المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌فصل في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر - الاستقامة - جـ ٢

[ابن تيمية]

فهرس الكتاب

- ‌فصل وَمن اسباب ذَلِك مَا وَقع من الاشراك فِي لفظ الْغيرَة فِي كَلَام الْمَشَايِخ

- ‌فصل فِيمَا ذكره الاستاذ ابو الْقَاسِم الْقشيرِي فِي بَاب الرِّضَا عَن الشَّيْخ ابي

- ‌فصل فِي السكر واسبابه وَأَحْكَامه

- ‌فصل وَمن أقوى الْأَسْبَاب الْمُقْتَضِيَة للسكر سَماع الْأَصْوَات المريبة من وَجْهَيْن من

- ‌فصل اذا تبين هَذَا فَاعْلَم ان اللَّذَّة وَالسُّرُور امْر مَطْلُوب بل هُوَ مَقْصُود

- ‌فصل واذا كَانَت اللَّذَّة مَطْلُوبَة لنَفسهَا فَهِيَ انما تذم اذا اعقبت الما اعظم

- ‌فصل فَإِذا تبين ان السكر مؤلف من امرين وجودي وَهُوَ اللَّذَّة وعدمي وَهُوَ عدم

- ‌فصل فَإِذا تبين أَن جنس عدم الْعقل وَالْفِقْه لَا يحمد بِحَال فِي الشَّرْع بل

- ‌فصل فَهَكَذَا زَوَال الْعقل بالسكر هُوَ من نوع زَوَاله بالإغماء وَالْجُنُون وَنَحْو

- ‌فصل فقد تبين ان اُحْدُ وصفي السكر مَنْفَعَة فِي الاصل وَالْوَصْف الاخر اثم كَمَا

- ‌فصل قَالَ الله تَعَالَى لما اهبط آدم وَمن مَعَه الى الارض

- ‌فصل فِي الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر

- ‌فصل واذا كَانَت جَمِيع الْحَسَنَات لَا بُد فِيهَا من شَيْئَيْنِ ان يُرَاد بهَا

- ‌فصل فِي الْإِكْرَاه وَمَا يتَعَلَّق بِهِ

الفصل: ‌فصل في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر

تَقولُوا على الله مَا لَا تعلمُونَ سُورَة الاعراف 33

وَكثير من هَؤُلَاءِ انما يُنكر بِكَلَامِهِ اباحة ذَلِك التَّعَبُّد بِهِ وَلَكِن حَاله حَال من يتعبد بِهِ حَتَّى انهم يتواصون فِيمَا بَينهم بِأَن المريد السالك يَنْبَغِي ان يتَّخذ لنَفسِهِ صُورَة يجْتَمع عَلَيْهَا ثمَّ يترقى مِنْهَا الى الله اَوْ انه يُشَاهد فِيهَا الله

‌فصل فِي الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر

الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر هُوَ الَّذِي انْزِلْ الله بِهِ

ص: 198

كتبه وارسل بِهِ رسله وَهُوَ من الدّين فان رِسَالَة الله اما اخبار واما انشاء

فالاخبار عَن نَفسه عز وجل وَعَن خلقه مثل التَّوْحِيد والقصص الَّذِي ينْدَرج فِيهِ الْوَعْد والوعيد والانشاء الامر وَالنَّهْي والاباحة

وَهَذَا كَمَا ذكر فِي الحَدِيث ان قل هُوَ الله اُحْدُ سُورَة الاخلاص تعدل ثلث الْقُرْآن لتضمنها الثُّلُث الَّذِي هُوَ التَّوْحِيد لِأَن الْقُرْآن تَوْحِيد وامر وقصص

وَقَوله سُبْحَانَهُ فِي صفة نَبينَا صلى الله عليه وسلم يَأْمُرهُم بِالْمَعْرُوفِ وينهاهم عَن الْمُنكر وَيحل لَهُم الطَّيِّبَات وَيحرم عَلَيْهِم الْخَبَائِث سُورَة الاعراف 157 هُوَ لبَيَان كَمَال رسَالَته فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم هُوَ الَّذِي امْر الله على

ص: 199

لِسَانه بِكُل مَعْرُوف وَنهى عَن كل مُنكر واحل كل طيب وَحرم كل خَبِيث

وَلِهَذَا روى عَنهُ صلى الله عليه وسلم انه قَالَ انما بعثت لاتمم مَكَارِم الاخلاق وَقَالَ فِي الحَدِيث الْمُتَّفق عَلَيْهِ أَنما مثلى وَمثل الانبياء كَمثل رجل بنى دَارا فأتمها وأكملها الا مَوضِع لبنة فَكَانَ النَّاس يطيفون بهَا ويعجبون من حسنها وَيَقُولُونَ

ص: 200

لَوْلَا مَوضِع اللبنة فَأَنا تِلْكَ اللبنة فبه أكمل الله الدّين المتضمن لِلْأَمْرِ بِكُل مَعْرُوف وَالنَّهْي عَن كل مُنكر واحلال كل طيب وَتَحْرِيم كل خَبِيث

واما من كَانَ قبله من الرُّسُل فقد كَانَ يحرم على اممهم بعض الطَّيِّبَات كَمَا قَالَ الله تَعَالَى فبظلم من الَّذين هادوا حرمنا عَلَيْهِم طَيّبَات احلت لَهُم سُورَة النِّسَاء 160 وَرُبمَا لم يحرم عَلَيْهِم جَمِيع الْخَبَائِث كَمَا قَالَ تَعَالَى كل الطَّعَام كَانَ حلا لبني اسرائيل الا مَا حرم اسرائيل على نَفسه من قبل ان تنزل التَّوْرَاة سُورَة آل عمرَان 93

وَتَحْرِيم الْخَبَائِث ينْدَرج فِي معنى النَّهْي عَن الْمُنكر كَمَا ان احلال الطَّيِّبَات ينْدَرج فِي معنى الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر لِأَن تَحْرِيم الطَّيِّبَات هُوَ مِمَّا نهى الله عَنهُ وَكَذَلِكَ

ص: 201

الْأَمر بِجَمِيعِ الْمَعْرُوف وَالنَّهْي عَن كل مُنكر مِمَّا لم يتم الا للرسول الَّذِي تمم الله بِهِ مَكَارِم الاخلاق المندرجة فِي الْمعرفَة

وَقد قَالَ الله تَعَالَى الْيَوْم اكملت لكم دينكُمْ واتممت عَلَيْكُم نعمتي ورضيت لكم الاسلام دينا سُورَة الْمَائِدَة فقد اكمل الله لنا الدّين واتم علينا النِّعْمَة وَرَضي لنا الاسلام دينا

وَكَذَلِكَ وصف الله الامة بِمَا وصف بِهِ نبيها حَيْثُ قَالَ كُنْتُم خير امة اخرجت للنَّاس تأمرون بِالْمَعْرُوفِ وتنهون عَن الْمُنكر وتؤمنون بِاللَّه سُورَة آل عمرَان 110 وَقَالَ والمؤمنون وَالْمُؤْمِنَات بَعضهم اولياء بعض يأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر سور التَّوْبَة 71

وَلِهَذَا قَالَ ابو هُرَيْرَة رضي الله عنه كُنْتُم خير النَّاس

ص: 202

للنَّاس تأتون بهم فِي الاقياد والسلاسل حَتَّى تدخلوهم الْجنَّة فَبين الله سُبْحَانَهُ ان هَذِه الامة خير الامم للنَّاس فهم انفعهم لَهُم وأعظمهم أحسانا إِلَيْهِم لأَنهم كملوا أَمر النَّاس بِالْمَعْرُوفِ ونهيهم عَن الْمُنكر من جِهَة الصّفة وَالْقدر حَيْثُ امروا بِكُل مَعْرُوف ونهوا عَن كل مُنكر لكل اُحْدُ واقاموا ذَلِك بِالْجِهَادِ فِي سَبِيل الله بِأَنْفسِهِم واموالهم وَهَذَا كَمَال النَّفْع لِلْخلقِ

وَسَائِر الامم لم يأمروا كل اُحْدُ بِكُل مَعْرُوف وَلَا نهوا كل اُحْدُ عَن كل مُنكر وَلَا جاهدوا على ذَلِك بل مِنْهُم من لم يجاهدوا وَالَّذين جاهدوا كبنى اسرائيل فغاية جهادهم كَانَ لدفع عدوهم من ارضهم كَمَا يُقَاتل الصَّائِل الظَّالِم لَا لدَعْوَة الْمُجَاهدين الى الْهدى وَالْخَيْر وَلَا لأمرهم بِالْمَعْرُوفِ

ص: 203

ونهيهم عَن الْمُنكر كَمَا قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ياقوم ادخُلُوا الارض المقدسة الَّتِي كتب الله لكم وَلَا ترتدوا على ادباركم فتنقلبوا خاسرين قَالُوا يَا مُوسَى ان فِيهَا قوما جبارين وانا لن ندْخلهَا حَتَّى يخرجُوا مِنْهَا فَإِن يخرجُوا مِنْهَا فَإنَّا داخلون الى قَوْله فَاذْهَبْ انت وَرَبك فَقَاتلا انا هَا هُنَا قَاعِدُونَ سُورَة الْمَائِدَة 2421

وكما قَالَ تَعَالَى الم تَرَ الى الملا من بني اسرائيل من بعد مُوسَى اذ قَالُوا لنَبِيّ لَهُم ابْعَثْ لنا ملكا نُقَاتِل فِي سَبِيل الله قَالَ هَل عسيتم ان كتب عَلَيْكُم الْقِتَال الا تقاتلوا قَالُوا وَمَا لنا الا نُقَاتِل فِي سَبِيل الله وَقد اخرجنا من دِيَارنَا وابنائنا سُورَة الْبَقَرَة 246 فعللوا الْقِتَال بِأَنَّهُم اخْرُجُوا من دِيَارهمْ وابنائهم وَمَعَ هَذَا كَانُوا ناكلين عَمَّا امروا بِهِ من ذَلِك وَلِهَذَا لم تحل الْغَنَائِم لَهُم وَلم يَكُونُوا يطؤون بِملك الْيَمين

ص: 204

وَمَعْلُوم ان اعظم الامم الْمُؤمنِينَ قبلنَا هم بَنو اسرائيل كَمَا جَاءَ فِي الحَدِيث الْمُتَّفق على صِحَّته فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس رضي الله عنهما قَالَ خرج علينا النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ عرضت على البارحة الانبياء بأممهم فَجعل يمر النَّبِي وَمَعَهُ الرجل وَالنَّبِيّ مَعَه الرّجلَانِ وَالنَّبِيّ مَعَه الرَّهْط وَالنَّبِيّ لَيْسَ مَعَه اُحْدُ وَرَأَيْت سوادا كثيرا سد الْأُفق وَفِي رِوَايَة فَإِذا الطَّرِيق ممتلئة بِالرِّجَالِ فرجوت ان يكون امتي فَقلت هَذِه امتي فَقيل هَذَا مُوسَى فِي بني اسرئيل وَلَكِن انْظُر هَكَذَا وَهَكَذَا

ص: 205

فَرَأَيْت سوادا كثيرا قد سد الافق فَقيل هَؤُلَاءِ امتك وَمَعَ هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ الْفَا يدْخلُونَ الْجنَّة بِغَيْر حِسَاب فَتفرق النَّاس وَلم يتَبَيَّن لَهُم فَتَذَاكَرَ اصحاب النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا اما نَحن فولدنا فِي الشّرك وَلَكنَّا امنا بِاللَّه وَرَسُوله وَلَكِن هَؤُلَاءِ أَبْنَاؤُنَا فَبلغ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَالَ هم الَّذين لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يسْتَرقونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ فَقَامَ عكاشة بن مُحصن فَقَالَ امنهم انا يَا رَسُول الله قَالَ نعم فَقَامَ اخر فَقَالَ امنهم انا فَقَالَ سَبَقَك بهَا عكاشة

وَلِهَذَا كَانَ اجماع هَذِه الامة حجَّة لِأَن الله قد اخبر انهم

ص: 206

يأمرون بِكُل مَعْرُوف وَينْهَوْنَ عَن كل مُنكر فَلَو اتَّفقُوا على اباحة محرم اَوْ اسقاط وَاجِب اَوْ تَحْرِيم حَلَال اَوْ اخبار عَن الله اَوْ خلقه بباطل لكانوا متصفين بالامر بمنكر وَالنَّهْي عَن مَعْرُوف والامر بالمنكر وَالنَّهْي عَن الْمَعْرُوف لَيْسَ من الْكَلم الطّيب وَالْعَمَل الصَّالح بل الاية تَقْتَضِي ان مَا لم تَأمر بِهِ الْأمة فَلَيْسَ من الْمَعْرُوف وَمَا لم تنه عَنهُ فَلَيْسَ من الْمُنكر واذا كَانَت امرة بِكُل مَعْرُوف ناهية عَن كل مُنكر فَكيف يجوز ان تَأمر كلهَا بمنكر اَوْ تنهي كلهَا عَن مَعْرُوف

وَالله سبحانه وتعالى كَمَا اخبر بِأَنَّهَا تَأمر بِالْمَعْرُوفِ وتنهى عَن الْمُنكر فقد اوجب ذَلِك على الْكِفَايَة مِنْهَا بقوله ولتكن مِنْكُم امة يدعونَ الى الْخَيْر ويأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر وَأُولَئِكَ هم المفلحون سُورَة آل عمرَان 104

واذا اخبر بِوُقُوع الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن المنكرمنها

ص: 207

لم يكن من شَرط ذَلِك ان يصل امْر لامر وَنهى الناهي مِنْهَا الى كل مُكَلّف فِي الْعَالم اذ لَيْسَ هَذَا من شَرط تَبْلِيغ الرسَالَة فَكيف يشْتَرط فِيمَا هُوَ من توابعها بل الشَّرْط ان يتَمَكَّن المكلفون من وُصُول ذَلِك اليهم ثمَّ اذا فرطوا فَلم يسعوا فِي وُصُوله اليهم مَعَ قيام فَاعله بِمَا يجب عَلَيْهِ كَانَ التَّفْرِيط مِنْهُم لَا مِنْهُ

وَكَذَلِكَ وجوب الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر لَا يجب على كل اُحْدُ بِعَيْنِه بل هُوَ على الْكِفَايَة كَمَا دلّ عَلَيْهِ الْقُرْآن وَلما كَانَ الْجِهَاد من تَمام ذَلِك كَانَ الْجِهَاد ايضا كَذَلِك فَإِذا لم يقم بِهِ من يقوم بواجبه اثم كل قَادر بِحَسب قدرته اذ هُوَ وَاجِب على كل انسان بِحَسب قدرته

كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم من رأى مِنْكُم مُنْكرا فليغيره بِيَدِهِ فَإِن لم يسْتَطع فبلسانه فَإِن لم يسْتَطع فبقلبه وَذَلِكَ اضعف الايمان

ص: 208

واذ كَانَ كَذَلِك فمعلوم ان الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر واتمامه بِالْجِهَادِ هُوَ من اعظم الْمَعْرُوف الَّذِي امرنا بِهِ وَمن النَّهْي عَن الْمُنكر اقامة الْحُدُود على من خرج من شَرِيعَة الله وَيجب على اولى الامر وهم عُلَمَاء كل طَائِفَة وامراؤها ومشايخها ان يقومُوا على عامتهم ويأمروهم بِالْمَعْرُوفِ وينهوهم عَن الْمُنكر فيأمرونهم بِمَا امْر الله بِهِ وَرَسُوله مثل شرائع الاسلام وَهِي الصَّلَوَات الْخمس فِي مواقيتها وَكَذَلِكَ الصَّدقَات الْمَشْرُوعَة وَالصَّوْم الْمَشْرُوع وَحج الْبَيْت الْحَرَام وَمثل الايمان بِاللَّه وَمَلَائِكَته وَكتبه وَرُسُله وَالْيَوْم الاخر والايمان بِالْقدرِ خَيره وشره وَمثل الاحسان وَهُوَ ان تبعد الله كَأَنَّك ترَاهُ فَإِن لم تكن ترَاهُ فانه يراك

وَمثل مَا امْر الله بِهِ وَرَسُوله من الامور الْبَاطِنَة وَالظَّاهِرَة وَمثل اخلاص الدّين لله والتوكل على الله وان يكون الله وَرَسُوله احب اليه مِمَّا سواهُمَا والرجاء لرحمة الله والخشية من عَذَابه وَالصَّبْر لحكم الله وَالتَّسْلِيم لأمر الله

وَمثل صدق الحَدِيث وَالْوَفَاء بالعهود واداء الامانات الى اهلها وبر الْوَالِدين وصلَة الارحام والتعاون على الْبر وَالتَّقوى والاحسان الى الْجَار واليتيم والمسكين وَابْن السَّبِيل والصاحب وَالزَّوْجَة

ص: 209

والمملوك وَالْعدْل فِي الْمقَال والفعال ثمَّ النّدب الى مَكَارِم الاخلاق مثل ان تصل من قَطعك وتعطى من حَرمك وَتَعْفُو عَن ظلمك

وَمن الامر بِالْمَعْرُوفِ كَذَلِك الامر بالائتلاف والاجتماع وَالنَّهْي عَن الِاخْتِلَاف والفرقة وَغير ذَلِك

واما الْمُنكر الَّذِي نهى الله عَنهُ وَرَسُوله فأعظمه الشّرك بِاللَّه وَهُوَ ان يَدْعُو مَعَ الله الها اخر كَالشَّمْسِ وَالْقَمَر وَالْكَوَاكِب اَوْ كملك من الْمَلَائِكَة اَوْ نَبِي من الانبياء اَوْ رجل من الصَّالِحين اَوْ اُحْدُ من الْجِنّ اَوْ تماثيل هَؤُلَاءِ اَوْ قُبُورهم اَوْ غير ذَلِك مِمَّا يدعى من دون الله تَعَالَى اَوْ يستغاث بِهِ اَوْ يسْجد لَهُ فَكل هَذَا واشباهه من الشّرك الَّذِي حرمه الله على لِسَان جَمِيع رسله

وَمن الْمُنكر كل مَا حرمه الله كَقَتل النَّفس بِغَيْر الْحق واكل اموال النَّاس بِالْبَاطِلِ بِالْغَصْبِ اَوْ بالربا اَوْ الميسر والبيوع والمعاملات الَّتِي نهى عَنْهَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَكَذَلِكَ قطيعة الرَّحِم وعقوق الْوَالِدين وتطفيف الْمِكْيَال وَالْمِيزَان والاثم وَالْبَغي وَكَذَلِكَ الْعِبَادَات المبتدعة الَّتِي لم يشرعها الله وَرَسُوله صلى الله عليه وسلم وَغير ذَلِك

والرفق سبييل الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر

ص: 210

وَلِهَذَا قيل ليكن امرك بِالْمَعْرُوفِ بِالْمَعْرُوفِ ونهيك عَن الْمُنكر غير مُنكر

واذا كَانَ الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر من اعظم الْوَاجِبَات اَوْ المستحبات فالواجبات والمستحبات لَا بُد ان تكون الْمصلحَة فِيهَا راجحة على الْمفْسدَة اذ بِهَذَا بعثت الرُّسُل وانزلت الْكتب وَالله لَا يحب الْفساد بل كل مَا امْر الله بِهِ فَهُوَ صَلَاح وَقد اثنى الله على الصّلاح والمصلحين وَالَّذين امنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وذم الْفساد والمفسدين فِي غير مَوضِع فَحَيْثُ كَانَت مفْسدَة الامر وَالنَّهْي اعظم من مصْلحَته لم يكن مِمَّا امْر الله بِهِ وان كَانَ قد ترك وَاجِب وَفعل محرم إِذْ لمُؤْمِن عَلَيْهِ ان يتقى الله فِي عباد الله وَلَيْسَ عَلَيْهِ هدَاهُم وَهَذَا من معنى قَوْله تَعَالَى يَا

ص: 211

ايها الَّذين امنوا عَلَيْكُم انفسكم لَا يضركم من ضل اذا اهْتَدَيْتُمْ سُورَة الْمَائِدَة 105

والاهتداء انما يتم بأَدَاء الْوَاجِب فَإِذا قَامَ الْمُسلم بِمَا يجب عَلَيْهِ من الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر كَمَا قَامَ بِغَيْرِهِ من الْوَاجِبَات لم يضرّهُ ضلال الضال وَذَلِكَ يكون تَارَة بِالْقَلْبِ وَتارَة بِاللِّسَانِ وَتارَة بِالْيَدِ

فَأَما الْقلب فَيجب بِكُل حَال اذا لَا ضَرَر فِي فعله وَمن لم يَفْعَله فَلَيْسَ هُوَ بِمُؤْمِن كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم وَذَلِكَ ادنى اَوْ اضعف الايمان وَقَالَ لَيْسَ وَرَاء ذَلِك من الايمان حبه خَرْدَل وَقيل لِأَبْنِ مَسْعُود رضي الله عنه من ميت الاحياء فَقَالَ الَّذِي لَا يعرف مَعْرُوفا وَلَا يُنكر مُنْكرا وَهَذَا هُوَ

ص: 212

الْمفْتُون الْمَوْصُوف بِأَن قلبه كالكوز مجخيا فِي حَدِيث حُذَيْفَة بن الْيَمَان رضي الله عنه فِي الصَّحِيحَيْنِ تعرض الْفِتَن على الْقُلُوب عرض الْحَصِير الحَدِيث وَهنا يغلط فريقان من النَّاس

فريق يتْرك مَا يجب من الامر وَالنَّهْي تَأْوِيلا لهَذِهِ الاية كَمَا قَالَ ابو بكر الصّديق رضي الله عنه فِي خطبَته ايها النَّاس انكم تقرأون هَذِه الاية عَلَيْكُم انفسكم لَا يضركم من ضل اذا اهْتَدَيْتُمْ سُورَة الْمَائِدَة 105 وانكم تضعونها فِي غير موضعهَا واني سَمِعت النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقُول ان النَّاس اذا رَأَوْا الْمُنكر فَلم يغيروه اَوْ شكّ ان يعمهم الله بعقاب مِنْهُ

ص: 213

والفريق الثَّانِي من يُرِيد ان يَأْمر وَيُنْهِي اما بِلِسَانِهِ واما بِيَدِهِ مُطلقًا من غير فقه وَلَا حكم وَلَا صَبر وَلَا نظر فِي مَا يصلح من ذَلِك وَمَا لَا يصلح وَمَا يقدر عَلَيْهِ وَمَا لَا يقدر كَمَا فِي حَدِيث ابي ثَعْلَبه الْخُشَنِي سَأَلت عَنْهَا اي الاية رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ بل ائْتَمرُوا بالعروف وَتَنَاهوا عَن الْمُنكر حَتَّى اذا رَأَيْت شحا مُطَاعًا وَهوى مُتبعا ودينا مُؤثرَة واعجاب كل ذِي رأى بِرَأْيهِ وَرَأَيْت امْرأ لَا يدان لَك بِهِ فَعَلَيْك بِنَفْسِك ودع عَنْك امْر الْعَوام فَإِن من ورائك ايام الصَّبْر الصَّبْر فِيهِنَّ مثل قبض على الْجَمْر لِلْعَامِلِ فِيهِنَّ كَأَجر خمسين رجلا يعْملُونَ مثل عمله فَيَأْتِي بِالْأَمر وَالنَّهْي مُعْتَقدًا انه مُطِيع فِي

ص: 214

ذَلِك لله وَرَسُوله وَهُوَ مُعْتَد فِي حُدُوده كَمَا نصب كثير من اهل الْبدع والاهواء نَفسه لِلْأَمْرِ وَالنَّهْي كالخوارج والمعتزلة والرافضة وَغَيرهم من غلط فِيمَا اتاه من الامر وَالنَّهْي وَالْجهَاد وَغير ذَلِك فَكَانَ فَسَاده اعظم من صَلَاحه

وَلِهَذَا امْر النَّبِي صلى الله عليه وسلم بِالصبرِ على جور الائمة وَنهى عَن قِتَالهمْ مَا اقاموا الصَّلَاة وَقَالَ ادوا اليهم حُقُوقهم وسلوا الله حقوقكم وَقد بسطنا القَوْل فِي ذَلِك فِي غير هَذَا الْموضع

وَلِهَذَا كَانَ من اصول اهل السّنة وَالْجَمَاعَة لُزُوم الْجَمَاعَة وَترك قتال الائمة وَترك الْقِتَال فِي الْفِتْنَة واما اهل الاهواء

ص: 215

كالمعتزلة فيرون الْقِتَال للأئمة من اصول دينهم

وَيجْعَل الْمُعْتَزلَة اصول دينهم خَمْسَة التَّوْحِيد الَّذِي هُوَ سلب الصِّفَات وَالْعدْل الَّذِي هُوَ التَّكْذِيب بِالْقدرِ والمنزلة بَين المنزلتين وانفاذ الْوَعيد والامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر الَّذِي فِيهِ قتال الائمة وَقد تَكَلَّمت على قتال الائمة فِي غيرهذا الْموضع

وجماع ذَلِك دَاخل فِي الْقَاعِدَة الْعَامَّة فِيمَا اذا تَعَارَضَت الْمصَالح والمفاسد والحسنات والسيئات اَوْ تزاحمت فانه يجب تَرْجِيح الرَّاجِح مِنْهَا فِيمَا اذا ازدحمت الْمصَالح والمفاسد وتعارضت الْمصَالح والمفاسد فَإِن الْأَمر والنهى وَإِن كَانَ متضمنا لتحصل مصلحَة وَدفع مفْسدَة فَينْظر فِي الْمعَارض لَهُ فَإِن كَانَ الَّذِي يفوت من الْمصَالح اَوْ يحصل من الْمَفَاسِد اكثر لم يكن مَأْمُورا بِهِ بل يكون محرما اذا كَانَت مفسدته اكثر من مصْلحَته

ص: 216

لَكِن اعْتِبَار مقادير الْمصَالح والمفاسد هُوَ بميزان الشَّرِيعَة فَمَتَى قدر الانسان على اتِّبَاع النُّصُوص لم يعدل عَنْهَا وَلَا اجْتهد رَأْيه لمعْرِفَة الاشباه والنظائر وَقل ان تعوز النُّصُوص من يكون خَبِيرا بهَا وبدلالتها على الاحكام

وعَلى هَذَا اذا كَانَ الشَّخْص اوالطائفة جامعين بَين مَعْرُوف ومنكر بِحَيْثُ لَا يفرقون بَينهمَا بل اما ان يفعلوهما جَمِيعًا اَوْ يتركوهما جَمِيعًا لم يجز ان يؤمروا بِمَعْرُوف وَلَا ان ينهوا عَن مُنكر بل ينظر فَإِن كَانَ الْمَعْرُوف اكثر امْر بِهِ وان استلزم مَا هُوَ دونه من الْمُنكر وَلم ينْه عَن مُنكر يسْتَلْزم تَفْوِيت مَعْرُوف اعظم مِنْهُ بل يكون النَّهْي حِينَئِذٍ من بَاب الصد عَن سَبِيل الله وَالسَّعْي فِي زَوَال طَاعَته وَطَاعَة رَسُوله صلى الله عليه وسلم وَزَوَال فعل الْحَسَنَات

وان كَانَ الْمُنكر اغلب نهي عَنهُ وان استلزم فَوَات مَا هُوَ

ص: 217

دونه من الْمَعْرُوف وَيكون الامر بذلك الْمَعْرُوف المستلزم للْمُنكر الزَّائِد عَلَيْهِ امرا بمنكر وسعيا فِي مَعْصِيّة الله وَرَسُوله

وان تكافأ الْمَعْرُوف وَالْمُنكر المتلازمان لم يُؤمر بهما وَلم ينْه عَنْهُمَا فَتَارَة يصلح الامر وَتارَة يصلح النَّهْي وَتارَة لَا يصلح لَا امْر وَلَا نهي حَيْثُ كَانَ الْمُنكر وَالْمَعْرُوف متلازمين وَذَلِكَ فِي الامور الْمعينَة الْوَاقِعَة

واما من جِهَة النَّوْع فَيُؤْمَر بِالْمَعْرُوفِ مُطلقًا وَينْهى عَن الْمُنكر مُطلقًا وَفِي الْفَاعِل الْوَاحِد والطائفة الْوَاحِدَة يُؤمر بمعروفها وَينْهى عَن منكرها ويحمد محمودها ويذم مذمومها بِحَيْثُ لَا يتَضَمَّن الامر بِمَعْرُوف فَوَات مَعْرُوف اكبر مِنْهُ اَوْ حُصُول مُنكر فَوْقه وَلَا يتَضَمَّن النَّهْي عَن الْمُنكر حُصُول مَا هُوَ انكر مِنْهُ اَوْ فَوَات مَعْرُوف ارجح مِنْهُ

ص: 218

واذا اشْتبهَ الْأَمر استثبت الْمُؤمن حَتَّى يتَبَيَّن لَهُ الْحق فَلَا يقدم على الطَّاعَة الا بِعلم وَنِيَّة واذا تَركهَا كَانَ عَاصِيا فَترك الامر الْوَاجِب مَعْصِيّة وَفعل مَا نهى عَنهُ من الامر مَعْصِيّة وَهَذَا بَاب وَاسع وَلَا حول وَلَا قُوَّة الا بِاللَّه

وَمن هَذَا الْبَاب اقرار النَّبِي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن ابي وامثاله من ائمة النِّفَاق والفجور لما لَهُم من الاعوان فإزالة منكره بِنَوْع من عِقَابه مستلزمة ازاله مَعْرُوف اكبر من ذَلِك بغضب قومه وحميتهم وبنفور النَّاس اذا سمعُوا ان مُحَمَّدًا يقتل اصحابه

وَلِهَذَا لما خطب النَّاس فِي قصَّة الْإِفْك بِمَا خاطبهم بِهِ

ص: 219

وَاعْتذر مِنْهُ وَقَالَ لَهُ سعد بن معَاذ قَوْله الَّذِي احسن فِيهِ حمى لَهُ سعد بن عبَادَة مَعَ حسن ايمانه وَصدقه وتعصب لكل مِنْهُم قبيله حَتَّى كَادَت تكون فتْنَة

وَاصل هَذَا ان تكون محبَّة الانسان للمعروف وبغضه للْمُنكر وارادته لهَذَا وكراهته لهَذَا مُوَافقا لحب الله وبغضه وارادته وكراهته الشرعيتين وان يكون فعله للمحبوب وَدفعه للمكروه بِحَسب قوته وَقدرته فَإِن الله لَا يُكَلف نفسا الا وسعهَا وَقد قَالَ فَاتَّقُوا الله مَا اسْتَطَعْتُم سُورَة التغابن 16

ص: 220

فَأَما حب الْقلب وبغضه وارادته وكراهته فَيَنْبَغِي ان تكون كَامِلَة جازمة لَا يُوجب نقص ذَلِك الا نقص الايمان واما فعل الْبدن فَهُوَ بِحَسب قدرته وَمَتى كَانَت ارادة الْقلب وكراهته كَامِلَة تَامَّة وَفعل العَبْد مَعهَا بِحَسب قدرته فَإِنَّهُ يعْطى ثَوَاب الْفَاعِل الْكَامِل كَمَا قد بَيناهُ فِي غير هَذَا الْموضع

فَإِن من النَّاس من يكون حبه وبغضه وارادته وكراهته بِحَسب محبته نَفسه وبغضها لَا بِحَسب محبَّة الله وَرَسُوله وبغض الله وَرَسُوله وَهَذَا من نوع الْهوى فَإِن اتبعهُ الانسان فقد اتبع هَوَاهُ وَمن اضل مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله سُورَة الْقَصَص 50 فَإِن اصل الْهوى هُوَ محبَّة النَّفس وَيتبع ذَلِك بغضها والهوى نَفسه وَهُوَ الْحبّ والبغض الَّذِي فِي النَّفس لَا

ص: 221

يلام العَبْد عَلَيْهِ فَإِن ذَلِك لَا يملكهُ وانما يلام على اتِّبَاعه

كَمَا قَالَ تَعَالَى يَا دَاوُد انا جعلناك خَليفَة فِي الارض فاحكم بَين النَّاس بِالْحَقِّ وَلَا تتبع الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله سُورَة ص 26

وَقَالَ تَعَالَى {وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله} سُورَة الْقَصَص 50

وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم ثَلَاث منجيات خشيَة الله فِي السِّرّ وَالْعَلَانِيَة وَالْقَصْد فِي الْفقر والغنى وَكلمَة الْحق فِي الْغَضَب وَالرِّضَا وَثَلَاث مهلكات شح مُطَاع وَهوى مُتبع واعجاب الْمَرْء بِنَفسِهِ

وَالْحب والبغض يتبعهُ ذوق عِنْد وجود المحبوب والمبغض

ص: 222

وَوجد وارادة وَغير ذَلِك فَمن اتبع ذَلِك بِغَيْر امْر الله وَرَسُوله فَهُوَ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله بل قد يتمادى بِهِ الامر الى ان يتَّخذ الهه هَوَاهُ

وَاتِّبَاع الاهواء فِي الديانَات اعظم من اتِّبَاع الاهواء فِي الشَّهَوَات فَإِن الاول حَال الَّذين كفرُوا من اهل الْكتاب وَالْمُشْرِكين كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَإِن لم يَسْتَجِيبُوا لَك فَاعْلَم أَنما يتبعُون أهواءهم وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله إِن الله لَا يهدي الْقَوْم الظَّالِمين} سُورَة الْقَصَص 50

وَقَالَ تَعَالَى ضرب لكم مثلا من انفسكم هَل لكم مِمَّا ملكت ايمانكم الاية الى قَوْله {بل اتبع الَّذين ظلمُوا أهواءهم بِغَيْر علم} سُورَة الرّوم 28 29

وَقَالَ تَعَالَى وَقد فضل لكم مَا حرم عَلَيْكُم الا مَا

ص: 223

السّلف يسمونهم اهل الاهواء وَذَلِكَ ان كل من لم يتبع الْعلم فقد اتبع هَوَاهُ وَالْعلم بِالدّينِ لَا يكون الا بِهَدي الله الَّذِي بعث بِهِ رَسُوله صلى الله عليه وسلم

وَلِهَذَا قَالَ الله تَعَالَى فِي مَوضِع {وَإِن كثيرا ليضلون بأهوائهم بِغَيْر علم} سُورَة الانعام 119

وَقَالَ فِي مَوضِع اخر {وَمن أضلّ مِمَّن اتبع هَوَاهُ بِغَيْر هدى من الله} سُورَة الْقَصَص 50

فَالْوَاجِب على العَبْد ان ينظر فِي نفس حبه وبغضه وَمِقْدَار حبه وبغضه هَل هُوَ مُوَافق لأمر الله وَرَسُوله وَهُوَ هدى الله الَّذِي انزله على رَسُوله صلى الله عليه وسلم بِحَيْثُ يكون مَأْمُورا بذلك الْحبّ والبغض لَا يكون مُتَقَدما فِيهِ بَين يَدي الله وَرَسُوله فَإِنَّهُ قد قَالَ تَعَالَى {لَا تقدمُوا بَين يَدي الله وَرَسُوله} سُورَة الحجرات 1

ص: 225

وَمن احب اَوْ ابغض قبل ان يَأْمُرهُ الله وَرَسُوله فَفِيهِ نوع من التَّقَدُّم بَين يَدي الله وَرَسُوله

وَمُجَرَّد الْحبّ والبغض هُوَ هوى لَكِن الْمحرم مِنْهُ اتِّبَاع حبه وبغضه بِغَيْر هدى من الله وَلِهَذَا قَالَ الله لنَبيه دَاوُد {وَلَا تتبع الْهوى فيضلك عَن سَبِيل الله إِن الَّذين يضلون عَن سَبِيل الله لَهُم عَذَاب شَدِيد} سُورَة ص 21 فَأخْبر ان من اتبع هَوَاهُ اضله ذَلِك عَن سَبِيل الله وَهُوَ هداه الَّذِي بعث بِهِ رَسُوله وَهُوَ السَّبِيل اليه

وَتَحْقِيق ذَلِك ان الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر هُوَ من اوجب الاعمال وافضلها واحسنها وَقد قَالَ تَعَالَى {ليَبْلُوكُمْ أَيّكُم أحسن عملا} سُورَة الْملك 2 وَهُوَ كَمَا قَالَ الفضيل بن عِيَاض رحمه الله خلصه واصوبه فَإِن الْعَمَل اذا كَانَ خَالِصا وَلم يكن

ص: 226

صَوَابا لم يقبل واذا كَانَ صواباه وَلم يكن خَالِصا لم يقبل حَتَّى يكون خَالِصا صَوَابا والخالص ان يكون لله وَالصَّوَاب ان يكون على السّنة

فَالْعَمَل الصَّالح لَا بُد ان يُرَاد بِهِ وَجه الله تَعَالَى فَإِن الله تَعَالَى لَا يقبل من الْعَمَل الا مَا اريد بِهِ وَجهه وَحده

كَمَا فِي الحَدِيث الصَّحِيح عَن ابي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ يَقُول الله تَعَالَى انا اغنى الشُّرَكَاء عَن الشّرك من عمل عملا اشرك فِيهِ غَيْرِي فَأَنا مِنْهُ برِئ وَهُوَ كُله للَّذي اشرك

وَهَذَا هُوَ التَّوْحِيد الَّذِي هُوَ اصل الاسلام وَهُوَ دين الله الَّذِي بعث بِهِ جَمِيع رسله وَله خلق الْخلق وَهُوَ حَقه على عباده ان

ص: 227

يعبدوه وَلَا يشركوا بِهِ شَيْئا وَلَا بُد مَعَ ذَلِك ان يكون الْعَمَل صَالحا وَهُوَ مَا امْر الله بِهِ وَرَسُوله وَهُوَ الطَّاعَة فَكل طَاعَة عمل صَالح وكل عمل صَالح طَاعَة وَهُوَ الْعَمَل الْمَشْرُوع الْمسنون اذ الْمَشْرُوع الْمسنون هُوَ الْمَأْمُور بِهِ امْر ايجاب اَوْ اسْتِحْبَاب وَهُوَ الْعَمَل الصَّالح وَهُوَ الْحسن وَهُوَ الْبر وَهُوَ الْخَيْر وضده الْمعْصِيَة وَالْعَمَل الْفَاسِد والسيئة والفجور وَالشَّر وَالظُّلم وَالْبَغي

وَلما كَانَ الْعَمَل لَا بُد فِيهِ من شَيْئَيْنِ النِّيَّة وَالْحَرَكَة كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم اصدق الاسماء حَارِث وَهَمَّام فَكل اُحْدُ حَارِث وَهَمَّام لَهُ عمل وَنِيَّة

ص: 228

لَكِن النِّيَّة المحمودة الَّتِي يتقبلها الله ويثيب عَلَيْهَا هِيَ ان يُرَاد الله وَحده بذلك الْعَمَل وَالْعَمَل الْمَحْمُود هُوَ الصَّالح وَهُوَ الْمَأْمُور بِهِ

وَلِهَذَا كَانَ عمر بن الْخطاب رضي الله عنه يَقُول فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ اجْعَل عملى كُله صَالحا واجعله لوجهك خَالِصا وَلَا تجْعَل لأحد فِيهِ شَيْئا

واذا كَانَ هَذَا حد كل عمل صَالح فَالْأَمْر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر يجب ان يكون كَذَلِك هَذَا فِي حق الامر الناهي بِنَفسِهِ وَلَا يكون عمله صَالحا ان لم يكن بِعلم وَفقه كَمَا قَالَ عمر بن عبد الْعَزِيز من عبد الله بِغَيْر علم كَانَ مَا

ص: 229

يفْسد اكثر مِمَّا يصلح وكما فِي حَدِيث معَاذ بن جبل رضي الله عنه الْعلم امام الْعَمَل وَالْعَمَل تَابعه

وَهَذَا ظَاهر فَإِن الْقَصْد وَالْعَمَل ان لم يكن بِعلم كَانَ جهلا وضلالا واتباعا للهوى كَمَا تقدم وَهَذَا هُوَ الْفرق بَين اهل الْجَاهِلِيَّة واهل الاسلام فَلَا بُد من الْعلم بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُنكر والتمييز بَينهمَا وَلَا بُد من الْعلم بِحَال الْمَأْمُور وَحَال الْمنْهِي وَمن الصّلاح ان يَأْتِي بالامر وَالنَّهْي على الصِّرَاط الْمُسْتَقيم وَهُوَ اقْربْ الطّرق الى حُصُول الْمَقْصُود

وَلَا بُد فِي ذَلِك من الرِّفْق كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ الرِّفْق فِي شَيْء الا زانه وَلَا كَانَ العنف فِي شَيْء الا شانه وَقَالَ صلى الله عليه وسلم ان الله رَفِيق يحب الرِّفْق

ص: 230

فِي الامر كُله وَقَالَ ان الله رَفِيق يحب الرِّفْق وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَا لَا يُعْطي على العنف

وَلَا بُد ايضا ان يكون حَلِيمًا صبورا على الاذى فَلَا بُد ان يحصل لَهُ اذى فَإِن لم يحلم ويصبر كَانَ مَا يفْسد اكثر مِمَّا يصلح

كَمَا قَالَ لُقْمَان لِابْنِهِ {وَأمر بِالْمَعْرُوفِ وانه عَن الْمُنكر واصبر على مَا أَصَابَك إِن ذَلِك من عزم الْأُمُور} سُورَة لُقْمَان 17

وَلِهَذَا امْر الله الرُّسُل وهم ائمة الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن

ص: 231

الْمُنكر بِالصبرِ كَقَوْلِه لخاتم الرُّسُل عليه السلام بل ذَلِك مقرون بتبليغ الرسَالَة فَإِنَّهُ اول مَا ارسل انزلت عَلَيْهِ سُورَة {يَا أَيهَا المدثر} بعد ان انزلت عَلَيْهِ سُورَة اقْرَأ الَّتِي بِهِ نبئ فَقَالَ الله تَعَالَى يَا ايها المدثر قُم فَأَنْذر وَرَبك فَكبر وثيابك فطهر وَالرجز فاهجر وَلَا تمنن تستكثر ولربك فاصبر سُورَة المدثر 1 7 فَافْتتحَ آيَات الارسال الى الْخلق بالامر بالانذار وختمها بالامر بِالصبرِ وَنَفس الانذار امْر بِالْمَعْرُوفِ وَنهي عَن الْمُنكر فَعلم انه يجب بعد ذَلِك الصَّبْر

وَقَالَ تَعَالَى {واصبر لحكم رَبك فَإنَّك بأعيننا} سُورَة الطّور 48 وَقَالَ تَعَالَى {واصبر على مَا يَقُولُونَ واهجرهم هجرا جميلا} سُورَة المزمل 10 وَقَالَ {فاصبر كَمَا صَبر أولُوا الْعَزْم من الرُّسُل} سُورَة الاحقاف 35 وَقَالَ فاصبر لحكم

ص: 232

{رَبك وَلَا تكن كصاحب الْحُوت} سُورَة الْقَلَم 48 وَقَالَ {واصبر وَمَا صبرك إِلَّا بِاللَّه} سُورَة النَّحْل 127 وَقَالَ واصبر فَإِن الله لَا يضيع اخر الْمُحْسِنِينَ سُورَة هود 115

فَلَا بُد من هَذِه الثَّلَاثَة الْعلم والرفق وَالصَّبْر الْعلم قبل الْأَمر وَالنَّهْي والرفق مَعَه وَالصَّبْر بعده وان كَانَ كل من الثَّلَاثَة لَا بُد ان يكون مستصحبا فِي هَذِه الاحوال

وَهَذَا كَمَا جَاءَ فِي الاثر عَن بعض السّلف وَرَوَوْهُ مَرْفُوعا ذكره القَاضِي ابو يعلى فِي الْمُعْتَمد لَا يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر الا من كَانَ فَقِيها فِيمَا يَأْمر بِهِ فَقِيها فَمَا يُنْهِي عَنهُ رَفِيقًا فِيمَا يَأْمر بِهِ رَفِيقًا فِيمَا ينْهَى عَنهُ حَلِيمًا فِيمَا يَأْمر بِهِ حَلِيمًا فِيمَا ينْهَى عَنهُ

وليعلم ان اشْتِرَاط هَذِه الْخِصَال فِي الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر مِمَّا يُوجب صعوبته على كثير من النُّفُوس فيظن انه بذلك يسْقط عَنهُ فيدعه وَذَلِكَ قد يضرّهُ اكثر مِمَّا يضرّهُ الامر بِدُونِ هَذِه الْخِصَال اَوْ اقل فَإِن ترك الامر الْوَاجِب مَعْصِيّة وَفعل مَا نهى عَنهُ فِي الامر مَعْصِيّة فالمنتقل من مَعْصِيّة الى

ص: 233

مَعْصِيّة اكبر مِنْهَا كالمستجير من الرمضاء بالنَّار والمنتقل من مَعْصِيّة الى مَعْصِيّة كالمتنقل من دين بَاطِل الى دين بَاطِل قد يكون الثَّانِي شرا من الاول وَقد يكون دونه وَقد يكونَانِ سَوَاء فَهَكَذَا تَجِد المقصر فِي الامر وَالنَّهْي والمعتدي فِيهِ قد يكون ذَنْب هَذَا اعظم وَقد يكون ذَنْب ذَاك اعظم وَقد يكونَانِ سَوَاء

وَمن الْمَعْلُوم بِمَا ارانا الله من اياته فِي الافاق وَفِي انفسنا وَبِمَا شهد بِهِ فِي كِتَابه ان الْمعاصِي سَبَب المصائب فسيئات المصائب وَالْجَزَاء هِيَ من سيئات الاعمال وان الطَّاعَة سَبَب النِّعْمَة فإحسان العَبْد الْعَمَل سَبَب لاحسان الله

قَالَ تَعَالَى {وَمَا أَصَابَكُم من مُصِيبَة فبمَا كسبت أَيْدِيكُم وَيَعْفُو عَن كثير} سُورَة الشورى 30 وَقَالَ تَعَالَى {مَا أَصَابَك من حَسَنَة فَمن الله وَمَا أَصَابَك من سَيِّئَة فَمن نَفسك} سُورَة النِّسَاء 79 وَقَالَ تَعَالَى {إِن الَّذين توَلّوا مِنْكُم يَوْم التقى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا استزلهم الشَّيْطَان بِبَعْض مَا كسبوا وَلَقَد عَفا الله عَنْهُم}

ص: 234

سُورَة آل عمرَان 155 وَقَالَ تَعَالَى {أَو لما أَصَابَتْكُم مُصِيبَة قد أصبْتُم مثليها قُلْتُمْ أَنى هَذَا قل هُوَ من عِنْد أَنفسكُم} سُورَة آل عمرَان 165 وَقَالَ {أَو يوبقهن بِمَا كسبوا ويعف عَن كثير} سُورَة الشورى 34 وَقَالَ {وَإِن تصبهم سَيِّئَة بِمَا قدمت أَيْديهم فَإِن الْإِنْسَان كفور} سُورَة الشورى 48 وَقَالَ تَعَالَى {وَمَا كَانَ الله ليعذبهم وَأَنت فيهم وَمَا كَانَ الله معذبهم وهم يَسْتَغْفِرُونَ} سُورَة الانفال 33

وَقد اخبر الله سُبْحَانَهُ بِمَا عاقب بِهِ اهل السَّيِّئَات من الامم كقوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَقوم لوط واصحاب مَدين وَقوم فِرْعَوْن فِي الدُّنْيَا وَاخْبَرْ بِمَا سيعاقبهم بِهِ فِي الاخرة

وَلِهَذَا قَالَ مُؤمن آل فِرْعَوْن يَا قوم اني اخاف عَلَيْكُم مثل يَوْم الاحزاب مثل دأب قوم نوح وَعَاد وَثَمُود وَالَّذين من بعدهمْ وَمَا الله يُرِيد ظلما للعباد وَيَا قوم اني اخاف عَلَيْكُم يَوْم التناد يَوْم تولون مُدبرين مَا لكم من الله من عَاصِم وَمن يضلل الله فَمَا لَهُ من هاد سُورَة غَافِر 30 33

ص: 235

وَقَالَ تَعَالَى {كَذَلِك الْعَذَاب ولعذاب الْآخِرَة أكبر} سُورَة الْقَلَم 33

وَقَالَ {سَنُعَذِّبُهُمْ مرَّتَيْنِ ثمَّ يردون إِلَى عَذَاب عَظِيم} سُورَة التَّوْبَة 101 وَقَالَ {ولنذيقنهم من الْعَذَاب الْأَدْنَى دون الْعَذَاب الْأَكْبَر لَعَلَّهُم يرجعُونَ} سُورَة السَّجْدَة 21 وَقَالَ {فَارْتَقِبْ يَوْم تَأتي السَّمَاء بِدُخَان مُبين} سُورَة الدُّخان 10 الى قَوْله {يَوْم نبطش البطشة الْكُبْرَى إِنَّا منتقمون} سُورَة الدُّخان 16

وَلِهَذَا يذكر الله فِي عَامَّة سور الانذار مَا عاقب بِهِ اهل السَّيِّئَات فِي الدُّنْيَا وَمَا اعده لَهُم فِي الاخرة وَقد يذكر فِي السُّورَة وعد الاخرة فَقَط اذ عَذَاب الاخرة اعظم وثوابها اعظم وَهِي دَار الْقَرار وانما يذكر مَا يذكرهُ من الثَّوَاب وَالْعِقَاب فِي الدُّنْيَا تبعا

كَقَوْلِه فِي قصَّة يُوسُف {وَكَذَلِكَ مكنا ليوسف فِي الأَرْض يتبوأ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاء نصيب برحمتنا من نشَاء وَلَا نضيع أجر}

ص: 236

{الْمُحْسِنِينَ ولأجر الْآخِرَة خير للَّذين آمنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} سُورَة يُوسُف 56 57

وَقَالَ {فآتاهم الله ثَوَاب الدُّنْيَا وَحسن ثَوَاب الْآخِرَة} سُورَة آل عمرَان 148

وَقَالَ وَالَّذين هَاجرُوا فِي الله من بعد مَا ظلمُوا لنبؤئنهم فِي الدُّنْيَا حَسَنَة ولأجرة الاخرة اكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ الَّذين صَبَرُوا وعَلى رَبهم يَتَوَكَّلُونَ سُورَة النَّحْل 41 42 وَقَالَ عَن ابراهيم عليه الصلاة والسلام {وَآتَيْنَاهُ أجره فِي الدُّنْيَا وَإنَّهُ فِي الْآخِرَة لمن الصَّالِحين} سُورَة العنكبوت 27

واما ذكره لعقوبة الدُّنْيَا والاخرة فَفِي مثل والنازعات غرقا والناشطات نشطا سُورَة النازعات 201 ثمَّ قَالَ يَوْم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة سُورَة النازعات فَذكر القيامه مُطلقًا

ثمَّ قَالَ هَل اتاك حَدِيث مُوسَى اذ ناداه ربه بالواد الْمُقَدّس طوى اذْهَبْ الى فِرْعَوْن انه طَغى سُورَة النازعات 15

ص: 237

17 -

الى قَوْله {إِن فِي ذَلِك لعبرة لمن يخْشَى} سُورَة النازعات 26

ثمَّ ذكر المبدأ اَوْ الْمعَاد مفصلا فَقَالَ {أأنتم أَشد خلقا أم السَّمَاء بناها} الى قَوْله {فَإِذا جَاءَت الطامة الْكُبْرَى} سُورَة النازعات 34 الى قَوْله تَعَالَى فَأَما من طَغى وآثر الْحَيَاة الدُّنْيَا فَإِن الْجَحِيم هِيَ المأوى وَأما من خَافَ مقَام ربه وَنهى النَّفس عَن الْهوى فَإِن الْجنَّة هِيَ المأوى سُورَة النازعات 37 41 الى آخر السُّورَة

وَكَذَلِكَ فِي المزمل ذكر قَوْله وذرنى والمكذبين اولى النِّعْمَة ومهلهم قَلِيلا ان لدينا انكالا وَجَحِيمًا سُورَة المزمل 11 12 الى قَوْله {فأخذناه أخذا وبيلا} سُورَة المزمل 16

وَكَذَلِكَ فِي سُورَة الحاقة ذكر قصَص الامم كثمود وَعَاد وَفرْعَوْن ثمَّ قَالَ تَعَالَى {فَإِذا نفخ فِي الصُّور نفخة وَاحِدَة}

ص: 238

{وحملت الأَرْض وَالْجِبَال فدكتا دكة وَاحِدَة} سُورَة الحاقة 13 14 الى تَمام مَا ذكره من امْر الْجنَّة وَالنَّار

وَكَذَلِكَ فِي سُورَة ن والقلم ذكر قصَّة اهل الْبُسْتَان الَّذين منعُوا حق اموالهم وَمَا عاقبهم بِهِ ثمَّ قَالَ {كَذَلِك الْعَذَاب ولعذاب الْآخِرَة أكبر لَو كَانُوا يعلمُونَ} سُورَة الْقَلَم 33

وَكَذَلِكَ فِي سُورَة التغابن قَالَ ألم يأتكم نبأ الَّذين كفرُوا من قبل فذاقوا وبال امرهم وَلَهُم عَذَاب اليم ذَلِك بِأَنَّهُ كَانَت تأتيهم رسلهم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا اُبْشُرْ يهدوننا فَكَفرُوا وتولوا وَاسْتغْنى الله وَالله غَنِي حميد سُورَة التغابن 5 6 ثمَّ قَالَ {زعم الَّذين كفرُوا أَن لن يبعثوا قل بلَى وربي لتبعثن} سُورَة التغابن 7 وَكَذَلِكَ فِي سُورَة ق ذكر حَال الْمُخَالفين للرسل وَذكر الْوَعْد والوعيد فِي الاخرة

وَكَذَلِكَ فِي سُورَة الْقَمَر ذكر هَذَا وَهَذَا وَكَذَلِكَ فِي ال حم مثل حم غَافِر والسجدة والزخرف وَالدُّخَان غير ذَلِك الى

ص: 239

غير ذَلِك مِمَّا لَا يُحْصى فَإِن التَّوْحِيد والوعد والوعيد من اول مَا انْزِلْ

كَمَا فِي صَحِيح البُخَارِيّ عَن يُوسُف بن مَاهك قَالَ اني عِنْد عَائِشَة ام الْمُؤمنِينَ رضي الله عنها اذا جاءها عراقي فَقَالَ أَي الْكَفَن خير قَالَت وَيحك وَمَا يَضرك قَالَ يَا ام الْمُؤمنِينَ اريني مصحفك قَالَت لم قَالَ لعَلي أؤلف الْقُرْآن عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يقْرَأ غير مؤلف قَالَت وَمَا يَضرك ايه قَرَأت قبل انما نزل اول مَا نزل مِنْهُ سُورَة من الْمفصل فِيهَا ذكر الْجنَّة وَالنَّار حَتَّى اذا ثاب النَّاس الى الاسلام نزل الْحَلَال وَالْحرَام وَلَو نزل اول شَيْء لَا تشْربُوا الْخمر لقالوا لَا نَدع الْخمر ابدا وَلَو نزل لَا تَزْنُوا لقالوا لَا نَدع الزِّنَا ابدا لقد نزل بِمَكَّة على مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم واني لجارية العب {بل السَّاعَة موعدهم والساعة أدهى}

ص: 240

{وَأمر} سُورَة الْقَمَر 46 وَمَا نزلت سُورَة الْبَقَرَة وَالنِّسَاء الا وانا عِنْده قَالَ فأخرجت لَهُ الْمُصحف فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آي السُّور

واذا كَانَ الْكفْر والفسوق والعصيان سَبَب الشَّرّ والعدوان فقد ينْدب الرجل أَو الطَّائِفَة ويسكت أخرون عَن الامر وَالنَّهْي فَيكون ذَلِك من ذنوبهم وينكر عَلَيْهِم اخرون انكارا مَنْهِيّا عَنهُ فَيكون ذَلِك من ذنوبهم فَيحصل التَّفَرُّق وَالِاخْتِلَاف وَالشَّر وَهَذَا من اعظم الْفِتَن والشرور قَدِيما وحديثا اذ الانسان ظلوم جهول وَالظُّلم وَالْجهل انواع فَيكون ظلم الاول وجهله من نوع وظلم كل من الثَّانِي وَالثَّالِث وجهلهما من نوع اخر واخر

وَمن تدبر الْفِتَن الْوَاقِعَة رأى سَببهَا ذَلِك وَرَأى ان مَا وَقع بَين امراء الْأمة وعلمائها وَمن دخل فِي ذَلِك من مُلُوكهَا ومشايخها وَمن تَبِعَهُمْ من الْعَامَّة من الْفِتَن هَذَا اصلها

ص: 241

يدْخل فِي ذَلِك اسباب الضلال والغي الَّتِي هِيَ الاهواء الدِّينِيَّة والشهوانية وَهِي الْبدع فِي الدّين والفجور فِي الدُّنْيَا

وَذَلِكَ ان اسباب الضلال والغي الَّتِي هِيَ الْبدع فِي الدّين والفجور فِي الدُّنْيَا مُشْتَركَة تعم بني آدم لما فيهم من الظُّلم وَالْجهل فبذنب بعض النَّاس يظلم نَفسه وَغَيره بِفعل الزِّنَا اَوْ التلوط اَوْ غَيره اَوْ بِشرب خمر اَوْ ظلم فِي المَال بِجِنَايَة اَوْ سَرقَة اَوْ غصب وَنَحْو ذَلِك

وَمَعْلُوم ان هَذِه الْمعاصِي وان كَانَت مستقبحة مذمومة فِي الْعقل وَالدّين فَهِيَ مشتهاة فِي الطباع ايضا وَمن شَأْن النُّفُوس انها لَا تحب اخْتِصَاص غَيرهَا بِشَيْء وزيادته عَلَيْهَا لَكِن تُرِيدُ

ص: 242

ان يحصل لَهَا مَا حصل لَهُ وَهَذَا هُوَ الْغِبْطَة الَّتِي هِيَ ادنى نَوْعي الْحَسَد فَهِيَ تُرِيدُ الاستعلاء على الْغَيْر والاستئثار دونه اَوْ تحسده وتتمنى زَوَال النِّعْمَة عَنهُ وان لم يحصل فَفِيهَا من إِرَادَة الْعُلُوّ وَالْفساد والاستكبار والحسد مَا مُقْتَضَاهُ انها تخْتَص عَن غَيرهَا بالشهوات فَكيف اذا رَأَتْ الْغَيْر قد اسْتَأْثر عَلَيْهَا بذلك واختص بهَا دونهَا

فالمعتدل مِنْهُم فِي ذَلِك الَّذِي يحب الِاشْتِرَاك والتساوي واما الاخر فظلوم حسود وَهَذَانِ يقعان فِي الامور الْمُبَاحَة والامور الْمُحرمَة لحق الله فَمَا كَانَ جنسه مُبَاحا من اكل وَشرب وَنِكَاح ولباس وركوب واموال اذا وَقع فِيهَا الِاخْتِصَاص حصل بِسَبَبِهِ الظُّلم وَالْبخل والحسد واصلها الشُّح

كَمَا فِي الصَّحِيح عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم انه قَالَ إيَّاكُمْ وَالشح فان الشُّح اهلك من كَانَ قبلكُمْ امرهم بالبخل فبخلوا وامرهم بالظلم فظلموا وامرهم بالقطيعة فَقطعُوا

ص: 243

وَلِهَذَا قَالَ الله تَعَالَى فِي وصف الانصار وَالَّذين تبوأوا الدَّار والايمان من قبلهم أَي من قبل الْمُهَاجِرين {وَلَا يَجدونَ فِي صُدُورهمْ حَاجَة مِمَّا أُوتُوا} سُورَة الْحَشْر 9 أَي لَا يَجدونَ الْحَسَد مِمَّا اوتي اخوانهم من الْمُهَاجِرين {ويؤثرون على أنفسهم وَلَو كَانَ بهم خصَاصَة} سُورَة الْحَشْر 9

ثمَّ قَالَ {وَمن يُوقَ شح نَفسه فَأُولَئِك هم المفلحون} سُورَة التغابن 16

ورؤى عبد الرَّحْمَن بن عَوْف يطوف بِالْبَيْتِ وَيَقُول رب قنى شح نَفسِي رب قني شح نَفسِي رب قنى شح نَفسِي فَقيل لَهُ فِي ذَلِك فَقَالَ اذا وقيت شح نَفسِي فقد وقيت الْبُخْل وَالظُّلم والقطيعة اَوْ كَمَا قَالَ

فَهَذَا الشُّح الَّذِي هُوَ شدَّة حرص النَّفس يُوجب الْبُخْل بِمَنْع

ص: 244

مَا هُوَ عَلَيْهِ وَالظُّلم بِأخذ مَال الْغَيْر وَيُوجب قطيعة الرَّحِم وَيُوجب الْحَسَد وَهُوَ كَرَاهَة مَا اخْتصَّ بِهِ الْغَيْر وَتمنى زَوَاله والحسد فِيهِ بخل وظلم فانه بخل بِمَا اعطيه عَن غَيره وظلمه بِطَلَب زَوَال ذَلِك عَنهُ

فَإِذا كَانَ هَذَا فِي جنس الشَّهَوَات الْمُبَاحَة فَكيف بالمحرمة كَالزِّنَا وَشرب الْخمر وَنَحْو ذَلِك واذا وَقع فِيهَا اخْتِصَاص فَإِنَّهُ يصير فِيهَا نَوْعَانِ

أَحدهمَا احدهما بغضها لما فِي ذَلِك من الِاخْتِصَاص وَالظُّلم كَمَا يَقع فِي الامور الْمُبَاحَة الْجِنْس

أَحدهمَا وَالثَّانِي بغضها لما فِي ذَلِك من حق الله وَلِهَذَا كَانَت الذُّنُوب ثَلَاثَة أَقسَام

احدها مَا فِيهِ ظلم للنَّاس كالظلم بِأخذ الْأَمْوَال وَمنع

ص: 245

الْحُقُوق والحسد وَنَحْو ذَلِك

وَالثَّانِي مَا فِيهِ ظلم للنَّفس فَقَط كشرب الْخمر وَالزِّنَا اذا لم يَتَعَدَّ ضررهما

وَالثَّالِث مَا يجْتَمع فِيهِ الْأَمْرَانِ مثل ان يَأْخُذ المتولى أَمْوَال النَّاس يزنى بهَا وَيشْرب بهَا الْخمر وَمثل ان يَزْنِي بِمن يرفعهُ على النَّاس بذلك السَّبَب ويضرهم كَمَا يَقع مِمَّن يحب بعض النِّسَاء وَالصبيان

وَقد قَالَ الله تَعَالَى قل انما حرم رَبِّي الْفَوَاحِش مَا ظهر مِنْهَا وَمَا بطن والاثم وَالْبَغي بِغَيْر الْحق وان تُشْرِكُوا بِاللَّه مَا لم ينزل بِهِ سُلْطَانا وان تَقولُوا على الله مَالا تعلمُونَ سُورَة الاعراف 33

وامور النَّاس انما تستقيم فِي الدُّنْيَا مَعَ الْعدْل الَّذِي قد

ص: 246

يكون فِيهِ الِاشْتِرَاك فِي بعض انواع الْإِثْم اكثر مِمَّا تستقيم مَعَ الظُّلم فِي الْحُقُوق وان لم يشْتَرك فِي اثم

وَلِهَذَا قيل ان الله يُقيم الدولة العادلة وان كَانَت كَافِرَة وَلَا يُقيم الظالمة وان كَانَت مسلمة وَيُقَال الدُّنْيَا تدوم مَعَ الْعدْل وَالْكفْر وَلَا تدوم مَعَ الظُّلم والاسلام

وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لَيْسَ ذَنْب اسرع عُقُوبَة من الْبَغي وَقَطِيعَة الرَّحِم فالباغي يصرع فِي الدُّنْيَا وان كَانَ مغفورا لَهُ مرحوما فِي الاخرة

وَذَلِكَ ان الْعدْل نظام كل شَيْء فَإِذا اقيم امْر الدُّنْيَا بِالْعَدْلِ قَامَت وَإِن لم يكن لصَاحِبهَا فِي الأخرة من خلاق

ص: 247

وَمَتى لم تقم بِالْعَدْلِ لم تقم وان كَانَ لصَاحِبهَا من الايمان مَا يَجْزِي بِهِ فِي الاخرة فَالنَّفْس فِيهَا دَاعِي الظُّلم لغَيْرهَا بالعلو عَلَيْهِ الْحَسَد لَهُ والتعدي عَلَيْهِ فِي حَقه وفيهَا دَاعِي الظُّلم لنَفسهَا بتناول الشَّهَوَات القبيحة كَالزِّنَا وَأكل الْخَبَائِث فَهِيَ قد تظلم من لَا يظلمها وتؤثر هَذِه الشَّهَوَات وان لم يَفْعَلهَا غَيرهَا فَإِذا رَأَتْ نظراءها قد ظلمُوا اَوْ تناولوا هَذِه الشَّهَوَات صَار دَاعِي هَذِه الشَّهَوَات اَوْ الظُّلم فِيهَا اعظم بِكَثِير وَقد تصبر ويهيج ذَلِك لَهَا من بغض ذَلِك الْغَيْر وحسده وَطلب عِقَابه وَزَوَال الْخَيْر عَنهُ مَا لم يكن فِيهَا قبل ذَلِك وَلها حجَّة عِنْد نَفسهَا من جِهَة الْعقل وَالدّين بِكَوْن ذَلِك الْغَيْر قد ظلم نَفسه وَالْمُسْلِمين وان امْرَهْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيه عَن الْمُنكر وَاجِب وَالْجهَاد على ذَلِك من الدّين

ص: 248

وَالنَّاس هُنَا ثَلَاثَة اقسام قوم لَا يقومُونَ إِلَّا فِي اهواء نُفُوسهم فَلَا يرضون الا بِمَا يعطونه وَلَا يغضبون الا لما يحرمونه فَإِذا اعطى احدهم مَا يشتهيه من الشَّهَوَات الْحَلَال اَوْ الْحَرَام زَالَ غَضَبه وَحصل رِضَاهُ وَصَارَ الْأَمر الَّذِي كَانَ عِنْده مُنْكرا ينْهَى عَنهُ ويعاقب عَلَيْهِ ويذم صَاحبه ويغضب عَلَيْهِ مرضيا عَنهُ وَصَارَ فَاعِلا لَهُ وشريكا فِيهِ ومعاونا عَلَيْهِ ومعاديا لمن ينْهَى عَنهُ وينكر عَلَيْهِ

وَهَذَا غَالب فِي بني آدم يرى الانسان وَيسمع من ذَلِك مَا لَا يُحْصِيه الا الله وَسَببه ان الانسان ظلوم جهول فَلذَلِك لَا يعدل بل رُبمَا كَانَ ظَالِما فِي الْحَالين يرى قوما يُنكرُونَ على المتولى ظلمه لرعيته واعتداءه عَلَيْهِم فيرضى اولئك

ص: 249

المنكرين بِبَعْض الشَّيْء من منصب اَوْ مَال فينقلبون اعوانا لَهُ واحسن احوالهم ان يسكنوا عَن الانكار عَلَيْهِ

وَكَذَلِكَ تراهم يُنكرُونَ على من يشرب الْخمر ويزني وَيسمع الملاهي حَتَّى يدخلُوا احدهم مَعَهم فِي ذَلِك اَوْ يرضوه بِبَعْض ذَلِك فتراه حِينَئِذٍ قد صَار عونا لَهُم

وَهَؤُلَاء قد يعودون بإنكارهم الى اقبح من الْحَال الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا وَقد يعودون الى مَا هُوَ دون ذَلِك اَوْ نَظِيره

وَقوم يقومُونَ قومه ديانَة صَحِيحَة يكونُونَ فِي ذَلِك مُخلصين لله مصلحين فِيمَا عملوه ويستقيم لَهُم ذَلِك حَتَّى يصبروا على مَا اوذوا فَهَؤُلَاءِ هم الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وهم من خير امة اخرجت للنَّاس يأمرون بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَن الْمُنكر ويؤمنون بِاللَّه

ص: 250

وَقوم يجْتَمع فيهم هَذَا وَهَذَا وهم غَالب الْمُؤمنِينَ فَمن فِيهِ دين وَله شَهْوَة تَجْتَمِع فِي قُلُوبهم ارادة الطَّاعَة وارادة الْمعْصِيَة وَرُبمَا غلب هَذَا تَارَة وَهَذَا تَارَة

وَهَذِه الْقِسْمَة الثلاثية كَمَا قيل الانفس ثَلَاث امارة ومطمئنة ولوامة فالأولون هم اهل الانفس الامارة الَّتِي تَأْمُرهُمْ بالسوء والأوسطون هم اهل النُّفُوس المطمئنة الَّتِي قيل فِيهَا يَا أيتها النَّفس المطمئنة ارجعي الي رَبك راضية مرضية فادخلي فِي عبَادي وادخلي جنتي سُورَة الْفجْر 27 30

والاخرون هم اهل النُّفُوس اللوامة الَّتِي تفعل الذَّنب ثمَّ تلوم عَلَيْهِ وتتلوم تَارَة كَذَا وَتارَة كَذَا اَوْ تخلط عملا صَالحا وَأخر سَيِّئًا وَهَؤُلَاء يُرْجَى ان يَتُوب عَلَيْهِم اذا اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ كَمَا

ص: 251

قَالَ الله تَعَالَى {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خلطوا عملا صَالحا وَآخر سَيِّئًا عَسى الله أَن يَتُوب عَلَيْهِم إِن الله غَفُور رَحِيم} سُورَة التَّوْبَة 102

وَلِهَذَا لما كَانَ النَّاس فِي زمن ابي بكر وَعمر اللَّذين امْر الْمُسلمُونَ بالاقتداء بهما كَمَا قَالَ صلى الله عليه وسلم اقتدوا باللذين من بعدِي ابي بكر وَعمر اقْربْ عهدا بالرسالة وَأعظم ايمانا وصلاحا وأئمتهم اقوم بِالْوَاجِبِ واثبت فِي الطُّمَأْنِينَة لم تقع فتْنَة اذ كَانُوا فِي حكم الْقسم الْوسط

وَلما كَانَ فِي اخر خلَافَة عُثْمَان فِي خلَافَة على رَضِي الله

ص: 252

عَنْهُمَا كثر الْقسم الثَّالِث فَصَارَ فيهم شَهْوَة وشبهة مَعَ الايمان وَالدّين وَصَارَ ذَلِك فِي بعض الْوُلَاة وَبَعض الرعايا ثمَّ كثر ذَلِك بعد فَنَشَأَتْ الْفِتْنَة الَّتِي سَببهَا مَا تقدم من عدم تمحيص التَّقْوَى وَالطَّاعَة فِي الطَّرفَيْنِ واختلاطما بِنَوْع من الْهوى والعصبية فِي الطكرفين وكل مِنْهُمَا متأول أَنه يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ وَينْهى عَن الْمُنكر وان مَعَه الْحق وَالْعدْل وَمَعَ هَذَا التَّأْوِيل نوع من الْهوى فَفِيهِ نوع من الظَّن وَمَا تهوى الانفس وان كَانَت احدى الطَّائِفَتَيْنِ اولى بِالْحَقِّ من الاخرى فَلهَذَا يجب على الْمُؤمن ان يَسْتَعِين بِاللَّه ويتوكل عَلَيْهِ فِي ان يُقيم قلبه وَلَا يزيغه ويثبته على الْهدى وَالتَّقوى وَلَا يتبع الْهوى

كَمَا قَالَ تَعَالَى {فَلذَلِك فَادع واستقم كَمَا أمرت وَلَا تتبع أهواءهم وَقل آمَنت بِمَا أنزل الله من كتاب وَأمرت لأعدل بَيْنكُم}

ص: 253

{الله رَبنَا وربكم} سُورَة الشورى 15 وَهَذَا ايضا حَال الامة فِيمَا تَفَرَّقت فِيهِ وَاخْتلفت فِي المقالات والعبادات

وَهَذِه الامور مِمَّا تعظم بهَا المحنة على الْمُؤمنِينَ فَإِنَّهُم يَحْتَاجُونَ الى شَيْئَيْنِ الى دفع الْفِتْنَة الَّتِي ابتلى بهَا نظراؤهم من فتْنَة الدّين وَالدُّنْيَا عَن نُفُوسهم مَعَ قيام الْمُقْتَضى لَهَا فَإِن مَعَهم نفوسا وشياطين كَمَا مَعَ غَيرهم

فَمَعَ وجود ذَلِك من نظرائهم يقوى الْمُقْتَضى عِنْدهم كَمَا هُوَ الْوَاقِع فيقوى الدَّاعِي الَّذِي فِي نفس الانسان وشيطانه ودواعي الْخَيْر كَذَلِك وَمَا يحصل من الدَّاعِي بِفعل الْغَيْر والنظير

فكم من النَّاس لم يرد خيرا وَلَا شرا حَتَّى رأى غَيره

ص: 254

لَا سِيمَا ان كَانَ نَظِيره يَفْعَله فَفعله فَإِن النَّاس كأسراب القطا مجبولون على تشبه بَعضهم بِبَعْض

وَلِهَذَا كَانَ الْمُبْتَدِئ بِالْخَيرِ وبالشر لَهُ مثل من تبعه من الاجر والوزر كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم من سنّ سنة حَسَنَة فَلهُ اجرها واجر من عمل بهَا الى يَوْم الْقِيَامَة من غير ان ينقص من اجورهم شَيْئا وَمن سنة سَيِّئَة فَعَلَيهِ وزرها ووزر من عمل بهَا الى يَوْم الْقِيَامَة من غير ان ينقص من اوزارهم شَيْئا وَذَلِكَ لاشتراكهم فِي الْحَقِيقَة وان حكم الشَّيْء حكم نَظِيره وشبيه الشَّيْء منجذب اليه

فَإِذا كَانَ هَذَانِ داعيين قويين فَكيف اذا انْضَمَّ اليهما داعيان اخران

ص: 255

وَذَلِكَ ان كثيرا من اهل الْمُنكر يحبونَ من يوافقهم على مَا هم فِيهِ ويبغضون من لَا يوافقهم وَهَذَا ظَاهر فِي الديانَات الْفَاسِدَة من مُوالَاة كل قوم لموافقيهم ومعاداتهم لمخالفيهم وَكَذَلِكَ فِي امور الدُّنْيَا والشهوات كثيرا مَا يخْتَار اهلها ويؤثرون من يشاركهم فِي امورهم وشهواتهم اما للمعاونة على ذَلِك كَمَا فِي المتغلبين من اهل الرياسات وقطاع الطَّرِيق وَنَحْو ذَلِك واما لتلذذهم بالموافقة كَمَا فِي المجتمعين على شرب الْخمر مثلا فَإِنَّهُم يحبونَ ان يشرب كل من حضر عِنْدهم واما لكراهتهم امتيازه عَنْهُم بِالْخَيرِ اما حسدا لَهُ على ذَلِك وَمَا لِئَلَّا يَعْلُو عَلَيْهِم بذلك ويحمد دونهم وَإِمَّا لِئَلَّا يكون لَهُ عَلَيْهِم حجَّة وَإِمَّا لخوفهم من معاقبته لَهُم بِنَفسِهِ اَوْ بِمن يرفع ذَلِك اليهم وَلِئَلَّا

ص: 256

يَكُونُوا تَحت منته وحظره وَنَحْو ذَلِك من الاسباب

قَالَ الله تَعَالَى {ود كثير من أهل الْكتاب لَو يردونكم من بعد إيمَانكُمْ كفَّارًا حسدا من عِنْد أنفسهم من بعد مَا تبين لَهُم الْحق} سُورَة الْبَقَرَة 109 وَقَالَ تَعَالَى فِي الْمُنَافِقين {ودوا لَو تكفرون كَمَا كفرُوا فتكونون سَوَاء} سُورَة النِّسَاء 89 وَقَالَ عُثْمَان بن عَفَّان رضي الله عنه ودت الزَّانِيَة لَو زنى النِّسَاء كُلهنَّ

والمشاركة قد يختارونها فِي نفس الْفُجُور كالاشتراك فِي شرب الْخمر وَالْكذب والاعتقاد الْفَاسِد وَقد يختارونها فِي النَّوْع الثَّانِي كالزاني الَّذِي يود ان غَيره يَزْنِي اَوْ السَّارِق الَّذِي يود ان غَيره يسرق لَكِن فِي غير الْعين الَّتِي زنى بهَا اَوْ سَرَقهَا

وَأما الدَّاعِي الثَّانِي فقد يأمرون الشَّخْص بمشاركتهم فِيمَا هم

ص: 257

عَلَيْهِ من الْمُنكر فَإِن شاركهم والا عادوه وآذوه على وَجه قد يَنْتَهِي الى حد الاكراه اَوْ لَا يَنْتَهِي الى حد الاكراه

ثمَّ ان هَؤُلَاءِ الَّذين يختارون مُشَاركَة الْغَيْر لَهُم فِي قَبِيح فعلهم اَوْ يأمرونه بذلك ويستعينون بِهِ على مَا يريدونه مَتى شاركهم وعاونهم واطاعهم انتقصوه واستخفوا بِهِ وَجعلُوا ذَلِك حجَّة عَلَيْهِ فِي امور اخرى وان لم يشاركهم عادوه وآذوه وَهَذِه حَال غَالب الظَّالِمين القادرين

وَهَذَا الْمَوْجُود فِي الْمُنكر مَوْجُود نَظِيره فِي الْمَعْرُوف وابلغ مِنْهُ كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {وَالَّذين آمنُوا أَشد حبا لله} سُورَة الْبَقَرَة 165 فَإِن دَاعِي الْخَيْر اقوى فَإِن الانسان فِيهِ دَاع يَدعُوهُ الى الايمان وَالْعلم الصدْق وَالْعدْل واداء الامانة فاذا وجد من يعْمل مثل ذَلِك صَار لَهُ دَاع اخر لَا سِيمَا اذا كَانَ نَظِيره لَا سِيمَا مَعَ المنافسة وَهَذَا مَحْمُود حسن فَإِن وجد من يحب مُوَافَقَته على ذَلِك ومشاركته لَهُ من الْمُؤمنِينَ وَالصَّالِحِينَ وَمن يبغضه اذا لم يفعل

ص: 258

ذَلِك صَار لَهُ دَاع ثَالِث فَإِذا امروه بذلك ووالوه على ذَلِك وعادوه وعاقبوه على تَركه صَار لَهُ دَاع رَابِع

وَلِهَذَا يُؤمر الْمُؤْمِنُونَ ان يقابلوا السَّيِّئَات بضدها من الْحَسَنَات كَمَا يُقَابل الطَّبِيب الْمَرَض بضده فَيُؤْمَر الْمُؤمن بِأَن يصلح نَفسه وَذَلِكَ بشيئين بِفعل الْحَسَنَات وبترك السَّيِّئَات وَهَذِه اربعة انواع

وَيُؤمر ايضا بإصلاح غَيره بِهَذِهِ الانواع الاربعة بِحَسب قدرته وامكانه قَالَ تَعَالَى وَالْعصر ان الانسان لفي خسر الا الَّذين امنوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ سُورَة الْعَصْر 1 3

وروى عَن الشَّافِعِي رضي الله عنه انه قَالَ لَو فكر النَّاس كلهم فِي سُورَة الْعَصْر لكفتهم وَهُوَ كَمَا قَالَ

ص: 259

فَإِن الله تَعَالَى اخبر فِيهَا ان جَمِيع النَّاس خاسرون الا من كَانَ فِي نَفسه مُؤمنا صَالحا وَمَعَ غَيره موصيا بِالْحَقِّ موصيا بِالصبرِ

واذا عظمت المحنة كَانَ ذَلِك لِلْمُؤمنِ الصَّالح سَببا لعلو الدرجَة وعظيم الاجر كَمَا سُئِلَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم اي النَّاس اشد بلَاء قَالَ الانبياء ثمَّ الصالحون ثمَّ الامثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فَإِن كَانَ فِي دينه صلابة زيد فِي بلائه وان كَانَ فِي دينه رقة خفف عَنهُ وَمَا يزَال الْبلَاء بِالْمُؤمنِ حَتَّى يمشي على وَجه الارض وَلَيْسَ عَلَيْهِ خَطِيئَة وَحِينَئِذٍ فَيحْتَاج من الصَّبْر الى مَا لَا يحْتَاج اليه غَيره وَذَلِكَ هُوَ سَبَب

ص: 260

الامامة فِي الدّين كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَجَعَلنَا مِنْهُم أَئِمَّة يهْدُونَ بأمرنا لما صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يوقنون} سُورَة السَّجْدَة 24

فَلَا بُد من الصَّبْر على فعل الْحسن الْمَأْمُور وَترك السيء الْمَحْظُور وَيدخل فِي ذَلِك الصَّبْر على الاذى وعَلى مَا يُقَال وَالصَّبْر على مَا يُصِيبهُ من المكاره وَالصَّبْر عَن البطر عِنْد النعم وَغير ذَلِك من انواع الصَّبْر

وَلَا يُمكن العَبْد ان يصبر ان لم يكن لَهُ مَا يطمئن لَهُ ويتنعم بِهِ ويغتذى بِهِ وَهُوَ الْيَقِين

كَمَا فِي الحَدِيث الَّذِي رَوَاهُ ابو بكر الصّديق رضي الله عنه عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم انه قَالَ يَا ايها النَّاس سلوا الله الْيَقِين والعافية فانه لم يُعْط اُحْدُ بعد الْيَقِين خيرا من الْعَافِيَة فسلوهما الله

ص: 261

وَكَذَلِكَ اذا امْر غَيره بِحسن اَوْ احب مُوَافَقَته لَهُ على ذَلِك اَوْ نهى غَيره عَن شَيْء فَيحْتَاج ان يحسن الى ذَلِك الْغَيْر إحسانا يحصل بِهِ مَقْصُود من حُصُول المحبوب واندفاع الْمَكْرُوه فَإِن النُّفُوس لَا تصبر على المر الا بِنَوْع من الحلو لَا يُمكن غير ذَلِك

وَلِهَذَا امْر الله تَعَالَى بتأليف الْقُلُوب حَتَّى جعل للمؤلفة قُلُوبهم نَصِيبا فِي الصَّدقَات وَقَالَ تَعَالَى لنَبيه صلى الله عليه وسلم {خُذ الْعَفو وَأمر بِالْعرْفِ وَأعْرض عَن الْجَاهِلين} سُورَة الاعراف 199 وَقَالَ تَعَالَى {وَتَوَاصَوْا بِالصبرِ وَتَوَاصَوْا بالمرحمة} سُورَة الْبَلَد 17 فَلَا بُد ان يصبر وان يرحم وَهَذَا هُوَ الشجَاعَة وَالْكَرم

وَلِهَذَا يقرن الله تَعَالَى بَين الصَّلَاة وَالزَّكَاة تَارَة وَهِي

ص: 262

الاحسان الى الْخلق وَبَينهَا وَبَين الصَّبْر تَارَة

وَلَا بُد من الثَّلَاثَة الصَّلَاة وَالزَّكَاة وَالصَّبْر لَا تقوم مصلحَة الْمُؤمنِينَ الا بذلك فِي صَلَاح نُفُوسهم واصلاح غَيرهم لَا سِيمَا كلما قويت الْفِتْنَة والمحنة فَإِن الْحَاجة الى ذَلِك تكون اشد فالحاجة الى السماحة وَالصَّبْر عَامَّة لجَمِيع بنى آدم لَا تقوم مصلحَة دينهم وَلَا ديناهم الا بهما

وَلِهَذَا فَإِن جَمِيعهم يتمادحون بالشجاعة وَالْكَرم حَتَّى ان ذَلِك عَامَّة مَا يمدح بِهِ الشُّعَرَاء ممدوحيهم فس شعرهم وَكَذَلِكَ يتذامون بالبخل والجبن

والقضايا الَّتِي يتَّفق عَلَيْهَا عقلاء بني آدم لَا تكون الا حَقًا كاتفاقهم على مدح الصدْق وَالْعدْل وذم الْكَذِب وَالظُّلم

وَقد قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم لما سَأَلَهُ الاعراب

ص: 263

حَتَّى اضطروه الى سَمُرَة فتعلقت بردائه فَالْتَفت اليهم وَقَالَ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَو ان عِنْدِي عدد هَذِه الْعضَاة نعما لقسمته عَلَيْكُم ثمَّ لَا تجدوني بَخِيلًا وَلَا جَبَانًا وَلَا كذوبا

وَلَكِن يتنوع ذَلِك بتنوع الْمَقَاصِد وَالصِّفَات فَإِنَّمَا الاعمال بِالنِّيَّاتِ وانما لكل امْرِئ من نوى وَلِهَذَا جَاءَ الْكتاب وَالسّنة بذم الْبُخْل والجبن ومدح الشجَاعَة والسماحة فِي سَبِيل الله دون مَا لَيْسَ فِي سَبيله

فَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم شَرّ مَا فِي الْمَرْء شح هَالِع

ص: 264

وَجبن خَالع وَقَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم من سيدكم يَا بني سَلمَة فَقَالُوا الْجد بن قيس على انا نزنه بالبخل فَقَالَ وَأي دَاء أدوى من الْبُخْل وَفِي رِوَايَة ان السَّيِّد لَا يكون بَخِيلًا بل سيدكم الابيض الْجَعْد بشر بن الْبَراء بن معْرور

وَكَذَلِكَ فِي الصَّحِيح قَول جَابر بن عبد الله لأبي بكر الصّديق رضي الله عنهما اما ان تُعْطِينِي واما ان تبخل عني فَقَالَ تَقول واما ان تبخل عني واي دَاء ادوى من الْبُخْل فَجعل الْبُخْل من اعظم الامراض

ص: 265

وَفِي صَحِيح مُسلم عَن سلمَان بن ربيعَة قَالَ قَالَ عمر رضي الله عنه قسم النَّبِي صلى الله عليه وسلم قسما فَقلت يَا رَسُول الله وَالله لغير هَؤُلَاءِ احق بِهِ مِنْهُم فَقَالَ انهم خيروني بَين ان يَسْأَلُونِي بالفحش وَبَين ان يبخلوني وَلست بباخل يَقُول انهم يَسْأَلُونِي مَسْأَلَة لَا تصلح فَإِن اعطيتهم والا قَالُوا هُوَ بخيل فقد خيروني بَين امرين مكروهين لَا يتركوني من احدهما الْمَسْأَلَة الْفَاحِشَة والتبخيل والتبخيل اشد فأدفع الاشد بإعطائهم

وَالْبخل جنس تَحْتَهُ انواع كَبَائِر وَغير كَبَائِر قَالَ الله تَعَالَى {وَلَا يَحسبن الَّذين يَبْخلُونَ بِمَا آتَاهُم الله من فَضله هُوَ خيرا لَهُم بل هُوَ شَرّ لَهُم سيطوقون مَا بخلوا بِهِ يَوْم الْقِيَامَة} سُورَة آل عمرَان 180

ص: 266

وَقَالَ {واعبدوا الله وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئا وبالوالدين إحسانا} سُورَة النِّسَاء 36 الى قَوْله ان الله لَا يحب من كَانَ مختالا فخورا الَّذين يَبْخلُونَ ويأمرون النَّاس بالبخل سُورَة النِّسَاء 36 37

وَقَالَ تَعَالَى وَمَا مَنعهم ان تقبل مِنْهُم نفقاتم الا انهم كفرُوا بِاللَّه وبرسوله وَلَا يأْتونَ الصَّلَاة الا وهم كسَالَى وَلَا يُنْفقُونَ الا وهم كَارِهُون سُورَة التَّوْبَة 54

وَقَالَ فَلَمَّا آتَاهُم من فَضله بخلوا بِهِ وتولوا وهم معرضون فأعقبهم نفَاقًا فِي قُلُوبهم الى يَوْم يلقونه سُورَة التَّوْبَة 76 77

وَقَالَ {وَمن يبخل فَإِنَّمَا يبخل عَن نَفسه} سُورَة مُحَمَّد 38

وَقَالَ فويل للمصلين الَّذين هم عَن صلَاتهم ساهون الَّذين هم يراءون وَيمْنَعُونَ الماعون سُورَة الماعون 407

وَقَالَ وَالَّذين يكنزون الذَّهَب وَالْفِضَّة وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيل الله فبشرهم بِعَذَاب اليم يَوْم يحمى عَلَيْهَا فِي نَار جَهَنَّم فتكوى بهَا جباههم وجنوبهم وظهروهم الاية سُورَة التَّوْبَة

ص: 267

34 -

35 وَكثير من الاي فِي الْقُرْآن من الامر بالايتاء والاعطاء وذم من ترك ذَلِك كُله ذمّ للبخل

وَكَذَلِكَ ذمه للجبن كثير فِي مثل قَوْله {وَمن يولهم يَوْمئِذٍ دبره إِلَّا متحرفا لقِتَال أَو متحيزا إِلَى فِئَة فقد بَاء بغضب من الله ومأواه جَهَنَّم وَبئسَ الْمصير} سُورَة الانفال 16

وَقَوله عَن الْمُنَافِقين ويحلفون بِاللَّه انهم لمنكم وَمَا هم مِنْكُم وَلَكنهُمْ قوم يفرقون لَو يَجدونَ ملْجأ اَوْ مغارات اَوْ مدخلًا لولوا اليه وهم يجمحون سُورَة التَّوْبَة 56 57

وَقَوله {فَإِذا أنزلت سُورَة محكمَة وَذكر فِيهَا الْقِتَال رَأَيْت الَّذين فِي قُلُوبهم مرض ينظرُونَ إِلَيْك نظر المغشي عَلَيْهِ من الْمَوْت} سُورَة مُحَمَّد 20

وَقَوله ألم تَرَ الى الَّذين قيل لَهُم كفوا ايديكم واقيموا الصَّلَاة وَأتوا الزَّكَاة فَلَمَّا كتب عَلَيْهِم الْقِتَال اذا فريق مِنْهُم يَخْشونَ النَّاس كخشية الله أواشد خشيَة وَقَالُوا رَبنَا لم كتبت

ص: 268

{علينا الْقِتَال لَوْلَا أخرتنا إِلَى أجل قريب قل مَتَاع الدُّنْيَا قَلِيل وَالْآخِرَة خير لمن اتَّقى وَلَا تظْلمُونَ فتيلا} سُورَة النِّسَاء 77

وَمَا فِي الْقُرْآن من الحض على الْجِهَاد وَالتَّرْغِيب فِيهِ وذم الناكلين عَنهُ والتاركين لَهُ كُله ذمّ للجبن

وَلما كَانَ صَلَاح بني آدم لَا يتم فِي دينهم ودنياهم الا بالشجاعة وَالْكَرم بَين الله سُبْحَانَهُ انه من تولى عَنهُ بترك الْجِهَاد بِنَفسِهِ ابدل الله بِهِ من يقوم بذلك وَمن تولى عَنهُ بإنفاق مَاله ابدل الله بِهِ من يقوم بذلك فَقَالَ يَا ايها الَّذين امنوا مالكم اذا قيل لكم انفروا فِي سَبِيل الله اثاقلتم الى الارض ارضيتم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا من الاخرة فَمَا مَتَاع الْحَيَاة الدُّنْيَا فِي الاخرة الا قَلِيل الا تنفرُوا يعذبكم عذَابا اليما ويستبدل قوما غَيْركُمْ وَلَا تضروه شَيْئا وَالله على كل شَيْء قدير سُورَة التَّوْبَة 38 39

وَقَالَ تَعَالَى {هَا أَنْتُم هَؤُلَاءِ تدعون لتنفقوا فِي}

ص: 269

{سَبِيل الله فمنكم من يبخل وَمن يبخل فَإِنَّمَا يبخل عَن نَفسه وَالله الْغَنِيّ وَأَنْتُم الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يسْتَبْدل قوما غَيْركُمْ ثمَّ لَا يَكُونُوا أمثالكم} سُورَة مُحَمَّد 38

وبالشجاعة وَالْكَرم فِي سَبِيل الله فضل الله السَّابِقين فَقَالَ {لَا يَسْتَوِي مِنْكُم من أنْفق من قبل الْفَتْح وَقَاتل أُولَئِكَ أعظم دَرَجَة من الَّذين أَنْفقُوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الْحسنى} سُورَة الْحَدِيد 10

وَقد ذكر الْجِهَاد بِالنَّفسِ وَالْمَال فِي سَبيله ومدحه فِي غير آيَة من كِتَابه وَذَلِكَ هُوَ الشجَاعَة والسماحة فِي طَاعَته سُبْحَانَهُ وَطَاعَة رَسُوله وملاك الشجَاعَة الصَّبْر الَّذِي يتَضَمَّن قُوَّة الْقلب وثباته وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى {كم من فِئَة قَليلَة غلبت فِئَة كَثِيرَة بِإِذن الله وَالله مَعَ الصابرين} سُورَة الْبَقَرَة 249

وَقَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا لَقِيتُم فِئَة فاثبتوا}

ص: 270

واذْكُرُوا الله كثيرا لَعَلَّكُمْ تفلحون واطيعوا الله وَرَسُوله وَلَا تنازعوا فتفشلوا وَتذهب ريحكم واصبروا ان الله مَعَ الصابرين سُورَة الانفال 45 46

والشجاعة لَيست هِيَ قُوَّة الْبدن فقد يكون الرجل قوي الْبدن ضَعِيف الْقلب وانما هِيَ قُوَّة الْقلب وثباته فَأن الْقِتَال مَدَاره على قُوَّة الْبدن وصنعته لِلْقِتَالِ وعَلى قُوَّة الْقلب وخبرته بِهِ والمحمود مِنْهُمَا مَا كَانَ بِعلم وَمَعْرِفَة دون التهور الَّذِي لَا يفكر صَاحبه وَلَا يُمَيّز بَين الْمَحْمُود والمذموم وَلِهَذَا كَانَ الْقوي الشَّديد هُوَ الَّذِي يملك نَفسه عِنْد الْغَضَب حَتَّى يفعل مَا يصلح دون مَا لَا يصلح فَأَما المغلوب حِين غَضَبه فَلَيْسَ هُوَ بِشُجَاعٍ وَلَا شَدِيد

وَقد تقدم ان جماع ذَلِك هُوَ الصَّبْر فَإِنَّهُ لَا بُد مِنْهُ وَالصَّبْر صبران صَبر عِنْد الْغَضَب وصبر عِنْد الْمُصِيبَة كَمَا قَالَ الْحسن رَحمَه

ص: 271

الله مَا تجرع عبد جرعة اعظم من جرعة حلم عِنْد الْغَضَب وجرعة صَبر عِنْد الْمُصِيبَة

وَذَلِكَ لِأَن أصل ذَلِك هُوَ الصَّبْر على المؤلم وَهَذَا هوالشجاع الشَّديد الَّذِي يصبر على المؤلم والمؤلم ان كَانَ مِمَّا يُمكن دَفعه اثار الْغَضَب وان كَانَ مِمَّا لَا يُمكن دَفعه اثار الْحزن وَلِهَذَا يحمر الْوَجْه عِنْد الْغَضَب لثوران الدَّم عِنْد استشعار الْقُدْرَة ويصفر عِنْد الْحزن لغور الدَّم عِنْد استشعار الْعَجز

وَلِهَذَا جمع النَّبِي صلى الله عليه وسلم فِي الحَدِيث الصَّحِيح الَّذِي رَوَاهُ مُسلم عَن عبد الله بن مَسْعُود رضي الله عنه قَالَ قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم مَا تَعدونَ الرقوب فِيكُم قَالُوا الرقوب الَّذِي لَا يُولد لَهُ قَالَ لَيْسَ ذَاك بالرقوب وَلَكِن الرقوب الرجل الَّذِي لم يقدم من وَلَده شَيْئا ثمَّ قَالَ ماتعدون الصرعة فِيكُم قُلْنَا الَّذِي لَا يصرعه الرِّجَال فَقَالَ لَيْسَ

ص: 272

بذلك وَلَكِن الصرعة الَّذِي يملك نَفسه عِنْد الْغَضَب فَذكر مَا يتَضَمَّن الصَّبْر عِنْد الْمُصِيبَة وَالصَّبْر عِنْد الْغَضَب

قَالَ الله تَعَالَى فِي الْمُصِيبَة {وَبشر الصابرين الَّذين إِذا أَصَابَتْهُم مُصِيبَة قَالُوا إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون} الاية سُورَة الْبَقَرَة 155 156

وَقَالَ تَعَالَى فِي الْغَضَب {وَمَا يلقاها إِلَّا الَّذين صَبَرُوا وَمَا يلقاها إِلَّا ذُو حَظّ عَظِيم} سُورَة فصلت 35

وَهَذَا الْجمع بَين صَبر الْمُصِيبَة وصبر الْغَضَب نَظِير الْجمع بَين صَبر الْمُصِيبَة وصبر النِّعْمَة كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى وَلَئِن اذقنا

ص: 273

الانسان منا رَحْمَة ثمَّ نزعناها مِنْهُ انه ليؤوس كفور وَلَئِن اذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليَقُولن ذهب السَّيِّئَات عني انه لفرح فخور الا الَّذين صَبَرُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات أُولَئِكَ لَهُم مغْفرَة وَأجر كَبِير سُورَة هود 9 11

وَقَالَ لكيلا تأسوا على مَا فاتكم وَلَا تفرحوا بِمَا آتَاكُم سُورَة الْحَدِيد 23

وَبِهَذَا وصف كَعْب بن زُهَيْر من وَصفه من الصَّحَابَة الْمُهَاجِرين حَيْثُ قَالَ

لَيْسُوا مفاريح ان نَالَتْ رماحهم

كثرا وَلَيْسوا مجازيعا اذا نيلوا

وَكَذَلِكَ قَالَ حسان بن ثَابت فِي صفة الانصار

لَا فَخر ان هم اصابوا من عدوهم

وان اصيبوا فَلَا خور وَلَا هلع

ص: 274

وَقَالَ بعض الْعَرَب فِي صفة النَّبِي صلى الله عليه وسلم يغلب فَلَا يبطر ويغلب فَلَا يضجر

وَلما كَانَ الشَّيْطَان يدعوالناس عِنْد هذَيْن النَّوْعَيْنِ الى تعدِي الْحُدُود بقلوبهم واصواتهم وايديهم نهى النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَن ذَلِك فَقَالَ لما قيل لَهُ لما رأى ابراهيم فِي النزع أَتَبْكِي اَوْ لم تنه عَن الْبكاء فَقَالَ انما نهيت عَن صَوْتَيْنِ احمقين فاجرين صَوت عِنْد نعْمَة لَهو وَلعب وَمَزَامِير الشَّيْطَان وَصَوت عِنْد مُصِيبَة لطم خدود وشق جُيُوب وَدُعَاء بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّة فَجمع بَين الصوتين

وَأما نَهْيه عَن ذَلِك فِي المصائب فَمثل قَوْله صلى الله عليه وسلم لَيْسَ منا من لطم الخدود وشق الْجُيُوب ودعا بِدَعْوَى

ص: 275

الْجَاهِلِيَّة وَقَالَ انا برِئ من الحالقة والصالقة والشاقة وَقَالَ مَا كَانَ من الْعين وَالْقلب فَمن الله وَمَا كَانَ من الْيَد وَاللِّسَان فَمن الشَّيْطَان وَقَالَ ان الله لَا يُؤَاخذ على دمع الْعين

ص: 276

وَلَا حزن الْقلب وَلَكِن يعذب بِهَذَا اَوْ يرحم واشار الى لِسَانه وَقَالَ من ينح عَلَيْهِ فانه يعذب بِمَا نيح عَلَيْهِ وَاشْترط على النِّسَاء فِي الْبيعَة الا يَنحن وَقَالَ ان النائحة اذا لم تتب قبل مَوتهَا فَإِنَّهَا تلبس يَوْم

ص: 277

الْقِيَامَة درعا من جرب وسربالا من قطران

وَقَالَ فِي الْغَلَبَة والمصائب والفرح ان الله كتب الاحسان على كل شَيْء فَإِذا قتلتم فَأحْسنُوا القتلة واذا ذبحتم فَأحْسنُوا الذبْحَة وليحد احدكم شفرته وليرح ذَبِيحَته

وَقَالَ ان اعْفُ النَّاس قتلة اهل الايمان

ص: 278

وَقَالَ لَا تمثلوا وَلَا تغدروا وَلَا تقتلُوا وليدا الى غير ذَلِك مِمَّا امْر بِهِ فِي الْجِهَاد من الْعدْل وَترك الْعدوان اتبَاعا لقَوْله تَعَالَى {وَلَا يجرمنكم شنآن قوم على أَلا تعدلوا اعدلوا هُوَ أقرب للتقوى} سُورَة الْمَائِدَة 8 وَلقَوْله تَعَالَى {وقاتلوا فِي سَبِيل الله الَّذين يقاتلونكم وَلَا تَعْتَدوا إِن الله لَا يحب الْمُعْتَدِينَ} سُورَة الْبَقَرَة 190

وَنهى عَن لِبَاس الْحَرِير وتختم الذَّهَب وَالشرب فِي آنِية الذَّهَب وَالْفِضَّة واطالة الثِّيَاب الى غير ذَلِك من انواع السَّرف وَالْخُيَلَاء فِي النعم وذم الَّذين يسْتَحلُّونَ الْخمر وَالْحَرِير وَالْمَعَازِف

ص: 279

وَجعل فيهم الْخَسْف وَالْمَسْخ

وَقد قَالَ الله تَعَالَى {إِن الله لَا يحب من كَانَ مختالا فخورا} سُورَة النِّسَاء 36 وَقَالَ عَن قَارون {إِذْ قَالَ لَهُ قومه لَا تفرح إِن الله لَا يحب الفرحين} سُورَة الْقَصَص 76

وَهَذِه الامور الثَّلَاثَة مَعَ الصَّبْر عَن الاعتداء فِي الشَّهْوَة هِيَ جَوَامِع هَذَا الْبَاب وَذَلِكَ ان الانسان بَين مَا يُحِبهُ ويشتهيه وَبَين مَا يبغضه ويكرهه فَهُوَ يطْلب الاول بمحبته وشهوته وَيدْفَع الثَّانِي ببغضه ونفرته واذا حصل الاول اَوْ انْدفع الثَّانِي اوجب لَهُ فَرحا وسرورا وان حصل الثَّانِي اَوْ انْدفع الاول حصل لَهُ حزن فَهُوَ مُحْتَاج عِنْد الْمحبَّة والشهوة ان يصبر عَن عدوانهما وَعند الْغَضَب والنفرة ان يصبر على عدوانهما وَعند الْفَرح ان يصبر عَن عدوانه وَعند الْمُصِيبَة ان يصبر عَن الْجزع مِنْهَا

فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصوتين الاحمقين الفاجرين الصَّوْت الَّذِي يُوجب الاعتداء فِي الْفَرح حَتَّى يصير الانسان فَرحا

ص: 280

فخورا وَالصَّوْت الَّذِي يُوجب الْجزع عِنْد الْحزن حَتَّى يصير الانسان هلوعا جزوعا واما الصَّوْت الَّذِي يثير الْغَضَب لله كالأصوات الَّتِي تقال فِي الْجِهَاد من الاشعار المنشدة فَتلك لم تكن بآلات وَكَذَلِكَ اصوات الشُّهْرَة فِي الْفَرح فَرخص مِنْهَا فِيمَا وَردت بِهِ السّنة من الضَّرْب بالدف فِي الاعراس والافراح للنِّسَاء وَالصبيان

وَعَامة الاشعار الَّتِي تنشد بالاصوات لتحريك النُّفُوس هِيَ من هَذِه الاقسام الاربعة اشعار الْمحبَّة وَهِي النسيب واشعار الْغَضَب وَالْحمية وَهِي الحماسة والهجاء واشعار المصائب كالمراثي واشعار النعم والفرح وَهِي المدائح

وَالشعرَاء جرت عَادَتهم ان يمشوا مَعَ الطَّبْع كَمَا قَالَ الله تَعَالَى ألم تَرَ انهم فِي كل وَاد يهيمون وانهم يَقُولُونَ مَالا يَفْعَلُونَ سُورَة الشُّعَرَاء 225 226 وَلِهَذَا اخبر انهم يتبعهُم الْغَاوُونَ والغاوي هُوَ الَّذِي يتبع هَوَاهُ بِغَيْر علم وَهَذَا هُوَ

ص: 281

الغي وَهُوَ خلاف الرشد كَمَا ان الضال هُوَ الَّذِي لَا يعلم مصْلحَته وَهُوَ خلاف الْمُهْتَدي

قَالَ الله سبحانه وتعالى والنجم اذا هوى مَا ضل صَاحبكُم وَمَا غوى سُورَة النَّجْم 1 2 وَلِهَذَا قَالَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم عَلَيْكُم بِسنتي وَسنة الْخُلَفَاء الرَّاشِدين المهديين من بعدِي

فَلهَذَا تجدهم يمدحون جنس الشجَاعَة وجنس السماحة اذ كَانَ عدم هذَيْن مذموما على الاطلاق واما وجودهما فَفِيهِ تَحْصِيل مَقَاصِد النُّفُوس على الاطلاق لَكِن الْعَاقِبَة فِي ذَلِك

ص: 282

لِلْمُتقين واما غير الْمُتَّقِينَ فَلهم عاجلة لَا عَاقِبَة وَالْعَاقبَة وان كَانَت فِي الاخرة فَتكون فِي الدُّنْيَا ايضا

كَمَا قَالَ تَعَالَى لما ذكر قصَّة نوح ونجاته بالسفينة {قيل يَا نوح اهبط بِسَلام منا وبركات عَلَيْك وعَلى أُمَم مِمَّن مَعَك وأمم سنمتعهم ثمَّ يمسهم منا عَذَاب أَلِيم} قَالَ {تِلْكَ من أنباء الْغَيْب نوحيها إِلَيْك} الى قَوْله {فاصبر إِن الْعَاقِبَة لِلْمُتقين} سُورَة هود 48 49

وَقَالَ {فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ بِمثل مَا اعْتدى عَلَيْكُم وَاتَّقوا الله وَاعْلَمُوا أَن الله مَعَ الْمُتَّقِينَ} سُورَة الْبَقَرَة 194

وَالْفرْقَان ان يحمد من ذَلِك مَا حَمده الله وَرَسُوله فَإِن الله تَعَالَى هُوَ الذى حَمده زين وذمه شين دون غَيره من الشُّعَرَاء والخطباء وَغَيرهم

وَلِهَذَا لما قَالَ الْقَائِل من بني تَمِيم للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم

ص: 283

ان حمدي زين وذمي شين قَالَ لَهُ ذَاك الله

وَالله سُبْحَانَهُ حمد الشجَاعَة السماحة فِي سَبيله كَمَا فِي الصَّحِيح عَن ابي مُوسَى الاشعري رضي الله عنه قَالَ قيل يَا رَسُول الله الرجل يُقَاتل شجاعة وَيُقَاتل حمية وَيُقَاتل رِيَاء فَأَي ذَلِك فِي سَبِيل الله فَقَالَ من قَاتل لتَكون كلمة الله هِيَ الْعليا فَهُوَ فِي سَبِيل الله

وَقَالَ قَالَ سُبْحَانَهُ {وقاتلوهم حَتَّى لَا تكون فتْنَة وَيكون الدّين كُله لله} سُورَة الانفال 39 وَذَلِكَ ان هَذَا هُوَ الْمَقْصُود الَّذِي خلق الله الْخلق لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَمَا خلقت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا ليعبدون} سُورَة الذاريات 56 فَكل مَا كَانَ لأجل الْغَايَة

ص: 284

الَّتِي خلق لَهُ الْخلق كَانَ مَحْمُودًا عِنْد الله وهوالذي يبْقى لصَاحبه وينفعه الله بِهِ وَهَذِه الاعمال هِيَ الْبَاقِيَات الصَّالِحَات وَلِهَذَا كَانَ النَّاس اربعة اصناف

من يعْمل لله بشجاعة وبسماحة فَهَؤُلَاءِ هم الْمُؤْمِنُونَ المستحقون للجنة

وَمن يعْمل لغير الله بشجاعة وَمن وسماحة فَهَذَا ينْتَفع بذلك فِي الدُّنْيَا وَلَيْسَ لَهُ فِي الاخرة من خلاق

وَمن يعْمل لله لَكِن بِلَا شجاعة وَلَا سماحة فَهَذَا فِيهِ من النِّفَاق وَنقص الايمان بِقدر ذَلِك

وَمن لَا يعْمل لله وَلَا فِيهِ شجاعة وَلَا سماحة فَهَذَا لَيْسَ لَهُ دنيا وَلَا آخِرَة

فَهَذِهِ الاخلاق وَالْأَفْعَال يحْتَاج اليها الْمُؤمن عُمُوما وخصوصا فِي أَوْقَات المحن والفتن الشَّدِيدَة فَإِنَّهُم يَحْتَاجُونَ الى

ص: 285

صَلَاح نُفُوسهم وَدفع الذُّنُوب عَن نُفُوسهم عِنْد الْمُقْتَضى للفتنة عِنْدهم ويحتاجون ايضا الى امْر غَيرهم وَنَهْيه بِحَسب قدرتهم

وكل من هذَيْن الامرين فِيهِ من الصعوبة مَا فِيهِ وان كَانَ يَسِيرا على من يسره الله عَلَيْهِ

وَهَذَا لِأَن الله امْر الْمُؤمنِينَ بِالْإِيمَان وَالْعَمَل الصَّالح وامرهم بدعوة النَّاس وجهادهم على الايمان وَالْعَمَل الصَّالح

كَمَا قَالَ الله تَعَالَى ولينصرن الله من ينصره ان الله لقوي عَزِيز الَّذين ان مكناهم فِي الارض أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة وَأمرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونهوا عَن الْمُنكر وَللَّه عَاقِبَة الامور سُورَة الْحَج 40 41

وكما قَالَ {إِنَّا لننصر رسلنَا وَالَّذين آمنُوا فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيَوْم يقوم الأشهاد} سُورَة غَافِر 51

وكما قَالَ {كتب الله لأغلبن أَنا ورسلي إِن الله قوي عَزِيز} سُورَة المجادلة 21

وكما قَالَ {وَإِن جندنا لَهُم الغالبون} سُورَة الصافات

ص: 286

173 -

وَقَالَ {وَمن يتول الله وَرَسُوله وَالَّذين آمنُوا فَإِن حزب الله هم الغالبون} سُورَة الْمَائِدَة 56

وَلما كَانَ فِي الامر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَالْجهَاد فِي سَبِيل الله من الِابْتِلَاء والمحن مَا يتَعَرَّض بِهِ الْمَرْء للفتنة صَار فِي النَّاس من يتعلل لترك مَا وَجب عَلَيْهِ من ذَلِك بِأَنَّهُ يطْلب السَّلامَة من الْفِتْنَة

كَمَا قَالَ تَعَالَى عَن الْمُنَافِقين {وَمِنْهُم من يَقُول ائْذَنْ لي وَلَا تفتني أَلا فِي الْفِتْنَة سقطوا} سُورَة التَّوْبَة 49 الاية وَقد ذكرُوا فِي التَّفْسِير انها نزلت فِي الْجد بن قيس لما امْرَهْ النَّبِي صلى الله عليه وسلم بالتجهز لغزو الرّوم وأظن أَن رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ لَهُ هَل لَك فِي نسَاء بني الاصفر فَقَالَ يَا رَسُول الله اني رجل لَا اصبر على النِّسَاء واني اخاف الْفِتْنَة

ص: 287

بنساء بني الاصفر فائذن لي وَلَا تفتني وَهَذَا الْجد هُوَ الَّذِي تخلف عَن بيعَة الرضْوَان تَحت الشَّجَرَة واستتر بجمل احمر وَجَاء فِيهِ الحَدِيث ان كلهم مغْفُور لَهُ الا صَاحب الْجمل الاحمر فَأنْزل الله تَعَالَى فِيهِ {وَمِنْهُم من يَقُول ائْذَنْ لي وَلَا تفتني أَلا فِي الْفِتْنَة سقطوا} سُورَة التَّوْبَة 49 يَقُول انه طلب الْقعُود ليسلم من فتْنَة النِّسَاء فَلَا يفتتن بِهن فَيحْتَاج الى الِاحْتِرَاز من الْمَحْظُور ومجاهدة نَفسه عَنهُ فيتعذب بذلك اَوْ يواقعه فيأثم فَإِن من رأى الصُّور الجميلة وأحبها فَإِن لم يتَمَكَّن مِنْهَا اما لتَحْرِيم الشَّارِع وَأما للعجز عَنْهَا تعذب قلبه وان

ص: 288

قدر عَلَيْهَا وَفعل الْمَحْظُور هلك وَفِي الْحَلَال من ذَلِك من معالجة النِّسَاء مَا فِيهِ بلَاء

فَهَذَا وَجه قَوْله {وَلَا تفتني} قَالَ الله تَعَالَى {أَلا فِي الْفِتْنَة سقطوا} سُورَة التَّوْبَة 49 يَقُول ان نفس اعراضه عَن الْجِهَاد الْوَاجِب ونكوله عَنهُ وَضعف ايمانه وَمرض قلبه الَّذِي زين لَهُ ترك الْجِهَاد فتْنَة عَظِيمَة قد سقط فِيهَا فَكيف يطْلب التَّخَلُّص من فتْنَة صَغِير لم تصبه بِوُقُوعِهِ فِي فتْنَة عَظِيمَة قد اصابته

وَالله تَعَالَى يَقُول وقاتلوهم حَتَّى لت تكون فتْنَة وَيكون الدّين كُله لله سُورَة الانفال 39 فَمن ترك الْقِتَال الَّذِي امْر الله بِهِ لِئَلَّا تكون فتْنَة فَهُوَ فِي الْفِتْنَة سَاقِط بِمَا وَقع فِيهِ من ريب

ص: 289

قلبه وَمرض فُؤَاده وَتَركه مَا امْر الله بِهِ من الْجِهَاد فَتدبر هَذَا فان هَذَا مقَام خطر

وَالنَّاس فِيهِ على قسمَيْنِ قسم يأمرون وَينْهَوْنَ ويقاتلون طلبا لإِزَالَة الْفِتْنَة زَعَمُوا وَيكون فعلهم ذَلِك اعظم فتْنَة كالمقتتلين فِي الْفِتَن الْوَاقِعَة بَين الامة مثل الْخَوَارِج

وأقوام ينكلون عَن الامر وَالنَّهْي والقتال الَّذِي يكون بِهِ الدّين كُله لله وَتَكون كلمة الله هِيَ الْعليا لِئَلَّا يفتنوا وهم قد سقطوا فِي الْفِتْنَة

وَهَذِه الْفِتْنَة الْمَذْكُورَة فِي سُورَة بَرَاءَة دخل فِيهَا الافتتان بالصور الجميلة فَإِنَّهَا سَبَب نزُول الْآيَة وَهَذِه حَال كثير من المتدينة يتركون مَا يجب عَلَيْهِم من امْر وَنهي وَجِهَاد يكون بِهِ الدّين لله وَتَكون بِهِ كلمة الله هِيَ الْعليا لِئَلَّا يفتنوا بِجِنْس الشَّهَوَات

ص: 290

وهم قد وَقَعُوا فِي الْفِتْنَة الَّتِي هِيَ اعظم مِمَّا زَعَمُوا انهم فروا مِنْهُ وانما الْوَاجِبَة عَلَيْهِم الْقيام بِالْوَاجِبِ من الامر وَالنَّهْي وَترك الْمَحْظُور والاستعانة بِاللَّه على الامرين وَلَو فرض ان فعل الْوَاجِب وَترك الْمَحْظُور وهما متلازمان وانما تركُوا ذَلِك لكَون نُفُوسهم لَا تطاوعهم الا على فعلهمَا جَمِيعًا اَوْ تكرهما جَمِيعًا مثل كثير مِمَّن يجب الرياسة اَوْ المَال اَوْ شهوات الغي فانه اذا فعل مَا وَجب عَلَيْهِ من امْر وَنهي وَجِهَاد وامارة وَنَحْو ذَلِك فَلَا بُد ان يفعل مَعهَا شَيْئا من الْمَحْظُورَات فَالْوَاجِب عَلَيْهِ ان ينظر أغلب الامرين فَإِن كَانَ الْمَأْمُور اعظم اجرا من ترك ذَلِك الْمَحْظُور لم يتْرك ذَلِك لما يخَاف ان يقْتَرن بِهِ مَا هُوَ دونه فِي الْمفْسدَة وان كَانَ ترك الْمَحْظُور اعظم اجرا لم يفوت ذَلِك برجاء ثَوَاب فعل وَاجِب يكون دون ذَلِك فَذَلِك يكون بِمَا يجْتَمع لَهُ من الامرين من الْحَسَنَات والسيئات فَهَذَا هَذَا وتفصيل ذَلِك يطول

ص: 291

وكل بشر على وَجه الارض فَلَا بُد لَهُ من امْر وَنهي وَلَا بُد ان يَأْمر وَينْهى حَتَّى لَو انه وَحده لَكَانَ يَأْمر نَفسه وينهاها اما بِمَعْرُوف واما بمنكر كَمَا قَالَ الله تَعَالَى {إِن النَّفس لأمارة بالسوء} سُورَة يُوسُف 53

فَإِن الْأَمر هُوَ طلب الْفِعْل وارادته وَالنَّهْي طلب التّرْك وارادته وَلَا بُد لكل حى من ارادة وَطلب فِي نَفسه يقتضى بهما فعل نَفسه ويقتضى بهما فعل غَيره اذا امكن ذَلِك فَإِن الانسان حَيّ يَتَحَرَّك بإرادته

وَبَنُو آدم لَا يعيشون الا باجتماع بَعضهم مَعَ بعض واذا اجْتمع اثْنَان فَصَاعِدا فَلَا بُد ان يكون بَينهمَا ائتمار بِأَمْر وتناه عَن امْر وَلِهَذَا كَانَ اقل الْجَمَاعَة فِي الصَّلَاة اثْنَيْنِ كَمَا قيل الِاثْنَان فَمَا فَوْقهمَا جمَاعَة لَكِن لما كَانَ ذَلِك اشتراكا فِي مُجَرّد الصَّلَاة حصل بِاثْنَيْنِ احدهما امام والاخر مَأْمُوم كَمَا قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ

ص: 292

وَسلم لمَالِك ابْن الْحُوَيْرِث وَصَاحبه رضي الله عنهما اذا حضرت الصَّلَاة فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما وَكَانَا متقاربين فِي الْقِرَاءَة

وَأما فِي الامور العادية فَفِي السّنَن انه صلى الله عليه وسلم قَالَ لَا يحل لثَلَاثَة يكونُونَ فِي سفر إِلَّا أمروا عَلَيْهِم احدهم

ص: 293

واذا كَانَ الامر وَالنَّهْي من لَوَازِم وجود بني آدم فَمن لم يَأْمر بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي امْر الله بِهِ وَرَسُوله وينه عَن الْمُنكر الَّذِي نهى الله عَنهُ وَرَسُوله وَيُؤمر بِالْمَعْرُوفِ الَّذِي امْر الله بِهِ وَرَسُوله وينه عَن الْمُنكر الَّذِي نهى الله عَنهُ وَرَسُوله وَإِلَّا فَلَا بُد من ان يَأْمر وَينْهى وَيُؤمر وَينْهى اما بِمَا يضاد ذَلِك واما بِمَا يشْتَرك فِيهِ الْحق الَّذِي انزله الله بِالْبَاطِلِ الَّذِي لم ينزله الله واذا اتخذ ذَلِك دينا كَانَ دينا مبتدعا ضَالًّا بَاطِلا

وَهَذَا كَمَا ان كل بشر فَإِنَّهُ حَيّ متحرك بإرادته همام حَارِث فَمن لم تكن نِيَّته صَالِحَة وَعَمله عملا صَالحا لوجه الله والا كَانَ عملا فَاسِدا اَوْ لغير وَجه الله وَهُوَ الْبَاطِل كَمَا قَالَ تَعَالَى {إِن سعيكم لشتى} سُورَة اللَّيْل

ص: 294

وَهَذِه الاعمال كلهَا بَاطِلَة من جنس أَعمال الْكفَّار {الَّذين كفرُوا وصدوا عَن سَبِيل الله أضلّ أَعْمَالهم} سُورَة مُحَمَّد 1

وَقَالَ تَعَالَى وَالَّذين كفرُوا اعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن مَاء حَتَّى اذا جَاءَهُ لم يجده شَيْئا وَوجد الله عِنْده فوفاه حسابه وَالله سريع الحسباب سُورَة النُّور 39 وَقَالَ {وَقدمنَا إِلَى مَا عمِلُوا من عمل فجعلناه هباء منثورا} سُورَة الْفرْقَان 23

وَقد امْر الله تَعَالَى فِي كِتَابه بِطَاعَتِهِ وَطَاعَة رَسُوله وَطَاعَة اولي الْأَمر من الْمُؤمنِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا أطِيعُوا الله وَأَطيعُوا الرَّسُول وأولي الْأَمر مِنْكُم فَإِن تنازعتم فِي شَيْء فَردُّوهُ إِلَى الله وَالرَّسُول إِن كُنْتُم تؤمنون بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر ذَلِك خير وَأحسن تَأْوِيلا} سُورَة النِّسَاء 59

وَأولُوا الامر اصحاب الامر وذووه وهم الَّذين يأمرون النَّاس وينهونهم وَذَلِكَ يشْتَرك فِيهِ اهل الْيَد وَالْقُدْرَة واهل الْعلم وَالْكَلَام فَلهَذَا كَانَ اولو الامر صنفين الْعلمَاء والامراء فاذا صلحوا صلح النَّاس واذا فسدوا فسد النَّاس

ص: 295

كَمَا قَالَ ابو بكر الصّديق رضي الله عنه للأحمسية لما سَأَلته مَا بقاؤنا على هَذَا الامر الصَّالح قَالَ مَا استقامت لكم ائمتكم

وَيدخل فيهم الْمُلُوك والمشايخ واهل الدِّيوَان وكل من كَانَ متبوعا فَإِنَّهُ من اولى الامر وعَلى كل وَاحِد من هَؤُلَاءِ ان يَأْمر بِمَا امْر الله بِهِ وَينْهى عَن مَا نهى الله عَنهُ وعَلى كل وَاحِد مِمَّن عَلَيْهِ طَاعَته ان يطيعه فِي طَاعَة الله وَلَا يطيعه فِي مَعْصِيّة الله

كَمَا قَالَ ابو بكر الصّديق رضي الله عنه حِين تولى امْر الْمُسلمين وخطبهم فَقَالَ فِي خطبَته ايها النَّاس الْقوي فِيكُم الضَّعِيف عِنْدِي حَتَّى آخذ مِنْهُ الْحق والضعيف فِيكُم الْقوي عِنْدِي حَتَّى آخذ لَهُ الْحق اطيعوني مَا اطعت الله وَرَسُوله

ص: 296