الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني الحالة الاجتماعية
لقد صور لنا لسان الدين ابن الخطيب الحالة الاجتماعية في مملكة غرناطة تصويراً حسناً، ولا سيما أنه كان من أهلها. فقد تكلم عن سكان مملكة غرناطة من حيث قوتهم، وعملتهم، وملابسهم، وحُلِيُّ نسائهم، وأجناسهم البشرية، وتعداد قراهم، وأحوالهم الدينية، بل حتى أوصافهم الخلقية.
فعن أقواتهم قال رحمه الله: "وقوتهم الغالب البر الطيب عامة العام
…
، وفواكههم اليابسة عامة العام متعددة، يدخرون العنب سليماً من الفساد إلى شطر العام، إلى غير ذلك من التين والزبيب والتفاح .. ، إلى غير ذلك مما لا ينفد ولا ينقطع مدده إلا في الفصل الذي يُزهد في استعماله" (1).
ويقول رحمه الله عن عملتهم: "وصرفهم فضة خالصة، وذهب إبريز طيب محفوظ"(2).
وعن خيرات بلادهم قال رحمه الله: "ولها معادن جوهرية من ذهب وفضة ورصاص وحديد .. ، وقال بعض المؤرخين: ومن كرم أرضنا أنها لا تعدم زريعة بعد زريعة، ورعياً بعد رعي طول العام، وفي عمالتها المعادن الجوهرية .. "(3)، ثم ذكر خيراتها المتعددة.
وقال عن قرى هذه المملكة: "وتنيف أسماؤها على ثلاث مئة قرية ما
(1) انظر: "الإحاطة في أخبار غرناطة" لابن الخطيب (1/ 137).
(2)
نفس المرجع (1/ 137).
(3)
نفس المرجع (1/ 98 - 99).
عدا ما يجاور الحضرة من كثير من قرى الإقليم، أو ما استضافته الحصون المجاورة" (1). ثم شرع في ذكرها.
وقال في موضع آخر: "وقد ذكرنا أن أكثر هذه القرى أمصار فيها ما يناهز خمسين خطبة، تنصب فيها لله المنابر، وترفع الأيدي، وتتوجه الوجوه"(2).
وقال عن ألسنتهم وأجناسهم: "وألسنتهم فصيحة عربية، ويتخللها غرب كثير، وتغلب عليهم الإمالة، وأخلاقهم أبية في معاني المنازعات، وأنسابهم عربية، وفيهم من البربر والمهاجرة كثير"(3).
ولقد جمعت مملكة غرناطة كثيراً من مسلمي الأندلس الذين كانوا يأوون إليها بسبب احتلال النصارى لبلادهم مما أدى إلى استثمار ما في هذه البلاد من خيرات وافرة.
وأما تجارة غرناطة فقد كانت تجارة واسعة بسبب الثغور الجنوبية البحرية، لا سيما مالقة (4) والمريّة (5)، فهي من أغنى الثغور الأندلسية وأزخرها بالحركة التجارية، فاستطاعت غرناطة أن تربط صلات اقتصادية تجارية مع دول أخرى" (6).
ويبدو أن الوضع الاقتصادي في زمن الإمام الشاطبي قد اعتراه الضعف حتى إن بيت المال أصبح عاجزاً عن تجديد بناء أسوار الحصون، واختلف
(1) نفس المرجع (1/ 126).
(2)
انظر: "الإحاطة في أخبار غرناطة"(1/ 132).
(3)
نفس المرجع (1/ 134).
(4)
مالقة: بفتح اللام والقاف، مدينة بالأندلس عامرة من أعمال (رية) سورها على شاطىء البحر بين الجزيرة الخضراء والمرية. "معجم البلدان"(5/ 43).
(5)
المرية: بالفتح ثم الكسر وتشديد الياء بنقطتين من تحتها، وهي مدينة كبيرة من كورة البيرة من أعمال الأندلس من بناء الأمير الناصر لدين الله عبد الرحمن بن محمد.
انظر: "معجم البلدان"(5/ 119 - 120).
(6)
انظر: "نهاية الأندلس" لعبد الله عنان (ص 326).
الفقهاء هل يجوز توظيف ذلك على الأهالي؟ وكان الإمام الشاطبي ممن أفتى بالجواز اعتماداً على مبدأ المصلحة المرسلة (1).
ومن مظاهر الضعف المالي: استفتاء بعضهم للإمام الشاطبي: "هل يباح لأهل الأندلس بيع الأشياء التي منع العلماء بيعها من أهل الحرب كالسلاح وغيره، لكونهم محتاجين إلى النصارى في أشياء أخرى من المأكول والملبوس وغير ذلك؟ أم لا فرق بين أهل الأندلس وغيرهم من أرض الإسلام؟
…
" (2).
ولعل سبب ما وقع فيه أهل الأندلس من الضيق: بعدهم عن الله والإسراف في التنعم، فقد وصفهم ابن الخطيب بالعناية البالغة بالتّزيُّن، كما ذكر فشو الغناء في بلادهم؛ حيث قال عن نسائهم:"وقد بلغن من التفنن في الزينة لهذا العهد، والمظاهرة بين المصبغات، والتنفيس بالذهبيات والديباجيات، والتماجن في أشكال الحلي، إلى غاية نسأل الله أن يغض عنهن فيها عين الدهر، ويكفكف الخطب، ولا يجعلها من قبيل الابتلاء والفتنة، وأن يعامل جميع من بها بستره، ولا يسلبهم خفي لطفه بعزته وقدرته"(3).
وقال عن فشو الغناء عندهم: "والغناء بمدينتهم فاش حتى في الدكاكين التي تجمع صنائعها كثيراً من الأحداث
…
" (4).
وكانت البدع فاشية أيضاً في هذا المجتمع، فقد قال الإمام الشاطبي في مقدمة هذا الكتاب: " .. لِأَنَّهُ لَمَّا كَثُرَتِ الْبِدَعُ وَعَمَّ ضَرَرُهَا، وَاسْتَطَارَ شَرَرُهَا، وَدَامَ الْإِكْبَابُ عَلَى الْعَمَلِ بِهَا، وَالسُّكُوتُ من المتأخرين على الْإِنْكَارِ لَهَا، وَخَلَفَتْ بَعْدَهُمْ خُلُوفٌ جَهِلُوا أَوْ غفلوا عن القيام بفرض القيام
(1) انظر: "فتاوى الإمام الشاطبي"(ص 28)، وقريب من هذا ما في "الاعتصام" للشاطبي (2/ 121 - 123).
(2)
انظر: "فتاوى الإمام الشاطبي"(ص 144 - 147).
(3)
انظر: "الإحاطة في أخبار غرناطة"(1/ 139).
(4)
المصدر السابق (1/ 137).
فِيهَا، صَارَتْ كَأَنَّهَا سُنَنٌ مُقَرَّرَاتٌ، وَشَرَائِعُ مِنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ مُحَرَّرَاتٌ، فَاخْتَلَطَ الْمَشْرُوعُ بِغَيْرِهِ، فَعَادَ الرَّاجِعُ إِلَى مَحْضِ السُّنَّةِ كَالْخَارِجِ عَنْهَا كَمَا تقدم، فالتبس بعضها ببعض
…
" (1).
ولا شك أن فشو المعاصي والبدع، وركون الناس إلى الدنيا سبب في زوال النعم، وقد كانت هذه الأمور سبباً في ذهاب دولة المسلمين بالأندلس.
(1) انظر النص المحقق (ص 36).