الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الصَّوَابَ الْمَعْرُوفَ طَرَفَهَا بِالْإِفْرَادِ وَأَنَّ بَعْضَهُمْ رَوَاهُ طَرَفَيْهَا بِالتَّثْنِيَةِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَسَيَأْتِي بَسْطُ حُكْمِ إِرْخَاءِ الْعِمَامَةِ فِي كِتَابِ اللِّبَاسِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
(باب فَضْلِ الْمَدِينَةِ وَدُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم
فِيهَا بِالْبَرَكَةِ)
(وَبَيَانِ تحريمها وتحريم صيدها وشجرها وبيان حدود حرمها)
[1360]
قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ) هَذَا دَلِيلٌ لِمَنْ يَقُولُ إِنَّ تَحْرِيمَ مَكَّةَ إِنَّمَا هُوَ كَانَ فِي زَمَنِ إِبْرَاهِيمَ صلى الله عليه وسلم وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ كَانَ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ مُسْتَوْفَاةً قَرِيبًا وَذَكَرُوا فِي تَحْرِيمِ إِبْرَاهِيمَ احْتِمَالَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ حَرَّمَهَا بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِذَلِكَ لَا بِاجْتِهَادِهِ فَلِهَذَا أَضَافَ التَّحْرِيمَ إِلَيْهِ تَارَةً وَإِلَى اللَّهِ تَعَالَى تَارَةً وَالثَّانِي أَنَّهُ دَعَا لَهَا فَحَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِدَعْوَتِهِ فَأُضِيفَ التَّحْرِيمُ إِلَيْهِ لِذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ كَمَا حَرَّمَ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ وَذَكَرَ مُسْلِمٌ الْأَحَادِيثَ الَّتِي بَعْدَهُ بِمَعْنَاهُ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ حُجَّةٌ ظَاهِرَةٌ لِلشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ وَمُوَافِقِيهِمَا فِي تَحْرِيمِ صَيْدِ الْمَدِينَةِ وَشَجَرِهَا وَأَبَاحَ أَبُو حَنِيفَةَ ذَلِكَ وَاحْتَجَّ لَهُ بِحَدِيثِ يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ وَأَجَابَ أَصْحَابُنَا بِجَوَابَيْنِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنَّ حَدِيثَ النُّغَيْرِ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْمَدِينَةِ وَالثَّانِي يَحْتَمِلُ أَنَّهُ صَادَهُ مِنَ الْحِلِّ لَا مِنْ حَرَمِ الْمَدِينَةِ وَهَذَا الْجَوَابُ لَا يَلْزَمُهُمْ عَلَى أُصُولِهِمْ لِأَنَّ مَذْهَبَ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّ صَيْدَ الْحِلِّ إِذَا أدخله الحلال إِلَى الْحَرَمِ ثَبَتَ لَهُ حُكْمُ الْحَرَمِ وَلَكِنَّ أَصْلَهُمْ هَذَا ضَعِيفٌ فَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِدَلِيلِهِ وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَالْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا ضَمَانَ فِي صَيْدِ الْمَدِينَةِ وَشَجَرِهَا بَلْ هُوَ حرام بلا ضمان وقال بن أبي ذئب وبن أَبِي لَيْلَى يَجِبُ فِيهِ الْجَزَاءُ كَحَرَمِ مَكَّةَ وَبِهِ قَالَ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ وَلِلشَّافِعِيِّ قَوْلٌ قَدِيمٌ أَنَّهُ يُسْلَبُ الْقَاتِلُ لِحَدِيثِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ الَّذِي ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ بَعْدَ هَذَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ لَمْ يَقُلْ بِهَذَا الْقَوْلِ أَحَدٌ بَعْدَ الصَّحَابَةِ إِلَّا الشَّافِعِيَّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1361]
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
(إِنَّ إِبْرَاهِيمَ حَرَّمَ مَكَّةَ وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا) يُرِيدُ الْمَدِينَةَ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ وَغَرِيبِ الْحَدِيثِ اللَّابَتَانِ الْحَرَّتَانِ وَاحِدَتُهُمَا لَابَةٌ وَهِيَ الْأَرْضُ الْمُلْبَسَةُ حِجَارَةٌ سَوْدَاءُ وَلِلْمَدِينَةِ لَابَتَانِ شَرْقِيَّةٌ وَغَرْبِيَّةٌ وَهِيَ بَيْنَهُمَا وَيُقَالُ لَابَةٌ وَلُوبَةٌ وَنُوبَةٌ بِالنُّونِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ مَشْهُورَاتٍ وَجَمْعُ اللَّابَةِ فِي الْقِلَّةِ لَابَاتٌ وَفِي الْكَثْرَةِ لَابٌ وُلُوبٌ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (وَإِنِّي أُحَرِّمُ مَا بين لابتيها
مَعْنَاهُ اللَّابَتَانِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَالْمُرَادُ تَحْرِيمُ الْمَدِينَةِ ولا بتيها
[1362]
قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (لَا يُقْطَعُ عِضَاهُهَا وَلَا يُصَادُ صَيْدُهَا) صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ فِي تَحْرِيمِ صَيْدِ الْمَدِينَةِ وَشَجَرِهَا وَسَبَقَ خِلَافُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْعِضَاهُ بِالْقَصْرِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ كُلُّ شَجَرٍ فِيهِ شَوْكٌ وَاحِدَتُهَا عِضَاهَةٌ وَعَضِيهَةٌ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1363]
قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (وَلَا يَثْبُتُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا وَجَهْدِهَا إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ اللَّأْوَاءُ بِالْمَدِّ الشِّدَّةُ وَالْجُوعُ وَأَمَّا الْجَهْدُ فَهُوَ الْمَشَقَّةُ وَهُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَفِي لُغَةٍ قَلِيلَةٍ بِضَمِّهَا وَأَمَّا الْجَهْدُ بِمَعْنَى الطَّاقَةِ فَبِضَمِّهَا عَلَى الْمَشْهُورِ وَحُكِيَ فَتْحُهَا وَأَمَّا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم أَلَا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا فَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رحمه الله سَأَلْتُ قَدِيمًا عَنْ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ وَلِمَ خَصَّ سَاكِنَ الْمَدِينَةِ بِالشَّفَاعَةِ هُنَا مَعَ عُمُومِ شَفَاعَتِهِ وَإِدِّخَارِهِ إِيَّاهَا لِأُمَّتِهِ قَالَ وَأُجِيبَ عَنْهُ بِجَوَابٍ شَافٍ مُقْنِعٍ فِي أَوْرَاقٍ اعْتَرَفَ بِصَوَابِهِ كُلُّ وَاقِفٍ عَلَيْهِ قَالَ وَأَذْكُرُ مِنْهُ هُنَا لُمَعًا تَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا أَوْ هُنَا لِلشَّكِّ وَالْأَظْهَرُ عِنْدَنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلشَّكِّ لِأَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ رَوَاهُ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ الله وسعد بن أبي وقاص وبن عُمَرَ وَأَبُو سَعِيدٍ
وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَأَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ وَصْفِيَّةُ بِنْتُ أَبِي عُبَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِهَذَا اللَّفْظِ وَيَبْعُدُ اتِّفَاقُ جَمِيعِهِمْ أَوْ رُوَاتِهِمْ عَلَى الشَّكِّ وَتَطَابُقُهُمْ فِيهِ عَلَى صِيغَةٍ وَاحِدَةٍ بَلِ الْأَظْهَرُ أَنَّهُ قَالَهُ صلى الله عليه وسلم هَكَذَا فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَعْلَمَ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ هَكَذَا وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَوْ لِلتَّقْسِيمِ وَيَكُونَ شَهِيدًا لِبَعْضِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَشَفِيعًا لِبَقِيَّتِهِمْ إِمَّا شَفِيعًا لِلْعَاصِينَ وَشَهِيدًا لِلْمُطِيعِينَ وَإِمَّا شَهِيدًا لِمَنْ مَاتَ فِي حَيَاتِهِ وَشَفِيعًا لِمَنْ مَاتَ بَعْدَهُ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ قَالَ الْقَاضِي وَهَذِهِ خُصُوصِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ لِلْمُذْنِبِينَ أَوْ للعالمين في القيمة وَعَلَى شَهَادَتِهِ عَلَى جَمِيعِ الْأُمَّةِ وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي شُهَدَاءِ أُحُدٍ أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ فَيَكُونُ لِتَخْصِيصِهِمْ بِهَذَا كُلِّهِ مَزِيدٌ أَوْ زِيَادَةُ مَنْزِلَةٍ وَحِظْوَةٍ قَالَ وَقَدْ يَكُونُ أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ فَيَكُونُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ شَفِيعًا وَشَهِيدًا قَالَ وَقَدْ رُوِيَ إِلَّا كنت له شهيدا أوله شَفِيعًا قَالَ وَإِذَا جَعَلْنَا أَوْ لِلشَّكِّ كَمَا قَالَهُ الْمَشَايِخُ فَإِنْ كَانَتِ اللَّفْظَةُ الصَّحِيحَةُ شَهِيدًا انْدَفَعَ الِاعْتِرَاضُ لِأَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَى الشَّفَاعَةِ الْمُدَّخَرَةِ الْمُجَرَّدَةِ لِغَيْرِهِ وَإِنْ كَانَتِ اللَّفْظَةُ الصَّحِيحَةُ شَفِيعًا فَاخْتِصَاصُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ بِهَذَا مَعَ مَا جَاءَ مِنْ عُمُومِهَا وَادِّخَارُهَا لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ أَنَّ هَذِهِ شَفَاعَةٌ أُخْرَى غَيْرُ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ لِإِخْرَاجِ أُمَّتِهِ مِنَ النَّارِ وَمُعَافَاةِ بَعْضِهِمْ مِنْهَا بِشَفَاعَتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْقِيَامَةِ وَتَكُونُ هَذِهِ الشَّفَاعَةُ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ بِزِيَادَةِ الدَّرَجَاتِ أَوْ تَخْفِيفِ الْحِسَابِ أَوْ بِمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ أَوْ بِإِكْرَامِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْكَرَامَةِ كَإِيوَائِهِمْ إِلَى ظِلِّ الْعَرْشِ أَوْ كَوْنِهِمْ فِي رَوْحٍ وَعَلَى مَنَابِرَ أَوَ الْإِسْرَاعِ بِهِمْ إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ خُصُوصِ الْكَرَامَاتِ الْوَارِدَةِ لِبَعْضِهِمْ دُونَ بَعْضٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (لَا يَدَعُهَا أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إِلَّا أَبْدَلَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ) قَالَ الْقَاضِي اخْتَلَفُوا فِي هَذَا فَقِيلَ هُوَ مُخْتَصٌّ بِمُدَّةِ حَيَاتِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ آخَرُونَ هُوَ عَامٌّ أَبَدًا وَهَذَا أَصَحُّ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (وَلَا يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ إِلَّا أَذَابَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ أَوْ ذَوْبَ الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ) قَالَ الْقَاضِي هَذِهِ الزِّيَادَةُ وَهِيَ قَوْلُهُ فِي
النَّارِ تَدْفَعُ إِشْكَالَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي لَمْ تُذْكَرْ فِيهَا هَذِهِ الزِّيَادَةُ وَتُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا حُكْمُهُ فِي الْآخِرَةِ قَالَ وَقَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ بِهِ مَنْ أَرَادَهَا فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُفِيَ الْمُسْلِمُونَ أَمْرَهُ وَاضْمَحَلَّ كَيْدُهُ كَمَا يَضْمَحِلُّ الرَّصَاصُ فِي النَّارِ قَالَ وَقَدْ يَكُونُ فِي اللَّفْظِ تَأْخِيرٌ وَتَقْدِيمٌ أَيْ أَذَابَهُ اللَّهُ ذَوْبَ الرَّصَاصِ فِي النَّارِ وَيَكُونُ ذَلِكَ لِمَنْ أَرَادَهَا فِي الدُّنْيَا فَلَا يُمْهِلُهُ اللَّهُ وَلَا يُمَكَّنُ لَهُ سُلْطَانٌ بَلْ يُذْهِبُهُ عَنْ قُرْبٍ كَمَا انْقَضَى شَأْنُ مَنْ حَارَبَهَا أَيَّامَ بَنِي أُمَيَّةَ مِثْلُ مُسْلِمِ بْنِ عُقْبَةَ فَإِنَّهُ هَلَكَ فِي مُنْصَرَفِهِ عَنْهَا ثُمَّ هَلَكَ يَزِيدُ بْنُ مُعَاوِيَةَ مُرْسِلُهُ عَلَى أَثَرِ ذَلِكَ وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ صَنَعَ صَنِيعَهُمَا قَالَ وَقِيلَ قَدْ يَكُونُ الْمُرَادُ مَنْ كَادَهَا اغْتِيَالًا وَطَلَبًا لِغُرَّتِهَا فِي غَفْلَةٍ فَلَا يَتِمُّ لَهُ أَمْرُهُ بِخِلَافِ مَنْ أَتَى ذَلِكَ جِهَارًا كَأُمَرَاءَ اسْتَبَاحُوهَا
[1364]
قَوْلُهُ (إِنَّ سَعْدًا رَكِبَ إِلَى قَصْرِهِ بِالْعَقِيقِ فَوَجَدَ عَبْدًا يَقْطَعُ شَجَرًا أَوْ يَخْبِطُهُ فَسَلَبَهُ فَلَّمَا رَجَعَ سعد جَاءَهُ أَهْلُ الْعَبْدِ فَكَلَّمُوهُ عَلَى أَنْ يَرُدَّ عَلَى غُلَامِهِمْ أَوْ عَلَيْهِمْ مَا أَخَذَهُ مِنْ غُلَامِهِمْ فَقَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا نَفَّلَنِيهِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبِي أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ) هَذَا الْحَدِيثُ صَرِيحٌ فِي الدَّلَالَةِ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَالْجَمَاهِيرِ فِي تَحْرِيمِ صَيْدِ الْمَدِينَةِ وَشَجَرِهَا كَمَا سَبَقَ وَخَالَفَ فِيهِ أَبُو حَنِيفَةَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْهُ وَقَدْ ذَكَرَ هُنَا مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ تَحْرِيمَهَا مَرْفُوعًا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَسَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَذَكَرَ
غَيْرُهُ مِنْ رِوَايَةِ غَيْرِهِمْ أَيْضًا فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَنْ خَالَفَ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الصَّحِيحَةَ الْمُسْتَفِيضَةَ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ الْقَدِيمِ إِنَّ مَنْ صَادَ فِي حَرَمِ الْمَدِينَةِ أَوْ قَطَعَ مِنْ شَجَرِهَا أُخِذَ سَلَبُهُ وَبِهَذَا قَالَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَلَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ بَعْدَ الصَّحَابَةِ إِلَّا الشَّافِعِيَّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ وَخَالَفَهُ أَئِمَّةُ الْأَمْصَارِ قُلْتُ وَلَا تَضُرُّ مُخَالَفَتُهُمْ إِذَا كَانَتِ السُّنَّةُ مَعَهُ وَهَذَا الْقَوْلُ الْقَدِيمُ هُوَ الْمُخْتَارُ لِثُبُوتِ الْحَدِيثِ فِيهِ وَعَمَلِ الصَّحَابَةِ عَلَى وَفْقِهِ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ دَافِعٌ قَالَ أَصْحَابُنَا فَإِذَا قُلْنَا بِالْقَدِيمِ فَفِي كَيْفِيَّةِ الضَّمَانِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا يَضْمَنُ الصَّيْدَ وَالشَّجَرَ وَالْكَلَأَ كَضَمَانِ حَرَمِ مَكَّةَ وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ جُمْهُورُ الْمُفَرِّعِينَ عَلَى هَذَا الْقَدِيمِ أَنَّهُ يُسْلَبُ الصَّائِدُ وَقَاطِعُ الشَّجَرِ وَالْكَلَأِ وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِالسَّلَبِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ثِيَابُهُ فَقَطْ وَأَصَحُّهُمَا وَبِهِ قَطَعَ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ كَسَلَبِ الْقَتِيلِ مِنَ الْكُفَّارِ فَيَدْخُلُ فِيهِ فَرَسُهُ وَسِلَاحُهُ وَنَفَقَتُهُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَدْخُلُ فِي سَلَبِ الْقَتِيلِ وَفِي مَصْرِفِ السَّلَبِ ثلاثة أوجه لأصحابنا أصحهما أَنَّهُ لِلسَّالِبِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِحَدِيثِ سَعْدٍ وَالثَّانِي أَنَّهُ لِمَسَاكِينِ الْمَدِينَةِ وَالثَّالِثُ لِبَيْتِ الْمَالِ وَإِذَا سَلَبَ أَخَذَ جَمِيعَ مَا عَلَيْهِ إِلَّا سَاتِرَ الْعَوْرَةِ وَقِيلَ يُؤْخَذُ سَاتِرُ الْعَوْرَةِ أَيْضًا قَالَ أَصْحَابُنَا وَيُسْلَبُ بِمُجَرَّدِ الِاصْطِيَادِ سَوَاءٌ أَتْلَفَ الصَّيْدَ أَمْ لَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1365]
قَوْلُهُ (حَتَّى إِذَا بداله أُحُدٌ قَالَ هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ) الصَّحِيحُ الْمُخْتَارُ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ أُحُدًا يُحِبُّنَا حَقِيقَةً جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ تَمْيِيزًا يُحِبُّ بِهِ كَمَا قَالَ سبحانه وتعالى وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ
من خشية الله وَكَمَا حَنَّ الْجِذْعُ الْيَابِسُ وَكَمَا سَبَّحَ الْحَصَى وَكَمَا فَرَّ الْحَجَرُ بِثَوْبِ مُوسَى صلى الله عليه وسلم وَكَمَا قَالَ نَبِيُّنَا صلى الله عليه وسلم إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ وَكَمَا دَعَا الشَّجَرَتَيْنِ الْمُفْتَرِقَتَيْنِ فَاجْتَمَعَا وَكَمَا رَجَفَ حِرَاءٌ فَقَالَ اسْكُنْ حِرَاءُ فَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ الْحَدِيثَ وَكَمَا كَلَّمَهُ ذِرَاعُ الشَّاةِ وَكَمَا قَالَ سبحانه وتعالى وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تفقهون تسبيحهم وَالصَّحِيحُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُسَبِّحُ حَقِيقَةً بِحَسَبِ حَالِهِ وَلَكِنْ لَا نَفْقَهُهُ وَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ شَوَاهِدُ لِمَا اخْتَرْنَاهُ وَاخْتَارَهُ الْمُحَقِّقُونَ فِي مَعْنَى الْحَدِيثِ وَأَنَّ أُحُدًا يُحِبُّنَا حَقِيقَةً وَقِيلَ الْمُرَادُ يُحِبُّنَا أَهْلُهُ فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ
[1366]
قَوْلُهُ (مَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) قَالَ الْقَاضِي مَعْنَاهُ مَنْ أَتَى فِيهَا إِثْمًا أَوْ آوَى مَنْ أَتَاهُ وَضَمَّهُ إِلَيْهِ وَحَمَاهُ قَالَ وَيُقَالُ أَوَى وَآوَى بِالْقَصْرِ وَالْمَدِّ فِي الْفِعْلِ اللَّازِمِ وَالْمُتَعَدِّي جَمِيعًا لَكِنَّ الْقَصْرَ فِي اللَّازِمِ أَشْهَرُ وَأَفْصَحُ وَالْمَدُّ فِي الْمُتَعَدِّي أَشْهَرُ وَأَفْصَحُ قُلْتُ وَبِالْأَفْصَحِ جَاءَ الْقُرْآنُ الْعَزِيزُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصخرة وقال في المتعدى وآويناهما إلى ربوة قَالَ الْقَاضِي وَلَمْ يُرْوَ هَذَا الْحَرْفُ إِلَّا مُحْدِثًا بِكَسْرِ الدَّالِ ثُمَّ قَالَ وَقَالَ الْإِمَامُ الْمَازِرِيُّ رُوِيَ بِوَجْهَيْنِ كَسْرِ الدَّالِ وَفَتْحِهَا قَالَ فَمَنْ فَتَحَ أَرَادَ الْإِحْدَاثَ نَفْسَهُ وَمَنْ كَسَرَ أَرَادَ فَاعِلَ الْحَدَثِ وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ إِلَى آخِرِهِ هَذَا وَعِيدٌ شَدِيدٌ لِمَنِ ارْتَكَبَ هَذَا قَالَ الْقَاضِي وَاسْتَدَلُّوا بِهَذَا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مِنَ الْكَبَائِرِ لِأَنَّ اللَّعْنَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا فِي كَبِيرَةٍ وَمَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَلْعَنُهُ وَكَذَا يَلْعَنُهُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ وَهَذَا مُبَالَغَةٌ فِي إِبْعَادِهِ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ اللَّعْنَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الطَّرْدُ
وَالْإِبْعَادُ قَالُوا وَالْمُرَادُ بِاللَّعْنِ هُنَا الْعَذَابُ الَّذِي يَسْتَحِقُّهُ عَلَى ذَنْبِهِ وَالطَّرْدُ عَنِ الْجَنَّةِ أَوَّلُ الْأَمْرِ وَلَيْسَتْ هِيَ كَلَعْنَةِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ يُبْعَدُونَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّ الْإِبْعَادِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ (لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا قَالَ الْقَاضِي قَالَ الْمَازِرِيُّ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهِمَا فَقِيلَ الصَّرْفُ الْفَرِيضَةُ وَالْعَدْلُ النَّافِلَةُ وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ الصَّرْفُ النَّافِلَةُ وَالْعَدْلُ الْفَرِيضَةُ عَكْسَ قَوْلِ الْجُمْهُورِ وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ الصَّرْفُ التَّوْبَةُ وَالْعَدْلُ الْفِدْيَةُ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَقَالَ يُونُسُ الصَّرْفُ الِاكْتِسَابُ وَالْعَدْلُ الْفِدْيَةُ وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ الْعَدْلُ الْحِيلَةُ وَقِيلَ الْعَدْلُ الْمِثْلُ وَقِيلَ الصَّرْفُ الدِّيَةُ وَالْعَدْلُ الزِّيَادَةُ قَالَ الْقَاضِي وَقِيلَ الْمَعْنَى لَا تُقْبَلُ فَرِيضَتُهُ وَلَا نَافِلَتُهُ قَبُولَ رِضًا وَإِنْ قُبِلَتْ قَبُولَ جَزَاءٍ وَقِيلَ يَكُونُ الْقَبُولُ هُنَا بِمَعْنَى تَكْفِيرِ الذَّنْبِ بِهِمَا قَالَ وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَى الْفِدْيَةِ هُنَا أَنَّهُ لَا يَجِدُ في القيمة فِدَاءٌ يَفْتَدِي بِهِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنَ الْمُذْنِبِينَ الَّذِينَ يَتَفَضَّلُ اللَّهُ عز وجل عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ بِأَنْ يَفْدِيَهُ مِنَ النَّارِ بِيَهُودِيٍّ أَوْ نَصْرَانِيٍّ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ قَوْلُهُ في آخر هذا الحديث (فقال بن أَنَسٍ أَوْ آوَى مُحْدِثًا) كَذَا وَقَعَ فِي أكثر النسخ فقال بن أَنَسٍ وَوَقَعَ فِي بَعْضِهَا فَقَالَ أَنَسٌ بِحَذْفِ لفظة بن قَالَ الْقَاضِي وَوَقَعَ عِنْدَ عَامَّةِ شُيُوخِنَا فَقَالَ بن أنس باثبات بن قال وهو الصحيح وكان بن أنس ذكر أباه هذه الزيادة لِأَنَّ سِيَاقَ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ مِنْ كَلَامِ أَنَسٍ فَلَا وَجْهَ لِاسْتِدْرَاكِ أَنَسٍ بِنَفْسِهِ مَعَ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ قَدْ وَقَعَتْ فِي أَوَّلِ
الْحَدِيثِ فِي سِيَاقِ كَلَامِ أَنَسٍ فِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ قَالَ وَسَقَطَتْ عِنْدَ السَّمَرْقَنْدِيِّ قَالَ وَسُقُوطُهَا هُنَاكَ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الصَّحِيحُ وَلِهَذَا اسْتُدْرِكَتْ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي
[1368]
قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مِكْيَالِهِمْ وَبَارِكْ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَبَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ) قَالَ الْقَاضِي الْبَرَكَةُ هُنَا بِمَعْنَى النُّمُوِّ وَالزِّيَادَةِ وَتَكُونُ بِمَعْنَى الثَّبَاتِ وَاللُّزُومِ قَالَ فَقِيلَ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْبَرَكَةُ دِينِيَّةً وَهِيَ مَا تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَقَادِيرِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الزَّكَاةِ وَالْكَفَّارَاتِ فَتَكُونُ بِمَعْنَى الثَّبَاتِ وَالْبَقَاءِ لَهَا كَبَقَاءِ الحكم بها بِبَقَاءِ الشَّرِيعَةِ وَثَبَاتِهَا وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ دُنْيَوِيَّةً مِنْ تَكْثِيرِ الْكَيْلِ وَالْقَدْرِ بِهَذِهِ الْأَكْيَالِ حَتَّى يكفى منه مَا لَا يَكْفِي مِنْ غَيْرِهِ فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ أَوْ تَرْجِعُ الْبَرَكَةُ إِلَى التَّصَرُّفِ بِهَا فِي التِّجَارَةِ وَأَرْبَاحِهَا وَإِلَى كَثْرَةِ مَا يُكَالُ بِهَا مِنْ غَلَّاتِهَا وَثِمَارِهَا أَوْ تَكُونُ الزِّيَادَةُ فِيمَا يُكَالُ بِهَا لِاتِّسَاعِ عَيْشِهِمْ وَكَثْرَتِهِ بَعْدَ ضِيقِهِ لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَوَسَّعَ مِنْ فَضْلِهِ لَهُمْ وَمَلَّكَهُمْ مِنْ بِلَادِ الْخِصْبِ وَالرِّيفِ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَمِصْرَ وَغَيْرِهَا حَتَّى كَثُرَ الْحَمْلُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَاتَّسَعَ عَيْشُهُمْ حَتَّى صَارَتْ هَذِهِ الْبَرَكَةُ فِي الْكَيْلِ نَفْسِهِ فَزَادَ مُدُّهُمْ وَصَارَ هَاشِمِيًّا مِثْلَ مُدِّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَرَّتَيْنِ أَوْ مَرَّةً وَنِصْفًا وَفِي هَذَا كُلِّهِ ظُهُورُ إِجَابَةِ دَعَوْتِهِ صلى الله عليه وسلم وَقَبُولُهَا هَذَا آخِرُ كَلَامِ الْقَاضِي وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْبَرَكَةَ فِي نَفْسِ الْمَكِيلِ فِي الْمَدِينَةِ بِحَيْثُ يَكْفِي الْمُدُّ فِيهَا لِمَنْ لَا يَكْفِيهِ فِي غَيْرِهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ قوله (ابراهيم بن محمد السلمى) هُوَ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ
[1370]
قَوْلُهُ (خَطَبَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ
تَعَالَى عَنْهُ فَقَالَ مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِنْدَنَا شَيْئًا نَقْرَؤُهُ إِلَّا كِتَابَ اللَّهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةَ فَقَدْ كَذَبَ) هَذَا تَصْرِيحٌ مِنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِإِبْطَالِ مَا تَزْعُمُهُ الرَّافِضَةُ وَالشِّيعَةُ وَيَخْتَرِعُونَهُ مِنْ قَوْلِهِمْ إِنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَوْصَى إِلَيْهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ مِنْ أَسْرَارِ الْعِلْمِ وَقَوَاعِدِ الدِّينِ وَكُنُوزِ الشَّرِيعَةِ وَأَنَّهُ صلى الله عليه وسلم خَصَّ أَهْلَ الْبَيْتِ بِمَا لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ غَيْرَهُمْ وَهَذِهِ دَعَاوَى بَاطِلَةٌ وَاخْتِرَاعَاتٌ فَاسِدَةٌ لَا أَصْلَ لَهَا وَيَكْفِي فِي إِبْطَالِهَا قَوْلُ عَلِيٍّ رضي الله عنه هَذَا وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ كِتَابَةِ الْعِلْمِ وَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ قَرِيبًا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ) أَمَّا عَيْرٍ فَبِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَإِسْكَانِ الْمُثَنَّاةِ تَحْتَ وَهُوَ جَبَلٌ مَعْرُوفٌ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ قَالَ مُصْعَبُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَغَيْرُهُ لَيْسَ بِالْمَدِينَةِ عَيْرٌ وَلَا ثَوْرٌ قَالُوا وَإِنَّمَا ثَوْرٌ بِمَكَّةَ قَالَ وَقَالَ الزُّبَيْرُ عَيْرٌ جَبَلٌ بِنَاحِيَةِ الْمَدِينَةِ قَالَ الْقَاضِي أَكْثَرُ الرُّوَاةِ فِي كِتَابِ الْبُخَارِيِّ ذَكَرُوا عَيْرًا وَأَمَّا ثَوْرٌ فَمِنْهُمْ مَنْ كَنَّى عَنْهُ بِكَذَا وَمِنْهُمْ مَنْ تَرَكَ مَكَانَهُ بَيَاضًا لِأَنَّهُمُ اعْتَقَدُوا ذِكْرَ ثَوْرٍ هُنَا خَطَأً قَالَ الْمَازِرِيُّ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ ثَوْرٌ هُنَا وَهَمٌ مِنَ الرَّاوِي وَإِنَّمَا ثَوْرٌ بِمَكَّةَ قَالَ وَالصَّحِيحُ إِلَى أُحُدٍ قَالَ الْقَاضِي وَكَذَا قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ أَصْلُ الْحَدِيثِ مِنْ عَيْرٍ إِلَى أُحُدٍ هَذَا مَا حَكَاهُ الْقَاضِي وَكَذَا قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْحَازِمِيُّ الْحَافِظُ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ أَصْلَهُ مِنْ عَيْرٍ إِلَى أُحُدٍ قُلْتُ وَيُحْتَمَلُ أَنَّ ثَوْرًا كَانَ اسْمًا لِجَبَلٍ هُنَاكَ إِمَّا أُحُدٌ وَإِمَّا غَيْرُهُ فَخَفِيَ اسْمُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَاعْلَمْ أَنَّهُ جَاءَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ أَوْ إِلَى أُحُدٍ عَلَى مَا سَبَقَ وَفِي رِوَايَةِ أَنَسٍ السَّابِقَةِ اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا وَفِي الرِّوَايَاتِ السَّابِقَةِ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا وَالْمُرَادُ بِاللَّابَتَيْنِ الْحَرَّتَانِ كَمَا سَبَقَ وَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ كُلُّهَا مُتَّفِقَةٌ فَمَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا بَيَانٌ لِحَدِّ حَرَمِهَا مِنْ جِهَتَيِ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا بَيَانٌ لِحَدِّهِ مِنْ جِهَةِ الْجَنُوبِ وَالشَّمَالِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (وَذِمَّةُ المسلمين
وَاحِدَةٌ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ) الْمُرَادُ بِالذِّمَّةِ هُنَا الْأَمَانُ مَعْنَاهُ أَنَّ أَمَانَ الْمُسْلِمِينَ لِلْكَافِرِ صَحِيحٌ فَإِذَا أَمَّنَهُ بِهِ أَحَدُ الْمُسْلِمِينَ حَرُمَ عَلَى غَيْرِهِ التَّعَرُّضُ لَهُ مَا دَامَ فِي أَمَانِ الْمُسْلِمِ وَلِلْأَمَانِ شُرُوطٌ مَعْرُوفَةٌ وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ فِيهِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَمُوَافِقِيهِ أَنَّ أَمَانَ الْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ صحيح لِأَنَّهُمَا أَدْنَى مِنَ الذُّكُورِ الْأَحْرَارِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (وَمَنِ ادَّعَى إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوِ انْتَمَى إِلَى غَيْرِ مَوَالِيهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) هَذَا صَرِيحٌ فِي غِلَظِ تَحْرِيمِ انْتِمَاءِ الْإِنْسَانِ إِلَى غَيْرِ أَبِيهِ أَوِ انْتِمَاءِ الْعَتِيقِ إِلَى وَلَاءِ غَيْرِ مَوَالِيهِ لِمَا فِيهِ مِنْ كُفْرِ النِّعْمَةِ وَتَضْيِيعِ حُقُوقِ الْإِرْثِ وَالْوَلَاءِ وَالْعَقْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ قَطِيعَةِ الرَّحِمِ وَالْعُقُوقِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ) مَعْنَاهُ مَنْ نَقَضَ أَمَانَ مُسْلِمٍ فَتَعَرَّضَ لِكَافِرٍ أَمَّنَهُ مُسْلِمٌ قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ أَخَفَرْتَ
الرَّجُلَ إِذَا نَقَضْتَ عَهْدَهُ وَخَفَرْتَهُ إِذَا أَمَّنْتَهُ
[1372]
قَوْلُهُ (لَوْ رَأَيْتُ الظِّبَاءَ تَرْتَعُ بِالْمَدِينَةِ مَا ذَعَرْتُهَا) مَعْنَى تَرْتَعُ تَرْعَى وَقِيلَ مَعْنَاهُ تَسْعَى وَتَبْسُطُ وَمَعْنَى ذَعَرْتُهَا أَفْزَعْتُهَا وَقِيلَ نَفَّرْتُهَا
[1373]
قَوْلُهُ (كَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جاؤا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا) إِلَى آخِرِهِ قَالَ الْعُلَمَاءُ كَانُوا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ رَغْبَةً فِي دُعَائِهِ صلى الله عليه وسلم فِي الثَّمَرِ وَلِلْمَدِينَةِ وَالصَّاعِ وَالْمُدِّ وَإِعْلَامًا لَهُ صلى الله عليه وسلم بِابْتِدَاءِ صَلَاحِهَا لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الزَّكَاةِ وَغَيْرِهَا وَتَوْجِيهِ الْخَارِصِينَ قَوْلُهُ (ثُمَّ يُعْطِيهِ أَصْغَرَ مَنْ يَحْضُرُهُ مِنَ الْوِلْدَانِ) فِيهِ بَيَانُ مَا كَانَ عَلَيْهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَكَمَالِ الشَّفَقَةِ وَالرَّحْمَةِ وَمُلَاطَفَةِ الْكِبَارِ وَالصِّغَارِ وَخَصَّ بِهَذَا الصَّغِيرَ لِكَوْنِهِ أَرْغَبَ فِيهِ وَأَكْثَرَ تَطَلُّعًا إِلَيْهِ وَحِرْصًا عَلَيْهِ
[1374]
قَوْلُهُ (فَأَرَدْتُ أَنْ أَنْقُلَ عِيَالِي إِلَى بَعْضِ الرِّيفِ) قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الرِّيفُ بِكَسْرِ الرَّاءِ هو
الْأَرْضُ الَّتِي فِيهَا زَرْعٌ وَخِصْبٌ وَجَمْعُهُ أَرْيَافٌ وَيُقَالُ أَرْيَفْنَا صِرْنَا إِلَى الرِّيفِ وَأَرَافَتِ الْأَرْضُ أَخْصَبَتْ فَهِيَ رَيِّفَةٌ قَوْلُهُ (وَإِنَّ عِيَالَنَا لَخُلُوفٌ) هُوَ بِضَمِّ الْخَاءِ أَيْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ رِجَالٌ وَلَا مَنْ يَحْمِيهِمْ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (لَآمُرَنَّ بِنَاقَتِي تُرْحَلُ) هُوَ بِإِسْكَانِ الرَّاءِ وَتَخْفِيفِ الْحَاءِ أَيْ يَشُدُّ عَلَيْهَا رَحْلُهَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (ثُمَّ لَا أَحُلُّ لَهَا عُقْدَةً حَتَّى أَقْدَمَ الْمَدِينَةَ) مَعْنَاهُ أُوَاصِلُ السَّيْرَ وَلَا أَحُلُّ عَنْ رَاحِلَتِي عُقْدَةً مِنْ عُقَدِ حِمْلِهَا وَرَحْلِهَا حَتَّى أَصِلَ الْمَدِينَةَ لِمُبَالَغَتِي فِي الْإِسْرَاعِ إِلَى الْمَدِينَةِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (وَإِنِّي حَرَّمْتُ الْمَدِينَةَ حَرَامًا مَا بَيْنَ مَأْزِمَيْهَا) الْمَأْزِمُ بِهَمْزَةٍ بَعْدَ الْمِيمِ وَبِكَسْرِ الزَّايِ وَهُوَ الْجَبَلُ وَقِيلَ الْمَضِيقُ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ وَنَحْوِهِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ هُنَا وَمَعْنَاهُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا كَمَا سَبَقَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (وَلَا يُخْبَطُ فِيهَا شَجَرَةٌ إِلَّا لِعَلْفٍ) هُوَ بِإِسْكَانِ اللَّامِ وَهُوَ مَصْدَرٌ عُلِفَتْ عَلْفًا وَأَمَّا الْعَلَفُ بِفَتْحِ اللَّامِ فَاسْمٌ لِلْحَشِيشِ وَالتِّبْنِ والشعير ونحوهما وَفِيهِ جَوَازُ أَخْذِ أَوْرَاقِ الشَّجَرِ لِلْعَلْفِ وَهُوَ المراد هنا
بِخِلَافِ خَبْطِ الْأَغْصَانِ وَقَطْعِهَا فَإِنَّهُ حَرَامٌ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم مَا مِنْ الْمَدِينَةِ شِعْبٌ وَلَا نَقْبٌ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكَانِ يَحْرُسَانِهَا حَتَّى تَقْدَمُوا إِلَيْهَا فِيهِ بَيَانُ فَضِيلَةِ الْمَدِينَةِ وَحِرَاسَتِهَا فِي زَمَنِهِ صلى الله عليه وسلم وَكَثْرَةِ الْحُرَّاسِ وَاسْتِيعَابِهِمُ الشِّعَابُ زِيَادَةٌ فِي الْكَرَامَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ الشِّعْبُ بِكَسْرِ الشِّينِ هُوَ الْفُرْجَةُ النافذة بين الجبلين وقال بن السِّكِّيتِ هُوَ الطَّرِيقُ فِي الْجَبَلِ وَالنَّقْبُ بِفَتْحِ النُّونِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَحَكَى الْقَاضِي ضَمَّهَا أَيْضًا وَهُوَ مِثْلُ الشِّعْبِ وَقِيلَ هُوَ الطَّرِيقُ فِي الجبل قال الأخفش أنقاب المدينة وطرقها وَفِجَاجُهَا قَوْلُهُ فَمَا وَضَعْنَا رِحَالَنَا حِينَ دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ حَتَّى أَغَارَ عَلَيْنَا بَنُو عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَطَفَانَ وَمَا يَهِيجُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ شَيْءٌ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمَدِينَةَ فِي حَالِ غَيْبَتِهِمْ كَانَتْ مَحْمِيَّةً مَحْرُوسَةً كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى إِنَّ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ غَطَفَانَ أَغَارُوا عَلَيْهَا حِينَ قَدِمْنَا وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْإِغَارَةِ عَلَيْهَا مَانِعٌ ظَاهِرٌ وَلَا كَانَ لَهُمْ عَدُوٌّ يَهِيجُهُمْ وَيَشْتَغِلُونَ بِهِ بَلْ سَبَبُ مَنْعِهِمْ قَبْلَ قُدُومِنَا حِرَاسَةُ الْمَلَائِكَةِ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ يُقَالُ هَاجَ الشَّرُّ وَهَاجَتِ الْحَرْبُ وَهَاجَهَا النَّاسُ أَيْ تَحَرَّكَتْ وَحَرَّكُوهَا وَهِجْتُ زَيْدًا حَرَّكْتُهُ لِلْأَمْرِ كُلُّهُ ثَلَاثِيٌّ وَأَمَّا قَوْلُهُ بَنُو عَبْدِ اللَّهِ فَهَكَذَا وَقَعَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَبْدِ اللَّهِ بِفَتْحِ الْعَيْنِ مُكَبَّرٌ وَوَقَعَ فِي أَكْثَرِهَا عُبَيْدِ اللَّهِ بِضَمِّ الْعَيْنِ مُصَغَّرٌ وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّوَابُ بِلَا خِلَافٍ بَيْنَ أَهْلِ هَذَا الْفَنِّ قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ حَدَّثَنَا بِهِ مُكَبَّرًا أَبُو
مُحَمَّدٍ الْخُشَنِيُّ عَنِ الطَّبَرِيِّ عَنِ الْفَارِسِيِّ بَنُو عَبْدِ اللَّهِ عَلَى الصَّوَابِ قَالَ وَوَقَعَ عِنْدَ شيوخنا في نسخ مسلم من طريق بن مَاهَانَ وَمِنْ طَرِيقِ الْجُلُودِيِّ بَنُو عُبَيْدِ اللَّهِ مُصَغَّرٌ وَهُوَ خَطَأٌ قَالَ وَكَانَ يُقَالُ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بَنُو عَبْدِ الْعُزَّى فَسَمَّاهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَنِي عَبْدِ اللَّهِ فَسَمَّتْهُمُ الْعَرَبُ بَنِي مُحَوَّلَةَ لِتَحْوِيلِ اسْمِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ جَاءَ أَبَو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ لَيَالِيَ الْحَرَّةِ يَعْنِي الْفِتْنَةَ الْمَشْهُورَةَ الَّتِي نُهِبَتْ فِيهَا الْمَدِينَةُ سَنَةَ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ قَوْلُهُ فَاسْتَشَارَهُ فِي الْجَلَاءِ هُوَ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَالْمَدِّ وَهُوَ الْفِرَارُ مِنْ بَلَدٍ إِلَى غَيْرِهِ
[1375]
قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي الْمَدِينَةِ
(إِنَّهَا حَرَمٌ آمِنٌ) فِيهِ دَلَالَةٌ لِمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ فِي تَحْرِيمِ صَيْدِهَا وَشَجَرِهَا وَقَدْ سَبَقَتِ الْمَسْأَلَةُ
[1376]
قَوْلُهَا (قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ وَهِيَ وَبِيئَةٌ) هِيَ بِهَمْزَةٍ مَمْدُودَةٍ يَعْنِي ذَاتَ وَبَاءٍ بِالْمَدِّ وَالْقَصْرِ وَهُوَ الْمَوْتُ الذَّرِيعُ هَذَا أَصْلُهُ وَيُطْلَقُ أَيْضًا عَلَى الْأَرْضِ الْوَخِمَةِ الَّتِي تَكْثُرُ بِهَا الْأَمْرَاضُ لَا سِيَّمَا لِلْغُرَبَاءِ الَّذِينَ لَيْسُوا مُسْتَوْطِنِيهَا فَإِنْ قِيلَ كَيْفَ قَدَمُوا عَلَى الْوَبَاءِ وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ فِي الصَّحِيحِ النَّهْيُ عَنِ الْقُدُومِ عَلَيْهِ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ ذَكَرَهُمَا الْقَاضِي أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا الْقُدُومَ كَانَ قَبْلَ النَّهْيِ لِأَنَّ النَّهْيَ كَانَ فِي الْمَدِينَةِ بَعْدَ اسْتِيطَانِهَا وَالثَّانِي أَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ هُوَ الْقُدُومُ عَلَى الْوَبَاءِ الذَّرِيعِ وَالطَّاعُونِ وَأَمَّا هَذَا الَّذِي كَانَ فِي الْمَدِينَةِ فَإِنَّمَا كَانَ وَخَمًا يَمْرَضُ بِسَبَبِهِ كَثِيرٌ مِنَ الْغُرَبَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم (وَحَوِّلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ) قَالَ الْخَطَّابِيُّ وَغَيْرُهُ كان ساكنوا الجحفة في ذلك الْوَقْتِ يَهُودًا فَفِيهِ دَلِيلٌ لِلدُّعَاءِ عَلَى الْكُفَّارِ بِالْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ وَالْهَلَاكِ وَفِيهِ الدُّعَاءُ لِلْمُسْلِمِينَ بِالصِّحَّةِ وَطِيبِ بِلَادِهِمْ وَالْبَرَكَةِ فِيهَا وَكَشْفِ الضُّرِّ وَالشَّدَائِدِ عَنْهُمْ وَهَذَا مَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً قَالَ الْقَاضِي وَهَذَا خِلَافُ قَوْلِ بَعْضِ الْمُتَصَوِّفَةِ إِنَّ الدُّعَاءَ قَدْحٌ فِي التَّوَكُّلِ وَالرِّضَا وَأَنَّهُ يَنْبَغِي تَرْكُهُ وَخِلَافُ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ إنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي الدُّعَاءِ مَعَ سَبْقِ الْقَدَرِ وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً أَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَلَا يُسْتَجَابُ مِنْهُ إِلَّا مَا سَبَقَ بِهِ الْقَدَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا صلى الله عليه وسلم فَإِنَّ الْجُحْفَةَ مِنْ يَوْمِئِذٍ مُجْتَنَبَةٌ وَلَا يَشْرَبُ أَحَدٌ مِنْ مائها الاحم