الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الكتاب الأول
في
السماع
وأعني به ما ثبت في كلام من يوثق بفصاحته، فشمل كلام الله تعالى، وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم، وكلام العرب، قبل بعثته، وفي زمنه، وبعده، إلى أن فسدت الألسنة بكثرة المولدين، نظما ونثرا، عن مسلم أو كافر.
فهذه ثلاثة أنواع، لابد في كل منها من الثبوت.
أما القرآن فكل ما ورد أنه قريء به جاز الاحتجاج به في العربية، سواء كان متواترا، أو آحادا، أم شاذا.
وقد أطبق الناس على الاحتجاج بالقراءات الشاذة في العربية إذا لم تخالف قياسا معلوما، بل ولو خالفته يحتج بها في مثل ذلك الحرف بعينه، وإن لم يجز القياس عليه، كما يحتج بالمجمع على وروده ومخالفته القياس في ذلك الوارد بعينه، ولا يقاس عليه، نحو: استحوذ، ويأبى.
وما ذكرته من الاحتجاج بالقراءة الشاذة لا أعلم فيه خلافا بين النحاة، وإن اختلف في الاحتجاج بها في الفقه.
ومن ثم احتج على جواز إدخال لام الأمر على المضارع المبدوء بتاء الخطاب بقراءة (فبذلك فلتفرحوا) ، كما احتج على إدخالها على المبدوء بالنون بالقراءة المتواترة (ولنحمل خطاياكم).
واحتج على صحة قول من قال: إن (الله) أصله (لاه) بما قرئ شاذا {وهو الذي في السماء لاه وفي الأرض لاه}
تنبيه
كان قوم من النحاة المتقدمين يعيبون على عاصم وحمزة وابن عامر قراءات بعيدة في العربية وينسبونهم إلى اللحن.
وهم مخطئون في ذلك، فإن قراءاتهم ثابتة بالاسانيد المتواترة الصحيحة التي لا مطعن فيها، وثبوت ذلك دليل على جوازه في العربية، وقد رد المتأخرون منهم ابن مالك، على من عاب عليهم ذلك بأبلغ رد، واختار جواز ما وردت به قراءاتهم في العربية، وإن منعه الأكثرون مستدلا به من ذلك احتجاجه على جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار بقراءة حمزة:(تساءلون به والأرحام).
وعلى جواز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بمفعوله بقراءة ابن عامر:
(قتل أولادهم شركائهم).
وعلى جواز سكون لام الأمر بعد (ثم) بقراءة حمزة:
(ثم ليقطع)
فإن قلت فقد روي عن عثمان أنه قال: لما عرض عليه المصاحف: إن فيه لحنا ستقيمه العرب بألسنتها.
وعن عروة قال: سالت عائشة عن لحن القرآن عن قوله: (إن هذان لسحران).
وعن قوله: (والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة)
وعن قوله: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون)
فقالت يا ابن أختي، هذا عمل الكتاب، أخطأوا في الكتاب.
أخرجهما أبو عبيد، في فضائله فكيف يستقيم الاستدلال بكل ما فيه بعد هذا؟
قلت: معاذ الله كيف يظن أولا بالصحابة أنهم يلحنون في الكلام، فضلا عن القرآن وهم الفصحاء اللد؟!
فقلت: كيف يظن بهم ثانيا في القرآن الذي تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم كما أنزل وضبطوه وحفظوه وأتقنوه؟!
ثم كيف يظن بهم ثالثا اجتماعهم كلهم على الخطأ وكتابته؟!
ثم كيف يظن بهم رابعا عدم تنبههم ورجوعهم عنه؟!
ثم كيف يظن بعثمان أن يقرأه ولا يغيره؟!
ثم كيف يظن أن القراءات استمرت على مقتضى ذلك الخطأ، وهو مروي بالتواتر خلف عن سلف؟!
هذا مما يستحيل عقلا وشرعا وعادة.
وقد أجاب العلماء عن ذلك بأجوبة عديدة، بسطتها في كتابي (الإتقان في علوم القرآن).
وأحسن ما يقال في أثر عثمان _ رضي الله عنه _ بعد تضعيفه بالاضطراب الواقع في إسناده والانقطاع: أنه وقع في روايته تحريف، فإن ابن أشته أخرجه في كتاب (المصاحف) من طريق عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، قال:"لما فرغ من المصحف، أتي به عثمان، فنظر فيه فقال: أحسنتم وأجملتم، أرى شيئا سنقيمه بألسنتنا ".
فهذا الأثر لا إشكال فيه فكأنه لما عرض عليه، عند الفراغ من كتابته، رأى فيه شيئا غير لسان قريش، كما وقع لهم في (التابوت) و (التابوه) ، فوعد بأنه سيقيمه على لسان قريش، ثم وفى بذلك، كما ورد من طريق آخر، أوردتها في كتاب (الإتقان).
ولعل من روى ذلك الأثر حرفه، ولم يتقن اللفظ الذي صدر عن عثمان فلزم ما لزم من الإشكال، وأما أثر عائشة فقد أوضحنا الجواب عنه في (الإتقان) أيضا.
فصل
وأما كلامه صلى الله عليه وسلم فيستدل منه بما ثبت أنه قاله على اللفظ المروي، وذلك نادرا جدا، إنما يوجد في الأحاديث القصار، على قلة أيضا، فإن غالب الأحاديث مروي بالمعنى، وقد تداولتها الأعاجم والمولدون قبل تدوينها، فرووها بما أدت إليه عبارتهم فزادوا ونقصوا، وقدموا وأخروا، وأبدلوا ألفاظا بألفاظ،
ولهذا ترى الحديث الواحد في القصة الواحدة مرويا على أوجه شتى بعبارت مختلفة، ومن ثم أنكر على ابن مالك إثباته القواعد النحوية بالألفاظ الواردة في الحديث.
قال أبو حيان في (شرح التسهيل):
" قد أكثر هذا المصنف من الاستدلال بما وقع في الاحاديث على إثبات القواعد الكلية في لسان العرب، وما رأيت أحدا من المتقدمين والمتأخرين سلك هذه الطريقة غيره.
على أن الواضعين الأولين لعلم النحو، المستقرئين للأحكام من لسان العرب كأبي عمرو بن العلاء، وعيسى بن عمر، والخليل، وسيبويه من أئمة البصريين،
والكسائي، والفراء، وعلي بن المبارك الأحمر، وهشام الضرير من أئمة الكوفيين _ لم يفعلوا ذلك، وتبعهم على هذا المسلك المتأخرون من الفريقين وغيرهم من نحاة الأقاليم كنحاة بغداد، وأهل الأندلس.
وقد جرى الكلام في ذلك مع بعض المتأخرين الأذكياء، فقال:
إنما ترك العلماء ذلك، لعدم وثوقهم أن ذلك
لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ لو وثقوا بذلك لجرى مجرى القرآن في إثبات القواعد الكلية. وإنما كان ذلك لأمرين:
أحدهما: أن الرواة جوزوا النقل بالمعنى، فتجد قصة واحدة
جرت في زمانه صلى الله عليه وسلم لم تقل بتلك الألفاظ جميعها، نحو ما روي من قوله:"زوجتكها بما معك من القرآن"، "ملكتكها بما معك"، "خذها بما معك".
وغير ذلك من الألفاظ الواردة في هذه القصة، فتعلم يقينا أنه صلى الله عليه وسلم -
لم يلفظ بجميع هذه الألفاظ؛ بل لا نجزم بأنه قال بعضها، إذ يحتمل أنه قال لفظا مرادفا لهذه الألفاظ غيرها، فأتت الرواة بالمرادف ولم تأت بلفظه، إذ المعنى هو المطلوب ولا سيما مع تقادم السماع، وعدم ضبطه بالكتابة، والاتكال على الحفظ، والضابط منهم من ضبط المعنى، وأما من ضبط اللفظ فبعيد جدا، لا سيما في
الأحاديث الطوال.
وقد قال سفيان الثوري: إن قلت لكم إني أحدثكم كما سمعت فلا تصدقوني؛ إنما هو المعنى.
ومن نظر في الحديث أدنى نظر علم علم اليقين أنهم إنما يروون بالمعنى.
الأمر الثاني: أنه وقع اللحن كثيرا فيما روي من الحديث؛ لأن كثيرا من الرواة كانوا غير عرب، ولا يعلمون لسان العرب
بصناعة النحو، فوقع اللحن في كلامهم، وهم لا يعلمون ذلك، وقد وقع في كلامهم وروايتهم غيرُ الفصيح من لسان العرب، غير شك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أفصح الناس، فلم يكن ليتكلم إلا بأفصح اللغات وأحسن التراكيب وأشهرها وأجزلها وإذا تكلم بلغة غير لغته فإنما يتكلم بذلك مع أهل تلك اللغة على طريق الإعجاز وتعليم الله ذلك له من غير معلم.
والمصنف قد أكثر من الاستدلال بما ورد في الأثر متعقبا بزعمه على النحويين وما أمعن النظر في ذلك ولا صحب من
له التمييز، وقد قال لنا قاضي القضاة بدر الدين ابن
جماعة وكان ممن أخذ عن ابن مالك:
((قلت له: يا سيدي هذا الحديث رواية الأعاجم، ووقع فيه من روايتهم ما يعلم أنه ليس من لفظ الرسول، فلم يجب بشيء))
قال أبو حيان:
((وإنما أمعنت الكلام في هذه المسألة لئلا يقول مبتدئ: ما بال النحويين يستدلون بقول العرب وفيهم المسلم والكافر ولا يستدلون بما روي في الحديث بنقل العدول كالبخاري ومسلم وأضرابهما؟ فمن طالع ما ذكرناه أدرك السبب الذي لأجله لم يستدل النحاة بالحديث))
انتهى كلام أبي حيان بلفظه
وقال أبو الحسن ابن الضائع في (شرح الجمل):
" تجويز الرواية بالمعنى هو السبب عندي في ترك الأئمة، كسيبويه وغيره، الاستشهاد على إثبات اللغة بالحديث واعتمدوا في ذلك على القرآن وصريح النقل عن العرب ولولا تصريح العلماء بجواز النقل بالمعنى لكان الأولى في إثبات فصيح اللغة كلام النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه أفصح العرب ".
وقال: " وابن خروف يستشهد بالحديث كثيرا، فإن كان على وجه الاستظهار والتبرك بالمروي فحسن وإن كان يرى أن من قبله أغفل شيئا وجب عليه استدراكه، فليس كما رأى ".
انتهى
ومثل ذلك قول صاحب (ثمار الصناعة):
" النحو علم يستنبط بالقياس والاستقراء من كتاب الله وكلام الفصحاء العرب ".
فقصره عليهما ولم يذكر الحديث.
نعم اعتمد عليه صاحب (البديع) فقال في (أفعل التفضيل):
" لايلتفت إلى قول من قال: إنه لايعمل لأن القرآن والأخبار والأشعار نطقت بعمله " ثم أورد آيات ومن الأخبار حديث:
" ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيها الصوم ".
ومما يدل لصحة ما ذهب إليه ابن الضائع أن ابن مالك استشهد على لغة (أكلوني البراغيث) بحديث الصحيحين:
"يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ".
وأكثر من ذلك حتى صار يسميها (لغة بتعاقبون)
وقد استدل به السهيلي ثم قال:
" لكنني أقول: إن الواو فيه علامة إضمار لأنه
حديث مختصر رواه البزاز مطولا مجردا فقال فيه: إن لله ملائكة يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ".
وقال ابن الأنباري في (الإنصاف) في منع (أن) في خبر كاد:
" وأما حديث: كاد الفقر أن يكون كفرا فإنه من تغييرات الرواة لأنه أفصح من نطق بالضاد ".
فصل
وأما كلام العرب فيحتج منه بما ثبت عن الفصحاء الموثوق بعربيتهم قال أبو نصر الفارابي في أول كتابه المسمى بـ (الألفاظ والحروف):
"كانت قريش أجود العرب انتقادا للأفصح من الألفاظ وأسهلها على اللسان عند النطق وأحسنها مسموعا وأبينها
إبانة عما في النفس.
والذين عنهم نقلت اللغة العربية وبهم اقتدي وعنهم أخذ اللسان العربي من بين كلام العرب هم:
قيس وتميم وأسد فإن هؤلاء هم الذين عنهم أكثر ما أخذ ومعظمه وعلهيم اتكل في الغريب وفي الأعراب والتصريف ثم هذيل وبعض كنانة وبعض الطائيين ولم يؤخذ عن غيرهم من سائر قبائلهم.
وبالجملة فإنه لم يؤخذ عن حضري قط ولا عن سكان البراري ممن كان يسكن أطراف بلادهم التي تجاور سائر الأمم الذين حولهم.
فإنه لا يؤخذ لا من لخم ولا من جذام فإنهم كانو مجاورين لأهل مصر والقبط، ولا من قضاعة ولا من غسان ولا من إياد فإنهم كانو مجاورين لأهل الشام وأكثرهم نصارى يقرؤون في صلاتهم بغير العربية، ولا من تغلب والنمر فإنهم كانوا بالجزيرة مجاورين لليونانية، ولا من بكر؛ لأنهم كانوا مجاورين
للنبط والفرس ولا من عبد القيس لأنهم كانوا سكان البحرين مخالطين للهند والحبشة ولا من أزد عمان لمخالطتهم للهند والفرس، ولا من أهل اليمن أصلا لمخالطتهم للهند والحبشة ولولادة الحبشة فيهم، ولا من بني حنيفة وسكان اليمامة ولا من ثقيف وسكان الطائف لمخالطتهم تجار الأمم المقيمين عندهم، ولا من حاضرة الحجاز لأن الذين نقلوا اللغة صادفوهم حين ابتدءوا ينقلون لغة العرب قد خالطوا غيرهم من الأمم وفسدت ألسنتهم.
والذي نقل اللغة واللسان العربي عن هؤلاء وأثبتها في كتاب وصيرها علما وصناعة هم أهل الكوفة والبصرة فقط من بين أمصار العرب.
وكانت صنائع هؤلاء التي بها يعيشون الرعاية والصيد واللصوصية وكانوا أقواهم نفوسا وأقساهم قلوبا وأشدهم توحشا وأمنعهم جانبا وأشدهم حمية وأحبهم لأن يغلِبوا ولا يُغلَبوا وأعسرهم انقيادا للملوك وأجفاهم أخلاقا وأقلهم احتمالا للضيم والذلة ". انتهى
ونقل ذلك أبو حيان في (شرح التسهيل) معترضا به على ابن مالك حيث عني في كتبه بنقل لغة لخم وخزاعة وقضاعة وغيرهم وقال: " ليس ذلك من عادة أئمة هذا الشأن ".
ثم الاعتماد على ما رواه الثقات عنهم بالأسانيد المعتبرة من
نثرهم ونظمهم وقد دونت دواوين عن العرب العرباء كثيرة مشهورة كديوان امريء القيس والطرماح وزهير وجرير والفرزدق وغيرهم.
ومما يعتمد عليه في ذلك مصنفات الإمام الشافعي – رضي الله عنه – فقد قال ابن شاكر في (مناقبه):
" حدثنا أحمد بن غالب حدثنا عمر بن الحسن الحراني، حدثنا محمد بن أحمد الهروي، حدثنا زكريا بن يحيى الساجي، حدثنا جعفر بن محمد، قال: قال الإمام أحمد بن
حنبل: كلام الشافعي في اللغة حجة ".
فروع
أحدها:
ينقسم المسموع إلى مطرد وشاذ. قال في (الخصائص):
" وأصل مواضع (ط ر د) في كلامهم: التتابع والاستمرار ومنه مطاردة الفرسان بعضهم بعضا واطرد الجدول: إذا تتابع ماؤه بالريح.
ومواضع (ش ذ ذ): التفرق والتفرد ثم قيل ذلك في الكلام والأصوات على سمته في غيرهما.
فجعل أهل علم العربية ما استمر من الكلام من الإعراب وغيره من مواضع الصناعة
مطردا وما فارق ما عليه بقية بابه وانفرد عن ذلك إلى غيره شاذ ".
قال:
" ثم الاضطراد والشذوذ على أربعة أضرب:
مطرد في القياس والاستعمال معا وهو الغاية المطلوبة نحو: قام زيد وضربت عمرا ومررت بسعيد.
ومطرد في القياس شاذ في الاستعمال نحو الماضي من (يذر) و (يدع) وقولهم: مكان مقبل، هذا هو القياس والأكثر في السماع باقل والأول مسموع أيضا.
ومنه أيضا مجيء مفعول (عسى) اسما صريحا نحو:
عسى زيد قائما فهو القياس غير أن الأكثر في السماع كونه فعلا والأول مسموع أيضا
ومطرد في الاستعمال شاذ في القياس نحو قولهم: استحوذ واستنوق الجمل واستوصبت الأمر وأبى يأبى والقياس الإعلال في الثلاثة وكسر عين الأخير.
وشاذ في القياس والاستعمال معا كقولهم: ثوب مصون وفرس مقوود ورجل معوود من مرضه ".
انتهى ملخصا.
وقال الشيخ جمال الدين بن هشام:
" اعلم أنهم يستعملون غالبا وكثيرا ونادرا وقليلا ومطردا.
فالمطرد لا يتخلف.
والغالب أكثر الأشياء ولكنه يتخلف.
والكثير دونه.
والقليل دونه.
والنادر أقل من القليل.
فالعشرون بالنسبة بالنسبة إلى ثلاثة وعشرين غالب والخمسة عشر بالنسبة إليها كثير لا غالب والثلاثة قليل والواحد نادر فاعلم بهذا مراتب ما يقال فيه ذلك ".
انتهى.
الفرع الثاني
قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام من كبار أصحابنا الشافعية:
" اعتمد في العربية على أشعار العرب وهم كفار لبعد التدليس فيها كما اعتمد في الطب وهو في
الأصل مأخوذ عن قوم كفار لذلك ".
فعلم أن العربي الذي يحتج بقوله لا بشترط فيه العدالة نعم تشترط في رواي ذلك.
وكثيرا ما يقع في (كتاب سيبويه) وغيره: " حدثني من لا أتهم " و " من لا أثق به " وينبغي الاكتفاء بذلك.
وعدم التوقف في القبول ويحتمل المنع.
وقد ذكر المرزباني عن أبي زيد النحوي قال: " كل ما قال سيبويه في كتابه (أخبرني الثقة) فأنا أخبرته ".
وقد وضع المولدون اشعارا ودسوها على الأئمة فاحتجوا بها ظنا أنها للعرب وذكر أن في (كتاب سيبويه) منها خمسين بيتا وأن منها قول القائل:
أعرف منها الأنف والعينانا
…
ومنخرين أشبها ظبيانا
ومن الأسباب الحاملة على ذلك: نصرة رأي ذهب إليه وتوجيه كلمة صدرت منه
وقال ابن النحاس في (التعليقة):
" حكي الحريري في (درة الغواص):
ورى خلف الأحمر أنهم صاغوا (فعال)
متسقا من أحاد إلى عشار وأنشد ما عزي فيه إلى أنه موضوع منه أبياتا من جملتها:
وثلاثا ورباعا
…
وخماسا فاطعنا
وسداسا وسباعا
…
وثمانا فاجتلدنا
وتساعا وعشارا
…
فأصبنا وأصبنا
الثالث
المسموع الفرد: هل يقبل ويحتج به؟ له أحوال لخصتها من متفرقات كلان ابن جني في (الخصائص)
أحدها: أن يكون فردا بمعنى أنه لا نظير له في الألفاظ المسموعة مع إطباق العرب على النطق به فهذا يقبل ويحتج به
ويقاس عليه إجماعا كما قيس على قولهم في شنوءة: شنئي مع أنه لم يسمع غيره لأنه لم يسمع ما يخالفه وقد أطبقوا على النطق به.
الحال الثاني: أن يكون فردا بمعنى أن المتكلم به من العرب واحد ويخالف ما عليه الجمهور. قال ابن جني:
" فينظر في حال هذا المنفرد به فإن كان فصيحا في جميع ما عدا ذلك القدر الذي انفرد به وكان مما أورده مما يقبله القياس إلا أنه لم يرد به استعمال إلا من جهة ذلك الإنسان فإن الأولى في ذلك أن يحسن الظن به ولا يحمل على فساده.
فإن قيل: فمن أين ذلك وليس مسوغا أن يرتجل لنفسه لغة أخرى؟
قيل: قد يمكن أن يكون ذلك وقع إليه من لغة قديمة طال
عهدها وعفا رسمها فقد أخبرنا أبو بكر جعفر بن محمد بن الحجاج عن أبي خليفة الفضل بن الحباب قال: قال لي ابن عون عن ابن سيرين قال: قال عمر بن الخطاب:
" كان الشعر علم قوم ولم يكن لهم علم أصح منه ".
فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد وغزو فارس والروم ولهت عن الشعر وروايته فلما كثر الإسلام وجاءت الفتوح واطمأنت العرب في الأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا إلى ديوان مدون ولا كتاب مكتوب وألفوا ذلك
وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل فحظوا أقل من ذلك وذهب عنهم كثيره.
ثم روى بسنده عن أبي عمرو بن العلاء قال: " ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله ولو جائكم وافرا لجائكم علم وشعر كثير ".
وعن حماد الراوية قال: " أمر النعمان فنسخت له أشعار
العرب في الطنوج _ وهي الكرايس _ ثم دفنها في قصره الأبيض فلما كان المختار بن أبي عبيد قيل له إن تحت القصر كنزا فاحتفره فأخرج تلك الأشعار فمن ثم أهل الكوفة أعلم بالشعر من أهل البصرة ".
قال ابن جني:
"فإذا كان كذلك لم يقطع على الفصيح يسمع منه ما يخالف الجمهور بالخطأ ما دام القياس يعضده فإن لم يعضده كرفع المفعول والمضاف إليه وجر الفاعل أو نصبه فينبغي أن يرد لأنه جاء مخالفا للقياس والسماع جميعا.
وكذا إذا كان الرجل الذي سمعت منه تلك اللغة الخالفة مضعوفا في قوله مألوفا منه اللحن وفساد الكلام فإنه يرد عليه ولا يقبل منه.
وإن احتمل أن يكون مصيبا في ذلك لغة قديمة فالصواب رده وعدم الاحتفال بهذا الاحتمال ".
الحال الثالث: أن ينفرد به المتكلم ولا يسمع من غيره لا ما يوافقه ولا ما يخالفه.
قال ابن جني:
" والقول فيه أنه يجب قبوله إذا ثبت فصاحته لأنه إما أن يكون شيئا أخذه عمن نطق به بلغة قديمة لم يشارك في سماع ذلك منه على حد ما قلناه فيمن خالف الجماعة وهو فصيح أو شيئا ارتجله فإن الأعرابي إذا قويت فصاحته وسمت طبيعته تصرف وارتجل ما لم يسبق إليه فقد حكي عن رؤبة وأبيه أنهم كانا يرتجلان ألفاظا لم يسمعاها ولا سبقا
إليها.
أما لو جاء عن متهم أو من لم ترق به فصاحته ولا سبقت إلى الأنفس ثقته فإنه يرد ولا يقبل فإن ورد عن بعضهم شيئ يدفعه كلام العرب ويأباه القياس على كلامها فإنه لا يقنع في قبوله أن يسمع من الواحد ولا من العدة القليلة إلا أن يكثر من ينطق به منهم فإن كثر قائلوه إلا أنه مع هذا ضعيف الوجه في القياس فمجازه وجهان: أحدهما أن يكون من نطق به لم يحكم قياسه.
والآخر: أن تكون أنت قصرت عن استدراك وجه صحته.
ويحتمل بأن يكون سمعه من غيره ممن ليس فصيحا وكثر استماعه له فسرى في كلامه إلا أن ذلك قلما يقع فإن
الأعرابي الفصيح إذا عدل به عن لغته الفصيحة إلى أخرى سقيمة عدل عنها ولم يعبأ بها.
فالأقوى أن يقبل ممن شهرت فصاحته ما يورده ويحمل أمره على ما عرف من حاله لا على ما عسى أن يحتمل كما أن على القاضي قبول شهادة من ظهرت عدالته وإن كان يجوز كذبه في الباطن إذ لو لم يؤخذ بذلك لأدى إلى ترك الفصيح بالشك وسقوط كل اللغات.
الفرع الرابع
قال ابن جني:
" اللغات على اختلافها كلها حجة. ألا ترى أن لغة الحجازين في إعمال (ما) ولغة التميمين في تركه كل منها يقبله القياس فليس لك أن ترد إحدى اللغتين بصاحبتها ".
وسيأتي في ذلك مزيد كلام في (الكتاب السادس).
الخامس
قال ابن جني:
"علة امتناع الأخذ عن أهل المدر كما يؤخذ عن أهل الوبر ما عرض للغات الحاضرة وأهل المدر من الاختلال والفساد ولو علم أن أهل مدينة باقون على فصاحتهم
لم يعرض للغتهم شيء من الفساد أوجب الأخذ عنهم كما يؤخذ عن أهل الوبر وكذلك لو فشا في أهل الوبر ما شاع في لغة أهل المدر من الخلل والفساد لوجب رفض لغتها ".
قال:
" وعلى ذلك العمل في وقتنا هذا لأنا لا نكاد نرى بدويا فصيحا.
وإذا كان قد روي أنه صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يلحن فقال: (أرشدوا أخاكم فقد ضل) وسمع عمر رجلا يلحن
وكذلك علي حتى حمله ذلك على وضع النحو إلى أن شاع واستمر فساد الألسنة مشهورا ظاهرا فينبغي أن يستوحش من الأخذ عن كل أحد إلا أن تقوى لغته وتشيع فصاحته ".
وقد قال الفراء في بعض كلامه: " إلا أن تسمع شيئا من بدوي فصيح فتقوله ".
السادس
في العربي الفصيح ينتقل لسانه
قال ابن جني:
" العمل في ذلك أن تنظر حال ما انتقل إليه فإن كان فصيحا مثل لغته الأولى أخذ بها كما يؤخذ بما انتقل عنها أو فاسدا فلا ويؤخذ بالأولى ".
قال:
" فإن قيل: فما يؤمنك _ أن يكون كما وجدت في لغته فسادا بعد أن لم يكن فيها _ أن يكون فيها فسادا آخر لم تعلمه؟
قيل: لو أخذ بها لأدى إلى أن لا تطيب نفس بلغة وأن يتوقف عن الأخذ عن كل أحد مخافة أن يكون في لغته زيغ لا نعلمه الآن ويجوز أن يعلم بعد زمان وفي هذا من الخطل ما يكفي.
فالصواب الأخذ بما عرف صحته ولم يظهر فساده ولا يلتفت إلى احتمال الخلل فيما لم يبن ".
السابع
في تداخل اللغات
قال في (الخصائص):
" إذا اجتمع في كلام الفصيح لغتان فصاعدا كقوله وأشرب الماء ما بي نحوه عطش إلا لأن عيونه سيل واديها
فقال: نحوهو بالإشباع وعيونه بالإسكان فينبغي أن يتأمل حال كلامه.
فإن كانت اللفظتان في كلامه متساويتان في الاستعمال كثرتهما
واحدة فأخلق الأمر به أن تكون قبيلته تواضعت في ذلك المعنى على تينك اللفظتين لأن العرب قد تفعل ذلك للحاجة إليها في أوزان أشعارها وسعة تصرف أقوالها.
ويجوز أن تكون لغته في الأصل إحداهما ثم إنه استفاد الأخرى من قبيلة أخرى وطال بها عهده وكثر استعماله لها فلحقت لطول المدة وكثرة الاستعمال بلغته الأولى.
وإن كانت إحدى اللفظتين أكثر من كلامه من الأخرى فأخلق الأمر به أن تكون القليلة الاستعمال هي الطارئة والكثيرة هي الأولى الصلية.
ويجوز أن تكونا معا لغتين له ولقبيلته وإنما قلت إحداهما في استعماله لضعفها في نفسه وشذوذها عن قياسه.
وإن كثر على المعنى الواحد ألفاظ مختلفة فسمعت في لغة إنسان فعلى ما ذكرناه كما جاء عنهم في أسماء الأسد والسيف والخمر وغير ذلك وكما تنحرف الصيغة واللفظ واحد كقولهم رغوة اللبن ورُغوته ورِغوته ورغاوته كذلك مثلثا.
وكقولهم: جئت من عل ومن عِل ومن عَل ومن علا ومن عُلو ومن علوٍ ومن علوَ ومن عال ومن معال.
فكل ذلك لغات لجماعات قد تجتمع لإنسان واحد.
قال الأصمعي:
" اختلف رجلان في الصقر فقال أحدهما بالصاد وقال الآخر بالسين فتارضيا بأول وارد عليهما فحكيا له ما هما فيه فقال: لا أقول كما قلتما إنما هو الزقر ".
" وعلى هذا يتخرج جميع ما ورد من التداخل نحو: قلى يقلى وسلا يسلى.
وطهر فهو طاهر وشعر فهو شاعر.
فكل ذلك إنما هو لغات تداخلت فتركبت بأن أخذ الماضي
من لغة والمضارع أو الوصف من لغة أخرى لا تنطق بالماضي كذلك فحصل التداخل والجمع بين اللغتين
فإن من يقول: قلا يقول في المضارع يقلي والذي يقول: يقلا يقول في الماضي: قلي وكذا من يقول يسلا يقول في الماضي سلي.
فتلاقى أصحاب اللغتين فسمع هذا لغة هذا وهذا لغة هذا فأخذ كل واحد من صاحبه ما ضمه إلى لغته فتركبت هناك لغة ثالثة.
وكذا شاعر وطاهر إنما هو من شعر وطهر بالفتح وأما بالضم فوصفه على فعيل فالجمع بينهما من التداخل ".
انتهى كلام ابن جني.
وقد حكى غيره في استعمال اللغتين المتداخلتين قولين:
أحدهما: أنه يجوز مطلقا
والثاني: إنما يجوز بشرط ألا يؤدي إلى استعمال لفظ مهمل كـ (الحبك).
الثامن
أجمعوا على أنه لا يحتج بكلام المولدين والمحدثين وفي (الكشاف) ما يقتضي تخصيص ذلك بغير أئمة اللغة
ورواتها فإنه استشهد على مسألة بقول حبيب بن أوس ثم قال:
" وهو وإن كان محدثا لا يستشهد بشعره في اللغة فهو من علماء العربية فاجعل ما يقوله بمنزلة ما يرويه ألا ترى إلى قول العلماء: الدليل عليه بيت الحماسة فيقتنعون بذلك لتوثقهم بروايته وإتقانه ".
فائدة
أول الشعراء المحدثين بشار بن برد وقد احتج سيبويه في كتابه ببعض شعره تقربا إليه لأنه كان هجاه لتركه الاحتجاج بشعره ذكره المرزباني وغيره.
ونقل ثعلب عن الأصمعي قال: ختم الشعر
بإبراهيم بن هرمه وهو آخر الحجج.
التاسع
لا يجوز الاحتجاج بشعر أو نثر لا يعرف قائله.
صرح بذلك ابن الأنباري في (الإنصاف).
وكأن علة ذلك خوف أن يكون لمولد أو من لا يوثق بفصاحته.
ومن هذا يعلم أنه يحتاج إلى معرفة أسماء العرب وطبقاتهم.
قال ابن النحاس في (التعليقة):
" أجاز الكوفيون إظهار (أن) بعد (كي) واستشهدوا بقول الشاعر:
أردت لكيما أن تطير بقربتي فتتركها شنا ببيداء بلقع
قال:
والجواب أن هذا البيت غير معروف قائله ولو عرف لجاز أن يكون من ضرورة الشعر.
وقال أيضا: ذهب الكوفيون إلى جواز دخول اللام في خبر (لكن) واحتجوا بقول الشاعر:
ولكنني من حبها لعميد
والجواب: أن هذا البيت لا يعرف قائله ولا أوله ولم يذكر منه
إلا هذا ولم ينشده أحد ممن وثق في اللغة ولا عزي إلى مشهور بالضبط والإتقان وفي ذلك ما فيه.
وفي تعاليق ابن هشام على الأفية:
" استدل الكوفيون على جواز مد المقصور للضرورة بقوله:
قد علمت أخت بني السعلاء
وعلمت ذاك مع الجراء
أن نعم مأكولا على الخواء
يا لك من تمر ومن شيشاء
ينشب في المشعل واللهاء
فمد السعلا والخوا واللها وهي مقصورات.
قال: والجواب عندنا أنه لا يعلم قائله فلا حجة فيه ".
لكن ذكر في شرحه للشواهد ما يخالف ذلك فإنه قال:
طعن عبد الواحد الطواح في كتابه (بغية الآمل) في الاستشهاد بقوله:
لا تكثرن إني عسيت صائما
وقال هو بيت مجهول لم ينسبه الشارح إلى أحد فسقط الاحتجاج به.
ولو صح ما قاله لسقط الاحتجاج بخمسين بيتا من (كتاب سيبويه) فإن فيه ألف بيت قد عرف قائلوها وخمسين مجهولة القائلين.
العاشر
إذا قال حدثني الثقة فهل يقبل؟ قولان:
في علم الحديث وأصول الفقه رجح كلا مرجحون وقد وقع ذلك لسيبويه كثيرا يعني به الخليل وغيره
وكان يونس يقول: حدثني الثقة عن العرب فإن قيل له: من
الثقة؟
قال: أبو يزيد، قيل له: فلم لا تسميه؟ قال: هو حي بعد، فأنا لا أسميه.
الحادي عشر
قال ابن السراج في (الأصول) بعد أن قرر أن (أفعل) التفضيل لا يأتي من الألوان:
فإن قيل: قد أنشد بعض الناس:
ياليتني مثلك في البياض أبيض من أخت بني أباض
فالجواب أن هذا معمول على فساد وليس البيت الشاذ والكلام المحفوظ بأدنى إسناد حجة على الأصل المجتمع عليه في كلام ولا نحو ولا فقه وإنما يركن إلى ضعفة أهل النحو ومن لا حجة معه.
وتأويل هذا وما أشبهه كتأويل ضعفة أصحاب الحديث وأتباع القصاص في الفقه ".
انتهى.
فأشار بهذا الكلام إلى أن الشاذ ونحوه يطرح طرحا ولا يهتم بتأويله.
الثاني عشر
قال أبو حيان في شرح التسهيل
" التأويل إنما يسوغ
إذا كانت الجادة على شيء ثم جاء شيء يخالف الجادة فيتأول. أما إذا كان لغة طائفة من العرب لم تتكلم إلا بها فلا تأويل.
ومن ثم كان مردودا تأويل أبي علي: " ليس الطيب إلا المسك " على أن فيها ضمير شأن لأن أبا عمرو نقل أن ذلك لغة تميم ".
الثالث عشر
قال أبو حيان أيضا:
"إذا دخل الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال ".
ورد به على ابن مالك كثيرا في مسائل استدل عليها بأدلة تقبل التأويل
منها منها استدلاله قصر الأخ بقوله:
أخاك الذي إن تدعه لملمة يجبك بما تبغي ويكفيك من يبغي
فإنه يحتمل أن يكون منصوبا بإضمار فعل أي الزم.
وإذا دخله الاحتمال سقط به الاستدلال.
الرابع عشر
كثيرا ما تروى الأبيات على أوجه مختلفة وربما يكون الشاهد في بعضها دون بعض وقد سئلت عن ذلك قديما فأجبت
باحتمال ان يكون الشاعر أنشده مرة هكذا ومرة هكذا.
ثم رأيت ابن هشام قال في شرح الشواهد:
روي قوله:
ولا أرض أبقل إبقالها
بالتذكير والتأنيث مع نقل الهمزة فإن صح أن القائل بالتأنيث هو القائل بالتذكير صح الاستشهاد به عل الجواز في غير الضرورة وإلا فقد كانت العرب ينشد بعضهم شعر بعض وكل يتكلم على مقتضى سجيته التي فطر عليها ومن هنا تكثر الرويات في بعض الأبيات ".
انتهى.
فصل
ملخص من المحصول للإمام فخر الدين مع زيادات
من شروحه قال:
" اعلم أن معرفة اللغة والنحو والتصريف فرض كفاية لأن معرفة الأحكام الشرعية واجبة بالإجماع ومعرفة الأحكام بدون معرفة أدلتها مستحيل فلابد من معرفة أدلتها والأدلة راجعة إلى الكتاب والسنة وهما واردان بلغة العرب ونحوهم وتصريفهم فإن توقف العلم بالأحكام على الأدلة ومعرفة الأدلة تتوقف على معرفة النحو والتصريف وما يتوقف على الواجب المطلق
وهو مقدور للمكلف فهو واجب فإذن معرفة اللغة والنحو والتصريف واجبة ".
قال:
" ثم الطريق إلى معرفتها إما النقل المحض كأكثر اللغة أو العقل مع النقل كقولنا: " الجمع المحلى باللام للعموم " لأنه يصح استثناء أي فرض منه فإن صحة الاستثناء بالنقل وكونه معيار العموم بالعقل.
فمعرفة كون الجمع المذكور له بالتركيب من النقل والعقل، وأما العقل المحض فلا مجال له في ذلك ".
قال:
" فالنقل المحض: إما تواتر أو آحاد وعلى كل منهما إشكالات.
أما التواتر فالإشكال عليه من وجوه:
أحدها: أنا نجد الناس مختلفين في معاني الألفاظ التي هي أكثر الألفاظ تداولا ودورانا على ألسنة المسلمين اختلافا شديدا لا يمكن فيه القطع بما هو الحق.
كلفظة (الله) فإن بعضهم زعم أنها عبرية وقال قوم: إنها سيريانية والذين جعلوها عربية اختلفوا: هل هي مشتقة أو لا؟
والقائلون بالاشتقاق اختلفوا اختلافا شديدا ومن تأمل أدلتهم في تعيين مدلول هذا اللفظ علم أنها متعارضة وأن شيئا منها لا يفيد الظن الغالب فضلا عن اليقين.
وكذلك اختلفوا في لفظ الإيمان والكفر
والصلاة والزكاة.
فإذا كان هذا الحال في الألفاظ التي هي أشهر الألفاظ والحاجة إليها ماسة جدا فما ظنك بسائر الألفاظ؟!
وإذا كان كذلك ظهر أن دعوى التواتر في اللغة والنحو متعذر.
وأجيب عنه بأنه وإن لم يكن دعوى التواتر في معانيها على سبيل التفصيل فإنا نعلم معانيها في الجملة.
فنعلم أنهم يطلقون لفظة الله على الإله المعبود بحق وإن كنا لا نعلم مسمى هذا اللفظ: أذاته أم كونه معبودا أم كونه قادرا على الاختراع أم كونه ملجأ للخلق أم كونه بحيث تتحير العقول في إدراكه؟ إلى غير ذلك من المعاني المذكورة لهذا اللفظ.
وكذا القول في سائر الألفاظ.
الإشكال الثاني: أن من شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة.
فهب أنا علمنا حصول شرائط التواتر في حفاظ اللغة والنحو والتصريف في زماننا فكيف نعلم حصولها في سائر الأزمنة؟
وإذا جهلنا شرط التواتر جهلنا التواتر ضرورة لأن الجهل بالشرط يوجب الجهل بالمشروط.
فإن قيل: الطريق إليه أمران:
أحدهما: أن الذين شاهدناهم أخبرونا أن الذين أخبروهم بهذه اللغات كانوا موصوفين بالصفات المعتبرة في التواتر وأن الذين أخبروا من أخبرهم كانوا كذلك إلى أن يتصل النقل بزمان الرسول صلى الله عليه وسلم.
والآخر: أن هذه الألفاظ لو لم تكن موضوعة لهذه اللغات ثم وضعها واضع لهذه المعاني لاشتهر ذلك وعرف فإن ذلك مما تتوفر الدواعي على نقله.
قلنا: أما الأول فغير صحيح لأن كل واحد منا حين يسمع لغة مخصوصة من إنسان فإنه لم يسمع منه أنه سمعه من أهل
التواتر وهكذا بل تحرير هذه الدعوى على هذا الوجه مما لا يفهمه كثير من الأدباء فكيف يدعى عليهم أنهم علموه بالضرورة؟ بل الغاية القصوى في راوى اللغة أن يسنده إلى كتاب صحيح أو إلى إسناد متقن ومعلوم أن ذلك لا يفيد اليقين.
وأما الثاني فضعيف أيضا لأن ذلك الاشتهار إنما يجب في الأمور العظيمة وليس هذا منه، سلمنا أنه منه لكن لا نسلم أنه لم يشتهر فإنه قد اشتهر بل بلغ مبلغ التواتر أن هذه اللغات إنما أخذت عن جمع مخصوص كالخيل وأبي عمرو والأصمعي وأقرانهم ولا شك أن هؤلاء ما كانو معصومين
ولا بالغين حد التواتر وإذا كان كذلك لم يحصل القطع واليقين بقولهم.
أقصى ما في الباب أن يقال: نعلم قطعا أن هذه اليلغات بأسرها غير منقوله على سبيل الكذب ونقطع بأن فهيا ما هو صدق قطعا لكن كل لفظة عيناها فإنا لا يمكنا القطع بأنها من قبيل ما نقل صدقا وحين إذ لا يبقى القطع في لفظ معين أصلا.
وهذا هو الإشكال على من ادعى التواتر في نقل اللغات.
هذا كلام الإمام.
وتعفبه الأصبهاني بأن كون اللغة مأخوذة عمن لم يبلغ عدد التواتر لا يصلح أن يكون سندا لمنع عدم شهرة نقل اللغات عن موضوعاتها الأصلية إلى غيرها لأن عدم عصمتهم لا يستلزم وقوع النقل والتغيير بل يثبت به احتماله وذلك لا يقدح في
دعوى انتفاء اللازم. انتهى. والأمر كما قال.
ثم قال الإمام:
" وأما الآحاد فالإشكال عليه من وجوه:
منها أن الرواة له مجرحون ليسوا سالمين عن القدح.
بيانه: ان أصل الكتب المصنفة في النحو واللغة كتاب سيبويه وكتاب العين
أما كتاب سيبويه فقدح الكوفيين فيه وفي صاحبه أظهر من الشمس.
وأيضا فالمبرد كان من أجل البصريين وهو أفرد كتاب في القدح فيه.
وأما كتاب العين فقد أطبق الجمهور من أهل اللغة على القدح فيه.
وأيضا فإن ابن جني أورد بابا في الخصائص في قدح أكابر الأدباء بعضهم في بعض وتكذيب بعضهم بعضا.
وأورد بابا آخر في لغة أهل الوبر أصح من لغة أهل المدر وغرضه من ذلك القدح في الكوفيين.
وأورد بابا آخر في كلمات من الغريب لا يعلم أحد أتى بها إلا ابن أحمر الباهلي.
وروي عن رؤبة وأبيه أنهما كانا يرتجلان ألفاظا لم يسمعاهاولا سبقا إليها
وعلى ذلك قال المازني: " ماقيس على كلام العرب فهو من كلامهم وأيضا فالأصمعي كان منسوبا إلى الخلاعة ومشهورا بأنه كان يزيد في اللغة ما لم يكن منها.
والعجب من الأصوليين أنهم أقاموا الدلائل على خبر الواحد أنه حجة في الشرع ولم يقيموا الدلالة على ذلك في اللغة وكان هذا أولى وكان من الواجب عليهم أن يبحثوا عن أحوال اللغات والنحو وأن يتفحصوا عن أحوال جرحهم وتعديلهم كما فعلوا ذلك في رواية الأخبار لكنهم تركوا ذلك بالكلية مع شدة الحاجة إليه فإن اللغة والنحو يجريان مجرى الأصل للستدلال بالنصوص. انتهى.
قال الأصبهاني:
أما قوله: " وأورد ابن جني بابا في كلمات عن الغريب لم يأت بها إلا الباهلي " فاعلم أنهذا القدر وهو انفراد شخص بنقل شيء في اللغة الغريبة لا يقدح في عدالته ولا يلزم من نقل الغريب أن يكون كاذبا في نقله ولا قصد ابن جني ذلك.
وأما قول المازني:" ما قيس
…
إلى آخره " فإنه ليس بكذب ولا تجويز للكذب لجواز أن يرى القياس في اللغات أو يحمل كلامه على هذه القاعدة وأمثالها وهي أن الفاعل في كلام العرب مرفوع فكل ما كان في معنى الفاعل فهو مرفوع.
وأما قوله إن الأصوليين لم يقيموا
…
إلى آخره فضعيف جدا وذلك أن الدليل الدال على أن خبر الواحد حجة في الشرع يمكن
التمسك به في نقل اللعة آحادا إذا وجدت الشرائط المعتبرة في خبر الواحد فلعلهم أهملوا ذلك اكتفاء منهم بالأدلة على أنه حجة في الشرع.
وأما قوله: " كان من الواجب أن يبحثوا عن أحوال الرواة
…
إلى آخره فهذا حق فقد كان من الواجب أن يفعل ذلك ولا وجه لإهماله مع احتمال كذب من لم تعلم عدالته.
وقال القرافي في هذا الأخير إنما أهملوا ذلك لأن الدواعي متوفرة على الكذب في الحديث لأسبابه المعروفه الحاملة للواضعين على الوضع.
وأما اللغة فالدواعي إلى الكذب عليها في غاية الضعف.
وكذلك كتب الفقه لا تكاد تجد فروعا موضوعة على الشافعي أو مالك أو غيرهما ولذلك جمع الناس من السنة موضوعات كثيرة وجدوها ولم يجدوها ولم يجدوا في اللغة وفروع الفقه مثل ذلك ولا قريبا منه ولما كان الكذب والخطأ في اللغة وغيرها في غاية الندرة اكتفى العلماء فيها بالاعتماد على الكتب المشهورة المتداولة فإن شهرتها وتداولها يمنع ذلك مع ضعف الداعية له.
فهذا هو الفرق.
ثم قال الإمام:
والجواب عن الإشكالات كلها: أن اللغة والنحو والتصريف ينقسم إلى قسمين:
قسم منه متواتر والعلم الضروري حاصل بأنه كان في الأزمنة الماضية موضوعا لهذه المعاني فإنا نجد أنفسنا جازمة بأن السماء والأرض كانتا مستعملتين في زمنه صلى الله عليه وسلم في معناهما المعروف.
وكذلك الماء والهواء والنار وأمثالها.
وكذلك لم يزل الفاعل مرفوعا والمفعول منصوبا والمضاف إليه مجرورا.
وقسم منه مظنون وهو الألفاظ الغريبة والطريق إلى معرفتها الآحاد.
وأكثر ألفاظ القرآن ونحوه وتصريفه من القسم الأول.
والثاني فيه قليل جدا فلا يتمسك به في القطعيات ويتمسك به في الظنيات.
انتهى.
خاتمة
قال الشيخ بهاء الدين بن النحاس في التعليقة:
" النقل عن النفي فيه شيء لأن حاصله أنني لم أسمع هذا وهذا لا يدل على أنه لم يكن "
تنبيه
النقل عند ابن الأنباري
بعد أن حررت هذا الكتاب بفروعه وجدت ابن الأنباري قال في أصوله:
" أدلة النحو ثلاثة: نقل وقياس واصطحاب حال
فالنقل هو الكلام العربي الفصيح المنقول النقل الصحيح الخارج عن حد القلة إلى حد الكثرة.
وعلى هذا يخرج ما جاء من كلام غير العرب من المولدين وغيرهم وما جاء شاذا في كلامهم نحو الجزم
بـ (لن) والنصب بـ (لم) والجر بـ (لعل) ونصب الجزأين بها وبـ (ليت)
وهو ينقسم إلى تواتر وآحاد
فأما التواتر فلغة القرآن وما تواتر من السنة وكلام العرب.
وهذا القسم قطعي من أدلة النحو يفيد العلم.
وأما الآحاد فما تفرد بنقله بعض أهل اللغة ولم يوجد فيه شرط التواتر وهو دليل مأخوذ به والأكثرون على أنه يفيد الظن.
وشرط التواتر أن يبلغ عدد ناقليه عددا لا يجوز على مثلهم الاتفاق على الكذب.
وشرط الآحاد أن يكون ناقله عدلا رجلا كان أو امرأة حرا كان أو عبدا كما يشترط في نقل الحديث لأن باللغة نعرفة تفسيره وتأويله فاشترط في نقلها ما اشترط في نقله فإن كان ناقل اللغة فاسقا لم يقبل نقله.
ويقبل نقل العدل الواحد وأهل الأهواء إلا أن يكونوا ممن يتدين بالكذب.
وأما المرسل: وهو الذي انقطع سنده نحو أن يروي ابن دريد عن أبي زيد.
والمجهول: وهو الذي لم يعرف ناقله نحو أن يقول أبو بكر بن الأنباري حدثني رجل عن ابن الأعرابي.
فلا يقبلان لأن العدالة شرط في النقل وانقطاع السند والجهل بالناقل يوجبان النقل بالعدالة فإن لم يذكر اسمه أو ذكر ولم يعرف، لم تعرف عدالته فلا يقبل نقله.
وقيل يقبلان لأن الإرسال صدر ممن لو أسند لقبل ولم يهتم في إسناده فكذلك في إرساله فإن التهمة لو تطرقت إلى إرساله لتطرقت إلى إسناده وإذا لم يهتم في إسناده فكذلك في إرساله.
وكذلك النقل عن المجهول صدرا ممن لا يهتم في نقله لأن التهمه لو تطرقت إلى نقله عن المجهول لتطرقت إلى نقله عن المعروف وهذا ليس بصحيح.
واختلف العلماء في جواز الإجازة والصحيح جوازها هذا حاصل ما ذكره ابن الأنباري في ثمانية فصول من كتابه.