الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس عقيدته
(1)
ليس للإمام الشاطبي رحمه الله مؤلف مستقل في أبواب العقيدة حتى يمكن الباحث معرفة رأيه في كل مسألة على وجه الدقة، ولكن كتبه لا تخلو من الكلام على بعض المسائل العقدية التي تأتي عَرَضاً في كلامه.
ومن خلال النظر في هذه المسائل نجد أن للمؤلف ميلاً إلى المذهب الأشعري. وقبل ذكر أمثلة من المسائل التي مال فيها الإمام الشاطبي إلى مذهب الأشاعرة، تجدر الإشارة إلى بعض الأفكار المنهجية عند المؤلف في مسائل العقيدة، ومن أهمها:
1 -
يرى الإمام الشاطبي أن خبر الآحاد دليل ظني، وأنه لا يؤخذ به في الأمور القطعية، إلا إذا شهد له أصل قطعي كآية قرآنية أو سنة متواترة.
وهذا الرأي للإمام الشاطبي هو مضمون كلامه في عدة مواضع من كتبه، ومن ذلك قوله أثناء رده على المبتدعة الذين يردون أحاديث الآحاد جملة: " .. فعلى كل تقدير خَبَرِ وَاحِدٍ صَحَّ سَنَدُهُ، فَلَا بُدَّ مِنَ اسْتِنَادِهِ إِلَى أَصْلٍ فِي الشَّرِيعَةِ قَطْعِيٍّ فَيَجِبُ قبوله، ومن هنا قبلناه مطلقاً
…
" (2).
وقال في معرض رده على المبتدعة الذين يستحسنون بعض البدع، ويحتجون على ذلك بحديث: "مَا رَآهُ الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ
(1) استفدت في هذا المبحث من رسالة ماجستير في الجامعة الإسلامية بعنوان: "الإمام الشاطبي عقيدته وموقفه من البدع وأهلها"، للطالب عبد الرحمن آدم علي، وقد أشرف على الرسالة الدكتور أحمد سعد حمدان، وتوفي الطالب رحمه الله قبل مناقشتها.
(2)
"الاعتصام" للشاطبي (1/ 236).
حسن" (1)، قال: "وَالثَّانِي أَنَّهُ خَبَرٌ وَاحِدٌ فِي مَسْأَلَةٍ قَطْعِيَّةٍ فلا يسمع" (2).
وقال في موطن آخر: "كل دليل شرعي إما أن يكون قطعياً أو ظنياً، فإن كان قطعياً، فلا إشكال في اعتباره، وإن كان ظنياً، فإما أن يرجع إلى أصل قطعي أو لا، فإن رجع إلى قطعي فهو معتبر أيضاً، وإن لم يرجع وجب التثبت فيه ولم يصح إطلاق القول بقبوله
…
" (3).
وقد تكلم الإمام الشاطبي في المسألة في مواطن أخرى (4)، إلا أنها تدور حول ما تقدم.
وهذا الرأي للإمام الشاطبي متأثر برأي بعض الأشاعرة في المسألة (5)، وهو رأي مخالف لقول أهل السنة الذين يرون أن خبر الآحاد يفيد العلم إذا احتفَّت به القرائن، وتلقته الأمة بالقبول، وينبني على ذلك الاحتجاج به في المسائل القطعية وغيرها، دون تفريق بين مسائل الاعتقاد أو غيرها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "مذهب أصحابنا أن أخبار الآحاد المتلقاة بالقبول تصلح لإثبات أصول الديانات"(6).
وقال الإمام ابن القيم نقلاً عن شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما القسم الثاني من الأخبار فهو ما لا يرويه إلا الواحد العدل ونحوه، ولم يتواتر لفظه ولا معناه، ولكن تلقته الأمة بالقبول عملاً به أو تصديقاً له .. ، فهذا يفيد العلم اليقيني عند جماهير أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الأولين والآخرين"(7).
(1) ذكره الشيخ الألباني في "السلسلة الضعيفة" وقال: "لا أصل له مرفوعاً، وإنما ورد موقوفاً على ابن مسعود"، وعزاه لأحمد برقم (3600)، والطيالسي في "مسنده"(ص 23)، وأبي سعيد بن الأعرابي في "معجمه"(84/ 2)، ثم حسن الشيخ الألباني إسناده موقوفاً على ابن مسعود. انظر:"السلسلة الضعيفة" برقم (532)(2/ 17).
(2)
انظر: "الاعتصام"(2/ 152).
(3)
"الموافقات" للشاطبي (3/ 15).
(4)
ومن ذلك ما في "الموافقات"(3/ 17، 25، 26).
(5)
انظر: "أصول الدين" للبغدادي (ص 18)، "المستصفي" للغزالي (1/ 145).
(6)
"المسودة"(ص 248).
(7)
"مختصر الصواعق المرسلة"(2/ 481 - 482).
وقال في موضع آخر: "وأما الجزم بصحته فإنه يحتف به من القرائن ما يوجب العلم، إذ القرائن المجردة قد تفيد العلم بمضمونها، فكيف إذا احتفت بالخبر .. "(1).
وقال الإمام ابن أبي العز: "وخبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول، عملاً به، وتصديقاً له، يفيد العلم اليقيني عند جماهير الأمة، وهو أحد مسمى التواتر، ولم يكن بين سلف الأمة في ذلك نزاع"(2).
2 -
جعل الإمام الشاطبي نصوص الصفات من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، وهذا القول خلاف قول أهل السنة الذين يجعلونها من المحكم (3)، فيؤمنون بما دلت عليه من المعاني التي تليق به سبحانه، ويفوضون كيفيتها إلى الله سبحانه، فإن علم كيفيتها من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه.
ومما يدل على ذلك من كلامه: قوله: "وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِذَا وَجَدَ فِي الشَّرْعِ أَخْبَارًا تَقْتَضِي ظَاهِرًا خَرْقَ الْعَادَةِ الْجَارِيَةِ الْمُعْتَادَةِ، فَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ الْإِنْكَارَ بِإِطْلَاقٍ، بَلْ لَهُ سَعَةٌ فِي أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يُصَدِّقَ بِهِ عَلَى حَسَبِ مَا جَاءَ، وَيَكِلُ عِلْمَهُ إِلَى عَالِمِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى:{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7] يَعْنِي الْوَاضِحَ الْمُحْكَمَ، وَالْمُتَشَابِهَ الْمُجْمَلَ، إِذْ لَا يَلْزَمُهُ الْعِلْمُ بِهِ، وَلَوْ لَزِمَ الْعِلْمُ بِهِ لَجُعِلَ لَهُ طريقٌ إِلَى مَعْرِفَتِهِ، وَإِلَّا كَانَ تَكْلِيفًا بِمَا لَا يُطَاقُ، وَإِمَّا أَنْ يَتَأَوَّلَهُ عَلَى مَا يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَيْهِ مَعَ الْإِقْرَارِ بِمُقْتَضَى الظَّاهِرِ، لِأَنَّ إِنْكَارَهُ إنكارٌ لِخَرْقِ الْعَادَةِ فِيهِ.
وَعَلَى هَذَا السَّبِيلِ يَجْرِي حُكْمُ الصِّفَاتِ الَّتِي وَصَفَ الْبَارِي بِهَا نَفْسَهُ، لِأَنَّ مَنْ نَفَاهَا نَفَى شِبْهَ صِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ، وَهَذَا مَنْفِيٌّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَبَقِيَ الْخِلَافُ فِي نَفْيِ عَيْنِ الصفة أو إثباتها، فالمثبت أثبتها صفة على شرط نفي
(1)"مختصر الصواعق المرسلة"(2/ 374).
(2)
"شرح الطحاوية"(ص 355).
(3)
فصّل شيخ الإسلام الكلام في المسألة في "الفتاوى"(13/ 294 - 313). وكذلك في "التدمرية"(القاعدة الخامسة).
التَّشْبِيهِ، وَالْمُنْكِرُ لِأَنْ يَكُونَ ثَمَّ صِفَةٌ غَيْرُ شَبِيهَةٍ بِصِفَاتِ الْمَخْلُوقِينَ مُنْكِرٌ لِأَنْ يَثْبُتَ أَمْرٌ إلا على وفق المعتاد" (1).
وقال في موضع آخر ضمن كلامه على انحراف المبتدعة واتباعهم للمتشابه: "ومثاله في ملة الإسلام: مذهب الظَّاهِرِيَّةِ فِي إِثْبَاتِ الْجَوَارِحِ لِلرَّبِّ الْمُنَزَّهِ عَنِ النقائص؛ من العين واليد والرجل والوجه المحسوسات، والجهة، وغير ذلك من الثابت للمحدثات"(2).
3 -
يذهب الإمام الشاطبي إلى القول بتأويل بعض الصفات إذا احتيج إلى التأويل، ويرى أن هناك سعة لمن يأخذ به عند الحاجة.
وقد تقدم كلامه في الفقرة السابقة (3)، وهو رأي الأشاعرة في هذه المسألة.
4 -
يرى الإمام الشاطبي رحمه الله أن الخلاف الواقع بين أهل السنة وبين أهل البدع في الصفات خلاف في الفروع، لا في الأصول، ولا سيما إذا وقع ذلك منهم بقصد حسن.
قال رحمه الله وهو يتحدَّث عن عدم تكفير المبتدعة، وأن منهم من ليس بمتبع للهوى بإطلاق:"وَأَيْضًا فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُمُ اتِّحَادُ الْقَصْدِ مَعَ أهل السنة على الجماعة مِنْ مَطْلَبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الِانْتِسَابُ إِلَى الشَّرِيعَةِ. وَمِنْ أَشَدِّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ -مَثَلًا- مَسْأَلَةُ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ؛ حَيْثُ نَفَاهَا مَنْ نَفَاهَا، فَإِنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى مَقَاصِدَ الْفَرِيقَيْنِ وَجَدْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَائِمًا حَوْلَ حِمَى التَّنْزِيهِ وَنَفْيِ النَّقَائِصِ وَسِمَاتِ الْحُدُوثِ، وَهُوَ مَطْلُوبُ الْأَدِلَّةِ. وَإِنَّمَا وَقَعَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِهَذَا الْقَصْدِ فِي الطَّرَفَيْنِ مَعًا، فَحَصَلَ فِي هَذَا الخلاف أشبه الواقع بينه وبين الخلاف والواقع في الفروع"(4).
5 -
نص الإمام الشاطبي على أن مذهب السلف هو الصواب وأنه
(1)"الاعتصام"(2/ 327).
(2)
نفس المصدر (1/ 240).
(3)
وانظر أيضاً ما ذكره في: "الاعتصام"(2/ 328 - 329).
(4)
انظر: "الاعتصام"(2/ 187).
أسلم، إلا أنه ظن أن مذهب السلف في الصفات هو مجرد التصديق والتفويض المطلق. والسلف إنما فوضوا الكيفية وأثبتوا المعنى.
يقول الشاطبي: "وأما مسائل الخلاف وإن كثرت، فليست من المتشابهات بإطلاق، بل فيها ما هو منها وهو نادر كالخلاف الواقع فيما أمسك عنه السلف الصالح فلم يتكلموا فيه بغير التسليم له والإيمان بغيبة المحجوب أمره عن العباد؛ كمسائل الاستواء والنزول وأشباه ذلك. وحين سلك الأولون فيها مسلك التسليم وترك الخوض في معانيها دل على أن ذلك هو الحكم عندهم فيها، وهو ظاهر القرآن"(1).
وقال بعد ذكره لما ذهب إليه بعض المتأخرين من تأويل الصفات: "وهي مسألة اجتهادية، ولكن الصواب من ذلك ما كان عليه السلف"(2).
ويتضح من آراء الشاطبي المتقدمة أنه متأثر بالأشاعرة في الصفات كما يتضح أنه لم يكن متعصباً لهذا المذهب.
ولا يبدو موقف الشاطبي واضحاً أمام مسائل الصفات، فنجد أنه أثنى على مذهب السلف وعدَّه أصوب، كما نجد أنه عذر من تأولها، وعَدَّ الجميع مجتهدين.
ولعل سبب هذا الموقف للشاطبي ظنه بأن مذهب السلف تفويض معاني هذه الصفات، وأنه لا يفهم منها شيء، وإلا لو أنه ذهب فيها مذهب أهل السنة والجماعة من إثبات معانيها على الوجه الذي يليق به سبحانه، وتفويض كيفيتها إليه سبحانه، لما وسعه إعذار من تأولها وصرفها عن ظاهرها.
وأيضاً هناك سبب آخر لموقف الإمام الشاطبي وهو أنه عَدَّ الخلاف في هذه المسائل شِبْهَ الخلاف الواقع في الفروع، فهو مسألة اجتهادية.
والصواب أن الخلاف في هذه المسائل العقدية ليس كالخلاف في
(1)"الموافقات"(3/ 94).
(2)
المصدر السابق (3/ 99).