى بن معِين رجل سوء وَقَالَ ابو حَاتِم وابو زرْعَة مُنكر الحَدِيث

وَكَذَلِكَ مَا ذكره من الاثار فانه قد ذكر اثارا حَسَنَة بأسانيد حسنه مثل مَا رَوَاهُ عَن الشَّيْخ ابي سُلَيْمَان الدَّارَانِي انه قَالَ اذا سلا العَبْد عَن الشَّهَوَات فَهُوَ رَاض فَإِن هَذَا رَوَاهُ عَن شَيْخه ابي

ص: 71

عبد الرَّحْمَن السّلمِيّ بِإِسْنَادِهِ وَالشَّيْخ ابو عبد الرَّحْمَن كَانَت لَهُ عناية بِجمع كَلَام هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ وحكاياتهم وصنف فِي الاسماء كتاب الطَّبَقَات طَبَقَات الصُّوفِيَّة وَكتاب زهاد السّلف وَغير ذَلِك وصنف فِي الابواب كتاب مقامات الاولياء وَغير ذَلِك ومصنفاته تشْتَمل على الاقسام الثَّلَاثَة

وَذكر عَن الشَّيْخ ابي عبد الرَّحْمَن انه قَالَ سَمِعت النصراباذي يَقُول من اراد ان يبلغ مَحل الرِّضَا فليلزم مَا جعل الله رِضَاهُ فِيهِ

فَإِن هَذَا الْكَلَام فِي غَايَة الْحسن فَإِنَّهُ من لزم مَا يرضى الله من امْتِثَال اوامره وَاجْتنَاب نواهيه لَا سِيمَا اذ قَامَ بواجبها ومستحبها

ص: 72

يُرْضِي الله عَنهُ كَمَا انه من لزم محبوبات الله احبه الله كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي رَوَاهُ البُخَارِيّ من عادي لي وليا فقد بارزني بالمحاربة وَمَا تقرب الي عَبدِي بِمثل اداء مَا افترضت عَلَيْهِ وَلَا يزَال عَبدِي يتَقرَّب الى بالنوافل حَتَّى احبه فَإِذا احببته الحَدِيث

وَذَلِكَ ان الرِّضَا نَوْعَانِ احدهما الرِّضَا بِفعل مَا امْر بِهِ وَترك مَا نهى عَنهُ ويتناول مَا اباحه الله من غير تعد الى الْمَحْظُور

كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَالله وَرَسُوله أَحَق أَن يرضوه إِن كَانُوا مُؤمنين} سُورَة التَّوْبَة 62 وَقَالَ تَعَالَى {وَلَو أَنهم رَضوا مَا}

ص: 73

{آتَاهُم الله وَرَسُوله وَقَالُوا حَسبنَا الله سيؤتينا الله من فَضله وَرَسُوله إِنَّا إِلَى الله راغبون} سُورَة التَّوْبَة 59 فَهَذَا الرِّضَا وَاجِب

وَكَذَلِكَ ذمّ من تَركه بقوله {وَمِنْهُم من يَلْمِزك فِي الصَّدقَات فَإِن أعْطوا مِنْهَا رَضوا وَإِن لم يُعْطوا مِنْهَا إِذا هم يسخطون} سُورَة التَّوْبَة 58

وَالنَّوْع الثَّانِي الرِّضَا بالمصائب كالفقر وَالْمَرَض والذل فَهَذَا الرِّضَا مُسْتَحبّ فِي اُحْدُ قولي الْعلمَاء وَلَيْسَ بِوَاجِب وَقد قيل انه وَاجِب وَالصَّحِيح ان الْوَاجِب هُوَ الصَّبْر كَمَا قَالَ الْحسن الْبَصْرِيّ رحمه الله الرِّضَا عَزِيز وَلَكِن الصبرمعول الْمُؤمن

وَقد روى فِي حَدِيث ابْن عَبَّاس ان النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ ان اسْتَطَعْت ان تعْمل لله بِالرِّضَا مَعَ الْيَقِين فافعل

ص: 74

فَإِن لم تستطع فَإِن فِي الصَّبْر على مَا تكره خيرا كثيرا

واما الرِّضَا بالْكفْر والفسوق والعصيان فَالَّذِي عَلَيْهِ ائمة الدّين انه لَا يرضى بذلك فَإِن الله لَا يرضاه كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر} سُورَة الزمر 7

وَقَالَ {وَالله لَا يحب الْفساد} سُورَة الْبَقَرَة 205

وَقَالَ تَعَالَى {فَإِن ترضوا عَنْهُم فَإِن الله لَا يرضى عَن الْقَوْم الْفَاسِقين} سُورَة التَّوْبَة 96

وَقل تَعَالَى فَجَزَاؤُهُ حهنم خَالِدا فِيهَا وَغَضب الله عَلَيْهِ ولعنه وَاعد لَهُ عذَابا عَظِيما سُورَة النِّسَاء: 93

وَقَالَ {ذَلِك بِأَنَّهُم اتبعُوا مَا أَسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أَعْمَالهم} سُورَة مُحَمَّد 28

ص: 75

وَقَالَ {وعد الله الْمُنَافِقين والمنافقات وَالْكفَّار نَار جَهَنَّم خَالِدين فِيهَا هِيَ حسبهم} سُورَة التَّوْبَة 68

وَقَالَ {لبئس مَا قدمت لَهُم أنفسهم أَن سخط الله عَلَيْهِم وَفِي الْعَذَاب هم خَالدُونَ} سُورَة الْمَائِدَة 80

وَقَالَ {فَلَمَّا آسفونا انتقمنا مِنْهُم} سُورَة الزخرف 55

فَإِذا كَانَ الله سُبْحَانَهُ لَا يرضى لَهُم مَا عملوه بل يسخطه ذَلِك وَهُوَ يسْخط عَلَيْهِم ويغضب عَلَيْهِم فَكيف يسوغ لِلْمُؤمنِ ان يرضى ذَلِك وان لَا يسْخط ويغضب لما يسْخط الله ويغضبه

وانما ضل هُنَا فريقان من النَّاس قوم من اهل الْكَلَام المنتسبين الى السّنة فِي مناظرة الْقَدَرِيَّة ظنُّوا ان محبَّة الْحق وَرضَاهُ وغضبه وَسخطه يرجع الى ارادته وَقد علمُوا انه مُرِيد لجَمِيع الكائنات

ص: 76

خلافًا للقدرية وَقَالُوا هُوَ ايضا محب لَهَا مُرِيد لَهَا ثمَّ اخذوا يحرفُونَ الْكَلم عَن موَاضعه فَقَالُوا لَا يحب الْفساد بِمَعْنى لَا يُرِيد الْفساد أَي لَا يُريدهُ للْمُؤْمِنين وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الْكفْر بِمَعْنى لَا يُريدهُ أَي لَا يُريدهُ للْمُؤْمِنين

وَهَذَا غلط عَظِيم فَإِن هَذَا عِنْدهم بِمَنْزِلَة ان يُقَال لَا يحب الايمان وَلَا يرضى لِعِبَادِهِ الايمان بِمَعْنى لَا يُريدهُ للْكَافِرِينَ وَلَا يرضاه للْكَافِرِينَ

وَقد اتّفق اهل الاسلام على ان مَا امْر الله بِهِ فَإِنَّهُ يكون مُسْتَحبا يُحِبهُ ثمَّ قد يكون مَعَ ذَلِك وَاجِبا وَقد يكون مُسْتَحبا لَيْسَ بِوَاجِب سَوَاء فعل اَوْ لم يفعل وَالْكَلَام على هَذَا مَبْسُوط فِي غير هَذَا الْموضع

والفريق الثانى من غالطي المتصوفة شربوا من هَذِه الْعين فَشَهِدُوا ان الله رب الكائنات جَمِيعهَا وَعَلمُوا انه قدر كل

ص: 77

شَيْء وشاءه وظنوا انهم لَا يكونُونَ راضين حَتَّى يرْضوا بِكُل مَا يقدره الله ويقضيه من الْكفْر والفسوق والعصيان حَتَّى قَالَ بَعضهم الْمحبَّة نَار تحرق من الْقلب كل مَا سوى مُرَاد المحبوب قَالُوا والكون كُله مُرَاد المحبوب وضل هَؤُلَاءِ ضلالا عَظِيما حَيْثُ لم يفرقُوا بَين الارادة الدِّينِيَّة والكونية والاذن الديني والكوني والامر الديني والكوني والبعث الكوني والديني والارسال الكوني والديني كَمَا بسطناه فِي غير هَذَا الْموضع

وَهَؤُلَاء يؤول بهم الامر الى ان لَا يفرقُوا بَين الْمَحْظُور والمأمور واولياء الله واعداء الله والانبياء والمتقين ويجعلون الَّذين امنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات كالمفسدين فِي الارض ويجعلون الْمُتَّقِينَ كالفجار ويجعلون الْمُسلمين كالمجرمين ويعطلون الامر وَالنَّهْي والوعد والوعيد والشرائع

وَرُبمَا سموا هَذَا حَقِيقَة ولعمري انه حَقِيقَة كونية لَكِن هَذِه

ص: 78

الْحَقِيقَة الكونية قد عرفهَا عباد الاصنام كَمَا قَالَ تَعَالَى وَلَئِن سَأَلتهمْ من خلق السَّمَوَات والارض ليَقُولن الله سُورَة لُقْمَان 25 وَقَالَ {قل لمن الأَرْض وَمن فِيهَا إِن كُنْتُم تعلمُونَ سيقولون لله قل أَفلا تذكرُونَ} الايات سُورَة الْمُؤْمِنُونَ 84 85

فالمشركون الَّذين يعْبدُونَ الاصنام كَانُوا مقرين بَان الله خَالق كل شَيْء وربه ومليكه فَمن كَانَ هَذَا مُنْتَهى تَحْقِيقه كَانَ غَايَته ان يكون كعباد الاصنام

وَالْمُؤمن انما فَارق الْكفْر بِالْإِيمَان بِاللَّه وبرسله وبتصديقهم فِيمَا اخبروا وطاعتهم فِيمَا امروا وَاتِّبَاع مَا يرضاه الله وَيُحِبهُ دون مَا يَقْضِيه ويقدره من الْكفْر والفسوق والعصيان وَلَكِن يرضى بِمَا اصابه من المصائب لَا بِمَا فعله من المعايب فَهُوَ من الذُّنُوب يسْتَغْفر وعَلى المصائب يصبر

كَمَا قَالَ تَعَالَى فاصبر ان وعد الله حق واستغفر لذبنك

ص: 79

سُورَة غَافِر 55 فَيجمع بَين طَاعَة الامر وَالصَّبْر على المصائق كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَإِن تصبروا وتتقوا لَا يضركم كيدهم شَيْئا} سُورَة ال عمرَان 120

وَقَالَ تَعَالَى {وَإِن تصبروا وتتقوا فَإِن ذَلِك من عزم الْأُمُور} سُورَة ال عمرَان 186

وَقَالَ يُوسُف عليه السلام {إِنَّه من يتق ويصبر فَإِن الله لَا يضيع أجر الْمُحْسِنِينَ} سُورَة يُوسُف 90

وَالْقَصْد هُنَا ان مَا ذكره الْقشيرِي عَن النصراباذي من احسن الْكَلَام حَيْثُ قَالَ من اراد ان يبلغ مَحل الرِّضَا فليلزم مَا جعل الله رِضَاهُ فِيهِ

وَكَذَلِكَ قَول الشَّيْخ ابي سُلَيْمَان اذا سلا الْبعد عَن الشَّهَوَات فَهُوَ رَاض وَذَلِكَ ان العَبْد انما يمنعهُ من الرِّضَا والقناعة طلب نَفسه لفضول شهواتها فاذا لم يحصل سخط فاذا سلا عَن شهوات

ص: 80

نَفسه رَضِي بِمَا قسم الله لَهُ من الرزق

وَكَذَلِكَ مَا ذكره عَن الفضيل بن عِيَاض انه قَالَ لبشر الحافي الرِّضَا افضل من الزّهْد فِي الدُّنْيَا لِأَن الراضي لَا يتَمَنَّى فَوق مَنْزِلَته كَلَام حسن لَكِن اشك فِي سَماع بشر الحافي من الفضيل

وَكَذَلِكَ مَا ذكره مُعَلّقا قَالَ وَقيل قَالَ الشبلي بَين يَدي الْجُنَيْد لَا حول وَلَا قُوَّة الا بِاللَّه فَقَالَ الْجُنَيْد قَوْلك ذَا ضيق صدر وضيق الصَّدْر لترك الرِّضَا بِالْقضَاءِ فَإِن هَذَا من احسن الْكَلَام

وَكَانَ الْجُنَيْد رضي الله عنه سيد الطَّائِفَة وَمن احسنهم تَعْلِيما وتأديبا وتقويما وَذَلِكَ ان هَذِه الْكَلِمَة هِيَ كلمة استعانة لَا كلمة استرجاع وَكثير من النَّاس يَقُولهَا عِنْد المصائب بِمَنْزِلَة الاسترجاع ويقولها جزعا لَا صبرا

ص: 81

فالجنيد انكر على الشبلي حَاله فِي سَبَب قَوْله لَهَا اذ كَانَت حَالا يُنَافِي الرِّضَا وَلَو قَالَهَا على الْوَجْه الْمَشْرُوع لم يُنكر عَلَيْهِ

وَفِيمَا ذكره آثَار ضَعِيفَة مثل مَا ذكره مُعَلّقا قَالَ وَقيل قَالَ مُوسَى الهي دلَّنِي على عمل اذا عملته رضيت عني فَقَالَ انك لَا تطِيق ذَلِك فَخر مُوسَى سَاجِدا متضرعا فَأوحى الله اليه يَا ابْن عمرَان رضائي فِي رضائك عني

فَهَذِهِ الْحِكَايَة الاسرائيلية فِيهَا نظر فَإِنَّهُ قد يُقَال لَا يصلح ان يحْكى مثلهَا عَن مُوسَى عليه السلام وَمَعْلُوم ان هَذِه الاسرئيليات لَيْسَ لَهَا اسناد وَلَا تقوم بهَا حجَّة فِي شَيْء من الدّين الا اذا كَانَت منقوله لنا نقلا صَحِيحا مثل مَا ثَبت عَن

ص: 82

نَبينَا صلى الله عليه وسلم انه حَدثنَا بِهِ عَن بني اسرائيل وَلَكِن مِنْهُ مَا يعلم كذبه مثل هَذِه فَإِن مُوسَى عليه السلام من أعظم اولى الْعَزْم واكابر الْمُرْسلين فيكف يُقَال انه لَا يُطيق ان يعْمل مَا يُرْضِي الله بِهِ عَنهُ وَالله تَعَالَى رَضِي عَن السَّابِقين الاولين من الْمُهَاجِرين والانصار وَالَّذين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَان افلا يرضى عَن مُوسَى بن عمرَان كليم الرَّحْمَن

وَقَالَ تَعَالَى ان الَّذين امنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات اولئك هم خير الْبَريَّة جزاؤهم عِنْد رَبهم جنَّات عدن تجْرِي من تحتهَا الانهارخ الدّين فِيهَا ابدا رَضِي الله عَنْهُم وَرَضوا عَنهُ سُورَة الْبَيِّنَة 867 وَمَعْلُوم ان مُوسَى عليه السلام من افضل الَّذين امنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات

ص: 83

ثمَّ ان الله خص مُوسَى بمزية فَوق الرِّضَا حَيْثُ قَالَ {وألقيت عَلَيْك محبَّة مني ولتصنع على عَيْني} سُورَة طه 39

ثمَّ ان قَوْله لَهُ فِي الْخطاب يَا ابْن عمرَان يُخَالف مَا ذكره الله من خطابه لَهُ فِي الْقُرْآن حَيْثُ قَالَ يَا مُوسَى وَذَلِكَ الْخطاب فِيهِ نوع غض مِنْهُ كَمَا يظْهر

وَمثل مَا ذكره عَن عمر بن الْخطاب رضي الله عنه انه كتب لأبي مُوسَى الاشعري اما بعد فَإِن الْخَيْر كُله فِي الرِّضَا فَإِن اسْتَطَعْت ان ترْضى والا فاصبر فَهَذَا الْكَلَام كَلَام حسن وان لم يعلم اسناده

واذا تبين ان فِيمَا ذكره مُسْندًا ومرسلا ومعلقا مَا هُوَ صَحِيح فَهَذِهِ الْكَلِمَة لم يذكرهَا عَن ابي سُلَيْمَان الا مُرْسلَة وبمثل ذَلِك لَا تثبت عَن ابي سُلَيْمَان بِاتِّفَاق النَّاس فَإِنَّهُ وان قَالَ بعض النَّاس ان الْمُرْسل حجَّة فَهَذَا لم يعلم ان الْمُرْسل هُوَ مثل الضَّعِيف وَغير

ص: 84

الضَّعِيف فَأَما اذا عرف ذَلِك فَلَا تبقى حجَّة بِاتِّفَاق الْعلمَاء كمن علم انه تَارَة يحفظ الاسناد وَتارَة يغلط فِيهِ

والكتب المسندة فِي اخبار هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ وَكَلَامهم مثل كتاب حلية الاولياء لأبي نعيم وطبقات الصُّوفِيَّة للشَّيْخ ابي عبد الرَّحْمَن وصفوة الصفوة لِابْنِ الْجَوْزِيّ وامثال ذَلِك لم يذكرُوا فِيهَا هَذِه الْكَلِمَة عَن الشَّيْخ ابي سُلَيْمَان وَقد ذكرُوا فِيهَا عَن الشَّيْخ ابي سُلَيْمَان الاثر الَّذِي رَوَاهُ عَنهُ مُسْندًا حَيْثُ قَالَ لاحمد دبن ابي الْحوَاري يَا احْمَد لقد اوتيت من الرِّضَا نَصِيبا لَو القاني فِي النَّار لَكُنْت بذلك رَاضِيا

فَهَذَا الْكَلَام مأثور عَن ابي سُلَيْمَان بِالْإِسْنَادِ وَلِهَذَا اسنده عَنهُ الْقشيرِي من طَرِيق شَيْخه ابي عبد الرَّحْمَن بِخِلَاف تِلْكَ الْكَلِمَة فَإِنَّهَا لم تسند عَنهُ فَلَا اصل لَهَا عَن الشَّيْخ ابي سُلَيْمَان

ص: 85

ثمَّ ان الْقشيرِي قرن هَذِه الْكَلِمَة الثَّابِتَة عَن ابي سُلَيْمَان بِكَلِمَة احسن مِنْهَا فَإِنَّهُ قبل ان يَرْوِيهَا قَالَ وَسُئِلَ ابو عُثْمَان يَعْنِي ابا عُثْمَان الْحِيرِي النَّيْسَابُورِي عَن قَول النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَسأَلك الرِّضَا بعد الْقَضَاء فَقَالَ لِأَن الرِّضَا بعد الْقَضَاء هُوَ الرِّضَا فَهَذَا الَّذِي قَالَه الشَّيْخ ابو عُثْمَان كَلَام حسن سديد

ثمَّ اسند بعد هَذَا عَن الشَّيْخ ابي سُلَيْمَان انه قَالَ ارجو ان اكون عرفت طرفا من الرِّضَا لَو انه ادخلني النَّار لَكُنْت بذلك رَاضِيا

فَتبين بذلك ان مَا قَالَه ابو سُلَيْمَان لَيْسَ هُوَ رضى وانما هُوَ عزم

ص: 86

على الرِّضَا وانما الرِّضَا مَا يكون بعد الْقَضَاء واذا كَانَ هَذَا عزما على الرِّضَا فالعزم قد يَدُوم وَقد يَنْفَسِخ وَمَا اكثر انْفِسَاخ عزائم النَّاس خُصُوصا الصُّوفِيَّة وَلِهَذَا قيل لبَعْضهِم بِمَ عرفت الله قَالَ بِفَسْخ العزائم وَنقض الهمم

وَقد قَالَ تَعَالَى لمن هُوَ افضل من هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ {وَلَقَد كُنْتُم تمنون الْمَوْت من قبل أَن تلقوهُ فقد رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُم تنْظرُون} سُورَة آل عمرَان 143

وَقَالَ تَعَالَى يَا ايها الَّذين امنوا لم تَقولُونَ مَالا تَفْعَلُونَ كبر مقتا عِنْد الله ان تَقولُوا مَالا تَفْعَلُونَ ان الله يحب الَّذين يُقَاتلُون فِي سَبيله صفا كَأَنَّهُمْ بُنيان مرصوص سُورَة الصَّفّ 42

وَفِي التِّرْمِذِيّ ان بعض الصَّحَابَة قَالُوا للنَّبِي صلى الله عليه وسلم لَو علمنَا أَي الْعَمَل احب الى الله لعملناه فَأنْزل الله هَذِه الاية

ص: 87

وَقد قَالَ تَعَالَى {ألم تَرَ إِلَى الَّذين قيل لَهُم كفوا أَيْدِيكُم وَأقِيمُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة فَلَمَّا كتب عَلَيْهِم الْقِتَال إِذا فريق مِنْهُم يَخْشونَ النَّاس كخشية الله أَو أَشد خشيَة وَقَالُوا رَبنَا لم كتبت علينا الْقِتَال لَوْلَا أخرتنا إِلَى أجل قريب} الاية سُورَة النِّسَاء 77 فَهَؤُلَاءِ الَّذين كَانُوا قد عزموا على الْجِهَاد واحبوه لما ابتلوا بِهِ كرهوه وفروا مِنْهُ واين الم الْجِهَاد من الم النَّار وَعَذَاب الله الَّذِي لَا طَاقَة لأحد بِهِ

مثل هَذَا يذكر عَن سمنون الْمُحب انه كَانَ يَقُول

وَلَيْسَ لي فِي سواك حَظّ

فَكيف مَا شِئْت فاختبرني

فَأَخذه الاسر من سَاعَته أَي حصر بَوْله فَكَانَ يَدُور على الْمكَاتب وَيفرق الْجَوْز على الصّبيان وَيَقُول ادعوا لعمكم الْكذَّاب

وَحكى ابو نعيم الاصبهاني عَن ابي بكر الوَاسِطِيّ انه

ص: 88

قَالَ قَالَ سمنون يَا رب قد رضيت بِكُل مَا تقضيه على فاحتبس بَوْله اربعة عشر يَوْمًا فَكَانَ يتلوى كَمَا تتلوى الْحَيَّة على الرمل يتلوى يَمِينا وَشمَالًا فَلَمَّا اطلق بَوْله قَالَ يَا رب تبت اليك

قَالَ ابو نعيم فَهَذَا الرِّضَا الَّذِي ادّعى سمنون ظهر غلطه فِيهِ بِأَدْنَى بلوى هَذَا مَعَ ان سمنون كَانَ يضْرب بِهِ الْمثل فِي الْمحبَّة وَله مقَام مَشْهُور حَتَّى روى عَن ابراهيم بن فاتك انه قَالَ رَأَيْت سمنونا يتَكَلَّم على النَّاس فِي الْمَسْجِد الْحَرَام فجَاء طَائِر صَغِير فَقرب مِنْهُ ثمَّ قرب فَلم يزل يدنو مِنْهُ

ص: 89

حَتَّى جلس على يَده ثمَّ لم يزل يضْرب بمنقاره الارض حَتَّى سقط مِنْهُ دم وَمَات الطَّائِر

قَالَ ورأيته تكلم يَوْمًا فِي الْمحبَّة فَاصْطَفَقَتْ قناديل الْمَسْجِد وَكسر بَعْضهَا بَعْضًا

وَقد ذكر الْقشيرِي فِي بَاب الرِّضَا عَن رُوَيْم الْمقري رَفِيق سمنون حِكَايَة تناسب هَذَا حَيْثُ قَالَ قَالَ رُوَيْم الرِّضَا ان لَو جعل جَهَنَّم عَن يَمِينه مَا سَأَلَ الله ان يحولها عَن يسَاره فَهَذَا يشبه قَول سمنون فَكيف مَا شِئْت فامتحني واذا لم يطق الصَّبْر على عسر الْبَوْل افيطيق ان تكون جَهَنَّم عَن يمنيه

ص: 90

والفضيل بن عِيَاض كَانَ اعلى طبقَة من هَؤُلَاءِ وابتلى بعسر الْبَوْل فغلبه الالم حَتَّى قَالَ بحبي لَك الا فرجت عني فانفرج عَنهُ

ورويم وان كَانَ من رُفَقَاء الْجُنَيْد فَلَيْسَ هُوَ عِنْدهم من هَذِه الطَّبَقَة بل الصُّوفِيَّة يَقُولُونَ انه رَجَعَ الى الدُّنْيَا وَترك التصوف حَتَّى روى عَن جَعْفَر الْخُلْدِيِّ صَاحب الْجُنَيْد انه قَالَ من اراد ان يستكتم سرا فَلْيفْعَل كَمَا فعل رُوَيْم كتم حب الدُّنْيَا اربعين سنة فَقيل وَكَيف يتَصَوَّر ذَلِك قَالَ ولى اسماعيل بن اسحاق القَاضِي قَضَاء بَغْدَاد وَكَانَت بَينهمَا مَوَدَّة اكيدة فَجَذَبَهُ اليه وَجعله وَكيلا على بَابه فَترك لبس التصوف وَلبس الْخَزّ والقصب والديبقى وَأكل الطَّيِّبَات وَبنى الدّور واذا هُوَ كَانَ يكتم حب الدُّنْيَا مَا لم يجدهَا فَلَمَّا وجدهَا اظهر مَا كَانَ يكتم من حبها هَذَا مَعَ انه رحمه الله كَانَ لَهُ من الْعِبَادَات مَا هُوَ مَعْرُوف وَكَانَ فَقِيها على مَذْهَب دَاوُد

ص: 91

وَهَذِه الْكَلِمَات الَّتِي تصدر عَن صَاحب حَال لم يفكر فِي لَوَازِم اقواله وعواقبها لَا تجْعَل طَريقَة وَلَا تتَّخذ سَبِيلا وَلَكِن قد يسْتَدلّ بهَا على مَا لصَاحِبهَا من الرِّضَا والمحبة وَنَحْو ذَلِك وَمَا مَعَه من التَّقْصِير فِي معرفَة حُقُوق الطَّرِيق وَمَا يقدر عَلَيْهِ من التَّقْوَى وَالصَّبْر وَمَا لَا يقدر عَلَيْهِ من التَّقْوَى وَالصَّبْر

وَالرسل صلوَات الله عَلَيْهِم اعْلَم بطرِيق سَبِيل الله واهدى وانصح فَمن خرج عَن سنتهمْ وسبيلهم كَانَ منقوصا مخطئا محروما وان لم يكن عَاصِيا اَوْ فَاسِقًا اَوْ كَافِرًا

وَيُشبه هَذَا الاعرابي الَّذِي دخل عَلَيْهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مَرِيض كالفرخ فَقَالَ هَل كنت دَعَوْت الله بِشَيْء فَقَالَ كنت اقول اللَّهُمَّ مَا كنت معذبي بِهِ فِي الاخرة فعجله لي فِي الدُّنْيَا فَقَالَ سُبْحَانَ الله لَا تستطيعه اَوْ لَا تُطِيقهُ هلأ قلت رَبنَا آتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الاخرة حَسَنَة وقنا عَذَاب النَّار

ص: 92

فَهَذَا ايضا حمله خَوفه من عَذَاب الاخرة ومحبته لِسَلَامَةِ عاقبته على ان يطْلب تَعْجِيل ذَلِك فِي الدُّنْيَا وَكَانَ مخطئا فِي ذَلِك غالطا وَالْخَطَأ والغلط مَعَ حسن الْقَصْد وسلامته وَصَلَاح الرجل وفضله وَدينه وزهده وورعه وكراماته كثير جدا فَلَيْسَ من شَرط ولي الله ان يكون مَعْصُوما من الْخَطَأ والغلط بل وَلَا من الذُّنُوب

وافضل اولياء الله بعد الرُّسُل ابو بكر الصّديق رضي الله عنه وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح ان النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ لما عبر رُؤْيا اصبت بَعْضًا وأخطأت بَعْضًا

وَيُشبه وَالله اعْلَم ان ابا سُلَيْمَان لما قَالَ هَذِه الْكَلِمَة لَو القاني فِي النَّار لَكُنْت بذلك رَاضِيا ان يكون بعض النَّاس حَكَاهُ بِمَا

ص: 93

فهمه من الْمَعْنى انه قَالَ الرِّضَا ان لَا تسْأَل الله الْجنَّة وَلَا تستعيذه من النَّار

وَتلك الْكَلِمَة الَّتِي قَالَهَا ابو سُلَيْمَان مَعَ انها لَا تدل على رِضَاهُ بذلك وَلَكِن تدل على عَزمَة بِالرِّضَا بذلك وَنحن نعلم ان ذَلِك الْعَزْم لَا يسْتَمر بل يَنْفَسِخ وان مثل هَذِه الْكَلِمَة كَانَ تَركهَا احسن من قَوْلهَا وانها مستدركة كَمَا استدركه دَعْوَى سمنون ورويم وَغير ذَلِك فَإِن بَين هَذِه الْكَلِمَة وَبَين تِلْكَ فرقا عَظِيما فان تِلْكَ الْكَلِمَة مضمونها ان من سَأَلَ الله الْجنَّة واستعاذه من النَّار لَا يكون رَاضِيا وَفرق بَين من يَقُول انا اذا فعل بِي كَذَا كنت رَاضِيا وَبَين من يَقُول لَا يكون رَاضِيا الا من لَا يطْلب خيرا وَمن لَا يهرب من شَرّ

وَبِهَذَا وَغَيره يعلم ان الشَّيْخ ابا سُلَيْمَان كَانَ اجل من ان

ص: 94

يَقُول مثل هَذَا الْكَلَام فَإِن الشَّيْخ ابا سُلَيْمَان من اجلاء الْمَشَايِخ وساداتهم وَمن اتبعهم للشريعة حَتَّى انه كَانَ يَقُول انه ليمر بقلبي النُّكْتَة من نكت الْقَوْم فَلَا اقبلها الا بِشَاهِدين الْكتاب وَالسّنة فَمن لَا يقبل نكت قلبه الا بِشَاهِدين يَقُول مثل هَذَا الْكَلَام

وَقَالَ الشَّيْخ ابو سُلَيْمَان ايضا لَيْسَ لمن ألهم شَيْئا من الْخَيْر ان يَفْعَله حَتَّى يسمع فِيهِ بأثر فَإِذا سمع فِيهِ بأثر كَانَ نورا على نور بل صَاحبه احْمَد بن ابي الْحوَاري كَانَ من اتبع الْمَشَايِخ للسّنة فَكيف ابو سُلَيْمَان

وَتَمام تَزْكِيَة ابي سُلَيْمَان من هَذَا الْكَلَام يظْهر بالْكلَام فِي الْمقَام الثَّانِي وَهُوَ قَول الْقَائِل كَائِنا من كَانَ الرِّضَا ان لَا تسْأَل الله الْجنَّة وَلَا تستعيذه من النَّار ونقدم قبل ذَلِك مُقَدّمَة يتَبَيَّن

ص: 95

بهَا اصل مَا وَقع فِي مثل هَذِه الْكَلِمَات من الِاشْتِبَاه وَالِاضْطِرَاب وَذَلِكَ ان قوما كثيرا من النَّاس من المتفقهة والمتصوفة والمتكلمة وَغَيرهم ظنُّوا ان الْجنَّة لَيست إِلَّا التنعم بالمخلوق من اكل وَشرب ولباس وَنِكَاح وَسَمَاع اصوات طيبَة وشم رَوَائِح طيبَة وَلم يدخلُوا فِي مُسَمّى الْجنَّة نعيما غير ذَلِك ثمَّ صَارُوا حزبين حزبا انكروا ان يكون للعباد نعيم غير تنعمهم بِهَذِهِ الامور المخلوقة واشباهها ثمَّ من هَؤُلَاءِ من انكر ان يكون الْمُؤْمِنُونَ يرَوْنَ رَبهم كَمَا ذهب الى ذَلِك الْجَهْمِية من الْمُعْتَزلَة وَغَيرهم

وَمِنْهُم من اقر بِالرُّؤْيَةِ اما الرُّؤْيَة الَّتِي اخبر بهَا النَّبِي صلى الله عليه وسلم كَمَا هُوَ مَذْهَب اهل السّنة وَالْجَمَاعَة واما بِرُؤْيَة فَسرهَا بِزِيَادَة كشف اَوْ علم اَوْ جعلهَا بحاسة سادسة وَنَحْو

ص: 96

ذَلِك من الاقوال الَّتِي ذهب اليها ضرار بن عَمْرو وَطَوَائِف من اهل الْكَلَام المنتسبين الى نصر اهل السّنة فِي مَسْأَلَة الرُّؤْيَة وان كَانَ مَا يثبتونه من جنس مَا نفته الْمُعْتَزلَة والضرارية والنزاع بَينهم لَفْظِي ونزاعهم مَعَ اهل السّنة معنوي وَلِهَذَا كَانَ بشر المريسي وامثاله يفسرون الرُّؤْيَة بِنَحْوِ من تَفْسِير هَؤُلَاءِ

وَالْمَقْصُود هُنَا ان مثبتة الرُّؤْيَة مِنْهُم من انكر ان يكون الْمُؤمن ينعم بِنَفس رُؤْيَته ربه قَالُوا لِأَنَّهُ لَا مُنَاسبَة بَين الْمُحدث وَالْقَدِيم كَمَا ذكر ذَلِك الاستاذ ابو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ فِي الرسَالَة النظامية وكما ذكره ابو الْوَفَاء بن عقيل فِي بعض كتبه

ص: 97

ونقلوا عَن ابْن عقيل انه سمع قَائِلا يَقُول أَسأَلك لَذَّة النّظر الى وَجهك فَقَالَ يَا هَذَا هَب ان لَهُ وَجها اله وَجه يتلذذ بِالنّظرِ اليه

وَذكر ابو الْمَعَالِي ان الله يخلق لَهُم نعيما بِبَعْض الْمَخْلُوقَات مُقَارنًا للرؤية فَأَما التنعم بِنَفس الرُّؤْيَة فَأنكرهُ وَجعل هَذَا من اسرار التَّوْحِيد

واكثر مثبتي الرُّؤْيَة يقرونَ بتنعم الْمُؤمنِينَ بِرُؤْيَة رَبهم وَهُوَ مَذْهَب سلف الامة وأئمتها ومشايخ الطَّرِيق

ص: 98

كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ النَّسَائِيّ وَغَيره عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم اللَّهُمَّ بعلمك الْغَيْب وبقدرتك على الْخلق احيني مَا كَانَت الْحَيَاة خيرا لي وتوفني اذا كَانَت الْوَفَاة خيرا لي اللَّهُمَّ اني أَسأَلك خشيتك فِي الْغَيْب وَالشَّهَادَة وَأَسْأَلك كلمة الْحق فِي الْغَضَب وَالرِّضَا وَأَسْأَلك الْقَصْد فِي الْفقر والغنى وَأَسْأَلك نعيما لَا ينْفد وقرة عين لَا تَنْقَطِع وَأَسْأَلك الرِّضَا بعد الْقَضَاء وَأَسْأَلك برد الْعَيْش بعد الْمَوْت وَأَسْأَلك لَذَّة النّظر الى وَجهك وَأَسْأَلك الشوق الى لقائك فِي غير ضراء مضرَّة وَلَا فتْنَة مضلة اللَّهُمَّ زينا بزينة الايمان واجعلنا هداة مهتدين

وَفِي صَحِيح مُسلم وَغَيره عَن صُهَيْب عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ اذا دخل اهل الْجنَّة الْجنَّة نَاد مُنَاد يَا اهل الْجنَّة ان لكم عِنْد الله موعدا يُرِيد ان ينجزكموه فَيَقُولُونَ مَا هُوَ الم يبيض وُجُوهنَا ويثقل موازيننا ويدخلنا الْجنَّة ويجرنا من النَّار قَالَ

ص: 99

فَيكْشف الْحجاب فَيَنْظُرُونَ اليه فَمَا اعطاهم شَيْئا احب اليهم من النّظر اليه

وَكلما كَانَ الشَّيْء احب كَانَت اللَّذَّة بنيله اعظم وَهَذَا مُتَّفق عَلَيْهِ بَين السّلف والائمة ومشايخ الطَّرِيق كَمَا روى عَن الْحسن الْبَصْرِيّ انه قَالَ لَو علم العابدون انهم لَا يرَوْنَ رَبهم فِي الاخرة لذابت نُفُوسهم فِي الدِّينَا شوقا اليه وَكَلَامهم فِي ذَلِك كثير

ثمَّ هَؤُلَاءِ الَّذين وافقوا السّلف والائمة والمشايخ على التنعم بِالنّظرِ الى الله تَعَالَى وَتَنَازَعُوا فِي مَسْأَلَة الْمحبَّة الَّتِي هِيَ اصل ذَلِك فَذهب طوائف من الْمُتَكَلِّمين وَالْفُقَهَاء الى ان الله لَا تحب نَفسه وانما الْمحبَّة محبَّة طَاعَته وعبادته وَقَالُوا هُوَ ايضا لَا يحب عباده الْمُؤمنِينَ وانما محبته ارادته للإحسان اليهم ولإثابتهم

وَدخل فِي هَذَا القَوْل من انتسب الى نصر السّنة من اهل

ص: 100

الْكَلَام حَتَّى وَقع فِيهِ طَائِفَة من اصحاب مَالك وَالشَّافِعِيّ وَاحْمَدْ كَالْقَاضِي ابي بكر وَالْقَاضِي ابي يعلى وابي الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ وامثال هَؤُلَاءِ وَهَذَا فِي الْحَقِيقَة شُعْبَة من التجهم والاعتزال فَإِن اول من انكر الْمحبَّة فِي الاسلام الْجَعْد بن دِرْهَم استاذ الجهم بن صَفْوَان

ص: 101

فضحى بِهِ خَالِد بن عبد الله الْقَسرِي وَقَالَ ايها النَّاس ضحوا تقبل الله ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مضح بالجعد بن دِرْهَم انه زعم ان الله لم يتَّخذ ابراهيم خَلِيلًا وَلم يكلم مُوسَى تكليما ثمَّ نزل فذبحه

وَالَّذِي دلّ عَلَيْهِ الْكتاب وَالسّنة وَاتفقَ عَلَيْهِ سلف الامة وأئمتها وَجَمِيع مَشَايِخ الطَّرِيق ان الله يحب وَيُحب وَلِهَذَا وافقهم على ذَلِك من تصوف من اهل الْكَلَام كَأبي الْقَاسِم الْقشيرِي وابي حَامِد الْغَزالِيّ وامثالهما وَنصر ذَلِك ابو حَامِد فِي الاحياء وَغَيره وَكَذَلِكَ ابو الْقَاسِم ذكر ذَلِك فِي الرسَالَة على طَرِيق الصُّوفِيَّة كَمَا فِي كتاب ابي طَالب الْمَكِّيّ الْمُسَمّى بقوت الْقُلُوب

وابو حَامِد مَعَ كَونه تَابع فِي ذَلِك الصُّوفِيَّة اسْتندَ فِي ذَلِك

ص: 102

لما وجده من كتب الفلاسفة من اثبات نَحْو ذَلِك حَيْثُ قَالُوا يعشق ويعشق

وَقد بسطت الْكَلَام على هَذِه الْمَسْأَلَة الْعَظِيمَة فِي الْقَوَاعِد الْكِبَار بِمَا لَيْسَ هَذَا مَوْضِعه

وَقد قَالَ الله تَعَالَى {يُحِبهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} سُورَة الْمَائِدَة 54 وَقَالَ تَعَالَى {وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله} سُورَة الْبَقَرَة 165 وَقَالَ تَعَالَى {أحب إِلَيْكُم من الله وَرَسُوله} سُورَة التَّوْبَة 24

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم انه قَالَ ثَلَاث من كن فِيهِ وجد حلاوة الايمان ان يكون الله وَرَسُوله احب اليه مِمَّا سواهُمَا وان يحب الْمَرْء لَا يُحِبهُ الا لله وان يكره ان يرجع فِي الْكفْر بعد ان انقذه الله مِنْهُ كَمَا يكره ان يقذف فِي النَّار

ص: 103

وَالْمَقْصُود هُنَا ان هَؤُلَاءِ المتجهمة من الْمُعْتَزلَة وَمن وافقهم الَّذين يُنكرُونَ حَقِيقَة الْمحبَّة يلْزمهُم ان ينكروا التَّلَذُّذ بِالنّظرِ اليه وَلِهَذَا لَيْسَ فِي الْحَقِيقَة عِنْدهم الا التنعم بِالْأَكْلِ وَالشرب وَنَحْو ذَلِك وَهَذَا القَوْل بَاطِل بِالْكتاب وَالسّنة واتفاق سلف الامة ومشايخها فَهَذَا اُحْدُ الحزبين الغالطين

والحزب الثَّانِي طوائف من المتصرفة والمتفقرة والمتنسكة وافقوا هَؤُلَاءِ على ان الْمحبَّة لَيست الا هَذِه الامور الَّتِي يتنعم بهَا الْمَخْلُوق وَلَكِن وافقوا السّلف والائمة على اثبات رُؤْيَة الله والتنعم بِالنّظرِ اليه واصابوا فِي ذَلِك وصاروا يطْلبُونَ هَذَا النَّعيم وتسمو همتهم اليه وَيَخَافُونَ فَوَاته وَصَارَ احدهم يَقُول مَا عبدتك شوقا الى جنتك وَلَا خوفًا من نارك وَلَكِن

ص: 104

لانظر اليك اَوْ اجلالا لَك وامثال هَذِه الْكَلِمَات ومقصودهم بذلك طلب مَا هُوَ اعلى من الاكل وَالشرب والتمتع بالمخلوق وَلَكِن غلطوا فِي اخراج ذَلِك من الْجنَّة وَقد يغلطون ايضا فِي ظنهم انهم يعْبدُونَ الله بلاحظ وَلَا ارادة وان كل مَا يطْلب مِنْهُ فَهُوَ حَظّ النَّفس وتوهموا ان الْبشر يعْمل بِلَا ارادة وَلَا مَطْلُوب وَلَا مَحْبُوب وَهُوَ سوء معرفَة بِحَقِيقَة الايمان وَالدّين والاخرة

وَسبب ذَلِك ان همة احدهم الْمُتَعَلّقَة بمطلوبه ومحبوبه ومعبوده تقنيه عَن نَفسه حَتَّى لَا يشْعر بِنَفسِهِ واراداتها فيظن انه يفعل بِغَيْر مُرَاد وَالَّذِي طلبه وعلق بِهِ همته هُوَ غَايَة مُرَاده ومحبوبه ومطلوبه

وَهَذَا كَحال كثير من الصَّالِحين والصادقين وارباب الاحوال والمقامات يكون لاحدهم وجد صَحِيح وذوق سليم لَكِن لَيْسَ لَهُ

ص: 105

عبارَة تبين مُرَاده فَيَقَع فِي كَلَامه غلط وَسُوء ادب مَعَ صِحَة مَقْصُوده وان كَانَ من النَّاس من يَقع مِنْهُ غلط فِي مُرَاده واعتقاده فَهَؤُلَاءِ الَّذين قَالُوا مثل هَذَا الْكَلَام اذا عنوا بِهِ طلب رُؤْيَة الله تَعَالَى اصابوا فِي ذَلِك لَكِن أخطأوا من جِهَة انهم جعلُوا ذَلِك خَارِجا عَن الْجنَّة فأسقطوا حُرْمَة اسْم الْجنَّة وَلزِمَ من ذَلِك امور مُنكرَة

وَنَظِير ذَلِك مَا ذكره عَن الشبلي رحمه الله انه سمع قَارِئًا يقْرَأ {مِنْكُم من يُرِيد الدُّنْيَا ومنكم من يُرِيد الْآخِرَة} سُورَة آل عمرَان 152 فَصَرَخَ وَقَالَ ايْنَ من يُرِيد الله فيحمد مِنْهُ كَونه اراد الله وَلَكِن غلط فِي ظَنّه ان الَّذين ارادوا الأخرة مَا ارادوا الله

ص: 106

وَهَذِه الاية فِي اصحاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم الَّذين كَانُوا مَعَه بِأحد وهم افضل الْخلق فَإِن لم يُرِيدُوا الله افيريد الله من هُوَ دونهم كالشبلي وامثاله

وَمثل ذَلِك مَا اعرفه عَن بعض الْمَشَايِخ انه سُئِلَ مرّة عَن قَوْله {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ أنفسهم وَأَمْوَالهمْ بِأَن لَهُم الْجنَّة} سُورَة التَّوْبَة 111 قَالَ فَإِذا كَانَت الانفس والاموال فِي ثمن الْجنَّة فالرؤية بِمَ تنَال فَأَجَابَهُ مُجيب بِمَا يشبه هَذَا السُّؤَال

وَالْوَاجِب ان نعلم ان كل مَا اعده الله لأوليائه من نعيم بِالنّظرِ اليه وَمَا سوى ذَلِك فَهُوَ فِي الْجنَّة كَمَا ان كل مَا توعد بِهِ اعداءه هُوَ فِي النَّار وَقد قَالَ تَعَالَى {فَلَا تعلم نفس مَا أُخْفِي لَهُم من قُرَّة أعين} سُورَة السَّجْدَة 17

ص: 107

وَفِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقُول الله اعددت لعبادي الصَّالِحين مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا اذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر بله مَا اطعتم عَلَيْهِ

وَكَذَلِكَ فِي قَوْله فِي حَدِيث ابْن عمر عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم ان ادنى اهل الْجنَّة منزلَة من ينظر فِي ملكه من مسيرَة الف عَام وان اعلاهم منزلَة من ينظر الى وَجه الله بكرَة وعشيا

ص: 108

وَقَوله فِي حَدِيث صُهَيْب اذا دخل اهل الْجنَّة الْجنَّة نَادَى مُنَاد يَا اهل الْجنَّة ان لكم عِنْد الله موعدا الحَدِيث ثمَّ قَالَ فَيكْشف الْحجاب فَيَنْظُرُونَ اليه وَشبه ذَلِك

واذا علم ان جَمِيع ذَلِك وامثاله دَاخل فِي الْجنَّة فَالنَّاس على دَرَجَات متفاوته كَمَا قَالَ تَعَالَى {انْظُر كَيفَ فضلنَا بَعضهم على}

ص: 109

{بعض وللآخرة أكبر دَرَجَات وأكبر تَفْضِيلًا} سُورَة الاسراء 21 وكل مَطْلُوب للْعَبد بِعبَادة وقربة اَوْ دُعَاء اَوْ غير ذَلِك من مطَالب الاخرة هُوَ فِي الْجنَّة

وَطلب الْجنَّة والاستعاذة من النَّار طَرِيق انبياء الله وَرُسُله وَجَمِيع اولياء الله السَّابِقين المقربين واصحاب الْيَمين كَمَا فِي السّنَن ان النَّبِي صلى الله عليه وسلم سَأَلَ بعض اصحابه كَيفَ تَقول فِي دعائك قَالَ اقول اللَّهُمَّ اني أَسأَلك الْجنَّة واعوذ بك من النَّار اما اني لَا احسن دندنتك وَلَا دندنة معَاذ فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم حولهَا ندندن فقد اخبر انه

ص: 110

هُوَ صلى الله عليه وسلم ومعاذ وَهُوَ افضل الائمة الراتبين بِالْمَدِينَةِ فِي حَيَاة النَّبِي صلى الله عليه وسلم انما يدندنون حول الْجنَّة أفيكون قَول اُحْدُ فَوق قَول رَسُول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذ وَمن يُصَلِّي خلفهمَا من الْمُهَاجِرين والانصار وَلَو طلب هَذَا العَبْد مَا طلب كَانَ فِي الْجنَّة وَأهل الْجنَّة نَوْعَانِ سَابِقُونَ مقربون وأبرار أَصْحَاب يَمِين

قَالَ تَعَالَى كلا ان كتاب الابرار لفي عليين وَمَا ادراك مَا عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون ان الابرار لفي نعيم على الأرائك ينظرُونَ تعرف فِي وُجُوههم نَضرة النَّعيم يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك وَفِي ذَلِك فَلْيَتَنَافَس الْمُتَنَافسُونَ ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بهَا المقربون سُورَة المطففين 18 27

ص: 111

قَالَ ابْن عَبَّاس تمزج لأَصْحَاب الْيَمين مزجا ويشربها المقربون صرفا

وَقد ثَبت فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم انه قَالَ اذا سَمِعْتُمْ الْمُؤَذّن فَقولُوا مثل مَا يَقُول ثمَّ صلوا على فانه من صلى على مرّة صلى الله عَلَيْهِ عشرا ثمَّ سلوا الله لي الْوَسِيلَة فانها دَرَجَة فِي الْجنَّة لَا تنبغي الا لعبد من عباد الله وارجو ان اكون انا ذَلِك العَبْد فَمن سَأَلَ الله لي الْوَسِيلَة حلت عَلَيْهِ شَفَاعَتِي يَوْم الْقِيَامَة

فقد اخبر ان الْوَسِيلَة الَّتِي لَا تصلح الا لعبد وَاحِد من عباد الله وَرَجا ان يكون هُوَ ذَلِك العَبْد هِيَ دَرَجَة فِي الْجنَّة فَهَل بَقِي بعد الْوَسِيلَة شَيْء اعلى مِنْهَا يكون خَارِجا عَن الْجنَّة يصلح للمخلوقين

ص: 112

وَثَبت فِي الصَّحِيح ايضا فِي حَدِيث الْمَلَائِكَة الَّذين يَلْتَمِسُونَ النَّاس فِي مجَالِس الذّكر قَالَ فَيَقُولُونَ للرب تَعَالَى وجدناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك قَالَ فَيَقُول وَمَا يطْلبُونَ قَالُوا يطْلبُونَ الْجنَّة قَالَ فَيَقُول وَهل رأوها قَالَ فَيَقُولُونَ لَا قَالَ فَيَقُول فَكيف لَو رأوها قَالَ فَيَقُولُونَ لَو رأوها لكانوا اشد لَهَا طلبا قَالَ وَمِمَّا يستعيذون قَالُوا يستعيذون من النَّار قَالَ فَيَقُول فَهَل رأوها قَالَ فَيَقُولُونَ لَا قَالَ فَيَقُول فيكف لَو رأوها قَالُوا لَو رأوها لكانوا اشد مِنْهَا استعاذه قَالَ فَيَقُول اشهدكم اني قد اعطيتهم مَا يطْلبُونَ واعذتهم مِمَّا يستعيذون اَوْ كَمَا قَالَ قَالَ فَيَقُولُونَ فيهم فلَان الخطاء جَاءَ لحَاجَة فَجَلَسَ مَعَهم قَالَ فَيَقُول هم الْقَوْم لَا يشقى

ص: 113

بهم جليسهم فَهَؤُلَاءِ الَّذين هم من افضل اولياء الله كَانَ مطلوبهم الْجنَّة ومهربهم من النَّار

وايضا فالنبي صلى الله عليه وسلم لما بَايع الانصار لَيْلَة الْعقبَة وَكَانَ الَّذين بَايعُوهُ من افضل السَّابِقين الاولين الَّذين هم افضل من هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ كلهم قَالُوا للنَّبِي صلى الله عليه وسلم اشْترط لِرَبِّك وَلِنَفْسِك ولاصحابك قَالَ اشْتَرِ لنَفْسي ان تنصروني مِمَّا تنْصرُونَ مِنْهُ انفسكم واهليكم وَاشْترط لِأَصْحَابِي ان تواسوهم قَالُوا فَإِذا فعلنَا ذَلِك فَمَا لنا قَالَ لكم الْجنَّة قَالُوا امدد يدك فوَاللَّه لَا نقيلك وَلَا نستقيلك وَقد قالو لَهُ فِي اثناء

ص: 114

الْبيعَة ان بَيْننَا وَبَين الْقَوْم حِبَالًا وعهودا وانا ناقضوها

فَهَؤُلَاءِ الَّذين بَايعُوهُ هم من اعظم خلق الله محبَّة لله وَرَسُوله وبذلا لنفوسهم واموالهم فِي رضَا الله وَرَسُوله على وَجه لَا يلحقهم فِيهِ اُحْدُ من هَؤُلَاءِ الْمُتَأَخِّرين قد كَانَ غَايَة مَا طلبوه بذلك الْجنَّة فَلَو كَانَ هُنَاكَ مَطْلُوب اعلى من ذَلِك لطلبوه لكِنهمْ علمُوا ان فِي الْجنَّة كل مَحْبُوب ومطلوب بل وَفِي الْجنَّة مَا لَا

ص: 115

تشعر بِهِ النُّفُوس لتطلبه فَإِن الطّلب وَالْحب والارادة فرع عَن الشُّعُور والاحساس والتصور فَمَا لَا يحسه الانسان وَلَا يتصوره وَلَا يشْعر بِهِ يمْتَنع ان يَطْلُبهُ وَيُحِبهُ ويريده

وَالْجنَّة فِيهَا هَذَا وَهَذَا كَمَا قَالَ تَعَالَى {لَهُم مَا يشاؤون فِيهَا ولدينا مزِيد} سُورَة ق 35 وَقَالَ {وفيهَا مَا تشتهيه الْأَنْفس وتلذ الْأَعْين} سُورَة الزخرف 71 فَفِيهَا كل مَا يشتهونه وفيهَا مزِيد على ذَلِك وَهُوَ مَا لم يبلغهُ علمهمْ ليشتهوه كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم مَا لَا عين رَأَتْ وَلَا اذن سَمِعت وَلَا خطر على قلب بشر وَهَذَا بَاب وَاسع

فَإِذا عرفت هَذِه الْمُقدمَة فَقَوْل الْقَائِل الرِّضَا ان لَا تسْأَل الله الْجنَّة وَلَا تستعيذه من النَّار ان اراد بذلك ان لَا تسْأَل الله مَا هُوَ دَاخل فِي مُسَمّى الْجنَّة الشَّرْعِيَّة فَلَا تسأله النّظر اليه وَلَا غير ذَلِك مِمَّا هُوَ مَطْلُوب جَمِيع الانبياء والاولياء وانك لَا تستعيذ بِهِ

ص: 116

لَا من احتجابه عَنْك وَلَا من تعذيبك فِي النَّار فَهَذَا الْكَلَام مَعَ كَونه مُخَالفا لجَمِيع الانبياء وَالْمُرْسلِينَ وَسَائِر الْمُؤمنِينَ فَهُوَ متناقض فِي نَفسه فَاسد فِي صَرِيح الْمَعْقُول

وَذَلِكَ ان الراضي الَّذِي لَا يسْأَل انما لَا يسْأَله لرضاه عَن الله وَرضَاهُ عَنهُ انما هُوَ بعد مَعْرفَته بِهِ ومحبته لَهُ فَإِذا قدر انه حجب فَرضِي بِزَوَال كل نعيم فَرضِي بِزَوَال رِضَاهُ عَن الله وبزوال محبته لله واذا لم يبْق مَعَه رضَا عَن الله وَلَا محبَّة لله فَكَأَنَّهُ قَالَ يُرْضِي ان لَا يرضى وَهَذَا جمع بَين النقيضين وَلَا ريب انه كَلَام من لم يتَصَوَّر مَا يَقُول وَلَا عقله

يُوضح ذَلِك ان الراضي انما يحملهُ على احْتِمَال المكاره والآلام مَا يجده من لَذَّة الرِّضَا وحلاوته فَإِذا فقد تِلْكَ الْحَلَاوَة واللذة امْتنع ان يحْتَمل الما ومرارة فَكيف يتَصَوَّر ان يكون رَاضِيا وَلَيْسَ مَعَه من حلاوة الرِّضَا مَا يحمل بِهِ مرَارَة المكاره

ص: 117

وانما هَذَا من جنس كَلَام السَّكْرَان والفاني الَّذِي وجد فِي نَفسه حلاوة الرِّضَا فَظن ان هَذَا يبْقى مَعَه على أَي حَال كَانَ وَهَذَا غلط عَظِيم مِنْهُ كغلط سمنون كَمَا تقدم

وان اراد بذلك ان لَا يسْأَل التَّمَتُّع بالمخلوق بل يسْأَل مَا هُوَ اعلى من ذَلِك فقد غلط من وَجْهَيْن من جِهَة انه لم يَجْعَل ذَلِك الْمَطْلُوب من الْجنَّة وَهُوَ أَعلَى نعيم الْجنَّة وَمن جِهَة انه ايضا اثْبتْ انه طَالب مَعَ كَونه رَاضِيا فَإِذا كَانَ الرِّضَا لَا يُنَافِي هَذَا الطّلب فَلَا يُنَافِي طلبا اخر اذا كَانَ مُحْتَاجا الى مَطْلُوبه

وَمَعْلُوم ان تنعمه بِالنّظرِ لَا يتم الا بسلامته من النَّار وبتنعمه من الْجنَّة بِمَا هُوَ دون النّظر وَمَا لَا يتم الْمَطْلُوب الا بِهِ فَهُوَ مَطْلُوب فَيكون طلبه للنَّظَر طلبا للوازمه الَّتِي مِنْهَا النجَاة من النَّار فَيكون رِضَاهُ لَا يُنَافِي طلب حُصُول الْمَنْفَعَة وَلَا دفع الْمضرَّة عَنهُ وَلَا طلب حُصُول الْجنَّة وَدفع النَّار وَلَا غَيرهمَا مِمَّا هُوَ من لَوَازِم النّظر فَتبين تنَاقض قَوْله

وايضا فَإِذا لم يسْأَل الله الْجنَّة لم يستعذ بِهِ من النَّار فإمَّا ان يطْلب من الله مَا هُوَ دون ذَلِك مِمَّا يحْتَاج اليه من جلب مَنْفَعَة وَدفع

ص: 118

مضبرة واما ان لَا يَطْلُبهُ فَإِن طلب مَا هُوَ دون ذَلِك واستعاذ مِمَّا هُوَ دون ذَلِك فَطَلَبه للجنة اولى واستعاذته من النَّار اولى

وان كَانَ الرِّضَا ان لَا يطْلب شَيْئا قطّ وَلَو كَانَ مُضْطَرّا اليه وَلَا يستعيذ من شَيْء قطّ وَلَو كَانَ مضرا بِهِ فَلَا يَخْلُو اما ان يكون ملتفتا بِقَلْبِه الى الله فِي ان يفعل بِهِ ذَلِك واما ان يكون معرضًا عَن ذَلِك فَإِن الْتفت بِقَلْبِه الى الله فَهُوَ طَالب مستعيذ بِحَالهِ

وَلَا فرق بَين الطّلب بِالْحَال والقال بل هُوَ بهما اكمل واتم فَلَا يعدل عَنهُ وان كَانَ معرضًا عَن جَمِيع ذَلِك فَمن الْمَعْلُوم انه لَا يحيا وَيبقى الا بِمَا يُقيم حَيَاته وَيدْفَع مضاره فَذَلِك الَّذِي بِهِ يحيا من طلب جلب الْمَنَافِع وَدفع المضار اما ان يُحِبهُ ويطلبه ويريده من اُحْدُ اَوْ لَا يُحِبهُ وَلَا يَطْلُبهُ وَلَا يُريدهُ فَإِن احبه وَطَلَبه واراده من غير الله كَانَ مُشْركًا مذموما فضلا على ان يكون مَحْمُودًا

ص: 119

وان قَالَ لَا احبه وَلَا اطلبه وَلَا اريده لَا من الله وَلَا من خلقه

قيل هَذَا مُمْتَنع فِي الْحَيّ فَإِن الْحَيّ يمْتَنع عَلَيْهِ ان لَا يحب مَا بِهِ يبْقى وَهَذَا امْر مَعْلُوم بالحس وَمن كَانَ بِهَذِهِ المثابة امْتنع ان يُوصف بِالرِّضَا فَإِن الراضي مَوْصُوف بحب وارادة خَاصَّة اذ الرِّضَا مُسْتَلْزم لذَلِك فَكيف يسلب عَنهُ ذَلِك كُله فَهَذَا وامثاله مِمَّا يبين فَسَاد هَذَا الْكَلَام فِي الْعقل

واما الرِّضَا فِي سَبِيل الله وَطَرِيقه وَدينه فَمن وُجُوه

احدها ان يُقَال الراضي لَا بُد ان يفعل مَا يرضاه الله الا فَكيف يكون رَاضِيا عَن الله من لَا يفعل مَا يرضاه الله وَكَيف يسوغ رضَا مَا يكرههُ الله ويسخطه ويذمه وَينْهى عَنهُ

وَبَيَان هَذَا ان الرِّضَا الْمَحْمُود اما ان يكون الله يُحِبهُ ويرضاه

ص: 120

واما ان لَا يُحِبهُ ويرضاه فَإِن لم يكن يُحِبهُ ويرضاه لم يكن هَذَا الرِّضَا مَأْمُورا بِهِ لَا امْر ايجاب وَلَا امْر اسْتِحْبَاب فَإِن من الرِّضَا مَا هُوَ كفر كرضا الْكفَّار بالشرك وَقتل الانبياء وتكذيبهم ورضاهم بِمَا يسخطه الله ويكرهه

قَالَ تَعَالَى {ذَلِك بِأَنَّهُم اتبعُوا مَا أَسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أَعْمَالهم} سُورَة مُحَمَّد 28 فَمن اتبع مَا يسْخط الله بِرِضَاهُ وَعَمله فقد اسخط الله

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ان الْخَطِيئَة اذا عملت فِي الارض كَانَ من غَابَ عَنْهَا ورضيها كمن شَهِدَهَا وَمن شَهِدَهَا وسخطها كَانَ كمن غَابَ عَنْهَا وانكرها وَقَالَ صلى الله

ص: 121

عَلَيْهِ وَسلم سَيكون بعدِي امراء تعرفُون وتنكرون فَمن انكر فقد برِئ وَمن كره فقد سلم وَلَكِن من رَضِي وتابع

وَقَالَ تَعَالَى {يحلفُونَ لكم لترضوا عَنْهُم فَإِن ترضوا عَنْهُم فَإِن الله لَا يرضى عَن الْقَوْم الْفَاسِقين} سُورَة التَّوْبَة 96 فرضانا عَن الْقَوْم الْفَاسِقين لَيْسَ مِمَّا يُحِبهُ الله ويرضاه وَهُوَ لَا يرضى عَنْهُم

وَقَالَ تَعَالَى {أرضيتم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا من الْآخِرَة فَمَا مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا فِي الْآخِرَة إِلَّا قَلِيل} سُورَة التَّوْبَة: 38 فَهَذَا رضى قد ذمه الله

وَقَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين لَا يرجون لقاءنا وَرَضوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا واطمأنوا بهَا} سُورَة يُونُس 7 فَهَذَا أَيْضا مَذْمُوم وشواهد هَذَا كَثِيرَة

ص: 122

فَمن رَضِي بِكُفْرِهِ وَكفر غَيره وفسقه وَفسق غَيره ومعاصيه ومعاصي غَيره فَلَيْسَ هُوَ مُتبعا لرضا الله وَلَا هُوَ مُؤمن بِاللَّه بل هُوَ مسخط لرَبه وربه غَضْبَان عَلَيْهِ لَا عَن لَهُ ذام لَهُ متوعد لَهُ بالعقاب

وَطَرِيق الله الَّتِي يَأْمر بهَا الْمَشَايِخ المهتدون انما هِيَ الامر بِطَاعَة الله وَالنَّهْي عَن مَعْصِيَته فَمن امْر وَاسْتحبَّ اَوْ مدح الرِّضَا الَّذِي يكرههُ الله ويذمه وَينْهى عَنهُ ويعاقب اصحابه فَهُوَ عَدو لله لَا ولي لله وَهُوَ يصد عَن سَبِيل الله وَطَرِيقه لَيْسَ بسالك لسبيله وَطَرِيقه

واذا كَانَ الرِّضَا الْمَوْجُود فِي بني آدم مِنْهُ مَا يُحِبهُ الله وَمِنْه مَا يكرههُ ويسخطه وَمِنْه مَا هُوَ مُبَاح لَا من هَذَا وَلَا من هَذَا كَسَائِر اعمال الْقُلُوب من الْحبّ والبغض وَغير ذَلِك كلهَا يَنْقَسِم الى مَحْبُوب لله ومكروه لله ومباح فَإِذا كَانَ الامر كَذَلِك فالراضي الَّذِي لَا يسْأَل الله الْجنَّة وَلَا يستعيذه من النَّار يُقَال لَهُ سُؤال

ص: 123

الله الْجنَّة واستعاذته من النَّار اما ان تكون وَاجِبَة واما ان تكون مُسْتَحبَّة واما ان تكون مُبَاحَة واما ان تكون مُحرمَة واما ان تكون مَكْرُوهَة وَلَا يَقُول مُسلم انها مُحرمَة وَلَا مَكْرُوهَة وَلَيْسَت ايضا مُبَاحَة مستوية الطَّرفَيْنِ وَلَو قيل انها كَذَلِك فَفعل الْمُبَاح المستوى الطَّرفَيْنِ لَا يُنَافِي الرِّضَا اذ لَيْسَ من شَرط الراضي ان لَا يَأْكُل وَلَا يشرب وَلَا يلبس وَلَا يفعل امثال هَذِه الامور فَإِذا كَانَ مَا يَفْعَله من هَذِه الامور لَا يُنَافِي رِضَاهُ اينافي رِضَاهُ دُعَاء وسؤال هُوَ مُبَاح

واذا كَانَ الدُّعَاء وَالسُّؤَال كَذَلِك وَاجِبا اَوْ مُسْتَحبا فمعلوم ان الله يرضى بِفعل الْوَاجِبَات والمستحبات فَكيف يكون الراضي الَّذِي هُوَ من اولياء الله لَا يفعل مَا يرضاه الله وَيُحِبهُ بل يفعل مَا يسخطه ويكرهه وَهَذِه صفة اعداء الله لَا اولياء الله

والقشيري قد ذكر هَذَا فِي اوائل بَاب الرِّضَا فَقَالَ اعْلَم ان الْوَاجِب على العَبْد ان يرضى بِقَضَاء الله الَّذِي امْر

ص: 124

بِالرِّضَا بِهِ اذ لَيْسَ كل مَا هُوَ بِقَضَائِهِ يجوز للْعَبد اَوْ يجب على العَبْد الرِّضَا بِهِ كالمعاصي وفنون محن الْمُسلمين وَهَذَا الَّذِي قَالَه قَالَه قبله وَبعده وَغَيره وَمَعَهُ غير وَاحِد من الْعلمَاء كَالْقَاضِي ابي بكر وَالْقَاضِي ابي يعلى وامثالهما لما احْتج عَلَيْهِم بعض الْقَدَرِيَّة بِأَن الرِّضَا بِقَضَاء الله مَأْمُور بِهِ فَلَو كَانَت الْمعاصِي بِقَضَاء الله لَكنا مأمورين بِالرِّضَا بهَا الرِّضَا بِمَا نهى الله عَنهُ لَا يجوز فأجابهم اهل السّنة عَن ذَلِك بِثَلَاثَة اجوبة

أَحدهَا وَهُوَ جَوَاب هَؤُلَاءِ وجماهير الائمة ان هَذَا الْعُمُوم لَيْسَ بِصَحِيح فلسنا مأمورين ان نرضى بِكُل مَا قضى وَقدر وَلم يَجِيء فِي الْكتاب وَالسّنة امْر بذلك وَلَكِن علينا ان نرضى بِمَا امرنا بِالرِّضَا بِهِ كطاعة الله وَرَسُوله وَهَذَا هُوَ الَّذِي ذكره ابو الْقَاسِم

وَالْجَوَاب الثَّانِي انهم قَالُوا انا نرضى بِالْقضَاءِ الَّذِي هُوَ

ص: 125

صفة الله اَوْ فعله وَلَا نرضى بالمقضى الَّذِي هُوَ مَفْعُوله وَفِي هَذَا الْجَواب ضعف قد بَيناهُ فِي غير هَذَا الْموضع

الثَّالِث انهم قَالُوا ان هَذِه الْمعاصِي لَهَا وَجْهَان وَجه الى العَبْد من حَيْثُ هِيَ فعله وصنعه وَكَسبه وَوجه الى الرب من حَيْثُ انه خلقهَا وقضاها وقدرها فنرضى من الْوَجْه الَّذِي يُضَاف بِهِ الى الله وَلَا نرضى من الْوَجْه الَّذِي يُضَاف بِهِ الى العَبْد اذ كَونهَا شرا وقبيحة ومحرمة وسببا للعذاب والذم وَنَحْو ذَلِك انما هُوَ من جِهَة كَونهَا مُضَافَة الى العَبْد وَهَذَا مقَام فِيهِ من كشف الْحَقَائِق والاسرار مَا قد ذكرنَا مِنْهُ مَا ذكرنَا فِي غير هَذَا الْموضع وَلَا يحْتَملهُ هَذَا الْمَكَان فَإِن هَذَا مُتَعَلق بمسائل الصِّفَات وَالْقدر وَهُوَ من اعظم مطَالب الدّين واشرف عُلُوم الاولين والاخرين وادقها على عقول اكثر الْعَالمين

ص: 126

وَالْمَقْصُود هُنَا ان مَشَايِخ الصُّوفِيَّة وَغَيرهم من الْعلمَاء قد بينوا أَن من الرِّضَا مَا يكون جَائِزا وَمِنْه مَالا يكون جَائِزا فضلا عَن كَونه مُسْتَحبا اَوْ من صِفَات المقربين وان ابا الْقَاسِم ذكر فِي الرسَالَة ذَلِك ايضا

فَإِن قيل هَذَا الَّذِي ذكرتموه امْر بَين وَاضح فَمن ايْنَ غلط من قَالَ الرِّضَا ان لَا تسْأَل الله الْجنَّة وَلَا تستعيذه من النَّار وَغلط من يستحسن مثل هَذَا الْكَلَام كَائِنا من كَانَ

قيل غلطوا فِي ذَلِك لأَنهم رَأَوْا ان الراضي بِأَمْر لَا يطْلب غير ذَلِك الامر فَالْعَبْد اذا كَانَ فِي حَال من الاحوال فَمن رِضَاهُ ان لَا يطْلب غير تِلْكَ الْحَال ثمَّ انهم رَأَوْا ان اقصى المطالب الْجنَّة واقصى المكاره النَّار فَقَالُوا يَنْبَغِي ان لَا يطْلب شَيْئا وَلَو انه الْجنَّة وَلَا يكره شَيْئا وَلَو انه النَّار فَهَذَا وَجه غلطهم وَدخل الضلال عَلَيْهِم من وَجْهَيْن

احدهما ظنهم ان الرِّضَا بِكُل مَا يكون امْر يُحِبهُ الله ويرضاه

ص: 127

وان هَذَا من اعظم طرق اولياء الله فَجعلُوا الرِّضَا بِكُل حَادث وكائن اَوْ بِكُل حَال يكون فِيهَا العَبْد طَرِيقا الى الله فضلوا ضلالا مُبينًا الطَّرِيق الى الله انما هِيَ ان ترضيه بِأَن تفعل مَا يُحِبهُ ويرضاه لَا ان ترْضى بِكُل مَا يحدث وَيكون فَإِنَّهُ هُوَ لم يَأْمُرك بذلك وَلَا رضيه لَك وَلَا احبه بل هُوَ سُبْحَانَهُ يكره ويسخط وَيبغض على اعيان اَوْ افعال مَوْجُودَة لَا يحصيها الا هُوَ

وَولَايَة الله مُوَافَقَته بِأَن تحب مَا يحب وَتبْغض مَا يبغض وَتكره مَا يكره وتسخط مَا يسْخط وتوالي من يوالي وتعادي من يعادي فَإِذا كنت تحب وترضى مَا يسخطه ويكرهه كنت عدوه وَلَا وليه وَكَانَ كل ذمّ نَالَ من رَضِي مَا اسخط الله قد نالك فَتدبر هَذَا فَإِنَّهُ تَنْبِيه على اصل عَظِيم ضل فِيهِ من طوائف النساك والصوفية والعباد الْعَامَّة من لَا يحصيهم الا الله

ص: 128

الْوَجْه الثَّانِي انهم لم يفرقُوا بَين الدُّعَاء الَّذِي امروا بِهِ امْر ايجاب وامر اسْتِحْبَاب وَبَين الدُّعَاء الَّذِي نهوا عَنهُ اَوْ لم يؤمروا بِهِ وَلم ينهوا عَنهُ فَإِن دُعَاء العَبْد لرَبه ومسألته اياه ثَلَاثَة انواع

نوع امْر بِهِ العَبْد اما امْر ايجاب واما امْر اسْتِحْبَاب مثل قَوْله {اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم} سُورَة الْفَاتِحَة 6 وَمثل دُعَائِهِ فِي اخر الصَّلَاة كالدعاء الَّذِي كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَأْمر بِهِ اصحابه فَقَالَ اذا قعد احدكم فِي التَّشَهُّد فليستعذ بِاللَّه من ارْبَعْ من عَذَاب جَهَنَّم وَعَذَاب الْقَبْر وفتنة الْمحيا وَالْمَمَات وفتنة الْمَسِيح الدَّجَّال فَهَذَا دُعَاء امْر بِهِ النَّبِي

ص: 129

صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الصَّحَابَة ان يدعوا بِهِ فِي اخر صلَاتهم وَقد اتّفقت الامة على انه مَشْرُوع يُحِبهُ الله وَرَسُوله ويرضاه وَتَنَازَعُوا فِي وُجُوبه فأوجبه طَاوُوس وَطَائِفَة وَهُوَ قَول فِي مَذْهَب احْمَد وَالْأَكْثَرُونَ قَالُوا هُوَ مُسْتَحبّ

والادعيه الَّتِي كَانَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَدْعُو بهَا اَوْ يعلم اصحابه ان يدعوا بهَا لَا تخرج عَن ان تكون وَاجِبَة اَوْ مستحبه وكل وَاحِد من الْوَاجِب وَالْمُسْتَحب فَالله يُحِبهُ ويرضاه وَمن فعله رضي الله عنه وارضاه فَهَل يكون من الرِّضَا ترك مَا يُحِبهُ ويرضاه

وَنَوع من الدُّعَاء ينْهَى عَنهُ كالاعتداء فِي الدُّعَاء مثل ان يسْأَل الرجل مَا لَا يصلح لَهُ مِمَّا هُوَ من خَصَائِص الانبياء وَلَيْسَ هُوَ بِنَبِي وَرُبمَا هُوَ من خَصَائِص الرب سبحانه وتعالى مثل ان يسْأَل لنَفسِهِ الْوَسِيلَة الَّتِي لَا تصلح الا لعبد من عباده اَوْ

ص: 130

يسْأَل الله ان يَجعله افضل من اولياء الله حَتَّى يكون افضل من ابي بكر وَعمر اَوْ يسْأَل الله ان يَجعله بِكُل شَيْء عليم اَوْ على كل شَيْء قدير اَوْ يرفع عَنهُ كل حجاب يمنعهُ من مطالعة الغيوب وامثال ذَلِك اَوْ مثل من يَدعُوهُ ظَانّا انه مُحْتَاج الى عباده وانهم يبلغون ضره ونفعه فيطلب مِنْهُ ذَلِك الْفِعْل وَيذكر انه اذا لم يَفْعَله حصل لَهُ ضير من الْخلق فَهَذَا وَنَحْوه جهل بِاللَّه واعتداء فِي الدُّعَاء وان وَقع فِي نَحْو ذَلِك طَائِفَة من الشُّيُوخ

وَمثل ان يَقُول اللَّهُمَّ اغْفِر لي ان شِئْت فيظن ان الله قد يفعل الشَّيْء مُخْتَارًا وَقد يعقله مكْرها كالملوك فَيَقُول اغْفِر لي ان شِئْت

وَقد نهى النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن ذَلِك وَقَالَ لَا يقل

ص: 131

احدكم اللَّهُمَّ اغْفِر لي ان شِئْت اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي ان شِئْت وَلَكِن ليعزم الْمَسْأَلَة فَإِن الله لَا مكره لَهُ وَمثل ان يقْصد السجع فِي الدُّعَاء ويتشهق ويتشدق وامثال ذَلِك

فَهَذِهِ الادعية وَنَحْوهَا منهى عَنْهَا وَمن الدُّعَاء مَا هُوَ مُبَاح كَطَلَب الفضول الَّتِي لَا مَعْصِيّة فِيهَا

وَالْمَقْصُود ان الرِّضَا الَّذِي هُوَ من طَرِيق الله لَا يتَضَمَّن ترك وَاجِب وَلَا ترك مُسْتَحبّ فالدعاء الَّذِي هُوَ وَاجِب اَوْ مُسْتَحبّ لَا يكون تَركه من الرِّضَا كَمَا ان ترك سَائِر الْوَاجِبَات لَا يكون من الرِّضَا الْمَشْرُوع وَلَا فعل الْمُحرمَات من الرِّضَا الْمَشْرُوع

ص: 132

فقد تبين غلط هَؤُلَاءِ من جِهَة ظنهم ان الرِّضَا مَشْرُوع بِكُل مَقْدُور وَمن جِهَة انهم لم يميزوا بَين الدُّعَاء الْمَشْرُوع ايجابا اَوْ اسْتِحْبَابا وَالدُّعَاء غير الْمَشْرُوع وَقد علم بالاضطرار من دين الاسلام ان طلب الْجنَّة من الله والاستعاذة بِهِ من النَّار هُوَ من اعظم الادعية الْمَشْرُوعَة لكل اُحْدُ من الْمُرْسلين والنبيين وَجَمِيع الصديقين وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وان ذَلِك لَا يخرج عَن كَونه وَاجِبا اَوْ مُسْتَحبا وَطَرِيق اولياء الله الَّتِي يسلكونها لَا تخرج عَن فعل وَاجِبَات ومستحبات اذ مَا سوى ذَلِك محرم اَوْ مَكْرُوه اَوْ مُبَاح لَا مَنْفَعَة فِيهِ فِي الدّين

ثمَّ انه مِمَّا اوقع هَؤُلَاءِ فِي هَذَا الْغَلَط انهم وجدوا كثيرا من النَّاس لَا يسْأَلُون الله جلب الْمَنَافِع وَدفع المضار حَتَّى طلب الْجنَّة والاستعاذة من النَّار من جِهَة كَون ذَلِك عبَادَة وَطَاعَة

ص: 133

وَخيرا بل من جِهَة كَون النَّفس تطلب ذَلِك فَرَأَوْا ان من الطَّرِيق ترك مَا تختاره النَّفس وتريده وان لَا يكون لأَحَدهم ارادة اصلا بل يكون مَطْلُوبه الجريان تَحت الْقد كَائِنا من كَانَ وَهَذَا هُوَ الَّذِي ادخل كثيرا مِنْهُم فِي الرهبانية وَالْخُرُوج عَن الشَّرِيعَة حَتَّى تركُوا من الاكل وَالشرب واللباس وَالنِّكَاح مَا يَحْتَاجُونَ اليه وَمَا لَا تتمّ مصلحَة دينهم الا بِهِ فانهم رَأَوْا الْعَامَّة تعد هَذِه الامور عبَادَة بِحكم الطَّبْع والهوى وَالْعَادَة وَمَعْلُوم ان الافعال الَّتِي تقع على هَذَا الْوَجْه لَا تكون عبَادَة وَلَا طَاعَة وَلَا قربَة فَرَأى اولئك ان الطَّرِيق الى الله ترك هَذِه الامور لِأَنَّهَا من الطبيعيات والعادات فلازموا من الْجُوع والسهر وَالْخلْوَة والصمت وَغير ذَلِك مِمَّا فِيهِ ترك الحظوظ وَاحْتِمَال المشاق مَا اوقعهم فِي ترك وَاجِبَات ومستحبات وَفعل مكروهات ومحرمات

ص: 134

وكلا الْأَمريْنِ غير مَحْمُود وَلَا مَأْمُور بِهِ وَلَا طَرِيق الى الله طَرِيق المفرطين الَّذين فعلوا هَذِه الامور الْمُحْتَاج اليها على غير وَجه الْعِبَادَة والقربة الى الله وَطَرِيق الْمُعْتَدِينَ الَّذين تركُوا هَذِه الافعال بل الْمَشْرُوع ان تفعل بنية التَّقَرُّب الى الله وان يشْكر الله

قَالَ تَعَالَى {كلوا من الطَّيِّبَات وَاعْمَلُوا صَالحا} سُورَة الْمُؤْمِنُونَ 51 وَقَالَ تَعَالَى {كلوا من طَيّبَات مَا رزقناكم واشكروا لله} سُورَة الْبَقَرَة 172 فَأمر بِالْأَكْلِ وَالشُّكْر فَمن أكل وَلم يشْكر كَانَ مذموما وَمن لم يَأْكُل لم يشْكر كَانَ مذموما

وَفِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم انه قَالَ ان الله ليرضى عَن العَبْد ان يَأْكُل الْأكلَة فيحمده عَلَيْهَا وَيشْرب الشربة فيحمده عَلَيْهَا

ص: 135

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لسعد انك لن تنْفق نَفَقَة تبتغي بهَا وَجه الله الا ازددت بهَا دَرَجَة ورفعة حَتَّى اللُّقْمَة ترفعها الى فِي امْرَأَتك

وَفِي الصَّحِيح ايضا انه اذا انفق الرجل على اهله يحتسبها فَهُوَ لَهُ صدقه

فَكَذَلِك الادعية هَب ان من النَّاس من يسْأَل الله جلب الْمَنْفَعَة لَهُ وَدفع الْمضرَّة عَنهُ طبعا وَعَادَة لَا شرعا وَعبادَة فَلَيْسَ من الْمَشْرُوع لي ان ادْع الدُّعَاء مُطلقًا لأجل تَقْصِير هَذَا وتفريطه بل افعله انا شرعا وَعبادَة

ص: 136

ثمَّ اعْلَم ان الَّذِي يَفْعَله شرعا وَعبادَة انما يسْعَى فِي مصلحَة نَفسه وَطلب حظوظه المحمودة فَهُوَ يطْلب مصلحَة دُنْيَاهُ واخرته بِخِلَاف الَّذِي يَفْعَله طبعا فَإِنَّهُ انما يطْلب مصلحَة دُنْيَاهُ فَقَط كَمَا قَالَ تَعَالَى فَمن النَّاس من يَقُول رَبنَا اتنا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الاخرة من خلاق وَمِنْهُم من يَقُول رَبنَا اتنا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة وَفِي الاخرة حَسَنَة وقنا عَذَاب النَّار اولئك لَهُم نصيب مِمَّا كسبوا وَالله سريع الْحساب سُورَة الْبَقَرَة 200 202 وَحِينَئِذٍ فطالب الْجنَّة والمستعيذ من النَّار انما يطْلب حَسَنَة الاخرة فَهُوَ مَحْمُود

وَمِمَّا يبين الامر فِي ذَلِك ان يرد قَول هَؤُلَاءِ بِأَن العَبْد لَا يفعل مَأْمُورا وَلَا يتْرك مَحْظُورًا فَلَا يُصَلِّي وَلَا يَصُوم وَلَا يتَصَدَّق وَلَا يحجّ وَلَا يُجَاهد وَلَا يفعل شَيْئا من الْخَيْر فَإِن ذَلِك انما فَائِدَته حُصُول الثَّوَاب وَدفع الْعقَاب فاذا كَانَ هُوَ لَا يطْلب حُصُول الثَّوَاب الَّذِي هُوَ الْجنَّة وَلَا دفع الْعقَاب الَّذِي هوالنار فَلَا يفعل مَأْمُورا وَلَا يتْرك مَحْظُورًا وَيَقُول انا رَاض بِكُل مَا يَفْعَله بِي وان

ص: 137

كفرت وفسقت وعصيت بل يَقُول انا اكفر وافسق واعصي حَتَّى يعاقبني وارضى بعقابه فأنال دَرَجَة الرِّضَا بِقَضَائِهِ وَهَذَا قَول من هُوَ اجهل الْخلق واحمقهم واضلهم واكفرهم

اما جَهله وحمقه فَلِأَن الرِّضَا بذلك مُمْتَنع مُتَعَذر وَلِأَن ذَلِك مُسْتَلْزم الْجمع بَين النقيضين واما كفره فَلِأَنَّهُ مُسْتَلْزم لتعطيل دين الله الَّذِي بعث بِهِ رسله وَانْزِلْ بِهِ كتبه وَلَا ريب ان مُلَاحظَة الْقَضَاء وَالْقدر اوقعت كثيرا من اهل الارادة من المتصوفة فِي ان تركُوا من الْمَأْمُور وفعلوا من الْمَحْظُور مَا صَارُوا بِهِ إِمَّا ناقصين محرومين وَإِمَّا عاصين وَإِمَّا فاسقين وَإِمَّا كَافِرين وَقد رَأَيْت من ذَلِك الوانا {وَمن لم يَجْعَل الله لَهُ نورا فَمَا لَهُ من نور} سُورَة النُّور 40

وَهَؤُلَاء والمعتزله وَنَحْوهم من الْقَدَرِيَّة فِي طرفِي نقيض

هَؤُلَاءِ يلاحظون الْقدر ويعرضون عَن الامر واولئك يلاحظون الامر ويعرضون عَن الْقدر والطائفتان تظن ان مُلَاحظَة الامر

ص: 138

وَالْقدر مُتَعَذر كَمَا ان طَائِفَة تجْعَل ذَلِك مُخَالفا للحكمة وَالْعدْل

وَهَذِه الاصناف الثَّلَاثَة هِيَ الْقَدَرِيَّة الْمَجُوسِيَّة والقدرية المشركية الْقَدَرِيَّة الابليسية وَقد بسطنا الْكَلَام على هَذِه الْفرق فِي غير هَذَا الْموضع

واكثر مَا يبتلى بِهِ السالكون اهل الاراداة والعامة فِي هَذَا الزَّمَان هِيَ الْقَدَرِيَّة المشركية فَيَشْهَدُونَ الْقدر ويعرضون عَن الامر كَمَا قَالَ فيهم بعض الْعلمَاء انت عِنْد الطَّاعَة قدرى وَعند الْمعْصِيَة جبري أَي مَذْهَب وَافق هَوَاك تمذهبت بِهِ وانما الْمَشْرُوع الْعَكْس وهوان يكون عِنْد الطَّاعَة يَسْتَعِين الله عَلَيْهَا قبل الْفِعْل ويشكره عَلَيْهَا بعد الْفِعْل ويجتهد ان لَا يعْصى فَإِذا اذنب وَعصى بَادر الى التَّوْبَة وَالِاسْتِغْفَار

كَمَا فِي الحَدِيث سيد الاسْتِغْفَار ان يَقُول العَبْد ابوء لَك

ص: 139

بنعمتك عَليّ وابوء بذنبي فَاغْفِر لي وكما فِي الحَدِيث الصَّحِيح الالهي يَا عبَادي انما هِيَ اعمالكم احصيها لكم ثمَّ اوفيكم اياها فَمن وجد خيرا فليحمد الله وَمن وجد غير ذَلِك لَا يَلُومن الا نَفسه

وَمن هَذَا الْبَاب دخل قوم من اهل الارادة فِي ترك الدُّعَاء واخرون جعلُوا التَّوَكُّل والمحبة وَنَحْو ذَلِك من مقامات الْعَامَّة وامثال هَذِه الاغاليط الَّتِي قد تكلمنا عَلَيْهَا فِي غير هُنَا الْموضع

ص: 140

وَبينا الْفرق بَين الصَّوَاب وَالْخَطَأ فِي ذَلِك وَلِهَذَا وامثاله يُوجد فِي كَلَام ائمة هَؤُلَاءِ الْمَشَايِخ الْوَصِيَّة بِاتِّبَاع الْعلم والشريعة كَقَوْل سهل بن عبد الله التسترِي رحمه الله الْعَمَل بِلَا اقْتِدَاء عَيْش النَّفس وَالْعَمَل بالاقتداء عَذَاب على النَّفس وَقَالَ كل وجد لَا يشْهد لَهُ الْكتاب وَالسّنة فَهُوَ بَاطِل وَقَالَ الْجُنَيْد بن مُحَمَّد من لم يقْرَأ الْقُرْآن وَيكْتب الحَدِيث لَا يقْتَدى بِهِ فِي هَذَا الشَّأْن لِأَن علمنَا هَذَا مُقَيّد بِالْكتاب وَالسّنة وَقَالَ احْمَد بن ابي الْحوَاري من عمل عملا بِلَا اتِّبَاع سنة رَسُول صلى الله عليه وسلم فَبَاطِل عمله

ص: 141