الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فصل فِي السكر واسبابه وَأَحْكَامه
قد تَكَلَّمت فِيمَا مضى من الْقَوَاعِد على مَعَاني الفناء الْمَوْجُود فِي كَلَام الْمَشَايِخ والصوفية وانه ثَلَاثَة اقسام قسم كَامِل للسابقين وَقسم نَاقص لأَصْحَاب الْيَمين وَقسم ثَالِث للظالمين الْفَاسِقين والكافرين
فَالْأول الفناء عَن عبَادَة مَا سوى الله والاستعانة بِهِ بِحَيْثُ لَا يعبد الا الله وَلَا يَسْتَعِين الا بِاللَّه وَهَذَا هُوَ دين الاسلام
وَالثَّانِي الفناء عَن شُهُود مَا سوى الله بِحَيْثُ يغيب بمشهوده عَن شُهُوده وَهَذَا لمن لم يقدر على الْجمع بَين شُهُود الْحَقَائِق وَعبادَة الْخَالِق بل مَا شهده عِنْده ومعبوده وَاحِد فمشهوده وَاحِد وَهَذَا يعتري كثيرا كالعيسوية من هَذِه الامة الَّذين لَهُم وصف الْعِبَادَة دون الشَّهَادَة فَلهم قُوَّة فِي الْعِبَادَة والانابة والمحبة يجتذبهم
ذَلِك الى معبودهم ومقصودهم ومحبوبهم وَلَيْسَ لَهُم قُوَّة مَعَ ذَاك على شُهُود سَائِر مَا يقوم بِهِ من الكائنات وَمَا يسْتَحقّهُ من الاسماء وَالصِّفَات فَهَؤُلَاءِ اذا لم يتْركُوا وَاجِبا لم يضرهم وان تركُوا مُسْتَحبا مشتغلين عَنهُ بِمَا هُوَ افضل مِنْهُ لم ينقلوا عَن مقامهم وان اشتغلوا عَمَّا تَرَكُوهُ من الْمُسْتَحبّ بِمَا لَيْسَ مثله فانتقالهم الى ذَلِك الافضل افضل اذا امكن والا فَفعل الْمَقْدُور عَلَيْهِ من الصَّالِحَات خير من الاهتمام بِمَا يعجز عَنهُ ويصد عَن غَيره وان تركُوا وَاجِبا اَوْ فعلوا محرما مَعَ امكان الْعلم وَالْقُدْرَة فهم مؤاخذون على ذَلِك وان كَانَ مَعَ سُقُوط التَّمْيِيز لسَبَب يعذرُونَ بِهِ مثل زَوَال عقل بِسَبَب غير مَحْظُور اَوْ سكر بِسَبَب غير مَحْظُور اَوْ عجز لَا تَفْرِيط فِيهِ فَلَا ذمّ عَلَيْهِم وان كَانَ مَعَ التَّكْلِيف فسبب الذَّم قَائِم ثمَّ لَهُم حكم الله فيهم كَمَا لسَائِر الْمُؤمنِينَ من كَون الذَّنب صَغِيرا اَوْ كَبِيرا مَقْرُونا بحسنات ماحية اَوْ غير ذَلِك من احكام السَّيِّئَات مالم يخرجُوا الى الْقسم الثَّالِث وَهُوَ فنَاء الْكَافرين وَهُوَ جعل وجود الاشياء هُوَ عين وجود الْحق اَوْ جود نَفسه عين وجوده كَمَا بَيناهُ من مَذَاهِب اهل الْحُلُول والاتحاد فِي غير هَذَا الْموضع فان هَذَا كفر وَصَاحبه كَافِر بعد قيام الْحجَّة عَلَيْهِ وان كَانَ جَاهِلا اَوْ متأولا لم تقم عَلَيْهِ الْحجَّة
كَالَّذي قَالَ اذا انا مت فاحرقوني ثمَّ ذروني فِي اليم فَهَذَا امْرَهْ الى الله تَعَالَى
كَمَا قَالَ تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى حَتَّى تعلمُوا مَا تَقولُونَ} سُورَة النِّسَاء 43 فَجعل الْغَايَة الَّتِي يَزُول بهَا حكم السكر ان يعلم مَا يَقُول فَمَتَى كَانَ لَا يعلم مَا يَقُول فَهُوَ فِي السكر واذا علم مَا يَقُول خرج عَن حكمه فَهَذَا اصل يجب اعْتِمَاده وَهَذَا هُوَ حد السَّكْرَان عِنْد جُمْهُور الْعلمَاء
قَالَ احْمَد بن حَنْبَل بِمَا نَقله عَن سعيد بن جُبَير انه قَالَ اذا لم يعلم بثيابه من ثِيَاب غَيره وَلَا نَعله من نعال غَيره فَجعل ذَلِك عدم التَّمْيِيز بَين ثَوْبه وثوب غَيره ويروي عَن الشَّافِعِي انه قَالَ اذا اخْتَلَط كَلَامه المنظوم وافشى سره المكتوم
فالسكر يجمع مَعْنيين وجود لَذَّة وَعدم تَمْيِيز وَالَّذِي يقْصد السكر قد يقْصد احدهما وَقد يقْصد كِلَاهُمَا وَهُوَ اثم فَإِن النَّفس لَهَا اهواء وشهوات تلتذ بنيلها وادراكها وَالْعقل وَالْعلم بِمَا فِي تِلْكَ الافعال من الْمضرَّة فِي الدُّنْيَا والاخرة يمْنَعهَا عَن ذَلِك فَإِذا زَالَ الْعقل الْحَافِظ انبسطت النَّفس فِي اهوائها
وَحرم الله السكر لسببين ذكرهمَا الله فِي كِتَابه بقوله {إِنَّمَا يُرِيد الشَّيْطَان أَن يُوقع بَيْنكُم الْعَدَاوَة والبغضاء فِي الْخمر وَالْميسر ويصدكم عَن ذكر الله وَعَن الصَّلَاة} سُورَة الْمَائِدَة 91 فَأخْبر انه يُوجب الْمفْسدَة الفاشية من النَّفس بِعَدَمِ الْعقل وَيمْنَع الْمصلحَة الَّتِي لَا تتمّ الا بِالْعقلِ الَّتِي خلق لَهَا العَبْد وَهِي ذكر الله وَالصَّلَاة
وَقد يكون سَبَب السكر من الْأَلَم كَمَا يكون من اللَّذَّة كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَترى النَّاس سكارى وَمَا هم بسكارى وَلَكِن عَذَاب الله شَدِيد} سُورَة الْحَج 2 فَأخْبر انهم يرَوْنَ سكارى وَمَا هم بسكارى
فَإِذا عرف ذَلِك فسبب السكر مَا يُوجب اللَّذَّة وَيمْنَع الْعلم فَمِنْهُ السكر بالأطعمه والاشربة المسكرة فَإِن طاعمها يحصل لَهُ بذلك لَذَّة وسرور وَهُوَ الْحَامِل لأكْثر النَّاس على شربهَا ويغيب عقله فتغيب عَنهُ الهموم والاحزان تِلْكَ السَّاعَة
وَمن النَّاس من يقْصد الْمَنْفَعَة للبدن وَلَكِن يحصل لَهُ من الْمضرَّة بالأفعال والأقوال الَّتِي تتولد عَن السكر وَيمْنَع عَن الْمَنْفَعَة من ذكر الله وَالصَّلَاة وَغَيرهمَا مَا هُوَ اعظم اثما من مَنْفَعَتهَا فَإِن اللَّذَّة
الْحَاصِلَة بِذكر الله وَالصَّلَاة بَاقِيَة دافعة للهموم والاحزان لَيْسَ دَفعه اياه وَقت الصَّلَاة فَقَط كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَاسْتَعِينُوا بِالصبرِ وَالصَّلَاة} سُورَة الْبَقَرَة 45 وَقَالَ {إِن الصَّلَاة تنْهى عَن الْفَحْشَاء وَالْمُنكر} سُورَة العنكبوت 45 فَفِي هَذِه اللَّذَّة وَالْمَنْفَعَة الْعَظِيمَة الشَّرِيفَة الدافعة للمضار مَا يُغني عَن تِلْكَ القاصرة الْمَانِعَة مِمَّا هُوَ اكمل مِنْهَا والجالبة لمضرة تربي عَلَيْهَا وَهَذَا السكر جسماني
وَمن السكر مَا يكون بحب الصُّور اما النِّسَاء واما الصّبيان فَإِنَّهُ اذا استحكم الْحبّ وَحصل للمحب اتِّصَال فقد يسكر كَمَا قَالَ بَعضهم
…
سَكرَان سكر هوى وسكر مدامة
…
فَمَتَى إفاقة من بِهِ سَكرَان
…
وَوقت الْجِمَاع ينقص تَمْيِيز اكثر النَّاس ايضا وَهُوَ مبدأ سكر
وَمن السكر ايضا مَا يكون بحب الرياسة وَالْمَال اَوْ شِفَاء الغيظ فَإِنَّهُ اذا قوى ذَلِك اوجب سكرا وانما كَانَت هَذِه الاشياء قد توجب سكرا لِأَن السكر شَبيه مَا يُوجب اللَّذَّة الْقَاهِرَة الَّتِي تغمر الْعقل