الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الْبَاب الثَّالِث
فِي آدَاب الْمُحدث وآداب كِتَابَة الحَدِيث
وَفِيه مسَائِل صلى الله عليه وسلم َ - الأولى
الْعُمْدَة الْعُظْمَى فِي كل عبَادَة تَصْحِيح النِّيَّة
وَمن أحسن مَا يقْصد فِي هَذَا الْعلم شَيْئَانِ
أَحدهمَا التَّعَبُّد بِكَثْرَة الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عليه وسلم كلما تكَرر ذكره وَيحْتَاج ذَلِك إِلَى أَن يكون مَقْصُودا عِنْد اللَّفْظ بِهِ وَلَا يخرج على وَجه الْعَادة
وَالثَّانِي قصد الِانْتِفَاع والنفع للْغَيْر كَمَا قَالَ ابْن الْمُبَارك وَقد استكثر كَثْرَة الْكِتَابَة مِنْهُ لَعَلَّ الْكَلِمَة الَّتِي فِيهَا نجاتي لم أسمعها إِلَى الْآن
وَلَا خَفَاء بِمَا فِي تَبْلِيغ الْعلم من الأجور لَا سِيمَا وبرواية الحَدِيث يدْخل الرَّاوِي فِي دَعْوَة النَّبِي صلى الله عليه وسلم حَيْثُ قَالَ نضر الله امْرَءًا سمع مَقَالَتي فوعاها ثمَّ أَدَّاهَا إِلَى من لم يسْمعهَا صلى الله عليه وسلم َ - الثَّانِيَة
مَتى احْتِيجَ إِلَى الشَّخْص فِي رِوَايَته فليتصد لذَلِك
وَيخْتَلف ذَلِك بِحَسب الزَّمَان وَالْمَكَان فَرب بِلَاد مهجورة يَقع إِلَيْهَا من يحْتَاج إِلَى رِوَايَته هُنَاكَ وَلَا يحْتَاج إِلَى رِوَايَته فِي الْبِلَاد الَّتِي يكثر فِيهَا الْعلمَاء
وَاسْتحبَّ بَعضهم أَن يحدث بعد اسْتِيفَاء الْخمسين وَقَالَ لَيْسَ بمنكر أَن يحدث عِنْد اسْتِيفَاء الْأَرْبَعين
وَاعْترض على هَذَا بِجمع من السّلف الْمُتَقَدِّمين وَمن بعدهمْ من الْمُحدثين مِمَّن لم ينْتَه إِلَى هَذَا السن وَمَات قبله
وَقيل أَنه يَنْبَغِي إمْسَاك الْمُحدث عَن التحديث فِي السن الَّذِي يخْشَى عَلَيْهِ فِيهِ من الْهَرم وَالْخَوْف وَيخَاف عَلَيْهِ أَن يخلط ويروي مَا لَيْسَ من حَدِيثه
قَالَ ابْن خَلاد أعجب إِلَيّ أَن يمسك فِي الثَّمَانِينَ
وَهَذَا عِنْدَمَا يظْهر أَمارَة الاختلال وَيخَاف مِنْهَا فَأَما من لم يظْهر ذَلِك فِيهِ فَلَا يَنْبَغِي الِامْتِنَاع لِأَنَّهُ هَذَا الْوَقْت أحْوج مَا يكون النَّاس إِلَى بَيَان رِوَايَته
وَكَذَلِكَ القَوْل فِي الْأَعْمَى إِذا خيف مِنْهُ التَّخْلِيط صلى الله عليه وسلم َ - الثَّالِثَة
يسْتَحبّ أَن لَا يحدث بِبَلَد فِيهِ من هُوَ أولى مِنْهُ لسنهن أَو لغير ذَلِك هَكَذَا قَالُوا
ولابد أَن يكون ذَلِك مَشْرُوطًا بِأَن لَا يُعَارض هَذِه الأداب مَا هُوَ مصلحَة راجحة عَلَيْهِ
من الْآدَاب الْمَذْكُورَة
أَنه إِذا التمس مِنْهُ مَا يُعلمهُ عِنْد غَيره بِإِسْنَاد أَعلَى من إِسْنَاده أَو أرجح من وَجه آخر أَن يعلم الطَّالِب بِهِ ويرشده إِلَيْهِ نصحا
وَهَذَا أَيْضا يفصل الْحَال فِيهِ
وَيَنْبَغِي أَن يكون عِنْد الاسْتوَاء فِيمَا عدا الصّفة المرجحة أما مَعَ التَّفَاوُت
بِأَن يكون الْأَعْلَى إِسْنَادًا عاميا لَا معرفَة بِهِ بالصنعة والأنزل إِسْنَادًا عَارِفًا ضابطا فَهَذَا يتَوَقَّف فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِرْشَاد الْمَذْكُور لِأَنَّهُ قد يكون فِي الرِّوَايَة عَن هَذَا الشَّخْص الْعَاميّ مَا يُوجب خللا
وَمن آدابه
أَن يحدث على طَهَارَة ووقار وهيبة وَتمكن
وَرُوِيَ عَن مَالك رحمه الله أَنه كَانَ يغْتَسل للْحَدِيث ويتبخر ويتطيب فَإِن رفع أحد صَوته فِي مَجْلِسه زبره وَقَالَ
قَالَ الله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا لَا تَرفعُوا أَصْوَاتكُم فَوق صَوت النَّبِي}
وليقبل على الْقَوْم بِوَجْهِهِ وَلَا يُورد الحَدِيث سردا يمْنَع السَّامع من إِدْرَاك بعضه
وَلَقَد تسَامح النَّاس فِي هَذَا الْأَعْصَار فيستعجل الْقُرَّاء استعجالا يمْنَع من إِدْرَاك حُرُوف كَثِيرَة بل كَلِمَات
وَهَذَا عندنَا شَدِيد لِأَن عُمْدَة الرِّوَايَة الصدْق ومطابقة مَا يخبر بِهِ للْوَاقِع
وَإِذا قَالَ السَّامع على هَذَا الْوَجْه قَرَأَهُ عَليّ فلَان وَأَنا أسمع أَو أخبرنَا فلَان قِرَاءَة عَلَيْهِ وَأَنا أسمع فَهَذَا إِخْبَار غير مُطَابق فَيكون كذبا
وَمَا قيل فِي هَذَا من أَنه يدْخل فِي الْإِجَازَة المقرونة بِالسَّمَاعِ وَيكون ذَلِك رِوَايَة لبَعض الْأَلْفَاظ بِالْإِجَازَةِ من غير بَيَان فَهَذَا تسَامح لَا أرضاه لما أَشَرنَا إِلَيْهِ من بعد لفظ الْإِجَازَة من معنى الْإِخْبَار
بل هَهُنَا أَمر زَائِد وَهُوَ دلَالَة اللَّفْظ على أَنه سمع جَمِيع مَا يرويهِ من الشَّيْخ وَلم يكن المتقدمون على هَذَا التساهل هَذَا أَبُو عبد الرَّحْمَن النَّسَائِيّ يَقُول فِيمَا لَا يُحْصى من الْمَوَاضِع فِي كِتَابه وَذكر كلمة مَعْنَاهَا كَذَا وَكَذَا
وَالَّذِي أرَاهُ فِي مثل هَذَا أَن يسْتَقرّ الشَّيْخ بِرِوَايَة جَمِيع الْجُزْء فَإِذا وَقع مثل هَذَا فِي السماع أطلق الرَّاوِي الْأَخْبَار قَائِلا أخبرنَا فلَان من غير أَن يَقُول قِرَاءَة عَلَيْهِ
لأَنا قد بَينا أَن الْإِخْبَار الْجملِي فِي هَذَا كَاف لمطابقة الْوَاقِعَة وَكَونه على قانون الصدْق
وَغَايَة مَا فِي الْبَاب أَن يكون بعض تِلْكَ الْأَلْفَاظ الَّتِي لم يسْمعهَا دَاخِلَة فِي هَذَا الْإِخْبَار الْجملِي وَذَلِكَ صدق
وَإِنَّمَا كرهنا ذَلِك فِيمَا إِذا لم يسمع الْجُزْء أصلا لمُخَالفَته الْعَادة ولكونه قد يُوقع تُهْمَة إِذا علم أَنه لم يسمع الْجُزْء من الشَّيْخ وَهَذَا مَعْدُوم فِي هَذِه الصُّورَة لَا سِيمَا إِذا أثبت السماع بِغَيْر خطه وانتفت الرِّيبَة من كل وَجه
وَاسْتَحَبُّوا أَيْضا عقد مجْلِس الْإِمْلَاء أسيا بالسلف الماضيين وَلِأَنَّهُ لَا يقوم بذلك إِلَّا أهل الْمعرفَة وَلِأَن السماع يكون محققا متبن الْأَلْفَاظ مَعَ الْعَادة فِي قِرَاءَته للمقابلة بعد الْإِمْلَاء
وَقد قَالَ الْحَافِظ أَبُو طَاهِر السلَفِي شعرًا فِيهِ
…
فأجل أَنْوَاع الحَدِيث بأسرها
…
مَا يكْتب الْإِنْسَان فِي الْإِمْلَاء
…
وَمن آدابه
افْتِتَاح الْكَلَام بِحَمْد الله تَعَالَى على رَسُول الله صلى الله عليه وسلم
وَمن عَادَتهم أَن يَقُول الْمُسْتَمْلِي من ذكرت أَو مَا ذكرت رَحِمك الله أَو غفر الله لَك أَو مَا أشبهه من الدُّعَاء
وَالْأَحْسَن عِنْدِي أَن يَقُول من حَدثَك أَو من أخْبرك إِن لم يكن تقدم من الشَّيْخ لأحد ذكر إِلَّا أَن تكون هَذِه الْعبارَة أَعنِي قَوْله من ذكرت عَادَة للسلف مستمرة فالاتباع أولى
وليثن على شَيْخه فِي حَال الرِّوَايَة عَنهُ بِمَا هُوَ أهل وَلَا يتَجَاوَز إِلَى أَن يَأْتِي فِي ذَلِك بِمَا لَا يسْتَحقّهُ الشَّيْخ فَإِن معرفَة مَرَاتِب الروَاة من الْمُهِمَّات
فَمَتَى وصف غير الْحَافِظ بِالْحِفْظِ فقد نزله منزلَة يَتَرَتَّب عَلَيْهَا حكم
وَمَتى انْتهى إِلَى ذكر النَّبِي صلى الله عليه وسلم قيل يرفع الصَّوْت
وَمن الْآدَاب
إِذا جمع بَين جمَاعَة من شُيُوخه فِي الرِّوَايَة عَنْهُم أَن يقدم من يسْتَحق التَّقْدِيم الْأَعْلَى إِسْنَادًا والأحفظ
وَتَقْدِيم الأحفظ والأتقن أولى
واختاروا فِي الانتقاء مَا علا سَنَده وَقصر مَتنه
وَكَانَ الْحفاظ المتقدمون يختارون مَا فِيهِ فَائِدَة تخصه بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيره كزيادة فِي الْمَتْن أَو غرابة فِي السَّنَد أَو بتبيين لمجمل
وَلِهَذَا كَانَ يخْتَار للانتقاء الْحفاظ
ويتجنب فِي الْإِمْلَاء مَا لَا تحتمله عقول الْحَاضِرين أَو مَا يَقع لَهُم فِيهِ شُبْهَة أَو إِشْكَال
وَيَنْبَغِي أَن يتَخَيَّر لجمهور النَّاس أَحَادِيث فَضَائِل الْأَعْمَال وَمَا يُنَاسِبهَا وللمتفقة من أَحَادِيث الْأَحْكَام وليجتنب الموضوعات فَإِن كَانَ وَلَا بُد فَمَعَ بَيَان أمرهَا
وَمن عَادَتهم ختم مجَالِس الْإِمْلَاء بالحكايات والأشعار فَإِن كَانَت مُنَاسبَة لما تقدم من الْأَحَادِيث فَهُوَ أحسن
هَذِه آدَاب الْمُحدث
وَأما آدَاب الطَّالِب
فَبعد حسن النِّيَّة الَّتِي هِيَ رَأس المَال أَن يَأْخُذ نَفسه بالأخلاق الزكية والآداب المرضية
وليجد فِي الِاجْتِهَاد وَيبدأ بِالسَّمَاعِ من شُيُوخ أهل مصره مقدما للأولى فَالْأولى
وَالنَّاس الْيَوْم منهمكون على طلب العالي فَهُوَ عِنْدِي الَّذِي أضرّ بالصنعة فَإِنَّهُ اقْتضى الإضراب عَن طلب المتقنين والحفاظ وَلم يكن فِيهِ إِلَّا الْإِعْرَاض عَن من طلب الْعلم وَضَبطه بتمييزه إِلَى من أَجْلِس فِي الْمجْلس صَغِيرا لَا تَمْيِيز لَهُ وَلَا ضبط وَلَا فهم طلبا للعلو بقدم السماع
فَإِذا فرغ من أهل مصره فليرحل إِلَى غَيرهم وَلَا يتساهل فِي التَّحَمُّل وَالسَّمَاع وَيسْتَعْمل مَا يسمعهُ من الْأَحَادِيث المرغبة فِي الْخَيْر مَا لم تكن مَوْضُوعَة أَو تَقْتَضِي إِثْبَات شَيْء من الْأَحْكَام لَا على الْوَجْه
وليعظم الشَّيْخ وَلَا يثقل وَلَا يطول تَطْوِيلًا يضجر
وَلَا يسْتَعْمل مَا قَالَه بعض الشُّعَرَاء
أعنت الشَّيْخ بالسؤال تَجدهُ
سلسا يلتقيك بالراحتين
…
وَإِذا لم تصح صياح الثكالى
رحت عَنهُ وَأَنت صفر الْيَدَيْنِ
وليعد الطلة بَعضهم بَعْضًا وَلَا يمْنَع السماع وَلَا يمنعهُ الْحيَاء وَالْكبر عَن كثير من الطّلب ف لَا يتَعَلَّم الْعلم مستحي وَلَا مستكبر وَمن رق وَجهه رق علمه
وليكتب مَا يستفيده وَلَو أَنه مِمَّن دونه
وَيسمع الْأَجْزَاء والكتب على التَّمام
وَلَا ينتخب إِذا أمكنه ذَلِك فَإِذا اتَّسع مسموعة بِحَيْثُ يكون كِتَابَة الْكتب كَامِلَة كالتكرار فلينتخب مَا يَسْتَفِيد
وَكَذَلِكَ إِذا قلت ذَات يَده أَو قل الزَّمن عِنْد أَخذ الْكتب كَامِلَة فلينتخب وَقد كَانَ النَّاس على ذَلِك
وليقدم الْعِنَايَة بالكتب السِّتَّة ومقدمها الصحيحان ثمَّ كتب المسانيد وَكتب الْعِلَل وَكتب الضَّبْط لمشكل الْأَسْمَاء والمؤتلف والمختلف
وليتقن مَا أشكل عَلَيْهِ وليذاكر بِمَا عِنْده ويشتغل بالتصنيف والتخريج فَهُوَ من أعظم الْأَشْيَاء عونا لَهُ على الْحِفْظ
ولتكن عنايته بِالْأولَى فَالْأولى من عُلُوم الحَدِيث
وَنحن نرى أَن أهمها مَا يُؤَدِّي إِلَى معرفَة صَحِيح الحَدِيث
وَمن الْخَطَأ الِاشْتِغَال بالتتمات والتكملات من هَذِه الْعُلُوم وَغَيرهَا من تَضْييع الْمُهِمَّات